Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج11وج12.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج11وج12.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وقال أيضاً خيار المجلس غير ثابت لقوله : { أوفوا بالعقود } وخصص الشافعي عموم الآية بقوله : صلى الله عليه وسلم : « المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا » وقال أبو حنيفة : الجمع بين الطلقات حرام لأن النكاح من العقود بدليل : { ولا تعزموا عقدة النكاح } [ البقرة : 235 ] وق : { أوفوا بالعقود } ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى سائرها على الأصل . والشافعي خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يحرم . ثم إنه سبحانه لما مهد القاعدة الكلية ذكر ما يندرج تحتها فقال : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والبهيمة كل حي لا عقل له من قولهم : استبهم الأمر إذا اشكل . وهذا باب مبهم أي مسدود . ثم خص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر . والأنعام الحافر لأنه مأخوذ من من الإبل والبقر والغنم . قال الواحدي : ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء ، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان مثل : خاتم فضة بتقدير من . وفائدة زيادة لفظ البهيمة مع صحة ما لو قيل أحلت لكم الأنعام كما قال في سورة الحج هي فائدة الإجمال ثم التبيين . وإنما وحد البهيمة لأنها اسم جمع يشمل أفرادها . وجمع الأنعام لأن النعم مفرداً يقع في الأكثر على الإبل وحدها . وقيل : المراد بالبهيمة شيء وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا ففيه وجهان : أحدهما أن البهيمة الظباء وبقرة الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه . الثاني أنها الأجنة . عن ابن عباس أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال : هذه بهيمة الأنعام وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام وذكاته ذكاة أمة ، قالت الثنوية : ذبح الحيوانات إيلام والإيلام قبيح وخصوصاً إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه ولم يكن له لسان يحتج على من يقصد إيلامه ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم فلا يكون الذبح مباحاً حلالاً ، فلقوة هذه الشبهة زعم البكرية من المسلمين أنه تعالى يدفع ألم الذبح عن الحيوانات . وقالت المعتزلة : إن الإيلام إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحوقاً بعوض ، وههنا يعوض الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات بأعواض شريفة فلا يكون ظلماً وقبيحاً كالفصد والحجامة لطلب الصحة وقالت الأشاعرة : الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه فلا اعتراض عليه ولذا قال : { إن الله يحكم ما يريد } قال بعضهم : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } مجمل لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتقاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو بالكل .

والجواب أن الإحلال لا يضاف إلى الذات فتعين إضمار الانتفاع بالبهيمة فيشمل أقسام الانتفاع . على أن قوله : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } [ النحل : 5 ] يدل على الانتفاع بها من كل الوجوه ، إلاّ أنه ألحق بالآية نوعين من الاستثناء الأول قوله : { إلاّ ما يتلى عليكم } أي إلاّ محرم ما يتلى عليكم أو ما يتلى عليكم آية تحريمه وأجمع المفسرون على أن الآية قوله بعد ذلك : { حرمت عليكم الميتة والدم } والثاني قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } اي داخلون في الحرم أو في الإحرام . قال الجوهري : رجل حرام أي محرم والجمع حرم مثل قذال وقذل . وقيل : مفرد يستوي فيه الواحد والجمع كما يقال قوم جنب ، وانتصاب : { غير محلي } على الحال من الضمير في : { لكم } أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد في حالة الإحرام وفي الحرم . ثم كان لقائل أن يقول : ما السبب في إباحة الأنعام في جميع الأحوال وإباحة الصيد في بعض الأحوال؟ فقيل : إن الله يحكم ما يريد فليس لأحد اعتراض على حكمه ولا سؤال بلم وكيف . ثم أكد النهي عن مخالفة تكاليفه بقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } الأكثرون على أنها جمع شعيرة : « فعيلة » بمعنى : « مفعلة » . وقال ابن فارس : واحدها شعارة . ثم المفسرون اختلفوا على قولين : أحدهما أنها عامة في جميع تكاليفه ومنه قول الحسن : شعائر الله دين الله . والثاني أنها شيء خاص من التكاليف . ثم قيل : المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد . وقيل : الأفعال التي هي علامات الحج التي يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر . وقال الفراء : كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج فنهوا عن ترك السعي بينهما . وقال أبو عبيدة : الشعائر الهدايا التي تطعن في سنامها وتقلد ليعلم أنها هدي . وقال ابن عباس : « إن الحطم واسمه شريح بن ضبيعة الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة إلى المدينة فخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إلام تدعو الناس؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة . فقال : حسن إلاّ أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده . فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم » فمرّ بسرح المدينة فاستاقه فطلبوه فعجزوا عنه ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرة القضاء سمع تلبية حجاج اليمامة فقال لأصحابه : هذا الحطم وأصحابه وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة ، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } يريد ما أشعر لله وإن كانوا على غير دين الإسلام .

وقال زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء عن البيت كما صدنا أصحابهم؟ فأنزل الله : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } أي قوماً قاصدين إياه . والمعنى لا تعتدوا على هؤلاء العمار لأن صدكم أصحابهم فالشهر الحرام شهر الحج أعني ذا الحجة ، أو المراد رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وعبر عنها بلفظ الواحد اكتفاء باسم الجنس ، أي لا تحلوا القتال في هذه الأشهر . والهدي ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك جمع هدية . والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر الحرم . والمراد لا تحلو ذوات القلائد من الهدي أفرد للاختصاص بالفضل مثل وجبريل وميكال . ويحتمل أنه نهي عن التعرض للقلائد ليلزم النهي عن ذوات القلائد بالطريق الأولى كقوله : { ولا يبدين زينتهن } [ النور : 31 ] فإنه نهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . وللمفسرين خلاف في الآية فذهب كثير منهم كابن عباس ومجاهد والحسن والشعبي وقتادة أنها منسوخة ، وذلك أن المسلمين والمشركين كانوا يحجون جميعاً فنهى المسلمون أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله : { لا تحلوا } ثم نزل بعد ذلك : { إنما المشركون نجس } [ التوبة : 28 ] { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } [ التوبة : 17 ] وهؤلاء فسروا ابتغاء الفضل بالتجارة ، وابتغاء الراضوان بأن المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على شيء من الدين وأن الحج يقرّبهم إلى الله فوصفهم الله بظنهم . وقال الآخرون : إنها محكمة وإنه تعالى أمرنا { ورضواناً } وأن يرضى عنهم وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر . وقال أبو مسلم : المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الخطر . { وإذا حللتم فاصطادوا } ظاهر الأمر للوجوب إلاّ أنه يفيد ههنا الإباحة لأنه لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام لقوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } فإذا زال الإحرام رجع إلى أصل الإباحة { ولا يجرمنكم } معطوف على { لا تحلوا } وجرم بمعنى كسب من حيث المعنى ومن حيث تعدية إلى مفعول واحد تارة وإلى مفعولين أخرى . تقول : جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه وهذا هو المذكور في الآية .

الشنآن بالتحريك والتسكين مصدر شنأته أشنؤه وكلاهما شاذ فالتحريك شاذ في المعنى لأن فعلان من بناء الحركة والاضطراب كالضربان الخفقان . والتسكين شاذ في اللفظ لأنه لم يجيء شيء من المصادر عليه قاله الجوهري . ومعنى الآية لا يكسبنكم بغض قوم الاعتداء أو لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء . وقوله : { أن صدوكم } من قرأ بكسر الهمزة فهو شرط وجوابه ما يدل عليه { لا يجرمنكم } ، ومن قرأ بفتح « أن » فمعناه التعليل أي لأن صدوكم .
قيل : هذه القراءة أولى لأن المراد منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة والسورة نزلت بعد الحديبية { وتعاونوا على البر والتقوى } على العفو والإغضاء أو على كل ما يعدّ براً وتقوى . { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } على الانتقام والتشفي أو على كل ما يورث الإثم والتجاوز عن الحد . والحاصل أن البال والإثم لا يصلح لأن يقتدي به ويعان عليه وإنما اللائق بالاقتداء به والتعاون عليه هو الخير والبر وما فيه تقوى الله سبحانه وتعالى . ثم بالغ في هذا المعنى بقوله : { واتقوا الله } أي في استحلال محارمه . { إن الله شديد العقاب } ثم شرع في تفصيل الاستثناء الموعود تلاوته في قوله : { إلاّ ما يتلى عليكم } فقال : { حرمت عليكم الميتة } الآية . والمجموع المستثنى أحد عشر نوعاً : الأول الميتة كانوا يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله . قالت العقلاء : الحكمة في تحريم الميتة أن الدم جوهر لطيف فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن فيحصل من أكله مضار كثيرة . الثاني الدم كانوا يأكلون الفصيد وهو دم كان يجعل في معىً من فصد عرق ثم يشوى فيطعمه الضيف في الأزمة ومنه المثل : « لم يحرم من فصد له » أي فصد له البعير وربما يقال : « من فزد له » الثالث لحم الخنزير . قالت العلماء : الغذاء يصير جزءاً من جوهر المغتذي ولا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء ، والخنزير مطبوع على الحرص والشره فحرم أكله لئلا يتكيف الإنسان بكيفيته . وأما الغنم فإنها في غاية السلامة وكأنها عارية عن جميع الأخلاق فلا تتغير من أكلها أحوال الإنسان . والرابع : { ما أهل لغير الله به } والإهلاك رفع الصوت وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى وقد مر في سورة البقرة سائر ما يتعلق بهذه الأنواع الأربعة فليرجع إليها . الخامس المنخنقة كانوا في الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها . وقد تنخنق بحبل الصائد وقد يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتنخنق فتموت ، وبالجملة فبأي وجه انخنقت فهي حرام . السادس الموقوذة وهي المقتولة بالخشب . وقذها إذا ضربها حتى ماتت ومنها ما رمي بالبندق فمات .

السابع المتردية التي تقع في الردى وهو الهلاك ، وتردى إذا وقع في بئر أو سقط من موضع مرتفع ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أن زهوق روحه بالتردي أو بالسهم . الثامن النطيحة التي نطحتها أخرى فماتت بسببه ، ولا يخفى أن هذه الأقسام الأربعة داخلة في الميتة دخول الخاص في العام فأفردت بالذكر لمزيد البيان . والهاء في المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة لأنها صفات الشاة بناء على أغلب ما يأكله الناس وإلاّ فالحكم عام . وإنما أنث النطيحة مع أن « فعيلا » بمعنى « مفعول » لا يدخله الهاء كقولهم : كف خضيب ، ولحية دهين ، وعين كحيل ، لأن الموصوف غير مذكور . تقول : مررت بامرأة قتيل فلان فإذا حذفت الموصوف قلت : بقتيلة فلان لئلاّ يقع الاشتباه . التاسع ما أكل السبع وهو اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان ويفترس الحيوان كالأسد وما دونه . قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله وفي الآية حذف التقدير : وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفد ولا حكم له وإنما الحكم للباقي . قوله : { إلاّ ما ذكيتم } الذكاء في اللغة تمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وفي السن التمام فيها ، والمذاكي الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ، وتذكية النار رفعها وقوّة اشتعالها ، والتذكية كمال الذبح . أما المستثنى منه فعن علي وابن عباس والحسن وقتادة أنه جميع ما تقدم من قوله : { والمنخنقة } إلى قوله : { وما أكل السبع } والمعنى أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عيناً تطرف أو ذنباً يتحرك أو رجلاً تركض فاذبح فهو حلال لأن ذلك ذلك دليل الحياة المستقرة . وقيل : إنه مختص بقوله : { وما أكل السبع } وقيل : إنه استثناء منقطع من المحرمات كأنه قيل : لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال ، أو من التحريم أي حرم عليكم ما مضى إلاّ ما ذكيتم فإنه لكم حلال . العاشر ما ذبح على النصب وهو مفرد وجمعه أنصاب كطنب وأطناب وهو كل ما نصب فعبد من دون الله قاله الجوهري . وضعف بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله : { وما أهل لغير الله به } وقال ابن جريج : النصب ليست بأصنام فإن الأصنام أحجار مصوّرة منقوشة ، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويشرحون اللحوم عليها ، فالمراد ما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب ، ويحتمل أن يكون الذبح للأصنام واقعاً عليها . وقيل : النصب جمع إما لنصاب كحمر وحمار أو لنصب كسقف وسقف . الحادي عشر ما أبدعه أهل الجاهلية وإن لم يكن من جملة المطاعم أي حرم عليكم بأن تستقسموا بالأزلام ، وإنما ذكر مع الذبح على النصب لأنهم كانوا يفعلون كلاً منهما عند البيت؛ كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً آخر من معاظم الأمور ضرب القداح وكانوا قد كتبوا على بعضها : « أمرني ربي » وعلى بعضها : « نهاني ربي » وتركوا بعضها غفلاً أي خالياً عن الكتابة .

فإن خرج الأمر أقدم على الفعل وإن خرج النهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد العمل . فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح . وقال كثير من أهل اللغة : الاستقسام ههنا هو الميسر المنهي عنه . والأزلام قداح الميسر والتركيب يدور على التسوية والإجادة . يقال : ما أحسن مازلم سهمه أي سوّاه ورجل مزلم إذا كان مخفف الهيئة وامرأة مزلمة إذا لم تكن طويلة { ذلكم فسق } إشارة إلى جميع ما تقدم من المحرمات أي تناولها فسق ، ويحتمل أن يرجع الى الاستقسام بالإزلام فقط . وكونه فسقاً بمعنى الميسر ظاهر ، وأما بمعنى طلب الخير والشر فوجهه أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم ويعتقدون أن ما خرج من الأمر أو النهي هو إرشاد الأصنام وإعانتها فلذلك كان فسقاً وكفراً . وقال الواحدي : إنما حرم لأنه طلب معرفة الغيب وأنه تعالى مختص بمعرفته ، وضعف بأن طلب الظن بالأمارات المتعارفة غير منهي كالتعبير والفأل وكما يدعيه أصحاب الكرامات والفراسات .
ثم إنه سبحانه حرض على التمسك بما شرع فقال : { اليوم يئس } قيل : ليس المراد يوماً بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنه الماضية والآتية كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم شيخ . وقيل : المراد يوم معين وذلك أنها نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته العضباء . وعن ابن عباس أنه قرأ الآية ومعه يهودي فقال اليهودي : لو نزلت علينا في يوم لاتخذناه عيداً . فقال ابن عباس : إنها نزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد في يوم جمعة وافق يوم عرفة أي يئسوا من أن يحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة أو يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم لأنه حقق وعده بإظهار هذا الدين على سائر الأديان { فلا تخشوهم واخشون } أخلصوا إلى الخشية . قيل : في الآية دليل على أن التقية جائزة عند الخوف لأنه علل إظهار هذه الشرائع بزوال الخوف من الكفار . { اليوم أكملت لكم دينكم } سئل ههنا إنه يلزم منه أن الدين كان ناقصاً قبل ذلك ، وكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مواظباً على الدين الناقص أكثر عمره؟ وأجيب بأنه كقول الملك إذا استولى على عدوه : اليوم كمل ملكنا . وزيف بأنّ السؤال بعد باقٍ لأنّ ملك ذلك الملك لا بد أن يكون قبل قهر العدوّ ناقصاً .

وقيل : المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعليم الحلال والحرام وقوانين القياس وأصول الاجتهاد ، وضعف بأنه يلزم أن لا يكمل لهم قبل ذلك اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز . والمختار في الجواب أن الدين كان أبداً كاملاً بمعنى أنّ الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت - ناسخة أو منسوخة أو مجملة أو مبينة أو غير ذلك - كافية بحسب ذلك الوقت وفي آخر زمان البعثة حكم ببقاء الأحكام على حالها من غير نسخ وزيادة ونقص إلى يوم القيامة . قال نفاة القياس : إكمال الدين أن يكون حكم كل واقعة منصوصاً عليه فلا فائدة في القياس . وأجيب بأن إكماله هو جعل النصوص بحيث يمكن استنباط أحكام نظائرها منها . قالوا : تمكين كل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه لا يكون إكمالاً للدين وإنما يكون إلقاء للناس في ورطة الظنون والأوهام . وأجيب بأنه إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان كل مجتهد قاطعاً بأنه عامل بحكم الله . روي أنه لما نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فرح الصحابة وأظهروا السرور إلاّ أكابرهم كأبي بكر الصدّيق وغيره فإنهم حزنوا وقالوا : ليس بعد الكمال إلاّ الزوال . وكان كما ظنوا فإنه لم يعمر بعدها إلاّ أحداَ وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا نقص . قال العلماء : كان ذلك جارياً مجرى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته وذلك إخبار بالغيب فيكون معجزاً . واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الدين - سواء قيل إنه العمل أو المعرفة أو مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل - لا يحصل إلاّ بخلق الله وإيجاده فإنه لن يكون إكمال الدين منه إلاّ وأصله منه . والمعتزلة حملوا ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار الشرائع . ثم قال : { وأتممت عليكم نعمتي } أي بذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام ، أو نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين { ورضيت } أي اخترت { لكم الإسلام ديناً } نصب على الحال أو مفعول ثان إن ضمن رضيت معنى صيرت . واعلم أن قوله : { ذلكم فسق } إلى ههنا اعتراض أكد به معنى التحريم لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة واختيار دين الإسلام للناس من بين سائر الأديان . ثم بين الرخصة بقوله : { فمن اضطر في مخمصة } أي في مجاعة وأصل الخمص ضمور البطن { غير متجانف } منصوب باضطرّ أو بمضمر أي فتناول غير منحرف إلى إثم بأن يأكل فوق الشبع أو عاصياً بسفره ، وقد مرّ القول في هذه الرخصة مستوفي في سورة البقرة .

{ يسألونك ماذا أحل لهم } كأنهم حين تلي عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم والسؤال في معنى القول . وإنما لم يقل ماذا أحل لنا على حكاية قولهم نظراً إلى ضمير الغائب في : { يسئلونك } ومثل هذا يجوز فيه الوجهان . تقول : أقسم زيد ليفعلن أو لأفعلن . أما سبب النزول فعن أبي رافع أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فلم يدخل ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل : إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة . فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو . قال أبو رافع : فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلباً إلاّ قتلته حتى بلغت العوالي فإذا أمرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاء ناس فقالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي تقتلها فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية . فأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي وأذن في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها . وقال سعيد بن جبير : نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير حين قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وإنها تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقتل فلا ندرك وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزل : { قل أحل لكم الطيبات } أي ما ليس بخبيث منها وهو ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ، أو أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة ، واعلم أن الأصل في الأعيان الحل لأنها خلقت لمنافع العباد { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] واستثنى من ذلك أصول : الأوّل : تنصيص الكتاب على تحريمه كالميتة والدم وغيرهما . الثاني : تنصيص السنة كما روي عن جميع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية والبغال كالحمير . ولا تحرم الخيل عند الشافعي لما روي عن جابر أنه قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل . الثالث : ما هو في معنى المنصوص كالنبيذ فإنه مسكر كالخمر فيشاركها في التحريم . الرابع : كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور وقد مر معنى السبع عن قريب فلا يحل بموجب هذا الأصل الكلب والأسد والذئب والنمر والفهد والدب والببر والقرد والفيل لأنها تعدو بأنيابها ، ولا يحل من الطيور البازي والشاهين والصقر والعقاب وجميع جوارح الطير . الخامس : ما أمر بقتله من الحيوانات فهو حرام لأنّ الأمر بقتله إسقاط لحرمته ومنه من اقتنائه .

ولو كان مأكولاًَ لجاز اقتناؤه للتسمين وإعداده للأكل وقت الحاجة . ومنه الفواسق الخمس . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والكلب والحدأة » السادس ما ورد النهي عن قتله فهو حرام لأنه لو كان مأكولاً لجاز ذبحه ليؤكل كما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخطاطيف ، وكذا الصرد والنملة والنحلة والهدهد والخفاش . السابع : الاستطابة والاستخباث لقوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } قال العلماء : فيبعد الرجوع إلى طبقات الناس وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحل والحرمة وذلك يخالف موضوع الشرع . فالعرب أولى أمة بالاعتبار لأنّ الدين عربي وهم المخاطبون أوّلاً وليس لهم ترفه وتنعم يورث تضييق المطاعم على الناس ، ولكن المعتبر استطابة سكان القرى والبلاد دون أجلاف البوادي الذين لا تمييز لهم . وأيضاً يعتبر أصحاب اليسار والترفه دون أصحاب الضرورات والحاجات . وأيضاً المعتبر حال الخصب والرفاهية دون حال الجدب والشدة . والحشرات بأسرها مستخبثة كالذباب والخنفساء والجعلان وحمار قبان إلاّ الضب فإنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا آكله ولا حرمه » ومن الأصول أنه لا يجوز أكل الأعيان النجسة في حال الاختيار وكذا أكل الطاهر إذا نجس بملاقاة النجاسة كالدهن والسمن الذائب والدبس والخل . ومن الأصول الكسب بمخامرة النجاسة ولكن كسب الحجام حلال عند الشافعي ، ومن الأصول ما يضر كالزجاج والسم والنبات المسكر أو المجنن . قوله سبحانه : { وما علمتم من الجوارح } معناه أحل لكم صيد ما علمتم على حذف المضاف لدلالة { فكلوا مما أمسكن عليه } ويجوز أن تكون « ما » شرطية والجزاء { فكلوا } وعلى هذا يجوز الوقف على { الطيبات } والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والبازي والصقر . قال تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } [ الأنعام : 6 ] أي كسبتم . وجوّز بعضهم أن يكون من الجراحة . وقال : ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل . وانتصاب { مكلبين } على الحال من { علمتم } وفائدة هذه الحال مع الاستغناء عنها ب { علمتم } أن معلم الجوارح ينبغي أن يكون ماهراً في علمه مدرباً فيه موصوفاً بالتكليب . نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صادها غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله لأنّ قوله : { مكلبين } يدل على كون هذا الحكم مخصوصاً بالكلب . والجمهور على أنّ الجوارح يدخل فيه ما يمكن الاصطياد به من السباع . قالوا : المكلب مؤدب الجوارح ورائضها لأنّ تصطاد لصاحبها وإنما اشتق من الكلب لكثرة هذا المعنى في جنسه أو لأنّ كل سبع يسمى كلباً كقوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد »

أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة . يقال : فلان كلب بكذا إذا كان حريصاً عليه . وهب أن المذكور في الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره لجواز الاصطياد بالرمي وبالشبكة ونحوها مع سكوت الآية عنها { تعلمونهن } حال ثانية أو استئناف مما علمكم الله من علم التكليب لأنّ بعضه إلهام من الله أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وإنزجاره بزجره . واعلم أنه يعتبر في صيرورة الكلب معلماً أمور منها : أن ينزجر بزجر صاحبه في ابتداء الأمر وكذا إذا انطلق واشتد عدوه وحدّته ، يشترط أن ينزجر بزجره أيضاً على الأشبه فبه يظهر التأدب . ومنها أن يسترسل بإرسال صاحبه أي إذا أغري بالصيد هاج . ومنها أن يمسك الصيد لقوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وفي هذا اعتبار وصفين : أحدهما أن يحفظه ولا يخليه ، والثاني أن لا يأكل منه لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : فإن أكل فلا تأكل منه فإنما أمسكه على نفسه . وجوارح الطير يشترط فيها أن تهيج عند الإغراء وأن تترك الأكل ولكن لا مطمع في انزجارها بعد الطيران ويشترط عند الشافعي تكرر هذه الأمور بحيث غلب على الظن تأدب الجارحة بها وأقله ثلاث مرات . ولم يقدر الأكثرون عددالمرات كأنهم رأوا العرف مضطرباً ، وطباع الجوارح مختلفة فيرجع إلى أهل الخبرة بطباعها . وعن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل فعندهم الإمساك هو أن يحفظه ولا يتركه . ومعنى الآية كلوا مما تبقي لكم الجوارح وإن كان بعد أكلها منه . و « من » في { مما أمسكن } قيل زائدة نحو { كلوا من ثمره } [ الأنعام : 141 ] وقيل مفيدة وذلك أن بعض الصيد لا يؤكل كالعظم والدم والريش . وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني : يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب . والفرق أن تأديب الكلب بالضرب على الأكل ممكن وتأديب الطير غير ممكن . ولا خلاف أنه إذا كانت الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح وقتلته وأدركه الصائد ميتاً فهو حلال ، وجرح الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح ففي حله خلاف . أما قوله سبحانه : { واذكروا اسم الله عليه } فالضمير إما أن يعود إلى { ما أمسكن } أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، أو إلى { ما علمتم } أي سموا عليه عند إرساله أو إلى الأكل ، وعلى هذا فلا كلام . وعلى الأول فالتسمية محمولة على الندب عند الشافعي ، وعلى الوجوب عند أبي حنيفة وسيجيء تمام المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى .
{ اليوم أحلّ لكم الطيبات } فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } الأكثرون على أنّ المراد بالطعام الذبائح لأنّ ما قبل الآية في بيان الصيد والذبائح ولأنّ ما سوى الصيد والذبائح محللة قبل إن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة .

وعن بعض أئمة الزيدية أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة . وقيل : إنه جميع المطعومات { وطعامكم حلّ لهم } أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعلى إطعامهم من ذبائحنا . وأيضاً فالفائدة في ذكره أن يعلم أن إباحة الذبائح حاصلة في الجانبين وليست كإباحة المناكحة فإنها غير حاصلة في الجانبين { والمحصنات } الحرائر أو العفائف من المؤمنات ، وعلى الثاني يدخل فيه نكاح الإماء . وقد يرجح الأول بأنه تعالى قال : { إذا آتيتموهن أجورهن } ومهر الإماء لا يدفع إليهن بل إلى ساداتهن ، وبأن نكاح المحصنات ههنا مطلق ونكاح الأمة مشروط بعدم طول الحرة وخشية العنت ، وبأن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهراً على تحريم نكاح الزانية ، وقد ثبت أنه غير محرم . ولو حملنا المحصنات على الحرائر لزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات ، وبأن وصف التحصين في حق الحرة أكثر ثبواتأً منه في حق الأمة لأن الأمة لا تخلو من البروز للرجال { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } احتج بها كثير من الفقهاء في أنه لا يحل نكاح الكتابية إلاّ إذا دانت بالتوارة والإنجيل قبل نزول الفرقان ، لأنّ قوله : { من قبلكم } ينافي من دان بهما بعد نزوله . وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات أصلاً متمسكاً بقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] ويقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها إن ربها عيسى . وأوّل الآية بأنّ المراد التي آمنت منهن . فمن المحتمل أن يخطر ببال أحد أن الكتابية ، إذا آمنت هل يحل للمسلم التزوج بها أم لا؟ وعن عطاء أن الرخصة كانت مختصة بذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة ولأن الاحتراز عن مخالطة الكفار واجب . { ولا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] وأي خلطة أشد من الزوجية وقد يحدث ولد ويميل إلى دين الأم . وقال سعيد بن المسيب والحسن : الكتابيات تشمل الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن . وأكثر الفقهاء على أنّ ذلك مخصوص بالذمية فقط وهو مذهب ابن عباس فإنه قال : من أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل لقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] واتفقوا على أن المجوس قد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم . { إذا آتيتموهن أجورهن } فيه أن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقاً كان كالزاني . والزنا ضربان : سفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان ، واتخاذ خدن وهو على سبيل الإسرار فحرمهما الله تعالى في الآية وأحلّ التمتع بهن على سبيل الإحصان وهو التزوج بالشروط والأركان .

ثم حث على التزام التكاليف المذكورة بقوله : { ومن يكفر بالإيمان } أي بشرائع الله وتكاليفه التي هي من نتائج الإيمان بالله ورسوله . وقال ابن عباس ومجاهد : معناه ومن يكفر برب الإيمان أي بالله . وقال قتادة : ومن يكفر بالقرآن الذي أنزل فيه هذه التكاليف التي لا بد منها في الإيمان فقد خاب وخسر . وفيه أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلاّ أن ذلك لا يفيدهم في الآخرة لأنّ كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة ألبتة . واعلم أنّ القائلين بالإحباط فسروا قوله : { قد حبط عمله } بأنّ عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثواب أعماله . ومنكروا الإحباط قالوا : إنّ عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان قد بان أنه لم يكن معتداً به وكان ضائعاً في نفسه . ثم إنه سبحانه لما افتتح السورة بطلب الوفاء بالعقود فكأن قائلاً قال : عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا وأنت أولى بتقديم الوفاء بعهد الربوبية فأجاب الله تعالى نعم أنا أوفى بعهد الربوبية والكرم ، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ولذات المنكح فبيّن الحلال والحرام من المطاعم والمناكح ، وقدم المطعوم على المنكوح لأنه أهم . وعند تمام هذا البيان كأنه قال : قد وفيت بعهد الربوبية فاشتغل أيها العبد بوظائف العبودية ولا سيما بالصلاة التي هي أعظم الطاعات وبمقدماتها . ونبني تفسير الآية على مسائل : الأولى ليس المراد بقوله : { إذا قمتم } نفس القيام وإلاّ لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو بالإجماع باطل ، وأيضاً لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعداً أو مضطجعاً لخرج عن العهدة بالإجماع ، فالمراد إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك ووجه هذا المجاز أنّ الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم المسبب على السبب مجاز مستفيض . الثانية : ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس تكليفاً مستقلاً لأنه شرط القيام إلى الصلاة . والأصح أنه عبادة برأسها لأن قوله : { فاغسلوا } أمر ظاهره الوجوب غاية ذلك أنه مقيد بوقت التهيّؤ للصلاة . وأيضاً إنه طهارة وقد قال تعالى في آخر الآية : { ولكن يريد ليطهركم } وقال صلى الله عليه وسلم : « بني الدين على النظافة » وقال : « أمّتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة » والأخبار الواردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب كثيرة . الثالثة : قال داود : يجب الوضوء لكل صلاة فإنه ليس المراد قياماً واحداً في صلاة واحدة وإلاّ لزم الإجمال إذ لا دليل على تعيين تلك المرة ، والإجمال خلاف الأصل فوجب حمل الآية على العموم . وأيضاً ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب مشعر بالعلية فيتكرر بتكرره فيجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة .

وأيضاً إنه نظافة فلا يكون منها بدّ عند الاشتغال بخدمة المعبود . وقال سائر الفقهاء : إنّ كلمة « إذا » لا تفيد العموم ولهذا لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق مرة أخرى بالدخول ثانياً . ويروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلاّ يوم الفتح فإنه صلى الله عليه وسلم صلّى الصلوات كلها بوضوء واحد . قال عمر : فقلت له في ذلك فقال : عمداً فعلت ذلك يا عمر . أجاب داود بأنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن . وأيضاً في الخبر معنيان : أحدهما : وجوب التجديد لكل صلاة لا أقل من استحباب ذلك . الثاني أنه ترك ذلك يوم الفتح والأوّل يوجب المتابعة والثاني مرجوح لأنّ الفتح يقتضي زيادة الطاعة لا نقصانها . وأيضاً التجديد أحوط ، وأيضاً دلالة ظاهر القرآن قولية ودلالة الخبر فعلية والقولية أقوى . ولناصر المذهب المشهور أن يقول : التيمم على المتغوّط والمجامع واجب إذا لم يجد الماء لقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } الآية . وذلك يدل على أنّ وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة فلم يكن هو مؤثراً وحده ، وإذا لم يكن مؤثراً مستقلاً جاز تخلف الأثر عنه . نعم التجديد مستحب لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يتوضؤن لكل صلاة وقال صلى الله عليه وسلم : « من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات » وقيل : كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض ثم نسخ . الرابعة : الأصح أن في الآية دلالة على أنّ الوضوء شرط لصحة الصلاة لأنه علق فعل الصلاة بالطهور ، ثم بيّن أنه متى عدم الماء لم تصح الصلاة إلاّ بالتيمم ، فلو لم يكن شرطاً لم يكن كذلك . وأيضاً إنه أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بها بدون الوضوء تارك للمأمور به فيستحق العقاب وهذا معنى البقاء في عهدة التكليف . الخامسة : قال أبو حنيفة : النية ليست شرطاً في الوضوء لأنها غير مذكورة في الآية والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخير الواحد وبالقياس غير جائز . وعند الشافعي هي شرط فيه لأنّ الوضوء مأمور به لقوله : { فاغسلوا } { وامسحوا } وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً لقوله تعالى : { وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين } [ البينة : 5 ] والإخلاص النية الخالصة ، فأصل النية يجب ان يكون معتبراً . وغاية ما في الباب أنها مخصوصة في بعض الصور فتبقى حجة في غير محل التخصيص .
السادسة : قال مالك وأبو حنيفة : الترتيب غير مشروط في الوضوء لأن الواو لا تفيد الترتيب ، فلو قلنا بوجوبه كان من الزيادة على النص وهو نسخ غير جائز . وقال الشافعي : إنه واجب لأن فاء التعقيب في قوله : { فاغسلوا } توجب تقديم غسل الوجه ثم سائر الأعضاء على الترتيب .

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الصفا : « ابدؤا بما بدأ الله به » وأيضاً الترتيب المعتبر في الحس هو الابتداء من الرأس إلى القدم أو بالعكس ، والترتيب العقلي إفراد العضو المغسول عن الممسوح . ثم إنه تعالى أدرج الممسوح في المغسول فدل هذا على أن الترتيب المذكور في الآية واجب لأن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه . وأيضاً إيجاب الوضوء غير معقول المعنى لأن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ولأن أعضاء المحدث طاهرة لقوله : « المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً » وتطهير الطاهر محال ولأن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء وليس في التيمم نظافة ، وأقام المسح على الخفين مقام الغسل ولا يفيد في نفس العضو نظافة والماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فإذن الاعتماد على مورد النص . ولعل في الترتيب حكماً خفية لا نعرفها أو هو محض التعبد . وقد أوجبنا رعاية الترتيب في الصلاة مع أن أركان الصلاة غير مذكورة في القرآن مرتبة فرعاية الترتيب في الوضوء مع أن القرآن ناطق به أولى . السابعة : قال الشافعي وأبو حنيفة : الموالاة في أفعال الوضوء غير واجبة لأن إيجاب هذه الأفعال قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ، وهذا القدر معلوم من الآية ومفيد للطهارة والزائد لا دليل عليه ، وأيضاً روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ وترك لمعة من عقبة فأمره بغسلها ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن المدة الفاصلة ، وعند غيرهما شرط كيلا يتخلل بين أجزاء العبادة ما ليس منها ، وحدّ التفريق المخل بالموالاة أن يمضي من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص . الثامنة : قال أبو حنيفة : الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء لأن ظاهر الآية يقتضي الإتيان بالوضوء لكل صلاة لما مر ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولاً به عند خروج الخارج النجس . وخالفه الشافعي تعويلاً على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه . التاسعة : قال مالك : لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة لنا التمسك بعموم الآية . العاشرة : قال أبو حنيفة : القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء . وقال الباقون : لا تنقض لأبي حنيفة أن يتمسك بعموم الآية . الحادي عشر : قال أبو حنيفة : لمس المرأة وكذا لمس الفرج لا ينقض الوضوء . وقال الشافعي : ينقض متمسكاً بالعموم . الثانية عشرة : لو كان على وجهه وبدنه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة من الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوءاً؟ قال في التفسير الكبير : ما رأيت هذه المسألة في كتب الأصحاب .

قال : والذي أقوله أنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله : { واغسلوا } وقد أتى به ، وأقول : الظاهر أنه لا يكفي لأنه لا يرتفع بغسلة واحدة نجاستان حكمية وعينية وهذا بخلاف ما لو نوى التبرد أو التنظف فإن النجاسة هناك حكمية فقط . الثالثة عشرة : لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوءه؟ يمكن أن يقال : لا لأنه لم يأت بعمل . وأن يقال : نعم لأنه أتى بما أفضى إلى المقصود وهو الانغسال . الرابعة عشرة : إذا غسل أعضاء الوضوء ثم كشط جلده فالأظهر وجوب غسله لتحصيل الامتثال فإن ذلك الوضع غير مغسول . الخامسة عشرة : لو رطب الأعضاء من غير سيلان الماء عليها لم يكف لأنه مأمور بالغسل وهذا ليس بغسل ، وفي الجنابة يكفي لأنه هناك مأمور بالتطهير لقوله : { ولكن يريد ليطهركم } والتطهير يحصل بالترطيب . السادسة عشرة : لو أمر الثلج على العضو فإن ذاب وسال جاز وإلاّ فلا خلافاً لمالك والأوزاعي لنا فاغسلوا وهذا ليس بغسل . السابعة عشرة : التثليث سنة لأن ماهية الغسل تحصل بالمرة . الثامنة عشرة : السواك سنة لا واجب لأن الآية ساكتة عنه وكذا القول في التسمية خلافاً لأحمد وإسحاق . وكذا في تقديم غسل اليدين على الوضوء خلافاً لبعضهم . التاسعة عشرة : قال الشافعي : لا تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل ، وأحمد وإسحاق يجب فيهما . أبو حنيفة : يجب في الغسل لا في الوضوء . حجة الشافعي أنه أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجهاً وحده من مبتدأ تسطيح الجهة إلى منتهى الذقن طولاً ، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً ، وداخل الفم والأنف غير مواجه . العشرون : ابن عباس : يجب إيصال الماء إلى داخل العين لأن العين جزء من الوجه . الباقون : لا يجب لقوله في آخر الآية : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } وإدخال الماء في العين حرج . الحادية والعشرون : غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند الشافعي وأبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف . لنا أنه واجب قبل نبات الشعر بالإجماع فكذا بعده ولأنه من الوجه والوجه يجب غسله كله . الثانية والعشرون : أبو حنيفة : لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة . الشافعي : يجب لقوله : { فاغسلوا } ترك العمل عند كثافة اللحية دفعاً للحرج فيبقى عند كثافتها على الأصل . الثالثة والعشرون : الأصح عند الشافعي وجوب إمرار الماء على ظاهر اللحية النازلة طولاً والخارجة إلى الأذنين عرضاً لأن مواجه . مالك وأبو حنيفة والمزني : لا يجب لأنه لا جلد تحتها حتى يغسل ظاهرها بتبعيتها . الرابعة والعشرون : لو نبت للمرأة لحية وجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت لحيتها كثيفة لأنا تركنا العمل بظاهر الآية في اللحية الكثيفة للرجل دفعاً للحرج ولحية المرأة نادرة وخصوصاً الكثيفة فيبقى حكمها على الأصل .

الخامسة والعشرون : يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع : العنفقة والحاجب والشارب والعذار والهدب لأن قوله : { فاغسلوا } يدل على وجوب غسل كل جلدة الوجه ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعاً للحرج وهذه الشعور خفيفة غالباً فتبقى على الأصل . السادسة والعشرون : الشعبي : ما اقبل من الأذن فهو من الوجه فيغسل ، وما أدبر فمن الرأس فيمسح وردّ بأن الأذن غير مواجه أصلاً . السابعة والعشرون : الجمهور على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين وخالف مالك وزفر وكذا ، الخلاف في قوله : { وأرجلكم إلى الكعبين } والتحقيق أن « إلى » تفيد معنى الغاية مطلقاً ، والمراد بالغاية جميع المسافة أو حقيقة النهاية . ثم إنّ حد الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود حساً انفصال الظلمة عن النور في قوله : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] فيكون الحد خارجاً عن المحدود . وقد لا يكون كذلك نحو حفظت القرآن من أوّله إلى آخره وبعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فيدخل الحد في المحدود ، ولا شك أن المرفق وهو موصل الذراع في العضد سمي بذلك لارتفاق صاحبها بها غير متميزة في الحس عن محدودها فلا يكون إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب غسلها جميعاً . وإن سلم أن المرفق لا يجب غسلها لكنها اسم لما جاوز طرف العظم ، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله . وهذا الجواب اختيار الزجاج . وعلى هذا فمقطوع اليد من المرفق يجب عليه إمساس الماء بطرف العظم وإن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب عليه شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلاً . الثامنة والعشرون : تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب خلافاً لأحمد . لنا أنه ذكر الأيدي والأرجل في الآية من غير تقديم لإحدى اليدين أو الرجلين . التاسعة والعشرون : ذهب بعضهم إلى أن مبتدأ الغسل يجب أن يكون الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرافق لأن المرافق جعلت في الآية نهاية الغسل وجمهور الفقهاء على أن عكس هذا الترتيب لا يخل بصحة الوضوء لأن المراد في الآية بيان جملة الغسل لا بيان ترتيب أجزاء الغسل . الثلاثون : لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله : { وأيديكم إلى المرافق } كما لو نبت على الكف أصبع زائدة . الحادية والثلاثون : المراد من تحديد الغسل بالمرفق بيان الواجب فقط لما ورد في الأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة . الثانية والثلاثون : مالك : يجب مسح كل الرأس . أبو حنيفة : يتقدر بالربع لأنه صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وأنها ربع الرأس . الشافعي : الواجب أقل ما ينطلق عليه اسم المسح لأنه إذا قيل مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلاّ عند مسحه بالكلية ، أما لو قال مسحت يدي بالمنديل كفى في صدقه مسح اليد بجزء من أجزاء المنديل فهكذا في الآية وإلاّ احتيج في تعيين المقدّر إلى دليل منفصل وتصير الآية مجملة وهو خلاف الأصل .

الثالثة والثلاثون : لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة لأن ذلك ليس مسحاً للرأس . وقال الأوزاعي والثوري وأحمد : يجوز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة . وأجيب بأنه لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة . الرابعة والثلاثون : اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية . وجمهور الفقهاء والمفسرين على أن فرضهما الغسل . وقال داود : يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية . وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين المسح والغسل . حجة من أوجب المسح قراءة الجر في : { وأرجلكم } عطفاً على : { برؤوسكم } ولا يمكن أن يقال إنه كسر على الجوار كما في قوله : « حجر ضب خرب » لأن ذلك لم يجىء في كلام الفصحاء وفي السعة ، وأيضاً إنه جاء حيث لا لبس ولا عطف بخلاف الآية . وأما القراءة بالنصب فيكون للعطف على محل { رؤوسكم } حجة الجمهور أخبار وردت بالغسل وأن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح . والقوم أجابوا بأن أخبار الآحاد لا تُعارض القرآن ولا تنسخه وبالمنع في مجل النزاع فزعم الجمهور أن قراءة النصب ظاهرة في العطف على مفعول : { فاغسلوا } وإن كان أبعد من : { امسحوا } وقراءة الجر تنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء لأن الأرجل تغسل بالصب فكانت مظنة للإسراف . الخامسة والثلاثون : جمهور الفقهاء على أن الكعبين هما العظمان الناتئان من جانبي الساق . وقالت الإمامية وكل من قال بالمسح : إن الكعب عظم مستدير موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم كما في أرجل جميع الحيوانات . والمفصل يسمى كعباً ومنه كعوب الرمح لمفاصله . حجة الجمهور أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً وكان ينبغي أن يقال : وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً لا جرم قال : { إلى المرافق } وأيضاً العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلاّ أهل العلم بتشريح الأبدان ، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان لكل أحد ومناط التكليف ليس إلاّ أمراً ظاهراً ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ألصقوا الكعاب بالكعاب » السادسة والثلاثون : الجمهور على جواز مسح الخفين خلافاً للشيعة والخوارج . حجة الجمهور الأحاديث ، وحجة الشيعة الآية ، وأن جواز المسح على الخفين حاجة عامة فلو كانت ثابتة لبلغت مبلغ التواتر .

السابعة والثلاثون : رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس ، فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه سقط عنه ذلك أيضاً لأن قوله : { فاغسلوا } { وامسحوا } مشروط بالقدرة عليه فإذا فاتت القدرة سقط التكليف . الثامنة والثلاثون . قوله سبحانه : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } الأصل « تطهروا » أدغم التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل . وللجنابة سببان : نزول المني لقوله صلى الله عليه وسلم : « الماء من الماء » والثاني التقاء الختانين خلافاً لزيد بن ثابت ومعاذ وأبي سعيد الخدري لما روي انه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا التقى الختانان وجب الغسل » وختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة ، وأما ختان المرأة فإن شفريها يحيطان بثلاثة أشياء : ثقبة من أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد ، وثقبة فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير ، والثالث جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك فوق ثقبة البول ، وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانه ختانها . التاسعة والثلاثون : لا يجوز للجنب مس المصحف خلافاً لداود . لنا قوله : { فاطهروا } يدل على أن الطهارة غير حاصلة وإلاّ لكان أمراً بتطهير الطاهر وحينئذٍ لا يجوز له مس المصحف لقوله : { لا يمسه إلاّ المطهرون } [ الواقعة : 79 ] ولإطلاق قوله : { فاطهروا } علم أنه أمر بتحصيل الطهارة في كل البدن وإلاّ خصت تلك الأعضاء بالذكر كما في الطهارة الصغرى ، وعلم أنه لا يجب تقديم الوضوء على الغسل خلافاً لأبي ثور وداود ، وعلم أن الترتيب غير واجب خلافاً إسحق فإنه أوجب البداءة بأعلى البدن ، وعلم أن الدلك غير واجب خلافاً لمالك . الأربعون : الشافعي : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم : « أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت » أبو حنيفة : هما واجبان لقوله تعالى : { فاطهروا } والتطهير لا يحصل إلاّ بطهارة جميع الأعضاء . ترك العمل به في الاعضاء الباطنة للتعذر وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما هما فيبقى داخلاً في النص ولأن قوله صلى الله عليه وسلم : « بلوا الشعر » يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعراً : « وأنقوا البشرة » يدخل فيه جلدة داخل الفم . الحادية والأربعون : لا يجب نقض الشعر إن لم يمنع عن وصول الماء إلى منابته لأن المقصود التطهير وإن منع وجب خلافاً للنخعي . الثانية والأربعون : إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلاً في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي : يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم للاحتياط . وقال أبو حنيفة : إن كان أكثر البدن صحيحاً غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحاً يكفيه التيمم لأن المرض إذا كان حالاً في بعض أعضائه فهو مريض .

الثالثة والأربعون : لو ألصق على موضع التيمم لصوقاً منع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف . قال الشافعي : يلزم نزع اللصوق حتى يصل التراب إليه أخذاً بالأحوط . وقال الأكثرون : لا يجب دفعاً للحرج . الرابعة والأربعون : قال الشافعي : الاستنجاء واجب إما بالماء أو بالأحجار لقوله صلى الله عليه وسلم : « فليستنج بثلاثة أحجار » وقال أبو حنيفة : واجب عند المجيء من الغائط إما الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحدث فدل على أنه غير واجب . الخامسة والأربعون : لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي ولا ينقضه عند أبي حنيفة وقد مرت المسألة في سورة النساء . السادسة والأربعون : لا يكره الوضوء بالماء المسخن لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وههنا قد وجد ماء وخالف مجاهد . السابعة والأربعون : أبو حنيفة وأحمد : لا يكره المشمس لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وهذا قد وجد ماء . الشافعي يكره للحديث . الثامنة والأربعون : لا يكره الوضوء بفضل ماء المشرك وبالماء في آنية المشرك لأنه واجد للماء فلا يتيمم ، وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشرك وتوضأ عمر من ماء في جرة نصرانية . وقال أحمد وإسحق : لا يجوز . التاسعة والأربعون : يجوز الوضوء بماء البحر لأنه واحد الماء خلافاً لعبد الله بن عمرو بن العاص . الخمسون : جوّز أبو حنيفة بنبيذ التمر في السفر للحديث ولم يجوّزه الشافعي وقال : يتيمم لأنه غير واجد للماء . الحادية والخمسون : ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات لطاهرة ، والأكثرون لا يجوز . حجتهما : { فاغسلوا } أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو غسل قال الشاعر : فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها . لنا : أنه عند عدم الماء أوجب التيمم . الثانية والخمسون : الشافعي : الماء المتغير بالزعفران تغيراً فاحشاً لا يجوز الوضوء به لأن واجده يصدق عليه أنه غير واجد للماء . وخالف أبو حنيفة لأن أصل الماء موجود بصفة زائدة كما لو تغير وتعفن بطول المكث أو بتساقط الأوراق بالاتفاق . الثالثة والخمسون : مالك وداود : الماء المستعمل في الوضوء بقي طاهراً طهوراً لأن واجده واجد للماء وهو قول قديم للشافعي . والقول الجديد إنه طاهر غير طهور ، ووافقه محمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة في أكثر الروايات : إنه نجس لأن النجاسة الحكمية كالعينية . الرابعة والخمسون : مالك : إذا وقع في الماء نجاسة ولم يتغير بقي طاهراً طهوراً قليلاً كان أو كثيراً وهو قول أكثر الصحابة والتابعين . وقال الشافعي : إن كان أقل من القلتين ينجس . وقال أبو حنيفة : إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس . حجة مالك أنه واجد للماء ترك العمل بهذا العموم في الماء القليل المتغير فيبقى حجة في الباقي ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم :

« خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غير طعمه أو ريحه أو لونه » حجة الشافعي مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً » الخامسة والخمسون : يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب لأن واجده واجد للماء ، وقال أحمد وإسحاق : لا يجوز الوضوء بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب . السادسة والخمسون : أسآر السباع ، طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار لأنه واجد للماء . وقال أبو حنيفة : نجسه . السابعة والخمسون : قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون : لا بد في التيمم من النية لأنه قال : { فتيمموا } والتيمم عبارة عن القصد وهو النية . وقال زفر : لا يجب . الثامنة والخمسون : الشافعي : لا يجوز التيمم إلاّ بعد دخول الصلاة لأنه طهارة ضرورة ولا ضرورة قبل الوقت . أبو حنيفة : يجوز قياساً على الوضوء ولظاهر قوله : { إذا قمتم } والقيام إلى الصلاة يكون بعد دخول وقتها . التاسعة والخمسون : لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى : { صعيداً طيباً } . الستون : لا خلاف في جواز التيمم بدلاً عن الوضوء ، أما التيمم بدل غسل الجنابة فعن علي رضي الله عنه وابن عباس جوازه وهو قول أكثر الفقهاء ، وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز . لنا قوله تعالى : { أو لامستم } إما يختص بالجماع أو يدخل الجماع فيه . الحادية والستون . الشافعي : لا يجوز أن يجمع بتيمم واحد بين صلاتي فرضين لأن ظاهر قوله : { إذا قمتم } يقتضي إعادة الوضوء لكل صلاة ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبقى في التيمم على ظاهره . أبو حنيفة : يجوز أداء الفرائض به كالوضوء . أحمد : يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين . الثانية والستون : الشافعي : إذا لم يجد الماء في أول الوقت وتوقع في آخره جاز له التيمم لأن قوله : { إذا قمتم } يدل على أنه عند دخول الوقت إن لم يجد الماء جاز له التيمم . وقال أبو حنيفة : يؤخر الصلاة إلى آخره . الثالثة والستون : إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه لأنه وجد الماء فلا يجوز له الشروع في الصلاة بالتيمم . وخالف أبو موسى الأشعري والشعبي . الرابعة والستون : لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة لأنه خرج عن عهدة التكليف خلافاً لطاوس . الخامسة والستون : ولو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها - وبه قال مالك وأحمد - ، لأنه انعقدت صلاته صحيحة بحكم التيمم فما لم تبطل صلاته لا يصير قادراً على استعمال الماء ، وما لم يصر قادراً على استعمال الماء لم تبطل صلاته فيدور . وقال أبو حنيفة والثوري والمزني : يلزمه الخروج لأنه واجد للماء .

السادسة والستون : لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي وهو قول أحمد وأبي يوسف . والثاني لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة ومحمد لأن النسيان في حكم العجز وكذا إذا ضل رحله في الرحال بالطريق الأولى لأن مخيم الرفقة أوسع من رحله . ولو تيقن الماء في رحله واستقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد فالأكثرون على أنه يلزمه الإعادة لأن العذر ضعيف . وقيل : لا لأن حكمه حكم العاجز . السابعة والستون : لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكنه استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أوّلاً ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله ، وإن يكن عالماً فإن كان عليها علامة ظاهرة فالإعادة وإلاّ فلا لأنه كالعاجز . الثامنة والستون : إذا لم يكن معه ماء ولا يمكنه أن يشتري إلاّ بالغبن الفاحش جاز التيمم لقوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } ولو وهب منه الماء لزمه القبول لأن المنة فيه سهل ، ولو وهب منه ثمنه لم يلزمه القبول لثقل المنة ووجود الحرج ، ولمثل هذا يجب قبول إعارة الدلو لاهبته فهذه جملة المسائل الفقهية المستنبطة من الآية سوى ما مرت في سورة النساء .
واعلم أن قوله سبحانه وتعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أصل معتبر في علم الفقه لأنه يدل على أن الأصل في المضار الحرمة وفي المنافع الإباحة . وقد تمسك به نفاة القياس قالوا : إن كل حادثة فحكمها المفصل إن كان مذكوراً في الكتاب والسنة فذاك وإلاّ فإن كان من باب المضارّ فالأصل فيها الحرمة ، وإن كان من باب المنافع فالأصل فيها الإباحة ، والقياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياساً واقعاً في مقابلة النص فيكون مردوداً . أما قوله : { ولكن يريد ليطهركم } فله تفسيران : أحدهما وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة ، أن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية ، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية ، وزيف بأن أعضاء المؤمن لا تنجس لقول تعالى : { إنما المشركون نجس } [ التوبة : 28 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : « المؤمن لا ينجس لا حياً ولا ميتاً » وبأنه لو كان رطباً فأصابه ثوب لم ينجس ، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته بالاتفاق ، وبأن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل عضو لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ، وبأن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر ، وبأن التيمم زيادة في التكدير فكيف يوجب النظافة والتطهير ، وبأن المسح على الخفين كيف يقوم مقام غسل الرجلين ، وبأن الذي يراد إزالته ليس من الأجسام ولا كان محسوساً ولا من الأعراض أن انتقال الأعراض محال .

التفسير الثاني أن المراد طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن إيصال الماء أو التراب إلى هذه الأعضاء المخصوصة ليس فيه فائدة يعقلها المكلف ، فالانقياد لمثل هذا التكليف تعبد محض يزيل آثار التمرد وتؤكده الأخبار في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه . { وليتم نعمته عليكم } بإباحة الطيبات الدنيوية من المطاعم والمناكح بهذه النعمة الدينية وهي كيفية فرض الوضوء ، أو ليتم برخصه كالتيمم ونحوه إنعامه عليكم بعزائمه . ثم ذكر ما يوجب عليهم قبول تكاليفه وذلك من وجهين : الأول تذكر نعمته يعني التأمل في هذا النوع الذي لا يقدر عليه غيره لأن هذا النوع وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى الخيرات في الدنيا والآخرة حيث إنه يمتاز عن نعمة غيره وأنه لا يقدر عليه غيره يجب تلقيه بالتشكر وهو الإذعان لأوامره والانقياد لنواهيه . فإن قيل : اذكروا مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل نسيانها مع تواترها وتواليها في كل لحظة ولمحة؟ فالجواب أنها صارت لتواليها كالأمر المعتاد فصار من غاية الظهور كالأمر المستور ، أو المراد التوبيخ على عدم القيام بمواجبها فكأنها كالشيء المنسي . الثاني ذكر الميثاق ومعنى : { واثقكم به } عاقدكم به عقداً وثيقاً يعني ميثاق رسوله حين بايعهم تحت الشجرة وغيرها على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه . وعن ابن عباس : هو الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل حين قالوا : آمنا بالتوراة وبما فيها من البشارة بنبي آخر الزمان ومن غيرها . وقال مجاهد والكلبي ومقاتل : إنه إشارة إلى قوله للذرية : { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] وقال السدي : هو ما ركز في العقول من حسن هذه الشريعة وهو اختيار أكثر المتكلمين .
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلاّ أنها منحصرة في نوعين : التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله : { كونوا قوّامين لله } والشفقة على خلق الله وحث عليها بقوله : { شهداء بالقسط } قال عطاء : يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك . وقال الزجاج : بينوا دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه . ثم أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحداً إلاّ على سبيل العدل والإنصاف ويتركوا الظلم والاعتساف فقال { ولا يجرمنكم } أي لا يحملنكم بغض { قوم على أن لا تعدلوا } أي فيهم فحذف للعلم . ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً فقال : { اعدلوا } ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال : { هو } أي العدل الذي دل عليه اعدلوا { أقرب للتقوى } أي إلى الاتقاء من عذاب الله أو من معاصيه . وقيل : المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام ، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مثلة ، أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نيقض عهد أو نحو ذلك .

وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه؟ ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ووعيد الكافرين وقوله : { لهم مغفرة } بيان للوعد قدم لهم وعداً ، ثم كأنه قيل : أي شيء ذلك؟ فقيل : لهم مغفرة أو يكون على إرادة القول أي وعدهم وقال لهم مغفرة ، أو يكون وعد مضمناً معنى قال ، أو يجعل وعد واقعاً على هذا القول وإذا وعدهم هذا القول من هو قادر على كل المقدورات عالم بجميع المعلومات غني عن كل الحاجات فقد امتنع الخلف في وعده لأن سبب الخلف إما جهل أو عجزاً أو بخل أو حاجة وهو منزه عن الكل . وهذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت فيسهل عليه الشدائد وفي ظلمة القبر فيفيده نوراً وفي عرصه القيامة فيزيده حبوراً والجحيم اسم من أسماء النار وهي كل نار عظيمة في مهواة كقوله : { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } [ الصافات : 97 ] وأصحاب الجحيم ملازموها . بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه اليد مدّها إلى المبطوش به . عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم على شجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني؟ قال : الله - قالها ثلاثاً - والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الله . فأغمد الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه . وقال مجاهد والكلبي وعكرمة : قتل رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من بني سليم - وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة - فجاء قومهما يطلبون الدية فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فدخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستقرضهم في عقلهما فقالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة ، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا . فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب : أنا . فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده ، فجاء جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عيله وسلم وأنزل الله هذه الآية وقيل : نزلت قصة عسفان حين هم الأعداء أن يواقعوهم فنزلت صلاة الخوف . وقيل : إنها لم تنزل في واقعة خاصة ولكن المراد أن الكفار أبداً كانوا يريدون إيقاع البلاء والنهب والقتل بالمسلمين فأعز الله المسلمين وفل شوكة الكفار وقوى دين الإسلام وأظهره على الأديان .

التأويل : سماع اسم الله وهو من صفات الهيبة يوجب الفناء والغيبة ، وسماع الرحمن الرحيم وهما من صفات اللطف يورث البقاء والقربة { أوفوا } أيها العشاق { بالعقود } التي جرت بيننا يوم الميثاق ليوم التلاق . فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عند بذل وجوده { أحلت لكم } ذبح { بهيمة } النفس التي كالأنعام في طلب المرام إلا النفس المطمئنة التي تليت عليها { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] فتنفرت من الدنيا بما فيها فهي كالصيد في الحرم { وأنتم حرم } بالتوجه إلى كعبة الوصال وإحرام الشوق إلى حضرة الجمال والجلال { إن الله يحكم ما يريد } لمن يريد فيأمر بذبح النفس إذا كانت متصفة بصفة البهيمة وبترك ذبحها إذا كانت مطمئنة بذكر الحق ومتسمة بسمات الملك . ثم أخبر عن تعظيم الشعائر من صدق الضمائر فقال : { يا أيها الذين آمنوا } بشهود القلوب فقصدوا زيارة المحبوب وخرجوا عن أوطان الأوطار وسافروا عن ديار الأغيار { لا تحلوا } معالم الدين والشريعة ومواسم آداب الطريقة والحقيقة ، وعظموا الزمان والمكان والإخوان القاصدين كعبة الوصول إلى الرحمن الذين أهدوا للقربان نفوسهم وقلدوها بلحاء الشجرة الطيبة ليأمنوا عن مكر الأعداء الخبيثة { وإذا حللتم } أتممتم مناسك الوصول { فاصطادوا } أرباب الطلب بشبكة الدعوة إلى الله ، ولا يحملنكم حسد الحساد الذين يريدون أن يصدّوكم عن الحق على أن تعتدوا على الطالبين فتكونوا قطاع الطريق عليهم في طلب الحق . { حرمت عليكم } يا أهل الحق { الميتة } وهي الدنيا بأسرها { والدم ولحم الخنزير } أي حلالها وحرامها قليلها وكثيرها لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة إلى اللحم قليل { وما أهل به } أي كل طاعة هي { لغير الله والمنخنقة والموقوذة } يعني الذين يخنقون أنفسهم بالمجاهدات ويقذونها بالرياضات رياء وسمعة { والمتردية والنطيحة } الذين يتردون أنفسهم إلى أسفل سافلي الطبيعة بالتناطح مع الأقران والتفاخر بالعلم والزهد بين الإخوان { وما أكل السبع } الظلمة المتهارشون في جيفة الدنيا تهارش الكلاب { إلاّ ما ذكيتم } بالكسب الحلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال { وما ذبح على النصب } ما تذبح عليه النفوس من المطالب الفانية { وأن تستقسموا بالأزلام } أي أن تكونوا مترددين في طلب المرام ، فإذا انتهيتم عن هذه المناهي وتخلصتم عن هذه الدواهي فقد عاد ليكلم نهاراً وظلمتكم أنواراً . { اليوم يئس الذين كفروا } من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها { من دينكم فلا تخشوهم واخشون } فإن كيدي متين { اليوم } أي في الأزل { أكملت لكم دينكم } ولكن ظهر الأمر في حجة الوداع يوم عرفة { وأتممت عليكم نعمتي } وهي أسباب تحصيل الكمال ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم { فمن اضطر } فمن ابتلى بالتفات لشيء من الدنيا والآخرة غير مائل إليه للإعراض عن الحق ولكن من فترة للطالبين أو وقفة للسالكين { يسئلونك ماذا أحل } لأرباب السلوك إذا الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا وهما حرام على أهل الله الطيبات كل مأكول ومشروب وملبوس يكون سبباً للقيام بأداء الحقوق .

{ فكلوا مما أمسكن عليكم } تناولوا ما اصطادت النفوس المطمئنة المعلمة بعلوم الشريعة المؤدبة بآداب الطريقة كمالية الدين الأزلية وهو يوم { واذكروا } عند تناول كل ما ورد عليكم من الأمور الدنيوية والأخروية { اسم الله } أي لا تصرفوا فيه إلاّ لله بالله في الله { اليوم } يعني الذي فيه ظهر كمالية الدين الأزلية وهو يوم عرفة . وهذه فائدة التكرار { أحل لكم الطيبات } { أحل لكم الطيبات } التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل لكم التخلق بالأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله المنزهات عن الكميات والكيفيات { وطعام الذين أوتوا الكتاب } وهم الأنبياء { حل لكم } أي غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة { وطعامكم حل لهم } أي منبع لبن النبوة والولاية واحد وإن كان الثدي اثنين { قد علم كل أناس مشربهم } [ البقرة : 60 ] وللنبي وراء ذلك كله مشرب « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { والمحصنات من المؤمنات } وهي أبكار حقائق القرآن { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } أبكار حقائق الكتب المنزلة على الأمم السالفة أي التي أدرجت في القرآن { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين } [ السجدة : 17 ] { إذا آتيتموهن أجورهن } وهي بذل الوجود محصنين في هذا البذل ليكون على وجه الحق { غير مسافحين } على وجه الطبع { ولا متخذي أخدان } غير ملتفتين إلى شيء من الأكوان { ومن يكفر بالإيمان } بهذ المقامات { فقد حبط عمله } الذي عمل من دون المكاشفات { يا أيها الذين آمنوا } إيماناً حقيقياً عند خطاب ألست بربكم { إذا قمتم } من نوم الغفلة { إلى الصلاة } وهي معراجكم للرجوع إلى مكامن قربكم { فاغسلوا وجوهكم } التي توجهتم بها إلى الدنيا ولطختموها بالنظر إلى الأغيار بماء التوبة والاستغفار { وأيديكم إلى المرافق } أي اغسلوا أيديكم من التمسك بالدارين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق { وامسحوا برؤسكم } ببذل نفوسكم { وأرجلكم إلى الكعبين } من طين طبيعتكم والقيام بأنانيتكم { ولا يجرمنكم } ولا يحملنكم حسد الحساد وعداوة الأنذال { على أن لا تعدلوا } مع أنفسكم { إذ هم قوم } من الشيطان والنفس والهوى { أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } والله خير موفق ومعين .
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)

القراآت : { قسية } حمزة وعلي والمفضل . الباقون { قاسية } .
الوقوف : { بني إسرائيل } ج للعدول عن الإخبار إلى الحكاية مع اتحاد القصة . { نقيباً } ج للعدول عن الحكاية إلى الإخبار . { معكم } ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف جوابه { لأكفرن } . { الأنهار } ج { السبيل } ه { قاسية } ج لاحتمال الاستئناف والحال أي لعناهم محرفين { مواضعه } ط لأنا ما يتلوه حال أي وقد نسوا { ذكروا به } ج للعدول عن الماضي إلى المستقبل مع الواو . { واصفح } ط { المحسنين } ه { ذكروا به } ص لعطف المتفقتين { يوم القيامة } ط { يصعنون } ه { عن كثير } ه { مبين } ه لا لأن قوله : { يهدي } وصف الكتاب إلى آخر الآية . { مستقيم } ه { المسيح ابن مريم } الأول ط { جميعاً } ط { وما بينهما } ط { ما يشاء } ط { قدير } ه { وأحباؤه } ط { بذنوبكم } ط لتناهي الاستفهام إلى الأخبار { ممن خلق } ط { من يشاء } ط { وما بينهما } ز للفصل بين ذكر الحال والمال . { المصير } ه { ولا نذير } ر للعطف مع وقوع العارض . { ونذير } ط { قدير } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما خاطب المؤمنين بذكر نعمته وميثاقه أردفه ذكر ميثاق بني إسرائيل ونققضهم إياه ثم لعنهم بسبب ذلك تحذيراً لهذه الأمة من مثل ما فعلوا وفعل بهم . وبوجه آخر لما ذكر غدر اليهود وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالنبي صلى الله عليه وسلم لولا دفع الله تعالى ، أردفه بذكر سائر فضائحهم ليعلم أن ذلك لم يزل هجيراهم . والنقيب العريف « فعيل » بمعنى « فاعل » لأنه ينقب عن أحوال القوم فيكون شاهدهم وضمينهم . وقال أبو مسلم : بمعنى « مفعول » يعني اختارهم على علم بهم . وأصل النقب الطريق في الجبل . ونقب البيطار سرة الدابة ليخرج منها ماء أصفر . والمنافق الفضائل لأنها لا تظهر إلاّ بالنقب عنها . ويقال : كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرفع صوت نباحه ، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيق . قال مجاهد والكلبي والسدي : إن الله تعالى اختار من كل سبط من أسباط بني إسرائيل رجلاً يكون نقيباً لهم وحاكماً فيهم . ثم إنهم بعثوا إلى مدينة الجبارين لينقبوا عن أحوالهم فرأوا أجراماً عظيمة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلاّ رجلين منهم . ومعنى { إني معكم } إني ناصركم ومعينكم والتقدير : وقال الله لهم . فحذف الرابط للعلم به . والخطاب للنقباء أو لكل بني إسرائيل . والحاصل إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم . فهذه مقدمة معتبرة جداً في الترغيب والترهيب ثم ذكر بعدها جملة شرطية مقدمها مركب من خمسة أمور والجزاء هو قوله : { لأكفرن } وهو إشارة إلى إزالة العقاب .

وقوله : { ولأدخلنكم } وهو إشارة إلى إيصال الثواب . واللام في { لئن أقمتم } موطئة للقسم وفي { لأكفرن } جواب له ولكنه سد مسد جواب الشرط أيضاً . والعزر في اللغة الرد ومنه التعزير التأديب لأنه يرده عن القبيح ولهذا قال الأكثرون : معنى { عزرتموهم } نصرتموهم لأن نصر الإنسان رد أعدائه عنه . ولو كان التعزير هو التوقير لكان قوله : { وتعزروه وتوقروه } [ الفتح : 9 ] تكراراً . وههنا أسئلة : لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة إيتاء الزكاة مع أن الإيمان مقدم على الأعمال؟ وأجيب بعد تسليم أن الواو للترتيب بأن اليهود كانوا معترفين بأن النجاة مربوطة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلاّ أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنه لا بد بعد الصلاة والزكاة من الإيمان بجميع الرسل وإلاّ لم يكن لتلك الأعمال أثر . قلت : يحتمل أن يكون التقدير وقد آمنتم أو أخر الإيمان عن العمل تنبيهاً على أن الإيمان إنما يقع معتداً به إذا اقترن به العمل كقوله { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] أو هو من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس ، أو لعل اليهود كانوا مقصرين في الصلاة والزكاة فكان ذكرهما أهم . سؤال آخر ما الفائدة في قوله : { وأقرضتم } بعد قوله : { وآتيتم الزكاة } ؟ وأجيب بأن الإقراض أريد به الصدقات المندوبة . قال الفراء : ولو قال وأقرضتم الله إقراضاً حسناً لكان صواباً أيضاً إلاّ أنه أقيم الاسم مقام المصدر مثل { وأنبتها نباتاً حسناً } [ آل عمران : 37 ] آخر لم قال : { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل } فإن من كفر قبل ذلك أيضاً فقد أخطأ الطريق المستقيم الذي شرعه الله لهم؟ والجواب أجل ، ولكن الضلال بعد الشرط المؤكد المعلق به الوعيد العظيم أشنع فلهذا خص بالذكر . { فبما نقضهم ميثاقهم } بتكذيب الرسل وقتلهم أو بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو بإخلال جملة الشروط المذكورة { لعناهم } قال عطاء : أخرجناهم من رحمتنا . وقال الحسن ومقاتل : مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير . قال ابن عباس : ضربنا الجزية عليهم { وجعلنا قلوبهم قاسية } من قرأ { قسية } فبمعنى القاسية أيضاً إلا أنها أبلغ كعليم وعالم ومنه قولهم « درهم قسي » أي رديء مغشوش لما فيه من اليبس والصلابة بخلاف الدرهم الخالص فإن فيه ليناً وانقياداً . قالت المعتزلة : معنى الجعل ههنا أنه أخبر عنها بأنها صارت قاسية كما يقال جعلت فلاناً فاسقاً أو عدلاً { يحرّفون الكلم } بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير كلامه { ونسوا حظاً } تركوا نصيباً وافراً أو قسطاً وافياً { مما ذكروا به } من التوراة يريد أن تركهم التوراة وإعراضهم عن العمل بها إغفال حظ عظيم ، أن فسدت نياتهم فحرفوا التوراة وزالت علوم منها عن حفظهم كما روي عن ابن مسعود : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية .

وقال ابن عباس : تركوا نصيباً مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم بيّن أن نكث العهود والغدر لم يزل عادتهم خلفاً عن سلف فقال : { ولا تزال تطلع على خائنة } أي خيانة كالعافية والحادثة أو صفة لمحذوف مؤنث أي على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة أو التاء للمبالغة مثل « رجل راوية للشعر » { إلا قليلاً منهم } وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله ، أو هم الذين بقوا على الكفر من غير غدر ونقض لعهودهم { فاعف عنهم واصفح } بعث على حسن العشرة معهم . فقيل منسوخ بآية الجهاد { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] وقيل : المراد فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم . وقيل : بناء على أن القليل هم الباقون على العهد منهم أن المراد لا تؤاخذهم بالصغائر ما داموا باقين على العهد وهذا قول أبي مسلم { إن الله يحب المحسنين } قال ابن عباس : معناه إذا عفوت فأنت محسن ، وإذا كنت محسناً فقد أحبك الله . وعلى قول أبي مسلم فالمراد بهؤلاء المحسنين هم القليلون الذين ما نقضوا عهد الله وفي هذا التفسير بعد والله أعلم .
ثم قال : { ومن الذين قالوا إنا نصارى } ولم يقل ومن النصارى لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى عليه السلام نحن أنصار الله وكانوا بالحقيقة أنصار الشيطان حيث اختلفوا وخالفوا الحق { أخذنا ميثاقهم } إن كان الضمير عائداً إلى الذين قالوا فالمعنى ظاهر ، وإن عاد إلى اليهود فالمعنى أخذنا منهم مثل ميثاق اليهود في أفعال الخير والإيمان بالرسل { فأغرينا } ألصقنا وألزمنا ومنه الغراء الذي يلصق به وغرى بالشيء لزمه ولصق به { بينهم } بين فرق النصارى أو بينهم وبين اليهود . ثم دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : { يا أهل الكتاب } ووحد الكتاب لأنه أخرج مخرج الجنس { مما كنتم تخفون من الكتاب } كصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكصفة الرجم وهذا معجز لأنه لم يقرأ كتاباً وقد أخبرهم بأسرار كتابهم { ويعفو عن كثير } مما تخفونه فلا يبينه مما لا تمس إليه حاجة في هذا الدين . وعن الحسن : ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه بجرمه { قد جاءكم من الله نور } محمد أو الإسلام { وكتاب مبين } هو القرآن لإبانته ما كان خافياً على الناس من الحق ، أو لأنه ظاهر الإعجاز ، ويحتمل أن يكون النور والكتاب هو القرآن والمغايرة اللفظية كافية بين المعطوفين . ولا شك أن القرآن نور معنوي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات { يهدي به الله } أي بالكتاب { من اتبع رضوانه } من كان مطلوبه اتباع الدين الذي يرتضيه الله لا الذي ألفه بحسب هواه { سبل السلام } طرق السلامة أو طرق دار السلام أو سبيل دين الله { إن الله هو المسيح ابن مريم } بناء على جواز الحلول { فمن يملك من الله شيئاً } من الذي يقدر على دفع شيء من أفعاله الله ومنع شيء من مراده .

وقوله : { إن أراد } شرط جزاء آخر محذوف يدل عليه ما تقدمه والمعنى إن أراد { أن يهلك المسيح } المدعو إلها وغيره فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره؟ والمراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمه أنهما من جنسهم وشكلهم في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وسائر الأعراض . فلما سلمتم كونه تعالى خالقاً لغيرهما وجب أن يكون خالقاً لهما ومتصرفاً فيهما . وإنما قال : { وما بينهما } بعد ذكر السموات والأرض ولم يقل « بينهن » لأنه أراد الصنفين أو النوعين . وفي قوله : { يخلق ما يشاء } وجهان : أحدهما يخلق تارة من ذكر وأنثى ، وتارة من أنثى فقط كما في حق عيسى ، وتارة من غير ذكر وأنثى كآدم عليه السلام . وثانيهما أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فإن الله تعالى يخلق فيها اللحمية والحياة معجزة لعيسى ، وكذا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص { نحن أبناء الله وأحباؤه } قيل : عليه أن اليهود لا يقولون ذلك فكيف يجوز نقل ذلك عنهم؟ وأما النصارى فلا يقولون ذلك في حق أنفسهم . وأجيب بأن المضاف محذوف أي نحن أبناء رسل الله أو أريد إن عناية الله تعالى بحالهم أكمل وأشد من اعتناء الأب بالابن ، أو اليهود زعموا أن عزيراً ابن الله ، والنصارى أن المسيح ابن الله . وقد يقول أقارب الملوك وحشمه نحن الملوك وغرضهم كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله فقالوا : كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله أحباؤه؟ ومما يتلو النصارى في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم . ثم إنه سبحانه أبطل عليهم دعواهم بقوله : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } فسئل أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا فحينئذ تمكن المعارضة بوقعة أحد وبقتل أحباء الله كالحسن والحسين عليهما السلام أو عذاب الآخرة . فالقوم ينكرون ذلك ولو كان مجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم كافياً لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادّعاء أنهم أحباء الله كافياً ويصير الاستدلال ضائعاً . وأجيب بأن محل الإلزام عذاب عاجل ، والمعارضة بيوم أحد ساقطة لأنهم وإن ادعوا أنهم الأحباء لكنهم لم يدعوا أنهم الأبناء . أو عذاب آجل واليهود والنصارى يعترفون بذلك وأنهم تمسهم النار أياماً معدودة . ويمكن أن يقال : المراد مسخهم قردة وخنازير بل هذا الجواب أولى ليكون الاحتجاج عليهم بشيء قد دخل في الوجوه فلا يمكنهم الإنكار .

{ بل أنتم بشر من } جملة { من خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ولا قدرة تمنعه من أن يعذبه ، وباقي الآية تأكيد لهذا المعنى { يبيّن لكم } في محل النصب على الحال وفيه وجهان : أن يقدر المبين وهو الدين والشرائع وحسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع ، أو هو ما كنتم تخفون وحسن حذفه لتقدم ذكره وأن لا يقدر المبين . والمعنى يبذل لكم البيان وحذف المفعول أعم فائدة . وقوله : { على فترة } متعلق ب { جاءكم } أو حال آخر . قال ابن عباس : أي على حين فتور من إرسال الرسل وفي زمان انقطاع الوحي . وسميت المدّة بين الرسولين من رسل الله فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع . وكان بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون أو ستمائة سنة . وعن الكلبي : كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي ، وبين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء ، ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي . وأما العنسي بالنون فهو المتنبىء الكاذب . والمقصود أن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وتطرق التحريف والتغير إلى الشرائع المتقدمة وكان ذلك عذراً ظاهراً في إعراض الخلق عن العبادات ، لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادات ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك ، فمن الله تعالى عليهم بإزاحة هذه العلة وذلك قوله : { أن تقولوا } أي كراهة أن تقولوا : { ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم } أي لا تعتذورا فقد جاءكم . والحاصل أن الفترة توجب الاحتياج إلى بعثة الرسل والله قادر على ذلك لأنه قادر على كل شيء ، فكان يجب في حكمته ورحمته إرسال الرسل في الفترات إلزاماً للحجج وإقامة للبينات .
التأويل : جعل في أمة موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً ، وجعل في هذه الأمة من النجباء البدلاء أربعين رجلاً كما قال صلى الله عليه وسلم : « يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم وسبعة على خلق موسى وثلاثة على خلق عيسى عليه السلام وواحد على خلق محمد صلى الله عليه وسلم » وقال أبو عثمان المغربي : البدلاء أربعون والأمناء سبعة ، الخلفاء ثلاثة ، والواحد هو القطب ، والقطب عارف بهم جميعاً ويشرف عليهم ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه وهو إمام الأولياء ، وهكذا حال الثلاثة مع السبعة والسبعة مع الأربعين ، فإذا نقص من الأربعين واحد بدل مكانه واحد من غيرهم ، وإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الأربعين ، وإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة ، وإذا مضى القطب الذي به قوام أعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة هكذا إلى أن يأذن الله تعالى في قيام الساعة { لئن أقمتم الصلاة } بأن تجعلها معراجك إلى الحق في درجات القيام والركوع والسجود والتشهد .

فبالقيام تتخلص عن حجب أوصاف الإنسانية وأعظمها الكبر وهو من خاصية النار ، وبالركوع تتخلص عن حجب صفات الحيوانية وأعظمها الشهوة وهو من خاصية الهواء ، وبالسجود تتخلص عن حجب طبيعة النبات وأعظمها الحرص على الجذب للنشو والنماء وهو من خاصية الماء ، وبالتشهد تتخلص عن حجب طبع الجماد وأعظمها الجمود وهو خاصية التراب ، فإذا تخلصت من هذه الحجب فقد أقمت الصلاة مناجياً ربك مشاهداً له كما قال صلى الله عليه وسلم : « اعبد الله كأنك تراه » { وآتيتم الزكاة } بأن تصرف ما زاد من روحانيتك بتعلق القالب في سبيل الله { وآمنتم برسلي } استسلمتم بالكلية لتصرفات النبوّة والرسالة { وأقرضتم الله } بالوجود كله { قرضاً حسناً } وهو أن يأخذ منكم وجوداً مجازياً فانياً ويعطيكم وجوداً حقيقاً باقياً كما يقول . { لأكفرن } لأسترن بالوجود الحقيقي { عنكم سيّآتكم } الوجود المجازي { ولأدخلنكم جنات } الوصلة { تجري من تحتها } أنهار العناية { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } لأنّ العصيان يجر إلى العصيان { فأغرينا بينهم العداوة } حيث نسوا حظ الميثاق وأبطلوا الاستعداد الفطري صاروا كالسباع يتهارشون ويتجاذبون { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } يجعل أقوماً مظهر لطفه وفضله وآخرين مظهر قهره وعدله وهو أعلم بعباده .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

القراآت : { جبارين } بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو حيث كان { فلا تاس } بغير همزة حيث وقعت : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف .
الوقوف : { ملوكاً } ز { جبارين } ق قد قيل لشبهة الابتداء بأن ولكن كسر ألف « إن » بمجيئه بعد القول معطوفاً على الأول . { حتى يخرجوا منها } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب . { داخلون } ه { الباب } ج لذلك . { غالبون } ه { مؤمنين } ه { قاعدون } ه { الفاسقين } ه { سنة } ج لأنها تصلح ظرفاً للتيه بعده والتحريم قبله { الفاسقين } ه .
التفسير : وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال : أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وذكرهم موسى نعم الله وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في الكل . منّ الله عليهم بأمور ثلاثة : أوّلها قوله : { إذ جعل فيكم أنبياء } وذلك أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء . وثانيها قوله : { وجعلكم ملوكاً } قال السدي : أي جعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد ما استعبدكم القبط . وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكان لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكاً . وقال الزجاج : الملك من لا يدخل عليه أحد إلاّ بإذنه . وقيل : الملك هو الصحة والإسلام والأمن والفوز وقهر النفس . وقيل : من كان مستقلاً بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجاً في مصالحه إلى أحد فهو ملك . وقيل : كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء ، وقد يقال لمن حصل فيهم ملوك إنهم ملوك مجازاً . وقيل : كل نبي ملك لأنه يملك أمر أمته ينفذ فيهم حكمه . وثالثها : { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } من فلق البحر وإغراق العدوّ وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الخوارق والعظائم . وقيل : أراد عالمي زمانهم . روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله تعالى له : انظر فما أدرك بصرك فهو مقدّس وميراث لذريتك . وقيل : لما خرج قوم موسى من مصر وعدهم الله إسكان أرض الشام ، فكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد . ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي . فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساماً عظيمة هائلة . قال المفسرون : لما بعث موسى النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجباً للملك : هؤلاء يريدون قتالنا . فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه بما شاهدتم . فانصرف النقباء إلى موسى وأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلاّ رجلان - هما كالب بن يوفنا من سبط يهودا ، ويوشع بن نون من سبط افراييم بن يوسف - فإنهما قالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم وأجسامهم عظيمة إلاّ أن قلوبهم ضعيفة ، وأما العشرة الباقية فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم .

والأرض المقدسة هي المطهرة من الآفات ، وقيل من الشرك . وزيف بأنها لم تكن وقت الجبارين كذلك . وأجيب بأنها كانت كذلك فيما قبل لأنها كانت مسكن الأنبياء . ثم إنها ما هي؟ فعن عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحاء . وقال الكلبي : دمشق وفلسطين وبعض الأردن . وقيل : الطور وما حوله . وقيل : بيت المقدس . وقيل : الشام ومعنى { كتب الله لكم } وهبها لكم أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم أو أمركم بدخولها . قال ابن عباس : كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم . وقيل : المراد خاص أي مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم . وقيل : إن الوعد كان مشروطاً بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط . وقيل : حرمها عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب . وفي قوله : { كتب الله لكم } تقوية القلبو وأنّ الله سينصرهم مع ضعفهم على الجبارين مع قوّتهم . { ولا ترتدوا على أدباركم } لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وإخباره بهذه النصرة ، أو لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى التي خرجتم عنها . فقد روي أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر { فتنقلبوا خاسرين } في الآخرة يفوت الثواب ولحوق العقاب ، أو فترجعوا إلى الذل أو تموتوا في التيه غير واصلين إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة . والجبار « فعال » من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهو اختيار الفراء والزجاج . قال الفراء : لم أسمع « فعالاً » من « أفعل » إلاّ في حرفين : جبار من أجبر ، ودراك من أدرك . ويقال : نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها . والقوم الاستبعاد { إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } كقوله تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف : 40 ] { قال رجلان } هما يوشع وكالب { من الذين يخافون الله أنعم الله عليهما } أي بالهداية والثقة بقوله والاعتماد على نصره ومحل { أنعم الله } مرفوع صفة لرجلان . ويحتمل أن يكون جملة معترضة . قال القفال : يجوز أن يكون الضمير في { يخافون } لبني إسرائيل والعائد إلى الموصول محذوف تقديره من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون فعلى هذا الرجلان من الجبارين { ادخلوا عليهم الباب } مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال : متى دخلتم باب بلدهم لم يبق منهم نافخ نار ولا ساكن دار { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } علموه ظناً أو يقيناً من عادة الله في نصرة رسله عامة ومن صنعه لموسى عليه سلام في قهر أعدائه خاصة { وعلى الله فتوكّلوا } الفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها .

والمعنى لما وعدكم الله النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من عظم أجسامهم بل توكلوا على الله { إن كنتم مؤمنين } مقرين بوجود الإله القدير ، موقنين بصحة نبوّة موسى { قالوا إنّا لن ندخلها } نفوا دخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس وزادوا في التأكيد بقولهم : { أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك } قال العلماء : لعلهم كانوا مجسمة يجوّزون الذهاب والمجيء على الله تعالى أو أنهم لم يقصدوا حقيقة الذهاب كقولك : « كلمته فذهب يجيبني » يريد القصة والإرادة . وقيل : المراد بالرب أخوه هارون وسموه رباً لأنه أكبر من موسى . وقيل : التقدير اذهب وربك معين لك بزعمك ولكن لا يجاوبه . قوله { فقاتلا } ولا يبقى لقوله أنت فائدة واضحة . ولا يخفى أنّ هذا القول منهم كفر أو فسق فلهذا قال موسى على سبيل الشكوى والبث { ربي إني لا أملك إلاّ نفسي وأخي } قال الزجاج : في إعرابه وجهان : الرفع على موضع إني والمعنى أنا لا أملك إلاّ نفسي وأخي كذلك ، أو نسقاً على الضمير في { أملك } أي لا أملك أنا وأخي إلاّ أنفسنا . والنصب على أنه نسق على الياء أي إني وأخي لا نملك إلاّ أنفسنا ، أو على نفسي أي لا أملك إلاّ نفسي ولا أملك إلاّ أخي ، لأنّ أخاه إذا كان مطيعاً له فهو مالك طاعته ، وكأنه لم يثق بالرجلين كل الوثوق فلهذا لم يذكرهما ، أو لعله قال ذلك تقليلاً لمن يوافقه ، أو أراد من يؤاخيه في الدين . { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله : { ونجني من القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ] أو المراد فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لكل منا بما يستحق وهو في معنى الدعاء عليهم بدليل فاء التسبيب في قوله : { فإنها } أي الأرض المقدسة { محرمة عليهم أربعين سنة } ثم يفتحها الله لهم من غير محاربة . أو المراد أنهم يتيهون أربعين سنة ومعنى يتيهون يسيرون متحيرين . عن مقاتل أن موسى عليه السلام لما دعا عليهم فأخبره الله بأنهم يتيهون قالوا له : لم دعوت علينا وندم على ما عمل فأوحى الله إليه : { فلا تأس } أي لا تحزن ولا تندم { على القوم الفاسقين } فإنهم أحقاء بالعذاب لفسقهم . وجوّز بعضهم أن يكون ذلك خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن على قوم لم تزل مخالفة الرسل هجيراهم .
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أنّ موسى وهارون هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه لأنه دعا أن يفرق بينه وبينهم وكل نبي مجاب ، ولأن التيه عذاب والأنبياء لا يعذبون ، ولأنّ سبب ذلك العذاب التمرد وهما لم يتمرّدا . وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم إلاّ أنّ الله تعالى سهل عليهم ذلك العذاب كما أن النار كانت على إبراهيم برداً وسلاماً .

ثم من هؤلاء من قال : إنّ هارون عليه السلام مات في التيه ومات موسى عليه السلام بعده فيه بسنة ، ودخل يوشع عليه السلام أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته ، ومات النقباء في التيه بغتة بعقوبات غليظة إلاّ كالب ويوشع . ومنهم من قال : بل بقي موسى عليه السلام بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله تعالى أعلم . واختلفوا أيضاً في التيه وهي المفازة التي تاهوا فيها فقال الربيع : مقدار ستة فراسخ . وقيل : تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً . وقيل : ستة في اثني عشر . وقيل : كانوا ستمائة ألف فارس . ثم الأكثرون على أنّ قوله : { فإنها محرمة } تحريم منع كانوا يسيرون كل يوم على الاستدارة جادّين حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان مع ذلك نعمة الله عليهم من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك متظاهرة كالوالد الشفيق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولكن لا يقطع عنه معروفه وإحسانه . ويشكل هذا القول بأنه كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في ذلك القدر الصغير من المفازة سنين متطاولة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يهتدي طريقاً للتيه ولو بأمارات حركات النجوم؟ والجواب أنّ هذا من الخوارق التي يجب التصديق بها كسائر المعجزات التي يستبعد وقوعها . وقال بعضهم : إنّ هذا التحريم تعبّد وإنه تعالى أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة عقاباً لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا فلا إشكال .
التأويل : أشار موسى الروح إلى القوى البدنية ادخلوا أرض القلب المقدسة التي كتبها الله تعالى للإنسان المستعد في الفطرة ، فهابوا تحمل أعباء المجاهدات ولزوم المخالفات والرياضات فقال لهم رجلان - النفسان اللوّامة والمطمئنة - إنكم غالبون إذا دخلتم باب الجدّ والطلب تستبدل الراحة بالتعب ، فلم يعتدّوا بقولهما فحرّم الله تعالى ذلك عليهم أربعين سنة هي مدة استيفاء حظوظ النفس الأمارة وانكسار سورة قواها في الأغلب كقوله : { حتى إذا بلغ اشدّه وبلغ أربعين سنة } [ الأحقاف : 15 ] وفي الآية نكتة هي أنّ موسى عليه السلام لما ظن أنه يملك نفسه ونفس أخيه ابتلاه الله في الحال بالدعاء على أمته لأنّ المرء إنما يملك نفسه إذا ملكها عند الغضب فشتان بينه وبين من قال حين شج رأسه وكسرت رباعيته « اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » اللهم صلّ عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كل بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

القراآت : { لأقتلنك } بالنون الخفيفة . روى المعدّل عن زيد { يدي إليك } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع . { من أجل } بكسر النون : يزيد وقرأ ورش بفتح النون موصولة { رسلنا } بسكون السين حيث كان : أبو عمرو .
الوقوف : { بالحق } م على أن « إذ » معمول اذكر محذوفاً ولو وصل لأوهم أنه معمول { اتل } وهو محال { من الآخر } ط { لأقتلنك } ط { المتقين } ه { لأقتلك } ج لاحتمال إضمار اللام أو الفاء . { العالمين } ه { النار } ج لاختلاف الجملتين { الظالمين } ه ج لأجل الفاء { الخاسرين } ه { سوأة أخيه } ط { أخي } ج لطول ما اعترض من المعطوف والمعطوف عليه { النادمين } ه ج { من أجل ذلك } ج كذلك لأنّ قوله : { من أجل } يصلح أن يتعلق ب { أصبح } وب { كتبنا } . { جميعاً } في الموضعين ط . { بالبينات } ز لأنّ « ثم » لترتيب الأخبار { لمسرفون } ه { من الأرض } ط { عظيم } ه { لا عليهم } ج لتناهي الاستثناء مع الجواب أي لا تعذب التائبين { فإنّ الله غفور رحيم } ه { تفلحون } ه { منهم } ج لتناهي الشرط مع اتحاد المقصود من الكلام { أليم } ه لاتحاد المقصود مع اختلاف الجملتين { مقيم } ه { من الله } ط { حكيم } ه { يتوب عليه } ط { رحيم } ه { لمن يشاء } ط { قدير } ه .
التفسير : في النظم وجوه منها : أنه راجع إلى قوله : { إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } [ المائدة : 11 ] فكأنه تعالى ذكر لأجل تسلية نبيّه صلى الله عليه وسلم قصصاً كثيرة كقصة النقباء وما انجرّ إليه الكلام من إصرار أهل الكتاب وتعنتهم بعد ظهور الدلائل القاطعة ، ثم ختمها بقصة ابني آدم وأنّ أحدهما قتل الآخر حسداً وبغياً ليعلم أنّ الفضل كان محسوداً بكل أوان . ومنها أنه عائد إلى قوله : { يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } [ المائدة : 15 ] فإنّ هذه القصة وكيفية إيجاب القصاص بسببها كانت من أسرار التوراة . ومنها أنه من تمام قوله : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينفع قابيل . والمراد اتل على الناس أو على أهل الكتاب خبر ابني آدم من صلبه - هابيل وقابيل - تلاوة ملتبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى ، أو ملتبسة بالصدق - لما في التوارة والإنجيل أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد والتحذير من سوء عاقبة الحاسد . أو اتل عليهم وانت محق صادق لا مبطل هازل كالأقاصيص التي لا غناء فيها { إذ قربا } قال في الكشاف : نصب بالنبا أي قصتهم في ذكل الوقت أبو بدل من النبا أي نبأ ذلك الوقت على حذف المضاف والمقصود إذ قرب كل واحد منهما قرباناً إلاّ أنه جمعهما في الفعل اتكالاً على قرينة الحكاية ، أو لأنّ القربان في الأصل مصدر ، ثم سمي به ما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة .

يروى أنّ آدم عليه السلام كان يولد له في كل سنة بطن غلام وجارية ، فكان يزوّج البنت من بطن بالغلام من بطن آخر فولد قابيل وتوأمته إقليما وبعدهما هابيل وتوأمته لبودا . وكانت توأمه قابيل أحسن وأجمل فأراد آدم أن يزوّجها من هابيل فأبى قابيل وقال : أنا أحق بها وليس هذا من الله وإنما هو رأيك . فقال آدم لهما : قرّبا قرباناً فمن أيكما قبل قربانه زوّجتها منه . فقبل الله قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل سخطاً وقتل أخاه حسداً . هذا ما عليه أكثر المفسرين وأصحاب الأخبار وقال الحسن والضحاك : إنهما ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل لقوله عزّ من قائل : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } ومن البين أنّ صدور الذنب من أحد ابني آدم لا يصلح أن يكون سبباً لإيجاب القصاص على بني إسرائيل ، وزيف بأنّ الآية تدل على أنّ القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لم يخف عليه . قال مجاهد : أكل النار علامة الرد . وجمهور المفسرين على أنّ ذلك علامة القبول . وقيل : ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرّب إلى الله فكانت النار تنزل من السماء فتأكله . وإنما صار أحد القربانين مقبولاً والآخر مردوداً لأنّ حصول التقوى شرط في قبول الأعمال ولهذا قال تعالى حكاية عن المحق في جواب المبطل : { إنما يتقبل الله من المتقين } وذلك لأنه لما كان الحسد هو الذي حمله على توعده بالقتل فكأنه قال له : ما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على طاعة الله تعالى التي هي السبب في القبول؟ قيل في هذه القصة : إنّ أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه وكان صاحب غنم ، والآخر جعله أرادأ ما كان معه وكان صاحب زرع . وقيل : إنه أضمر حين قرب أنه لا يزوّج أخته من هابيل سواء قبل أو لم يقبل . وقيل : لم يكن قابيل من أهل التقوى وفي الكلام حذف فكأن هابيل قال في جواب المتوعد : لم تقتلني؟ قال : لأنّ قربانك صار مقبولاً . فقال هابيل : وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين . ثم حكى الله سبحانه عن المظلوم أنه قال : { لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك } فذكر الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل مقروناً بالباء المزيدة لتأكيد النفي دلالة على أنه لا يفعل ام يكتسب به هذا الوصف الشنيع ألبتة . قال مجاهد : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله لانّ الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت وهذا وجه قوله : { إني أخاف الله رب العالمين } وقيل : المعنى لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع .

قال أهل العلم : الدافع عن نفسه يجب عليه أني دفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع ، ثم إن لم يندفع إلاّ بالقتل جاز له ذلك . ثم قال : { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } فسئل أنه كيف يعقل أن يرجع القاتل مع إثم المقتول { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] ؟ فقال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة : أي تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي . وقال الزجاج : ترجع إلى الله بإثم قتلي وأثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك . وقال في الكشاف : إنه يحتمل مثل الإثم المقدر كأنه قال إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي . سؤال آخر : كيف جاز أن يريد معصية أخيه وكونه من أهل النار؟ والجواب أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل فكأنه لما وعظه ونصحه قال له : إن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد أن تترصد لقتلي في وقت غفلة وحينئذٍ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلاّ إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية ، وإذا دار الأمر بين أن أكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن تكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي ، ومن البين أن إرادة صدور الذنب عن الغير في هذه الحالة لا يكون حراماً بل هو عين الطاعة . أو المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي ، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يرد من الله تعالى عقاب الظالم . وروي أنّ الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم ، فعلى هذا يجوز أن يقال : إني أريد أن تبوء بإثمي الذي يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني ، وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جواباً عن السؤال الأوّل أيضاً . { فطوّعت له نفسه قتل أخيه } وسعته ورخصته وسهلت من طاع له المرتع وأطاع إذا اتسع وله لأجل زيادة الربط كقول القائل : حفظت لزيد ماله . ومنهم من قال : شجعته فقتله . والتحقيق أن الإنسان يعلم أن القتل العمد العدوان من أعظم الذنوب فهذا الاعتقاد يكون صارفاً له عن فعله فلا يطاوع النفس الأمارة حتى إذا كثرت وساوسها انقاد لها وخضع . وإضافة التطويع والتمرين إلى النفس لا ينافي كون الكل مضافاً إلى قضاء الله فتنبه . يحكى أنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيراً وضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه .

ثم إنه وجد هابيل يوماً نائماً فضرب رأسه بصخرة فمات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تقتل نفس ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها » ولذلك أنه أوّل من سن القتل { فأصبح من الخاسرين } دنياه وآخرته لأنه أسخط والديه وبقي مذموماً إلى يوم القيامة ثم يلقى في النار خالداً . قيل : لما قتل أخاه هرب من أرض اليمن إلى عدن فأتاه إبليس وقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل أنه كان يخدم النار ويعبدها . فبنى بيت نار وهو أوّل من عبد النار . وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء . وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم . وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً . فقال : بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك . ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك وإنه رثاه بشعر هو هذا :
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
قال في الكشاف : إنه كذب بحت وقد صح أن الأنيباء معصومون عن الشعر وصدّقه في التفسير الكبير وقال : إنّ ذلك من غاية الركاكة بحيث لا يليق بالآحاد فضلاً من الأفراد وخصوصاً من علمه حجة على الملائكة . وأقول : أما أن جميع الأنبياء معصومون عن الشعر فلعل دعوى العموم لا تمكن فيه وكأنه من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا أثنى الله تعالى عليه بقوله : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } [ يس : 69 ] وأما أنه من الركاكة بالحيثية المذكورة فمكابرة مع أن مقام البث والشكوى لا يحتمل الشعر المصنوع والله أعلم بحقيقة الحال . قال المفسرون : إنه لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغيّر فبعث الله غراباً . روى الأكثرون أنه بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم من الغراب . وقال : الأصم : لما قتله وتركه بعث الله غراباً يحثى على المقتول فلما رأى القاتل أنّ الله تعالى كيف يكرمه بعد موته ندم . وقال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه { ليريه } أي الله أو الغراب أي ليعلمه وذلك أنه كان سبب تعليمه { كيف يواري } محله نصب على الحال من ضمير { يواري } والجملة منصوبة بيرى مفعولاً ثانياً أي ليريه كيفية مواراة سوأة أخيه أي عورته وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده . وقيل : أي جيفة أخيه . والسوأة السوء الخلة القبيحة { يا ويلتي } كلمة عذاب . يقال : ويل له وويله ومعناه الدعاء بالإهلاك وقد يقال في معرض الترحم .

وإنما طلب إقبال الويل ههنا على سبيل التعجب والندبة أي احضر حتى يتعجب منك ومن فظاعتك أو احضر فهذا أوان حضورك . والألف بدل من ياء المتكلم { أعجزت } استفهام بطريق الإنكار { أن أكون } أي عن أن أكون { مثل هذا الغراب } أي فيء الفعلة المذكورة ولهذا قال : { فأواري } بالنصب على جواب الاستفهام { من النادمين } الندم وضع للزوم ومنه النديم لملازمته المجلس . وإنما لم يكن ندمه توبة لأنه لما تعلم الدفن من الغراب صار من النادمين على أنّ حمله على ظهره سنة ، أو ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله بل سخط عليه أبواه وإخوته ، أو ندم لأنه تركه بالعراء استخفافاً وتهاوناً وكان دون الغراب في الشفقة على مقتولة حتى صار الغراب دليلاً وقد قيل :
إذا كان الغراب دليل قوم ... { من أجل ذلك } القتل قيل : هو من أجل شراً يأجله أجلاً إذا جناه { كتبنا على بني إسرائيل } إن كان القاتل والمقتول من بني إسرائيل فالمناسبة بين الواقعة وبين وجوب القصاص عليهم ظاهرة ، وإن كانا ابني آدم من صلبه فالوجه أن يكون ذلك إشارة إلى ما في القصة من أنواع المفاسد كخسران الدارين وكالندم على الأمور المذكورة ، أي من أجل ما ذكرنا في أثناء القصة من المفاسد الناشئة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص في حق القاتل ، ثم وجوب القصاص وإن كان عاماً في جميع الأديان والملل إلاّ أنّ التشديد المذكور في الآية - وهو أن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس - غير ثابت إلاّ على بني إسرائيل . والغرض بيان قساوة قلوبهم فإنهم مع علمهم بهذا الحكم أقدموا على قتل الأنبياء والرسل فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي عزموا فيها على قتله . ثم القائلون بالقياس استدلوا بالآية على أنّ أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل لأنه صرّح بأن الكتبة معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله : { من أجل ذلك } والمعتزلة أيضاً قالوا : إنها دلّت على أنّ الأحكام معللة بمصالح العباد . ويعمل منه امتناع كونه تعالى خالقاً للكفر والقبائح لأنّ ذلك ينافي مصلحة العبد . والأشاعرة شنعوا عليهم بلزوم الاستكمال . والتحقيق أنّ استتباع الفعل الغاية الصحيحة لا ينافي الكمال الذاتي وقد سبق مراراً . { بغير نفس } أي بغير قتل نفس وهو أن يقع لا على وجه الاقتصاص . { أو فساد } قال الزجاج : إنه معطوف على { نفس } بمعنى أو بغير فساد { في الأرض } كالكفر بعد الإيمان وكقطع الطريق وغيره من المهدّدات { فكأنما قتل الناس جميعاً } وههنا نكتة وهي أنّ التشبيه لا يستدعي التسوية بين المشبة والمشبه به من كل الوجوه ، فلا يكون قتل النفس الواحدة قتل جميع الناس فإنّ الجزء لا يعقل أنه مساوٍ للكل . فالغرض استعظام أمر القتل العمد العدوان واشتراك القتلين في استحقاق الإثم كما قال مجاهد : قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله والعذاب العظيم ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك .

والتحقيق فيه أنه إذا أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة ، وإذا ثبت الترجيح بالنسبة إلى واحد ثبت بالنسبة إلى كل واحد بل بالإضافة إلى الكل لأنّ كل إنسان يدلي من الكرامة والحرمة بما يدلي به الآخر . وفيه أن جد الناس واجتهادهم في دفع قاتل شخص واحد يجب أن يكون مثل جدّهم في دفعة لو علموا أنه يقصد قتلهم بأسرهم { ومن أحياها } استنقذها من مهلكة كحرق أو غرق أو جوع مفرط ونحو ذلك ، والكلام في تشبيه إحياء البعض بإحياء الكل كما تقرر في القتل { ثم إنّ كثيراً منهم } أي من بني إسرائيل { بعد ذلك } بعد مجيء الرسل { لمسرفون } في القتل لا يبالون بهتك حرمة . ومعنى « ثم » تراخي الرتبة .
ثم إنه سبحانه بين أن الفساد في الأرض الموجب للقتل ما هو فقال : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } استدل بالآية من جوز إرادة الحقيقة والمجاز معاً من لفظ واحد لأنّ محاربة الله عبارة عن المخالفة فقط لا يمكن حملها على حقيقة المحاربة . ويحتمل أن يقال : إنا نحمل هذه المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف . والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ، أو المراد إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله كما جاء في الخبر « من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة » { ويسعون في الأرض فساداً } نصب على الحال أي مفسدين ، أو على العلة أي للفساد ، أو على المصدر الخاص نحو : رجع القهقرى . لأنّ افساد نوع من السعي . عن قتادة عن أنس أن الآية نزلت في العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا فكانت الآية ناسخة لتلك السنة . وعند الشافعي لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقاَ للسنة الناسخة . وقيل : نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي - وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد - فمرّ بهم قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم . وقيل : إنها في بني إسرائيل الذين حكى الله عنهم أنهم مسرفون في القتل . وقيل : في قطّاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء . قالوا : ولا يجوز حمل الآية على المرتدين لأنّ قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة وإظهار الفساد في الأرض ، ولأنه لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد أو النفي ، ولأن حدّه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وبعدها ، ولأنّ الصلب غير مشروع في حقه ، ولأن اللفظ عام .

وشرطوا في هذا المحارب بعد كونه مسلماً مكلفاً أن يكون معتمد القوة في المغالبة مع البعد عن الغوث فيخرج الكفار والمراهقون والمعتمد على الهرب ، وكذا المعترض للقادر على الاستعانة بمن يغيثه . واتفقوا على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كان قاطع الطريق ، فأما في نفس البلد فكذلك عند الشافعي لعموم النص . وخالف أبو حنيفة ومحمد لأنه يلحقه الغوث في الغالب فحكمه حكم السارق . وللعلماء في لفظ « أو » في الآية خلاف . فعن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد أنها للتخيير إن شاء الإمام قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى . وعنه في رواية عطاء أنّ الأحكام تختلف بحسب الجنايات ، فمن اقتصر على القتل قتل ، ومن قتل وأخذ المال قدر نصاب السرقة قتل وصلب ، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفي من الأرض ، وإليه ذهب الشافعي والأكثرون . والذي يدل على ضعف القول الأول أنه ليس للإمام الاقتصار على النفي بالإجماع ولأن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وهذا لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي . فتقدير الآية أن يقتلوا إن قتلوا ، أ يصلبوا إن جمعوا بين القتل والأخذ ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على الأخذ . والتشديد في هذه الأفعال للتكثير . { أو ينفوا من الأرض } إن أخافوا السبيل والقياس الجلي أيضاً يؤيد هذا التفسير لأنّ القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق بالتحتم وعدم جواز العفو . وأخذ المال يتعلق به قطع اليد فغلظ في حقه بقطع الطرفين { من خلاف } أي يده اليمنى ورجله اليسرى ، فإن عاد فالباقيتان . قيل : وإنما قطع هكذا لئلاّ يفوت جنس المنفعة . قلت : هذا أيضاً من باب التغليظ لأنّ اليد اليمنى أعون في العمل والرجل اليسرى أعون في الركوب . وإن جمعوا بين القتل والأخذ يجمع بين القتل والصلب ، لأنّ بقاءه مصلوباً في ممر الطريق أشهر وأزجر . وإن اقتصروا على مجرد الإخافة اقتصر الشرع على عقوبة خفيفة هي النفي . قال أبو حنيفة : إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين أن يقتل فقط أو يقطع ثم يقتل ويصلب . وعندالشافعي لا بد من الصلب لأجل النص . وكيفية الصلب أن يقتل ويصلّى عليه ثم يصلب مكفناً ثلاثة أيام . وقيل : يترك حتى يتهرى ويسيل صديده أي صليبه وهو الودك . وعند أبي حنيفة يصلب حياً ثم يمزق بطنه برمح حتى يموت أو يترك بلا طعام وشراب حتى يموت جوعاً ، ثم إن أنزل غسل وكفن وصلّي عليه ودفن ، وإن ترك حتى يتهرى فلا غسل ولا صلاة .

أما النفي فإنّ الشافعي حمله على معنيين : أحدهما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن ظفر بهم أقام عليهم الحد ، وإن لم يظفر بهم طلبهم أبداً . فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي . والثاني الذين يحضرون الواقعة ويعينونهم بتكثير السواد وإخافة المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال ، فالإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم ، فيكون المراد بنفيهم هو هذا الحبس . وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق : النفي هو الحبس لأنّ الطرد عن جميع الأرض غير ممكن ، وإلى بلدة أخرى استضرار بالغير ، وإلى دار الكفر تعريض للمسلم بالردة ، فلم يبق إلاّ أن يكون المراد الحبس لأنّ المحبوس لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا فكأنه خارج منها ولهذا قال صالح بن عبد القدوس حين حبسوه على تهمة الزندقة وطال لبثه :
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
{ ذلك لهم خزي } ذل وفضيحة { في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } استدل المعتزل بها على القطع بوعيد الفساق وعلى الإحباط . وقالت الأشاعرة : بل بشرط عدم العفو { إلاّ الذين تابوا } قال الشافعي : إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه ما يختص بقطع الطريق من العقوبات لأنه متهم حينئذٍ بدفع العذاب عنه وفي سائر الحدود بعد القدرة عليه . قيل : يكفي في التوبة إظهارها كما يكفي إظهار الإسلام تحت ظلال السيوف . والأصح أنه لا بدّ مع التوبة من إصلاح العمل لقوله تعالى في الزنا { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } [ النساء : 16 ] وفي السرقة { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح } ولعل الفائدة في هذا الشرط أنه إن ظهر ما يخالف التوبة أقيم عليه الحد ، وإنما يسقط بتوبة قاطع الطريق قبل القدرة عليه تحتم القتل . فالولي يقتص أو يعفو بناء على أن عقوبة قاطع الطريق لا تتمحض حداً بل يتعلق بها القصاص وهو الأظهر ، أما إذا محضناه حداً فلا شيء عليه ، وإن كان قد أخذ المال وقتل سقط الصلب وتحتم القتل . وفي القصاص وضمان المال ما ذكرنا وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع الرجل . وفي قطع اليد وجهان : الأظهر السقوط أيضاً بناء على أنه جزء من الحد الواجب فإذا لم يقم الكل لم يقم شيء من أجزائه بالاتفاق . والثاني أنه ليس من خواص قطع الطريق لأنه يجب بالسرقة ففي سقوطه الخلاف في سائر الحدود .
ثم إنه سبحانه لما بيّن كمال جسارة اليهود على المعاصي وغاية بعدهم عن الوسائل إلى الله وآل الكلام إلى ما آل عاد إلى إرشاد المؤمنين ليكونوا بالضدّ منهم فقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } وأيضاً فإنهم قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن أبناء الأنبياء وكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقيل للمؤمنين : لتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بأسلافكم فقوله : { اتقوا الله } إشارة إلى ترك المنهيات وقوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } عبارة عن فعل المأمورات وإن كان ترك المناهي أيضاً من جملة الوسائل إلاّ أن هذا التقرير مناسب ، والفعل والترك أيضاً يعتبران في الأخلاق الفاضلة والذميمة وفي الأفكار الصائبة والخاطئة ، وأهل التحقيق يسمون الترك والفعل بالتخلية والتحلية أو بالمحو والحضور أو بالنفي والإثبات أو بالفناء والبقاء ، والأول مقدّم على الثاني ، فما لم يفن عما سوى الله لم يرزق البقاء بالله .

والوسيلة « فعيلة » وهي كل ما يتوسل به إلى المقصود ولهذا قد تسمى السرقة توسلاً والواسل الراغب إلى الله قال لبيد :
ألا كل ذي لب إلى الله واسل ... والتوسيل والتوسل واحد يقال : وسل إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل قالت التعليمية : إنه تعالى أمر بابتغاء الوسيلة إليه فلا بد من معلم يعلمنا معرفته . وأجيب بأن الأمر بالابتغاء مؤخر عن الإيمان لقوله : { يا أيها الذين آمنوا } فعلمنا أن المراد بالوسائل هي العبادات والطاعات . ثم إن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي لما كان شاقاً على النفس ثقيلاً على الطبع لأن العقل يدعو إلى خدمة الله والنفس تدعو إلى اللذات الحسيات والجمع بينهما كالجمع بين الضرتين والضدّين أردف التكليف المذكور بقوله : { وجاهدوا في سبيله } والمراد بهذا القيد أن تكون العبادة لأجلة لا لغرض سواه وهذه مرتبة السابقين . ثم قال : { لعلكم تفلحون } والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه والفوز بالمحبوب وهذه دون الأولى لأن غرضه الرغبة في الجنة أو الرهبة من النار وكلتا المرتبتين مرضية . ثم أشار إلى مرتبة الناقصين بقوله { إن الذين كفروا } وخبر « إن » مجموع الجملة الشرطية وهي قوله : { لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به } أي بالمذكور أو الواو بمعنى « مع » والعامل في المفعول معه وهو المثل ما في « إن » من معنى الفعل أي لو ثبت { من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } والغرض التمثيل وأن العذاب لازم لهم وقد مر مثله في سورة آل عمران . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم . فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك » { يريدون أن يخرجوا } أي يتمنون الخروج من النار أو يقصدون ذلك . قيل : إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج . وقيل : يكادون يخرجون منها لقوتها ورفعها إياهم . عمم المعتزلة هذا الوعيد في الكفار وفي الفساق ، وخصصه الأشاعرة بالكفار لدلالة الآية المتقدمة .

ثم إنه تعالى عاد إلى تتميم حكم أخذ المال من غير استحقاق وهو المأخوذ على سبيل الخفية لا المحاربة فقال : { والسارق والسارقة } وهما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه والأخفش والتقدير فيما فرض أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمها . وعند الفراء - وهو اختيار الزجاج - أن الألف واللام فيهما بمعنى الذي والتي وخبرهما : { فاقطعوا } ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط كأنه قيل : الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما . وقراءة عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على القراءة المشهورة لأن الإنشاء لا يحسن أن يقع خبراً إلاّ بتأويل وأما إذا نصبت فإنه يكون من باب الإضمار على شريطة التفسير والفاء يكون مؤذناً بتلازم ما قبلها وما بعدها مثل : { وربك فكبر } [ المدثر : 3 ] وضعف قول سيبويه بأنه طعن ي قراءة واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيح للقراءة الشاذة وفيه ما فيه على أن الإضمار الذي ذهب إليه هو خلاف الأصل . والذي مال إليه الفراء أدل على العموم وأوفق لقوله سبحانه : { جزاء بما كسبا } فإنه تصريح بأن المراد من الكلام الأول هو الشرط والجزاء . أما البحث المعنوي في الآية فإن كثيراً من الأصوليين زعموا أنها مجملة لأنه لم يبين نصاب السرقة وذكر الأيدي وبالإجماع لا يجب قطع اليدين ، ولأن اليد تقع على الأصابع بدليل أن من حلف لا يلمس فلاناً بيده فلمسه بأصابعه فإنه يحنث ، وتقع على الأصابع مع الكف وعلى الأصابع والكف والساعدين إلى المرفقين وعلى كل ذلك إلى المنكبين . وأيضاً الخطاب في : { فاقطعوا } إما لإمام الزمان كما هو مذهب الأكثرين أو لمجموع الأمة أو لطائفة مخصوصة فثبت بهذه الوجوه أن الآية مجملة . وقال المحققون : مقتضى الآية ولا سيما في تقدير الفراء عموم القطع بعموم السرقة إلاّ أن السنة خصصته بالنصاب . أو نقول : إن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة بر إنه سارق . والمراد بالأيدي اليدان مثل : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب قطعهما معاً ولا الابتداء باليسرى . واليد اسم موضوع لهذا العضو إلى المنكب ولهذا قيد في قوله : { وأيديكم إلى المرافق } [ المائدة : 6 ] وقد ذهب الخوارج إلى وجوب قطع اليدين إلى المنكبين لظاهر الآية إلاّ أن السنة خصصته بالكوع . والحاصل أن الآية عامة لكنها خصصت بدلائل منفصلة فتبقى حجة في الباقي ، وهذا أولى من جعلها مجملة غير مفيدة أصلاً . ثم إن جمهور الصحابة والفقهاء ذهبوا إلى أن القطع لا يجب إلاّ عند شروط كالنصاب والحرز ، وخالف ابن عباس وابن الزبير والحسن وداود الأصفهاني والخوارج تمسكاً بعموم الآية ، ولأن مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة ، فالذي يستقله الملك يستكثره الفقير . وقد قال الشافعي : لو قال لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بالحبة يقبل لاحتمال أن يريد أنه عظيم في الحل أو عظيم عنده لشدة فقره .

ولما طعنت الملحدة في الشريعة بأن اليد كيف ينبغي أن تقطع في قليل مع أن قيمتها خمسمائة دينار من الذهب ، أجيب عنه بأن ذلك عقوبة من الشارع له على دناءته . وإذا كان هذا الجواب مقبولاً من الكل فليكن مقبولاً منا في إيجاب القطع على القليل والكثير . وأيضاً اختلاف المجتهدين في قدر النصاب كما يجيء يدل على أن الأخبار المخصصة عندهم متعارضة فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن . ودعوى الإجماع على أن القطع مخصوص بمقدار معين غير مسموعة لخلاف بعض الصحابة والتابعين كما قلنا . واعلم أن الكلام في السرقة يتعلق بأطراف المسروق ونفس السرقة والسارق . وأما المسروق فمن شروطه عند الأكثرين أن يكون نصاباً . ثم قال الشافعي : إنه ربع دينار من الذهب الخالص وما سواه يقوم به وهو مذهب الإمامية لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا قطع إلاّ في ربع دينار » وقال أبو حنيفة : النصاب عشرة دراهم لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا قطع إلا في ثمن المجن » والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم ، وقال مالك : ربع دينار أو ثلاثة دراهم . وعن أحمد روايتان كالشافعي وكمالك . وقال ابن أبي ليلى : خمسة دراهم . وعن الحسن : درهم . وفي مواعظه : « احذر من قطع يدك في درهم » . ومنها أن يكون المسروق ملك غير السارق لدى الإخراج من الحرز . فلو سرق مال نفسه من يد غيره كيد المرتهن والمستأجر أو اطرأ ملكه في المسروق قل إخراجه من الحرز بأن ورثه السارق أو اتهبه وهو فيه سقط القطع . ومنها أن يكون محترماً لا كخمر وخنزير . ومنها أن يكون الملك تاماً قوياً . والمراد بالتمام أن لا يكون السارق فيه شركة أو حق كمال بيت المال ، وبالقوّة أن لا يكون ضعيفاً كالمستولدة والوقف . ومنها كون المال خارجاً عن شبهة استحقاق السارق ، فلو سرق رب الدين من مال المديون فإن أخذه لا على قصد استيفاء الحق أو على قصده والمديون غير جاحد ولا مماطل قطع ، وإن أخذه على قصد استيفاء الحق وهو جاحد أو مماطل فلا يقطع سواء أخذ من جنس حقه أو لا من جنسه . وإذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر وكان المال محرزاً عنه فعند أبي حنيفة لا يجب القطع . وعند الشافعي ومالك وأحمد يجب . ومنها كون المال محرزاً لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن » وحرز كل شيء على حسب حاله . فالإصطبل حرز الدواب وإن كانت نفيسة وليس حرزاً للثياب والنقود .

والصفة في الدار وعرصتها حرزان للأواني وثياب البذلة دون الحلي والنقود فإن العادة فيها الإحراز في الصناديق والمخازن . وعن أبي حنيفة أن ما هو حرز لمال فهو حرز لكل مال . وأما السرقة فهي إخراج المال عن أن يكون محرزاً ولا بد من شرط الخفية فلا قطع على المختلس والمنتهب والمعتمد على القوة ، ولا على المودع إذا جحد خلافاً لأحمد . وأما السارق فيشترط فيه التكليف والتزام الأحكام والاختيار؛ فيقطع الذمي والمعاهد ولا يقطع المكره . وإنما تثبت السرقة بثلاث حجج : باليمين المردودة أو بالإقرار أو بشهادة رجلين . ويتعلق بها حكمان : الضمان والقطع . وقال أبو حنيفة : القطع والغرم لا يجتمعان . حجة الشافعي أن قوله صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذت حتى تؤدى » يوجب الضمان . وقد اجتمع في هذه السرقة أمران ، وحق الله لا يمنع حق العباد ولهذا يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك ، ولو كان المسروق باقياً وجب رده بالاتفاق . حجة أبي حنيفة قوله تعالى : { جزاء بما كسبا } والجزاء هو الكافي ، فهذا القطع كاف في جناية السرقة . ورد بلزوم رد المسروق عند كونه قائماً . أما كيفية القطع فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقطع يمينه . قال الشافعي : فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى ، فإن سرق ثالثاً فيده اليسرى ، فإن سرق رابعاً فرجله اليمنى ، وبه قال مالك . وروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقطع في الثانية وما بعدها لما روي عن ابن مسعود أنه قرأ فاقطعوا أيمانهما ، وضعفه الشافعي بأن القراءة الشاذة لا تعارض ظاهر القرآن المقتضي لتكرر القطع بتكرر السرقة . واتفقوا على أنه يقطع اليد من الكوع ، والرجل من المفصل بين الساق والقدم . والسيد يملك إقامة الحد على مماليكه لعموم قوله : { فاقطعوا } ولم يجوّزه أبو حنيفة . واحتج المتكلمون بالآية في أنه يجب على الأمة نصب الإمام لأن هذا التكليف لا يتم إلاّ به وما لا يتم الواجب إلاّ به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب . وانتصاب { جزاء } و { نكالاً } على أنه مفعول لهما ، والعامل { اقطعوا } وإن شئت فعلى المصدر من الفعل الذي دل عليه : { فاقطعوا } أي جازوهم ونكلوا بهم { جزاء بما كسبا نكالاً من الله } . { فمن تاب } من السراق { من بعد ظلمه } أي سرقته { وأصلح } أي يتوب بنية صالحة وعزيمة صحيحة خالية من الأغراض الفاسدة { فإن الله يتوب عليه } وعند بعض الأئمة تسقط العقوبة أيضاً . وعند الجمهور لا تسقط . وباقي الآيات قد مر تفسيره . وإنما قدم التعذيب على المغفرة طباقاً لتقدم السرقة على التوبة .
التأويل : إن آدم الروح بازدواجه مع حواء القالب ولد قابيل النفس وتوأمته إقليما الهوى ، ثم هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل ، فكان الهوى في غاية الحسن في نظر النفس فبه تميل إلى الدنيا ولذاتها .

وكان في نظر القلب أيضاً في غاية الحسن فبه يميل إلى طلب المولى ، وكان العقل في نظر النفس في غاية القبح لأنها به تنزجر عن طلب الدنيا ، وكذا في نظر القلب لأنه بالعقل يمتنع عن طلب الحق والفناء في الله ولهذا قيل : العقل عقيله الرجال ، فحرم الله تعالى الازدواج بين التوأمين لأن الهوى إذا كان قرين النفس أنزلها أسفل سافلين الطبيعة ، وإذا كان قرين القلب كان عشقاً فيوصله إلى أعلى فراديس القرب ، وإذا كان العقل قرين القلب صار عقالاً له ، وإذا كان قرين النفس حرضها على العبودية فرضي هابيل القلب وسخط قابيل النفس وكان صاحب زرع أي مدبر النفس النامية وهي القوّة النباتية ، فقرب طعاماً من إردإ زرعه وهي القوّة الطبيعية ، وكان هابيل القلب راعياً لمواشي الأخلاق الإنسانية والصفات الحيوانية فقرب الصفة البهيمية وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه إليها لضرورة التغذي والبقاء ولسلامتها بالنسبة إلى الصفات السبعية والشيطانية . فوضعا قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فحملت الصفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس شيئاً لأنها ليست من حطبها بل هي حطب نار الحيوانية { فتبوء بإثمي وإثمك } أي إثم وجودي وإثم وجودك ، فإن الوجود حجاب بيني وبين محبوبي . فقتل قابيل النفس هابيل القلب والنفس أعدى عدو القلب { فأصبح من الخاسرين } أما في الدنيا فبالحرمان عن الواردات والكشوف ، وأما في الآخرة فبالبعد عن جنات الوصول { فبعث الله غراباً } هو الحرص في الدنيا ليشغل بذلك عن فعلتها . وفي تعليم الغراب إشارة إلى أنه تعالى قادر على تعليم العباد بأي طريق شاء فيزول تعجب الملائكة والرسل باختصاصهم بتعليم الخلق { في الأرض لمسرفون } أي في أرض البشرية { إنما جزاء الذين يحاربون } أولياء الله { أون يقتلوا } بسكين الخذلان { أو يصلبوا } بحبل الهجران على جذع الحرمان { أو تقطع أيديهم } عن أذيال الوصال { وأرجلهم من خلاف } عن الاختلاف { أو ينفوا } من أرض القربة والائتلاف { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } جعل الفلاح الحقيقي في أربعة أشياء : في الإيمان وهو إصابة رشاش النور في بدو الخلقة وبه يخلص العبد من ظلمة الكفر ، وفي التقوى وهو منشأ الأخلاق المرضية ومنبع الأعمال الشرعية وبه الخلاص عن ظلمة المعاصي ، وفي ابتغاء الوسيلة وهو إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وبه يخلص من ظلمه أوصاف الوجود ، وفي الجهاد في سبيله وهو محو الأنانية في إثبات الهوية وبه يخلص من ظلمة أوصاف الوجود ويظفر بنور الشهود { وما هم بخارجين منها } لأنهم خلقوا مظاهر القهر { السارق والسارقة } كانا مقطوعي الأيدي عن قبول رشاش النور فكان تطاول أيديهما اليوم إلى أسباب الشقاوة من نتائج قصر أيديهما عن قبول تلك السعادة { جزاء بما كسبا } الآن في عالم الصورة { نكالاً من الله } تقديراً منه في الأزل .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)

القراآت : { السحت } بضمتين : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعلي . الباقون بسكون العين . { واخشوني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل { والعين } وما بعده بالرفع علي وافق أبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويزيد في { والجروح } بالرفع . { والأذن } وبابه بسكون العين : نافع . { وليحكم } بالنصب : حمزة . الباقون بالجزم .
الوقوف : { قلوبهم } ج أي ومن الذين هادوا قوم سماعون ، وإن شئت عطفت { ومن الذين هادوا } على { من الذين قالوا آمنا } ووقفت على { هادوا } واستأنفت بقوله { سماعون } راجعاً إلى الفئتين ، والأول أجود لأن التحريف محكي عنهم وهو مختص باليهود { آخرين } لا لأن ما بعده صفة لهم . { لم يأتوك } ط { مواضعه } ج لاحتمال ما بعده الحال والاسئناف { فاحذروا } ط { شيئاً } ط { قلوبهم } ط { عظيم } ه { للسحت } ط لأن المشروط غير مخصوص بما يليه { أعرض عنهم } ج { شيئاً } ط { بالقسط } ط { المقسطين } ه { ذلك } ط لتناهي الاستفهام { بالمؤمنين } ه { ونور } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { شهداء } ط لاختلاف النظم مع فاء التعقيب { قليلاً } ط { الكافرون } ه { بالنفس } ط لمن قرأ { والعين } وما بعده بالرفع { بالسن } ط لمن قرأ { والجروح } بالرفع { قصاص } ط لابتداء الشرط { كفارة له } ط { الظالمون } ه { من التوراة } الأولى ص لطول الكلام { ونور } ط لأن الحال بعده معطوف على محل الجملة قبله الواقعة حالاً . { للمتقين } ط لمن قرأ { وليحكم } بالنصب { فيه } ط { الفاسقون } ه .
التفسير : خاطب محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله : { يا أيها النبي } في مواضع ولم يخاطبه بقوله : { يا أيها الرسول } إلا ههنا وفي قوله : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك } [ المائدة : 67 ] ولا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم شرف به في هذه السورة التي هي آخر السورة نزولاً حيث تحققت رسالته في الواقع . أما وجه النظم فهو أنه سبحانه لما بين بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم مسارعة بعض الناس إلى الكفر فلا جرم صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحمل ذلك ووعده أن ينصره عليهم ويكفيه شرهم . والمراد بمسارعتهم في الكفر تهافتهم فيه وحرصهم عليه حتى إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها . { آمنا بأفواههم } فيه تقديم وتأخير أي قالوا بأفواههم آمنا { سماعون للكذب } قابلون لما يفتعله أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه والطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من قولك : الملك يسمع كلام فلان أي يقبله { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي قابلون من الأحبار ومن الذين لم يصلوا إلى مجلسك من شدة البغضاء وإفراط العداوة ، ويحتمل أن يراد نفس السماع . واللام في { للكذب } لام التعليل أي يسمعون كلامك لكي يكذبوا عليك { يحرّفون الكلم } مبدلين ومغيرين سماعون لأجل قوم آخرين وجوههم عيوناً وجواسيس { من بعد مواضعه } أي التي وضعها الله فيها من أمكنة الحل والحظر والفرض والندب وغير ذلك ، أو من وجوه الترتيب والنظم فيهملوها بغير مواضع بعد أن كانت ذات موضع { إن أوتيتم هذا } المحرّف المزال عن موضعه { فخذوه } واعلموا أنه الحق واعملوا به { وإن لم تؤتوه } وأفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بخلافه { فاحذروا } فهو الباطل .

عن البراء بن عازب قال : مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فقال : « هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم فقال صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال : لا ، ولولا أنك نشدتني لم أخبرك . نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد فقلنا : تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه به فرجم » فأنزل الله الآية إلى قوله : { إن أوتيتم هذا } يقولون ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فحذوا به ، إن أفتاكم بالرجم فاحذروا . وفي رواية أخرى أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا : إن أمركم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا ، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال : هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا . نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكماً . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك الله الذي لا إله إلاّ هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون . والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه ، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال : نعم . فوثب عليه سفلة اليهود فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب . ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده . قال العلماء القائلون برجم الثيب الذمي ومنهم الشافعي : إن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المقصود ، وإن كان مما ثبت في شريعة موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخه ، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } حكمه باق في شرعنا { ومن يرد الله فتنته } ظاهر الآية أن المراد بالفتنة أنواع الكفر التي حكاها عن اليهود وغيرهم .

والمعنى ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك . ثم أكد هذا بقوله : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل لآمن . والمعتزلة فسروا الفتنة بالعذاب كقوله : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] أو بالفضيحة أو بالإضلال أي تسميته ضالاً ، أو المراد ومن يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها { فلن تملك له من الله } ثواباً ولا نفعاً . ثم قال : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قولهم ، أو يطهر قلوبهم من الحرج والغم والوحشة الحالة على كفره ، أو هو استعارة عن سقوط وقعة عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله . ثم وصف اليهود بقوله : { سماعون للكذب أكالون للسحت } وهو الحرام وكل ما لا يحل كسبه من سحته وأسحته أي استأصله لأنه مسحوت البركة ، ومال مسحوت أي مذهب . قال الليث : السحت حرام يحصل منه العار وذلك أنه يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها . ورجل مسحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يلفى إلاّ جائعاً أبداً كأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام . والسحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستكساب في المعصية روي ذلك عن علي رضي الله عنه وعمر عثمان وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد ، وزاد بعضهم ونقص بعضهم وكل ذلك يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون فيه عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة . قال الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلاً في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت . وقيل : كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالاً ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فكانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت . وقيل : سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة ، أكالون للربا لقوله تعالى : { وأخذهم الربا } [ النساء : 161 ] { فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } خيره الله تعالى بين الحكم والإعراض . فقيل : إن هذا الخبر مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم .

وقيل : إنه في أمر خاص وهو رجم المحصن قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري : وقيل : في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم كاملة وفي قريظة نصف دية ، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء . وعن النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم أن الآية عامة في كل ما جاء من الكفار ، وأن الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ . وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وهو مذهب الشافعي أن هذا التخيير منسوخ في في حق غير المعاهدين بقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم . وأهل الحجاز بعضهم لا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ويقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية ، ثم إنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلاّ لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض صلى الله عليه وسلم عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وعادوا فآمنه الله بقوله : { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } بالعدل والاحتياط كما حكمت في الرجم { وكيف يحكمونك } تعجيب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم لوجوه منها : عدولهم عن حكم كتابهم ، ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلاً ، ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد . والواو في قوله : { وعندهم } للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب . أما قوله : { فيها حكم الله } فإما أن ينتصب حالاً من التوراة على ضعف وهي مبتدأ خبره { عندهم } وإما أن يرتفع خبراً عنها والتقدير وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله فيكون { عندهم } متعلق بالخبر ، وإما أن لا يكون له محل ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كقولك : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره . وأنثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث . { ثم يتولون } عطف على { يحكمونك } و « ثم » لتراخي الرتبة أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم { وما أولئك بالمؤمنين } إخبار بأنهم لا يؤمنون أبداً ، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون ، أو المراد أنهم غير كاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم .
ثم رغب اليهود في أن يكونوا كمتقدميهم من أنبيائهم ومسلمي أحبارهم فقال : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } ونور العطف يقتضي التغاير فقيل : الهدى بيان الأحكام والشرائع والنور بيان التوحيد والنبوة والمعاد . وقال الزجاج : الهدى بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه ، والنور بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق .

وقيل : فيها هدى يهدي للحق والعدل ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام ، فهما عبارتان عن معبر واحد ، وقد يستدل بالآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا لأن الهدى والنور لا بد أن يكون أحدهما يتعلق بالفروع والآخر بالأصول وإلا كان تكراراً . وأيضاً إنها نزلت في الرجم ومورد الآية لا بد أن يكون داخلاً فيها سواء قلنا إن غيره داخل أو خارج . ويمكن أن يجاب بأن التكرار بعبارتين غير محذور أو بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً والمراد فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون . أما قوله : { الذين أسلموا } فأورد عليه أن كل نبي مسلم فما الفائدة في هذا الوصف؟ وأجيب بأنها صفة جارية على سبيل المدح لا التوضيح والكشف ، وفيه تعريض باليهود أنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء قديماً وحديثاً لأن غرض الأنبياء الانقياد لتكاليف الله وغرضكم من ادعاء الحكم بالتوارة أخذ الرشا من العوام ، فالفريقان متباينان ولهذا أردفه بقوله : { للذين هادوا } أي يحكمون لأجلهم . قال في الكشاف : قوله تعالى : { الذين أسلموا للذين هادوا } مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام . قلت : هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين . ولقائل أن يقول : بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص؟ وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : المراد بالنبيين هو محمد صلى الله عليه وسلم كقوله : { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] لأنه اجتمع فيه من الخصال ما كانت مفرقة في الأنبياء : وقيل : أسلموا أي انقادوا لحكم التوراة . فمن الأنبياء من لم تكن شريعتهم شريعة موسى . والربانيون قد مر تفسيره في آل عمران . والأحبار عن ابن عباس هم الفقهاء ، الواحد حبر بالفتح من قولهم : فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلاً حسن الهيئة ، أو حبر بالكسر من ذلك أيضاً لقولهم : حسن الحبر بالكسر أيضاً . وفي الحديث : « يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره » أي جماله وبهاؤه ، وتحبير الخط والشعر تحسينه أو من هذا الحبر الذي يكتب به لكون العالم صاحب كتب . قاله الفراء والكسائي وأبو عبيدة . ثم إن ذكر الربانيين بعد النبيين يدل على أنهم أعلى حالاً من الأحبار فيشبه أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء . وقوله : { بما استحفظوا } إما أن يكون من صلة { يحكم } أي يحكم بها الربانيون والأحبار بسبب ما استحفظوا ، أو يكون من صلة الأحبار أي العلماء بما استحفظوا بام سألهم أنبياؤهم حفظه . و « من » في { من كتاب الله } للتبيين . وقد أخذ الله تعالى على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين : أحدهما أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم ، والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه وكانوا أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار عليه على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله شهداء رقباء لئلا يبدل ، ويحتمل أن يعود ضمير { استحفظوا } إلى النبيين وغيرهم جميعاً والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء .

ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال : { فلا تخشوا الناس واخشوني } وعن التغيير لرغبة فقال : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وهو الرشوة وابتغاء الجاه . ثم عمم الحكم فقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } احتجت الخوارج بالآية على أن كل من عصى الله فهو كافر . وللمفسرين في جوابهم وجوه : الأول انها مختصة باليهود وردّ بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولا ريب أن لفظ « من » في معرض الشرط للعموم فلا وجه لتقدير ومن لم يحكم من هؤلاء المذكورين الذين هم اليهود لأنه زيادة في النص . وقال عطاء : هو كفر دون كفر . وقال طاوس : ليس بكفر الملة ولا كمن يكفر بالله واليوم الآخر . فلعلهما أراد كفران النعمة ، وضعف بأن الكافر إذا أطلق يراد به الكافر في الدين . وقال ابن الأنباري : المراد أنه يضاهي الكافر لأنه فعل فعلاً مثل فعل الكافر وزيف بأنه عدول عن الظاهر . وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل فيخرج الفاسق لأنه في الاعتقاد والإقرار موافق وإن كان في العمل مخالفاً . واعترض بأن سبب النزول يخرج حينئذ لأنه نزل في مخالفة اليهود في الرجم فقط ، ويمكن أن يقال : المحرّف داخل في الكل . وقال عكرمة : إنما تتناول الآية من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما العارف المقر إذا أخل بالعمل فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك فلا تتناوله الآية .
ثم إنه سبحانه لما بيّن أن حكم الزاني المحصن في التوراة هو الرجم واليهود غيروه أراد ان يبين أن نص التوراة هو قتل النفس بالنفس وأنهم بدّلوه حيث فضلوا بني النضير على بني قريظة فقال : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } من قرأ المعطوفات كلها بالنصب فظاهر ، ومن قرأ ما سوى الأوّل بالرفع فللعطف على محل النفس إذ المعنى وكتبنا عليهم في التوراة النفس بالنفس إما لإجراء { كتبنا } مجرى « قلنا » وإما بطريق الحكاية كقولك : كتبت الحمد لله وقرأت سورة « إن أنزلناه » وإما على سبيل الاستئناف والمعنى على جميع التقادير . فرضنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس إذا قتلتها بغير حق ، والعين مفقوأة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، والجروح ذات قصاص أي مقاصة . وهذا تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل والمراد منه كل ما يمكن المساواة فيه من الأطراف كالذكر والأنثيين والإليتين والقدمين واليدين ، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلاً وهي التي توضح العظم وتبدي وضحة وهو الضوء والبياض ، وكذا منافع الأعضاء والأطراف كالسمع والبصر والبطش .

فأما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم أو كسر في عظم أو خدش وإدماء في جلد ففي ذلك أرش أو حكومة وتفاصيلها في كتب الفقه . { فمن تصدق به فهو كفارة له } الضمير في { به } يعود إلى القصاص وفي { هو } إلى التصدق الدال عليه الفعل . وفي { له } وجهان : أحدهما أنه يعود إلى العافي المتصدق لما روى عبادة بن الصامت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه » وعن عبد الله بن عمرو : « يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به » والثاني أنه يعود إلى الجاني المعفو عنه أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو ، وأما العافي فأجره على الله تعالى { وقفينا على آثارهم } أي على آثار النبيين { بعيسى ابن مريم } أي عقبناهم به ، فتعديته إلى المفعول الثاني بالباء . وقوله : { على آثارهم } يسدّ مسد الأول لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه { مصدّقاً لما بين يديه } أي مقراً بأن التوراة كتاب منزل من عند الله تعالى وأنه كان حقاً واجب العمل به قبل ورود ناسخه وهو الإنجيل المصدق أيضاً لكونه مبشراً بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كالتوراة . وأما النور فبيان الأحكام الشرعية وتفاصيل التكاليف ، والهدى الأول أصول الديانات كالتوحيد والنبوات والمعاد ، والهدى الثاني اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لأن ذلك سبب اهتداء الناس إلى نبوته ، واشتمال الإنجيل على المواعظ والنصائح والزواجر ظاهر وخص الجميع بالمتقين لأنهم هم المنتفعون بذلك . ومن قرأ { وليحكم } بالجزم فإما إخبار عما قيل لهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل أي قلنا لهم ليحكموا بما فيه ، وإما أمر مستأنف للنصارى بالحكم بما فيه كتابهم من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو مما لم يصر منسوخاً بالقرآن . ومن قرأ بالنصب فلأنه علة فعل محذوف يدل عليه ما تقدمه أي ولأجل حكمهم بما فيه آتيناهم كتابهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون هدى وموعظة أيضاً غرضين معطوفين للحكم والله أعلم . أما قوله : { الكافرون } { الظالمون } { الفاسقون } فللمفسرين فيه خلاف . قال القفال : هو كقولك من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو المتقي ، لأن كل ذلك أوصاف مختلفة حاصلة لموصوف واحد ، فهذه كلها نزلت في الكفار . وقال آخرون : الأول من الجاحد ، والثاني والثالث في المقر التارك . وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود ، والثالث في النصارى .
التأويل : سماعون لكذبات الشيطان في وساوسه والنفس في هواجسها { سماعون لقوم آخرين } يسنون السنة السيئة لغيرهم { يحرفون } يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة وهذه حال مؤوّلي القرآن والأحاديث على وفق أهوائهم { سماعون للكذب أكالون للسحت } لأن الأخلاق الردية أورثتهم الأعمال الدينية .

فالأخلاق نتائج الأعمال والأعمال نتائج الأخلاق وكلها من نتائج الاستعداد الفطري { فإن جاؤك فاحكم بينهم } مداوياً لدائهم إن رأيت التداوي سبباً لشفائهم أو أعرض عنهم إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } داوهم على ما يستحقون من دائهم { بما استحفظوا من كتاب الله } الفرق بين بني إسرائيل وبين هذه الأمة أنهم استحفظوا التوراة فضيعوها وحرفوها ، وقال في حقنا : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] { وكتبنا عليهم } كما أن في إهلاك النفس هلاك نفس المهلك ففي إحياء نفس الطالب بحياة الدين حياة نفس محييها ، وفي معالجة عين قلبه وأنف قلبه وأذن قلبه وسن قلبه معالجة هذه الأعضاء بمزيد الإدراك . { فمن تصدق } بهذا الإحياء { فهو كفارة له } فيما فرط من إحياء نفسه ومعالجة قلبه طرفة عين . { ومن لم يحكم } على نفسه { بما أنزل الله } في تزكيتها وتحليتها فأولئك الذين ظلموا أنفسهم بوضع الحظوظ مقام الحقوق والله أعلم .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

القراآت : { تبغون } بتاء الخطاب : ابن عامر والخراز عن هبيرة . الباقون بالياء . { ويقول } بالواو وبالرفع : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب بالنصب . عياش : مخير . الباقون { يقول } بدون واو العطف . { من يرتد } بالإظهار : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون بالإدغام . { والكفار } بالجر : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي . الباقون بالنصب عطفاً على محل { الذين اتخذوا } وقرأ أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدوية وابن رستم الطبري عن نصير طريق ابن مهران بالإمالة .
الوقوف : { بالحق } ط { ومنهاجاً } ط { الخيرات } ط { تختلفون } ه لا لعطف { وأن احكم } على ما قبله . ومن وقف فلأنه رأس آية . { أنزل الله إليك } ط { ذنوبهم } ط { الفاسقون } ه { يبغون } ط { يوقنون } ه { أولياء } ه ليلزم النهي عن اتخاذ الأولياء مطلقاً { أولياء بعض } ط { منهم } ط { الظالمين } ه { دائرة } ط لتمام المقول . { نادمين } ه لا لمن قرأ { ويقول } بالنصب عطفاً على { أن يأتي } . { جهد أيمانهم } لا لأن قوله : { إنهم } جواب القسم { لمعكم } ط { خاسرين } ه { ويحبونه } لا لأن ما بعده صفة قوم { الكافرين } ه لشبه الآية . { لائم } ط { من يشاء } ط { عليم } ه { راكعون } ه { الغالبون } ه { أولياء } ج للعطف ولطول الكلام . { مؤمنين } { ولعباً } ط { لا يعقلون } ه .
التفسير : منّ الله تعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن إليه مصدقاً لما بين يديه من الكتاب أي جنسه وهو كل كتاب سوى القرآن نازل من السماء . وفي المهيمن قولان : قال الخليل وأبو عبيدة : هيمن على الشيء يهيمن إذا كان رقيباً على الشيء وشاهداً ومصدقاً . وقال الجوهري : أصله أأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء لكراهة اجتماع الهمزتين ، ثم الأولى هاء كما في هرقت وهياك . والمعنى إنه أمين على الكتب التي قبله لأنه لا ينسخ ألبتة ولا يحرف لقوله : { وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] ومن هنا قرىء : { ومهيمناً عليه } فتح الميم أي هو من عليه بأن حوفظ من التغيير والتبديل ، والذي هيمن عليه عز وجل كما قلنا ، أو الحفاظ في كل بلد والقراء المشهود لهم بالإجادة { فاحكم بينهم } بين اليهود بالقرآن { ولا تتبع أهواءهم } منحرفاً { عما جاءك من الحق } أو ضمن لا تتبع معنى لا تحزن . قيل : لولا جواز المعصية على الأنبياء لم يجز هذا النهي . والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي . أو الخطاب له والمراد غيره { لكل جعلنا منكم } أيها الناس أو الأمم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكر الثلاث { شرعة ومنهاجاً } قال ابن السكيت : الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وملحته . وقيل : إنه من الشروع في الشيء الدخول فيه ، والشرعة مصدر للهيئة بمعنى الشريعة « فعلة » بمعنى « مفعولة » وهي الأمور التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها والمنهاج الطريق الواضح وهما عبارتان عن معبر واحد هو الدين والتكرير للتأكيد .

ويحتمل أن يقال : الشريعة عامة والمنهاج مكارم الشريعة ، فالأولى أقدم وهذه تتلوها وهي الطريقة . وقال المبرد : الشريعة ابتداء الطريق والطريقة المنهاج المستمر { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا خلاف فيه . وفيه دليل على أن الكل بمشيئة الله تعالى . والمعتزلة حملوه على مشيئته الإلجاء { ولكن ليبلوكم } أي جعلكم مختلفين متخالفين ليعاملكم معاملة المختبر هل تعملون بالنواميس الإلهية وتذعنون للعقائد الحقة أم تقصرون في العمل وتتبعون الشبه ولذلك قال { فاستبقوا الخيرات } سارعوا إليها وتسابقوا نحوها . ويعني بالخيرات ههنا ما هو الحق من الاعتقادات والمحقق من التكاليف . ثم علّل الاستئناف بقوله : { إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم } فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعام والمقصر . والمراد أن الأمر سيؤل إلى ما يحصل معه اليقين من مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته { وأن احكم } قيل معطوف على { الكتاب } أي وأنزلنا إليك أن احكم على أن « أن » المصدرية وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال ، أو على قوله : { بالحق } أي أنزلناه بالحق وبأن احكم . وأقول : يحتمل أن تكون « أن » مفسرة وفعل الأمر محذوف أي وأمرناك أن احكم . وتكرار الأمر بالحكم إما للتأكيد وإما لأنهما حكمان لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصنين ثم احتكموا في قتل كان بينهم . وزعم بعض الأئمة أن هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله : { فاحكم بينهم أو أعرض } وعن ابن عباس أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشماس بن قيس من أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه . فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قوم خصومة ونحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل فيهم : { واحذرهم أن يفتنوك } محله نصب على أنه مفعول له أي مخافة أن يفتنوك ، أو على أنه بدل اشتمال من مفعول احذر . والمراد بالتفنة رده إلى أهوائهم فكل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن . قال بعض أهل العلم : في الآية دليل على أن الخطأ والنسيان جائزان على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن التعمد في مثل هذا غير جائز فلم يبق إلاّ الخطأ والنسيان فلو لم يكونا جائزين أيضاً لم يكن للحذر فائدة ، { فإن تولوا } عن الحكم المنزل أي فإن لم يقبلوا حكمك { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } أما الإصابة فالمراد بها قتلهم وإجلاؤهم ، وأما ذكر بعض الذنوب فلأن مجازاتهم ببعض الذنوب كافية في إهلاكهم وتدميرهم ، أو أراد بالبعض ذنب التولي عن حكم الله .

وفيه أن لهم ذنوباً جمة وأن هذا الذنب عظيم جداً كقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أراد نفسه وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام فكأنه قال نفساً كبيرة لأن التنكير في معنى البعضية أيضاً . { لفاسقون } لمتمردون في الكفر . وفيه أن التولي عن حكم الله فسق مؤكد جداً .
ثم استفهم منكراً لرأيهم فقال : { أفحكم الجاهلية يبغون } وفيه تعيير لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ومع ذلك يطلبون حكم الملّة الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى . وقال مقاتل : إن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاصيل بين القتلى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القتلى بواء أي سواء . فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت . وعن الحسن هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله . وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فتلا هذه الآية . واللام في قوله : { لقوم يوقنون } للبيان كلام في : { هيت لك } [ يوسف : 23 ] أي هذا لخطاب وهذا الاستفهام لهم لأنهم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكماً ولا أحسن منه بياناً . قال عطية العوفي : جاء عبادة بن الصامت فقال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيراً عددهم حاضراً نصرهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية اليهود ، أو إلى الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه . قال : قد قبلت فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } تعاشرونهم معاشرة المؤمنين . ثم علل النهي بقوله : { بعضهم أولياء بعض } لأن الجنسية علة الضم . ثم أكد ذلك بقوله : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } من جملتهم وحكمه حكمهم ولذلك قال ابن عباس : يريد أنه كافر مثلهم وفيه من التغليظ والتشديد ما فيه . { إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة فوضعوا الولاء في غير موضعه . عن أبي موسى الأشعري قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن لي كاتباً نصرانياً فقال : ما لك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفاً؟ أما سمعت هذه الآية؟ قلت : له دينه ولي كتابته . فقال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذا أذلهم الله ، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله . قلت : لا قوام بالبصرة إلاّ به .

قال : مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما كنت تكون صانعاً حينئذٍ فاصنعه الآن . { فترى الذين في قلوبهم مرض } يعني أمثال عبدالله بن أبي { يسارعون فيهم } في موالاة اليهود والنصارة يهود بني قينقاع ونصارة نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهامهم ويقرضونهم { يقولون } يعتذرون عن الموالاة بقولهم : { نخشى أن تصيبنا دائرة } قال الواحدي : هي الدولة ومثلها صروف الزمان ونوائبه . وقال الزجاج : نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك . ثم سلى رسوله والمؤمنين بقوله : { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } فعسى من الله الكريم إطماع واجب . والفتح إما فتح مكة أو مطلق دولة الإسلام وغلبة ذويه . وقوله : { أو أمر من عنده } المراد به فعل لا يكون للناس فيه مدخل ألبتة كقذف الرعب في قلوب بني النضير وغيرهم من الكفار . وقيل : هو أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار المنافقين وقتلهم . { فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم } من النفاق والشك في أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يتم { نادمين ويقول الذين آمنوا } قال الواحدي : حذف الواو ههنا كإثباتها فلهذا جاء في مصاحف أهل الحجاز والشام بغير واو ، وفي مصاحف أهل العراق بالواو ، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكراً من المعطوف عليها ، فإن قوله : { أهؤلاء } إشارة إلى الذين يسارعون ، فلما حصل في كل من الجملتين ذكر من الأخرى حسن الوجهان . ووجه العطف مع النصب ظاهر ووجه ذلك مع الرفع على أنه كلام مبتدأ أي ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت . ووجه الفصل هو أن يكون جواب سائل يسأل فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ وإنما يقولون هذا القول فيما بينهم تعجباً من حالهم وفرحاً بما منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص ، أو يقولونه لليهود الذين كانوا يحلفون لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم : { وإن قوتلتم لننصرنكم } [ الحشر : 11 ] وقوله : { جهد أيمانهم } أي بإغلاظ الأيمان نصب على الحال أي يجتهدون جهد أيمانهم أو على المصدر من غير لفظه . { حبطت أعمالهم } من قول الله تعالى أو من جملة قول المؤمنين أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها رياء . وفيه معنى التعجب أي ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم حيث بقي عليهم التعب في الدنيا والعذاب في العقبى { من يرتدّ منكم عن دينه } أي من يتولّ الكفار منكم فيرتد فليعلم أن الله تعالى يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه . وقال الحسن : علم الله تعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فأخبرهم أنه سبحانه سيأتي { بقوم يحبهم ويحبونه } فتكون الآية إخباراً عن الغيب وقد وقع فيكون معجزاً . روي في الكشاف أن أهل الردّة كانوا إحدى عشرة فرقة ، ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار الأسود العنسي وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي ، بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول .

وبنو حنيفة قوم مسليمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسليمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك . فأجاب صلى الله عليه وسلم : من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب . أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام . أراد في جاهليتي وإسلامي . وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسلو الله صلى الله عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه . وسبع في عهد أبي بكر : فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بني تميم قوم سجاج بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وحاربهم أبو بكر وكفى الله أمرهم على يديه . وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم كان يطوف بالبيت ذات يوم بعد أن كان أسلم على يد عمر فرأى رجلاً جارّاً رداءه فلطمه فتظلم الرجل إلى عمر فقضى بالقصاص عليه . فقال : أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلاّ القصاص فاستنظره فأنظره عمر فهرب إلى الروم وتنصر . وتفسير المحبة قد مر في سورة البقرة في قوله : { يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] وإنما قدم محبته على محبتهم لأن محبتهم إياه نتيجة محبته الأزلية إياهم فتلك أصل وهذه فرع . والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن للشرط محذوف معناه فسوق يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم { أذلة } جمع ذليل لأن ذلولاً من الذل نقيض الصعوبة لا يجمع على أذلة وإنما يجمع على ذلل . وليس المراد أنهم مهانون عند المؤمنين بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب ، فإن من كان ذليلاً عند إنسان فإنه لا يظهر الكبر والترفع ألبتة .

ولتضمين الذل معنى الحنو العطف عدّي بعلى دون اللام كأنه قيل : عاطفين عليهم . أو المراد أنهم مع شرفهم واستعلاء حالهم واستيلائهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ليضموا إلى منصبهم فضيلة التواضع { أعزة على الكافرين } يظهرون الغلظة والترفع عليهم من عزه يعزه إذا غلبه ونحو هذه الآية قوله : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] أما الواو في قوله : { ولا يخافون } فإما أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين حيث يخافون لومة أوليائهم اليهود ، وإما أن تكون للعطف كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... أي هم الجامعون بين المجاهدة لله وبين الصلابة في الدين إذا شرعوا في أمر من أمور الدين ، لا يرعبهم اعتراض معترض . وفي وحدة اللوم وتنكير اللائم مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام { ذلك } الذي ذكر من نعوت الكمال من المحبة والذلة وغيرها { فضل الله } إحسانه وتوفيقه . قالت الأشاعرة : إنه صريح في أن الأعمال مخلوقة لله تعالى . والمعتزلة حملوه على فعل الألطاف . وضعف بأن اللطف عام في حق الكل فلا بد للتخصيص من فائدة { والله واسع عليم } تام القدرة كامل العلم يعلم أهل الفضل فيؤتيهم الفضل .
واعلم أن للمفسرين خلافاً في أن القوم المذكورين في الآية من هم . قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج : هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة . وقال السدي : نزلت في الأنصار . وقال مجاهد : هم أهل اليمن لأنها لما نزلت أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال : هم قوم هذا . وقال آخرون : هم الفرس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه ثم قال : لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس . وقالت الشيعة : نزلت في علي رضي الله عنه وكرّم الله وجهه لما روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى علي يوم خيبر وكان قد قال : لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، ولأن ما بعد هذه الآية نازلة فيه باتفاق أكثر المفسرين قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر ، لو كانوا أنكروا نصاً جلياً على إمامة علي رضي الله عنه لكان كلهم مرتدين ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق . ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن فرقة الشيعة مقهورون أبداً حصل الجزم بعدم النص . ولناصر مذهب الشيعة أن يقول : ما يدريك أنه تعالى لا يجيء بقوم تحاربهم ، ولعل المراد بخروج المهدي هو ذلك فإن محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل وهذا إنما ذكرته بطريق المنع لا لأجل العصبية والميل فإن اعتقاد ارتداد الصحابة الكرام أمر فظيع والله أعلم .

ثم إنه سبحانه لما نهى في الآي المتقدمة عن موالاة الكفار أمر بعد ذلك بموالاة من يحق موالاته فقال : { إنما وليكم } ولم يقل أولياؤكم ليعلم أن ولاية الله أصل والباقي تبع { الله ورسوله والذين آمنوا } وفيه قولان : الأول أن المراد عامة المؤمنين لأنّ الآية نزلت على وفق ما مر من قصة عبادة من الصامت . وروي أيضاً أن عبد الله بن سلام قال : يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية . فقالوا : رضينا بالله تعالى وبرسوله وبالمؤمنين أولياء . ثم قال : { الذين يقيمون الصلاة } ومحله رفع على البدل أو على هم الذين يقيمون ، أو نصب بمعنى أخص أو أعني وفي الكل مدح والغرض تميز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان نفاقاً ومعنى { وهم راكعون } قال أبو مسلم : أي منقادون خاضعون لأوامر الله تعالى ونواهيه . وقيل : المراد ومن شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر لشرفه . وقيل : إنّ الصحابة كانوا عند نزول الآية مختلفين في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد الصلاة راكعاً فنزلت الآية على وفق أحوالهم . القول الثاني أن المراد شخص معين وجيء به على لفظ الجمع ليرغب الناس في مثل فعله . ثم إن ذلك الشخص من هو؟ روى عكرمة أنه أبو بكر وروى عطاء عن ابن عباس أنه علي عليه السلام . روي أن عبد الله بن سلام قال : لما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله أنا رأيت علياً تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه . وروي عن أبي ذر أنه قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء . وقال : اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئاً وعليّ عليه السلام كان راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « اللهم إن أخي موسى سألك فقال : { رب اشرح لي صدري } إلى قوله : { وأشركه في أمري } [ طه : 25 ، 32 ] فأنزلت قرآناً ناطقاً { سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً } [ القصص : 35 ] اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به أزري » قال أبو ذر : فوالله ما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال : يا محمد اقرأ { إنما وليكم الله } الآية . فاستدلت الشيعة بها على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب عليه السلام لأن الولي هو الوالي المتصرف في أمور الأمة ، وأنه علي عليه السلام برواية أبي ذر وغيره .

وأجيب بالمنع من أن الولي ههنا هو المتصرف بل المراد به الناصر والمحب لأن الولاية المنهي عنها فيما قبل هذه الآية ، وفيما بعدها هي بهذا المعنى فكذا الولاية المأمور بها . وأيضاً إن علياً لم يكن نافذ التصرف حال نزول الآية وإنها تقتضي ظاهراً أن تكون الولاية حاصلة في الحال . وأيضاً إطلاق لفظ الجمع على الواحد لأجل التعظيم مجاز والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فالمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وأن بعضهم يجب أن يكون ناصراً لبعض كقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة : 71 ] وأيضاً الآية المتقدمة نزلت في أبي بكر كما مر من أنه هو الذي حارب المرتدين فالمناسب أن تكون هذه أيضاً فيه . ثم إن علي بن أبي طالب عليه السلام كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الإمامية فلو كانت الآية دالة على إمامة عليّ لاحتج بها كما احتج بما ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع مناقبه وفضائله . وهب أنها دالة على إمامته لكنه ما كان نافذ التصرف في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا أنه سيصير إماماً ونحن نقول بموجبه ولكنه بعد الشيوخ الثلاثة . ومن أين قلتم إنها تدل على إمامته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير فصل؟ وأيضاً إنهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله فلا حاجة بهم إلى ذكر ذلك . فالمراد بقوله : { إنما وليكم الله ورسوله } أن من كان الله ورسوله ناصرين له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة عن غيره ، وإذا كان الولي مستعملاً بمعنى النصرة مرة امتنع أن يراد به معنى المتصرف لأنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه معاً فكأنه تعالى قسم المؤمنين قسمين وجعل أحدهما أنصاراً للآخر . وأيضاً الزكاة اسم للواجب لا للمندوب ، ومن المشهور أن علياً عليه السلام ما كان يجب عليه الزكاة ، ولو سلم فاللائق بحاله أن يكون في الصلاة مستغرق القلب بالله فلا يتفرغ لاستماع كلام السائل ولا إلى دفع الخاتم إليه لأنه عمل كثير ، اللهم إلا أن يكون الخاتم سهل المأخذ أو كان قد أومأ به إلى السائل فأخذه السائل . والحق أنه إن صحت الرواية فللآية دلالة قوية على عظم شأن علي عليه السلام ، والمناقشة في أمثال ذلك تطويل بلا طائل إلا أن أصحاب المذاهب لما تكلموا فيها أوردنا حاصل كلامهم على سبيل الاختصار { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله } من إقامة المظهر مقام المضمر تشريفاً . والمراد فغنهم هم الغالبون . حزب الرجل أصحابه المجتمعون لأمر حزبهم .

وقال الحسن : جند الله . أبو روق : أولياء الله . أبو العالية : شيعة الله . وقيل : أنصار الله . الأخفش : هم الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم . صاحب الكشاف : يحتمل أن يراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب . ثم عمم النهي عن موالاة جميع الكفار فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا } عن ابن عباس : كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت ، يعني أن اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً ينافي اتخاذكم إياهم أولياء بل يجب أن يقابل ذلك بالشنآن والبغضاء . وإنما عطف الكفار على أهل الكتاب مع أن أهل الكتاب أيضاً كفار والعطف يقتضي المغايرة ، لأنه أراد بالكفار المشركين الوثنيين خاصة لما أن كفرهم أغلظ فكانوا أحق باسم الكفر . ومعنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم به إظهارهم ذلك باللسان دون مواطأة الجنان . { واتقوا الله } في موالاة الكفار { إن كنتم مؤمنين } حقاً لأن الإيمان الحقيقي يأبى موالاة أعداء الدين . قال الكلبي : كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا ركعوا لا ركعوا على طريق الاستهزاء والضحك فنزل { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها } أي الصلاة والمناداة . وهذا بعض ما اتخذوه من هذا الدين هزواًَ ولعباً ، فلهذا أردفه بالآية المقدمة الكلية . وقال السدي : نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله . قال : حرق الكاذب . فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله . وقال آخرون : إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية . فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك ، ولو كان في هذا الأمر خير كان أولى الناس به الأنبياء والرسل قبلك ، فمن أين لك صياح كصياح العنز؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر . فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنزل : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } قال بعض العلماء : فيه دليل على ثبوت الآذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده . وأقول : لو قيل إن أصل الأذان بالمنام والتفرير بنص الكتاب كان اصوب ذلك الاتخاذ . { بأنهم قوم لا يعقلون } ما في الصلاة من المنافع لأنها التوجه إلى الخالق والاشتغال بخدمة المعبود ، أو لا يفهمون ما في اللعب والهزء من السفه والجهل . قال بعض الحكماء : أشرف الحركات الصلاة وأنفع السكنات الصيام .
التأويل : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } أي بالحقيقة لأنه أنزل على قلبه وأنزل سائر الكتب في الألواح والصحف فلهذا كان خلقه القرآن .

وكان مهيمناً على جميع الكتب تصديقاً عيانياً لا بيانياً بحيث يشاهد قلب المنزل عليه بنوره حقائق جميع الكتب وأسرارها بخلاف ما أنزل في الألواح فإن الألواح لا تشهد ولا تشاهد حقائق الكتب ومعانيها { لكل جعلنا منكم } معاشر الأنبياء { شرعة } يشرع فيها بالبيان { ومنهاجاً } يسلك فيه بالعيان { ولكن ليبلوكم } أيها الأمم { فيما آتاكم } من البيات والتبيان والحجج والبرهان والعزة والسلطان ، فابتلاكم بزينة الدنيا واتباع الهوى ونيل المنى والرفعة بين الورى والنجاة في العقبى ليهتدي التائبون بالبيان ، ويستفيد العاملون بالبرهان ، ويحكم العارفون بالسلطان بل يقصد الزاهدون برفض الدنيا ويقدم العابدون بنهي الهوى ، ويسلك المشتاقون بنفي المنى ، ويجذب العارفون بترك الورى ، ويسلب الواصلون بالسلو عن الدنيا والعقبى { فاستبقوا الخيرات } من هذه المقامات { إلى الله مرجعكم جميعاً } اختياراً بقدم الصدق أو اضطراراً بحلول الأجل { فإن تولوا } عن قبول الحق { فاعلم } بمطالعة القضاء { أنما يريد الله } في حكم القدر { أن يصيبهم } مصيبة الإعراض { ببعض ذنوبهم } وهو الاعتراض ، فإن الحق سبحانه يلزم بشرط التكاليف ويقدمهم ويؤخرهم بعين التصريف . فالتكليف فيما أوجب والتصريف فيما أوجدوا العبرة بالإيجاد لا بالإيجاب { لفاسقون } لخارجون عن جذبات العناية { أفحكم الجاهلية يبغون } أيطلبون منك أن تحيد عن المحجة المثلى بعد ما طلعت شموس الدنيا وسطعت براهين اليقين وانهتكت أستار الريب واستنار القلب بأنوار الغيب { يسارعون فيهم } لأن شبيه الشيء منجذب إليه { أن يأتي بالفتح } فتح عيون القلوب { أو أمر من عنده } وهو الجذبة التي توازي عمل الثقلين { ويقول الذين آمنوا } بأنوار الغيوب في أستار القلوب { فأصبحوا خاسرين } بإبطال الاستعداد الفطري . { بقوم يحبهم ويحبونه } هم أرباب السلوك أفناهم عنهم بسطوات يحبهم ثم أبقاهم به عند هبوب نفحات يحبونه ، فإن محبة الله للعبد إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية ، ومحبة العبد بصفته ذاته أزلاً وهي الإرادة القديمة الناسوتية . والشيخ نجم الدين الرازي المعروف بداية رضي الله عنه قد عكس القضية ، فلعله فهم غير ما فهمنا . ثم قال إنه تعالى يحب العبد بصفته ذاته أزلاً وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالغاية ، والعبد يحب الله بذات تلك الصفة أبداً { أذلة على المؤمنين } لارتفاع الأنانية { أعزه على الكافرين } ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية { يجاهدون في سبيل الله } في طلب الحق في البداية ببذل الوجود { ولا يخافون لومة لائم } عند غلبات الوجد في الوسط لدوام الشهود ذلك يعني صدق الطلب في البداية وغلبات الوجد في الوسط والاختصاص بالمحبة في النهاية { والله واسع } كرمه قادر على أن يتفضل على كل أحد لكنه { عليم } بحال كل أحد فلا يتفضل إلا على من يستأهله . { يقيمون الصلاة } يديمونها مراقبين حقوقها في الباطن بمراعاة السر { ويؤتون الزكاة } ما زكى من وجودهم وهو الفناء في الله { وهم راكعون } راجعون إلى الله بانحطاط . فمن قيام البشرية إلى قيام القيومية هم الغالبون على أهوائهم وأنفسهم والدنيا والشيطان { الذين اتخذوا دينكم } يعني أهل الغفلة والسلو المستهزئين بأهل المحبة والقرب { من الذين أوتوا الكتاب } أي العلوم الظاهرة والكفار يعني الفلاسفة ومقلديهم لأنهم بمعزل عن العلوم اللدنية والكشفية { وإذا ناديتم إلى الصلاة } دعوتموهم إلى محل القرب والنجوى ولا يعقلون بالوهم والخيال لذاذة شهود ذلك الجمال .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

القراآت : { هل تنقمون } وبابه مدغماً : حمزة وعلي وهشام { وعبد الطاعون } بضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت : حمزة . الباقون بنصب الطاغوت على أن . { عبد } فعل ماض عطفاً على صلة من كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت . { مبصوطتان } بالصاد مثل { وزاده بصطة } [ البقرة : 247 ] وقد مر في البقرة { رسالته } أبو عمرو وابن كثير وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون { رسالاته } .
الوقوف : { من قبل } لا لعطف { وأن أكثركم } على { أن آمنا } . { فاسقون } ه { عند الله } ط لتناهي الاستفهام والتقدير هو { من لعنه الله } ط ومن جعل محله جراً على البدل من { شر } لم يقف . { الطاغوت } ط { السبيل } ط { خرجوا به } ط { يكتمون } ه { السحت } ط { يعملون } ه { السحت } ط { يصنعون } ه { مغلولة } ط وقيل : لا وقف ليتصل قوله : { غلت } وهو جزاء قولهم { يد الله مغلولة } . { بما قالوا } م لئلا يوهم أن قوله : { بل يداه مبسوطتان } مفعول { قالوا } . { مبسوطتان } ط لأن قوله : { ينفق } من مقصود الكلام فلا يستأنف . { كيف يشاء } ط { وكفراً } ط { يوم القيامة } ط { أطفأها الله } لا قال السجاوندي : لأن الواو للحال أي وهم يسعون وفيه نظر { فساداً } ط { المفسدين } ه { النعيم } ه { أرجلهم } ط { مقتصدة } ط { يعملون } ه { من ربك } ط { رسالته } ط { من الناس } ط { الكافرين } ه { من ربكم } ط { وكفراً } ج لاختلاف النظم مع فاء التعقيب . { الكافرين } ه { يحزنون } ه .
التفسير : لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزواً ولعباً قال لهم : ما الذي تنقمون من أهل هذا الدين . نقمت على الجل أنقم بالكسر ، إذا عتبت عليه ، ونقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضاً إذا كرهته وأنكرته . وسمى العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل . والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلاّ الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وليس هذا مما يوجب عتباً وعيباً لأن الإيمان بالله رأس جميع الطاعات ، وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء عليهم السلام فهو الحق الذي لا محيد هنه لأن الطريق إلى تصديق الأنبياء هو المعجز وأنه حاصل في الكل فلا وجه للإيمان ببعض والكفر ببعض . ثم عطف عليه : { وأن أكثركم فاسقون } والمراد ما تنقمون منا إلاّ الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم كأنه قيل : ما تنكرون منا إلاّ مخالفتكم فآمنا وما فسقنا مثلكم . وفيه من حسن الازدواج والطباق ما فيه كقول القائل : هل تنقم مني إلاّ أني عفيف وأنك فاجر . ويجوز أن يعطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلاّ الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم خارجون عن الدين ، ويجوز أن تكون الواو بمعنى « مع » أي ما تنكرون منا إلاّ الإيمان مع فسقكم لأن أحد الخصمين إذا كان مكتسباً للصفات الحميدة مع اتصاف الآخر بالصفات الذميمة كان ذلك أشد تأثيراً في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم .

ويحتمل أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف أي ما تنقمون منا إلاّ الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل فسقكم ، ومن هنا قال الحسن في تفسيره : بفسقكم نقمتم ذلك علينا . ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف يدل عليه ما قبله أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون ، أو يرتفع بالابتداء والخبر محذوف أي وفسقكم ثابت محقق عندكم إلا أن حب الجاه والمال يدعوكم إلى عدم الإنصاف . وانما خص الأكثر بالفسق مع أن اليهود كلهم فساق تعريضاً بأحبارهم ورؤسائهم الطالبين للرياسة والمال والتقرب إلى الملوك . والمراد أن أكثرهم في دينهم فساق لا عدول ، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه أو ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك . قال ابن عباس : أتى نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : أؤمن بالله { وما أنزلنا إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل } [ البقرة : 136 ] إلى قوله { ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً شراً من دينكم ، فأنزل الله تعالى : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك } يعني المتقدم وهو الإيمان ولا بدّ من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله و { مثوبة } نصب على التمييز من { شر } وهي من المصادر التي جاءت على « مفعول » كالميسور والمجلود ومثلها المشورة ، وقرىء مثوبة كما يقال مشورة والمثوبة ضدّ العقوبة . واستعمال أحد الضدّين مكان الآخر مجاز رخصه إرادة التهكم مثل : { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وقد أخرج الكلام ههنا على حسب قولهم واعتقادهم وإلاّ فلا شركة بين المسلمين وبين اليهود في أصل العقوبة حتى يقال إن عقوبة أحد الفريقين شر ، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شر فقيل لهم : هب أن الأمر كذلك ولكن لعن الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك . قال المفسرون : عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام . ويروى أن كلا المسخين كان في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير ، ولهذا كان المسلمون يعيرون اليهود بعد نزول الآية ويقولون : يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم . أما قوله : { وعبد الطاغوت } فقد ذكر في الكشاف فيه أنواعاً من القراءة لا مزيد فائدة في تعدادها لشذوذها إلاّ قراءة حمزة ، والوجه فيه أن العبد بمعنى العبد إلاّ أنه بناء مبالغة كقولهم : رجل حذر وفطن البليغ في الحذر والفطنة . قال الشاعر :
أبني لبيني إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد
أبني لبيني لستم بيدٍ ... إلاّ يداً ليست لها عضد

وقيل : هما لغتان مثل سبع وسبع . وقيل : إن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر إلا أنهم استثقلوا الضمتين فأبدلت الأولى فتحة . وقيل : أرادوا أعبد الطاغوت مثل : فلس وأفلس إلا أنه حذف الألف وضم الباء لئلا يشبه الفعل . والطاغوت ههنا قيل : هو العجل . وقيل : هو الأحبار . والظاهر أنه كل ما عبد من دون الله ، وكل من أطاع أحداً في معصية فقد عبده . احتجت الأشاعرة بالآية على أن الكفر بجعل الله تعالى . وقالت المعتزلة : معنى هذا الجعل أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } [ الزخرف : 19 ] أو أنه خذلهم حتى عبدوها { أولئك } المعلونون الممسوخون { شر مكاناً } من المؤمنين . قال ابن عباس : إن مكانهم سقر ولا مكان شر منه . وقال علماء البيان : هو من باب الكناية لأنه ذكر المكان وأريد أهله الذي هو ملزوم المكان . { وأضل عن سواء السبيل } قصده ووسطه . كان ناس من اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقاً فأخبره الله بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا لم يؤثر فيهم شيء من النصيحة والموعظة قط . وقوله : { بالكفر } وبه حالان أي ملتبسين بالكفر ، وكذلك قوله : { وقد دخلوا } { وهم قد خرجوا } ولذلك دخلت « قد » تقريباً للماضي من الحال ، وليفيد التوقع أيضاً . وذلك أن أمارات النفاق كانت لائحة على صفحات أحوالهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار الله أسرارهم . والعامل في هذه الحال قالوا : وفي الأولى : { دخلوا } و { خرجوا } أي قالوا آمنا وحالهم أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين . وإنما ذكر عند الخروج كلمة « هم » لتأكيد إضافة الكفر إليهم . ونفى أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم ما يوجب كفراً فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر ، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم . وههنا استدل المعتزلي على صحة مذهبه أن الكفر من العبد لا من الله ولكنه معارض بالعلم والداعي . { والله أعلم بما يكتمون } فيه أن حسدهم وخبثهم لا يحيط به إلا الله فما أعظم ذلك وأبلغ . الإثم الكذب كقوله بعد : { عن قولهم الإثم } والعدوان الظلم وقيل : الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم . وقيل : الإثم كلمة الشرك قولهم عزير ابن الله . وفي الآية فوائد منها : ذكر كثير لأن كلهم كان لا يفعل ذلك إذ بعضهم يستحيي فيترك . ومنها أن المسارعة إنما تليق بالخيرات وإنهم كانوا يستعملونها في المنكرات . ومنها أن الإثم يتناول جميع المعاصي فذكر بعده العدوان وأكل السحت ليدل على أنهما أعظم أنواع الإثم والكلام في معنى السحت . وفي تفسير الربانيين والأحبار قد مر في السورة عن قريب .

وقال الحسن : الربانيون علماء الإنجيل ، والأحبار علماء التوراة . وإنما قال ههنا : { لبئس ما كانوا يصنعون } وفي الأول { يعملون } لأن الصنع أرسخ من العمل فلا يسمى العامل صانعاً ولا العمل صناعة إلا إذا تمكن فيه وتدرب وينسب إليه فكان ذنب العلماء إذا تركوا النهي عن المنكر أشد وأعظم وأثبت وأرسخ . وتحقيقه أن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وصفاته وأحكامه ، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة كالمرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال . وعن ابن عباس : هي أشد آية في القرآن . وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها { وقالت اليهود يد الله مغلولة } قيل : في هذه الآية إشكال لأن اليهود مطبقون على أنا لا نقول ذلك ، كيف وبطلانه معلوم بالضرورة لأن الله اسم لموجود قديم قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه ، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته قاصرة . والجواب أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه فلا بد من تصحيح هذا النقل عنهم ، فلعل القوم قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } قالوا من احتاج إلى القرض كان فقيراً عاجزاً مغلول اليدين ، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الفقر والضر قالوا : إن إله محمد كذلك . وقال الحسن : أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب . وقيل : لعلهم كانوا على مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالى موجب لذاته ، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره على غير ذلك النسق بغل اليد . وقال المفسرون : كان اليهود أكثر الناس مالاً وثروة ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا : يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة النعت بالبخل ، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ . وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } [ الإسراء : 29 ] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه ، فأطلقوا اسم السبب على المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد سبط البنان رطب الأنامل ، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل ، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع : ما أبسط يده بالنوال . وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد :

قد أصبحت بيد الشمال زمامها ... فجازاهم الله تعالى بقوله : { غلت أيديهم } وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كاوا أبخل خلق الله وأنكدهم ، دعا به عليهم تعليماً لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله : { لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } [ الفتح : 29 ] وكما عملهم الدعاء على المنافقين في قوله : { فزادهم الله مرضاً } [ البقرة : 10 ] وعلى أبي لهب في قوله : { تبت يدا أبي لهب } [ المسد : 1 ] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة إو إخباراً . قال الحسن : يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز . وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله : { غلت أيديهم } كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره . { ولعنوا بما قالوا } قال الحسن : عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار . ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقى الناس كان قد سمع بهذه الآية ، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوباً بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين ، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال : أين هذه الآية يعني قوله : { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } فأروه إياها فمحاها ، فلم يمض أسبوع إلاّ وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله . ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله : { بل يداه مبسوطتان } واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة - وهو ظاهر - وعلى النعمة . يقال : لفلان عندي يد أشكرها له . وعلى القوة مثل : { أولي الأيدي والأبصار } [ ص : 45 ] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا . والمعنى سلب كمال القدرة . وعلى الملك تقول : هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى : { بيده عقدة النكاح } [ البقرة : 237 ] وقد يراد به شدة العناية قال : { لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] ويقال : يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئاً . ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافاً للمجسمة ، وأما سائر المعاني فلا بأس بها . وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله . وقد جاء في بعض اقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله : { لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة : { يد الله فوق أيديهم } [ الفتح : 10 ] وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية ، وبإثبات الأيدي أخرى : { مما عملت أيدينا أنعاماً } [ يس : 71 ] ووجه التوحيد والجمع ظاهر . وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله ، أو المراد نعمة الدين نعمة الدنيا ، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن ، أو نعمة النفع ونعمة الدفع ، أو نعمته على أهل اليمين ونعمته على أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء ، أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو : لبيك وسعديك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وإسعاداً بعد إسعاد .

ثم أكد الوصف بالقدرة والسخاء فقال : { ينفق كيف يشاء } وفيه أنه لا ينفق إلاّ على مقتضى الحكمة وقانون العدالة وعلى حسب المشيئة والإرادة ، لا مانع له ولا مكره فمن أوجب عليه شيئاً أو اعترض على فعل من أفعاله فقد نازعه في ملكه وحجر تصرفه وقيد وغل ونسبه إلى ما لا يليق به . { وليزيدن } جواب قسم محذوف { كثيراً منهم } يعني علماء اليهود { ما أنزل إليك من ربك } من القرآن والحجج { طغياناً وكفراً } مجاوزة ي الحد وغلواً في الإنكار لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرهاً { وألقينا بينهم } بين اليهود والنصارى - قاله مجاهد والحسن - أو فيما بين اليهود { العداوة والبغضاء } لا تأتلف كلمتهم ولا تتساعد أفئدتهم ، فمن اليهود جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، ومن النصارى ملكانية ونسطورية ، وكل ذلك الاختلاف يوجب السخط واللعن بخلاف هذه الأمة فإن اختلافهم رحمة ولتفرق أهوائهم وتشعب آرائهم { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } فلا يهمون بأمر من الأمور إلاّ وقد رجعوا بخفي حنين . وقيل : كلما حاربوا رسول الله غلبوا . وعن قتادة : لا تلقى اليهود بلدة إلاّ وجدتهم أذل الناس { ويسعون في الأرض فساداً } يستخفون كيداً للإسلام وذويه { والله لا يحب المفسدين } فلا ينجح لهم كيد ولا ينتج لهم سعي . وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين إلى يوم القيامة . ثم لما بالغ في تهجين سيرتهم ذكر أنهم مع ما عدّد من مساويهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به واتقوا المنكرات التي كانوا يأتونها لتكون توبتهم نصوحاً { لكفرنا عنهم } تلك السيآت سترناها عليهم { ولأدخلناهم } مع المسلمين { جنات النعيم } من النعم خلاف البؤس أي نعيم صاحبها فام أوسع رحمة الله تعالى وما أعظم عفوه وغفرانه { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } عملوا بما فيهما من الوفاء بعهود الله تعالى ومن الإقرار بنبوّة نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم ، أو حافظوا على أحكامهما وحدودهما ، أو أقاموهما نصب أعينهم لئلا ينسوا ما فيهما من التكاليف . { وما أنزل إليهم من ربهم } يعني القرآن أو سائر الكتب الإلهية كصحف إبراهيم وزبور داود وكتاب شعيا وحيقوق ودانيال فإن كلها مشحونة من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها .

{ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } أي ينزل عليهم بركات السماء وبركات الأرض ، أو يكثر لهم الأشجار المثمرة والزروع المغلة ، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تناثر على وجه الأرض . ويحتمل أن يراد به المبالغة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقاً أو تحتاً أي لأكلوا أكلاً كثيراً متصلاً ، ويشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم . والحاصل أنه سبحانه وعدهم سعادة الدارين بشرط الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقدم السعادة الأخروية بقسميها وهما دفع العذاب وإيصال الثواب لشرفها . ثم فصل حالهم فقال : { منهم أمة مقتصدة } طائفة متوسطة في الغلو والتقصير ، وذلك أن من عرف مقصوده فإنه يكون قاصداً له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب بخلاف من لا مقصد له فإنه يذهب متحيراً يميناً وشمالاَ ، فجعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ومن هم فيه قولان : أحدهما الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولاً في دينهم ولا يوجد فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة ، والثاني هم المئمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى . { وكثير منهم ساء ما يعملون } فيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أسوأ عملهم لكونهم أجلافاً متعصبين لا ينجع فيهم القول ولا يؤثر فيهم الدليل قيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم .
ثم أمر رسوله بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة المعاندين ولا يتخوف مكروههم فقال : { يا أيها الرسول بلغ } عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجه يوم غدير خم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه . اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » فلقيه عمر وقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة . وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي . وروي أنه صلى الله عليه وسلم نام في بعض أسفاره تحت شجرة وعلق سيفه عليه افأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال : يا محمد ، من يمنعك مني؟ فقال : الله . فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ونزل : { والله يعصمك من الناس } وقيل : لما نزلت آية التخيير : { يا أيها النبي قل لأزواجك } [ الأحزاب : 28 ] فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا نزلت { يا أيها الرسول بلغ } وقيل : نزلت في أمر زيد وزينت بنت جحش . وقيل : لما نزل { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله }

[ الأنعام : 108 ] سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عيب آلهتهم فنزلت . أي بلغ معايب آلهتهم ولا تخفها . وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم لما بين الشرائع والمناسك في حجة الوداع . قال : هل بلغت؟ قالوا : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشهد » فنزلت وقيل : نزلت في قصة الرجم والقصاص المذكورتين . وقال الحسن : إن نبي الله قال : « لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً وعرفت أن من الناس من يكذبني واليهود والنصارى وقريش يخوفونني فنزلت الآية فزال الخوف » وقالت عائشة « سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقلت : يا رسول الله ما شأنك؟ قال : ألا رجل صالح يحرسني الليلة . قالت : فبينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال : من هذا؟ قال سعد وحذيفة : جئنا نحرسك . فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه فنزلت هذه الآية ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم فقال : انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله » وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية . فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسونه فقال : يا عماه إن الله تعالى قد عصمني من الجن والإنس . ومعنى قوله : { ما أنزل إليك } جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك { وإن لم تفعل } ما أمرتك به كما أمرتك به { فما بلغت رسالته } من قرأ على الوحدة فلأنّ القرآن كله رسالة واحدة ، أو لأن الرسالة اسم المصدر فيقع على الواحد وعلى الجمع . ومن جمع فلأن كل آية أو حكم رسالة . فإن قيل : معنى قوله : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } إن لم تبلغ رسالته فما بلغت منها أدنى شيء فأنت صحته؟ فالجواب أن هذا جار على طريق التهديد والمراد إن لم تبلغ منها أدنى شيء فأنت كمن لم يبلغ شيئاً لأن أداء بعضها ليس أولى من أداء البعض الآخر كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كما لم يؤمن بكلها . أو المراد إن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « بعثني الله برسالاته وضقت بها ذرعاً فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت » فإن قيل : اين ضمان العصمة وقد جرى عليه يوم أحد ما جرى؟ فالجواب أن الآية نزلت بعد يوم أحد . أو المراد أنه يعصمه من القتل وعليه أن يحتمل كل ما دون النفس والناس الكفار لقوله : { إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين } أي لا يمكنهم مما يريدون .

ثم لما أمره بتبليغ أي شيء كان طاب للسامع أو ثقل عليه أمره أن يقول لأهل الكتاب : { لستم على شيء } أي على دين يعتد به كما تقول : هذا ليس بشيء تريد تحقير شأنه ، وباقي الآية مكرر للتأكيد . ومعنى { فلا تأس } لا تاسف ولاتحزن عليهم بسبب زيادة طغيانهم فإن وبال ذلك عائد عليهم ، أو لا تأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك . يقال : آسى على مصيبته يأسى أسى أي حزن . ثم لما بين أن أهل التكاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيَّن أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد منقبة ولا سعادة إلاّ إذا آمن وعمل صالحاً ، وذلك أن كمال القوة النظرية لا يحصل إلاّ بمعرفة المبدأ والمعاد - أعني الإيمان بالله واليوم الآخر - وكمال القوة العملية إنما يحصل بتعظيم المعبود والشفقة على المخلوق - أعني العمل الصالح - وغاية هذا الكمال الخلاص من الخوف مما يستقبل ومن الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراً أعظم وأشرف . وقد تقدم تفسير الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراَ أعظم وأشرف . وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة إلاّ أنه بقي ههنا بحث لفظيّ وهو أن قوله : { والصابئون } عطف على ماذا؟ فقال الكوفيون : إنه معطوف على محل { الذين } لأن اسم « إن » إذا كان مبنياً جاز العطف على محله ، وإن كان قبل ذكر الخبر فيجوز : إنك وزيد ذاهبان . وإن لم يجز إن زيداً وعمرو قائمان . وذهب البصريون إلى عدم جواز ذلك مطلقاً لأنه يؤدي إلى إعمال « إنّ » وإعمال معنى الابتداء معاً في « قائمان » فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان وإنه محال . فإذن { الصابئون } مرفوع بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارة حكمهم كذا والصابئون كذلك ، فتكون هذه جملة معطوفة على جملة قوله : { إن الذين آمنوا } إلى آخره ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها ، وفائدة هذا التقديم التنبيه علىأن التوبة مقبولة ألبتة ، وذلك أن الصابئين بين هؤلاء المعدودين ضلال لأنهم صبؤا عن الأديان كلها أي خرجوا فكأنه قال : كل هؤلاء الفرق إذا أتوا بالإيمان والعمل الصالح قبلت توبتهم حتى الصابئون ولو قيل : والصابئين لم يكن من التقديم في شيء لأنه ثابت في مركزه الأصلي وإنما تطلب فائدة التقديم للمزال عن موضعه والراجع إلى اسم « إن » محذوف والتقدير من آمن منهم كما في البقرة والله أعلم .
التأويل : شر الفريقين من جعله الله مستعداً لقبول فيض القهر من اللعن والغضب ، وجعل صفة الفردية والخنزيرية أعني الحيلة والحرص والشهوة من بعض خصائصهم .

{ أولئك شر مكاناً } من القردة والخنازير لأن القردة والخنازير لا استعداد لهم وهؤلاء قد أبطلوا استعدادهم الفطري ومثله : { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] ولهذا دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به . الربانيون مشايخ الطريقة والأحبار علماء الشريعة . { غلت أيديهم } كانت أيديهم من إصابة الخير مغلولة ومشامهم عن تنسم روائح الصدق مزكومة فلهذا قالوا : { يد الله مغلولة } وكل إناء يرشح بما فيه . ولكن الذي أدركته العناية الأزلية وسلبت عنه صفات الظلومية والجهولية صلى الله عليه وسلم قال : « يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء » بيدي اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإحسان ، وعلى الكافرين من العواية والخذلان . { وألقينا بينهم العداوة } فلا يوجد أحد إلاّ وبينه وبين صاحبه بغض إلى أن يتوارثوا بطناً بعد بطن . ولو أن أهل العلوم الظاهرة آمنوا بالعلوم الباطنة واتقوا الإنكار والاعتراض ، ولو أنهم عملوا بمتفقات الكتب المنزلة ومستحسناتها { لأكلوا من فوقهم } ورزقوا من الواردات الروحانية { ومن تحت أرجلهم } إلى أعلى مقاماتهم . من العلماء الظاهريين أمة مقتصدة إن لم تكن سابقة بالخيرات ، والمقتصد هو العالم المتقي والمريد الصادق دون السابق وهو الواصل الكامل العالم الرباني { بلغ ما أنزل إليك } يندرج تحته الوحي والإلهامات والمنامات والوقائع والواردات والمشاهدات والكشوف والأنوار والأسرار والأخلاق والمواهب والحقائق ومعاني النبوّة والرسالة . فالرسول إن لم يبلغ بعض هذه الحقائق إلى العباد لم يمكنهم الوصول إلى الله فلا يحصل مقصود ما أرسل به فلم يبلغ رسالته إلاّ أن للتبليغ مراتب كما أنزل إليه . فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالتأديب وتبليغ بالتزكية وتبليغ بالتحلية وتبليغ بالهمة وتبليغ بجذبات الولاية وتبيليغ بقوة النبوة والرسالة وتبليغ بالشفاعة . وللخلق أيضاً مراتب في قبول الدعوة بحسب الاستعدادات المختلفة { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } [ الرعد : 17 ] { والله يعصمك } بأوصاف لاهوتيته عن أوصاف ناسوتيتك لتتصرف في الخلق بقوة اللاهوتية فتوصلهم إلى الله ولا يتصرفون فيك فيقطعوك عن الله . يا أرباب العلوم الظاهرة لستم على شيء من حقيقة الدين حتى تزينوا ظاهركم وباطنكم بالأعمال والأحوال الواردة في الكتب الإلهية وذلك بمقدمتين وأربع نتائج . فالمقدمتان : الجذبة الإلهية ونتيجتها الإعراض عن الدنيا والتوجه إلى المولى ، ثم تربية الشيخ ونتيجتها تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتحلية القلب بالأخلاق الفاضلة والله حسبي ونعم الوكيل .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

القراآت : { أن لا تكون } بالرفع : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف غير سهل وحفص وأبي بكر وحماد . الباقون بالنصب .
الوقوف : { رسلاً } ط { أنفسهم } لا لأن عامل { كلما } قوله { كذبوا } { يقتلون } ه { كثير منهم } ط { بما يعملون } ه { ابن مريم } ط { وربكم } ط { النار } ط { من أنصار } ه { ثلاثة } لا لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار { واحد } ط { أليم } ه { ويستغفرونه } ط والوصل أيضاً حسن بناء على أن الواو للحال أي هلا يستغفرونه وهو غفور { رحيم } ه { رسول } ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف { الرسل } ط لأن الواو للاستنئاف لا للعطل { صدّيقة } ط لأن ما بعده لا يصلح للصفة لأن الضمير في { كانا } مثنى { الطعام } ط { يؤفكون } ه { ولا نفعاً } ط والوصل يحسن على أن الواو للحال أي يعبدون ما لا ينفع ولا يضر والحال أن الله يسمع دعاء المضطر ويعلم رجاء المعتر { العليم } ه { السبيل } ه { ابن مريم } ط { يعتدون } ه { فعلوه } ط { يفعلون } ه { كفروا } ط { خالدون } ه { فاسقون } ه { أشركوا } ج لطول الكلام والفصل بين الوصفين المتضادين { نصارى } ط { لا يستكبرون } ه { من الحق } ج لاحتمال ما يتلوه الحال والاستئناف { الشاهدين } 5 { من الحق } لا لأن الواو بعده للحال . { الصالحين } ه { خالدين فيها } ط { المحسنين } ه { الجحيم } ه .
التفسير : افتتح الله تعالى السورة بقوله { أوفوا بالعقود } وانجر الكلام إلى ما انجرّ والآن عاد إلى ما بدأ به والمقصود بيان عتوّ بني إسرائيل وشدة تمردهم أي أخذنا ميثاقهم بخلق الدلائل وخلق العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال { وأرسلنا إليهم رسلاً } لتعريف الشرائع والأحكام . قال في الكشاف { كلما جاءهم رسول } الخ جملة شرطية وقعت صفة ل { رسلاً } والراجع إلى الموصوف محذوف أي رسول منهم . وأقول : الأصوب جعلها جملة مستأنفة جواباً لسائل يسأل كيف فعلوا برسلهم؟ ولهذا كان الوقف على { رسلاً } مطلقاً ، أما جواب الشرط فاختار في الكشاف أنه محذوف لأن الرسول الواحد لا بكون فريقين ولأنه لا يحسن أن يقال : إن أكرمت أخي أخاك أكرمت فالتقدير : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه أو عادوه وقوله { فريقاً كذبوا } جواب قائل : كيف فعلوا؟ وأقول أما أن التركيب المذكور غير مستحسن فعين النزاع ، وأما أن الرسول الواحد لا يكون فريقين فتغليط لأن قوله { كلما } يدل على كثرة مجيء الرسل فلهذا صح جعلهم فريقين ومعنى { بما لا تهوى أنفسهم } بما يضاد شهواتهم لرغبتهم عن التكاليف ، وفائدة تقديم المفعول وإيراد { يقتلون } مضارعاً ذكرناها في سورة البقرة وزعم في التفسير الكبير أنه ذكر التكذيب بلفظ الماضي لأنه إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام في ألبتة وتمردهم عن قبول قوله وقد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة ، وذكر القتل بلفظ المستقبل لأنه رمز إلى فعلوا بزكريا ويحيى وعيسى على زعمهم وإن ذلك الزمان قريب فكان كالحاضر .

{ وحسبوا أن لا تكون فتنة } قال علماء الأدب : الأفعال على ثلاثة أضرب : فعل يدل على ثبات الشيء كالعلم والتيقن فيقع بعده أن المشددة الدالة على ثبات الشيء أيضاً لتأكيد مقتضاه كقوله : { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } [ النور : 25 ] فإن خففت ودخلت على الفعل لم يجز إلا أن يكون مع فعله « قد » أو « سوف » أو « السين » أو حرف نفي ليكون كالعوض من إحدى النونين وقيل : من حذف ضمير الشأن مثل { علم أن سيكون } [ المزمل : 20 ] وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو « أطمع » و « أخاف » و « أرجو » فلا يجيء معه إلا الخفيفة الناصبة للفعل كقوله { والذي أطمع أن يغفر لي } [ الشعراء : 82 ] وفعل يحتمل المعنيين فيجوز فيه كلا الوجهين كقوله { وحسبوا أن لا تكون } قرىء بالنصب على أن المصدرية ، وكون الحسبان بمعنى الظن وبالرفع على أن المخففة أي أنه لا تكون فتنة فخففت أن وحذف ضمير الشأن ، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم ، وما يشتمل عليه صلة « أن » و « أنّ » من المسند والمسند إليه سد مسد المفعولين و « كان » تامة . والمعنى : وحسب بنو إسرائيل أنه لا تقع فتنة وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . وعذاب الدنيا أقسام منها : القحط ومنها الوباء ومنها القتل ومنها العداوة والبغضاء فيما بينهم ومنها الإدبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وقد فسرت الفتنة بكل ذلك ، وحسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين : الأول أنهم كانوا يعتقدون أن لا نسخ لشريعة موسى ، وأن كل رسول جاء بعده يجب تكذيبه ، والثاني أنهم اعتقدوا كونهم مخطئين في التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وأن نبوّة إسلافهم تدفع العقاب عنهم . ثم إن الآية تدل على أن عماهم عن الدين وصممهم عن الحق حصل مرتين ، فقال بعض المفسرين : إنهم عملوا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفقهم للإيمان به { ثم عمموا وصموا كثير منهم } في زمان محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا نبوّته إلا بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه . وقوله { كثير منهم } بدل عن الضمير كقولك : رأيت القوم أكثرهم ، وقيل : إنه على لغة من يقول « أكلوني البراغيث » وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم ، وقال بعضهم : { عموا وصموا } حين عبدوا العجل ثم تابوا منه فتاب الله عليهم { ثم عموا وصموا كثير منهم } بالتعنت وهو طلب رؤية الله جهرة . وقال القفال : إنه يجوز أن يكون إشارة إلى ما في سورة بني إسرائيل

{ وإذا جاء وعد أولاهما } [ الإسراء : 5 ] { فإذا جاء وعد الآخرة } [ الإسراء : 7 ] وقراء { فعمموا وصموا } بالضم أي رماهم الله وضربهم بالعمى والصمم كما يقال : ركبته إذا ضربته بالركبة . ثم إنه سبحانه لما استقصى الكلام مع اليهود شرع في حكاية كلام النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم { قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وهذا قول اليعقوبية القائلين إن مريم ولدت إلهاً ، ولعل مرادهم أنه تعالى حل في ذات عيسى أو اتحد به . ثم حكى عن المسيح ما حكى ليكون حجة قاطعة على فساد ما اعقتدوا فيه وذلك أنه لم يفرق بين نفسه وبين غيره في المربوبية وفي ظهور دلائل الحدوث عليه ، ثم أكد ذلك المعنى بقوله : { إنه من يشرك بالله } أي في العبادة أو في تجويز الحلول أو الاتحاد أو في إجراء وصفه في المخلوقين أو بالعكس { فقد حرم الله عليه الجنة } التي هي دار الموحدين أي منعه منها { وما للظالمين من أنصار } من كلام الله تعالى أو من حكاية قول عيسى عليه السلام لهم وقد مر تفسيره في آخر سورة آل عمران وفيه تقريع لهم لأنهم كانوا يعتقدون أن لهم أنصاراً كثيرة فيما ييقولون ويعتقدون فنفى الله تعالى أو عيسى ذلك وإن كانوا يريدون بذلك تعظيمه . قال المفسرون { ثالث ثلاثة } معناه ثالث آلهة ثلاثة ليلزم الكفر وإلا فما من شيئين وإلا والله ثالثهما . يحكى أن النصارى يقولون أب وابن وروح قدس والثلاثة إله واحد كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة . وعنوا بالأب الذات ، وبالابن الكلمة ، وبالروح الحياة ، قالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر ، وزعموا أن الأب إله واحد ، والابن إله واحد ، والروح إله واحد ، والكل إله واحد . واعلم أن هذا معلوم البطلان بالبديهة لأن الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة فلا جرم رد الله مقالتهم بقوله : { وما من إله إلا إله واحد } فزاد من الاستغراقية . والمعنى ما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك . ثم زجرهم بقوله { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا } قال الزجاج : يعني الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية ف « من » في قوله { منهم } للتبعيض ، ويجوز أن تكون للبيان والمراد ليمسنهم ، ولكن أقيم الظاهر مقام المضمر تكريراً للشهادة عليهم بالكفر ورمزاً إلى أنهم من الكفر بمكان حتى لو فسر الكفار المعذبون عنوا بذلك خاصة . ومعنى { عذاب أليم } نوع شديد الألم من العذاب { أفلا يتوبون } قال الفراء : إنه أمر بلفظ الاستفهام وفيه تعجيب من إصرارهم على الكفر بعد الوعيد الشديد .
ثم احتج على إبطال معتقدهم بقوله { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } وهذا ترتيب في غاية الحسن لأنه منعهم من الكفر أوّلاً ، ثم حثهم على الإسلام ثانياً ، ثم شرع في حل شبههم ثالثاً ، ومن هنا قيل : إن المرتد يستتاب بلا مهل ومناظرة إن عنت له شبهة بل يسلم أوّلاً ثم تحل شبهته ثانياً ، والمعنى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الماضين لا يتخطى الرسالة إلى الإلهية كما لم يتخطوا ، فإن خلق من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وإن أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى فقد جعل موسى العصا حية تسعى إلى غير ذلك من آيات ربه الكبرى { وأمه صديقة } كبعض النساء المؤمنات بالأنبياء الصادقات في أقوالهن وأفعالهن وأحوالهن قال تعالى في وصفها :

{ وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين } [ التحريم : 12 ] أي من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم المجتهدون في إقامة مراسم العبودية . ففيه تكذيب للنصارى المفرطين فيها إذ جعلوها إلهاً ، وفيه تكذيب لليهود المفرّطين في شأنها حيث نسبوها إلى الهنات ، وإلى الكذب في أن عيسى خلق من غير أب . وفيه أن من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن فكان مخلوقاً لا إلهاً . ثم أكد حدوثهما وعجزهما بقوله { كانا يأكلان الطعام } فإن المحتاج إلى الاغتذاء سيحتاج إلى ما يتبعه من الهضم والنفض ، وكل هذه الافتقارات دليل ظاهر وبرهان باهر على حدوثهما وأفولهما في حيز الإمكان . ثم عجب من غاية غوايتهم { انظر } يا محمد أو كل من له أهلية النظر { كيف نبين لهم الآيات } الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم . والعامل في { كيف } قوله { نبين } ومفعول { انظر } مجموع الجملة بل مضمونها أي تبصر هذه الحالة وتفكر فيها ومثله { ثم انظر أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق . أفكه بالفتح يأفكه بالكسر أفكاً بالفتح والسكون صرفه عن الشيء . ومنه الإفك بالكسر للكذب لأنه مصروف عن الحق ، وأرض مأفوكة صرف عنها المطر . ومعنى « ثم » التراخي والبون بين العجبين أي بينا لهم الآيات بياناً عجيباً ولكن إعراضهم عنها أعجب ، ثم الصارف عن تأمل الحق هو الله أو العبد فيه خلاف مشهور بين الأشاعرة والمعتزلة ، وأنت قد عرفت التحقيق في ذلك مراراً . ثم أقام حجة أخرى على فساد قول النصارى فقال { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك } أي شيئاً لا يستطيع أو الذي لا يقدر على مثل ما يضركم به الله من البليات والمصائب أو ينفعكم به من الصحة والخصب بواسطة أو بغير واسطة بل لم يملك شيئاً من ذلك لنفسه ، فإن اليهود كانوا يقصدونه بالسوء ولم يقدر على دفعهم . ومن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء صبوا الخل في منخريه وكان عليه السلام مصروف الهمة إلى عبادة الله ولو كان إلهاً كان معبوداً فقط لا عابداً له { والله هو السميع العليم } يسمع أباطيلهم ويعلم ضمائرهم ليجازيهم عليه وفيه من الوعيد ما فيه .

ثم عاد إلى مخاطبة الفريقين فقال { يا أهل الكتاب لا تغلوا } والغلو مجاوزة حد الاعتدال وأنه شامل لطرفي الإفراط والتفريط وإن كان قد يخص بطرف الإفراط ويجعل مقابلاً للتقصير . ولعل المراد ههنا هو الأول فاليهود فرطوا فيه حيث نسبوه إلى الزنا والكذب ، والنصارى أفرطوا فيه حيث ادعوا فيه الإلهية . قال في الكشاف : قوله { غير الحق } صفة للمصدر أي غلوا غير الحق ، ولزمه القول بأن الغلو في الدين غلو ، إن حق وهو أن يبالغ في تقرير الحق وتوضيحه واستكشاف حقائقة ، وباطل وهو أن يتبع الشبهات على حسب الشهوت ، والثاني منهي عنه دون الأوّل ، وأقول : لما كان الغلو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز حدّه شابه ضدّه فكيف يتصوّر غلو حق ولّله در القائل :
كلا طرفي قصد الأمور ذميم ... فالأصوب أن يقال : انتصب { غير الحق } على أنه صفة قائمة مقام المصدر أي لا تغلوا غلواً كقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } [ البقرة : 60 ] أي إفساداً وكقولهم : تعال جائياً وقم قائماً . ولو سلم أن المصدر محذوف كان { غير الحق } صفة مؤكدة مثل { نفخة واحدة } [ الحاقة : 13 ] و « أمس الدابر » لا صفة مميزة فافهم { ولا تتبعوا أهواء قوم } هي المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة . قال الشعبي : ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه { ولا تتبع الهوى فيضلك } [ ص : 26 ] { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] قال أبو عبيد : لم نجد للهوى موضعاً إلا في الشر . لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال إنما يقال يريد الخير ويحبه . وقيل : سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار . وقال رجل لابن عباس : الحمد لّله الذي جعل هواي على هواك . فقال ابن عباس : كل هوى ضلالة { قد ضلوا من قبل } يعني أئمتهم في النصرانية واليهودية قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم { وأضلوا كثيراً } ممن شايعهم على التثليث أو التفريط في شأن مريم وابنها { وضلوا عن سواء السبيل } عند مبعث النيب صلى الله عليه وسلم فكذبوه . والغرض بيان استمرارهم على الضلال قديماً وحديثاً . وقيل : الضلال الأوّل عن الدين ، والضلال الثاني عن الجنة . وقيل : الضلال الثاني اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق { لعنهم الله } في الزبور على لسان داود وفي الإنجيل على لسان عيسى ، وفيه تعيير لهم حيث ادعوا أنهم أولاد الأنبياء وقد لعنوا على ألسنتهم ، وقال كثير من المفسرين : إن أصحاب أيلة كما سيجيء في الأعراف لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة . وإن أصحاب المائدة لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي .

وعن الأصم أن داود وعيسى بشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولعنا من يكذبه ، وذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم . ثم فسّر المعصية والاعتداء بقوله { كانوا لا يتناهون } وللتناهي معنيان : أحدهما وعليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً . عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من رضى عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم » وذلك أن في التناهي المأمور به حسماً للفساد فكان الإخلال به معصية وظلماً . والثاني أنه بمعنى الانتهاء أي لا يمتنعون ولا ينتهون . والمراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه لأن النهي بعد الفعل لا يفيد ، أو المراد لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته ، أو لا ينتهون أو لا ينهون عن الإصرار على منكر فعلوه . ثم عجب من سوء فعلهم مؤكداً بالقسم المقدر فقال { لبئس ما كانوا يفعلون } ثم لما وصف أسلافهم بما وصف شرع في نعت الحاضرين بأن كثيراً منهم يتولون المشركين والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مر في تفسير سورة النساء عند قوله { أهؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] { لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم } من العمل لمعادهم . ومحل { أن سخط } رفع على أنه مخصوص بالذم أي بئس الزاد إلى الآخرة سخط الله يعني موجب سخط الله وسببه ، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدّعون واتخذوا المشركين أولياء لأن تحريم ذلك متأكد في شريعة موسى { ولكن كثيراً منهم فاسقون } في دينهم لأن مرادهم تحصيل الرياسة والجاه بأي طريق قدروا عليه لا تقرير دين موسى . ويحتمل أن يراد ولو كان هؤلاء اليهود المنافقون مؤمنين بالله وبمحمد والقرآن إيماناً خالصاً ما اتخذوا المشركين أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون متمردون في كفرهم ونفاقهم فلهذا يتولون المشركين . وقال القفال : ولو أن هؤلاء المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم اليهود أولياء .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

ثم وصف شدة شكيمة اليهود ولين عريكة النصارى فقال { لتجدن } يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب { أشد الناس عداوة } وقد تعلقت بها اللام في قوله { للذين آمنوا } كما تعلقت بالمودة فيما بعد . وظاهر الآية يدل على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين وكيف لا وقد نبه على تقدم قدمهم في العداوة بتقديمهم على الذين أشركوا وعن النبي صلى الله عليه وسلم « ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله » لكنه روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي أن المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على رسول لله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين . وقال آخرون : مذهب اليهود أنه يجب عليهم ايصال الشر الى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان ، بالقتل أو بغصب الماء أو بوجوه المكايد والحيل ، وليس النصارى مذهبهم ذلك بل الايذاء في دينهم حرام وهذا هو وجه التفاوت بالعداوة والمودة ، وقد أكد ذلك بوصف العداوة والمودّة بالأشد والأقرب . وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ قلبك يا محمد ولا تبال بمكرهم ولا تحزن على كيدهم . ثم ذكر سبب ذالك التفاوت فقال { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } القس والقسيس اسم لرئيس النصارى في العلم والدين وكأنه من القس وهو تتبع الشيء وطلبه . قال قطرب : هو العالم بلغة الروم وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين . وقال عروة بن الزبير : ضيعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين يسمى قسيساً ، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس . والرهبان جمع راهب كركبان وفرسان في راكب وفارس . وقيل : إنه واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين ولكن النظام يأباه . وأصله من الرهبة بمعنى الخوف من الله تعالى ، وإنما صارت الرهبانية ممدوحة في مقابلة قساوة اليهود وغلظتهم وإلا فهي مذمومة في نفسها لقوله تعالى { ورهبانية ابتدعوها } [ الحديد : 27 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم « لا رهبانية في الإسلام » وههنا نكتة هي أن كفر النصارى حيث إنهم ينازعون في الإلهيات والنبوات جميعاً أغلظ في الحقيقة من كفر اليهود لأنهم لا ينازعون إلا في النبوات إلا بعضهم القائلين بأن عزيراً ابن الله . ثم إن النصارى لما يشتد حرصهم على طلب الدنيا وعلى الحياة وأقبلوا على العلم والبراءة من الكبر خصهم الله تعالى بالمدح وذم اليهود حيث قال { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } [ البقرة : 96 ] { غلت أيديهم } [ المائدة : 64 ] فتبين صحة قوله صلى الله عليه وسلم « حب الدنيا رأس كل خطيئة » قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه الى النجاشي وقال : أنه ملك صالح لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً .

فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم : هل تعرفون شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم . فقرؤا وحوله القسيسون والرهبان فكلما قرؤا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق . وقال آخرون : قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي وفداً الى الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ثياب الصوف؛ اثنان وستون من الحبشة وثمانية من من أهل الشأم وهم بحيرا الراهب وأبرهة وغيرهما ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا فنزلت والخطاب في { ترى } لكل راء . وقد وضع الفيض الذي هو مسبب الامتلاء موضع الامتلاء وأصله تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض بعد الامتلاء ، ويحتمل أن يكون الدمع مصدر دمعت عينه وقصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء كأنّ الأعين تفيض بأنفسها . ومعنى { مما عرفوا من الحق } أي مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق ف « من » الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق ، والثانية للبيان ويحتمل التبعيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوا كله وأحاطوا بالسنة؟ { ربنا آمنا } المراد إنشاء الايمان لا الإخبار عنه { فاكتبنا مع الشاهدين } مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد مر مثله في آل عمران . { وما لنا } إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع حصول موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بإدخالهم دار ثوابه مع الصالحين . قالوا ذلك في أنفسهم أو فيما بينهم أو في جواب قومهم حين رجعوا إليهم ولاموهم . ومحل { لا نؤمن } نصب على الحال نحو : مالك قائماً . والعامل فيه معنى الفعل أي ما نصنع غير المؤمنين . وهو العامل أيضاً في { ونطمع } لكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو حذفتها وقلت : وما لنا ونطمع لا حلت ، ويحتمل أن يكون { ونطمع } حالاً من { لا نؤمن } كأنهم أنكروا أن لا يوحدوا الله وهم يطمعون في الثواب وأن يكون عطفاً على { لا نؤمن } أي ما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع ، أو ما لنا لا نجمع بين الإيمان وبين الطمع { فأثابهم الله بما قالوا } ظاهرة يدل على إنهم إنما استحقوا الثواب بمجرد القول ، ولكن فيما سبق من وصفهم بمعرفة الحق ما يدل على خلوص عقيدتهم فلا جرم لما انضاف إليه القول كل الإيمان . ويحتمل أن يكون مأخوذاً من قولك : هذا قول فلان أي اعتقاده ومذهبه . وروى عطاء عن ابن عباس أن المراد بما سألوا من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين .

قال أهل السنة : فيه دليل على أن المعرفة مع الإقرار توجب حصول الثواب ، وصاحب الكبيرة له المعرفة والإقرار فلا بد أن يؤل حاله إلى هذا الثواب . والمعتزلة سلموا أن الإقرار مع المعرفة يوجب الثواب ولكن بشرط عدم الإحباط .
التأويل : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل مع ذرات ذرّيات آدم عليه السلام { وأرسلنا إليهم رسلاً } بالأجساد في عالم الشهادة ، ومن الواردات الروحانية في عالم الغيب { فريقاً كذبوا } يعني الإلهامات والواردات { وفريقاً } يقتلون في عالم الحس { لقد كفر الذين قالوا } النصارى أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم العقل فتاهوا في أودية الشبهات ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلكوا الطريق بأقدام جذبات الأولوهية على وفق المتابعة الجبيبية فأسقط عنهم براهين الوصال كلفة الاستدلال ، ولهذا كان الشبلي يغسل كتبه بالماء ويقول : نعم الدليل أنت . ولكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال فتحقق لهم أن عيسى بعد التزكية والتحلية صار قابلاً للفيض الإلهي فكان يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل بإذن الله ، كما أن المرايا المحرقة تحرق بما قبلت من فيض الشمس { إنه من يشرك بالله } ظاهراً { فقد حرم الله عليه الجنة } ومن يشرك به باطناً حرم عليه القربة على لسان داود وعيسى ابن مريم . هذا سر الخلافة فإن الأنسان الكامل المستحق للخلافة قبوله قبول الحق ورده رد الحق { لا يتناهون عن منكر } سمى العصيان منكراً لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفاً لأنها توجب المعرفة { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } . يعني أن تعارف الأرواح يُوجب ائتلاف الأشباح ، فالنصارى ببركة علمائهم وعبادهم وصفاء قلوبهم وخضوعهم ثبت لهم القرابة والمودة من أهل الإيمان وعرفوا الحق الذي سمعوه في الازل يوم الميثاق ، فآمنوا وذلك جزاء المحسنين الذين يعبدون الله ويشاهدونه بلوائح المعرفة وطوالع المحبة فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

القراآت : { بما عقدتم } بالتخفيف : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل ، وقرأ ابن ذكوان { عاقدتم } بالألف . الباقون { عقدتم } بالتشديد { من أوصط } مثل { مبصوطتان } [ المائدة : 64 ] { فجزاء } بالتنوين { مثل } بالرفع : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم عن المفضل . { كفارة طعام } بالإضافة : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون { كفارة } بالتنوين { طعام } بالرفع { فبما } بغير ألف ابن عامر .
الوقوف : { ولا تعتدوا } ط { المعتدين } ه { طيباً } ص لعطف المتفقتين { مؤمنون } ه { الأيمان } ج لاختلاف النظم مع اتحاد الكلام وفاء التعقيب . { رقبة } ط { ثلاثة أيام } ط { حلفتم } ط للإضمار أي حلفتم وحنثتم { أيمانكم } ط { تشكرون } ه { تفلحون } ه { وعن الصلاة } ج لابتداء الاستفهام لأجل التحذير مع دخول الفاء فيه . { منتهون } ه { واحذروا } ط { المبين } ه { وأحسنوا } ط { المحسنين } ه { بالغيب } ج { أليم } ه { وأنتم حرم } ط { وبال أمره } ط { سلف } ط { منه } ط { انتقام } ه { وللسيارة } ج لطول الكلام وتضاد المعنيين وإن اتفقت الجملتان لفظاً . { حرما } ط لإطلاق الأمر بالابتداء { تحشرون } ه { والقلائد } ط { عليم } ه { رحيم } ه { البلاغ } ط { تكتمون } ه { كثرة الخبيث } ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض { تفلحون } ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد استقصاء المناظرة مع أهل الكتابين عاد الى بيان الأحكام فبدأ بحل المطاعم والمشارب واستيفاء اللذات كيلا يتوهم متوهم أن مدح القسيسين والرهبان يوجب إيثار طريقتهم في هذا الدين . قال المفسرون : « جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف ، فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبوا المذاكير ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا و كذا؟ قالوا : يا رسول الله وما أردنا إلا الخير . فقال : إني لم أؤمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم ، من رغب عن سنتي فليس مني . ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان ، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ، فأنزل الله هذه الآية ، فقالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها - وكانو حلفوا على ما اتفقوا عليه »

- فنزلت هذه الآية { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } فهذا وجه اتصال الآيات . فإن قيل : ما الحكمة في قوله { لا تحرّموا } ومن المعلوم أن توسع الأنسان في اللذات والطيبات يمنعه عن الاستغراق في تحصيل السعادات الباقيات ، ولهذا قالت الحكماء : إذا شبعت الأجسام صارت الأرواح أجساداً ، وإذا جاعت الأجسام صارت الأجساد أرواحاً؟ فالجواب أن الرهبانية المفرطة مما توقع الآفة في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والكبد والدماغ والأنثيان فيختل الفكر ويقل التأمل في الجواهر الروحانية ومباديها ، على أن النفوس القوية لا يمنعها التصرف في الجسمانيات عن التأمل في الروحانيات . فالرهبانية دليل الضعف والقصور والكمال في الوفاء بالجهتين ، وكيف والرهبانية توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وترك الترهب مع رعاية وظائف الطاعة يفضي الى سعادة الدارين ، قال القفال : إنه تعالى قال في أوّل السورة { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] فبين أنه كما لا يجوز تحليل المحرم لا يجوز تحريم المحلل ، وذلك أنهم كانوا يحللون الميتة والدم ويحرمون البحائر والسوائب . ومعنى { لا تحرموا } لا تعتقدوا تحريم { ما أحل الله } ولا تظهروا باللسان تحريمه ولا تجتنبوه اجتناباً يشبه اجتناب المحرمات . فهذه الوجوه محمولة على الاعتقاد والقول والعمل ، ويحتمل أن يراد لا تحرموا على غيركم بالفتوى ، أو لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين كقوله { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] أو لا تخلطوا المملوك بالمغصوب أو الطاهر بالنجس خلطاً لا يبقى معه التمييز فإنه يحرم الكل . والطيبات المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب . ثم نهى عن الاعتداء مطلقاً ليدخل تحته النهي عن الإسراف كقوله { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] و { كلوا } أمر إباحة وتحليل { مما رزقكم الله } في إدخال « من » التبعيضية إرشاد الى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض وصرف الباقي الى المحتاجين ، وفيه أنه تعالى هو الذي يرزق عبيده وتكفل برزقهم . قال في التفسير الكبير : قوله { حلالاً طيباً } إن كان متعلقاً بالأكل كان حجة للمعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً لأنه يدل على الإذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل رزق حلالاً ، وإن كان متعلقاً بالمأكول أي كلوا من الرزق الذي يكون حلالاً كان حجة لأصحابنا لأن التقييد يؤذن بأن الرزق قد لا يكون حلالاً . أقول : هذا فرق ضعيف ولهذا قال في الكشاف : { حلالاً } حال { مما رزقكم الله } مع أنه من المعتزلة . ثم أكد التوصية بقوله { واتقوا الله } وزاده تأكيداً بقوله { الذي أنتم به مؤمنون } لأن الإيمان به يوجب اتقاءه في أوامره ونواهيه .

ثم قال { لا يؤاخذكم } وقد ذكرنا وجه النظم آنفاً ، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة . أما قوله { بما عقدتم الأيمان } فمن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير فلا إشكال ، ومن قرأ بالتشديد فإن أبا عبيدة اعترض عليه بأن التشديد للتكثير فهذه القراءة توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة . وأجاب الواحدي بأن عقد بالتخفيف وعقد بالتشديد واحد في المعنى ، ولو سلم فالتكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر فلا كفارة . ومن قرأ بالألف فمثل القراءة المخففة كقولك : عاقبت اللص وعافاه الله . والمعنى على القراآت : ولكن يؤاخذكم بعقد الأيمان أو بتعقيدها أو معاقدتها إذا حنثتم . فحذف الظرف للعلم به ، أو المراد بنكث ما عقدتم بحذف المضاف { فكفارته } أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ويسمى بالواجب المخير . وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها ، ولا يجوز الإخلال بجميعها ، ولكنه إذا أتى بأيّ واحد منها فإنه يخرج عن العهدة ، ومن هنا قال أكثر الفقهاء الواجب واحد لا بعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة فإن عجز عنها جميعاً فالواجب شيء آخر وهو الصوم . أما مقدار الطعام فقد قال الشافعي : نصيب كل مسكين مد أي ثلثا منّ ، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم لأنه تعالى قال { من أوسط ما تطعمون } فإن كان المراد ما كان متوسطاً في العرف فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقاً وخبز فإنه يصير قريباً من المنّ وذلك كاف لواحد في يوم واحد ، وإن كان المراد ما كان متوسطاً في الشرع فليس له في الشرع مقدار إلا ما جاء في قصة الأعرابي المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإطعام ستين مسكيناً من غير ذكر مقدار . فقال الرجل : ما أجد . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أطعم هذا . وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مدّ . ولا تلزم كفارة الحلق لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان تكفيرها معتبراً بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد . وقال أبو حنيفة : الواجب نصف صاع من الحنطة أو صاع من غيرها قال : لأن الأسط هو الأعدل . وما ذكره الشافعي هو أدنى ما يكفي . وأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس مدّ بإدامه والإدام تبلغ قيمته مداً آخر ويزيد في الأغلب . أجاب الشافعي أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام ومقداره ما ذكرنا ، وجنس الطعام المخرج جنس الفطرة .

ثم قال الشافعي : الواجب تمليك الطعام قياساً على الكسوة . وقال أبو حنيفة : إذا غدّى وعشى عشرة مساكين جاز لأن ذلك إطعام ، ولأن إطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك وقد قال { من أوسط ما تطعمون أهليكم } والقائل أن يقول : ذكر إطعام الأهل لتعيين مقدار المطعم لا لأجل كيفية الإطعام . وقال أبو حنيفة : لو أطعم مسكيناً واحد عشر مرات جاز . وقال الشافعي : لا يجزي إلا إطعام عشرة لأن مدار الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه فيجب الوقوف على مورد النص .
قال في الكشاف { أو كسوتهم } عطف على محل { من أوسط } ووجه بأن البدل هو المقصود فكأنه قيل : فكفارته من أوسط . وأقول : الأظهر أن يكون { من أوسط } مفعولاً آخر للإطعام سواء كان « من » للابتداء أو للتبعيض ، ويكون { كسوتهم } معطوفاً على الإطعام . والكسوة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به . قال الشافعي : يجزىء في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة وهو الثوب يغطي العورة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة لكل مسكين ثوب واحد لما روي عن ابن عباس كانت العباءة تجزىء يومئذٍ . وعن مجاهد : ثوب جامع . وقال الحسن : ثوبان أبيضان . و المراد بالرقبة الجملة كان الأسير في العرب تجمع يداه الى رقبته فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الحبل فك رقبة . ثم أجرى ذلك على العتق هكذا قيل في أصل هذا المجاز . ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقاب تجزئه . وقال الشافعي : لا يجزىء إلا كل سليمة من عيب يخل بالعمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكراً أو أنثى بعد أن كانت مؤمنة قياساً على كفارة القتل ، ولم يجوز إعتاق المكاتب ولا شراء القريب . وفي تقديم الإطعام على العتق من أن العتق أفضل تنبيه على التخيير وأن الأمر مبني على التخفيف . ويكمن أن يقال : الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أو لا يكون هناك من يعطيه فيقع في الضر ، أما العبد فيجب على مولاه طعامه وكسوته ، فالعتق يحتمل التأخير والإطعام قد لا يحتمل ذلك . { فمن لم يجد } أحد الأمور الثلاثة المذكورة { فصيام } فعليه صيام { ثلاثة أيام } قال الشافعي : إذا وجد قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام ، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لا يجوز الصوم . تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوماً وليلة لأن ذلك ضروري ، وتقديم حق النفس على حق الغير واجب شرعاً فبقي الآية معمولاً بها في غيره . وعند أبي حنيفة : يجوز الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة .

ثم صيام الأيام الثلاثة المشروط عند أبي حنيفة بالتتاع تمسكاً بقراءة أبيّ وابن مسعود { فصيام ثلاثة أيام متتابعات } فإن قراءتهما لا تتخلف عن روايتهما . وقال الشافعي في أصح قوليه : إن التفريق جائز والقراءة الشاذة لا يعتدّ بها لأنها لو كانت صحيحة لنقلت نقلاً متوتراً وقد « روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له : عليّ أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك؟ قال : بلى . قال : فالله أحق أن يعفو ويصفح » وإذا جاز هذا التفريق في صوم رمضان ففي غيره أولى ، وأيضاً العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
مسألة : من صام ستة أيام عن يمينين أجزأته ولا حاجة الى تعيين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد أتى بها فيخرج عن العهدة { ذلك } المذكور { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف ، وللتنبيه على أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين ، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً فكفر عن يمينك ثم ائت بالذي هو خير » ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب . هذا إذا كان يكفر بغير الصوم ، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان ، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية ، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لا يشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضاً لوجود أحد السببين . والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر لهما فيه . جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي ، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقاً . { واحفظوا أيمانكم } قللوها ولا تكثروا منها ، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث ، وعلى هذا تكون الأيمان المختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف مالو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث . وقيل : احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاوناً بها { كذلك } مثل ذلك البيان الشافي { يبين الله لكم آياته } أحكامه وأعلام شريعته { لعلكم تشكرون } نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج .
ثم إنه سبحانه استثنى من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر - وقد تقدم معناهما وما يتعلق بهما في سورة البقرة ، وسلك في سلك التحريم الأنصاب و والأزلام وقد ذكرناهما في أول هذه السورة .

واعلم أنه كانت تحدث قبل تحريم الخمر أشياء يكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه مع عمه حمزة على ما روي في الصحيحين أنه قال : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس ، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلاً صوّاغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي لأذخر ، أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به في وليمة عرسي . فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار ، أقبلت فإذا أنا بشارفيّ قد جبت أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر وقلت : من فعل هذا؟ قالوا : فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت في شرب مع امرأة من الأنصار غنت أغنية فقالت في غنائها :
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها ... فضرجهن حمزة بالدماء
وأطعم من شرائحها كباباً ... ملهوجة على وهج الصلاء
فأنت أبا عمارة المرجى ... لكشف الضر عنا والبلاء
فوثب الى السيف أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما . قال علي رضي الله عنه : فانطلقت حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتيت له فقال : ما لك؟ فقلت يا رسول الله ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هوذا في بيت معه شرب . قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه ثم انطلق يمشي واتبعت أثره ، - أنا وزيد بن حارثة - حتى جاء البيت الذي فيه . فاستأذن فأذن له فإذا هم شرب ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال : وهل أنتم إلا عبيد أبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى ، فخرج وخرجنا فكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر . قالت العلماء : هذه الآية تدل على تحريمها من وجوه منها : تصدير الجملة ب « إنما » الدالة على الحصر معناه ليست الخمر إلا الرجس وعمل الشيطان . ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم

« شارب الخمر كعابد الوثن » ومنها أنه جعلها رجساً كما قال في موضع آخر { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] وأصل الرجس العمل القبيح القذر . قال الفراء : { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } [ يونس : 100 ] أي العقاب والغضب وكأنه إبدال الرجز والرجس بالفتح الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير فلهذا سمي العمل القوي الدرجة في القبح رجساً . ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان ، ومن المعلوم أنه لا يصدر منه إلا الشر البحت . ومنها أنه أمر بالاجتناب وظاهر الامر للوجوب . ومنها انه جعل الاجتناب من الفلاح فيكون القرب منه خيبة . والضمير في { فاجتنبوه } عائد الى الرجس أو العمل أو إلى المضاف المحذوف أي إنما تعاطي الخمر ونحو ذلك . ومنها شرح أنواع المفاسد المنتجة منها من التعادي والتباغض والصد عن ذكر الله وعن الصلاة خصوصاً وفيه أن غرض الشرب من الاجتماع تأكد الألفة والمودّة . ثم إنها تورث نقيض المقصود لأن العقل إذا زال استولت الشهوة والغضب ويؤدي الى التنازع واللجاج ، وكذا القمار يفضي الى إفناء المال وإلى أن يقامر على حليلته وأهله وولده وكل ذلك يورث العداوة والفتن وهذان من مكايد الشيطان ومضادّان لمصالح الإنسان . وأيضاً الخمر سبب تهييج اللذه الجسمية ، والقمار يورث لذة الغلبة الحالية ، وكلتاهما توجب الاشتغال عن اللذات الحقيقية الحاصلة من الاستغراق في طاعة المعبود . وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانياً لأن الخطاب مع المؤمنين فقرنهما أولاً بذكر الأنصاب والأزلام تنبيهاً على أنها جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك ، ثم أفردهما لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين . ومنها سوق الكلام بطريق الاستفهام في قوله { فهل أنتم منتهون } كأنه قيل : قد تلي عليكم ما هو كاف في باب المنع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم تزجروا؟ ولهذا قالوا قد انتهينا يا رب . إذ فهموا التحريم المؤكد . ومنها إنه قال عقيب ذلك { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } والظاهر أن المراد الطاعة فيما تقدم من الأمر بالاجتناب والحذر عن المخالفة في ذلك الباب . ومنها تهديد من خالف هذا التكليف بقوله { فإن توليتم } الآية . والمراد إن أعرضتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة البلاغ وقد أعذر من أنذر وجزاء المخالف الى الله المقتدر . عن أنس قال : كنت ساقي القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا فضيخ البسر والتمر ، فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت . قال : فجزت في سكك المدينة فقال أبو طلحة : اخرج فأرقها . فقالوا : قتل فلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الطعم خلاف الشرب في الأغلب وقد يقع على المشروب كقوله تعالى

{ ومن لم يطعمه فإنه مني } [ البقرة : 249 ] فيجوز أن يكون المراد فيما شربوا من الخمر ، ويحتمل أن يكون معنى الطعم راجعاً إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب جميعاً ، فقد تقول العرب : أطعم أي ذق . ونظير هذه الآية قوله في نسخ القبلة { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] والعامل في { إذا ما اتقوا } معنى الكلام المتقدم أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمّات لأنهم شربوها حين كانت محللة . والمراد أن أولئك كانوا على هذه الصفة وهو ثناء عليهم وحمد لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان . وزعم بعض الجهلة أن هذا الحكم متعلق بالمستقبل وإلا قيل : لم يكن أو ما كان جناح مثل { وما كان الله ليضيع } [ البقرة : 143 ] والمعنى لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه العداوة والبغضاء وسائر المفاسد المذكورة بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق . والجواب أن صيغة طعموا وهي المضي تأباه ، وأيضاً إن سبب نزول الآية يكذبه . روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار ، وكيف بالغائبين عنا في البلاد لا يشعرون بتحريم الخمر وهم يطعمونها؟ فنزلت . وعلى هذا فالحال قد ثبت فيما يستقبل لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص . ثم أنه سبحانه شرط في نفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين ، وفي الثالثة التقوى والإحسان . فقال الأكثرون : الأول فعل الاتقاء ، والثاني دوامه والثبات عليه ، والثالث اتقاء ظلم العباد مع الإحسان إليهم . وقيل الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول الآية ، والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية ، والثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية ، وهذا قول الأصم . وقيل : اتقوا الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر . وقال القفال : الأول الاتقاء من القدح في صحة النسخ ليثبت تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة ، والثاني الإتيان بالعمل المطابق للآية ، والثالث المداومة على التقوى مع الإحسان إلى الخلق . ثم إنه سبحانه استثنى بعض الصيد من المحللات فقال على سبيل المثال التوكيد القسمي { ليبلونكم الله } أي ليعاملنكم معاملة المختبر { بشيءٍ } التنوين للتحقير وفيه أنه ليس من الفتن العظام التي تدحض عندها الأقدام كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال ، فامتحن الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصيد البر كما امتحن أصحاب أيلة بصيد البحر . قال مقاتل بن حيان : ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط ، فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء . قال الواحدي : الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش ، والذي تناله الرماح الكبار . و « من » في { من الصيد } للبيان أو للتبعيض وهو صيد البر أو صيد الإحرام والمراد به العين لا الحدث بدليل عود الضمير في { تناله } إليه { ليعلم الله } ليظهر معلومة وهو خوف الخائف أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم أو ليعلم أولياء الله ومحل { بالغيب } النصب على الحال أي يخافه حال كونه غائباً عن رؤيته أو عن حضور الناس { فمن اعتدى } فصاد { بعد ذلك } الابتلاء { فله عذاب أليم } في الآخرة وقيل في الدنيا .

عن ابن عباس : هو أن يضرب بطنه وظهره ضرباً وجيعاً وينزع ثيابه . { لا تقتلوا الصيد } قال الشافعي : إنه البري المتوحش المأكول اللحم . أما الأول فلقوله تعالى بعد ذلك { أحل لكم صيد البحر } وأما المتوحش فيدخل فيه نحو الظبي وإن صار مستأنساً ويخرج الإنسي وإن صار متوحشاً إبقاء لحكم الأصل ، وأما كونه مأكولاً فلقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } فيعلم منه أنه مما يحل أكله في غير الإحرام . وقال أبو حنيفة : المحرم إذا قتل سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن . وسلم أنه لا يجب الضمان في قتل الذئب وفي قتل الفواسق الخمس فقال الشافعي : لا معنى في قتلها إلا الإيذاء فيلزم جواز قتل جميع المؤذيات لا سيما وقد جاء « خمس يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب والعقور » وفي رواية بزيادة السبع العادي واحتج لأبي حنيفة بقول علي رضي الله عنه :
صيد الملوك أرانب وثعالب ... فإذا ركبت فصيدي الأبطال .
وزيف بأن الثعلب عندنا حلال . { وأنتم حرم } أي محرمون بالحج والعمرة أيضاً على الأصح . وقيل : وقد دخلتم الحرم . وقيل : هما مرادان بالآية وهو قول الشافعي . وقوله { لا تقتلوا } يفيد المنع ابتداء والمنع تسبباً فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرماً أو في الحرم بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل } من قرأ { جزاء } بالتنوين { ومثل } بالرفع فالمعنى : فعليه جزاء صفته كذا . ومن قرأ بالإضافة فمن باب إضافة المصدر إلى المفعول أي فعلية أن يجزىء مثل ما قتل . قال بعض العلماء : المثل مقحم للتأكيد إذ الواحب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فهو قولهم : أنا أحب مثلك أي أحبك . وقيل : الإضافة بمعنى « من » أي جزاء من مثل ما قتل . قال سعيد بن جبير : المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء . وهو قول داود لأن النهي ورد عن التعمد وهو أن يقتله ذاكراً لإحرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله ، فإن قتله وهو ناسٍ لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد ، أو رمى غير الصيد فعدل السهم فأصاب صيداً فهو مخطىء لا شيء عليه لفقدان القيد المذكور . ويتأكد هذا الرأي بقوله { ليذوق وبال أمره } وبقوله { ومن عاد } أي الى ما تقدم ذكره وهو القتل العمد ، والانتقام أيضاً يناسب العمد لا الخطأ قال جمهور الفقهاء : يلزمه الضمان سواء قتل عمداً أو خطأ قياساً على سائر محظورات الإحرام كحلق الرأس وغيره وكما في ضمان مال المسلم ، فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يختلف ذلك بكونه عمداً أو لا .

وإنما وردت الآية بالتعمد لأن العمد أصل والخطأ ملحق به للتغليظ ، ولما روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت الآية على وفق القصة . وعن الزهري نزل كتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ . قال صلى الله عليه وسلم « في الضبع كبش إذا قتله المحرم » وقالت الصحابة : في الظبي شاة . أطلقوا الضمان من غير فرق بين العمد والخطأ . ثم العلماء اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن : الصيد ضربان : منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فيضمن بالقيمة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل الواجب هو القيمة قياساً على ما لا مثل له . حجة الشافعي قوله تعالى { من النعم } فإنه بيان للمثل وكذا قوله { هدياً بالغ الكعبة } وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم في الضبع بكبش . وعن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر أنهم حكموا في أمكنة مختلفة وأزمان متعدّدة في جزاء الصيد بالمثل من النعم . فحكموا في النعامة ببدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة ، وفي الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الظبي بشاة ، وفي الأرنب بحمل - وفي رواية بعناق - وفي الضب بسخلة ، وفي اليربوع بجفرة ، وفي الحمام بشاة ، ويعني به كل ما عب وهدر كالقمري والدبسي الفاختة . والعب شرب الماء مرة ، والهدير ترجيعه صوته وتغريده . وفيه دليل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبهاً بالصيد من النعم ، ولو نظروا إلى القيمة لاختلف باختلاف الأسعار . والظبي الذكر من هذا الجنس والغزال أنثاه ، والجفرة من أولاد المعز إذا انفصلت من أمها ، والعناق الأنثى من أولاد المعز . وأيضاً المقصود من الضمان جبر الهلاك فكلما كانت المماثلة أتم كان الجبر أكمل .
( وههنا مسائل ) الأولى : جماعة محرومون قتلوا صيداً . فالشافعي وأحمد وإسحق : لا يجب عليهم إلا جزاء واحد لأن مثل الواحد واحد . وقال أبو حنيفة ومالك والثوري : على كل منهم جزاء واحد كما لو قتل جماعة واحداً يقتص منهم جميعاً ، وكذا لو حلف كل منهم أن لا يقتل صيداً فقتلوا صيداً واحداً لزم كلاً منهم كفارة . وأجيب بأن قتل الجماعة بالواحد تعبدي وتعدد الكفارة لتعدد الإيمان .
الثانية : قال الشافعي : المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله لم يضمن كما لا يجب بالدلالة كفارة القتل ولا الدية ، وكما لو دل على مال المسلم وذلك لأن الدلالة ليست بقتل ولا إتلاف .

وقال أبو حنيفة : يضمن لما روي أن عمر عبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبوا الجزاء على الدال .
الثالثة : قال الشافعي : إذا جرح ظبياً فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة إرشاداً إلى ما هو الأسهل لأنه قد لا يجد شريكاً في ذبح الشاة ويتعذر عليه إخراج قسط من الحيوان . وقال المزني : عليه شاة . وقال داود : لا ضمان إلا بالقتل لظاهر الآية حيث نيط الجزاء بالقتل فقط .
الرابعة : إذا قتل المحرم صيداً وأدى جزاءه ثم قتل صيداً آخر لزمه جزاء آخر خلافاً لداود ، وينقل عن ابن عباس وشريح . حجة الجمهور أن الحكم يتكرر بتكرر العلة بخلاف ما لو قال لنسائه : من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين ، فإنه لا يقع إلا طلاق واحد لأن تكرر الحكم بتكرر الشرط غير لازم . حجة داود { ومن عاد فينتقم الله منه } فإنه جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة .
الخامسة : قال الشافعي : إذا أصاب صيداً أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب ، وكذا الكبير لأجل الصغير . والذكر يفدى بالذكر والأنثى بالذكر والأنثى والأولى أن لا يغير تحقيقاً للمثلية . فالأنثى أفضل لأنها تلد ، والذكر أفضل من حيث إن لحمه أطيب وصورته أحسن .
قوله سبحانه { يحكم به ذوا عدل منكم } قال ابن عباس : أي رجلان صالحان فقيهان من أهل دينكم ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به . وبهذا احتج من نصر قول أبي حنيفة فقال : التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد ، وأما الخلقة والصورة فمشاهد لا يفتقر إلى الاجتهاد . ورد بأن وجه المشابه بين النعم والصيد أيضاً يتوقف على الاجتهاد . عن قبيصة بن جابر أنه ضرب ظبياً في الإحرام فمات فسأل عمر - وكان الى جانبه عبد الرحمن ابن عوف - فقال له : ما ترى؟ قال : عليه شاة . قال : وأنا أرى ذلك ، فاذهب فأهد شاة . قال قبيصة : فخرجت إلى صاحبي وقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره . قال : ففاجأني عمر وعلاني بالدرّة وقال : أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى { يحكم به ذوا عدل منكم } فأنا عمر وهذا عبد الرحمن . قال الشافعي : ما ورد فيه نص فهو متبع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش . وكل ما حكم به عدلان من الصحابة أو التابعين أو من أهل عصر آخر من النعم أن مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم لأن بحثهم أوفى ونظرهم أعلى . وقال مالك يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم . وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد حكماً؟ إن كان القتل عمداً عدواناً فلا لأنه يورث الفسق والحكم موصوف بالعدالة ، وإن كان خطأ أو كان مضطراً إليه فكذلك عند مالك كما في تقويم المتلفات .

وجوّزه الشافعي لما روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبياً فسأل عمر فقال : احكم فيه . فقال : أنت خير مني وأعلم يا أمير المؤمنين . فقال : إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني . فقال الرجل : أرى فيه جدياً فقال عمر : فذلك فيه . وأيضاً فإنه حق الله فيجوز أن يكون من عليه أميناً فيه كما أن رب المال أمين في الزكاة . ولو حكم عدلان بأن الله له مثلاً وآخران بأنه لا مثل له فالأخذ بقول الأولين . ولو حكم عدلان بمثل وآخران بمثل آخر فأصح الوجهين أنه يتخير والآخر أنه يأخذ بالأغلظ . قيل في الآية دلالة على أن العمل بالاجتهاد والقياس جائز . وأجيب بأنه لا نزاع في الصور الجزئية كالاجتهاد في القبلة وكالعمل بشهادة الشاهدين وبتقويم المقوّمين في قيم المتلفات وأروش الجنايات ، وكعمل العامي بالفتوى ، وكالعمل بالظن في مصالح الدنيا ، إنما النزاع في إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والإنصاف أن تجويز الاجتهاد في القبلة وفي تعيين مثل الصيد المقتول أمر كلي أيضاً . وانتصب { هدياً } على أنه حال من { جزاء } عند من وصفه بمثل لأنه حينئذ قريب من المعرفة أو بدل من محل { مثل } عند من أضاف ، أو حال من الضمير في { به } ووصف هدياً ببالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغاً الكعبة . والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة ولا سيما إذا كان مرتفعاً . ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح في الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في نفس الكعبة ولا في غاية القرب والتلاصق منها فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حياً لم يجز . قال الشافعي : يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضاً لأن نفس الذبح إيلام ولا قربة فيه وإنما القربة في التصدّق على فقراء الحرم . وقال أبو حنيفة : له أن يتصدق به حيث شاء لأنها لما وصلت إلى الكعبة فقد خرج عن العهدة . قوله { أو كفارة } عطف على قوله { فجزاء } و { طعام مساكين } بيان له . ومن أضاف فللبيان أيضاً أي كفارة من طعام مساكين مثل : خاتم فضة { أو عدل ذلك } الطعام { صياماً } نصب على التمييز كقولك : لي مثله رجلاً . وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه ، والعدل بالكسر المثل تقول : عندي عدل غلامك إذا كان غلاماً يعدل غلاماً ، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت العين . ثم مذهب الشافعي أنه يصوم لكل مد يوماً . ومذهب أبي حنيفة أنه يصوم لكل نصف صاع يوماً وذلك بحسب الاختلاف في طعام مسكين واحد كما مر في كفارة اليمين .

وبالجملة فحاصل مذهب أبي حنيفة أنه يوجب قيمة الصيد يقوّم حيث صيد ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً . وحاصل مذهب الشافعي أن الصيد قسمان : ما له مثل من النعم وما ليس كذلك . فالأوّل جزاؤه على التخيير والتعديل فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم إما بأن يفرق اللحم أو يملك جملته إياهم مذبوحاً ، وبين أن يقوّم المثل بدراهم ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم ولكن إن شاء اشترى بها طعاماً وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوماً حيث كان . والثاني وهو ما ليس بمثلي كالعصافير وغيرها . وبالجملة كل ما دون الحمام أو فوقه فيه قيمته ولا يتصدق بها بل يجعلها طعاماً ، ثم إن شاء تصدق بها وإن شاء صام عن كل مد يوماً ، فإن انكسر مد في القسمين صام يوماً لأن الصوم لا يتبعض . فللجزاء في القسم الأوّل ثلاثة أركان : الحيوان والطعام والصيام . وفي القسم الثاني ركنان : الطعام والصيام و { أو } هنا على التخيير في ظاهر المذهب لا على الترتيب . ووافق مالك وأبو حنيفة لأن « أو » للتخيير غالباً ، وخالف أحمد وزفر فقالا إنها في الآية للترتيب لأن الواجب هنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله { ليذوق وبال أمره } والتخيير ينافي التغليظ . ثم القائلون بالتخيير اتفقوا على أن الخيار في تعيين هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد كما هو ظاهر الآية إلا محمد بن الحسن فإنه قال : الخيار إلى الحكمين قياساً على تعيين المثل . ثم إن يكن الصيد مثلياً فالعبرة في القيمة بمحل الإتلاف قياساً على كل متلف متقوّم ، والمعتبر في الصرف إلى الطعام سعر الطعام بمكة . وإن كان مثلياً وأراد تقويم مثله من النعم ليرجع إلى الإطعام أو الصيام فالعبرة في قيمته بمكة يومئذ أنها محل الذبح لو كان يذبح . ولا جزاء عل المحرم بأكل الصيد سواء ذبحه بنفسه أو اصطيد له أو بدلالته لأنه ليس بنام بعد الذبح ولا يؤل إلى النماء فلا يتعلق بإتلافه الجزاء ، كما لو أتلف بيضة مذرة هذا في الجديد من قولي الشافعي وفي قوله القديم - وبه قال مالك وأحمد - يلزمه القيمة بعدما أكل . وإذا ذبح المحرم صيداً لم يحل له الأكل منه ولا لغيره في الجديد - وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة - لأنه يكون ميتة كذبيحة المجوسي حتى لو كان مملوكاً وجب مع الجزاء القيمة للممالك . وهل يحل له بعد زوال الإحرام؟ أظهر الوجهين لا ، وكذا الكلام في الصيد الحرم إذا ذبح .

أما قوله { ليذوق } فإنه متعلق بقوله { فجزاء } أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق ، ويحتمل أن يقال : يتعلق بمحذوف أي شرعنا ما شرعنا ليذوق سوء عاقبة فعله وهو هتك حرمة الحرم والإحرام . والتركيب يدور على الثقل يقال : مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة ، وطعام وبيل تقيل على الطبع والمعدة . والأمور الثلاثة اثنان منها نقص في المال فيثقل على الطبع ، والثالث وهو الصوم ثقيل على البدن أيضاً ، وكل منها نوع عقوبة { عفا الله عما سلف } في الجاهلية لأنهم متعبدون بشرع من قبلهم ، أو عما سلف قبل التحريم في الإسلام . وعلى مذهب داود { عفا الله عما سلف } في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء { ومن عاد } فإنه أعظم من أن يعفى بالجزاء { فينتقم الله منه } أي فهو ينتقم الله منه وإلا لم يحتج إلى إدخال فاء الجزاء لارتباطه بنفسه . { أحل لكم صيد البحر } أي مصيداته . ويعني بالبحر جميع هذه المياه والأنهار ، وجملة ما يصاد منه ثلاث أجناس : الحيتان وجميع أنواعها حلال ، والضفادع وجميع أنواعها حرام ، وفيما سوى هذين خلاف . فقال أبو حنيفة : حرام . وقال ابن أبي ليلى والأكثرون : حلال . قوله { وطعامه } العطف يقتضي المغايرة وفيه وجوه : يروى عن أبي بكر الصديق أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته ، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه . وقال جمع من العلماء : الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره كاصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها . فالمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصطاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه . وعن سعيد بن جبير أن الصيد هو الطري ، والطعام هو القديد منه وفي الفرق ضعف . قال الشافعي : السمكة الطافية في البحر محللة لأنه طعام البحر وقد قال تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » { متاعاً لكم } في الحضر طرياً و { للسيارة } في السفر مالحاً . وانتصب { متاعاً } على أنه مفعول له ولكنه مختص بالطعام . وقال الزجاج : انه مصدر مؤكد لأن قوله { أحل لكم } في معنى التمتيع { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } قال العلماء : صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء ، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر ، والسلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر ، ويجب على قاتله الجزاء . واتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد الذي صاده أما الذي صاده الحلال فعن علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس والثوري واسحق أن الحكم كذلك لإطلاق الآية ، ولما روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله .

وقال مالك والشافعي وأحمد : إن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له لما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم » وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد أنهم أجازوا للمحرم ما صاده الحلال وإن لأجله إذا لم يدل لم يشر ، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفه وأصحابه لما روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا : هل بقي من لحمه شيء؟ قالوا معنا رجله . فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأكلها . هذان قولان مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد . وقال في الكشاف . أخذ أبو حنيفة بالمفهوم فكأنه قيل : وحرم عليكم أيها المحرمون ما صدتم في البر ، فيخرج عنه مصيد غيرهم . ويرد عليه أن المفهوم ليس بحجة . ثم حث على الطاعة والاجتناب عن المعاصي بقوله { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } وهو كلام جامع للوعد والوعيد .
ثم ذكر سبب حرمة الصيد في الحرم وفي الإحرام فقال { جعل الله } أي حكم وبين بالخطاب والتعريف ، أو صير بخلق دواعي التعظيم في القلوب { قياماً للناس } وهم العرب ووجه المجاز أن أهل بلدة إذا قالوا « الناس فعلوا كذا » أرادوا أهل بلدتهم فنطق القرآن على مجرى عادتهم . وبيان القيام أن قوام المعيشه إما بكثرة المنافع وقد جعله بحيث يجبي إليه ثمرات كل شيء ، وإما بدفع المضار وقد صيره حرماً آمناً ، وإما بحصول الجاه والرياسة وتوفر الدواعي والرغبات وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام . { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } [ إبراهيم : 37 ] ثم المنافع الدينية الحاصلة من مناسكها وشعائرها أكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى . وانتصب { البيت الحرام } على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح إذ الكعبة أوضح من أن توضح ، ويحتمل أن يراد بالناس عامة الناس لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم الدينية والدنيوية . وعن عطاء بن أبي رباح : لو تركوه عاماً واحداً لم ينظرا ولم يؤخروا . وتفسير الشهر الحرام والهدي والقلائد تقدم في أوّل السورة . وإنما كان الشهر الحرام سبباً لقيام الناس وقوامهم لأنه إذا دخل الشهر الحرام كان يزول خوفهم ويقدرون على الأسفار وتحصيل الأقوات قدر ما يكفيهم طول السنة ، فلولا حرمة ذلك لهلكوا من الجوع . وأيضاً هو سبب لاكتساب الثواب من قبل مناسك الحج وإقامتها .

وأما الهدي فأنه نسك للمهدي وقوام لمعايش الفقراء ، وكذا القلائد فكان من قلد الهدي أو قلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد ، وكل ذلك لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم الكعبة وما يتعلق بها ذلك الذي ذكر من جعل الكعبة قياماً للناس أو من حفظ حرمة الإحرام والحرم مشروع { لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } وذلك أنه علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص على القتل والغارة وكان ذلك مما يفضي إلى الفناء وانقطاع النسل ، فدبر هذا التدبير المحكم والفعل المتقن كي يصير سبباً للأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمان فتستقيم مصالح الإنسان . ولا ريب أن مثل هذا التقدير والتدبير لا يصح إلا ممن يعلم الكائنات وأسبابها وغاياتها بل يعلم المعلومات بأسرها كلياتها وجزئياتها قديمها وحديثها ، عللها ومعلولها ، موجودها ومعدومها ، وذلك قوله { وأن الله بكل شيء عليم } فما أحسن هذا الترتيب! ثم خوّفهم وأطمعهم بقوله { اعلموا أن الله شديد العقاب } لمن انتهك محارمه { وأن الله غفور رحيم } لمن حافظ عليها . وذكر الوصفين في جانب الرحمة دليل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال « سبقت رحمتي غضبي » ثم قرر أن رسول الله ما كان مكلفاً إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم ، وفيه من الوعيد ما فيه ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ألا وإن الخمر لعن الله شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها » فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله إني كنت رجلاً هذه تجارتي واستفدت من بيع الخمر مالاً فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إن أنفقته في الحج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة ، إن الله لا يقبل إلا الطيب » ، وأنزل الله عز وجل تصديقاً لقول رسوله { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } وهو عام في حرام الأموال وحلالها وفاسد الأعمال وصالحها وسقيم المذاهب وصحيحها ورديء النفوس وجيدها ، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية ، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته ، والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبعد منه في العالم الجسماني ، لأن أثرهما في عالم الأرواح أبقى وأدوم وأجل وأعظم ، فلا تستبدل الخيبث يا إنسان بالطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، لأن كثرته في تحقيق قلة ، ولذته في نفس الأمر ذلة ، ونقده زيف وصرف العمر في طلبه حيف .
التأويل : { لا تحرموا } على أنفسكم بالاستمتاعات النفسانية { طيبات ما أحل الله لكم } دون سائر المخلوقات من المواهب الربانية { ولا تعتدوا } ولا تجاوزوا عن حد العبودية { وكلوا مما رزقكم الله } واجتهدوا في طلب ما خصكم به الله من تجلى جماله وجلاله { حلالاً طيباً } يحل فيكم بريئاً من سمات النقائص .

{ باللغو في أيمانكم } أن تحلفوا بآلائه عن التبرم من ولائه لملالة النفوس وكلالة القوي واستيلاء النفس وغلبة سلطان الهوى في أثناء المجاهدات وإعواز المشاهدات { ولكن يؤاخذكم } إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان { فكفارته } حينئذ { إطعام عشرة مساكين } الحواس الظاهرة والباطنة . { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وهم القلب والسر والروح والخفاء ، طعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف ، وأوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء يشغل الحواس العشرة بهذه الأمور ، أو يكسوهم لباس التقوى ، أو يحرر رقبة النفس من عبودية الحرص والهوى { فمن لم يجد } أمسك في اليوم الماضي عما عزم عليه وفي اليوم الحاضر عما لا يعنيه وفي اليوم المستقبل عن العود إليه . ومن لغو اليمين عند أرباب اليقين أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وحلاله أن يرزقه شيئاً من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضا لغو ، وفي مذهب التسليم سهو ولكن يرجى له عفو فلا يؤاخذه بمقاله لعلمه بضعف حاله والكمال في الثبات والاستقامة .
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
ومن اللغو في اليمين عندهم ما يجري على لسانهم في حال غلبات الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم :
وحقك ما نظرت إلى سواكا ... بعين مودّة حتى أراكا
فإن هذا ينافي التوحيد وأين في دار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار { ليس على الذين آمنوا } بالتقليد { وعملوا الصالحات } الأعمال البدنية الشرعية { جناح فيما طعموا } من المباحات { إذا ما اتقوا } الشبهة والإسراف { وآمنوا } بالتحقيق بعد التقليد { وعملوا الصالحات } الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه ومن تحليته بالأخلاق المضادة لهواه كالصدق والإخلاص والتوكل والتسليم وما عداه { ثم اتقوا } شرك الأنانية { وآمنوا } بهويته { ثم اتقوا } هذا الشرك وهو الفناء في الفناء { وأحسنوا } وهو البقاء به فافهم جعل الله البلاء لأهل الولاء كاللهب للذهب فقال { يا أيها الذين آمنوا } إيمان المحسنين الذين تجردوا عن ملاذ وشهواتها الحلال وأحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال { ليبلونكم الله } في أثناء السلوك بشيء من الصيد وهو المطالب النفسانية والمقاصد الدنيوية الدنية . { تناله أيديكم } يعني اللذات البدنية ورماحكم يعني اللذات الخيالية { فله عذاب } الردّ والصد { ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } يعني من أحرم لزيارة كعبة الوصال فعليه حسم الأطماع من الحرام والحلال { متعمداً } أي عالماً بما في الالتفات إلى غيره من المضار { مثل ما قتل من النعم } يجازي نفسه برياضة ومجاهدة يماثل ألمها تلك اللذة { ذوا عدل } هما القلب والروح يحكمان على مقدار الإسلام وعلى حسب قوّة السالك بتقليل الطعام والشراب ، أو ببذل المال أو بترك الجاه أو بالعزلة وضبط الحواس { هدياً بالغ الكعبة } خالصاً عن الخلق لأجل الحق { طعام مساكين } هم العقل والقلب والسر والروح والخفاء كانوا محرومين عن أغذيتهم الروحانية فيطعمهم المعاملات الروحانية من صدق التوجه والصبر على المكاره والفطام عن المألوفات ومن الشكر والرضا وغير ذلك .

{ أو عدل ذلك صياماً } هو الإمساك عن الأغيار والركون إلى الواحد القهار لتذوق النفس الأمارة وبال أمرها ، فإن كل هذه الأمور على خلاف طبعها { ذو انتقام } ينتقم من أحبائه بنقاب الدلال ، ومن أعدائه بحجاب الملام والملال . { أحل لكم صيد } بحر المعارف والكشوف تنتفعون بالواردات وتطعمون منها السائرين إلى الله من أهل الإرادات { صيد البر } ما سنح للسائرين من مطالب الدنيا { ما دمتم حرماً } أي في حال المحو لا في حال الصحو . رجعل الله الكعبة } كعبة الظاهر { قياماً } للعوام والخواص يستنجحون بها حاجاتهم الدنيوية والأخروية ، وكعبة القلب قواماً للخواص ولخواص الخواص يلوذون بها بدوام الذكر ونفي الخواطر حتى يعلموا أن لا موجود إلا هو ، ولا وجود إلا له { البيت الحرام } حرام أن يسكن في الكعبة القلب غيره والشهر الحرام هو أيام الطلب حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق . والهدي هو النفس البهيمية تساق إلى كعبة القلب مع قلائد أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ، فإذا وصل العبد إلى كعبة القلب شاهد بأنواره أن لله ما في السموات وما في الأرض . { شديد العقاب } يسدل الحجاب لغير الأحباء غفور رحيم للصادقين في الطلب بفتح الأبواب { إلا البلاغ } بالقال يتلو عليهم آياته وبالحال ويزكيهم { ما تبدون } بإقرار اللسان { وما تكتمون } من تصديق الجنان الخبيث ما يشغلك عن الله والطيب ما يوصلك إلى الله بل الطيب هو الله والخبيث ما سوى الله وفي ذلك كثرة والله أعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

القراآت : { ينزل } من الإنزال : أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب { شهادة } بالتنوين { آلله } بالمد : روح وزيد . الباقون بالإضافة . « استحق » على البناء للفاعل : حفص والأعشى في اختياره الباقون على البناء للمفعول . { الأولين } جمع الأول نقيض الآخر . سهل ويعقوب وحمزة خلف وعاصم غير حفص والأعشى في اختياره الباقون { الأوليان } تثنية الأولى الأحق { الغيوب } بكسر الغين حيث كان : حمزة وحماد وأبو بكر غير الشموني والبرجمي والخزاعي عن ابن فليح في { ساحر } وكذلك في هود والصف : حمزة وعلي وخلف الباقون { سحر } { هل تستطيع } بتاء الخطاب { ربك } بالنصب : علي والأعشى في اختياره ، الباقون بالياء وبالرفع { أن ينزل } بالتخفيف من الإنزال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون بالتشديد { منزلها } بالتشديد : عاصم وأبو جعفر نافع وابن عامر . الباقون بالتخفيف { فإني أعذبه } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع { وأمي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص { لي أن } بالفتح : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو . الباقون بالسكون { يوم ينفع } بفتح الميم : نافع . الباقون بالرفع .
الوقوف : { تسؤكم } ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف . { تبدلكم } ط { عنها } ط { حليم } ه { كافرين } ه { ولا حام } لا للاستدراك . { الكذب } ط { لا يعقلون } ه { آبائنا } ط { ولا يهتدون } ه { أنفسكم } ج لاحتمال الاستئناف أو الحال أي احفظوا أنفسكم غير مضرورين { إذا اهتديتم } ط { تعملون } ه { مصيبة الموت } ط { قربى } ز لأن وقوله { ولا نكتم } من جواب القسم . { شهادة } ط لمن قرأ { آلله } بالمد { الآثمين } ه { وما اعتدينا } ز لظاهر « إن » والوصل أجوز لتعلق « إذا » بقوله { وما اعتدينا } ز { الظالمين } ه { أيمانهم } ط لابتداء الأمر { واسمعوا } ط { الفاسقين } ه { أجبتم } ط { لنا } ط { الغيوب } ه { والدتك } لا لئلا يوهم أنه ظرف لا ذكر بل عامله محذوف والتقدير : واذكر إذا أيدتك { وكهلاً } ج { والإنجيل } ج { والأبرص بإذني } ج { الموتى } ج لأن « إذ » يجوز تعلقه تعلق به « إذ » الأول ، ويمكن تعلق كل واحد بمحذوف آخر لتفصيل النعم { سحر مبين } ه { وبرسولي } ط لاحتمال أن قالوا مستأنف أو عامل في { إذ أوحيت } { مسلمون } { من السماء } الأولى ط { مؤمنين } ه { الشاهدين } ه { وآية منك } ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض { الرازقين } ه { عليكم } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { العالمين } ه { من دون الله } ط { ما ليس لي } ط قد قيل وهو تعسف لأن المنكر لا يقسم به والقسم لا يجاب بالشرط بل الوقف على { بحق } { علمته } ط { نفسك } ط { الغيوب } ه { وربكم } ج على أن الواو للاستئناف أو الحال أي وقد كنت { فيهم } ط لأن عامل « لما » متأخر وفاء التعقيب دخلتها { عليهم } ط لأن الواو لا يحتمل الحال للتعميم في كل شيء { شهيد } ه { عبادك } ج لابتداء الشرط مع الواو { الحكيم } ه { صدقهم } ط لاختلاف الجملتين بلا عطف { أبداً } ط { عنه } ط { العظيم } ه { وما فيهن } ط { قدير } ه .

التفسير : « عن أنس أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال : فاسألوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به . فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال : يا نبي الله من أبي؟ فقال : أبوك حذافة بن قيس وقال سراقة بن مالك » - ويروى عكاشة بن محصن - يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله إن قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لتركتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه . وقام آخر فقال : يا رسول الله أين أبي؟ فقال : في النار . ولما اشتد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً . فأنزل الله هذه الآية . فهي عائدة إلى قوله { ما على الرسول إلا البلاغ } كأنه قال : ما آتاكم الرسول فخذوه ولا تخوضوا في غيره فلعله يجيبكم بما شق عليكم . وأيضاً كان المشركون يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر كقوله حاكياً عنهم { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى تمام الآية . وكان لبعض المسلمين أيضاً ميل إلى ظهورها فمنعوا ذلك لأن طلب الزيادة بعد ثبوت الرسالة من باب التحكم ، ولعلها لو ظهرت ثم أنكرت استحق المنكر العقاب العاجل ، ويحتمل أن يكون وجه النظم قوله { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } [ النور : 29 ] فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أشياء مخفية إن تبد لكم تسؤكم . وللنحويين في منع صرف أشياء وجوه ، فقال الخليل وسيبويه : أصلها « شياء » على وزن « حمراء » فهو اسم جمع لشيء استثقلوا الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة التي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فصار وزنه « لفعاء » . وقال الفراء : أصلها « أفعلاء » بناء على أن « شيا » مخفف شيء يقال « هين » في « هين » وقد يجمع « فيعل » على « أفعلاء » كنبي وأنبياء ، لكنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فحذفوا اللام فبقي « أشياء » على وزن « أفعاء » .

وقال الكسائي : وزنها « أفعال » ومنع الصرف تشبيهاً له بحمراء . ولا يلزم منه منع صرف « أبناء » و « أسماء » لأن ما ثبت على خلاف الدليل لا يلزم اطراده ولكنه يكون مقصوراً على المسموع . والحاصل أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتب عليه تكاليف شاقة صعبة . فالذي سأل عن أبيه لم يأمن أن يلحق بغير أبيه فيفتضح ، والسائل عن الحج كاد أن يوجبه في كل عام وقد قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أعظّم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسالته » وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم ، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه ، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى فاقبلوه . وقال أبو ثعلبة إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها . ثم لما رتب المساءة على السؤال ذكر أن الإبداء سيكون لأن الوحي غير منقطع فقال { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن } أي في زمان الوحي لأن الرسول بين أظهركم { تبد لكم } تلك الأمور أو التكاليف . فالحالصل أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ساءتهم . وقيل : السؤال قسمان : أحدهما السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة فنهى عنه بقوله { لا تسألوا } والثاني السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي وهذا السؤال غير مذموم فأشار إلى هذا القسم بقوله : { وإن تسألوا } رفعاً للحرج وتميزاً لهذا القسم من الأوّل . وإنما حسن عود الضمير في « عنها » إلى الأشياء وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين ، لأن كلاً منهما مسؤول عنه في الجملة . وقيل : المعنى وإن تسألوا عن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا تبد لكم . والمراد أن تطلب الرخصة في السؤال أولاً ثم يسأل { عفا الله عنها } أي عما سلف من مسألتكم وإغضابكم الرسول فلا تعودوا « إليها ، أو المراد بالعفو أنه تعالى ما أظهر عند تلك المسائل ما يشق عليهم من التكاليف . وقيل : إن الجملة صفة أخرى للأشياء كما أن الجملة الشرطية والمعطوف عليها صفة لها . والمعنى لا تسألوا عن أشياء أمسك الله عنها وكف عن ذكرها كما جاء في الحديث » « عفوت عن صدقة الخيل والرقيق » أي خفف عنكم بإسقاطها { قد سألها } يعني المسألة التي دل عليها لا تسألوا { قوم من قبلكم } سأل الناقة قوم صالح فعقروها ، وسأل الرؤية قوم موسى عليه السلام فصار وبالاً عليهم ، وسأل المائدة قوم عيسى عليه السلام فكفروا بها ، ويحتمل أن يعود الضمير في سألها إلى الأشياء فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أحوال الأشياء والمتقدمين سألوا نفس الأشياء كالناقة والمائدة والرؤية فلما اختلفت الأسئلة اختلفت العبارة إلا أن كل واحد من القسمين يشتركان في وصف هو الخوض في الفضول والشروع فيما لا يعني فتوجه الذم عليهما جميعاً .

=========

ج12. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


ولما منعهم عن أمور تكلفوا البحث عنها ذم سيرة قوم تكلفوا التزام أمور لم يؤمروا بها . ومعنى { ما جعل } ما حكم بذلك ولا شرع . والبحيرة « فعيلة » من البحر الشق . وبحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول . قال أبو عبيدة والزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة ومنعوا ركوبها وسيبوها لآلهتهم لا تنحر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد عن ماء ولا تردّ عن مرعى ولا ينتفع بها حتى لو لقيها المعي لا يركبها تحرجاً . وأما السائبة فإنها فاعلة من « ساب » إذا جرى على وجه الأرض . يقال ساب الماء وسابت الحية ، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت ، قال أبو عبيدة : كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيره فكان بمنزلة البحيرة في أحكامها . وقيل : هي أم البحيرة كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت ، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعاً وبحرت أذن بنتها الأخيرة وكانت بمنزلة أمها في أنها سائبة . وقال ابن عباس : السائبة هي التي تسيب الأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل . وقيل هي العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا ميراث وأما الوصيلة فإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، إن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم ، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم . فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها بغيرها أو بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها . وأما الحامي فيقال : حماه يحميه إذا حفظه . قال السدي : هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى وقيل : إن الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت . فإن قيل إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فام لا يجوز إعتاق البهائم من الذبح والإيلام؟ فالجواب أن الإنسان خلق لعبادة الله تعالى فإذا أزيل الرق عنه كان ذلك معيناً له على ما خلق لأجله ، أما العجم من الحيونات فإنما خلقت لمنافع المكلفين فتركها يقتضي تفويت كمالها عليها .

وأيضاً الإنسان إذا أعتق قدر على تحصيل المنافع ودفع المضار بخلاف البهائم فإنها عاجزة عن جذب الملائم ودفع المنافي في الأغلب ، فإعناقها يفضي إلى ضياعها فظهر الفرق . { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحى وأصحابه كان قد ملك مكة شرفها الله وكان أوّل من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه « لقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه » والقصب الأمعاء هذا حال رؤسائهم { وأكثرهم لا يعقلون } يعني العوام والأتباع . ثم رد على أهل التقليد بقوله { وإذا قيل لهم } الآية وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة . فنفى العقل عنهم هناك والعلم ههنا مع نفي الاهتداء في الموضعين وفيه دليل على أن الاقتداء لا يجوز إلا بالعاقل العالم المهتدي لابتناء قوله على الحجة والدليل لا على التقليد والأضاليل . قال أهل البرهان : العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا يوصف الله تعالى بالعلم ولا يوصف بالعقل ، وكان دعواهم ههنا أبلغ لقولهم { حسبنا ما وجدنا } فناسب أن ينفي عنهم العلم الذي هو أبلغ . ثم ذكر أن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل أصروا على جهالتهم وضلالتهم فلا تبالوا بهم أيها المؤمنون ، فإن جهلهم لا يضركم إذا كنتم منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه . تقول العرب : عليك زيداً وعندك عمراً يعدّونهما إلى المفعول كأنه قيل : خذ زيداً فقد علاك أي أشرف عليك وحضرك عمرو فخذه . وليس المراد في عليك أنه حرف جر مع مجروره متعلق بمحذوف ، بل الجار والمجرور معاً منقول الى معنى الفعل نقل الأعلام ولهذا سمي أسم فعل . فإن قيل : ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب ، فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي وهذا خطب أبو بكر فقال : إنكم تقرؤن هذه الآية وتضعونها في غير موضوعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب » وعن عبد الله بن المبارك أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى { عليكم أنفسكم } احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات { لا يضركم } ضلال { من ضل إذا اهتديتم } فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك }

[ النساء : 84 ] وقيل : إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الأنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله . وكان ابن شبرمة يقول : من فرَّ من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر . وقيل : إنها مختصة بالكفار الذين علم الله أنه لا ينفعهم الوعظ ، يؤكده ما روي في سبب النزول عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقر مجوس هجر بالجزية قال منافقو العرب : عجباً من محمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلا نراه إلا قد قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب فأنزل الله تعالى الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى والحق . وقيل : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة فنزلت تسلية لهم كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] وعن ابن مسعود أن الآية قرئت عنده فقال : إن هذا في آخر الزمان . ومثله ما روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيراً سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : « ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام ، وإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله » وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ولاموه فنزلت .
ثم إنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله { عليكم أنفسكم } أمر بحفظ المال . عن ابن عباس أن تميماً الداري وأخاه عدياً - وكانا نصرانيين - ، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص - وكان مسلماً مهاجر - خرجوا للتجارة . فلما قدموا الشأم مرض بديل فكتب كتاباً فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك ، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات . ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت . ومعنى { شهادة بينكم } شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر . وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند النزاع { وإذا حضر } ظرف للشهادة { حين الوصية } بدل منه . وفي هذا دليل على أن الوصية مما لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد وهما متلازمان .

وارتفع { اثنان } على أنه قام مقام الخبرية أي شهادة بينكم أن يشهد اثنان . وفي قوله اثنين ، أو على أنه فاعل فعل محذوف والتقدير شهادة ما بينكم أن يشهد اثنان . وفي قوله { منكم } و { من غيركم } قولان : فعن الحسن والزهري وعليه جمهور الفقهاء أن { منكم } أي من أقاربكم و { من غيركم } أي من الأجانب . والمعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم فاستشهدوا على الوصية أجنبيين . وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بحال الميت وأرأف به . وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن جريح وابن سرين أن { منكم } أي من أهل ملتكم و { من غيركم } أي من كافر كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن . قال الشافعي : مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحد من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان والياً عليها فأخبراه بالواقعة . فقال أبو موسى : هذا أمر لم يقع بعد النبي صلىلله عليه وسلم فحلفهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر بالله العظيم أنهما ما كذبا وما بدلا وأجاز شهادتهما . والذاهبون إلى هذا القول احتجوا بأن الخطاب في { منكم } لجميع المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين ، وبأن هذين الشاهدين لو كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضاً بالاتفاق ، وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه ألبته ، وبأن الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيين وبأن أبا موسى قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وبأن الضرورات تبيح المحظورات كالتيمم والإفطار وأكل الميتة ، والمسلم إذا قرب أجله ولم يجد مسلماً ولا تقبل شهادة الكفار ضاع أكثر مهماته فقد يكون عليه زكوات وكفارات وديون ولديه ودائع وله مصالح ولمثل هذه الضرورة جوّزنا شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة . وللأولين أن يجيبوا بأن حذف المضاف غير عزيز وبأن ذكر السفر ليس لأجل اشتراط قبول الشهادة ولكن لأجل أن الغالب في السفر فقدان الأقارب ووجود الأجانب ، وبأن التحليف مشروط بالريبة وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما ، وبأن سبب النزول لا يلزم أن ينطبق على الحكم حذو القذة بالقذة . وبأن قصة أبي موسى خبر الواحد ، وبأن الضرورة كانت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذرهم في السفر غالباً . ومما يصلح أن يكون مؤكداً لهذه الآية وإن لم يجز أن يكون ناسخاً لها عند من يرى أن المائدة من آخر القرآن نزولاً قوله تعالى { وأشهدوا ذوى عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] وليس المراد من العدالة الاحتراز عن الكذب في النطق فقط بل في الدين والاعتقاد ، ولا كذب أعظم من الفريه على الله تعالى وعلى رسله .

وإنما تقبل شهادة أهل البدع والأهواء من هذه الأمة احتشاماً لكلمة الإسلام . وموقع { تحبسونهما } أي توقفونهما وتصيرونهما استئناف كأنه قيل : فكيف نعمل إن ارتبنا؟ فقيل { تحبسونهما من بعد الصلاة } قال ابن عباس : من بعد صلاة دينهما . وقال عامة المفسرين : من بعد صلاة العصر لأن هذا الوقت كان معروفاً عندهم بالتحليف بعده ، ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بعد صلاة العصر ، ولأن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله تعالى فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب ، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها . وقال الحسن : المراد بعد الظهر وبعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وقيل : بعد أي صلاة كانت لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان ، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر ، وفي بيت المقدس عند الصخرة ، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد . وقد تغلظ بالتكرير والتعديل كما في القسامة واللعان أو بزيادة الأسماء والصفات ، وقال أبو حنيفة : يحلف من غير التغليظ بزمان أو مكان . ولا يخفى أن قول الشافعي أوفق للآية . والمقسم عليه قوله { لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى } وقوله { إن ارتبتم } اعتراض ، والضمير في { به } ، للقسم وفي كان للمقسم له يعني لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من الدنيا ولو كان من يقسم له قريباً منا ، أرادوا أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً كقوله { شهداء لله ولو على أنفسكم } وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بينهم أكمل { ولا نكتم شهادة الله } [ النساء : 135 ] التي أمر بحفظها وتعظيمها وأدائها { إنا إذاً لمن الآثمين } أي إذا كتمناها كنا من الآثمين . ونقل عن الشعبي أنه وقف على قول الله عز وجل { شهادة } ثم ابتدأ { الله } بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه . وروى عنه بغير مدّ على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول : الله لقد كان كذا والمعنى بالله { فإن عثر } قال الليث : عثر الرجل يعثر عثوراً إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وقريب منه العثار لأن العاثر لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه . والمعنى فإن حصل الإطلاع على أنهما استحقا إثماً - وهو كناية عن الخيانة والحنث في الحلف - { فآخران } خبر مبتدأ محذوف ، أو فاعل فعل محذوف ، أو صفة مبتدأ محذوف أي فالشاهدان أو فليشهد أو فشاهدان آخران { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } قال في الكشاف : أي الإثم ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته .

وفي التفسير الكبير أنه المال . وإنما وصف موالي الميت بذلك لأنه أخذ مالهم وكل من أخذ ماله غيره فقد حاول ذلك الغير أن يكون تعلقه بذلك المال مستعلياً على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال . وارتفع { الأوليان } على أنهما خبر مبتدأ محذوف فكأنه قيل : ومن الآخران؟ فقيل : هما الأوليان ، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في { يقومان } أو من { آخران } ويجوز أن يرتفع ب { استحق } أي من الذين استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال - قاله في الكشاف - ومعنى الأوليان الأقربان إلى الميت أو الأوليان الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، أو الأحقان باليمين إما على تقدير الرد وذلك عند الشافعي وكل من يرى رد اليمين على المدعي ، وإما لانقلاب القضية عند من لا يرى ذلك كأبي حنيفة وأصحابه ، فإن من أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادّعى الدين أوّلاً لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه . وفي هذه القصة ادعى الوصيان أن الميت باع منهما الإناء ، والورثة أنكروا فكان اليمين حقاً لهم . ومن قرأ { الأوّلين } على الجمع فعلى أنه نعت ل { الذين استحق عليهم } أو منصوب على المدح . ومعنى الأوّلية التقدم على الأجانب في الشهادة أو التقدم في الذكر في قوله { يا أيها الذين آمنوا } وكذلك { اثنان ذوا عدل منكم } ذكرا قبل قوله قرأ { أو آخران من غيركم } ومن قرأ { استحق } على البناء للفاعل { عليهم الأوليان } فقد قال في الكشاف : معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين . وفي التفسير الكبير أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصية ، ولما خانا في مال الوصية صح أن يقال : إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان . روي أنه لما نزلت الآية الأولى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو إنه لم يجد منا خيانة في هذا المال فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما وكتما الإناء مدة ، ثم باعاه فوجد بمكة . وقيل : لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك ورثته فطلبوه منهما فقالا : كنا قد اشتريناه . فقالوا : ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئاً فقلتم لا؟ فقالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر وكتمنا . فرفعوا القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { فإن عثر على أنهما استحقا } الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة فحلفا بالله بعد العصر { لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا } في طلب هذا المال وفي نسبتهم الى الكذب والخيانة ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء اليهما وإلى أولياء الميت .

وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه : صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب الى الله تعالى . وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فقال : حلفت كذباً وقد بعت الإناء أنا وصاحبي بألف وقسمنا الثمن ، ثم دفع خمسمائة من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى أولياء الميت { ذلك } الحكم الذي شرعناه والطريق الذي نهجناه أقرب إلى { أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي كما هو في الواقع { أو يخافوا أن تردّ } في مثل هذه القضية { أيمان } على الورثة { بعد أيمانهم } وهذا تفسير من يرى ردّ اليمين ، وأما من لا يرى ذلك فالمعنى عنده أن تكرّ أيمان شهود آخرين لانقلاب المدعى عليه مدعياً وعلى التقديرين يظهر كذبهم . والحاصل أن هذا الحكم يصير باعثاً للشهود على أداء حق الشهادة للداعي أو الصارف { واتقوا الله } في الأيمان { واسمعوا } مواعظه سماع قبول { والله لا يهدي القوم الفاسقين } الخارجين عن مناهج شرائعه وأحكامه وفيه من الوعيد ما فيه . قال المفسرون : هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً . وروى الواحدي في البسيط عن عمر بن الخطاب أن هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام ، ولهذا ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الحكم هذه الآية منسوخ .
ثم إنه سبحانه ختم الأحكام بوصف أحوال القيامة وذكر بعض ما سيجري هناك من الخطاب والعتاب جرياً على عادته في هذا الكتاب من خلط التكاليف بالإلهيات والنبوّات وأحوال المعاد فقال { يوم يجمع الله الرسل } قال الزجاج : تقديره واتقوا الله يوم كذا لا على أنه ظرف لأنهم غير مأمورين بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على أنه بدل أشتمال من اسم الله ، ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله { لا يهدي } أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذٍ ، أو منصوباً بإضمار « اذكر » ، أو ظرفاً لما يجيء بعده وهو { قالوا } وعلى هذين الوجهين تكون الآية منقطعة عما قبلها . و « ماذا » منصوب ب « أجبتم » ولكن انتصاب المصدر على معنى أيّ إجابة أجبتم ، ولو أريد الجواب لقيل : بماذا أجبتم . وفائدة السؤال توبيخ قومهم كما كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد . ثم ظاهر قوله { لا علم لنا } يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم ، فالجمع بين هذا وبين قوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] الآية مشكل . فقال جمع من المفسرين : إن القيامة زلازل وأهوالاً تزيل العقول؛ فالأنبياء عندها ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون : لا علم لنا ، فإذا عادت إليهم عقولهم شهدوا للأمم .

ولا يرد عليه قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 31 ] { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] لأن مواقف القيامة مختلفة ، ولأن عدم الخوف من العاقبة لا ينافي الحيرة والدهشة أوّلاً . وقال آخرون المراد منه المبالغة في توبيخ الكفرة فإن ذلك هو المقصود من السؤال كما يقول الواحد لغيره : ما تقول في فلان؟ فيقول : أنت أعلم به مني فكأنك قلت : لا يحتاج فيه الى شهادة لظهوره . وفيه مع التوبيخ إظهار لتشكي الأنبياء ممن كذبوهم وعادوهم . وقال ابن عباس : نفوا العلم عن أنفسهم عند علام الغيوب ليعلم أن علمهم هناك كلا علم . وقيل : المراد نفي العلم بخاتمة أحوالهم وما كان منهم بعد وفاتهم وإنما الأمور بخواتيمها . وقال في التفسير الكبير : إن الذي عرفوه منهم في الدنيا كان مبنياً على ظاهر أحوالهم كما قال : نحن نحكم بالظاهر وكان ظناً غالباً والأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأمور وبواطنها فلهذا نفوا العلم فإن الظن لا عبرة به في القيامة من أن السكوت وتفويض الأمر إلى الأعلم الأعدل أقرب إلى الأدب .
وقرىء { علام الغيوب } بالنصب على أن الكلام قد تم عند قوله { أنت } أي أنت الموصوف بالجلال والكبرياء ، ثم نصب { علام الغيوب } على الاختصاص أو على النداء . ثم عدّد أنواع نعمه على عيسى عليه السلام واحدة فواحدة تنبيهاً على أنه عبد وليس بإله وتوبيخاً للمتمردين من الأمم ، وأولى الأمم بذلك النصارى الطاعنون في ذات الله ، سبحانه باتخاذ الصاحبة والولد . وموضع { إذ قال } رفع بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله أو نصب بإضمار « اذكر » ، أو هو بدل من { يوم يجمع } وإنما ذكر القول بلفظ الماضي دلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت كما يقال : الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم ، أو ورد على الحكاية كقول الرجل لصاحبه : كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا كذا . ومحل { يا عيسى } مضموم على أنه منادى مفرد معرفة ، أو مفتوح لأنه وصف بابن مضاف إلى علم وهو المختار للتخفيف وكثرة الاستعمال { نعمتي عليك } أراد الجمع ووحدت لأنه مضاف يصلح للجنس . وإنما قال : { وعلى والدتك } لأن النعمة على الولد نعمة على أبويه ، ولأن مكارم الأخلاق دليل على طيب الأعراق . { إذ أيدتك } بدل { من نعمتي } أي قوّيتك { بروح القدس } أي بجبريل والقدس هو الله كأنه أضافه إلى نفسه تعظيماً له ، أو بالروح الطاهرة المقدسة وقد تقدم في البقرة { تكلم الناس } حكاية حال ماضية { في المهد وكهلاً } في هاتين الحالتين من غير تفاوت { وإذ علمتك الكتاب } الخط أو جنس الكتب { والحكمة } النظرية والعلمية { والتوراة والإنجيل } يعني الإحاطة بالأسرار الإلهية بعد العلوم المتداولة { فتنفخ فيها } الضمير للكاف لا للهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء ، وكذلك الضمير في { فتكون } والكاف مؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي كهيئة الطير ومذكر في الظاهر فلهذا عاد الضمير إليه مذكراً تارة كما في آل عمران ، ومؤنثاً أخرى كما في هذه السورة .

وكرر { بإذني } أي بتسهيلي ليعلم أن الكل بأقدار الله تعالى وتمكينه وإظهاره الخوارق على يديه وإلا فهو عبد كسائر عبيده . { وإذ كففت } يروى أنه لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى برفعه إلى السماء . { إن هذا إلا سحر مبين } من قرأ بغير ألف أشار إلى ما جاء به أو أراد أنه ذو سحر فأطلق عليه الحدث مبالغة ، ومن قرأ بالألف أشار الى الرجل . واللام في { البينات } يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن يراد بها المعجزات المذكورة . وذكر قول الكفار في حقه { إن هذا إلا سحر مبين } يحتمل ان يكون من تمام القصة استطراداً ، ويمكن أن يراد بذلك تعداد النعم أيضا لأن كل ذي نعمة محسود ، فطعن الكفار فيه يدل على علو شأنه وسموّ مكانه .
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ولابتهاجه بهذه النعم الجسام والمنن العظام كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد يقول مع كل يوم رزقه ، لم يكن له بيت فيخرب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات .
{ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا } إن كانوا أنبياء فظاهر وإلا فالوحي بمعنى الإلهام كقوله { وأوحى ربك إلى النحل } [ النحل : 68 ] { وأوحينا إلى أم موسى } [ القصص : 7 ] وهذا أيضاً من جملة النعم لأن كون الإنسان مقبول القول عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى . وقدم الإيمان على الإسلام ليعلم أنهم آمنوا بقلوبهم . وانقادوا بظواهرهم { هل يستطيع ربك } من قرأ بالتاء وبالنصب فظاهر والمراد هل تستطيع سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله؟ ومن قرأ بالياء وبالرفع فمشكل لأنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا آمنا فكيف يتصوّر مع الإيمان شك في اقتدار الله تعالى؟ وأجيب بوجوه منها : أن حكاية الإيمان عنهم لا يوجب كمالهم وإخلاصهم في ذلك ولهذا قال لهم عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ومنها أنهم طلبوا مزيد الإيقان والطمأنينة ولهذا قالوا { وتطمئن قلوبنا } ومنها أنهم أرادوا هل هو جائز في الحكمة أم لا ، وهذا على أصول المعتزلة من وجوب رعاية الأصلح ، أو أرادوا هل قضي بذلك وعلم وقوعه أم لا ، فإن خلاف معلومه غير مقدور وهذا عند الأشاعرة . ومنها قول السدّي إن السين زائدة وكذا التاء أي هل يطيع ربك؟ ومنها لعل المراد بالرب جبريل لأنه كان يربيه . ومنها أن المراد بالاستفهام التقرير كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟ يريد أن ذلك أمر جلي لا يجوز للعاقل أن يشك فيه .

قال الزجاج : المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها . وذلك أنها لا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها طعام فإذا لم يكن عليها طعام فهي خوان . وقال ابن الأنباري : هي من مادة إذا أعطاه كأنها تعطي من تقدم إليه . وقال أبو عبيدة : هي بمعنى « مفعولة » مثل { عشية راضية } [ الحاقة : 21 ] أي مرضية كأن صاحبها أعطاها الحاضرين . قال عيسى { اتقوا الله } في تعيين المعجزة فإنه كالتحكم . وأيضاً اقتراح معجزة بعد ظهور معجزات كثيرة تعنت ، أو أمرهم بالتقوى ليتوسلوا بها إلى المطلوب { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 3 ، 2 ] فأجاب الحواريون بأنا لا نطلب هذه المعجزة بمجردها ولكنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا ولا نجد طعاماً آخر - يروى أنهم سألوها في مفازة على غير ماء ولا طعام - وأن نزداد يقيناً وعرفاناً وطمأنينة فإن التي شاهدناها منك معجزات أرضية وهذه سماوية فتكون أعجب وأغرب ، وأن نعلم صدقك في دعوى النبوّة أو فيما وعدتنا وذلك أنه كان قال لهم : صوموا ثلاثين يوماً ، وإذا تم صومكم فكل ما سألتموه الله تعالى فإنه يعطيكم . وإذا شاهدنا المعجزة كنا عليها من الشاهدين للذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، أو نكون من الشاهدين لله تعالى بالقدرة ولك بالنبوة { تكون لنا عيداً } صفة للمائدة أو استئناف . وقرىء بالجزم جواباً للأمر . كان نزولها يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً . والعيد ما يعود إليك في وقت معلوم ومنه العيد لأنه يعود كل سنة بفرح جديد { لأولنا وآخرنا } بدل من لنا بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا ، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أوّلهم ، أو للمقدّمين منا والأتباع . وقرىء { لأولانا وأخرانا } بمعنى الأمة أو الجماعة . فقول عيسى { ربنا } ابتداء بذكر الحق { وأنزل علينا } انتقال من الذات إلى الصفات ، وقوله { تكون لنا عيداً } إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها بل من حيث إنها صادرة عن المنعم . وقوله { وآية منك } إشارة إلى كون المائدة دليلاً لأصحاب النظر والاستدلال وقوله { وارزقنا } إشارة إلى حصة النفس فالحواريون قدّموا غرض النفس وأخروا الأغراض الدينية ، وأن عيسى بدأ بالأشراف حتى انتهى إلى الأخس ثم قال { وأنت خير الرازقين } وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ، وعند هذا يظهر التفاوت بين النفوس الكاملة والناقصة والمشرقة والمظلمة . اللهم اجعلنا من أهل الكمال والإشراق بعميم فضلك وجسيم طولك { منزلها } بالتخفيف والتشديد بمعنى . وقيل : بالتشديد للتكثير وبالتخفيف مرة واحدة { عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } قال ابن عباس : يريد مسخهم خنازير . وقيل : قردة . وقيل جنساً من العذاب لا يكون مؤخراً إلى الآخرة . { وعذاباً } نصب على المصدر أي تعذيباً والضمير في { لا أعذبه } للمصدر ، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء في الموضعين ، فقيل : أعذبه بعذاب لا أعذب به أحداً ، وأراد بالعالمين عالمي زمانهم .

واختلف في أن عيسى عليه السلام سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان أضافها إلى نفسه في الظاهر وكلاهما محتمل . أما نزولها فقد قال مجاهد والحسن : إن المائدة ما نزلت بل القوم لما سمعوا العذاب استغفروا وقالوا : لا نريدها وأكدوا هذا القول بأنه وصف المائدة بكونها عيداً لأولهم وآخرهم ، فلو نزلت لبقي العيد إلى يوم القيامة . وقال جمهور المفسرين : إنها نزلت لأنه سبحانه وعد إنزالها بقوله { إني منزلها عليكم } ثم إن يوم نزولها كان عيداً لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم . روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس الصوف ثم قال : اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة . ثم قال لهم : ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم الله ويأكل منها ، فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك . فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين . فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسماً ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ولكن شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله . فقال الحواريون : يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها : عودي كما كنت فعادت مشوية . ثم طارت المائدة ثم عصوا الله بعدها فمسخوا قردة وخنازير . وقيل إن عيسى عليه السلام كان شرط عليهم أن لا يسرفوا في الأكل ولا يدخروا فعصوا وادخروا فمسخوا ، { وإذ قال الله } معطوف على مثله . والصحيح أن هذا القول أيضاً يوم القيامة لقوله عقيب ذلك { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقيل : هذا عند رفع عيسى عليه السلام نظراً إلى أن « إذ » للماضي وقد مر توجيه ذلك . { أأنت قلت } استفهام بطريق الإنكار والغرض منه توبيخ النصارى . قال بعض المشككين : إن أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى عليه السلام وأمه مع القول بنفي إلهية الله تعالى . وأجيب بأن الإله هو الخالق وأنهم يعتقدون أن خالق المعجزات والكرامات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى ومريم وليس لقدرة الله سبحانه في ذلك مدخل ، فبهذا التأويل صح ما حكي عنهم .

وأقول : يشبه أن يكون المراد بقوله { من دون الله } أي بعد الله فيكون التوبيخ على التثليث . أو المراد أنه لما دل البرهان على نفي تعدد الإله فمن قال بإلهية عيسى أو أمه لزمه القول بنفي المعبود الحق تعالى عن ذلك ولهذا قال عيسى { سبحانك } أي أنزهك تنزيهاً من أن يكون لك شريك . ثم لم يجب بأني قلت أو ما قلت لأن ذلك يجري مجرى الطهارة والتبرئة بل أجاب بقوله { ما يكون } أي ما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله إظهاراً لغاية الخضوع والاستكانة . ثم فوّض الأمر إلى علمه المحيط بالكل فقال { أن كنت قلته فقد علمته } ثم علل ذلك بقوله { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك . وذكر النفس ثانياً لأجل المشاكلة وهو من فصيح الكلام ، أو تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي ، أو تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك ، أو تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل - عبارات للمفسرين - ثم أكد ما ذكر بقوله { إنك أنت علام الغيوب } « أن » في قوله { أن اعبدوا الله } إن جعلتها مفسرة فالمفسر إما فعل القول أو فعل الأمر ولا وجه لكليهما . أما فعل القول فيحكى بعده الكلام بلا « أن » فيقال : مما قلت لهم إلا اعبدوا الله اللهم إلا أن يقال : إن المضاف محذوف والتقدير ما أمرتني بقوله ، فيكون التفسير الصريح القول المقدر ، وصريح القول المقدّر كالفعل المؤوّل بالقول في عدم الظهور حتى يجوز توسيط « أن » . وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله ، فلو فسرته ب { اعبدوا الله } لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها مصدرية عند من يجوّز دخولها على الطلبية ، فإن كان بدلاً من { ما أمرتني } والمبدل في حكم السقوط كان المعنى ما قلت لهم إلا عبادته ولا يستقيم ، لأن العبادة لا تقال ، وإن جعلته بدلاً من الهاء في { به } لم يصح أيضاً لأنه يؤل المعنى بعد طرح المبدل إلى قولك إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله فيبقى الموصول بلا عائد . فإذن الوجه أن يحمل فعل القول على معناه فيكون أصل المعنى ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم إلا أنه وضع القول موضع الأمر رعاية للأدب كيلا يجعل نفسه وربه آمرين ودل على الأصل بذكر « أن » المفسرة . قال في الكشاف : ويجوز أن تكون « أن » مصدرية عطف بيان للهاء لا بدلاً ، وحينئذ يبقى العائد بحاله { وكنت عليهم شهيداً } كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من التدين بما يوجب التفكير { ما دمت فيهم } مدة دوامي فيما بينهم { فلما توفيتني } بالرفع إلى السماء { كنت أنت الرقيب } الحافظ { عليهم } المراقب لأحوالهم { وأنت على كل شيء شهيد } من الشهادة أو من الشهود بمعنى الحضور .

{ وإن تغفر لهم } فيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى هذا القول والله تعالى لا يغفر الشرك؟ والجواب أن قوله لعيسى عليه السلام { أأنت قلت الناس } مبني على أن قوماً من النصارى حكوا عنه هذا الكلام ، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافراً بل يكون مذنباً فقط ، ولو سلم أنه أشرك فغفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة لأن العقاب حق الله على المذنب وليس في إسقاطه على الله تعالى مضرة ، بل كلما كان الجرم أعظم كان العفو أحسن ، إلا أن الدليل السمعي في شرعنا دل على أنه لا يكون فلعل هذا الدليل السمعي لم يكن موجوداً في شرع عيسى عليه السلام ، أو لعل عيسى جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه . أما من زعم أن هذه المناظرة والمحاورة إنما كانت عند رفعه إلى السماء فلا إشكال أصلاً لأن المراد إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك ، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم { فإنك أنت العزيز } القادر على ما تريد { الحكيم } في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك ، وفي مصحف عبد الله { فإنك أنت الغفور الرحيم } وضعفه العلماء لأن ذلك يشعر بكونه شفيعاً لهم لا على تفويض الأمر بالكلية إلى حكمه تعالى ، والمقام هذا لا ذاك ، وعن بعضهم أن ذكر الغفور والرحيم يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة ، وأما العزة والحكمة فلا يوجبان إلا التعالي عن جميع جهات الاستحقاق ، فحصول المغفرة بعد ثبوت هذا الاستغناء والعزة يكون أدل على كمال العفو والرحمة فإن العفو عند المقدرة . قال بعض العلماء : في الآية نوع شفاعة من عيسى عليه السلام لفساق أمته ، فلأن يثبت ذلك من محمد صلى الله عليه وسلم لفساق أمته أولى { هذا يوم ينفع } من قرأ بالرفع فظاهر وأنه في تقدير الإضافة أي هذا يوم منفعة الصادقين ، ومن قرأ بالنصب فإما على أنه ظرف ل { قال } ، وإما على أن هذا مبتدأ والظرف خبر أي هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع في هذا اليوم كقولك : القتال يوم السبت . وقال الفراء : يوم أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في « يومئذ » وخطأه البصريون وقالوا : إنما يبنى الظرف إذا أضيف إلى المبنى كالماضي في قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا ...

أو مثل « لا » في قوله تعالى { يوم لا تملك } [ الانفطار : 19 ] وأجمعوا على أن هذا اليوم يوم القيامة . والمراد أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة كما قال قتادة : متكلمان تكلما يوم القيامة : أما إبليس فقال { إن الله وعدكم الحق } [ إبراهيم : 22 ] فصدق وكان قبل ذلك كاذباً فلم ينفعه ، وأما عيسى فكان صادقاً في الدنيا وفي الآخرة فنفعه صدقه . وفي هذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } { رضي الله عنهم ورضوا عنه } هما متلازمان لأن رضا الله عن العبد في رعاية وظائف العبودية { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] وإذا صحح الإنسان نسبة العبودية علم أن العبد لا يكون له إرادة واختيار فتكون إرادته مغمورة في إرادة ربه . { ذلك الفوز العظيم } إشارة إلى جميع المذكورات أو إلى الجزء الأشرف الأقرب وهو الرضوان { ما فيهن } لم يقل « ومن فيهن » ليكون أدل على العموم ، ولينبه على أن عقول ذوي العقول وعلوم أرباب العلوم بالنسبة إلى علمه كلا علم ، وإنما هم وغيرهم تحت قهره وتسخيره سواء . واعلم أنه سبحانه افتتح السورة بقوله { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] وهو الشريعة والبداية وختم السورة بهذه الآية الدالة على فناء الكل في جنب جلاله وكبريائه وهو الحقيقة والنهاية ، فما أحسن هذا النسق! وأيضاً في السورة بيان الشرائع والأحكام الكثيرة والمناظرة مع اليهود والنصارى ، فهذا الاختتام ذكر فيه أن سبحانه مالك لجميع الممكنات والكائنات موجد لجميع الأرواح والأجساد ليصح التكليف على أيّ وجه أراد ، وليكون رداً على اليهود بحكم المالكية في نسخ شريعة موسى ووضع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وليكون رداً على النصارى في أن عيسى ومريم عليهما السلام داخلان في المخلوقات موجودان بإيجاد الله ولا معنى للعبودية إلا هذا . وأيضاً لما أخبر عن فناء وجودهم المجازي لم يبق هناك مجيب فأجاب بنفسه { لله ملك السموات والأرض } كقوله { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ولعل في هذه الخاتمة من الأسرار أضعاف ما عثرنا عليه والله تعالى أعلم بأسرار كتابه .
التأويل : أخبر عن كثرة السؤال أنها تورث الملال وذلك أن علوم القال غير علوم الحال ، والصنف الأول يحمد فيه السؤال والثاني يذم فيه ذلك إذ يحصل بالعيان لا بالبرهان كما كان حال الأنبياء عليهم السلام مع الله { وكذلك نرى إبراهيم } [ الأنعام : 75 ] { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 18 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « أرنا الأشياء كما هي » وقال الخضر لموسى عليه السلام { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء } [ الكهف : 70 ] وقال موسى في الثالثة { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } [ الكهف : 76 ] فإن تعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم . وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن } أي إن كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق فاسألوا عنها بعد نزول القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم .

{ والله غفور } لمن تاب من طلب علوم الحقائق بالقال { حليم } لمن يطلب بالحال فيصدر عنه في أثناء الطلب سؤال { قد سألها قوم من قبلكم } كقدماء الفلاسفة أعرضوا عن متابعة الأنبياء وأقبلوا على مجرد القيل والقال ، فوقعوا في أودية الشبهات والضلال { ما جعل الله من بحيرة } قال الشيخ المحقق نجم الدين : المعروف بداية هم الحيدرية والقلندرية يشقون آذانهم وذكورهم ويجعلون فيها حلق حديد ويحلقون لحيتهم { ولا سائبة } هم الذين يضربون في الأرض خليعي العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة { ولا وصيلة } هم أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد { ولا حام } وهو المغرور بالله يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفات الشريعة . { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله } من الأحكام { وإلى الرسول } لمتابعته { قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } أي مشايخنا وأهل صحبتنا { أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً } من الشريعة والطريقة { ولا يهتدون } إلى الحقيقة . { عليكم أنفسكم } أي اشتغلوا أوّلاً بتزكية نفوسكم ثم بإرشاد الغير فإن الفريق الذي لم يتعلم السباحة إذا تشبث به مثله هلكا معاً { إلى الله مرجعكم جميعاً } فللطالبين بجذبات العناية وللمضلين بسلاسل القهر والنكاية { إذا حضر أحدكم الموت } أي النفس تموت عن صفاتها الذميمة بالرياضة والمجاهدة فتوصي بصفاتها لورثتها وهم القلب وأوصافه والوصيان { اثنان ذوا عدل منكم } هما العقل والسر من الروحانيات ، { أو آخران } من غير الروحانيات هما الوهم والخيال من النفسانيات . فالعقل والسر يشهدان الحق وإن كان على ذي قرابة الروحانيات ، والوهم والخيال شهادتهما الصدق والكذب . { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي سافرتم في السفليات { فأصابتكم مصيبة الموت } أي فتصيب النفس جذبة الحق فتموت { تحبسونهما } إن كنتم في بعد من الروحانيات { من بعد الصلاة } من بعد حضورهما مع الله وتوجيههما إلى الحق ومراقبة تامة ، فيشدد على الشاهدين بالقسم والتخويف بالله أن يؤديا شهادة الحق ويدفعا تركة النفس وهي صفاتها إلى ورثتها وهم القلب وصفاته ، ولا يصرفانها في شيء من السفليات فإن كل خلق إذا استعملته النفس كان صفة ذميمة ، فإذا استعمله القلب صار وصفاً محموداً كالحرص إذا استعملته النفس في طلب الدنيا ولذتها كان وصفاً مذموماً ، وإذا استعمله القلب في طلب العلوم والكمالات صار ممدوحاً . { فإن عثر على أنهما استحقا إثماً } بأن مالا إلى حظ من الحظوظ السفلية { فآخران } من صفات القلب هما : التذكر والفكر الصائب ينظران في عواقب الأمور ويشهدان على أن الآخرة خير من الدنيا والباقي خير من الفاني { لشهادتنا أحق من شهادتهما } لأن الوهم والخيال مالا إلى الحظوظ بكتمان الحقوق ، والتذكر والتفكر مالا إلى حفظ الحقوق بترك الحظوظ .

{ أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي العقل والسر يأتيان في بدو الأمر باستعمال صفات النفس في السعادات الأخروية ، أو يخافان عواقب الأمور بأن يشددوا على أنفسهم بالاستمهال وتضييع الأعمال وإفساد الاستعداد ، ثم بالتفكر والتذكر يردّ الأمر إلى وجوب رعاية الحقوق فيحتاجان إلى كثرة الرياضة . { ماذا أجبتم قالوا } وهم مستغرقون في بحر الشهود . { لا علم لنا } اي ببواطن الأمور وحقائقها . { وإذ أوحيت إلى الحواريين } أي في عالم الأرواح يوم الميثاق قالوا بسبب ذلك التعارف في عالم الأشباح آمنا . إن بعض الحواريين المقلدين في الإيمان قالوا { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } فما راعوا الأدب مع نبيهم حيث لم يقوموا يا رسول الله أو يا روح الله ، ولا مع ربهم حيث تشككوا في كمال قدرته . ثم أظهروا دناءة همتهم حيث طلبوا بواسطة مثل عيسى من واهب المواهب مائدة جسمانية لا فائدة روحانية فقال عيسى { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة } الأسرار والحقائق من سماء العناية عليها أطعمة الهداية { تكون لنا } أي لأهل الحق والصدق { عيداً } نفرح بها { لأولنا وآخرنا } أي لأول أنفاسنا وآخرها فإن أهل الحق يراقبون الأنفاس لتصعد مع الله وتهوي مع الله { وأنت خير الرازقين } لأن الذي ترزق رزق منك والذي يرزق ظاهراً من غيرك فهو أيضاً منك بالواسطة ، وما بالذات خير مما بالواسطة . { فمن يكفر بعد منكم } بأن لا يقوم بحقها ويجعلها شبكة يصطاد بها الدنيا فأني أرده من المراتب الروحانية إلى المهالك الحيوانية وهو المسخ الحقيقي ، ويوم القيامة أيضاً بحيث يحشرون على صفاتهم التي ماتوا عليها كما قال صلى الله عليه وسلم « يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه » { أأنت قلت للناس } الخطاب مع الأمة إلا أن من سنته سبحانه أن لا يكلم الكفار فكلم عيسى بدلاً منهم ، أو المراد بالقول أمر التكوين فالمعنى أأنت خلقت فيهم اتخاذك وأمك الهين أم أنا خلقت ذلك فيهم خذلاناً لهم؟ { إنك أنت علام الغيوب } الغيب ما غاب عن الخلق . ويحتمل أن سيعلمه الخلق ، وغيب الغيب ما غاب عنهم ولا يمكنهم أن يعلموه ، والله حسبي ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير .


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

القراآت : { وأنشأنا } بغير همز حيث كان : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف . { ولقد استهزىء } وبابه بالهمز : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم ، وقرأ يزيد والشموني وحمزة في الوقف بغير همز الباقون بغير همز مطلقاً { فحاق } بالإمالة حيث كان حمزة .
الوقوف : { والنور } ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { يعدلون } ه { أجلاً } ط { تمترون } ه { وفي الأرض } ج وقيل : لا وقف ليصير التقدير وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض وفيه بعد ، بل المعنى وهو المستحق للعبودية في أهل السموات وأهل الأرض . { تكسبون } ه { معرضين } ه { لما جاءهم } ط للابتداء بالتهديد { يستهزؤن } ه { مدراراً } ص لعطف المتفقين { آخرين } ه { سحر مبين } ه { عليه ملك } ط { لا ينظرون } ه { يلبسون } ه { يستهزؤن } ه { المكذبين } ه .
التفسير : عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « نزلت الأنعام جملة واحدة وتنزلت ، معها من الملائكة سبعون ألف ملك فملؤا ما بين الأخشبين » فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم سوى آيات معدودات . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لقد بعث إليّ بها جبريل مع خمسين ملكاً أو خمسين ألف ملك تحفها حتى أقروها في صدري كما يقرّ الماء في الحوض ولقد أعزني الله تعالى وإياكم بها عزاً لا يذلنا بعدها أبداً فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه » ولاشتمال هذه السورة على دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ولنزولها جملة ذهب علماء الكلام إلى أن علم الأصول مع جلالة قدره يجب تعلمه على الفور لا على التراخي بخلاف الأحكام فإنها نزلت كفاء المصالح وبحسب الحوادث والنوازل .
وأعلم أن قوله { الحمد لله } مذكور في أوائل سور خمس واختص كل منها بصفة ، لكن أعمها صدر فاتحة الكتاب { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 1 ] فإن العالم كل موجود سوى الله سبحانه فكان سائر السور تفاصيل لهذه الجملة . أثنى الله سبحانه على نفسه بقوله { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } والثناء على النفس قبيح في الشاهد ففيه دليل على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق ، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في صفاته وأفعاله لا اعتراض لأحد عليه . والتحقيق فيه أن استحقاق المدح بحسب الفضيلة والكمال ولا يوجد في الممكن صفة كمال إلا وهي مشوبة بالنقص والاختلال أدناه الأفول في أفق الإمكان بخلاف واجب الوجود فإنه لا غاية لكماله ولا نهاية لعظمته وجلاله . فلا ينبغي أن يمدح إلا هو ، ولا أن يثنى إلا عليه ، ولا أن يشكر ويحمد إلا له .

ثم الأوصاف الجارية عليه سبحانه إنما تذكر زيادة في المدح لا لأجل التوضيح والكشف .
أساميا لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها
وقد تقدم في الأسماء أن معنى الخلق راجع إلى التقدير والتقدير عائد إلى العلم ، فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي . قال بعض العلماء : السماء كالدائرة والأرض كالمركز ، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق لأرض مقدم على خلق السماء . وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض ، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله { ومن الأرض مثلهن } [ الطلاق : 12 ] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين ، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية ، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله . وأيضاً إن لحركة كل فلك أوّلاً لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير ، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال . وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلاً فاختصاص ابتداء حدوثة بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية . وأيضاً إن خارج العالم الجسماني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام ، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرجح قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء . هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام ، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي - الآباء - في العنصريات - وهي الأمهات - لتحصيل المواليد الثلاثة : المعادن والنباتات والحيوانات ، ارتقينا من ذلك أيضاً إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات . أما قوله { وجعل الظلمات والنور } فمعناه أحدث وأنشأ ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد ، ولو كان بمعنى « صير » اقتضى مفعولين . وإنما لم يقل « وخلق » لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله { وجعل منها زوجها } [ النساء : 1 ] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر . وقيل : لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار ، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة . ووحد النور لأن النار واحد وهو منها ، والظلمة والنور ههنا هما الأمران المحسوسان بالبصر ، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض . وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق ، والنور نور الإسلام واليقين ، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ، ثم إنها تقبل التناقص قليلاً وتلك المراتب كثيرة ، أو لأنه قصد بالنور الجنس .

وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر من أن يحصى . وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق على وجودها ، والظلمة عدمية عند من يجعلها عدم النور أو شبيهة بالعدم عند من يجعلها هيئة مضادة للنور . وقد ورد في الأخبار أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره . وقوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معطوف على قوله : { الحمد لله } والمعنى أنه حقيق بالحمد على ما خلق ثم الذين كفروا يعدلون عن طريق الإنصاف فيكفرون بربهم ، أو على { خلق السموات } معناه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون أي يسوّون به ما لا يقدر على شيء من ذلك . فعلى المعنى الأول يعدلون من العدول ، وعلى الثاني هو من العدل . ومعنى « ثم » ههنا وفي قوله { ثم أنتم تمترون } تراخي الرتبة واستبعاد مضموني الجملتين أحدهما عن الآخر . ثم ذكر دليلاً آخر على إثبات الصانع وعلى صحة المعاد الجسماني فقال { هو الذي خلقكم من طين } أي من آدم لأنه مخلوق من الطين ، أو خلقكم من النطفة المتولدة من الأغذية المنتهية إلى العناصر ، ولا ريب أن خلق الأغذية المتنوعة من العناصر المتشابهة الأجزاء ، ثم توليد النطفة المتشابهة الأجزاء من تلك الأغذية المختلفة ، ثم تخليق الأعضاء المختلفة في الصفة والصور واللون والشكل كالقلب والدماغ والكبد والعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها من المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم . ثم إن تلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادراً على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد . أما قوله { ثم قضى أجلاً } فاعلم أن لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] وبمعنى الخبر والإعلام { وقضينا إلى بني إسرائيل } [ الإسراء : 4 ] وبمعنى صفة الفعل إذا تم { فقضاهن سبع سموات } [ فصلت : 12 ] ومنه قولك : قضى فلان حاجة فلان . والأنسب ههنا هو الأول . والأجل في اللغة بمعنى الوقت المضروب لانقضاء الأمد . وأصله من التأخير ومنه الآجل نقيض العاجل . ثم إن صريح الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان . فقال أبو مسلم : الأول آجال الماضين لأنهم لما ماتوا صارت آجالهم معلومة ، والثاني آجال الباقين لأنها غير معلومة بعد وإنما هي مسماة عند الله تعالى . وقيل : الأول أجل الموت ، والثاني أجل القيامة لأنه لا آخر له ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى . وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ . وقيل : الأول النوم ، والثاني الموت .

وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمل كل أحد ، والثاني ما بقي من عمره . وقال حكماء الإسلام : الأول الأجل الطبيعي الذي يمكن بالنسبة إلى المزاج الأول لكل شخص لو بقي مصوناً عن الآفات الخارجية ، والثاني الأجل الاخترامي الذي يحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق والقتل واللدغ وغيرها من الأمور المنفصلة . ومعنى { مسمى } أي مذكور اسمه في اللوح المحفوظ . ومعنى { عنده } أي في حكمه وعلمه كما تقول : هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا . وارتفع { أجل } بالابتداء وجاز ذلك مع تنكيره لمكان وصفه فقارب المعرفة . وإنما لم يقل « وعنده أجل مسمى » تعظيماً لشأن هذا الأجل فكأنه قيل : وأي أجل مسمى عنده؟ والمرية والامتراء الشك . ومعنى « ثم » تبعيد الامتراء عن مثل هذه الحجة الباهرة الموجبة للتيقن في أمر المبدأ والمعاد ، ثم قرر أنه سبحانه عالم بجميع المعلومات ردّاً على من زعم أنه غير عالم بالجزيئات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو فقال { وهو الله في السموات وفي الأرض } وزعمت المجسمة بهذا وبنحو قوله { أم أمنتم من في السماء } [ الملك : 17 ] أنه سبحانه مستقر في السماء قالوا : ويؤكده وقف بعض القراء على السموات والابتداء بقوله { وفي الأرض يعلم سركم } أي يعلم سرائركم الموجودة في الأرض . ولو سلم أن لا وقف فالإجماع حاصل على أنه ليس موجوداً في الأرض ، ولا يلزم من ترك العلم بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من دليل . ونوقض بأنه تعالى قال في مواضع { لله ما في السموات } [ البقرة : 284 ] فلو كان هو في السماء لزم أن يكون مالكاً لنفسه ، ولا يخفى ضعف هذا النقض لأنه مخصوص بالقرينة كقوله { إن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 20 ] وبأنه إما أن يراد كونه في سماء واحدة وهو ترك الظاهر ، أو في جميع السموات وهو يقتضي كونه ذا أجزاء أو حصول المتحيز الواحد في مكانين وكلاهما محال . والحق أنه لا يلزم من استصحاب المكان الافتقار إليه ولا التجسيم والتجزئة وهو دقيق يفهمه من وفق له ، وبأنه لو كان موجوداً في السموات لكان محدوداً متناهياً فيكون قابلاً للزيادة والنقصان ، فيكون اختصاصه بمقدار معين لمخصص فيكون محدثاً . ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون في السموات وفوقها إلى ما لا يتناهى لا سيما عند من يقول إن وراء هذا العالم خلاء غير متناه ، وبأنه لو كان في السموات فإن لم يقدر عل عالم آخر فوقها لزم تعجيزه ، وإن قدر فلو فعل لحصل تحت ذلك العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم ، والاعتراض أنه لا يلزم من القدرة الإيجاد ، وقال غير المجسمة : المراد وهو الله في تدبير السموات والأرض كما يقال : فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاحه .

وعلى هذا يكون { في السموات } خبراً بعد خبر ، ويوقف على اسم الله ثم يبتدأ بما بعد ذلك ويكون المعنى أنه يعلم في السموات والأرض سرائر الملائكة والإنس والجن ، أو المراد وهو المعبود فيهما ، أو المعروف بالإلهية أو المتوحد بها ، أو هو الذي يقال له الله فيهما لا شريك له في هذا الإسم . والسر من صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف ، والجهر من أعمال الجوارح ، ولأن الأول مقدم على الثاني طبعاً فلا جرم قدم عليه وضعاً . والجملة أعني قوله { يعلم سركم وجهركم } مقررة لما قبلها أو خبر ثالث أو كلام مبتدأ . { ويعلم ما تكسبون } الكسب أخص من الأعمال السرية والجهرية لأنه الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو اندفاع ضر ولهذا لا يوصف فعل الله تعالى بأنه كسب . وإفراد الأخص بالذكر بعد الأعم للتقرير والتأكيد ، أو لكونه أهم حسن لا يلزم منه عطف الشيء على نفسه . والمراد أنه عالم بما يستحقه الإنسان على أفعاله من ثواب أو عقاب .
ثم لما فرغ من دلائل التوحيد والمعاد شرع في النبوات فرتب أحوال الكفار مع الأنبياء في ثلاث مراتب : الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل وذلك قوله { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } « من » الأولى للاستغراق والثانية للتبعيض . والمراد وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا وهم على حالة الإعراض لقلة تدبرهم وفرط غفلتهم . الثانية : كونهم مكذبين وهذه شر مما قبلها لأن الإعراض قد يكون للغفلة لا للتكذيب وإذا كذب فقد أعرض وزاد . قال علماء المعاني : ههنا حذف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وهو الحق . قال أنس : هو انشقاق القمر بمكة انفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة . وقيل : هو القرآن الذي تحدّوا به فعجزوا عنه . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل شرعه . وقيل : وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره . والأولى الحمل على الكل . المرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين لأن التكذيب إذا انضم معه الاستهزاء كان غاية في الغواية وذلك قوله { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا } أي أخبار الشيء الذي كانوا { به يستهزؤن } وهو القرآن وغيره من المعجزات . وليس المراد نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به كقوله { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ ص : 88 ] والحكيم إذا توعد فربما قال : ستعرف نبأ هذا إذا نزل بك ما تحذره . وذلك أن الغرض من الخبر حصول العلم بالمخبر عنه وذلك إنما يتحقق بعد المعاينة . ومعنى الآية سيعلمون بأي شيء استهزؤا وأنه لم يكن موضع استهزاء وذلك عند نزول العقاب بهم في الدنيا كيوم بدر وغيره أو في الآخرة . ثم لما زجرهم عن الإعراض والتكذيب والاستهزاء وأوعدهم على ذلك عاد إلى الموعظة والنصيحة بتذكير أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية .

والقرن القوم المقترنون في زمان من الدهر المفترقون بعد ذلك بالموت وذلك الزمان في الأغلب ستون سنة . وقيل : سبعون . وقيل : ثمانون . والأقرب أنه غير مقدر بزمان لا يقع فيه زيادة ولا نقصان ، ولكنه إذا انقضى الأكثر من أهل كل عصر فقد انقضى القرن . وليس المراد أن يصدّق الكفار محمداً في هذه الأخبار لانهم بصدد التكذيب فسيكذبونه فيها أيضاً ، وإنما المراد أن ما يختص بالمتقدمين منهم مشهور بين الناس فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا تلك الحكايات ومجرّد سماعها يكفي في الاعتبار . ثم وصف تلك القرون بثلاثة أوصاف : الأول : تمكينهم في الأرض . مكن له في الأرض جعل له مكاناً ، ومكنه فيها أثبته ، وهما متقاربان ولهذا جمع بينهما في الآية . والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما آتينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال وأسباب الدنيا . الثاني : إرسال السماء عليهم مدراراً يعني الغيث أو السحاب أو الخضراء ، لأن المطر ينزل من ذلك الصوب والمدرار كثير الدرّدرّ اللين إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير . ومدراراً نعت المطر ويقال أيضاً سحاب مدراراً إذا تتابع أمطاره . ومفعال من أبنية المبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث . الثالث { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } أي من تحت أمكنتهم والمراد أنهم أصحاب البساتين والقصور والمنتزهات . فإن قيل : الهلاك غير مختص بهم وإنما يجري ذلك على الأنبياء والمؤمنين أيضاً ، قلنا : لدفع هذا الإشكال كرر فقال { فأهلكناهم بذنوبهم } فإن الإهلاك بسبب المعاصي والآثام لا يكون إلا بالعذاب والإيلام . ثم نبه بقوله { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } على كمال عزته واستغنائه ونهاية قدرته واستعلائه كقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [ فاطر : 16 ] فالبلاد بلاده والعباد عباده بيده التخريب والتعمير وإليه الإعدام والإيجاد . ثم ان الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف متعددة . منهم من بالغ في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها على وفق هواه ومناه لا على قانون الخير والعدل فمنعه ذلك عن التزام التكاليف وهو المذكور في الآية ، وفيه أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باقٍ ، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات الفانية . ومنهم من حملته العصبية والعناد على تكذيب معجزات الأنبياء وجعلها من قبيل السخر الذي لا أصل له وهم الذين عنوا بقوله { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } والمعنى أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عياناً لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر . وههنا سؤال وهو أن نزول الكتاب من السماء جملة إن لم يكن باب المعجزات لم يكن إنكاره منكراً ، وإن كان من قبيل الإعجاز فالملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الإيمان بصدق الرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة ، وحينئذ يجوز أن يكون نزول ذلك من قبل بعض الجن والشياطين ، أو من بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم فلا يكون دليلاً على الصدق .

وأجيب بأن المقصود من الآية ليس بيان الإعجاز ، ولكن المراد أنهم إذا لمسوه بأيديهم يقوى الإدراك البصري بالإدراك اللمسي وبلغ الغاية في القوة والظهور . ثم إن هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا ، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة . قال القاضي : في الآية دليل على وجوب اللطف لأنه بيَّن أنه إنما لم ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول فيفهم منه أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة ، وزيف بأن المفهوم ليس بحجة ، ولو سلم فوقوع اللطف لا يدل على وجوبه . ومن الكفرة من قابل النبوات بإيراد الشبهات والاقتراحات . قال الكلبي : إن مشركي مكة قالوا : يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله وذلك قوله { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } فأجاب الله تعالى عن مقترحهم بقوله { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } ومعنى القضاء الإتمام والإلزام كما مر . وتقرير الجواب أن إنزال الملك على البشرية آية باهرة وحينئذ ربما لم يؤمنوا فيجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال ، أو لعلهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم . ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبرائيل على صورته الأصلية غشي عليه؟ وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشرة كأضياف إبراهيم ولوط ، وكالذين تسوّروا المحراب ، وأن جبرائيل تمثل لمريم بشراً سوياً؟ وفائدة ثمَّ أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجاة الشدة أفظع من نفس الشدة . ثم إنهم كانوا يطعنون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى وهي أنه بشر مثلهم ويقولون : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } [ الفرقان : 7 ] وتقرير الشبهة أن الرسل إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق أكمل والاشتباه في نبوتهم ورسالتهم أقل ، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم اختار ما هو أسرع إفضاء إلى المطلوب ، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { ولو جعلناه } أي الرسول { ملكاً لجعلناه رجلاً } لأن إنزال الملك آية ظاهرة جارية مجرى الإلجاء وإزالة الاختيار وذلك منافٍ لغرض التكليف ، ولأن الجنس إلى الجنس أميل ، ولأن البشر لا يطيق رؤية الملك ، ولأن طاعات الملك كثيرة فيحقرون طاعات البشر ويستعظمون إقدامهم على المعاصي فلا يصبرون معهم ، ولأن إنزال الملك يقوي الشبهة من وجه آخر وذلك أن أيّ معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة لفعلنا مثل ما فعلت .

ثم قال { وللبسنا عليهم ما يلبسون } لبست الأمر على القوم ألبسه لبساً إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً ومنه لبس الثوب لأنه يفيد الستر . والمعنى إذا جعلنا الملك في صورة البشر كان فعلنا نظيراً لفعلهم في التلبيس ، وإنما كان ذلك لبساً لأن الناس يظنونه ملكاً مع أنه ليس بملك ، أو يظنونه بشراً مع أنه ليس ببشر وإنما كان فعلهم لبساً لأنهم يخلطون على أنفسهم ويقولون إن البشر لا يصلح للرسالة فلا ينقطع السؤال أبداً ويبقى الأمر في حيز الاشتباه . وعلى هذا التفسير يكون قوله { ما يلبسون } مفعولاً مطلقاً . ويجوز أن يراد ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فيكون مفعولاً به يعني أن القوم إذا رأوا الملك في صورة الإنسان اشتبه الأمر عليهم ، وإذ كنا قد فعلنا ذلك كان اللبس منسوباً إلينا .
ثم إنه سبحانه وتعالى سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه بقوله { ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق } أي نزل . وقال الفراء : عاد عليهم والتركيب يدور على الإحاطة ومنه الحوق بالضم ما استدار بالكمرة { ما كانوا } أي الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أسند الحق إليه حيث أهلكوا لأجل الاستهزاء به . ويحتمل أن يراد بلفظة « ما » العذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وهم يستهزؤن بذلك ، ثم أمر رسوله بأن يقول لهم : لا تغتروا بما وجدتم من زخارف الدنيا وسيروا في الأرض لتشاهدوا آثار الأمم السالفة الذين كذبوا رسلهم ونزل بهم ما نزل فإن الأسفار تورث الاعتبار وتفيد الاستبصار . واعلم أنه سبحانه قال ههنا { ثم انظروا } وفي موضع آخر { فانظروا } [ آل عمران : 137 ] فالفاء لمجرد اعتبار ترتيب النظر على السير . وثم لتباعد ما بين المباح والواجب فإن السير مباح والنظر واجب . وأيضاً شتان بين السير الصوري بقدم الأشباح وبين السير المعنوي بقدم الأرواح والله أعلم .
التأويل : حمد نفسه القديم الأزلي بكلامه القديم الأزلي على أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات . أي الصفات البهيمية والسبعية في النفوس والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية والروحانية ، فخص الجعل بالمعاني التي هي من عالم الأمر والخلق بالأعيان لأنها من عالم الصورة ، ولهذا لما ذكر صورة آدم قال { إني خالق بشراً من طين } [ ص : 71 ] وحيث أراد معناه قال { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] ثم بعد هذا الجعل والخلق مال نفوس الكفار بغلبات الظلمات إلى طاغوت الهوى فجعلوه عديلاً لربهم { ثم قضى أجلاً } للروح المفارق عن حضرته لأيام فراقه { وأجل مسمى عنده } وهو أجل الوصال بعد الفراق بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { ثم أنتم تمترون } يا أهل الوصال كما يمتري أهل الفراق وهذا محال { وهو الله } في سموات القلوب وفي أرض النفوس يعلم سر الخلافة الذي أودع فيكم { وجهركم } الذي يظهر عنكم { ويعلم ما تكسبون } باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهيات في الخير أو الشر { من آية من آيات ربهم } في الآفاق وفي أنفسهم مكناهم في طلب الحق من قهر النفس وأسباب الخيرات والطاعات .

وأرسلنا مطر الواردات من سماء القلوب عليهم مدراراً متوالياً ، وجعلنا أنهار الحكمة تجري من تحت نظرهم فأهلكنا مع هذه المقدمات أرواحهم بسموم ذنوب طلب الدنيا مالها وجاهها { وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } من الطلاب الصادقين التائبين المستقيمين { لجعلناه رجلاً } ليفهموا خطابه ويكون واقفاً على الأحوال البشرية فيعالجهم بما يرى فيه صلاح حالهم كما قال { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم : 4 ] قل سيروا في أرض النفوس بقدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب فتشاهدوا بأنوار الله المودعة فيها عاقبة من هلكوا في بوادي القطيعة إذ ساروا بقدم الطبيعة .


قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

القراآت { إني أمرت } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع { إني أخاف } بفتح الياء : هما وابن كثير وأبو عمرو . الباقون : بالسكون . { من يصرف } مبنياً للفاعل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل . الباقون : مبنياً للمفعول { أئنكم } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة { أينكم } بالياء بعد الهمزة : ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد { آينكم } بالمد والياء : أبو عمرو ويزيد . وقالون { بريء } بغير همز حيث كان : يزيد وحمزة في الوقف { يحشرهم ثم يقول } بياء الغيبة فيهما : يعقوب . الباقون : بالنون { ثم لم تكن } بتاء التأنيث : حمزة وعلي وحماد والمفضل وسهل ويعقوب الباقون : بالياء { فتنتهم } بالرفع : ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل . الباقون : بالنصب { والله ربنا } بالنصب على النداء : حمزة وعلي وخلف والمفضل . الباقون : بالجر على البدل أو البيان .
الوقوف : { والأرض } ط { قل لله } ط { الرحمة } ط لأن قوله { ليجمعنكم } جواب قسم محذوف . وقيل : لا وقف و { ليجمعنكم } جواب معنى القسم في { كتب } وفيه نظر لأن { كتب } وعد ناجز و { ليجمعنكم } وعد منتظر . { لا ريب فيه } ط بناء على أن الذين مبتدأ فيه معنى الشرط { لا يؤمنون } ه { والنهار } ط { العليم } ه { ولا يطعم } ط { من المشركين } ه { عظيم } ه { رحمه } ط { المبين } ه { إلا هو } ط { قدير } ه { عباده } ط { الخبير } ه { شهادة } ط { ومن بلغ } ط { أخرى } ط لانتهاء الاستخبار إلى الإخبار . { قل لا أشهد } ج لاتساق الكلام بلا عطف { يشركون } ه { أبناءهم } م لئلا يوهم أن ما بعده وصف { لا يؤمنون } ه { بآياته } ط { الظالمون } ه { يزعمون } ه { مشركين } ه { يفترون } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما برهن على إثبات الصانع وتحقيق النبوّات وتقرير المعاد ، وانجر الكلام إلى الأمر باعتبار أحوال الغابرين ، عاد إلى إثبات هذه المطالب بطريق الإلزام وأخذ الاعتراف ، وذلك أن آثار الحدوث وسمات الإمكان لائحة على صفحات السمويات والأرضيات حتى بلغ في ظهوره إلى حيث لا يقدر منكر على إنكاره ، فكان في السؤال تبكيت وإفحام ، وفي الجواب تقرير وإلزام ، أي هو لله بلا مراء وشقاق ولن يتم الملك إلا إذا كان قادراً على الإعادة كما هو قادر على الإبداء ، ولن تحصل حكمة الإعادة إلا بثواب المطيعين وعقاب العاصين ، ولن يحسن إيصال الثواب والعقاب إلا بعد نصب الدلائل وإرسال الرسل فلأجل ذلك قال { كتب على نفسه الرحمة } أي بنصب الأدلة وإزاحة العلة إيجاب الفضل والكرم . وقيل : هذه الرحمة هي أنه يمهلهم مدّة عمرهم ولا يعاجلهم بالاستئصال ، أو فرض على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدّقهم وقبل شريعتهم ، أو تلك الرحمة هي أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فإنه لولا هذا التهديد لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط كأنه قيل : لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله تعالى ، وأنه مالك الكل فاعلموا أن الله الملك الحكيم لا يهمل أمور عبيده ، ولا يجوز في حكمته التسوية بين المطيع والعاصي والعامل والساهي .

ومعنى { ليجمعنكم } ليضمنكم . وقيل : فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان . وقيل : ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة . قال الأخفش : { الذين خسروا } بدل من ضمير المخاطبين في { ليجمعنكم } . وقال الزجاج : إنه مبتأ خبره { فهم لا يؤمنون } وذلك لتضمنه معنى الشرط فكأنه قيل : ما للمشركين مع وضوح الدلائل الباهرة لا يؤمنون؟ فأجيب { الذين خسروا أنفسهم } أي في علم الله وسابق قضائه فهم لا يؤمنون في طرف الأبد ، فكان امتناعهم الآن عن الإيمان مسبباً عن سبق القضاء عليهم بالخسران والخذلان . وقال في الكشاف { الذين خسروا } نصب أو رفع على الذم بمعنى أريد الذين ، أو أنتم الذين . ثم لما بيّن أن له المكان والمكانيات ارتقى في البيان كما هو شأن الترتيب التعليمي إلى ما هو أخفى من ذلك عند الحس وهو الزمان والزمانيات فقال { وله ما سكن في الليل والنهار } عن ابن عباس أن كفار مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إنا قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيباً من أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلاً وترجع عما أنت عليه فنزل { وله ما سكن } الآية . قيل : اشتقاقه من السكون والتقدير كل ما سكن وتحرك كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] أي تقيكم الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للقرينة . والأصوب أن يقال : اشتقاقه من السكنى كما يقال : فلان سكن ببلد كذا أي حل فيه . والمراد كل ما حل في الوقت والزمان سواء كان متحركاً أو ساكناً ، وذلك أن الدخول تحت الزمان يستلزم التغير والحدوث فلا بد له من محدث يتقدم عليه وعلى نفس الزمان { وهو السميع العليم } الذي يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين فيوصل كل ممكن إلى كمال يليق به ويستعدّ له .
ثم لما كان لزاعم أن يزعم أن الذي يتعالى عن المكان وعن الزمان قد يكون ممكناً في نفسه كالمفارقات التي يثبتها الفلاسفة فلا جرم قال { قل أغير الله أتخذ } منكر الاتخاذ غير الله { ولياً } ولذلك قدم المفعول لكونه أهم ، ولو كان حرف الاستفهام داخلاً على الفعل توجه الإنكار أوّلاً إلى نفس اتخاذ الولي وأنه غير مهم { فاطر السموات } عطف بيان من { الله } أو بدل . وقرىء بالرفع على إضمار هو ، وبالنصب على المدح . وعن ابن عباس : ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها .

وقال ابن الأنباري : أصل الفطر الشق وقد يكون شق إصلاح كقوله { فاطر السموات والأرض } [ فاطر : 1 ] أي خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضمه بعض الأشياء إلى بعض . وقد يكون شق إفساد ومنه قوله تعالى { هل ترى من فطور } [ الملك : 3 ] { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] { وهو يطعم ولا يطعم } أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد . والرزق والإطعام وإن كانا متغايرين وإلا لم يحسن العطف في قوله { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } [ الذاريات : 57 ] إلا أنهما متقاربان فحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر . وقرىء { وهو يطعم } مبنياً للمفعول على أن الضمير لغير الله وقرىء { وهو يطعم ولا يطعم } كلاهما للفاعل . والمعنى هو يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله { وإنه يقبض ويبسط } [ البقرة : 245 ] أو الثاني بمعنى لا يستطعم . وحاصل الآية أنه يجب شغل القلب كله بالله وقطع العلائق بالكلية عما سواه لأنه الجواد المطلق الذي يهب لا لعوضٍ ولا انتفاع . ثم بيّن أن النبي أيضاً داخل في تكليف المعرفة بل هو أسبق قدماً في ذلك فقال { قل إني أمرت أن أكون أوّل من أسلم } وقيل لي { ولا تكونن من المشركين } وفيه أن الواعظ يجب أن يتعظ أوّلاً بما يقوله ، فالمريض لا يتصور منه العلاج . ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره بصدد المؤاخذه على تقدير المخالفة فقال { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } ولا يلزم من هذا جواز المعصية عنه لأن الفرض قد يتعلق بالمستحيل كقولك : إن كانت الخمسة زوجاً فهي منقسمة بمتساويين . من قرأ { من يصرف } مبنياً للفاعل فالضمير فيه عائد إلى الله والمفعول وهو العذاب محذوف لكونه معلوماً أو مذكوراً قبله . قال في الكشاف : ويجوز أن تنصب يومئذ على أنه مفعول به ل { يصرف } أي من يصرف الله عنه ذلك اليوم أي هو له ، ومن قرأ على بناء المعفول فهو مسند إلى ضمير العذاب ، ولم يسم الفاعل وهو الله تعالى للعلم به { فقد رحمه } أي الله الرحمة العظمى كقولك : إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه يعني كمال الإحسان . أو المراد فقد أدخله الجنة فإن من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب تفضلاً أو استيجاباً . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن إيصال الثواب على الطاعة غير واجب وإنما هو ابتداء فضل وإحسان وإلا لم يحسن ذكر الرحمة ههنا ، ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب زيداً فإذا لم يضربه لا يقال أنه رحمه؟ { وذلك } أي صرف العذاب وإيصال الثواب على سبيل التفضل أو الاستيجاب { الفوز المبين } لأنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى لكل مكلف .

ثم أكد المعنى المذكور وهو أنه لا يجوز للعاقل أن يرغب في اتخاذ ولي غير الله بقوله { وإن يمسسك الله بضر } من مرض أو فقر أو غير ذلك من البليات { فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير } من غنى أو صحة { فهو على كل شيء قدير } عمم الحكم لندرج تحته كل خير والحاصل أن اندفاع جميع المضار بقدرته ، وكذا حصول جميع الخيرات لأن كل ما عداه فإنما هو تحت قهره وتسخيره وقد حصل بإيجاده وتكوينه ، فإن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ، ورأس المضارّ هو الكفر ، وسنام الخيرات هو الإيمان ، ولن يحصل نفرة الكفر وداعية الإيمان إلا بتوفيقه تعالى . وكل ما يتصور أنه قد نفع أو ضر من الجمادات أو المختارات فإن ذلك ينتهي إلى تخليق الله وجعله ذلك الشيء واسطة لذلك النفع أو الضر ، فلا ضارّ ولا نافع بالحقيقة إلا هو سبحانه . ثم زاد لهذا المعنى بياناً فقال { وهو القاهر فوق عباده } وهو إشارة إلى كمال القدرة { وهو الحكيم الخبير } وإنه إشارة إلى كمال العلم . فالحكمة أعم من العلم لأنها عمل وعلم ، وكونه خبيراً أخص من العلم لأنه العلم ببواطن الأمور وخباياها ، فإذا اجتمعت هذه المعاني حصل العلم بكماله وغايته ، وقد استدل بظاهر الآية من أثبت الفوقية لله تعالى وعورض بوجوه منها : أنه لو كان فوق العالم فإن كان في الصغر بحيث لا يتميز منه جانب من جانب كالجوهر الفرد مثلاً فذلك لا يقوله عاقل ، وإن كان ذاهباً في الأقطار كلها كان متجزئاً . والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون نوراً قائماً بذاته غير متناه لا متجزئاً ولا متبعضاً قاهراً لجميع الأنوار غالباً على جميع الأشياء . فلا غاية لجوده ولا نهاية لوجوده . وأما إنه كيف يتصور نور بلا نهاية مع أنه لا ينقسم يتبعض فمجرد استبعاد فلا يصلح حجة وإدراك شيء من هذا النور محتاج إلى النور { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] ومنها أنه لو كان غير متناه من كل الجهات لزم اختلاطه بالقاذورات . والجواب أن هذا كلام مخيل فلا يستعمل في البرهان . ومنها أنه لو لم يكن خارج العالم خلاء ولا ملاء لم يمكن حصول ذات الله تعالى فيه ، وإن كان خلاء فحصوله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء دون سائر أجزائه محتاج إلى مخصص ، فيكون الواجب مفتقراً فيكون محدثاً هذا خلف . والجواب أنا ذكرنا أن نور الأنوار لا يتناهى وأنه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فيسقط هذا الاعتراض . ومنها أنه سبحانه موجود قبل الخلاء والحيز والجهة ، فلا يكون بعد حصول هذه الأشياء موجوداً فيها وإلا لزم التغير في ذاته . والجواب بالفرق بين المعية وبين الافتقار .

ومنها أن العالم كرة فإما أن يكون الله تعالى فوق أقوام بأعيانهم وحينئذ يلزم أن يكون تحت أقدام من يقابلهم وإما أن يكون فوق الكل فيكون فلكاً محيطاً بسائر الأفلاك وهذا لا يقوله مسلم . والجواب الإلزامي بعد تسليم كون العالم كرة أنا نختار القسم الأول ، ولا يلزم التحتية لأن التحت من جميع الجوانب هو ما يلي المركز ، والفوق ما يلي السماء . أو القسم الثاني ولا يلزم من إحاطته بجميع الأشياء كونه فلكاً كسائر الأفلاك ، وأما التحقيق فقد مر . ومنها أن لفظ الفوق في الآية مسبوق بالقهر ويراد به القدرة والمكنة وملحوق بلفظ عباده ، وأنه مشعر بالمملوكية والمقدورية . فالمناسب أن يراد بالفوق أيضاً فوقية القدرة ولا يلزم التكرار لأن المراد أن القهر والقدرة عام في حق الكل . والجواب أن حمل الوسط على الطرفين أولى من العكس ، بل لا نزاع في مفهوم العباد وإنما النزاع في مفهومي القاهرية والفوقية ، وليس حمل أحدهما على الآخر أولى من غيره ، ومنها أن الآية سيقت رداً على من اتخذ غير الله ولياً وهذا إنما يحسن لو كان المراد بالفوقية القدرة لا الجهة . والجواب أن الفوقية بالوجه الذي قررناه في جواب الاعتراض الأول يفيد الاستعلاء المطلق وذلك يوجب أن يكون التعويل عليه في كل الأمور إذ لا وجود ولا ظهور لشيء من الأشياء إلا بفيضه ونوره . وقد يلوح للمتأمل في هذه الأجوبة بعد التنزية عن التشبيه والتجسيم والحلول والاتحاد أسرار غامضة شريفة إن كان أهلاً لها « وكل ميسر لما خلق له » قال الكلبي : إن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ما نرى أحداً يصدقك بما تقول من أمر الرسالة . ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول كما تزعم فنزلت { قل أي شيء أكبر شهادة } الآية . قال العلماء : إنها دلت على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله . ثم بيَّن أن شهادة الله حاصلة إلا أنها لم تدل على أن تلك الشهادة لإثبات أيّ المطالب فقيل : إنها لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من سبب النزول . والمعنى قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة حتى يعترفوا بأن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى ، فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهد لي بالنبوة بأن أظهر على وفق دعواي معجزاً هو القرآن الذي عجزتم معاشر الفصحاء والبلغاء عن معارضته . وقيل : إن حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى وذلك أن الوحدانية ليست مما يتوقف صحته على صحة السمع فلا يمتنع إثباتها بالسمع والمعنى { قل الله شهيد بيني وبينكم } في إثبات الوحدانية والبراءة عن الأضداد والأنداد والأمثال والأشباه { وأوحى إليَّ هذا القرآن لأنذركم به } وأبلغكم أن الدين هو التوحيد والشرك مردود .

واستدل الجمهور بالآية على أنه يصح إطلاق الشيء على الله تعالى وخالف جهم محتجاً بقوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الأنعام : 102 ] إذ لا يمكن دعوى التخصيص فيه ، فإن التخصيص إنما يجوز في صورة شاذة لا يلتفت إليها لقلة اعتبارها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم . فلو كان الباري تعالى شيئاً لكان أعظم الأشياء وأشرفها فيكون إخراجه من هذا العموم محض الكذب . وأيضاً احتج بأن الشيء يطلق على المعدوم لقوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } [ الكهف : 23 ] والشيء الذي سيفعله غداً معدوم في الحال ، فالشيء لا يفيد صفة مدح فلا يطلق عليه . والجواب عن الأول أن إخراج الأكثر من العموم جائز عندنا . ولو سلم فإنه تعالى واحد من الأشياء ، والمخرج بهذا الاعتبار أقل عدداً من الباقي . وعن الثاني أن لفظ الشيء أعم الألفاظ ، ومتى صدق الخاص كالذات ، والحقيقة صدق العلم بالضرورة . قال جهم { قل الله شهيد } جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها فلا يصح استدلالكم . قلنا { قل أي شيء } سؤال ولا بد له من جواب . وهو إما مذكور رأي قل الله أكبر الأشياء شهادة ثم ابتدىء فقيل شهيد أي وهو شهيد بيني وبينكم ، أو محذوف والمعنى قل هو الله والله شهيد بيني وبينكم . وحسن الحذف لأنه إذا سأل عن أكبر الأشياء شهادة وذكر بعد ذلك أن الله شهيد علم جزماً أن أكبر الأشياء شهادة هو الله أما قوله { ومن بلغ } فمعطوف على ضمير المخاطبين والعائد إلى من محذوف أي لأنذركم يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم . وقيل : من الثقلين . وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة . وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقيل : ومن بلغ أي من احتلم وبلغ أوان التكليف ، وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار العائد .
ثم استفهم مبكتاً فقال { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } وصف الجمع بصفة الواحدة كما يقال : الرجال فعلت . ثم دل على إيجاب التوحيد بثلاث جمل : أولاها { قل لا أشهد } أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء ، وثانيتها { قل إنما هو إله واحد } وكلمة « إنما » تفيد الحصر . وثالثتها { وإنني بريء مما تشركون } ومن هنا قالت العلماء : المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويضم إليهما التبري عن كل دين سوى دين الإسلام . ولما زعم مشركو مكة أنهم سألوا اليهود والنصارى عن نعت محمد صلى الله عليه وآله فقالوا : ليس عندنا ذكره كذّبهم الله تعالى بقوله { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } أي يعرفون رسول الله بنعوته وحلاه الثابتة في الكتابين { كما يعرفون أبناءهم } بالنعوت والحلي لا يخفون عليهم ولا يشتبهون بغير أبنائهم .

{ الذين خسروا أنفسهم } إما بدل أو بيان من « الذين » الأولى ، ويكون المقصود وعيد المعاندين منهم والجاحدين . وإما مبتدأ والكلام جملة مستأنفة شاملة لجميع الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين . والمراد بخسران النفس الهلاك الذي يحصل لهم بسبب الكفر . وقيل : ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة إلا أن من كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورّث منزلته غيره . ثم بيَّن سبب خسرانهم مستفهماً على سبيل الإنكار فقال { ومن أظلم } وذلك أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين : إثبات الباطل وهو الافتراء على الله ، وجحد الحق وهو التكذيب بآيات الله ، فمن الأول أن المشركين كانوا يقولون للأصنام إنهم شركاء الله والله أمرهم بذلك ، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، واليهود والنصارى كانوا يزعمون أن التوراة والإنجيل ناطقان بعدم النسخ . وأنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة إلى غير ذلك من مفترياتهم . ومن الثاني قدحهم في القرآن وفي صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { إنه لا يفلح الظالمون } الذين وضعوا الشيء في غير موضعه الباطل مكان الحق والحق بإزاء الباطل . ثم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال { ويوم نحشرهم } وناصبه محذوف أي ويوم كذا كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في الوعيد . ويحتمل أن يكون مفعول « واذكر » أو معطوفاً على محذوف أي لا يفلح الظالمون في الدنيا ويوم الحشر . { أين شركاؤكم } آلهتكم التي جعلتموهم شركاء { الذين كنتم تزعمون } هم شركاء فحذف المفعولان . والمقصود من هذا الاستفهام التقريع والتبكيت ، ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حيث لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم ، ويجوز أن يحال بينهم وبين آلهتهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فتزداد حسرتهم ، ويحتمل أن يقال : أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم؟ والغرض من جميع الوجوه أن يتقرر في نفوسهم أن الذي يظنونه مأيوس منه فيصير ذلك تنبيهاً لهم في الدنيا على فساد هذه الطريقة { ثم لم تكن فتنتهم } من قرأ بالرفع على أنه اسم كان فالخبر { إلا أن قالوا } والتقدير شيئاً إلا أن قالوا ومن قرأ بالنصب مع تذكير يكن فبعكس ما قلنا . والتقدير شيء إلا أن قالوا . وأما مع تأنيث يكن فلوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم : من كانت أمك . أو بتأويل مقالتهم . قال الواحدي : الاختيار قراءة من قرأ بالنصب لأن « أن » إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر . وكما أن المضمر والمظهر إذا اجتمعا كقولك : إن كنت القائم . كان جعل المضمر اسماً أولى من جعله خبراً فكذلك ههنا . قال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب ، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه ، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به .

ومثاله أن ترى إنساناً يحب شخصاً مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له : ما كانت محبتك أي عاقبة محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته . فعلى هذا فتنتهم في شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس . ولكن لا بد من تقدير مضاف وهو العاقبة ، ويجوز أن يراد : ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا : فسمي فتنة لأنه كذب ، قال القاضيان : الجبائي وأبو بكر : إن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيكونون ملجئين إلى ترك القبيح وكيف لا وإنهم يعلمون أن ذلك لا يروج منهم حينئذ ولا يستفيدون بذلك إلا زيادة المقت والغضب من الله تعالى عليهم؟ ولا يجوز أن يقال : إنهم لما عاينوا القيامة اختلت عقولهم واضطربت فلهذا قالوا الكذب ، أو أنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا لأنه لا يليق بحكمته تعالى أن يوبخهم ثم يحكى عنهم ما يجري مجرى الاعتذار عند اختلال عقولهم . ولأن تجويز نسيان أمر كان عليه الشخص مدة عمره نوع من السفسطة . وأيضاً إنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على نوعين من القبيح فإن عوقبوا على ذلك صارت الآخرة دار التكليف وإن لم يعاقبوا كان إذناً من الله تعالى في ارتكاب الذنوب وكلاهما محال . فإذا الوجه في الآية أن يقال : إن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم وظنونهم أنهم موحدون فأجابوا بقولهم { والله ربنا ما كنا مشركين } أي في اعتقادنا وظنوننا ، وعلى هذا فيكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم كانوا غير مشركين عند أنفسهم فيجيب تأويل قوله تعالى { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } بأن المراد كذبهم في دار الدنيا كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك وإن آلهتهم شفعاؤهم عند الله فلهذا قال { وضل عنهم } أي وانظر كيف غاب عنهم في الآخرة { ما كانوا يفترون } أي يفتعلون إلهيته وشفاعته . والحاصل أن الآية سيقت لبيان تضاد حاليهم في الدنيا وفي الآخرة بالكذب وبالصدق ولكن حيث لا ينفعهم الصدق لأن الصدق في الآخرة إنما يعتبر إذا كان مقروناً بالصدق في الدنيا ، هذا جملة كلام القاضيين . قال جمهور المفسرين : إن قول القائل المراد ما كنا مشركين في اعتقادنا ، وكيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا مخالفة الظاهر وإن الكفار قد يكذبون في القيامة لقوله تعالى { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون } [ المجادلة : 18 ] إلى قوله { ألا إنهم هم الكاذبون }

[ المجادلة : 18 ] ولو سلم أنهم لا يكذبون تعمداً إلا أن الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه حيرة ودهشاً ، ألا تراهم يقولون { ربنا أخرجنا منها } [ المؤمنون : 107 ] وقد أيقنوا بالخلود؟ { وقالوا يا مالك ليقض علينا ربك } [ الزخرف : 77 ] وقد علموا أنه لا يقضى عليهم . واختلال عقولهم حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع كمال عقلهم في سائر الأوقات .
التأويل : ما في الكون سوى الله ، لا داع ولا مجيب فلهذا يسأل ويجيب { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } وله ما سكن في ليل البشرية إلى التمتعات الحيوانية ، وفي نهار الروحانية إلى المواهب الربانية ، { وهو السميع } أنين من سكن إليه { العليم } بحنين من اشتاق إليه { قل أغير الله أتخذ } اليوم { ولياً } وقد اتخذني الله في الأزل حبيباً { فاطر } سموات القلوب على محبته وفاطر أرض النفوس على عبوديته { وهو يطعم } أرواح العارفين طعام المشاهدات ويسقيهم كؤوس المكاشفات { ولا يطعم } لأنه لا يحتاج إلى قبول الفيض من غيره فالأنوار عنده كالذرّات { أول من أسلم } لأني خلصت من حبس الوجود بالكلية وحدي ولهذا يقول الأنبياء نفسي نفسي وأقول : أمتي أمتي { إن عصيت ربي } برؤية الغير يوم قدّر الشرك لاقوام والتوحيد لاقوام { وإن يمسسك الله بضر } إن دائرة أزليته متصلة بدائرة أبديته ، وكل نقطة من الدائرة تصلح للبداية والنهاية ، فكل ما صدر منه فلن ينتهي إلا به { وهو القاهر فوق عباده } قهر الكفار بموت القلوب فضلوا في ظلمات الطبيعة ، وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة فخرجوا من ظلمات الطبيعة ، وقهر قلوب المحبين بلذعات الأشواق إلى يوم التلاق ، وقهر أرواح الصديقين بسطوات الجلال في أوقات الوصال . { وهو الحكيم } فيما يقهره فلا يخلو من حكمة { الخبير } بمن يتسأهل كل صنف من قهره فيقهره به { الله أكبر شهادة } لأنه محيط بحقائق الأشياء ولا يحيط به شيء من الأشياء { ومن بلغ } القرآن ووقف على حقائقه . ويقول للمشركين { أئنكم لتشهدون } { الذين آتيناهم الكتاب } يعني العلماء بالقرآن يعرفون الله أو النبي . وفيه إشارة إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء ، فكذلك أهل المعرفة قد تحقق عندهم أن الله مصدر جميع الأشياء { الذين خسروا أنفسهم } بإفساد الاستعداد الفطري { ويوم يحشرهم جميعا } يعني أهل المعرفة والنكرة { أين شركاؤكم } من الهوى والدنيا { كذبوا على أنفسهم } في القيامة لأنهم كذبوا في الدنيا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى .


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)

القراآت : { ولا نكذب ونكون } بالنصب فيهما : حمزة وحفص ويعقوب وافق ابن عامر في { ونكون } الباقون : بالرفع { ولدار الآخرة } بالإضافة : ابن عامر بتأويل الساعة الآخرة ، الباقون : بتعريف الدار ورفع الآخرة على الوصفية . { تعقلون } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص وكذلك في الأعراف { يكذبونك } بالتخفيف من أكذبه إذا وجده كاذباً : علي ونافع والأعشى في اختياره . الباقون : بالتشديد من كذبه إذا نسبه إلى الكذب . { أن ينزل } بالتخفيف : ابن كثير .
الوقوف : { وقرأ } ط { بها } ط { الأولين } ه { وينأون عنه } ج لابتداء النفي مع واو العطف { وما يشعرون } ه { من المؤمنين } ه { من قبل } ط { لكاذبون } ه { بمبعوثين } ه { ربهم } ط { بالحق } ط { وربنا } ط { تكفرون } ه { بلقاء الله } ط لأن « حتى » للابتداء فيها لا لأن الواو للحال { على ظهورهم } ط { يزرون } ه { ولهو } ط { يتقون } ه { تعقلون } ه { يجحدون } ه { نصرنا } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقصود لكلمات الله كذلك . { المرسلين } ه { بآية } ط { من الجاهلين } ه { يسمعون } ه { يرجعون } ه { من ربه } ط { لا يعلمون } ه .
التفسير : لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بعض أسباب ذلك فقال { ومنهم من يستمع إليك } قال ابن عباس : حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف واستمعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر : ما تقول في محمد؟ فقال : ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحريك . شفتيه يتكلم بشيء وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية . وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى ، وكان يحدث قريشاً فيستملحون حديثه فنزلت الآية . والأكنة جمع كنان وهو كل ما وقى شيئاً وستره من الأغطية والقفل ، ومنه أكننت وكننت . وأن يفقهوه مفعول لأجله أي كراهة فقههم . والوقر الثقل في الآذان . والتركيب يدور على الثقل ومنه الوِقر بالكسر الحمل ، والوقار الحلم . وفي الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذي يصرف عن الإيمان ويحول بين المرء وبين قلبه . وقالت المعتزلة : لا يمكن أجراؤها على ظاهرها وإلا كأن فيها حجة الكفار ، ولأنه يكون تكليفاً للعاجز . ولم يتوجه ذمهم في قولهم { وقالوا قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] فلا بد من التأويل وذلك من وجوه الأول : قال الجبائي : إن القوم كانوا يسمعون لقراءة الرسول ليتوسلوا بسماع قراءته إلى مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فكان الله تعالى يلقي على قلوبهم النوم والغفلة ، وعلى آذانهم الثقل . وزيف بأن المراد لوكان ذلك لقيل « أن يسمعوه » بدل « أن يفقوه » .

وبأن قوله { وأن يروا كل آية } أي كل دليل وحجة { لا يؤمنوا بها } لا يناسبه . الثاني : أن المكلف الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم قلبه بعلامة مخصوصة لتستدل الملائكة برؤيتها فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان مع انها في نفسها ليست بمانعة عن الإيمان . الثالث : يقال : إنه جبل على كذا إذا كان مصّراً عليه وذلك على جهة التمثيل . الرابع : لما منعهم الألطاف التي تصلح أن تفعل بالمهتدين وفوّض أمورهم إلى أنفسهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه . الخامس : أن هذا حكاية قولهم { في اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] وعورضت هذه الأدلة بالعلم والداعي ، وذلك أن الله تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن وخلاف علمه محال ، وأنه سبحانه هو الذي خلق فيهم داعية الكفر ومع وجود تلك الداعية يستحيل الإيمان فهو المعنى بالكنان . وتحقيق المسألة تقدم في أول سورة البقرة في قوله { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] والإفراد في { يستمع } والجمع في { قلوبهم } اعتبار اللفظ من تارة ولمعناه أخرى { حتى إذا جاؤك } هي حتى المبتدأة التي يقع بعدها الجمل كقوله : حتى ماء دجلة أشكل .
والجملة ههنا مجموع الشرط والجزاء أعني قوله { إذا جاؤك } يقول : { ويجادلونك } في موضع الحال . ويجوز أن تكون حتى جارّة أي حتى وقت مجيئهم { ويجادلونك } حال بحاله { ويقول } تفسير له . والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى حالة المجادلة . ثم فسر الجدل بأنهم يقولون { إن هذا إلا أساطير الأولين } وأصل السطر هو أن يجعل شيئاً ممتداً مؤلفاً في صف ومنه سطر الكتاب وسطر من نخيل وجمعه أسطار وجمع الجمع أساطير . وقال الزجاج : واحد الأساطير أسطورة كأحاديث وأحدوثة . وقال أبو زيد : لا واحد له كعباديد . قال ابن عباس : معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها . ومن فسر الأساطير بالخرافات والترهات نظر . إلى أن الإغلب هو أن لا يكون فيها فائدة معتبرة كحديث رستم وغيره فذلك معنى وليس بتفسير . ثم إن غرض القوم من هذا القول هو القدح في كون القرآن معجزاً كما الكتب المشتملة على الأخبار والقصص ليست بمعجزة ، والجواب أن هذا مقرون بالتحدي وقد عجزوا عن آخرهم دون تلك فظهر الفرق . ثم أكد طعنهم في القرآن بقوله { وهم ينهون عنه } قال محمد بن الحنفية وابن عباس في رواية والسدي والضحاك : عن القرآن وتدبره والاستماع له { وينأون عنه } والنأي البعد . نأيته ونأيت عنه وناء الرجل إذا بعد لغة في « نأى » وحملوه على القلب لأن المصدر لم يجيء إلا على النأي . وقيل : الضمير للرسول والمراد النهي عن اتباعه والتصديق بنبوّته ، جمعوا بين قبيحين : النأي والنهي فضلوا وأضلوا . وعن عطاء ومقاتل عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتباعد عما جاء به .

روي أن قريشاً اجتمعوا إلى أبي طالب يريدون سوءاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذلك منك عيونا
وعرضت ديناً لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وضعفت هذه الرواية بقوله { إن يهلكون إلا أنفسهم } يعني بما تقدم ذكره ، ولكن النهي عن أذيته حسن لا يوجب الهلاك . ويمكن أن يجاب بأن الذم توجه على الهيئة الاجتماعية الحاصلة من النهي مع النأي كقوله { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] ولو سلم فلم لا يجوز أن يرجع الذم إلى القسم الأخير فقط .
ثم بيَّن أنه كيف يعود الضرر إليهم فقال { ولو ترى إذ وقفوا على النار } وجواب « لو » محذوف أي لرأيت سوء منقلبهم ونحو ذلك . وجاز حذفه للعلم به ولما في الحذف من تفخيم الشأن وهو ذهاب الوهم كل مذهب كما لو قلت لغلامك : والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب . ذهب فكره إلى أنواع المكاره من الضرب والقتل وغيرهما بخلاف ما لو قلت : لأضربنك . ولمثل هذا من إرادة المبالغة قال { وقفوا } بلفظ الماضي مع « إذا » الدال على المضي كأن هذا الأمر وقع وتحقق فكان من حقه أن يخبر عنه بلفظ الماضي أي وقفوا على أن يدخلوا النار وهم يعاينونها ، أو وقفوا عليها وهي تحتهم ، أو هو من قولهم : وقفت على المسألة الفلانية وقوفاً أي عرفوا حقيقتها تعريفاً أو المراد أنهم في جوف النار غائصين فيها فتكون « على » بمعنى « في » وجاز لأن النار دركات بعضها فوق بعض فلا يخلو من معنى الاستعلاء { يا ليتنا نردّ } هو داخل في حكم التمني . أما قوله { ولا نكذب ونكون } فمن قرأ بالنصب فيهما فبإضمار « أن » على جواب التمني والمعنى إن رددنا إلى دار التكليف لم نكذب ونكن من المؤمنين . ومن قرأ بالرفع فيهما فوجهان : أحدهما أن التمني يتم عند قوله { نرد } ثم ابتدؤا { ولا نكذب ونكون } أي ونحن لا نكذب ونكون كأنهم ضمنوا أن لا يكذبوا ويكونوا من المؤمنين سواء حصل الرد أو لم يحصل . وشبهه سيبويه بقولهم : دعني ولا أعود بمعنى دعني وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني . وثانيهما أن يكونا معطوفين على { نرد } أو حالين على معنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيدخل المجموع تحت حكم التمني . وأورد على هذا الوجه أن المتمني لا يكون كاذباً وقد قال تعالى { وإنهم لكاذبون } وأجيب بأن هذا التمني قد تضمن معنى الوعد فجاز أن يتعلق به التكذيب كقول القائل : ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك فهذا متمن في حكم الواعد فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه كذب لأنه كأنه قال : إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك .

وأما قراءة ابن عامر فمعناه إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين ثم رد الله تعالى عليهم بأنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العذاب الذي شاهدوه وعاينوه فقال { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } وما الذي كانوا يخفونه في الدنيا . قال أكثر المفسرين : إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] فينطق الله تعالى جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك معنى { بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } وقال المبرد : بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها ، وذلك أن كفرهم ما كان ظاهراً لهم وإنما ظهر لهم يوم القيامة . وقال الزجاج : بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء منهم من أمر البعث والنشور بدليل قوله بعد ذلك { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } وهذا قول الحسن . وقيل : إنها في المنافقين كانوا يسرون الكفر فيظهر نفاقهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة . وقيل : هو في أهل الكتاب يظهر لهم ما كانوا يكتمونه من صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . والأولى حمل الآية على الكل لأنه يوم تبلى السرائر فلا جرم تظهر الفضائح والقبائح وتنكشف الأسرار وتنهتك الأستار اللهم كفر عنا سيآتنا في ذلك اليوم . ثم قال { ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه } قيل كيف يتصوّر هذا وإنهم قد عرفوا الله تعالى حينئذ بالضرورة وشاهدوا الأحوال والأهوال؟ وأجاب القاضي بأن المراد ولو ردّوا إلى حالة التكليف . وعلى هذا التقدير لا تبقى المعرفة ضرورية فلا يمتنع صدور الكفر عنهم . وضعف بأن المقصود من إيراد هذا الكلام المبالغة في غيهم وتماديهم وإصرارهم على الكفر . وإذا فرض عودهم إلى حالة التكليف زال التعجب كما هو الأن فإذن لا تنحل العقدة إلا بأن يقال : المراد توكيد جريان القضاء السابق فيهم بحيث لو شاهدوا العذاب والعقاب ثم سألوا الرجعة فردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ولم ينجع ذلك فيهم { وإنهم لكاذبون } فيما وعدوا في ضمن التمني أو في كل شيء ولهذا قالوا { إن هي إلا حياتنا الدنيا } « إن » نافية والضمير عائد إلى حقيقة الحياة التي هي أقرب إلينا { وما نحن بمبعوثين } بعدها . وقيل : إن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا البعث ولقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا .
ثم لما قرر إنكارهم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } تمسك بعض المشبهة بهذا على أنه تعالى يحضر تارة ويغيب أخرى ، ورد بأن استعلاء شيء على ذات الله تعالى محال بالاتفاق فوجب تأويل الأية بأنه مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب ، أو لمضاف محذوف أي على جزاء ربهم أو وعده أو إخباره بثواب المؤمنين وعقاب الكافرين ، أوهو من قولك : وقفته على كذا أي أطلعته عليه .

ثم كان لسائل أن يقول : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فأجيب { قال أليس هذا } الذي عاينتموه من حديث البعث والجزاء { بالحق } الذي حدثتموه؟ { قالوا بلى وربنا } وفيه دليل على أن حالهم في الإنكار سيؤل إلى الإقرار ، ثم كأنه سئل ماذا قيل لهم بعد الإقرار؟ فأجيب { قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي بسبب كفركم وذلك ليعلم أن الإقرار في غير دار التكليف لا ينفع ، وذلك أن جوهر النفس اللطيفة القدسية بعث إلى هذا العالم الجسماني الكثيف وأعطى الآلات الجسمانية لتحصيل المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت . فإذا استعملها الإنسان بناء على اعتقاد عدم المعاد في تحصيل اللذات الفانية والسعادات المنقطعة إلى أن ينقضي أجله فقد ضاع رأس المال ولا ربح وذلك قوله { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } أي ببلوغ الآخرة وثوابها وعقابها . عبر عن ذلك بلقاء الله لأنه لا حكم لأحد هناك إلا لله بخلاف الدنيا فإنه قد يظن أن للإنسان تصرفاً واختياراً وملكاً وملكاً . وحمل اللقاء على الرؤية أيضاً غير بعيد عند أهل السنة . و « حتى » غاية ل { كذبوا } لا ل { خسر } لأن خسرانهم لا غاية له أي لم يزل بهم التكذيب إلى تحسرهم وقت مجيء الساعة بل وقت موتهم ، فإن أمارات السعادة والشقاوة تلوح على صفحات أحوال المكلف من وقتئذ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم « من مات فقد قامت قيامته » وسمى يوم القيامة الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل : ما هو إلا ساعة الحساب ، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى ولهذا قال { بغتة } أي فجأة . وانتصابها على الحال أي باغتة من بغته إذا فاجأه ، أو على المصدر العام أي بغتتهم الساعة بغتة أو الخاص لأن البغت نوع من المجيء { قالوا } عامل « إذ » { يا حسرتنا } مثل { يا ويلتي } [ الفرقان : 28 ] وقد مر مثله في سورة المائدة أي احضري فهذا وقتك { على ما فرّطنا } أصله يدل على الترك والهمزة في الإفراط لإزالة ذلك . وقولهم فرطت القوم أي سبقتهم إلى الماء ، معناه تركتهم من ورائي حتى حصل لي التقدم . أما الضمير في { فيها } فقال ابن عباس : أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر في الآية بدلالة العقل لأن موضع التقصير هو الدنيا .

وقال الحسن : أي في وقت الساعة على معنى قصرنا في شأنها والإيمان بها وإعداد الزاد وتحصيل الأهبة لها . وقال محمد بن جرير الطبري : يعود إلى الصفقة والمبايعة بدلالة ذكر الخسران . وقيل : إلى ما فيما فرطنا أي يا حسرتنا على الأعمال والطاعات التي تركناها وقصرنا فيها . ثم بين تضاعف خسرانهم بأنهم لم يحصلوا لأنفسهم مواجب الثواب ولكن حصلوا مواجب العقاب فقال { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } هي الآثام والخطايا . وأصل الوزر الثقل ومنه الوزير لأنه يحمل ثقل صاحبه . والوزر الملجأ لأنه يدفع عنه ما أصابه فكأنه حمله . أما كيفية حملهم الأوزار فقال في الكشاف : إنه مجاز عن حصولها لهم كقوله { فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي . وقال الزجاج : الثقل قد يذكر في الحال والصفة . ثقل عليّ خطاب فلان أي كرهته ، فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم . وقيل : هو كقولك : شخصك نصب عيني أي ذكرك ملازم لي . وقال جمع من المفسرين : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحاً فيقول : أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً } [ مريم : 85 ] قالوا ركباناً وإن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحاً فيقول : أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم قاله قتادة السدي . { ألا ساء ما يزرون } بئس شيئاً يزرون وزرهم .
ثم رغب في الحياة الباقية وزهد في الحياة العاجلة فقال { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } قال ابن عباس : يريد حياة أهل الشرك والنفاق لأن حياة المؤمن تحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً . وقال آخرون : هو عام في حياة المؤمن والكافر وذلك أن مدة اللهو واللعب وكل شيء يلهيك ويشغلك مما لا أصل له قليلة سريعة الانقضاء والزوال ، ومدة هذه الحياة كذلك . وأيضاً اللعب واللهو لا بد أن يتناهيا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك ، ولهذا رفضها العلماء المحققون والحكماء المتألهون . { وللدار الآخرة } قال ابن عباس : هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي . وقال الأصم : التمسك بعمل الآخرة خير . وقال الآخرون : نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا من حيث إنها دائمة باقية مصونة عن شوائب الآفات والمخافات ، آمنة من نقص الانقضاء والانقراض { للذين يتقون } فيه أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن اتقى الكفر والمعاصي ، وأما الكافر والفاسق فالدنيا بالنسبة إليهما خير كما قال صلى الله عليه وسلم : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » { أفلا تعقلون } قال الواحدي : من قرأ بتاء الخطاب فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون ، ومن قرأ بالياء فمعناه أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار؟ وذلك أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوات التي يشارك فيها سائر الحيوانات ، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل ، فالجمل أكثر أكلاً ، والديك والعصفور أكثر وقاعاً ، والذئب والنمر والحيات أقوى غضباً وقهراً ، وكل من وقف عمره على هذه المطالب لم يكن له عند العقلاء وزن ولا عند الحكماء والعلماء قدر ، وكل من صرف عمره في تحصيل الكمالات الدائمات والسعادات الباقيات كان له في العيون مهابة وفي القلوب قبول ، وذلك دليل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وعلو مرتبة الكمالات الروحانية .

وهب أن النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة أليس المعلوم أفضل من المظنون وأن خيرات الآخرة معلومة قطعاً والوصول إلى خيرات الدنيا في الغد غير معلوم ولا مظنون؟ فكم من سلطان قاهر بكرة صار تحت التراب عشية ، وكم من متمول متغلب أصبح أميراً كبيراً ثم أمسى فقيراً حقيراً . وهب أنه وجد بعد هذا اليوم يوماً آخر فلن يمكنه الانتفاع بكل ما جمع من الأسباب ، ولو انتفع فقلما يخلص من شوائب المكاره والآفات كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق . قيل : وما هو يا رسول الله؟ قال : سرور يوم بتمامه » وهب أن الدست له قد تم ، أليس مآل كل ذلك إلى الزوال والانقراض؟ وكفى بذلك نقصاً وكدراً كما قال :
كمال الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { قد نعلم } والمراد كثرة العلم والمبالغة كما مر في قوله { قد نرى تقلب وجهك } [ البقرة : 144 ] والهاء في { أنه } ضمير الشأن وكسرت بعد العلم لمكان لام الابتداء في { ليحزنك } وما ذلك المحزن؟ قال الحسن : هو قولهم ساحر شاعر كاهن مجنون : وقيل : تصريحهم بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه . وقيل : نسبتهم إياه إلى الكذب { فإنهم لا يكذبونك } قال أبو علي وثعب : أكذبه وكذبه بمعنى . وقيل : أكذبت الرجل ألفيته كاذباً ، وكذبته إذا قلت له كذبت . وقال الكسائي : أكذبته إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب . وقال الزجاج : معنى كذبته قلت له كذبت ، ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد . فمن قرأ بالتخفيف نظر إلى أن القوم كانوا يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويج بل تخيل صحة ذلك وأنه نبي إلا أن تخيله باطل . ثم إن ظاهر الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم ولكنهم يجحدون بآيات الله ، وفي الجمع بين الأمرين وجوه : الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن ونبوته ويؤكده رواية السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل بن هشام التقيا فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري .

فقال أبو جهل : والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت . وقال أبو ميسرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا يا محمد إنا والله ما نكذبك إنك عندنا لصادق ولكن نكذب ما جئت به فنزلت . وقال مقاتل : نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل كان يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية ، فإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقاً فإذن هذه الآية نظير قوله تعالى في قصة موسى { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [ النمل : 14 ] فانظر . الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل وما وجدوا منك كذباً وسموك الصادق الأمين فلا يقولون بعد إنك كاذب ، ولكن حجدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمداً عرض له نوع خبل ونقصان فلأجل ذلك تخيل أنه رسول لا أنه كذب في نفسه ، أو لأنهم زعموا أنه أمين في كل الأمور إلا في هذا الواحد . الثالث أنه لما ظهرت المعجزات على يده ثم إن القوم أصروا على التكذيب فقال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني ، ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس : إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني ومثله قوله سبحانه { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] فكأنه قيل له : إله عن حزنك لنفسك وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه . الرابع : قيل في التفسير الكبير : أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً ويكذبون جميع الأنبياء والرسل . وقوله { ولكنّ الظالمين } من إقامة المظهر مقام المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم في جحودهم ، لأن من وضع التكذيب مقام التصديق فقد ظلم . ثم صبر رسوله على أذية القوم فقال { ولقد كذبت رسل } وأيّ رسل { من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } فأنت أولى بهذه السيرة لأنك مبعوث إلى كافة الخلائق فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا . { ولا مبدّل لكلمات الله } أي لمواعيده في نحو قوله { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] وقوله { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون } [ الصافات : 171 ] { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } قال الأخفش « من » زائدة والأصح أنها للتبعيض لقلة مجيء زيادة « من » في الإثبات ، ولأن الواصل إليه بعض قصص الأنبياء لقوله

{ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] فالتقدير : ولقد جاءك بعض أنبائهم . وكان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزلت { وإن كان كبر } أي شق { عليك إعراضهم } عن الإيمان وصحة القرآن { وإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية } فافعل . يعني أنك لا تستطيع ذلك والجواب محذوف وحسن للعلم به . والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان ومنه اشتقاق المنافق . والسلم واحد السلاليم التي يرتقي عليها وأصله من السلامة كأنه يسلمك إلى مصعدك . والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها وبكل ما اقترحوه رجاء إيمانهم ، ويجوز أن يكون ابتغاء النفق أو السلم هو الآية كأنه قيل : لو استطعت ذلك لفعلت كل ذلك ليكون لك آية يؤمنون عندها ، ثم قال { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } قال أهل السنة : فهو دليل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر . وقالت المعتزلة : المراد مشيئة الإلجاء المنافي للتكليف . والإلجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه فيضطرون إلى الإيمان . مثاله : أن يحصل شخص بحضرة السلطان وهناك خدمه وحشمه فيعلم أنه لو هم بقتل ذلك السلطان لقتلوه في الحال فيصير هذا العلم مانعاً له من القتل . وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . أما قوله { فلا تكونن من الجاهلين } أي من الذين يرومون خلاف مأمور الله . فهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة ولكنه يفيد التغليظ وتأكيد الامتناع عن الجزع والإضراب عن الحزن والأسف على إيمان من لم يشأ الله إيمانه .
ثم بيَّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان فقال { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله } مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة . والمراد أنه تعالى هو الذي يقدر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر على ذلك ، يعني أن الذين تحرص على حصول إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون كقوله { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] أو المعنى أن هؤلاء الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون ، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم . أما وجه تشبيه الكفرة بالموتى فلأن حياة الروح بالعلم ومعرفة الصانع كما أن حياة الجسد بالروح . ثم ذكر شبهة أخرى للطاعنين في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أنه ما جاء بآية قاهرة ومعجزة باهرة فكأنهم طعنوا في كون هذا القرآن معجزاً على سبيل العناد أو قياساً على سائر الكتب السماوية ، أو طلبوا معجزات تقرب من حد الإلجاء كشق الجبل وفلق البحر ، فإن معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من تسبيح الحصا وانشقاق القمر وغير ذلك ليست بأقل منها .

أو اقترحوا مزيد الآيات بطريقة التعنت واللجاج كقولهم { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] فأجابهم الله تعالى بقوله { قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن فاعليته ليست إلا بحسب محض المشيئة عند أهل السنة ، أو على وفق المصلحة عند المعتزلة ، لا على موجب اقتراحات الناس ومطالباتهم . أو أنه لما ظهرت المعجزة الباهرة والدلالة الكافية من القرآن وغيره لم يبق لهم عذر ولا علة ، فلو أجابهم إلى مقترحهم فلعلهم يقترحون اقتراحاً ثانياً وثالثاً وهلم جر أو ذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة وهذا خلاف المقصود ، أو لا يعلمون أنه لو أعطاهم سؤلهم ثم لم يؤمنوا لاستوجبوا الاستئصال ، أو لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل العناد لا لأجل الفائدة - وقد علم الله ذلك - لم يعطهم مطلوبهم ولو كان غرضهم طلب الحق ونيله لأعطاهم مطلوبهم على أكمل الوجوه .
التأويل : { ومنهم من يستمع إليك } إنكاراً واختباراً { وجعلنا على قلوبهم } من شؤم إنكارهم حجباً من غير الإنكار { وفي آذانهم وقراً } من فساد الاستعداد الفطري . { وإن يروا كل آية } بعين الظاهر { لا يؤمنوا بها } من عمى القلوب وإعواز نور الإيمان فيها { وهم ينهون } الطلاب عن الحق . { وإن يهلكون } بتنفير الخلق عن الحق { إلا أنفسهم } لأن التباعد من أهل الحق هو البعد عن الحق وهذا هو الهلاك الحقيقي . { ولو ترى إذ وقفوا على النار } أي أرواح الأشقياء بعد الخلاص عن حبس الطبيعة عرفوا ألم عذاب القطيعة { فقالوا يا ليتنا نرد } إلى عالم الصورة وإلى الاستعداد الفطري { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } أين يظهر عليهم آثار الشقاوة التي كتبت لهم وكانوا يتكلفون سترها في عالم الصورة بلباس البشرية { ولو ردوا } إلى عالم الصورة { لعادوا لما نهوا عنه } من اتباع الهوى فيفسدون استعدادهم مرة أخرى { وإنهم لكاذبون } فيما يدعون لأنهم خلقوا لأجل التكذيب لا لأجل التصديق ، ولهذا نسوا ما شاهدوا يوم الميثاق من الألطاف والإعطاف ، وقولهم « بلى » في جواب خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] { إذ وقفوا على ربهم } عرفوا ربوبية ربهم ولو عرفوها في الدنيا لم يذوقوا عذاب البعد في العقبى { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } هي الساعة التي يجتذب العبد فيها عن أوصاف البشرية بجذبات المحبة فجأة وهي قيامة أخرى لأن فيها تبدل أرض البشرية غير الأرض { وأشرقت الأرض بنور ربها } [ الزمر : 69 ] فينظر المحب الصادق بالنور الساطع إلى أيام ضاعت منه في طلب غير الحق فيتأسف عليها ويقول : أيها القانص ما أحسنت صيد الظبيات ، فاتك السرب وما ازددت غير الحسرات { وهم يحملون } أثقال التعلقات الزائدة على ظهور وجودهم ، فإن الوجود على السالك ثقيل مانع عن السلوك فكيف ما زيد عليه؟ { إلا لعب ولهو } كلعب الصبيان ولهو أهل العصيان { وللدار الآخرة } هي السير من البشرية إلى الروحانية والإقبال على الله والإعراض عما سواه { خير للذين يتقون } غير الله { أفلا تعقلون } أن الإنسان خلق لهذا الشأن لا لغيره كقوله

{ واصطنعتك لنفسي } [ طه : 41 ] { قد نعلم إنه ليحزنك } من ضيق نطاق البشرية أثر في حبيب الله مقالة الجهلة ولا مبدل لكلمات الله لمقدّراته التي قدّرها ودبرها من الأزل إلى الأبد بكلمة « كن » { ولو شاء الله لجمعهم } في عالم الأرواح عند رشاش النور على الهدى { فلا تكونن من الجاهلين } الذين لا يعلمون الحكمة في جعل البعض في مظاهر اللطف والبعض بمظاهر القهر . والنهي في حقه صلى الله عليه وسلم هو نهي الامتناع عن الكينونة أي خلق في الأزل ممتنعاً عن الجهل بواسطة كلمة لا تكن كما أنه خلق مستعداً للكمال بكلمة « كن » { قل إن الله قادر على أن ينزل آية } في كل لحظة ولمحة { ولكن أكثرهم لا يعلمون } دلالة الكائنات على المكوّن والممكنات على الواجب والمصنوعات على الصانع { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } [ يوسف : 105 ] .
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد


وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)

القراآت : { أرأيتكم } وبابه بتليين الهمزة : أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف { أريتكم } وبابه بغير همز : عليّ : الباقون : { أرأيتكم } بالتحقيق { فتحنا } بالتشديد : يزيد وابن عامر { به انظر } بضم الهاء روى الأصفهاني عن ورش .
الوقوف : { أمثالكم } ط { يحشرون } ه { في الظلمات } ط { يضلله } ط لابتداء شرط آخر { مستقيم } ه { تدعون } ج لأن جواب « إن » منتظر محذوف تقديره إن كنتم صادقين فأجيبوا مع اتحاد الكلام { صادقين } ه { تشركون } ه { يتضرعون } ه { يعملون } ه { كل شيء } ط { مبلسون } ه { ظلموا } ط { العالمين } ه { يأتيكم به } ط { يصدفون } ه { الظالمون } ه { ومنذرين } ج { يحزنون } ه { يفسقون } ه { إني ملك } ج للابتداء بالنفي مع اتحاد القائل والمقول { إلى } ط { يتفكرون } ه .
التفسير : لما بين أن إنزال سائر المعجزات لو كان مصلحة لهم لفعل ذلك ، أكده بما يؤذن أن آثار فضله وإحسانه ولطفه وامتنانه واصلة إلى جميع الحيوانات ، فلو كانت مصلحة المكلفين في إظهار تلك المعجزات القاهرة الملجئة لم يخل بذلك ألبتة ، وفيه أيضاً مزيد تقرير لأمر البعث وأنه حاصل لجميع الحيوان فضلاً عن الإنسان . فإن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير . وإنما خص من الدواب ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء أو في الماء ، لأن رعاية مصالح الأدون تستلزم رعاية مصالح الأشرف ، ويمكن أن يقال : إن الماء أيضاً من جملة الأرض لأنهما جميعاً ككرة واحدة . قال علماء المعاني : إنما وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بجناحيه ليعلم أنهما باقيان على عمومهما إذ بينهما بخواص الجنسين ، ولولا ذلك لاحتمل أن يقدّر فيهما صفة نحو ترتع أو تصيد فتخصصا ، أو لأوهم أن المراد بهما غير الجنسين المتعارفين لقوله بعده { إلا أمم أمثالكم } وقد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع . قال الحماسي :
طاروا إليه زرافات ووحدانا ... وقيل : ذكر { يطير بجناحيه } ليخرج عنه الملائكة ذوو الأجنحة ، فإن المراد ذكر من هو أدون حالاً . وقيل : إن الوصف للتأكيد كقولهم : نعجة أنثى . وكما يقال : مشيت إليه برجلي . وإنما جمع الأمم مع أنه أفرد الدابة والطائر ، لأن النكرة المستغرقة في معنى الجمع . قال الفراء : كل صنف من البهائم أمة . وفي الحديث « لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها » ثم ما وجه المماثلة بين البشر والدابة والطائر؟ نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال : يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني كقوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] { كل قد علم صلاته وتسبيحه } [ النور : 41 ] وعن أبي الدرداء : أبهمت عقول البهائم إلا عن معرفة الإله وطلب الرزق . ومعرفة الذكر والأنثى . وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين . وقيل : وجه المماثلة كونها جماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض .

وضعف بأن هذا أمر معلوم مشاهد لا فائدة في الإخبار عنه . وقيل : هو أنه دبرها وخلقها وتكفل برزقها وأحصى أحوالها وما يجري عليها من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة . دليله قوله عقيبه { ما فرطنا في الكتاب من شيء } . وقيل : هو أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها وقد جاء في الحديث « يقتص للجماء من القرناء » ولكن قوله بعد ذلك { ثم إلى ربهم يحشرون } يصير كالمكرر . وعن سفيان بن عيينة : ما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم . فمنهم من يقدم إقدام الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يتطوّس كفعال الطاووس ، ومنهم من يشبه الخنزير لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام عن رجيعه لعب فيه ، وكذلك نجد من الأدميين من يسمع خمسين كلمة من الحكمة لا يحفظ واحدة وإن أخطأت مرة واحدة حفظها ، ولم يجلس مجلساً إلا زاد فيه . واعلم يا أخي أنك تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذر والاحتراز . وذهب أهل التناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة موسومة بالأخلاق الفاضلة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك ، وربما قالوا إنها تصل إلى مخالطة عالم الملائكة . وإن كانت شقية جاهلة فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات ، وكلما كانت أكثر شقاء فإنها تنتقل إلى بدن حيوان أخس وأكثر تعباً وعناء . قالوا : وذلك لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية . ثم زعموا أن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها لقوله { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] واستشهدوا بقصة النمل وحديث الهدهد ونحو ذلك . وفي تعداد مذاهب أرباب التناسخ طول والله تعالى أعلم بحقيقة الحال . { ما فرطنا في الكتاب من شيء } « من » مزيدة للاستغراق أي ما تركنا وما أغفلنا شيئاً قط . وقيل : للتبعيض أي ما أهملنا فيه بعض شيء يحتاج المكلف إلى معرفته . والكتاب اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال العالم على التفصيل . وقيل : القرآن لأنه هو الذي تسبق إليه الأذهان فيما بين أهل الإيمان ، وأورد عليه أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب والحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم ولا حاصل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع . وأجيب بأن لفظ التفريط لا يستعمل إلا فيما يجب أن يفعل ، والمحتاج إليه إنما هو الأصول والقوانين لا الفروع التي لا تضبط ولا تتناهى . وما من علم إلا وفي القرآن أصله ومنه شرفه وفضله كقوله { كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] للطب . وقوله { وهو أسرع الحاسبين } [ الأنعام : 62 ] للحساب . وكقوله { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }

[ الأعرف : 199 ] للأخلاق . وأما تفاصيل علم الفروع فذكر العلماء أن السنة والإجماع والقياس كلها مستندة إلى الكتاب كقوله { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] وكقوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] وكقوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] وقيل : إن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام ، لأن الأصل براءة الذمة عن التكاليف كلها وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل ، وكل حكم لم يكن مذكوراً في القرآن بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لم يكن ذلك تكليفاً أو يكون باقياً على أصل الإباحة والله تعالى أعلم . أما قوله { ثم إلى ربهم يحشرون } فللعقلاء فيه قولان : الأوّل قول الأشاعرة إنه تعالى يحشر الدواب والطيور لا لأن إيصال العوض إليهن واجب بل مجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية . الثاني قول المعتزلة لن يحشر الطيور والبهائم إلا لإيصال الأعواض إليها ، لأن إيصال الآلام إليها من غير سبق جناية لا يحسن إلا للعوض . وفرع القاضي على ذلك فقال : كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله تعالى حشره في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض ، والذي لا يكون كذلك لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً إلا أن السمع ورد بحشر الكل فيقطع بذلك . فرع آخر : كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض له على الله تعالى ، وكذا الذي أذن في قتله في كونه مؤذياً أو ألمه بمرض أو سخره للإنسان لأجل حمل الاثقال ، وأما إذا ظلمها الناس فالعوض على الظالم ، وكذا إذا ظلم بعضها بعضاً ، ولو ذبح المأكول لغير مأكله . فالعوض على الذابح ولهذا ورد النهى عن ذبح الحيوان لغير مأكله والمراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل إلى تحصيل تلك المنافع إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح لرضيت به . فرع آخر : مذهب القاضي وأكثر المعتزلة أن العوض منقطع وبعد ذلك تصير تراباً وحينئذ { يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } [ النبأ : 40 ] وقال أبو القاسم البلخي : يجب دوام العوض لأنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة ، وإماتتها توجب الألم ، وذلك الألم يوجب عوضاً آخر وهلم جراً إلى ما لا نهاية له . وأجيب بالمنع من أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا بالإيلام . فرع آخر : البهيمة إذا استحقت عوضاً على بهيمة أخرى : فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه تعالى يوصل ذلك العوض إلى المظلوم وإلا فإنه تعالى يتكفل بذلك العوض ، وهذا القدر يكفي في أحكام الأعواض بحسب المقام وهو سبحانه أعلم . ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما ينادي على عظمته ويشهد لربوبيته وينبه على رحمته الكاملة وعنايته الشاملة قال { والذين كذبوا بآياتنا صم } لا يسمعون كلام الله البتة { وبكم } لا ينطقون بالحق خابطون { في الظلمات } ظلمة الكفر وظلمة الشكوك وظلمة الحيرة والضلالة .

ثم بين أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان كلها بمشيئته وإرادته وتسخيره وتدبيره فقال { من يشأ الله يضلله ومن يِشأ يجعله على صراط مستقيم } والجبائي أوّل الآية بأن المراد أنهم كذلك في الآخرة كقوله { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } [ الإسراء : 97 ] وأنهم شبهوا بمن حاله كذا ، أو هو محمول على الشتم والإهانة ، وأما قوله { من يشأ الله يضلله } أي عن طريق الجنة ولا يشاء الإضلال إلا لمن يستحق عقوبته كما أنه لا يشاء الهدي إلا للمؤمنين . أو المراد بالإضلال منع الألطاف لأنهم ليسوا من أهلها وبالهداية منحها لأنهم من أهلها . ثم بين غاية جهالة الكفار وأنهم مع جحودهم يفزعون إلى الله في البليات فقال { قل أرأيتكم } هو منقول من رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت كأنه قيل : أبصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة بشيء . فهذا من باب إيقاع السبب على المسبب لأن الإخبار إنما يكون بعد المشاهدة أو العرفان . أما إعرابه فالتاء ضمير الفاعل ، والكاف للخطاب . فالتاء يكون بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث . وتختلف هذه المعاني على الكاف نحو : أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن . والتاء في جميع ذلك مفتوحة والكاف حرف خطاب وليست اسماً وإلا لكانت إما مجرورة ولا جار ، وإما مرفوعة وليست الكاف من ضمائر المرفوع ولا رافع أيضاً لأن التاء فاعل ولا يكون لفعل فاعلان ، وإما منصوبة وهو باطل من وجوه : أحدها أن هذا الفعل قد يتعدى إلى مفعولين نحو أرأيتك زيداً ما شأنه . فلو جعلت الكاف مفعولاً لكان ثالثاً . وثانيها لو كان مفعولاً لكان هو الثاني في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت : أرأيتك زيداً ، وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه . وثالثها لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء نحو : أرأيتماكما وأرأيتموكم وأرأيتموكن . وقد ذهب الفراء إلى أنه اسم مضمر منصوب في معنى المرفوع ويجوز تصريف التاء . فأما مفعولا أرأيت في الآية فقيل : هما محذوفان تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟ ودل عليه قوله { أغير الله تدعون } وقيل : لا يحتاج ههنا إلى المفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام في قوله { أغير الله } تقديره أرأيتكم الساعة دعوتم الله وحاصل الآية قل يا محمد لهؤلاء الكفار أرأيتكم إن أتاكم العذاب في الدنيا أو عند قيام الساعة ، أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها { بل إياه تدعون } بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فيكشف ما تدعونه إلى كشفه إن شاء لأن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين .

وعلى هذا يكون قوله { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] باقياً على إطلاقه لكن في الدنيا ، ولو علقت المشيئة بكشف العذاب في الدنيا كان قوله { ادعوني أستجب } [ غافر : 60 ] أيضاً مقيداً بالمشيئة { وتنسون ما تشركون } قال ابن عباس : تتركون الأصنام ولا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع ، ويجوز أن يراد لا تذكرون الأصنام في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده ، والمقصود من الآية تبكيت الكفار كأنه قيل : إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام فلم تقدمون عبادتها؟ وفيه أن مبنى الدين على الحجة والدليل لا على محض التقليد .
ثم سلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن أعلمه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا وأصروا على كفرهم خلاف الأقوام المذكورين الذين يفزعون إلى الله في الشدائد . ويحتمل أن يقال : إن حكم الطائفتين واحد لأن التضرع واللجأ إلى الله إزالة البلية لا على سبيل الإخلاص غير معتبر . وفي الآية محذوف تقديره : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً } فخالفوهم { فأخذناهم بالبأساء والضراء } وحسن الحذف لكونه مفهوماً . والبأساء والضراء البؤس والضر . أو البأساء القحط والجوع ، والضراء الأمراض والأوجاع والرزايا { لعلهم يتضرعون } يتذللون ويتخشعون وأصله الانقياد وترك التمرد . ضرع الرجل ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف . احتج الجبائي بالآية على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وسلط هذه البأساء والضراء عليهم إرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا ، فهو يريد الإيمان والطاعة من الكل . وأجيب بأن الترجي في حقه تعالى محال فإنهم يحملونه على الإرادة ، ونحن نحمله على أنه تعالى يعاملهم معاملة المترجي . فالترجيح على أن الفسق وتزيين الشيطان وكل ما يفرضونه لا بد أن ينتهي إلى خلق الله وتكوينه . أما قوله { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } فمعناه نفي التضرع كأنه قيل : فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا . ولكنه جاء بلولا التحضيضية ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا العناد والقسوة والإعجاب ، ثم بين أنه لما لم ينجع فيهم المواعظ والزواجر نقلهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء ففتح أبواب الخيرات عليهم وسهل موجبات المسرات لديهم كما يفعله الأب المشفق لولده ، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى . ومعنى { كل شيء } أي كل شيء كان مغلقاً عنهم من الخير { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } أي ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ولم يزيدوا إلا بطراً وترفهاً { أخذناهم بغتة } قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة . وقال صلى الله عليه وسلم « إذا رأيت الله يعطي العاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى » قال العلماء : وإنما أخذوا في حال الراحة والرخاء ليكون أشد لتحسرهم على ما فات من السلامة والعطاء { فإذا هم مبلسون } آيسون من كل خير .

وقال الفراء : المبلس الذي انقطع رجاؤه . ويقال للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس . وقال الزجاج : المبلس الشديد الحسرة الحزين . « وإذا » ههنا للمفاجأة وهي ظرف مكان « وهم » مبتدأ و { مبلسون } خبره وهو العامل في « إذا » { فقطع دابر القوم } الدابر للشيء من خلفه كالولد للوالد . دبر فلان القوم يدبرهم دبوراً ودبراً إذا كان أخرهم . أبو عبيدة : دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم . الاصمعي : منهم أحداً واستأصلهم لأن ذلك جارٍ مجرى النعمة على أولئك الرسل ، أو على أولئك الهالكين كيلا يزيدوا كفراً وعناداً فيزدادوا عذاباً وعقاباً ، أو حمد على ما أنعم عليهم قبل ذلك وهو أن كلفهم وأزال عنهم الأعذار والعلل وبعث الأنبياء والرسل وأخذهم بالبأساء . والضراء ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء إلا أنهم لم يزدادوا إلا انهماكاً في الغي والضلال فطهر وجه الأرض من شركهم . وفيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك كل ظالم فإن ذلك من جملة آلاء الله سبحانه ، ثم عاد إلى الدلالة على وجود الصانع الحكيم المختار وبيان وحدته جل جلاله فقال { قل أرأيتم إن أخذ الله } وتقرير ذلك أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب كما عدّدنا منافعها في أوائل الكتاب ، ولا ريب أن القادر على تحصيل قواها فيه وصرفها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وحده ، ومعنى أخذ السمع والبصر تعطيل منافعهما ، ومعنى الختم على القلب إزالة العقل حتى يصير كالمجانين . قال ابن عباس : إنه الطبع أو الإماتة حتى لا يعقل الهدى والصلاح { يأتيكم به } أي بذلك الذي أخذ من السمع والبصر والقلب ، فوضع الضمير موضع اسم الإشارة بناء على أن الضمير المذكور بحكم الاستعمال يلزم أن يكون لذي عقل ولو فرضاً . والأحسن أن يقال : إنه ذكر أشياء متعددة فوجب أن يعود الضمير إلى جميعها مؤنثاً إذ لا ترجيح ، وحيث لم يكن الضمير مؤنثاً علم أنه أراد المذكور مطلقاً فتعين أم يشار إليه بذلك . ثم إنه أقام الضمير المذكور مقامه أو يعود إلى ما أخذ وختم عليه وصح من غير التكلف المذكور بحكم التغليب { انظر } يا محمداً وكل من له أهلية النظر { كيف نصرف الآيات } نوردها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحيث يكون كل واحد منها يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب . ومعنى « ثم » التفاوت بين الحالين و { يصدفون } أي يعرضون . ويقال : امرأة صدوف للتي تعرض وجهها عليك ثم تصدف أي تعرض . والصدف ميل في الحافر إلى الشق الوحشي . وصدف الدرة غشاؤها لميل فيه ، قال الكعبي : لو خلق الله فيهم الإعراض والصد لم ينكر ذلك عليهم . وقالت الأشاعرة : لولا منع الله تعالى لنجع فيهم الدلائل القاطعة للأعذار .

ثم عمم الدليل بقوله { قل أرأيتكم إن أتاكم } والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحان فوجب أن لا يكون معبوداً إلا هو . ثم العذاب المفروض إما أن يجيء من غير سبق أمارة تدل على ذلك وهو البغتة وأكثر ما يكون ذلك بالليل ، أو مع سبق أمارة وهو الجهرة وأكثره بالنهار ولهذا قال الحسن : معناه ليلاً أو نهاراً . أما قوله { هل يهلك إلا القوم الظالمون } أي لا يهلك مع قوله { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } فمعناه أن الهلاك بالحقيقة وهو هلاك التعذيب والسخط مختص بالظالمين الأشرار لأن الأخيار وإن عمهم العذاب إلا أنهم يستفيدون بذلك ثواباً جزيلاً ، فهو لهم بلاء في الظاهر وآلاء في الحقيقة خلاف الظلمة فإنهم يخسرون الدنيا والآخرة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم « إن أمر المؤمن خير كله إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له » واعلم أنه ذكر ههنا { أرأيتكم } مرتين فزاد خطاباً واحداً ، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد ، وفيما بينهما قال { أرأيتم } حيث لم يكن كذلك ، وكذلك في يونس ، ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات . وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } وأن ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } بالثواب على الطاعات { ومنذرين } بالعقاب على المعاصي . فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن { فلا خوف عليهم والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } ومعنى المس التقاء الشيئين من غير فصل . قال في الكشاف : جعل العذبا ماساً كأنه حي يفعل بهم ما يرد من الآلام وفيه نظر ، لأن المس ليس من خواص الأحياء ، نعم إنه من خواص الأجسام ، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيداً . قال القاضي : إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافراً . وأقول : هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس ، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس .
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفي عن نفسه أموراً ثلاثة فقال { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } وهي جمع خزانة للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي { ولا أعلم الغيب } قال في الكشاف : محله النصل عطفاً على محل قوله { عندي خزائن الله } لأنه من جملة المقول أي لا أقول لكم ذاك ولا هذا . قلت : ويحتمل أن يكون عطفاً على { لا أقول } أي قل لا أعلم الغيب فيكون فيه دلالة على أن الغيب بالاستقلال لا يعلمه إلا الله بخلاف كون خزائن الله عنده وكونه ملكاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون له هذه المقامات ولكن لا يظهرها .

واختلف المفسرون في فائدة نفي هذ الأمور فقيل : المراد إظهار التواضع والخضوع لله تعالى والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام . وقيل : المقصود إبداء العجز والضعف وأنه لا يستقل بإيجاد المعجزات التي كانوا يقترحونها كقولهم { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } إلى قوله { هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ] وقيل : أي لا أدّعي سوى النبوّة والرسالة ولا أدّعي الإلهية ولا الملكية وإنما زيد ههنا { لكم } بخلاف سورة هود حيث قال { ولا أقول إني ملك } [ الآية : 31 ] لأنه تقدم ذكر لكم في قوله { إني لكم نذير } [ هود : 25 ] فاكتفى بذلك . قال الجبائي : في الآية دلالة على أن الملك أفضل إذ المراد لا أدّعي فوق منزلتي . قال القاضي : إن كان الغرض التواضع فالأقرب أن ذلك يدل على أن الملك أفضل ، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على أفضلية الملائكة . { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } قيل : هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم من تلقاء نفسه بالاجتهاد في شيء من الأحكام ، ولا يجوز لأحد من أمته أن يعمل إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] فلا يجوز العمل بالقياس ، وأكد هذا الحكم بقوله { قل هل يستوي الأعمى والبصير } وذلك أن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى ، والعمل بمقتضى الوحي يقوم عمل البصير . ثم قال { أفلا تتفكرون } تنبيهاً على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين . وأجيب بأن أصل الاجتهاد والقياس إذا كان بالوحي لم يلزم الضلالة ، والآية مثل للضال والمهتدي أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية والملكية { أفلا تتفكرون } فلا تكونوا ضالين كالعميان ، أو فتعلموا أني ما ادعيت سوى ما يليق بالبشر والله تعالى أعلم وأحكم .
التأويل : { وما من دابة } تدب في أرض البشرية وتتحرك من الحواس والجوارح والنفس وصفاتها { إلا أمم أمثالكم } في السؤال عن أقوالهم وأحوالهم كقوله { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا } [ الإسراء : 36 ] { ما فرطنا } ما تركنا في القرآن من شيء يحتاج إليه الإنسان ظاهره وباطنه ، ذاته وصفاته في السير إلى الله من الأوامر والنواهي والندب والآداب . { ثم إلى ربهم يحشرون } ههنا بالسير وجذبات العناية ، أو هناك بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار في نار القطيعة على وجوههم لأن من شأنهم التكذيب كما قال { والذين كذبوا بآياتنا } بدلائلنا الموصلة إلينا { صم } آذان قلوبهم عن استماع الحق { بكم } ألسنة أحوالهم عن إجابة دعوة الحق في ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة { بل إياه تدعون } لأن رجوعه إلى ربه مركوز في روحانيته .

{ ولقد أرسلنا إلى أمم } أي أرسلنا إليهم نعمة الصحة والكفاف والأمن فشغلوا بها عنا ، فأرسلنا إليهم بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ندعوهم بها إلينا فلم يهتدوا { فأخذناهم بالبأساء والضراء } التي هي موجبة للإلجاء . { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } وعلموا أن حقائق ألطافنا مدرجة في دقائق صور قهرنا ، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في أصداف شدائد بأسنا ، فاستقبلوها بصدق الإلتجاء وحسن التضرع في الدعاء . { فلما نسوا } بسبب القساوة { ما ذكروا به } من معارضة البأساء والضراء فإنها تذكر أيام الرخاء وتعرّف قدر الصحة والنعماء وتؤدي إلى رؤية المنعم { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر بالنعم الظاهرة من الماء والجاه والقبول وأمثالها ، ولأرباب الباطن بالنعم الباطنة من فتوحات الغيب وأشباهها { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } وظنوا أنهم قد استغنوا عن صحبة الشيخ وتعليم تصرفاته فشرعوا في الطلب على وفق هواهم { أخذناهم بغتة } بفقد الأحوال والاشتغال بالقال { فإذا هم مبلسون } متحيرون في تيه الغرور . والحمد لله على إظهار اللطف لأربابه والقهر لأصحابه ليعلم أن الكل بقدر كما قال { قل أرأيتم } الآية إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بصرف استعداد عبودية المولى في عبادة الهوى . فأما من ابتلي بعذاب الله من الآفات والمخافات والأمراض ونحوها ابتلاء فتاب ورجع فهو غيرها لك على الحقيقة { قل لا أقول لكم } لم يقل ليس { عندي خزائن الله } ليعلم أن خزائن الله وهي العلم بحقائق الأشياء وماهياتها عنده بإراءة { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] وباستجابة دعائه في قوله « أرنا الأشياء كما هي » ولكنه يكلم الناس على قدر عقولهم . { ولا أعلم الغيب } أي لا أقول لكم هذا مع أنه كان يخبرهم عما مضى وعما سيكون بإعلام الحق ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في قصة ليلة المعراج « نظرت خلفي نظرة علمت ما كان وما سيكون » { ولا أقول لكم إني ملك } وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبريل : تقدم فقال : لو دنوت أنملة لاحترقت { إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ } أن أخبرهم وقل معهم { قل هل يستوي الأعمى والبصير } فلا يستوي مع الأعمى كلام البصير فكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه وأنا به بصير .


وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

القراآت : { بالغدوة } مضموم الغين ساكن الدال مفتوح الواو وكذا في الكهف : ابن عامر الباقون : بفتح الغين والدال وبالألف { أنه } بالفتح { فإنه } بالكسر : أبو جعفر ونافع . وقرأ ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب جميعاً بالفتح . الباقون : بالكسر فيهما { وليستبين } بياء الغيبة : زيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل . الباقون : بالتاء الفوقانية { سبيل } بالنصب : أبو جعفر ونافع وزيد . الباقون : بالرفع { يقص } ابن كثير وأبو جعفر ونافع وعاصم . الباقون { يقضي الحق } .
الوقوف : { يتقون } ه { وجهه } ط { الظالمين } ه { من بيننا } ط { الشاكرين } ه { الرحمة } ط لمن قرأ { أنه } بكس الألف { رحيم } ه { المجرمين } ه { من دون الله } ط { أهواءكم } لا لتعيين « إذا » بما قبله أي قد ضللت « إذا » اتبعت { المهتدين } ه { وكذبتم به } ط { تستعجلون به } ط { لله } ط { الفاصلين } ه { وبينكم } ط { بالظالمين } ه { إلا هو } ط { والبحر } ط { مبين } ه { مسمى } ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار مع اتحاد المقصود . { تعملون } ه .
التفسير : لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار وهو الإعلام بموضع المخافة فقال له { وأنذر به } قال ابن عباس والزجاج : أي بالقرآن وهو المذكور هنا في قوله { إن أتبع إلا ما يوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] وقال الضحاك : أي بالله . قيل : والأول أولى لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وفيه نظر ، لأن الإنذار لا نزاع فيه أنه قول ولكن المنذر به قلما يكون قولاً لقوله { وأنذرهم يوم الآزفة } [ غافر : 18 ] { فأنذرتكم ناراً تلظى } [ الليل : 14 ] ولو زعم أن المراد وأنذرهم النار والعذاب بواسطة القرآن قلنا : فقدر مثله ههنا ، والمعنى أنذرهم العذاب بقول ينبىء عن شدة سخط الله وعقوبته . أما { الذين يخافون أن يحشروا } فقيل : إنهم الكافرون الذين سبق ذكرهم ، فلعل ناساً من المشركين من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار فأمر أن ينذر هؤلاء دون المتمردين منهم . ثم قال هذا القائل ولا يجوز حمله على المؤمنين لأنهم يعلمون أنهم يحشرون ، والعلم خلاف الخوف والظن . وضعف بأن الخوف شامل للناس كافة لعدم الجزم بالثواب وقبول الطاعة وإن كانوا مقرين بصحة الحشر والنشر فالظاهر أن الضمير يتناول الكل لأن العاقل لا بد أن يخاف الحشر سواء كان جازماً به أو شاكاً فيه . وأيضاً إنه مأمور بتبليغ الكل فلا وجه للتخصيص . وقيل : إنهم قوم مسلمون مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين . وقيل : هم أهل الكتاب لأنهم مقرون بالعبث . ومعنى { إلى ربهم } إلى حكمه وقضائه فلا يلزم منه مكان ولا جهة .

أما قوله { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } فقال الزجاج : إن الجملة في موضع الحال من ضمير { يحشروا } أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم . فإن كان الضمير للكفار فظاهر ، وإن كان للمؤمنين فشفاعة الملائكة والرسل إذا كانت بإذن الله تعالى فإنها تكون بالحقيقة من الله تعالى فصح أنه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ، ولا بد من هذه الحال لأن الحشر مطلقاً ليس مخوفا وإنما المخوف هو الحشر على هذه الحالة لأنهم اعتقدوا أن لا ناصر ولا شفيع إلا الله وإذا لم يكن الله ناصراً وشفيعاً لزم أن لا يكون ناصراً أصلاً . { لعلهم يتقون } قال ابن عباس : لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي . قالت المعتزلة : فيه دلالة على أنه أراد من الكفار التقوى والطاعة . وأجيب بأن الترجي راجع إلى العباد . ولما أمر بإنذار عموم المكلفين ليتقوا أردفهم بذكر المتقين وأمر بتقريبهم وإكرامهم . « روي عن ابن مسعود أن الملأ من قريش مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين - فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك . فقال صلى الله عليه وسلم : ما أنا بطارد المؤمنين . فقالوا : فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت . فقال : نعم طمعاً في إيمانهم » وروي أن عمر قال له : لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون . ثم إنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : اكتب بذلك كتاباً ، فدعا الصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت { ولا تطرد } الآية . فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته . قال سلمان وخباب : فينا نزلت . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته ، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } [ الكهف : 28 ] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه . وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات ، أثنى الله عليهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي . قال ابن عباس والحسن ومجاهد : أي يصلون صلاة الصبح والعصر . وقيل : أي يذكرون ربهم طرفي النهار ، والمراد بالغداة والعشي الدوام . والغداة لغة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، والعشي ما بين الزوال إلى الغروب . قال الجوهري : غدوة بالتنوين نكرة وبدونه معرفة غير مصروفة كسحر . ومحل { يريدون وجهه } نصب على الحال أو على الاستئناف كأنه قيل : ما أرادوا بالمواظبة على الدعاء؟ فأجيب بقوله { يريدون وجهه } ولا يثبت به لله تعالى عضو كما زعمت المجسمة ولكن المراد به التعظيم ، فقد يعبر به عن ذات الشيء أو حقيقته كما يقال : هذا وجه الرأي وذاك وجه الدليل .

وأيضاً المحبة تستلزم طلب رؤية الوجه فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا . ثم علل النهي بقوله { ما عليك من حسابهم من شيء } قيل : الضمير عائد إلى المشركين أي لا يؤاخذوا بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك ذلك إلى أن تطرد المؤمنين ، والأولى أن يعود إلى الفقراء ليناسب قوله { فتطردهم } كما في قصة نوح { إن حسابهم إلا على ربي } [ الشعراء : 113 ] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم كان الأمر على ما زعموا فيما يلزمك إلا اعتبار الظاهر إن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى إليهم ، فالجملتان لهما مؤدى واحد وهو المفهوم من قوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه . وقيل : ما عليك من حساب رزقهم من شيء ولا من حساب رزقك عليهم من شيء . وإنما الرازق لك ولهم هو الله سبحانه فدعهم يكونوا عندك ، أما قوله { فتطردهم } فهو جواب النفي في { ما عليك } وفي انتصاب { فتكون } وجهان : أحدهما أنه جواب النهي ، والثاني أنه عطف على { فتطردهم } على وجه التسبب ، لأن كونه ظالماً معلوم من طردهم ومسبب عنه ، فإن طرد من يستوجب التقريب والترحيب وضع للشيء في غير موضعه ومن هنا طعن بعض الناس في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : كان يقول كلما دخل أولئك الفقراء عليه بعد هذه الواقعة مرحباً بمن عاتبني ربي فيهم أو لفظ هذا معناه . والجواب أنه ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما أفرد لهم مجلساً تألفاً لقلوب المشركين وتكثيراً لسواد الإسلام مع علمه بأنه لا يفوت الفقراء بهذه المصالحة أمر مهم في الدنيا ولا في الدين ، فغاية ذلك أنه يكون من باب تبرك الأولى والأفضل ، { وكذلك } أي مثل ذلك الفتن العظيم { فتنا } ابتلينا بعض الناس ببعض ، فأحد الفريقين وهم الكفار يرى الآخر مقدماً عليه في المناصب الدينية فيقول { أهؤلاء } المسترذلون { منّ الله عليهم من بيننا } كقوله : { أألقي الذكر عليه من بيننا } [ القمر : 25 ] والفريق الآخر يرى الأول مقدماً عليه في الخيرات العاجلة والخصب والسعة الراحة والدعة فيقول : أهذا هو الذي فضله الله علينا . وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله فهو صواب ، ولا اعتراض عليه بحكم المالكية وبحسب رعاية الأصلح . وبالجملة فصفات الكمال غير محصورة ولا تجتمع في إنسان واحد ألبتة بل هي موزعة على الخلائق وكلها محبوبة لذاتها . فكل إنسان يحسد صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفة الكمال ، فمن عرف سر القدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض لغيره وعاش عيشاً طيباً في الدنيا والآخرة . قال هشام بن الحكم الافتتان الاختبار والامتحان ، وفيه دليل على أنه تعالى لا يعلم الجزيئات إلا عن حدوثها .

والجواب أنه يعامل المكلف معاملة المختبر وقد مر مراراً . وقالت الأشاعرة : في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال لأن تلك الفتنة التي ألقاها الله تعالى ليست إلا اعتراضهم على الله والاعتراض عليه كفر . فهو تعالى خالق للكفر . وأيضاً منة الله عليهم ليست إلا بالإيمان ومتابعة الرسول ، فلو كان الموجد للإيمان هو العبد كان العبد هو المان على نفسه . أجاب المعتزلة بأن معنى فتناهم ليقولوا خذلناهم حتى آل أمرهم إلى أن قالوا : فتكون اللام لام العاقبة ، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع أنا ننقل الكلام إلى الخذلان فلا بد من الانتهاء إليه تعالى { أليس الله بأعلم بالشاكرين } بمن يصرف كل ما أنعم به عليه فيما أعطاه لأجله فيظهر أفعاله على حسب معلوم الله تعالى . وقال في الكشاف : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان ، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق .
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم وكان إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال : « الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام » وقال ماهان الحنفي : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً عظاماً ، وأظهروا الندامة والأسف فما أخاله رد عليهم بشيء . فلما ذهبوا وتولوا نزلت الآية . قال في التفسير الكبير : الأقرب أن تحمل الآية على عمومها ، فكل من آمن بآيات الله تعالى يدخل تحت هذا التشريف والإكرام ثم أبدى إشكالاً وهو أن المفسرين اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من جميع آي هذه السورة إنها نزلت بسبب الأمر الفلاني؟ قلت : لا استبعاد في أن تنزل السورة دفعة وينزل الصحابة كل آية منها على واقعة تناسبها ، كيف وهم أعرف بحقائق التنزيل وأعلم بدقائق التأويل لأنهم أهل مشاهدة الوحي وأرباب مزاولة الأمر والنهي؟! واعلم أن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله ، وأنها لا تكاد تنحصر فيجب على المكلف أن يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار والسائح في هذه القفار ليكون دائماً مترقياً في معارجها مترقباً أن تفيض عليه الأنوار من مدارجها فيستعد لبشارة { سلام عليكم } ويستأهل لكرامة { كتب ربكم على نفسه الرحمة } { فقل سلام عليكم } إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم ، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم . قال الزجاج : { سلام } إما مصدر « سلمت سلاماً وتسليماً » مثل : كلمت كلاماً وتكليماً . ومعناه الدعاء بأن يسلم من الآفات في نفسه ودينه ، وإما أن يكون جمع سلامة . وقيل : السلام هو الله أي الله عليكم أي على حفظكم ولعل هذا الوجه إنما يتأتى في المعرف لا في المنكر .

{ كتب ربكم } من جملة المقول لهم تبشيراً بسعة رحمة الله وقبوله التوبة . ومعنى كتب على نفسه أوجب على ذاته إيجاب الكرم لا إيجاباً يستحق بتركه الذم . وقالت المعتزلة : كونه عالماً بقبح القبائح وباستغنائه عنها يمنعه عن الإقدام عليها ولو فعل كان ظلماً ، وإيجاب الرحمة ينافي القول بأنه منع الكافر من الإيمان ثم أمره حال ذلك المنع بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان ، وأجيب بأنه فاعل لما يشاء ولا اعتراض عليه . { أنه من عمل } من قرأ بالفتح فعلى الإبدال من الرحمة ، ومن قرأ بالكسر فعلى الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل : إنه من عمل { منكم سوءاً بجهالة } وهو في موضع الحال أي عمله وهو جاهل . والمراد أنه فاعل فعل الجهال لأن من عمل ما يضره في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه لا من أهل الحكمة والتدبير ، أو أنه جاهل بعاقبته ومن حق الحكيم أن لا يقدم على ما لا يعرف مآل حاله . { ثم تاب من بعده } بأن يندم على ما فعله { وأصلح } العمل في المستقبل { فأنه غفور } يزيل العقاب عنه { رحيم } يوصل الثواب إليه من قرأ بالكسر فعلى : أن الجملة جزاء للشرط ، ومن قرأ بالفتح فعلى أن الخبر أو المبتدأ محذوف أي فغفرانه كائن أو فأمره أنه غفور . قيل : إن الآية نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما طلبوا ولم يعلم أنها مفسدة . { وكذلك } أي كما فصلنا في هذه السورة دلائلنا على التوحيد والنبوة والقضاء والقدر { نفصل الآيات } ونميزها لك في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل { وليستبين } معطوف على محذوف كأنه قيل : ليظهر الحق وليستبين ، أو معلق بمحذوف أي وليستبين سبيل المجرمين فصلنا ذلك التفصيل البين . من رفع « السبيل » قرأ { ليستبين } بالياء أو بالتاء لأن السبيل يذكر ويؤنث ، ومن نصب السبيل قرأ { لتستبين } بتاء الخطاب مع الرسول يقال : استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته واستبانة سبيل المجرمين تستلزم استبانة طريق المحقين ، فلذلك اقتصر على أحدهما كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] ولم يذكر البرد . وإنما ذكر المجرمين دون المحقين لأن طريق الحق واحد والمجرمون أصناف يشتبه أمرهم ، فمنهم من هو مطبوع على قلبه ، ومنهم من يرجى فيهم قبول الإسلام ، ومنهم من دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده فينبغي أن يستوضح سبيلهم ليعامل كلاً منهم بما يجب ، ومن جملة ذلك أنه نهى عن عبادة معبوداتهم وذلك قوله { قل إني نهيت } أي صرفت بدلائل العقلية والسمعية { أن أعبد الذين تدعون } تعبدون { من دون الله قل لا أتبع أهواءكم } لأن عبادة المصنوع والمخلوف محض التقليد وعين الهواى { قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } أثبت الضلال إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد ، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك .

ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله { قل إني على بينة من ربي } على حجة واضحة من مغفرة ربي وأنه لا معبود سواه { وكذبتم } أنتم به حيث أشركتم به غيره . يقال : أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتاً عنده بدليل . وقيل : أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن { وكذبتم به } أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان . { ما عندي ما تستعجلون به } يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] قال الكلبي : نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون : يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم . { إن الحكم إلا لله } مطلق يتناول الكل . فقال الأشاعرة : لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله ، واحتجت المعتزلة بقوله { يقضي الحق } أي كل ما قضى به فهو الحق ، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق . ويمكن أن يقال : إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية . وانتصاب { الحق } على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق ، أو مفعول به من قولهم : قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره . ومثله من قرأ { يقصر الحق } كقوله { نحن نقص عليك أحسن القصص } [ يوسف : 2 ] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره { وهو خير الفاصلين } أي القاضي ، وإنما كتب { يقض } في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وليوافق قراءة { يقص } { قل لو أن عندي } أي في قدرتي وإمكاني { ما تستعجلون } من العذاب { لقضي الأمر } أمر الإهلاك { بيني وبينكم } عاجلاً غضباً لربي { والله أعلم بالظالمين } فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره . فإن قلت : أما يناقض هذا قوله { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا } [ الكهف : 6 ] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان ، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعاً في إيمانه . قلت : لا ، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله { وكان الإنسان عجولا } [ الإسراء : 11 ] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة { وعنده مفاتح الغيب } أراد أن المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع ، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح ، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن ، قال الحكيم في بيانه : إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط ، فعلمه بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر - كليات كانت أو جزيئات - وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح ان يقال : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .

وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضاً عنده فيبطل هذا الحصر ، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب ، فلا يكون المفتاح الأوّل للعلم بجميع المعلومات إلا عنده . ثم إن قوله { وعنده مفاتح الغيب } قضية معقولة مجردة ، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جداً والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالاً لها ليعين الحس العقل فقال { ويعلم ما في البر والبحر } لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول ، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان ، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضاً . ثم أفرد من هذه المحسوسات قسماً فقال { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها . ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال { ولا حبة في ظلمات الأرض } وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى . ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } قال في الكشاف : ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل : وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه . وقوله { إلا في كتاب مبين } كالتكرير لقوله { إلا يعلمها } ومعنى { إلا في كتاب مبين } واحد . والكتاب المبين علم الله أو اللوح . قال علماء التفسير : يجوز أن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء ، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقاً له . أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب سبباً تاماً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم .

ثم لما بين كمال علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله { وهو الذي يتوفاكم } أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز . وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن فتتعطل الحواس عن بعض الاعمال ، وأما عند الموت فتصير جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فلهذا كان النوم أخا الموت فصح إطلاق لفظ الوفاة على النوم من هذا الوجه { ويعلم ما جرحتم } أي ما كسبتم من العمل بالنهار ومنه الجوارح للأعضاء وللسباع { ثم يبعثكم فيه } أي يردّ إليكم أرواحكم بالنهار { ليقضي أجل مسمى } أي أعماركم المكتوبة . وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت . ثم لما ذكر أنه يميتهم أولاً ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جارياً مجرى الإحياء بعد الإماتة فلا جرم استدل بذلك على صحة البعث في القيامة فقال { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون } في ليلكم ونهاركم وجميع أحوالكم وأوقاتكم . واعلم أن في هذه الآية إشكالاً لأن قوله { ويعلم ما جرحتم بالنهار } كان ينبغي أن يكون بعد قوله { ثم يبعثكم فيه } فإن البعث في النهار مقدم على الكسب فيه بل على تعلق العلم بالكسب . ويمكن أن يجاب بأن المراد ويعلم ما جرحتم في النهار الماضي بدليل قوله { جرحتم } دون « تجرحون » ثم يبعثكم في النهار الآتي . والغرض بيان إحاطة علمه وقدرته بالزمانين المحيطين بالليل . ولعل صاحب الكشاف لمكان هذا الإشكال عدل عن هذا التفسير إلى أن قال : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } والخطاب للكفرة أي أنتم منسدحون الليل كالحيف . والانسداح الانبطاح أو الاستلقاء { ويعلم ما جرحتم بالنهار } ما كسبتم من الآثام فيه { ثم يبعثكم } من القبور { فيه } أي في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام في النهار ومن أجله كقولك : فيم دغوتني؟ فيقول : في أمر كذا { ليقضي أجل مسمى } وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم { ثم إليه مرجعكم } وهو المرجع إلى موقف الحساب . والأصوب عندي أن يقال : الخطاب عام ، وكذا الكسب في النهار فينبغي أن لا يقيد بالآثام . أما الضمير في { فيه } فيكون جارياً مجرى اسم الإشارة إلى الكسب . والبعث هو البعث من القبور إلى آخر ما قال والله علم . التأويل : { وأنذر به } أي بهذه الحقائق والمعاني { الذين يخافون } أي يرجون { أن يحشروا إلى ربهم } بجذبات العناية ويتحقق لهم أن { ليس لهم } في الوصول إلى الله { من دونه ولي } من الأولياء { ولا شفيع } يعني من الأنبياء ، لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق . { ولا تطرد الذين يدعون } أخبر عن الفقراء أنهم جلساؤه بالغداة والعشي كما قال « أنا جليس من ذكرني »

فلا تطردهم عن مجالستك فإنهم يطلبوني في متابعتك لا يريدون الدنيا ولا الآخرة ولكن يريدون وجهه .
وكل له سؤل ودين ومذهب ... ووصلكم سؤلي وديني رضاكم
قال المحققون : الإرادة اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله . فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً ، ولا يجد من دون الوصول إلى الله سبحانه سكوناً ولا قراراً { ما عليك من حسابهم من شيء } يعني الذي لنا معك في الحساب من المواصلة والتوحيد في الخلوة فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك ثقلاً { وما من حسابك عليهم من شيء } أي الذي لنا معهم في الحساب من التفرد للوصول والوصال ليس لك إلى ذلك حاجة ليثقل عليهم { فتطردهم } فتكسر قلوبهم بالطرد { فتكون من الظالمين } بوضع الكسر مقام الجبر فإنك بعثت لجبر قلوبهم لا لكسر قلوبهم كقوله { واخفض جناحك للمؤمنين } [ الحجر : 88 ] { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } ليشكر الفاضل وليصبر المفضول فيستويان في الفضل فلهذا قيل : لسليمان ولأيوب كليهما : نعم العبد . مع قدرة سليمان على أسباب الطاعة وعجز أيوب عنها . ومن فتنة الفاضل في المفضول رؤية فضله على المفضول أو تحقيره ، ومنع حقه عنه في فضله ، ومن فتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخطه عليه في منع حقه من فضله عنه ، فإن المعطي والمانع هو الله . ومنه أن لا يرى الفاضل مستحقاً للفضل ليقولوا { أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } { فقل سلام عليكم } إنه سبحانه من كمال فضله على الفقراء حملهم محمل الأكابر والملوك في الدنيا فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : « كن مبتدئاً بالسلام عليهم وفي الآخرة فألهم الملائكة أن يسلموا عليهم في الجنة » { سلام عليكم طبتم } [ الزمر : 73 ] بل سلم بذاته عليهم { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] وكل ذلك نتيجة سلامتهم من ظلمة الخلقة بإصابة رشاش النور في الأزل فلهذا قال { كتب ربكم على نفسه الرحمة } أي الرحمة الخاصة كما خص الخضر في قوله { وآتيناه رحمة من عندنا } [ الكهف : 65 ] والرحمة العامة كما في الحديث الرباني للجنة « إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي » { أنه من عمل منكم } أي من المؤمنين { سوءاً بجهالة } أي بجهالة الجهولية التي جبل الإنسان عليها لا بجهالة الضلالة التي هي نتيجة إخطاء النور فإن هذه لا توبة لها { ثم تاب من بعده } أي رجع إلى الله بقدم السير من بعد إفساد الاستعداد الفطري وأصلح الاستعداد بالأعمال الصالحة لقبول الفيض . { قل إني نهيت } في الأزل بإصابة النور المرشش . { ما عندي ما تستعجلون به } من عبادة الهوى { لقضي الأمر } يعني أمر القتال والخصومات ولاسترحت من أذيتكم لأن الشيء إنما ينفعل عن ضده لا عن شبيهه { وعنده مفاتح الغيب } يعني العلوم العقلية التي هي سبب فتح باب صور عالم الشهادة كالنقاش ينشيء الصور في ذهنه ثم يصوّرها في الخارج .

وإنما وحد الغيب وجمع المفاتح لأن عالم الغيب عالم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة يعلم التكوين { ويعلم ما في البر } وهو عالم الشهادة { والبحر } وهو عالم الغيب { و } بهذا العلم { ما تسقط من ورقة } عن شجرة الوجود { إلا يعلمها } لأنه مكونها ومسقطها { ولا حبة } هي حبة الروح { في ظلمات } صفات أرض النفس ، أو حبة المحبة في ظلمات أرض القلب { ولا رطب ولا يابس } الرطب المؤمن ، واليابس ما سيصير موجوداً وما قد صار . أو الرطب الروحانيات . واليابس الجمادات . أو الرطب المؤمن ، واليابس الكافر . أو الرطب العالم ، واليابس الجاهل . أو الرطب العارف ، واليابس الزاهد . أو الرطب أهل المحبة ، واليابس أهل السلوة . أو الرطب صاحب الشهود ، اليابس صاحب الوجود . أو الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنصيبه { وهو الذي يتوفاكم بالليل } ليل القضاء { ويعلم ما جرحتم بالنهار } نهار القدر أو الليل ، ليل صفات البشرية والنهار نهار الشهود في عالم الوحدة .


وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

القراآت : { توفته } و { استهوته } ممالة : حمزة الباقون : بتاء التأنيث { قل من ينجيكم } من الإنجاء : سهل ويعقوب وعباس . الباقون : بالتشديد { وخفية } بالكسر حيث كان : أبو بكر وحماد . الباقون : بالضم { أنجانا } ممالة : حمزة وعلي وخلف { أنجانا } بدون الإمالة : عاصم . الباقون { أنجيتنا } { قل الله ينجيكم } بالتشديد : يزيد وحمزة وخلف وعاصم وهشام . الباقون : بالتخفيف { بعضٍ انظر } وأشباه ذلك بكسر التنوين : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن شنبوذ عن أهل مكة ، وابن ذكوان { ينسينك } بالتشديد : ابن عامر .
الوقوف : { حفظة } ط { لا يفرطون } ه { الحق } ط { الحاسبين } ه { وخفية } ط لاحتمال الإضمار أي يقولون لئن أنجيتنا ، وتعلق « لئن » بمعنى القول في { تدعونه } أصح { الشاكرين } ه { تشركون } ه { بأس بعض } ط { يفقهون } ه { وهو الحق } ط { بوكيل } ه { مستقر } ط للإبتداء ب « سوف » على التهديد مع شدة اتصال المعنى { يعلمون } ه { غيره } ج { الظالمين } ه { يتقون } ه { ولا شفيع } ط للشرط مع العطف { بما كسبوا } لا لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ، أو لاحتمال أن يكون { الذين } صفة { أولئك } وقوله { لهم شراب } خبر { الهدى ائتنا } ج { هو الهدى } ط { العالمين } لا لأن التقدير وأمرنا بأن أقيموا الصلاة { واتقوه } ط { تحشرون } ه { بالحق } ط { فيكون } ط { في الصور } ط { والشهادة } ط { الخبير } ه .
التفسير : من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله { وهو القاهر فوق عباده } والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه ، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس ، ويتصرف فيها كيف يشاء ، علويات كن أو سفليات ، ذوات أو صفات ، نفوساً أو أبداناً ، أخلاطاً وأركاناً . ومن جملة قهره إرسال الحفظة - وهي جمع حافظ - على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ ق : 18 ] وعلى أفعالهم بقوله { يعلمون ما تفعلون } [ الانفطار : 12 ] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها . وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين ، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار : انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه . قالت العلماء : من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجراً له عن القبائح . ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن .

ومنها التعبد فعلى الملكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك . وقال بعض الحكماء : الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها المتضادة على امتزاجها . وقال بعض القدماء : منهم النفوس البشرية والأرواح السفلية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها ، فبعضها خيرة وبعضها شريرة ، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة ، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة ، وعلى سبيل الإلهامات أخرى . فالأرواح الخيرة لها مبادٍ من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادىء في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير . وقيل : إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها { حتى إذا جاء أحدكم الموت } أي وقته أو أماراته { توفته رسلنا } أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله { يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر : 42 ] . وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله { يتوفاكم ملك الموت } [ السجدة : 11 ] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان : أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون . وعن مجاهد : جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله ، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين . { وهم لا يفرطون } لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة { ثم ردوا إلى الله } أي إلى حكمه وجزائه { مولاهم الحق } صفتان والضمير في { ردوا } إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة ، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب ، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق . وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتاً والإنسان مردود إليه تعالى . وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجوداً قبل البدن وقد تعلق به زماناً ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { ألا له الحكم } كقوله : { إن الحكم إلا لله } [ الأنعام : 57 ] { وهو أسرع الحاسبين } حساباً قيل : إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله كلام عن كلام . وقيل : يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله

{ ولا يكلمهم الله } [ البقرة : 174 ] وقال الحكيم : معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق ، قليلة كانت أو كثيرة ، حميدة أو ذميمة ، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده . وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال . قال الجبائي - ههنا : لو كان كلامه قديماً لوجب أن يكون متكلماً بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم . وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالماً بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالماً بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم . ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } مجازاً عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة : يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص ، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة . وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب ، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء . { تدعونه } في موضع الحال { تضرعاً وخفية } مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص . والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور : أحدها الدعاء . الثاني التضرع . والثالث : الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله { وخفية } ورابعها : التزام الشكر هو المراد من قوله { لئن أنجيتنا من هذه } الظلم والشدة { لنكونن من الشاكرين } فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات . ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب ، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى . وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا ، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا . ثم ذكر نوعاً آخر من دلائل التوحيد مقروناً بنوع من التخويف فقال { قل هو القادر } واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر ، وهو الكامل القدرة { على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل { أو من تحت أرجلكم } كما أغرق فرعون وخسف بقارون . وقيل : من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم . وقيل : هو حبس المطر والنبات { أو يلبسكم شيعاً } هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام . ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « » سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني « » وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف «

قالت الأشاعرة : في قوله { أو يلبسكم شيعاً } دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله { ويذيق بعضكم بأس بعض } إشارة إلى أن أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة : الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به ، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة { انظر كيف نصرف الآيات } نقرر الدلائل الواضحات . وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير : انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها { لعلهم يفقهون } { وكذب به } أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة { قومك } يعني قريشاً ومن دان بدينهم { وهو الحق } أي لا بد أن ينزل بهم . وقيل : أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله . وقيل : أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات . { قل لست عليكم بوكيل } أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر . { لكل نبأ لكل } خبره يخبره الله تعالى { مستقر } أي استقرار أو موضع استقرار . والمراد بالنبأ المنبأ به لأن النبأ قد حصل ، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتاً ومكاناً يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير { وسوف تعلمون } فيه من التهديد ما فيه .
ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال { وإذا رأيت } أيها السامع { الذين يخوضون في آياتنا } والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث ، ويقرب منه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك { فأعرض عنهم } بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك { فلا تقعد بعد الذكرى } وقيل : المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه ، هذا عند عدم الخوف ، أما مع الخوف فهذا الفرض ساقط والتقية واجبة . نعم كل ما أوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم فعله وجب عليه ، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها { وإما ينسينك الشيطان } أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم { فلا تقعد بعد الذكرى } بعد أن تذكر النهي { مع القوم الظالمين } أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم . قال الليث : الذكرى اسم للتذكرة .

وقال الفراء : هي الذكر . قال في الكشاف بناء على مذهبه : يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى ، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم . قال الجبائي : إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف ، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف ، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف ، وهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق لا يقع ، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لم يكن الكافر قادراً على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان . قال ابن عباس : قال المسلمون : لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله { وما على الذين يتقون } أي الشرك والكبائر والفواحش { من حسابهم } من ذنوبهم التي يحاسبون عليها { من شيء ولكن ذكرى } أي ولكن يذكرونهم تذكيراً ، أو ولكن عليهم أن يذكروهم ، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى . ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل { من شيء } كقول القائل : ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله { من حسابهم } يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين . ثم أكد الإعراض عنهم بقوله { وذر الذين } والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله { فأعرض عنهم وعظهم } [ النساء : 63 ] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم { اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } وفيه وجوه : اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به واستهزؤا ، أو أتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها ديناً لهم ، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب ، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعباً ولهواً لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى . قال ابن عباس : أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه . ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله { وغرتهم الحياة الدنيا } كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا { وذكر به } أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة { أن تبسل نفس } قال الحسن ومجاهد : أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه . وقال قتادة : تحبس في جهنم . وعن ابن عباس : تفتضح { ليس لها } أي النفس { من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل } إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله { لا يؤخذ منها } قال في الكشاف : فاعل { يؤخذ } قوله { منها } لا ضمير العدل لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ .

وأما في قوله { ولا يؤخذ منها عدل } فبمعنى المفتدى به فصح إسناده . قلت : إن فسر الأخذ بالقبول كما في قوله { ويأخذ الصدقات } [ التوبة : 104 ] ارتفع الفرق . { أولئك } المتخذون { هم الذين أبسلوا بما كسبوا } ثم بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله { لهم شراب من حميم } ثم رد على عبدة الأصنام بقوله { قل أندعوا من دون الله } النافع الضار { ما لا ينفعنا ولا يضرنا } أي لا يقدر على النفع والضر { ونرد } داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام ، فإن الردة عود إلى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } [ النحل : 78 ] { كالذي استهوته } محله النصب على الحال من الضمير في { نرد } أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة كقوله : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } [ الحج : 31 ] وقيل : اشتقاقه من اتباع الهوى و { حيران } حال أخرى لكن من الضمير في { استهوته } وكذا الجملة بعده . ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه . ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء . { له } أي لهذا المستهوي { أصحاب } رفقة { يدعونه إلى الهدى } أي إن يهدوه الطريق المستوي فيكون مصدراً . وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له { ائتنا } أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه ، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن غير ملتفت اليهم . وقيل : إن لذلك الكافر أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى . وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان { قل إن هدى الله } وهو الإسلام { هو } الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال { وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا } قال الزجاج : لا بد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير : وأمرنا لنسلم ولنقيم ، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا : قيل : والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر . وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك . والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح ، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله { لنسلم } ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله { وأن أقيموا } ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله { واتقوه } ثم قال { وهو الذي إليه تحشرون } ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر .

ثم دل على وجود الحاشر بقوله { وهو الذي خلق السموات والأرض } قائما أو ملتبساً { بالحق } بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة ، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثاراً تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق { يوم يقول كن فيكون قوله الحق } فقوله فاعل { يكون } و { يوم } مفعول { خلق } والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد ، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق « كن فيكون » وعلى هذا يجوز أن يكون قوله { الحق } مبتدأ وخبراً مستأنفاً ، أو قوله { الحق } مبتدأ و { يوم يقول } ظرف دال على الخبر مثل « يوم الجمعة القتال » أي القتال واقع يوم الجمعة . والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خالٍ عن الجور والعبث { ويوم ينفخ } ظرف لقوله { وله الملك } كقوله { لمن الملك اليوم } [ غافر : 16 ] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع . والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن { ونفخ في الصور فصعق } [ الزمر : 68 ] ففزع { فإذا نقر في الناقور } [ المدثر : 8 ] وقال أبو عبيدة : الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة . وخطأه الأئمة فقالوا : كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف ، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإسان على صور بالفتح كقوله { فأحسن صوركم } [ غافر : 64 ] ومن أسكن فقد أخطأ ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] { فنفخنا فيها من روحنا } [ الأنبياء : 91 ] { ثم أنشأناه خلقاً آخر } [ المؤمنون : 14 ] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله { عالم الغيب والشهادة } أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات { وهو الحكيم } المصيب في أقواله وأفعاله { الخبير } النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس ، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق .
التأويل : { وهو القاهر } بوصف الجلال للأولياء ، قهار بوصف الجبروت للأعداء . { ويرسل عليكم حفظة } من صفات قهره حتى لو أرادت نفسه الخروج عن قيد مجاهدتها قهرتها سطوات العتاب فردتها إلى بذل الجهد ، وإن أراد قلبه فرجة عن مطالبات العزة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة ، ولو أراد روحه استرواحاً من الحرقات قهرته بوارق التجلي فردته إلى بذل المهجة { حتى إذا جاء أحدكم الموت } يعني الفناء عن أوصاف الوجود { توفته } رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف { ثم ردوا } إلى البقاء بالله { قل الله ينجيكم من ظلمات } بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية .

{ تدعونه تضرعا } بالجسم { وخفية } بالروح { ومن كل كرب } آفة وفتنة { ثم أنتم تشركون } حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته ، فبعضكم يقول : أنا الحق وبعضكم يقول : سبحاني ما أعظم شأني { عذاباً من فوقكم } بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم { أو من تحت أرجلكم } حجاباً من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم { أو يلبسكم شيعاً } بجعل الخلق فيكم فرقاً . فمن قائل هم الصديقون ، ومن قائل هم الزنديقون { ويذيق بعضكم بأس بعض } بالقتل والصلب وقطع الأطراف { انظر كيف نصرف } آيات المصارف للسائرين إلى الله { لعلهم يفقهون } لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن كلية الوجود بالبقاء بشهود المعبود { وكذب } بهذا المقام { قومك } المنكرون { وهو الحق قل لست عليكم بوكيل } لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال { لكل نبأ مستقر } أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد { وإذا رأيت الذين يخوضون } في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها { فأعرض عنهم } ولا تجالسهم { حتى يخوضوا في حديث } غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح . { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } لأن همهم من لبس الخرقة والتزيي بزي الطالبين إنما هو الدنيا وقبول الحق { أن تبسل نفس } أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية { بما كانوا يكفرون } بمقامات الرجال من الوصول والوصال { قل أندعوا من دون الله } أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار . والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه ، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه . { ونرد على أعقابنا } إلى مقام الإثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى { حيران } من إغوائهم . { وأمرنا لنسلم } بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلماً لصولجان القضاء { وأن أقيموا الصلاة } بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه لا إلى الجنة أو النار كما قال : ألا من طلبني وجدني . { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } أي لإظهار صفاته ، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبداً من عباده تلك الصفات يقول له : كن رائياً فيكون ، ولن يصير رائياً بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائياً هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية ، ينفخ الإراءة في صور القلب { وهو الحكيم } فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات { الخبير } بمن يخصه من بين الناس بالإراءة .


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

القراآت : { إني أراك } بفتح الياء : أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر ونافع { لأبيه آزر } بالضم على النداء : يعقوب { رأى كوكباً } بإمالة الهمزة : أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش . وكذلك { رآه } و { رآك } وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس وهبيرة من طريق الخراز بكسر الراء والهمزة . وافق ابن ذكوان في { رأى } فقط وخالفهم فيما اتصلت بالكاف والهاء في سورة النجم . وافق مجاهد والنقاش بالإمالة وكسر الراء في سورة « اقرأ باسم » { رأى القمر } و { رأى الشمس } ونحوهما بكسر الراء وفتح الهمزة : حمزة وخلف ونصر وعباس ويحي والخراز . وروى خلف عن يحي بكسر الراء والهمزة { أتحاجوني } بتخفيف النون : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان . الباقون : بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية { وقد هدان } بالإمالة : علي . وقرأ سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الحالين ، وافق أبو عمرو ويزيد واسماعيل في الوصل . { درجات } بالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب .
الوقوف : { آلهة } ج للابتداء بأن مع اتحاد القول { مبين } ه { الموقنين } ه { رأى كوكباً } ج لأن جواب « لما » قوله « رأى » مع اتحاد الكلام بلا عطف { ربي } ج لأن جواب « لما » منتظر مع فاء التعقيب فيها . { الآفلين } ه { هذا ربي } ج لذلك { الضالين } ه { هذا أكبر } ج لذلك { يشركون } ه { المشركين } ج لاحتمال الواو الحال أي وقد حاجه . { قومه } ط { هدان } ط لانتهاء الاستفهام { شيئا } ط { علما } ط { تتذكرون } ه { سلطانا } ط للاستفهام بعد تمام الاستفهام { بالأمن } ج لأن جواب « إن » منتظر محذوف التقدير : إن كنتم تعلمون فأجيبوا مع اتحاد الكلام { تعلمون } ه لتناهي الاستفهام وابتداء إخبار ، ولو وصل اتصل بما قبله { يهتدون } ه { على قومه } ط { من نشاء } ط { عليم } ه .
التفسير : إنه سبحانه كثيراً ما يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم صلوات الرحمن عليه لأنه يعرف بالفضل والتقدم عند جميع الطوائف ، وذلك أنه سلم قلبه للرحمن ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان . ثم إن بظاهر الآية يدل على أن اسم والد ابراهيم هو آزر ، ومنهم من قال : اسمه تارح . قال الزجاج : لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح ، فمن الملحدة من طعن في هذا النسب لهذا السبب . والجواب أن إجماع النسابة لا عبرة به لأن ذلك ينتهي إلى قول الواحد أو الأثنين - مثل وهب وكعب - أو غيرهما . سلمنا أن اسمه كان « تارح » لكنه من المحتمل أن يكون أحدهما لقباً والآخر اسماً أصلياً ، أو يكون آزر صفة مخصوصة في لغتهم كالمخطىء والمخذول . وقيل : إن آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهذا عند من يجوز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب .

وقيل : إن آزر اسم صنم يجوز أن ينبز به للزومه عبادته ، فإن من بالغ في محبة واحد فقد يجعل اسم المحبوب اسماً للمحب قال تعالى { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } [ الإسراء : 71 ] وقال الشاعر :
أدعى بأسماء نبزاً في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي .
أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : إن والد إبراهيم كان تارح وكان آزر عماً له والعم قد يطلق عليه اسم الأب بدليل قوله { نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق } [ البقرة : 133 ] ومعلوم أن إسماعيل كان عماً ليعقوب . ومما يدل على صحة ظاهر الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا حراصاً متهالكين على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهار نقصه ، فلو كان النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذبيه ، وحيث لم يكذبوه علمنا أن النسب صحيح ، قالت المعتزلة ومن يجري مجراهم : إن أحداً من آباء الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان كافراً وفسروا قوله { وتقلبك في الساجدين } [ الشعراء : 219 ] بانتقاله من ساجد إلى ساجد وأكدوه بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات » وإن آزر كان عم إبراهيم وما كان والداً له لأن إبراهيم شافهه بالغلظة والجفاء في قوله : { إني أراك وقومك في ضلال مبين } وقد قال تعالى { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما } [ الإسراء : 23 ] ولأنه ناداه بالاسم في قراءة من قرأ « آزر » بالضم . والنداء بالاسم دليل الاستخفاف ولهذا لم يقرأ بالضم في قوله { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني } [ الأعراف : 142 ] وأجيب بأن قوله { وتقلبك في الساجدين } [ الشعراء : 219 ] يحتمل وجوهاً أخرى سوف يجيء ذكرها ، وبأن قوله « لم أزل أنتقل » محمول على أنه لم يقع في نسبه ما كان سفاحاً . والتغليظ من إبراهيم إنما كان لأجل إصرار أبيه على الكفر كما قال { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [ التوبة : 114 ] لا لأجل السفه والجفاء لقوله { إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب } [ هود : 75 ] ثم إن إبراهيم احتج على فساد اعتقاد عبدة الأصنام بقوله منكراً على آزر وقومه { أتتخذ أصناماً آلهة } أي معبودين . وذلك أن الأصنام لو كان لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافياً فلما لم يكن الواحد كافياً دل ذلك على عجزها وإن كثرت ، واحتج بعضهم بالآية على وجوب معرفة الله تعالى ، وعلى أن وجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع لأن إبراهيم حكم عليهم بالضلال من حيث النظر والاستدلال ، وأجيب بأنه لعله عرف ضلالهم بحكم شرع الأنبياء المتقدمين عليه { وكذلك } أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله { نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل « أريناه » بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل : كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه ، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين : معلومات الله غير متناهية ، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضاً غير متناهية .

فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل ، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى ، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته ، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت! ولهذا قيل : السفر إلى الله تعالى له نهاية ، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية . والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت ومن الرهبة . قال بعضهم : إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين . قالوا : شق له تحت السموات حتى رأى العرش والكرسي إلى منتهى الأجرام العلوية ، وشق له الأرض إلى ما تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب . عن ابن عباس أنه قال : لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبداً على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك ، فقال الله تعالى له : كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث : إما أن أجعل منهم ذرية طيبة ، أو يتوبون فأغفر لهم ، أو النار من ورائهم . وقال الأكثرون : إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة ، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعاً . وأيضاً قوله { فلما جن عليه الليل } جارٍ مجرى الشرع والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم . ثم قال بالآخرة { وتلك حجتنا } والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه . وأيضاً الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الأخرة . وأيضاً اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقاً بالشك ، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين ، أو ليكون من الموقنين نريه ، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سبباً للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون { ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى } [ طه : 56 ] وأيضاً الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال ، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء ، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله .

أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها ، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله ، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله . وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي ، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في دعائه « أرني الأشياء كما هي » ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة ، ويكون جارياً مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نوراً وإشراقاً وانبساطاً إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله { فلما جن عليه الليل } قال في الكشاف : إنه معطوف على قوله { وإذ قال إبراهيم } وقوله { وكذلك نرى } جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه . يقال : جن عليه الليل وأجنه الليل . والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين . وقيل : جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب « على » . وأما « أجنة » فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم . واعلم أن كثيراً من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه . فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس ، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في بجبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه ، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه . وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له رباً فسأل الأم فقال لها : من ربي؟ فقالت : أنا . فقال : من ربك؟ فقالت : أبوك . فقال لأبيه : من ربك؟ فقال : ملك البلد . فعرف إبراهيم جهلهما بربهما . فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال : هذا ربي إلى آخر القصة . ثم منهم من قال : كان هذا بعد البلوغ وأوان التكليف ، ومنهم من قال : كان هذا قبل البلوغ . وأكثر المحققين على فساد هذا القول لوجوه منها : أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق .

ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مراراً بقوله { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] الآيات . وفي هذا الموضع دعا أباه إلى التوحيد بالكلام الخشن ، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة . ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله { فلما جن } ومنها أنه تعالى وصفه بقوله { إذ جاء ربه بقلب سليم } [ الصافات : 84 ] ومدحه بقوله { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } [ الأنبياء : 5 ] أي من أول زمان الفطرة . ومنها قوله عقيب هذه القصة { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } ولم يقل « على نفسه » . ومنها أنه قال بعد القصة { يا قوم إني بريء مما تشركون } مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم . ومنها قوله { وحاجة قومه } وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال { لا أحب الآفلين } رداً وتنبيهاً على فساد قولهم ، ويؤكده قوله { كيف أخاف ما أشركتم } لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار ، وكان ينبغي أن يستدل أوّلاً بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريق الأولى ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم . والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلعت الشمس . ثم ههنا احتمالان : الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله ، مثاله : أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم : الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركباً متغيراً . فقولك « الجسم قديم » إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه ، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم : الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده . قال تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي } [ القصص : 62 ] وقال { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] أي عند نفسك . وكان صلى الله عليه وسلم يقول : « يا إله الآلهة في زعمهم » أو المراد منه لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام ، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا } [ البقرة : 127 ] أي يقولان ربنا { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم } [ الزمر : 3 ] أي يقولون : ما نعبدهم { إلا ليقربونا } [ الزمر : 3 ] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء ، أو أنه عليه السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم مع أن إبراهيم كان مطمئناً بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقاً سوى ذلك .

وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى . قالت العلماء : إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر . ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم . وإن من كان في الصلاة فرأى طفلاً أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } [ الصافات : 88 ] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئاً عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام قال المتكلمون : إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية ، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذباً لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا ههنا قوله { هذا ربي } لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزاً . الاحتمال الثاني : أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال { هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين } ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس { إني بريء مما تشركون } واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة ، لأن الإرهاص - وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى - جائز عندنا . ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول . قال في الكشاف : فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب . وأنا أقول : الاحتجاج بالبزوغ في الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعاً لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال ، وكذا إلى القمر وإلى الشمس دليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغاً .

ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات . وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة ، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم . وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب ، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك فإنه لا يصلح للإلهية ، أقصى ما في الباب أن يقال : إن لها تأثيرات في أحوال العالم السفلى ، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات ، فيجب أن يكون قادراً على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدإ بحال ، ويعلم من قوله { لا أحب الآفلين } أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائباً عنا فكان آفلاً ، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة . وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلى النظر والاستدلال . أما قوله { فلما رأى القمر بازغاً } يقال بزغ القمر أو الشمس إذا ابتدأ بالطلوع . وأصل البزغ الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً قاله الأزهري . وفي قوله { إن لم يهدني ربي } إشارة إلى أن الهداية ليست إلا من الله تعالى . والمعتزلة حملوها على التمكين وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل ، وزيف بأن كل ذلك كان حاصلاً فالهداية التي كان يطلبها بعد ذلك لا بد أن تكون زائدة عليها { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } أراد هذا الطالع أو هذا المرئي ، أو ذكر بتأويل الضياء والنور ، أو باعتبار الخبر وهو رب مع رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند اللفظ الدال على الربوبية كما لم يقولوا في صفة الله علامة وإن كانت بتاء مبالغة { هذا أكبر } أي أكبر الكواكب جرماً ونوراً ، وقد برهن في الهيئة على أنها مائة وستة وستون مثلاً لكرة الأرض كلها . وإنما لم يقتصر على ذكر الشمس أوّلاً مع أنه يلزم منه عدم ربوبية ما دونها من القمر والكواكب ، لأنه أراد الأخذ من الأدون إلى الأعلى لمزيد التقرير والتصوير { يا قوم إني بريء مما تشركون } قيل : لا يلزم من نفي ربوبية النجوم نفي الشريك مطلقاً . والجواب أن القوم لم ينازعوه إلا في الصور المذكورة ، فلما أثبت أنها ليست أرباباً ثبت بالاتفاق نفي الشركاء على الإطلاق . ومعنى { وجهت وجهي للذي فطر } وجهت عبادتي لأجله فإن من كان مطيعاً لغيره منقاداً لأمره فإنه يوجه وجهه إليه ، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة . وأصل الفطر الشق يقال : تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهرهما ، والحنيف المائل عن كل معبود سوى الله تعالى .

قال أبو العالية : الذي يستقبل البيت في صلاته .
ثم إن قومه حاجوه متمسكين بالتقليد تارة كقولهم { إنا وجدنا آباءنا على أمة } [ الزخرف : 22 ] وكقولهم للرسول صلى الله عليه وسلم { أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب } [ ص : 5 ] ومخوّفين إياه بالأصنام أخرى فأجابهم بقوله { أتحاجوني في الله وقد هدان } أي لما ثبت بالدليل الموجب للهداية صحة قولي فكيف ألتفت إلى حجتكم الواهية؟ { ولا أخاف ما تشركون به } لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر { إلا أن يشاء } إلا وقت مشيئة { ربي } شيئاً يخاف . فحذف المضاف أي إلا إن أذنبت فيشاء إنزال العقوبة بي ، أو إلا أن يريد ابتلائي بمحنة ، أو إلا أن يمكن بعض تلك الأصنام من ضري مثل أن يرجمني بكوكب ، أو كان قد أودع فيها طلسم فيصيبني مكروه من جهته بإذن الله تعالى ، وفائدة الاستثناء أنه لو حدث به شيء من المكاره في الأيام المستقبلة لم يحمله الحمقى والجهلة على قدرة الأصنام { وسع ربي كل شيء علماً } فلا يفعل إلا الخير والصلاح { أفلا تتذكرون } أن نفي الأنداد عن رب الأرباب لا يوجد حلول العقاب ونزول العذاب ، وأن الصحيح لا يساوي الفاسد ، والعاجز لا يساوي القادر؟ ثم أكد ذلك بقوله { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً } إذ لا سلطان فينزل . وقيل : إنه لا يمتنع عقلاً أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للصلاة والدعاء ، ولكنه لم يؤمر به . والمعنى ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم إلا من في موضع الخوف؟ ثم قال { فأي الفريقين } يعني فريقي المشركين والموحدين . ولم يقل « فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم » اجتناباً عن تزكية نفسه . والغرض إني أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله { الذين آمنوا } الآية ، والمعنى أن الذي حصل لهم الأمن المطلق هم المستجمعون لكمال القوة النظرية وسنامه الإيمان ، ولكمال القوة العلمية وهو وضع الأشياء في موضعها وإليه الإشارة بقوله { ولم يلبسوا } أي لم يخلطوا إيمانهم { بظلم } . قالت الأشاعرة : شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم ، ولو كان ترك الظلم داخلاً في الإيمان لم يكن لهذا التقييد فائدة فثبت أن الفاسق مؤمن . وقالت المعتزلة : شرط في حصول الأمن حصول الأمرين : الإيمان وعدم الظلم . فوجب أن لا يحصل إلا من للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له أبداً . وأجيب بأن الظلم ههنا الشرك لقوله { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] واجتماعه مع الإقرار بالصانع ممكن وحينئذ يصح إطلاق اللبس بمعنى الخلط ويكون المراد : الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا له شريكاً في المعبودية ، ويؤيده أن القصة وردت في نفس الأضداد والأنداد .

وأيضاً لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي . واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم ، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريراً لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله { فلما جن عليه الليل } إلى ههنا وإليها الإشارة بقوله { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } أرشدناه إليها ووفقناه لها { نرفع درجات من نشاء } من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد ، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله { ورفع بعضهم درجات } [ البقرة : 253 ] وقد تقدم في البقرة ، واختلف في تلك الدرجات فقيل : أعماله في الآخرة ، وقيل : تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني ، وقيل : نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة ، وفي الآخرة بالجنة والثواب . أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم { إن ربك حكيم عليم } فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة .
التأويل : رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقناً عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه { فلما جن عليه } ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه ، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعاً من أفق سماء روحانيته فقال : { هذا ربي } أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل :
هوى فؤادي ولم يعلم به بدني ... فالجسم في غربة والروح في وطن
فإن كذبت النفس فيما قالت للكواكب « هذا ربي » ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب . فقال { هذا ربي } فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره { لا أحب الآفلين } فلما تسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر { قال هذا ربي فلما أفل } عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن { لم يهدني ربي } برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة { لأكونن من القوم الضالين } عن الحق كآزر وقومه . فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية ، وأشرقت أرض القلب بنور ربها { قال هذا ربي فلما أفلت } شمس الهداية تعززاً وتعظماً ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية .
إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب .
تبرأ عن الأضداد والأنداد ونزعته همة الخلة عن الجهات وخلصه تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال . فقال { يا قوم إني بريء مما تشركون } وقد يدور في الخلد أن إبراهيم صلوات الله الرحمن عليه جن عليه ظلمة الشهبة فنظر أولاً في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغير فلم يرها تصلح للإلهية ، فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجردة ، فصادفها آفلة في أفق الإمكان فلم يبقَ إلا الواجب الحق .

ومن الناس من حمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال ، والشمس على الوهم والعقل ، ومراده أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة ، ومدبر العالم قاهر لها مستولٍ عليها { وحاجة قومه } ليسبلوا ستور شبههم على شموس عرفانه ، وقد هداني إليه بالعيان بعد توالي البرهان { إلا أن يشاء ربي شيئاً } من الخذلان وهذا محال لأنه { وسع ربي كل شيء علماً } فهو أعلم بأهل العرفان وبأصحاب الخذلان { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان حتى قال لجبريل : أما إليك فلا { وتلك } يعني إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والتبري عما سواه والخلاص عن شرك الأنانية والإيمان الحقيقي بالعيان حتى ارتقى من الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات { آتيناها إبراهيم } بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه { نرفع درجات من نشاء } بجذبات الألوهية عن حضيض الأنانية الله حسبي .


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)

القراآت : { واليسع } بتشديد اللام : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالتخفيف ، { اقتده } بإشباع الهاء : ابن عامر الحلواني عن هشام مختلسة ، وبحذف الهاء في الوصل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بسكون هاء السكت على الأصل .
الوقوف : { ويعقوب } ط { كلاً هدينا } ج لأن { ونوحاً } مفعول ما بعده ، ولو وصل التبس بأنه مفعول ما قبله مع اتفاق الجملتين { وهارون } ط { المحسنين } ه لا للعطف { وإلياس } ط { من الصالحين } ه لا للعطف { ولوطا } ط { العالمين } ه لا للعطف . { وإخوانهم } ج لبيان أن قوله { واجتبيناهم } يعود إلى قوله { كلاً هدينا } كقوله { وممن هدينا واجتبينا } [ مريم : 58 ] ولاحتمال الواو الحال أي وقد اجتبيناهم وذكر هديناهم بعده { مستقيم } ه { من عباده } ط { يعملون } ه { والنبوّة } ج { بكافرين } ه { اقتده } ط { أجراً } ط { للعالمين } ه .
التفسير : لما حكى حجج إبراهيم صلوات الرحمن عليه في التوحد والذب عن الدين الحنيفي عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه بعد نعمة إيتاء الحجة ورفع الدرجة فقال { ووهبنا له } باللفظ الدال على العظمة كما يقوله عظماء الملوك ليدل بذلك على عظم العطية ، وذلك أنه جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وعقبه . قيل : وإنما لم يذكر إسماعيل مع إسحق وإن كان هو أيضاً ابنه لصلبه ، لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب ، وأما إسماعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لأنه أمر محمداً أن يحتج على العرب بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد شرفه الله بالنعم الجسام في الدين والدنيا ، ومن جملة ذلك أن آتاه أولاداً كانوا ملوكاً وأنبياء ، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض ، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق . أما قوله { ونوحاً هدينا من قبل } فالمقصود منه بيان كرامة إبراهيم بحسب الآباء أيضاً مثل نوح وإدريس وشيث ، وأما الضمير في قوله { ومن ذريته } فقد قيل : إنه يعود إلى « نوح » لأنه أقرب ولأنه تعالى ذكر في جملتهم لوطاً وهو كان ابن أخي إبراهيم وما كان من ذريته ، بل كان من ذرية نوح ، ولأن ولد الإنسان لا يقال إنه ذريته فعلى هذا إسماعيل ما كان من ذرية إبراهيم وكان من ذرية نوح ، ولأن يونس عليه السلام لم يكن من ذرية إبراهيم على قول بعضهم . وقيل : الضمير عائد إلى إبراهيم لأنه هو المقصود بالذكر هو هذا المقام . واعلم أن الله تعالى ذكر أربعة من الأنبياء وهم : نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب . ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر نبياً : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً .

فالمجموع ثمانية عشر . وأنه لم يراع الترتيب بينهم في الآية لا بحسب الفضل والشرف ولا بحسب الزمان والمدة ، فاستدل العلماء بذلك على أن الواو لا تفيد الترتيب . وقال في التفسير الكبير : إن وجه الترتيب أنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الكرامة . فمن المراتب المعتبرة عند الجمهور الملك والسلطنة وقد أعطى داود وسليمان من ذلك نصيباً عظيماً ، والمرتبة الثانية البلاء والمحنة وقد خص أيوب بذلك ، والثالثة استجماع الحالتين وذلك في حق يوسف فإنه ابتلي أوّلاً ثم أوتي الملك ثانياً . الرابعة قوّة المعجزات وكثرة البراهين والبينات وذلك حال موسى وهارون الخامسة الزهد الكامل كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا وصفهم بأنهم من الصالحين . السادسة الأنبياء الذين ليس لهم في الخلق أتباع ولا أشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط . وأما المراد بقوله { كلاً هدينا ونوحاً هدينا } قيل : المراد الهداية إلى طريق الجنة بدليل قوله { وكذلك نجزي المحسنين } فإن جزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب . وقيل : لا يبعد أن يقال : المراد الهداية إلى الدين والمعرفة لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فجازاهم الله بالوصال والوصول كما قال { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] وقيل : إنها الإرشاد إلى النبوّة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك ، وهذا إنما يصح عند من جوز أن تكون الرسالة جزاء على عمل . واستدل بعضهم بقوله { وكلاً فضلنا على العالمين } على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ، وذلك أن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملائكة وكذا الأولياء . وقيل : فضلناهم على عالمي زمانهم فلا يتم الاستدلال . قال القاضي : ويمكن أن يقال : المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين . ثم الكلام في أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام آخر لا تعلق له بالأول . ثم قال { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } معطوف على { كلاً } أي فضلنا بعض آبائهم . فالآباء هم الأصول ، والذريات هم الفروع ، والإخوان فروع الأصول . وفيه دليل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء بنوع من الشرف والكرامة . ثم إن قلنا المراد من الهداية الهداية إلى الثواب والجنة فقوله { من آبائهم } وكلمة « من » للتبعيض يدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة ، وإن فسرنا الهداية بالنبوة لم يفد ذلك إلا أنه يفيد أن لا تكون المرأة رسولاً ولا نبياً { واجتبيناهم } أي اصطفيناهم من جبيت الماء في الحوض وجبوته في جمعته ، { ذلك هدى الله } إشارة إلى معرفة التوحيد والتنزيه بدليل قوله { ولو أشركوا لحبط } وفيه دليل على أن الهداية من الله تعالى وليس للعبد فيها اختيار .

وفيه تهديد عظيم كقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] والغرض من ذلك زجر الأمة . { أولئك } يعني الأنبياء الثمانية عشر . { الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } ولا بد بحكم العطف من تغاير الأمور الثلاثة . ووجه بأن الحكام على الخلق ثلاث طوائف : الحكام على بواطن الناس وهم العلماء ، والحكام على ظواهر الخلق وهم السلاطين ، والجامعون بين الأمرين وهم الأنبياء . فالأمور الثلاثة إشارة إلى هذه الأصناف الثلاثة . ومعنى إيتاء الكتاب الفهم التام بما في هذا الجنس والعلم المحيط بحقائقه وأسراره . ولو قيل : المراد بالإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل كصحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى لم يشمل كل المذكورين لأنه تعالى ما أنزل على كل واحد منهم كتاباً على التعيين . { فإن يكفر بها } أي بالأمور الثلاثة أو بالنبوة { هؤلاء } يعني أهل مكة { فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } أي ليسوا كافرين بها ومن توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه . ومن القوم؟ قيل : كل مؤمن وقيل : أهل المدينة وهم الأنصار . وقيل : هم المهاجرون . وقال الحسن : هم الأنبياء الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج لقوله عقيب ذلك { أولئك الذين هدى الله } وقال أبو رجاء : يعني الملائكة وضعف بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم . وفي الآية دلالة على أنه تعالى سينصر نبيه ويظاهر دين الإسلام على كل الأديان وقد وقع ما وعد وكان إخباراً بالغيب فصح إعجاز القرآن . وفيها استدلال للأشاعرة على أنه تعالى خلق قوماً للإيمان ولو كان خلق الكل للإيمان والبيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركاً بين الكل لم يصح هذا التخصيص . أجاب الكعبي بأنه زاد المؤمنين من الألطاف ما لا يحصيه إلا الله ، وبتقدير أن يستوي فإذا لم ينتفع به الكافر صح بحسب الظاهر أن يقال إنه لم يحصل له تلك الألطاف . ورد بأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشترك فيها بين الكافر والمؤمن ، وبأن الوالد لما سوّى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوّز أن يقول أحد إن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئاً { فبهداهم اقتده } من حذف الهاء في الوصل فعلى الأصل ، ومن أثبتها في الوصل كما في الوقف أراد موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكره مخالفة الخط في الحالين . وأما قراءة ابن عامر بكسر الهاء بغير إشباع فقال أبو بكر بن مجاهد : إنها غلط . وقال أبو علي الفارسي : ليست بغلط ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر الدال عليه الفعل . والتقدير : فبهداهم اقتد الاقتداء . وتقديم المفعول للاختصاص أي لا تقتد إلا بهم . ولا خلاف في أنه أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء المذكورين . إنما الكلام في تفسير الهدى .

فمن الناس من قال : المراد الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال . وقال آخرون : المراد به الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل ، وعلى هذا فيلزمنا شرع من قبلنا ، وقيل : اللفظ مطلق فيحمل على الكل إلا ما خصه الدليل المفصل . وقال القاضي : هذا بعيد لأن شرائعهم مختلفة متناقضة ولا يمكن الإتيان بالأمور المتناقضة معاً ، ولأن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل ، ودليل إثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات ، ولأن منصبهم يلزم أن يكون أجل من منصبه وأنه باطل بالإجماع ، وأجيب بأن العام يجب تخصيصه في الصورة المتناقضة فيبقى فيما عداها حجة ، وبأن المستدل بالدليل فصل في ذلك الحكم فلا معنى للاقتداء بالدليل إلا إذا كان فعل الأول سبباً لوجوب الفعل على الثاني ، وبأنه يلزم أن يكون منصبه أجل من منصبهم لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيها كالشكر في داود وسليمان ، والصبر في أيوب ، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى ، والصدق في إسماعيل ، والتضرع في يونس ، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون ، ولهذا قال « لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي » .
ولما أمره بالاقتداء بالأنبياء وكان من جملة هداهم أن لا يطلبوا الأجر أي المال والجعل في ايصال الدين وإبلاغ الشريعة قيل له : { قل لا أسألكم } أيها الأمة { عليه } على البلاغ { أجراً إن هو } يعني القرآن { إلا ذكرى للعالمين } يريد كونه مشتملاً على كل ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد . وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الناس كافة لا إلى قوم دون قوم .
التأويل : ومما رفعنا به درجات إبراهيم أنا وهبنا له إسحق ويعقوب . ولعله أفرد ذكر إسماعيل لمكان محمد صلى الله عليه وسلم وآله كيلا يقع ذكره تبعاً لموهبة إبراهيم ، فإن الكائنات تبيع لوجود محمد صلى الله عليه وسلم وآله ، ومن آبائهم إلى آدم ومن ذرياتهم إلى محمد { واجتبيناهم } في الأزل لهذا الشأن { وهديناهم } إلى الأبد { ولو أشركوا } بأن لاحظوا غيرنا فأثبتوا شيئاً من دوننا ونسبوا شيئاً من الحوادث إلى غير قدرتنا ، أو لم يبدلوا أنانيتهم في هويتنا { لحبط عنهم ما كانوا يعملون } لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم { فبهداهم اقتده } لأنهم سلكوا حتى انتهى مسير كل منهم إلى ما قدر له : آدم في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، وجميع الملائكة المقربين إلى سدرة المنتهى ، وأنت محمد إلى مقام قاب قوسين أو أدنى { قل لا أسألكم } أيها الأنبياء على الاقتداء { أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين } ليعلموا أن الطريق إلى الله لا يسلك إلا بالاقتداء ، أو { لا أسألكم } أيها الأمة على دعوتكم إلى الحق { أجراً أن هو إلا ذكرى للعالمين } من الله وبه وإليه وهو المستعان .


وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)

القراآت : { يجعلونه } { يبدونها } و { يخفون } بياآت الغيبة : أبو عمرو وابن كثير ، الباقون : على الخطاب { ولينذر } بياء الغيبة : أبو بكر وحماد . الباقون : بتاء الخطاب { بينكم } بفتح النون : أبو جعفر ونافع وعلي وحفص والمفضل . الباقون : بالرفع { وجعل الليل } على لفظ المضي ونصب الليل عاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون { وجاعل الليل } على لفظ اسم الفاعل وبالإضافة { وجنات } بالرفع : الأعشى والبرجمي الباقون : بالنصب { فمسستقر } بكسر القاف : أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب . الباقون : بالفتح { ثمره } بضمتين : حمزة وعلي وخلف وكذلك في آخر السورة ويس . الباقون : بفتحتين { وخرقوا } بالتشديد : أبو جعفر ونافع . الباقون : بالتخفيف .
الوقوف : { من شيء } ط { كثيراً } ط لمن قرأ { يجعلونه } بياء الغيبة . ومن قرأ بالتاء فوقفه حائز لانتهاء الاستفهام مع اتفاق الخطاب على تقدير وقد علمتم { آباؤكم } ط { قل الله } ط لأن قوله ذرهم } معطوف على { قل } { يلعبون } ه { ومن حولها } ط { يحافظون } ه { أنزل الله } ط { أيديهم } ج لاتساق الكلام معنى مع تقدير حذف أي يقولون أخرجوا { أنفسكم } ط لأن المراد من اليوم يوم القيامة { تستكبرون } ه { ظهوركم } ج لاتحاد القول . والوقف أوضح لابتداء النفي وانقطاع النظم { شركاء } ط { تزعمون } ه { والنوى } ط { من الحي } ط { تؤفكون } ه { فالق الإصباح } ج لمن قرأ { وجعل } لانقطاع النظم واتصال المعنى على تقدير فلق وجعل ، أو وقد جعل وعامل الحال معنى الفعل في فالق { حسباناً } ط { العليم } ه { والبحر } ط { يعلمون } ه { ومستودع } ط { يفقهون } ه { ماء } ج للعدول مع اتحاد المقصود { متراكباً } ط ومن قرأ { وجنات } بالرفع فللعطف على { قنوان } لفظاً فيلزمه وقفه على { دانية } وإلا فليعطف ويفهم أن { جنات } من جملة النخل ، ومن خفض فوقفه على { متراكباً } جائز للعطف على قوله { خضراً } مع وقوع العارض { وغير متشابه } ط { وينعه } ط { يؤمنون } ه { بغير علم } ط { يصفون } ه .
التفسير : اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد . فبعد ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك شرع في تقرير أمر النبوة فقال { وما قدروا الله حق قدره } قال ابن عباس : أي ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أنكروا النبوة والرسالة . وقال أيضاً في رواية : ما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير . وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته . وقال الأخفش : ما عرفوه حق معرفته أي في اللطف بأوليائه أو في القهر لأعدائه . وقال الجوهري : قدر الشيء مبلغه وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدراً من التقدير أي حرره وعرف مقداره . ثم بيّن سبب عدم عرفانه بقوله { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وإنما كان منكر البعث والرسالة غير عارف بالله تعالى ، لأنه إما أن يدعي أنه تعالى ما كلف أحداً من الخلائق تكليفاً أصلاً وهو باطل لأنه فتح باب المنكرات والقبائح بأسرها ، وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ولكن لا على ألسنة الرسل وهذا أيضاً جهل .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون العقل كافياً في إيجاب الواجبات وحظر المنكرات؟ فالجواب هب أن الأمر كذلك إلا أنه لا يمتنع تأكيد التصريف العقلي بل يجب تفصيل ذلك المجمل بالتعريفات المشروحة على ألسنة الرسل ، لأن أكثر العقول قاصرة عن إدراك مدارك الأحكام الشرعية كما أن نور البصر قاصر عن إدراك المبصرات إلا إذا أعين بنور من خارج كنور الشمس أو السراج . وأيضاً تفويض مصالح العباد إلى مقتضى عقولهم يؤدي إلى التنازع والتشاجر لتصادم الأهواء وتناقض الآراء فلا بد من أن يتفقوا على واحد يصدرون عن رأيه ، وتعيين ذلك الواحد من الخلق ترجيح بلا مرجح وإشراف على الضلال لاحتمال الخطأ في اجتهادهم ، فلعل الخير في نظرهم يكون شراً في نفس الأمر فلزم أن يكون التعيين من الله سبحانه بكونه أعرف بالبواطن كقوله { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] وإنما يعرف ذلك المعين بظهور المعجزة على وفق دعواه تصديقاً له ، ومن أنكر ذلك ولم يجوّز خرق العادة فقد وصف الله تعالى بالعجز ونقصان القدرة . وقد طعن بعض الملحدة في الآية بأن هؤلاء القائلين إن كانوا كفار قريش أو البراهمة فهم ينكرون رسالة كل الأنبياء كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } على أن قوله { تجعلونه قراطيس } بتاء الخطاب إنما يليق باليهود وإن كانوا أهل الكتاب فهم لا يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء ، بل يقرّون بنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى . وأيضاً الأكثرون اتفقوا على أن السورة مكية وأنها نزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كانت مدنية ، فكيف يمكن حمل الآية على تلك المناظرة؟ والجواب أنهم إن كانوا كفار قريش فإنهم كانوا مختلطين بالهيود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات على يد موسى كالعصا وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها وكان جارياً مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى . وعلى هذا لا يبعد إيراد نبوة موسى إلزاماً لهم في قولهم { ما أنزل الله على بشر من شيء } ولما كان كفار قريش مع اليهود والنصارى متشاركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآله لم يبعد أن يكون الكلام الواحد خطأ بالكفار قريش أوّلاً ولأهل الكتاب آخراً وأما إن كانوا أهل الكتاب - وهو المشهور عند الجمهور - فالوجه ما روي عن ابن عباس أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلاً سميناً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله :

« أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود » فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء . فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال : إنه أغضبني : ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف . فلعل مالك بن الصيف لما تأذى من الكلام المذكور طعن في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنه ما أنزل عليه من شيء البته فأمر بأن يقول في جوابه { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } أي لما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر وهو موسى فكيف يمكنك أن تقطع بأنه ما أنزل عليّ شيئاً غاية ما في الباب أن تطالبني بالمعجز . والحاصل أنهم قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى ، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بالتحريف وإبداء بعض وإخفاء بعض . وقيل : اللفظ وإن كان مطلقاً بحسب اللغة إلا أنه مقيد بحسب العرف بتلك الواقعة ، فكأنه قال : ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين ، وهذا كما إذا أرادت المرأة أن تخرج من الدار فغضب الزوج وقال : إن خرجت من الدار فأنت طالق ، فإن كثيراً من الفقهاء قالوا : التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق . ويرد على هذا التوجيه أن قوله { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } لا يكون مبطلاً لكلام الخصم . أما قوله « إن السورة مكية والمناظرات مدينة » فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنه نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم .
ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله { وما قدروا الله حق قدره } يفيد أن عقول الخلق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته } [ الزمر : 67 ] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله { من أنزل } مبطلاً لقوله { ما أنزل الله على بشر من شيء } ومنها أن النقض يقدح في صحة الكلام وإلا لم يكن في قوله { من أنزل } حجة . ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية ، فإن لليهود حينئذ أن تقول : معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك .

ومنها أن الغزالي رحمه الله تكلف وقال : حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئاً ، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئاً فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم { ما أنزل الله على بشر من شيء } فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني ، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف . ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نوراً وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة . فالمراد بالنور ظهوره في نفسه . وبالهدى كونه سبباً لظهور غيره كقوله في وصف القرآن { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ] قال أبو علي الفارسي { يجعلونه قراطيس } أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها . فإن قيل : إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم؟ قلنا : لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره { وعلمتم } أيها اليهود على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : كانوا يقرؤن الآيات المشتملة على نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمداً ، فظهر أن المراد منها هو البشارة بمقدمه ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش كقوله { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } [ يس : 6 ] { قل الله } أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون على أن ينكروا ذلك فإن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف المؤيد قول صاحبه بالمعجزات الباهرة لا يكون إلا من الله سبحانه . ونظره { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [ الأنعام : 19 ] والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء أقر الخصم به أولم يقر فالغرض حاصل . { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } يقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب و { يلعبون } حال من { ذرهم } أو من { خوضهم } ويحتمل أن يكون { في خوضهم } حالاً من { يلعبون } وأن يكون صلة له أو ل { ذرهم } . والمعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فقد قضيت ما عليك كقوله { إن عليك إلا البلاغ } [ الشورى : 48 ] قيل : إنها منسوخة بآية السيف وفيه نظر لأنه مذكور لأجل التهديد فلم يكن نزول آية القتال رافعاً لشيء من مدلولات هذه الآية .

ثم لما ذكر حال التوراة أعقبه بذكر القرآن فقال { وهذا كتاب أنزلناه } وفائدة هذا الوصف أنه كان من الممكن أن يظن أن محمداً مخصوص من الله بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب القرآن على هذا النسق من الفصاحة ، فنفى ذلك الوهم وبين أن الله هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام { مبارك } كثير خيره دائم نفعه باعث على الخيرات زاجر عن المنكرات لما فيه من أصول العلوم النظرية والعملية . وقد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يفوز بعز في الدنيا وسعادة في الآخرة وقد جرب فوجد كذلك . { مصدق الذي بين يديه } أي موافق لما قبله من الكتب الإلهية . أما في الأصول فلأنه يمتنع وقوع التفاوت فيها بحسب الأزمنة والأمكنة . وأما في الفروع فلأنها مشتملة على التبشير بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم . ويحصل منه أن التكاليف الموجودة فيها إنما تبقى إلى وقت ظهوره ثم تصير منسوخة { ولتنذر } من قرأ بتاء الخطاب فظاهر ، ومن قرأ على الغيبة فلأنه أسند الإنذار إلى الكتاب مجازاً لأنه سبب الإنذار { إنما أنذركم بالوحي } [ الأنبياء : 45 ] وهو معطوف على ما دل عليه سائر الأوصاف كأنه قيل : أنزلناه للبركة ولتصديق ما تقدمه من الكتب وللإنذار ، قال ابن عباس : سميت مكة أم القرى لأن الأرضين دحيت من تحتها . وقال أبو بكر الأصم : لأنها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعاً ، وأيضاً الناس يجتمعون إليها للحج وللتجارة كما يجتمع الأولاد إلى الأم . وقيل : لأن الكعبة أول بيت وضع للناس . وقيل : إن مكة أول بلدة في الأرض ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي أهل أم القرى ومن حولها . قيل : المراد أهل جزيرة العرب فاستدل اليهود بذلك على أنه مبعوث إلى العرب فقط . وأجيب بأن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على نفي ما عداها لا سيما وقد ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى العالمين . ويحتمل أن يقال : ما حوالي مكة يتناول جميع البلاد { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } أي بهذا الكتاب لأن أصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن . وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير قاعدة البعث والقيامة مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه أن كفار مكة يبعد منهم قبول هذا الدين لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والحشر { وهم على صلاتهم يحافظون } يعني أن الإيمان بالآخرة كما أنه يحمل المكلف على الإيمان بالنبي وبالكتاب كذلك يحمله على محافظة الصلوات . وخص الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين وسنام الطاعات كاد المحافظ عليها أن يأتي بأخواتها كلها ويجتنب المنكرات بأسرها .
ثم ذكر ما يدل على وعيد من ادّعى النبوّة وإنزال الكتاب عليه فرية وامتراء فقال { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } قال المفسرون : نزلت في الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي .

عن النبي صلى الله عليه وسلم « رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني . فأوحى الله إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا عني فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسي » { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } كان مسيلمة يقول : محمد صلى الله عليه وسلم وآله رسول الله في بني قريش ، وأنا رسول الله في بني حنيفة . واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو بريء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلاً تحت هذا الوعيد { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } قال المفسرون : هو النضر بن الحرث كان يدعي معارضة القرآن وهو قوله { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 31 ] وروي أن عبد الله بن سعد أبي سرح القرشي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا تلا عليه « سميعاً عليماً » كتب هو « عليماً حكيماً » وإذا قال « عليماً حكيماً » كتب « غفوراً رحيماً » فلما نزل { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم . فلما وصل إلى قوله { أنشأناه خلقاً آخر } عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتبها فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال : لئن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، وإن كان كاذباً لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ولحق بمكة . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة - فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ، ثم أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له . ثم فصل ما أجمل من الوعيد فقال { ولو ترى } الآية . وجوابه محذوف أي لرأي يا إنسان أمراً عظيماً { إذ الظالمون } يعني الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة . فاللام للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج هؤلاء فيه . وغمرات الموت شدائده وسكراته . وأصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة { والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم } قيل : إنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الخطاب؟ وأجيب بوجوه منها : أن المراد ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة إذا ما دخلوا جهنم ، وغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات { والملائكة باسطوا أيديهم } بالعذاب يكلمونهم يقولون لهم { أخرجوا أنفسكم } من هذا العذاب الشديد إن قدرتم .

ومنها { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } عند نزول الموت بهم في الدنيا { والملائكة باسطوا أيديهم } لقبض أرواحهم يقولون لهم { أخرجوا أنفسكم } من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام ، ومنها هاتوا أرواحكم وأخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويقول : أخرج إليّ مالي عليك ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك . ومنها أنه ليس بأمر وإنما هو وعيد وتقريع كقوله القائل : امض الآن لترى ما يحل بك ، والتحقيق أن نفس المؤمن حال النزع تنبسط في الخروج إلى لقاء ربه ، ونفس الكافر تكره ذلك ويشق عليها الخروج ، وقطع التعلق لأنها تصير إلى العذاب وإليه الإشارة في الحديث « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه » فهؤلاء الكفار يكرههم الملائكة على نزع الروح وعلى فراق المألوف . وفي الآية دلالة على أن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل المحسوس ، لأن المخرج يجب أن يكون مغايراً للمخرج منه { اليوم } يريد وقت الإماتة أو الوقت الممتد الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة { تجزون عذاب الهون } كقولك « رجل سوء » بالإضافة لأن العقاب شرطه أن يكون مضرة مقرونة بالإهانة كما أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم ، والتركيب يدور على قلة المبالاة بالشيء ومنه بالفتح السكينة والوقار ، وهان عليه الشيء أي حقر ، وأهانه استخف به ، والاسم الهون بالضم والهوان والمهانة . والحاصل أنه جمع لهم بين الأمرين الإيلام والإهانة { بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } يعني أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بمجموع الأمرين : الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وهو عدم الإيمان بها . قال الواحدي { وكنتم عن آياته تستكبرون } أي لا تصلون له لقوله صلى الله عليه وسلم « من سجد لله سجدة واحدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر » .
{ ولقد جئتمونا } يحتمل أن يكون معطوفاً على قول الملائكة { أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون } ثم الملائكة إما الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم ، وإما الملائكة الموكلون بعذابهم ، ويحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى إن جوزنا أنه يتكلم مع الكفار { فرادى } جمع ينون ولا ينوّن واحده . قيل : فرد على غير قياس : فردان كسكارى وسكران قاله ابن قتيبة . وقيل : فريد كرديف وردا في وهم الحداة والأعوان لأنه إذا أعيا أحدهم خلفه الآخر { كما خلقناكم } أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو مجيئاً مثل خلقنا لكم . { أوّل مرة } والمراد التوبيخ والتقريع لأنهم بذلوا جهدهم وصرفوا كدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين : أحدهما المال والجاه ، والثاني أنهم عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله فيهم فقلبوا القضية وتركوا الحقيقة ، وذلك أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بالجسد ليكون البدن آلة لها في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة ، فإذا فارقت البدن ولم يحصل لها هذان المطلبان عظم خسرانها وطال حرمانها فاستحق التوبيخ بقوله { ولقد جئتمونا فرادى } أي منفردين عما يجب من الأعمال والعقائد .

ثم إنها مع ذلك اكتسبت أشياء قد علق الرجاء بها لأنه أفنى العمر في تحصيلها وأنها ليست مما يبقى معها فلا جرم استحق التقريع بقوله { وتركتم ما خوّلناكم } أي أعطينا وتفضلنا به عليكم { وراء ظهوركم } يعني أنها كالشيء الذيي يبقى وراء ظهر الإنسان فلن يمكنه الانتفاع به وربما بقي معوج الرأس بسبب التفاته إليه { وما نرى معكم شفعاءكم } أي ليسوا معكم حتى يروا ، أو ليسوا معكم بالشفاعة والنصرة كما زعمتم بدليل قوله { لقد تقطع بينكم } الآية . من قرأ بالنصب على الظرف فمعناه وقع التقطع بينكم كقوله { وتقطعت بهم الأسباب } [ البقرة : 166 ] يقال : جمع بين الشيئين أي وقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره . وقيل : المراد لقد تقطع وصلكم بينكم كقولهم إذا كان غداً فأتني أي إذا كان الرجاء أو البلاء غداً فأتني فأضمر لدلالة الحال ، ومن قرأ بالرفع فلأنه أسند الفعل إلى الظرف اتساعاً كما تقول : قوتل خلفكم وأمامكم ، أو لأن المراد بالبين الوصل وإنما حسن استعماله في معنى الوصلة مع أن أصله الافتراق والتباين لأنه يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه كقولهم : بيني وبينه مشاركة وبيني وبينه رحم . والمعنى لقد تقطع وصلكم . قلت : ويحتمل أن يكون البين بمعنى الافتراق ويفيد المبالغة كقولهم : جد جده . فإذن العاقل من يكسب الزاد ليوم المعاد حتى لا يوبخ بقوله { ولقد جئتمونا فرادى } ويصرف المال في وجوه التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله حتى لا يخاطب بقوله { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } بل يكون من زمرة { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } [ المزمل : 20 ] كيلا تطول حسرته يوم ينقطع بين النفس والجسد وصله . ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حال المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال { أن الله فالق الحب والنوى } أي بالنبات والشجر . وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة ، والفلق هو الشق . وعن ابن عباس والضحاك : الفلق هو الخلق . ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق ، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل . واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً ، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء ، وأما الساقل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة ، وههنا عجائب منها : أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس .

فاتصال الشجرتين على التبادل ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى إرادة الموجد المختار . ومنها أن باطن الأرض جسم صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين ، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض ، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم . ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار ، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب ، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار . ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة ، فالأترج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب ، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب . ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة ، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز ، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش ، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر ، وبعض الفواكه يكون كله مطلوباً كالتين . فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة . تتضمن حكماً وفوائد لا يعلمها إلا مبدعها . ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطاً واحدا ًمستقيماً يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس ، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقائق أصغر من الأول ، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة . فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر ، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل ، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير .
ثم بين كونه فالق الحب والنوى بقوله { يخرج الحي من الميت } لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت ، لأن النامي في حكم الحيوان ولهذا قال { يحيي الأرض بعد موتها } [ الحديد : 17 ] ثم عطف على قوله { فالق الحب } قوله { ومخرج الميت من الحي } قال ابن عباس : أخرج من النطفة بشراً حياً ثم يخرج من البشر الحي نطفة ، أو يخرج من البيض دجاجة ومن الدجاجة بيضاً ، أو يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم ، والكافر من المؤمن كنوح وابنه ، أو المطيع من العاصي والعاصي من المطيع ، أو العالم من الجاهل والجاهل من العالم ، أو الكامل من الناقص والناقص من الكامل ، وقد يجعل الضار نافعاً وبالعكس .

يحكى أن إنساناً سقى الأفيون في الشراب ليموت فلما تناوله ظن القوم أنه سموت فرفعوه وجعلوه في بيت مظلم فلدغته حية وصارت تلك اللدغة لقوّة حرارة سم الحية سبباً لدفع ضرر برد الأفيون . ونقل عن عبد القاهر الجرجاني أن قوله { ومخرج الميت } معطوف على قوله { يخرج } وإنما حسن عطف الاسم على الفعل ههنا ، لأن لفظ الفعل يدل على اعتناء الفعل بذلك الفعل في كل وقت بخلاف لفظ الاسم ولهذا قال { هل من خالق غير الله يرزقكم } [ فاطر : 3 ] ليفيد أنه يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة إذا ثبت هذا فنقول الحي أشرف من الميت ، فذكره بلفظ الفعل فيدل على أن الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من العكس { ذلكم الله } المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت { فأنى تؤفكون } فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ، أم كيف تستبعدون البعث والنشور لأن الإعادة أهون من الإبداء؟ ثم عدل عن الأحوال الأرضية إلى الاستدلال بما فوقها وهي الأحوال الفلكية فقال { فالق الإصباح } وهو مصدر سمي به الصبح ، المراد فالق ظلمة الإصباح وهو الغبش في آخر الليل وكأن الأفق كان بحراً مملوءاً من الظلمة . ثم إنه سبحانه شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى فيه جدولاً من النور . فالمعنى فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ، وحسن الحذف للعلم به . أو المراد فالق الإصباح ببياض النهار وإسفاره ومنه قولهم « انشق عمود الفجر وانصدع الفجر » أو المراد مظهر الإصباح بواسطة فلق الظلمة ، فذكر السبب وأراد المسبب ، أو الفالق بمعنى الخالق كما مر وقد سلف لنا تقرير الصبح في البقرة في تفسير قوله عز من قائل { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } [ البقرة : 164 ] ثم إن كون الصبح بسبب وقوع ضوء الشمس على ضلع مخروط ظل الأرض في جانبه الشرقي لا ينافي كون الله سبحانه فالق الإصباح بالحقيقة ، كما أن وجود النهار بسبب طلوع جرم الشمس عن الأفق لا ينافي ذلك ، والإمام فخر الدين الرازي أراد أن يبين أن ذلك بقدرة الفاعل المختار فنفى كونه بسبب ضوء الشمس بحجج اخترعها من عنده وكلها خلاف المعقول والمنقول من علم الرياضة فلذلك أسقطناها عن درجة الاعتبار . النوع الثاني من الدلائل الفلكية الدالة على التوحيد قوله { وجاعل الليل سكناً } حجة من قرأ باسم الفاعل أن المعطوف عليه اسم فاعل ، وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله بعد ذلك { والشمس والقمر } منصوبان ولا بد من عامل وما ذلك إلا أن يقدر « جاعل » بمعنى « جعل » .

والسكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار : سكن كما سموها المؤنسة لأنها يستأنس بها ، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه . ويحتمل أن يراد : وجعل الليل مسكوناً فيه كما قال { لتسكنوا فيه } [ يونس : 67 ] فالليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم ، فهما نعمتان من الله تعالى وآيتان على وحدته وقدرته . النوع الثالث قوله { والشمس والقمر حسباناً } أي سببي حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بسيرهما ودورهما . والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر . وقيل : إنه جمع حساب مثل « شهاب » وشهبان « . قال في الكشاف : الشمس والقمر قرئا بالحركات الثلاث . فالنصب على إضمار فعل دل عليه { جاعل الليل } أو يعطفان على محل الليل لأن اسم الفاعل أريد به ههنا الاستمرار كما تقول : الله عالم قادر . فلا تقصد زماناً دون زمان فتكون الإضافة غير حقيقة ويكون لليل محل . قلت : وهذا مناقض لما ذكره في { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] من أنه يجوز أن يراد به زمان مستمر حتى تكون الإضافة حقيقية ، ويصح وقوعه صفة للمعرفة . وأما وجه الجر فظاهر . ووجه الرفع كونهما مبتدأين محذوفي الخبر أي والشمس والقمر مجعولان أو محسوبان حسباناً { وذلك } الجعل { تقدير العزيز } الذي قهرهما { العليم } الذي دبرهما . وذلك أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيآتها المحدودة وأوضاعها المعينة لا يتم إلا بقدرة شاملة لجميع الممكنات وعلم نافذ في الكليات والجزيئات . النوع الرابع قوله { وهو الذي جعل لكم النجوم } عد ههنا من منافع النجوم كونها سبباً للاهتداء إلى الطرق والمسالك { في ظلمات البر والبحر } حيث لا يرون شمساً ولا قمراً . والتقدير في ظلمات الليل بالبر والبحر فأضافها إليهما لملابستها لهما . وقيل : المراد ظلمات بر التعطيل وبحر التشبيه فإن اختصاص كل من هذه الكواكب بحال وصفة أخرى مع تشاركها في الجسمية دليل ظاهر على مختار قادر . وأيضاً اتصافها بالأعضاء والأبعاض والحدود والأحياء مع أنها لا تصلح للإلهية بالاتفاق دليل على تنزيه الله سبحانه من هذه السمات ولهذا قال { قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب .
ثم عدل عن الآيات الآفاقية إلى آيات الأنفس فقال { وهو الذي أنشأكم } أي خلقكم بطريق النشؤ والنماء { من نفس واحدة } هي آدم وحوّاء مخلوقة من ضلع من أضلاعه ، وكذا عيسى لأنه من مريم وإن كان يتوسط كلمة » كن « أبو بالنفخ وهي من آدم { فمستقر } من قرأ بكسر القاف فالتقدير فمنكم مستقر { و } منكم { مستودع } الأول اسم فاعل والثاني اسم مفعول .

ومن قرأ بفتح القاف فالتقدير : فلكم مستقر ولكم مستودع . فيكون كلاهما اسمي مكان أو مصدراً . وذلك أن استقر لازم فلا يجيء منه المفعول به بلا واسطة فينبغي تفسير مستودع أيضاً بما يشاكله استحساناً . وعن ابن عباس : أن المستودع الصلب والمستقر الرحم لقوله { ونقر في الأرحام ما نشاء } [ الحج : 5 ] ولأن اللبث في الرحم أكثر فيكون لفظ القرار بذلك أنسب بخلاف المستودع فإنه في معرض الاسترداد ساعة فساعة ، وهذا شأن المني في الأصلاب فإنه بصدد الإراقة في كل حين وأوان . وقيل : المستقر صلب الأب والمستودع الرحم ، لأن النطفة قد حصلت في صلب الأب أوّلاً واستقرت هناك ، ثم حصلت في الرحم على سبيل الوديعة ، ولأن هذا الترتيب يناسب تقديم المستقر على المستودع . وعن الحسن : المستقر حاله بعد الموت لأن سعادته وشقاوته تبقى وتستقر على حالة واحدة والمستودع حاله قبل الموت ، لأن الكافر قد ينقلب مؤمناً والفاسق صالحاً والوديعة على شرف الزوال والذهاب . وقال الأصم : المستقر الذي خلق من النفس الأولى وحصل في الوجود والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق . وعنه أيضاً المستقر من في قرار الدنيا ، والمستودع من في القبور إلى يوم البعث . وعن قتادة بالعكس . وعن أبي مسلم الأصفهاني : المستقر الذكر لأن النطفة إنما تستقر في صلبه ، والمستودع الأنثى لأنها تستودع النطفة . وحاصل الكلام أن الإنسان خلق من نفس واحدة ثم إنه يتقلب في الأطوار ويتردد في الأحوال ، وليس هذا بمقتضى الطبع والخاصية وإلا لتساوى الكل في الأخلاق والأمزجة فذلك إذن بتدبير فاعل قدير مختار خبير . ولهذا قال { قد فصلنا الآيات } ميزنا بعضها عن بعض { لقوم يفقهون } لأن الفائدة تعود إليهم وإن كان الإرشاد عاماً ، ولأن آيات الأنفس أقرب إلى الاعتبار وأهون لدى الاستبصار ختم هذه الآية بالفقه ، وخصص خاتمة الآية الأولى بالعلم ليعلم أن الغافل عن هذه لا فطنة له ولا ذكاء أصلاً فضلاً عن العلم . ثم عدد ما كونه نعمة أبين فيه من كونه آية فقال { وهو الذي أنزل من السماء ماء } قيل : أي من جانب السماء وقيل : أي من السحاب لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت . وقال أكثر أهل الظاهر : أي من السماء نفسها لأنه تعالى فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد . ونحن قد حكينا في أول سورة البقرة مذهب الحكماء في هذا الباب والله تعالى أعلم . قال ابن عباس : يريد بالماء ههنا المطر ، ولا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك . والفلاسفة يحملون ذلك على الطبيعة الحالة فيها الموجبة للنزول إلى مركزها . { فأخرجنا به } أي بواسطة ذلك الماء وذلك يوجب الطبع والمتكلمون ينكرونه { نبات كل شيء } قال الفراء : أي نبات كل شيء له نبات فيخصص بنبت كل صنف من أصناف النامي ويخرج ما عدا ذلك .

وفي الآية التفاتان : الأول من الحكاية إلى الغيبة حيث لم يقل « نحن الذين أنزلنا » والثاني من الغيبة إلى الحكاية وأنت خبير أن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب باب من أبواب البلاغة ، وصيغة الجمع لأجل التعظيم كما هو ديدن الملوك . ثم لما بين أن السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف كثيرة فصل ذلك بعض التفصيل حسب ما ذكر في قوله { إن الله فالق الحب والنوى } فقال { فأخرجنا منه } أي من النبات { خضراً } شيئاً أخضر طرياً وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة . { نخرج منه } أي من ذلك الخضر { حباً متراكباً } بعضه على بعض . قال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت والذرة ، فأصل ذلك هو العود الأخضر وتكون السنبلة راكبة عليه من فوقه والحبات متراكبة وفوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كالإبر . والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة . ولما ذكر ما نبت من الحب أتبعه ذكر ما ينبت من النوى فقال { ومن النخل } وهو خبر وقوله { من طلعها } بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل { قنوان } أو الخبر محذوف لدلالة أخرجنا عليه . والتقدير : ومخرجة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو كصنوان وصنو . والقنو العذق وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب ، والطلع أول ما يبدو من غذق النخلة . قال ابن عباس : يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية من تحتها . وعنه أيضاً أنه أراد عذوق النخلة اللاصقة بالأرض . قال الزجاج : ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن أحد القسمين يغني عن الآخر كما قال { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] ويحتمل أن يقال : ترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأتم . وقيل : أراد بكونها دانية أنها سهلة المجتنى متعرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول ، وأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها بالثمر لا تنتظر الطول { وجنات من أعناب } بالنصب عطفاً على { خضراً } أي وأخرجنا به جنات من أعناب . ومن قرأ بالرفع فعلى أنها مبتدأ محذوف الخبر أي وثم جنات من أعناب ، أو وجنات من أعناب مخرجة ، ولا يجوز أن يكون عطفاً على قنوان وإن جوّزه في الكشاف ، إذا يصير المعنى وحاصلة أو مخرجة من النخل من طلعها جنات حصلت من أعناب . أما قوله { والزيتون والرمان } بالنصب فللعطف على منصوبات قبلها أو للاختصاص لفضل هذين الصنفين . قال الفراء : أراد شجر الزيتون وشجر الرمان فحذف المضاف . واعلم أنه سبحانه قدم الزرع على الأشجار لأنه غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه ، ثم قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يقوم مقام الغذاء ولا سيما للعرب . ومن فضائلها أن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوانات مشابهات كثرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم

« أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم » ثم ذكر العنب عقيب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه وأنه ينتفع به من أوّل ظهوره إلى آخر حاله . فأوّله خيوط دقيقة حامضة الطعم لذيذة وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ، ثم يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء وللمرضى من أصحاب الصفراء ، ثم يتم العنب فيؤكل كما هو ويدخر ويتخذ منه الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع كل منها لا تحصى ، إلا أن الخمر حرمها الشرع لإسكارها . وأخس ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات نافعة للمعدة الضعيفة الرطبة . ويتلو العنب في المنفعة الزيتون لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل منه الزيت الذي يعظم غناؤه ، وأما الرمان فحاله عجيبة جداً لأنه قشر وشحم وعجم وماء . والثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة ، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات وأنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة ، وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه ، وكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين فيكون دلالة القدرة والرحمة والحكمة فيه أكمل وأنواع النبات أكثر من أن يفي بشرحها المجلدات فاكتفى بذكر هذه الأنواع الخمسة تنبيهاً على البواقي . وأما قوله { مشتبهاً وغير متشابه } ففي تفسيره وجوه الأوّل أن هذه الفواكه تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذّة ، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس . الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهاً في الطعم والخاصية ، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنها تكون مختلفة ، ومنهم من يقول : الأشجار متشابهة والثمار مختلفة . ومنهم من قال : بعض حبات العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه وذلك أنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة فإنها بقيت على أوّل حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة ، ومعنى اشتبه وتشابه واحد يقال : اشتبه الشيئان وتشابها كقولك : استويا وتساويا . وإنما قال { مشتبهاً } ولم يقل « مشتبهين » إما اكتفاء بوصف أحدهما ، أو على تقدير والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله :
رماني بأمر كنت ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني
{ انظروا إلى ثمره } من قرأ بفتحتين فلأنه جمع ثمرة مثل : بقر وبقرة ، وشجر وشجرة . ومن قرأ بضمتين فعلى أنه جمع ثمرة أيضاً مثل : خشبة وخسب . قال تعالى { كأنهم خشب مسندة } [ المنافقون : 4 ] أو على أن ثمرة جمعت على ثمار ثم جمع ثمار على ثمر { إذا أثمر } إذا أخرج ثمره { وينعه } يقال : ينعت الثمرة ينعاً وينعاً بالفتح والضم إذا أدركت ونضجت . أمر بالنظر في حال ثمر كل شجرة أوّل حدوثها وفي آخر حالها فإنها قد تكون موصوفة بالخضرة والحموضة ثم تصير إلى السواد والحلاوة ، وربما كات أوّل الأمر باردة بحسب الطبيعة ثم تصير حارة الطبع وقد يخرج ضيئلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به ، ثم يؤل إلى كمال اللذة والمنفعة فحصول هذه الانتقالات والتغيرات لا بد له من سبب مستقل في التأثير سوى الطبائع والفصول والأفلاك والنجوم وما ذاك إلا السبب الأوّل ومبدع الكل ، ولهذا ختم الآية بقوله { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } قال القاضي : المراد لمن يطلب بالإيمان بالله لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن ، ويحتمل أن يقال : خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بذلك دون غيرهم ، أو المراد أن هذه الدلالة على قوّتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان وإلا فلا ينتفع به ألبتة ويكون من زمرة من قال في حقهم { وجعلوا الله شركاء الجن } قال الكلبي : عن ابن عباس نزلت في الزنادقة قالوا إن الله تعالى وإبليس أخوان ، فالله خالق الناس والدواب والأنعام ، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب .

قال في التفسير الكبير : هذا مذهب المجوس فإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله يسمى بالزند والمنسوب إليه زندي ، ثم عرّب فقيل زنديق ، ثم جمع فقيل زنادقة ، ثم إنهم قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا ، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة كقولهم إنه تعالى فكر في مملكة نفسه واستعظمها ففعل نوعاً من العجب فتولد الشيطان من ذلك العجب ، وكقولهم شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان . والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي والحاصل أنهم يقولون : عسكر الله تعالى هم الملائكة ، وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة تلهم الأرواح البشرية الطاعات ، والشياطين فيهم أيضاً كثرة عظيمة يلقون الوساوس إلى الأرواح البشرية ، والله تعالى مع عسكره يحاربون إبليس مع عسكره فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن بلفظ الجمع وإن كان شريكه عندهم بالحقيقة واحداً وهو أهرمن . وانتصاب { الجن } على أنه بدل أو بيان لشركاء أو على أنه مفعول أول ل { جعلوا } و { شركاء } ثانيه ويكون { لله } طرفاً لغواً . وفائدة تقديم المفعول الثاني على هذا القول استعظام أن يتخذ لله شريك كائناً من كان ، ملكاً أو جنياً أو إنسياً ، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء . وقرىء { الجن } بالرفع كأنه قيل : من هم؟ فقيل : الجن . وبالجر على الإضافة التي للتبيين . وقيل : إن الآية نزلت في الكفار الذين جعلوا الملائكة بنات الله .

وحسن إطلاق الجن على الملائكة لاستتارهم عن العيون . ومعنى كونهم شركاء أنها مدبرة لأحوال هذا العالم ومعينة لله إعانة الولد للوالد . وعن الحسن وطائفة من المفسرين : أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشركة فأطاعوهم كما يطاع الله . أما قوله { وخلقهم } فإشارة إلى الدليل القاطع على إبطال الشريك . والضمير فيه إما أن يعود إلى الجن أو إلى الجاعلين فإن عاد إلى الجن فإن قلنا إن الآية نزلت في المجوس فتقريره أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس محدث ولو لم يعترفوا بذلك والبرهان العقلي قائم على أن ما سوى الحق الواحد ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو محدث ، فنقول حينئذ ، كل محدث مخلوق وله خالق وما ذاك إلا الله سبحانه ، وحينئذ يلزمهم نقض قولهم لأنه ثبت أن إله الخير قد فعل أعظم الشرور وهو خلق إبليس الذي هو مادة كل شر . وإن قلنا . إنها نزلت في كفار العرب القائلين الملائكة بنات الله ، فظاهر لأنهم يسلمون أن الملائكة مخلوقون وأنهم تولدوا منه تولد الولد من الوالد . وإن عاد الضمير إلى الجاعلين فالمعنى . وعلموا أن الله خلقهم دون الجن كقوله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] ولم يمنعهم علمهم أن يتّخذوا من لا يخلق شريكاً للخالق . والجملة في موضع الحال أي وقد خلقهم . وقرىء { وخلقهم } بسكون اللام أي اختلاقهم للإفك يعني جعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم { والله أمرنا بها } [ الأعراف : 28 ] ثم حكي عن قوم آخرين نوعاً آخر من الإشراك فقال { وخرقوا له بنين وبنات } وذلك قول أهل الكتابين في المسيح وعزير ، وقول قريش في الملائكة ، ومن هنا يعلم ضعف قول من قال { وجعلوا لله شركاء الجن } نزل في كفار قريش لأنه لزم التكرار من غير فائدة ظاهرة ، يقال : خرق الإفك وخلقه واخترقه واختلقه بمعنى . قال الحسن : كلمة عربية كان الرجل ، إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله أعلم . ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات . أما قوله { بغير علم } فكالتنبيه على إبطال قولهم ، فإن من عرف الإله حق معرفته استحال أن يثبت له ولداً لأن ذلك الولد إن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخرة تعلق الفرعية ، وإن كان ممكن الوجود لذاته كان موجوداً بإيجاد الواجب وكان عبداً له لا ولداً . وأيضاً الولد إنما يحتاج إليه ليقوم مقام الوالد بعد فنائه ومن تقدس عن الفناء لم يحتج إلى الولد . وأيضاً الولد جزء من أجزاء الوالد ومن لم يكن مركباً استحال أن ينفصل منه جزء يتولد منه الولد . ثم نزه نفسه عما لا يليق به فقال { سبحانه } وهذا على لسان المسبحين { وتعالى عما يصفون } وهذا له في نفسه سواء سبحه مسبح أم لا .

والمراد بالتعالي العو بالشرف والرفعة بدليل قوله عما يصفون .
التأويل : { وما قدروا الله حق قدره } حين أنكروا إنزال الكتب والبعثة على أنهم لو اعترفوا بذلك أيضاً لم يعرفوه حق معرفته لأن المحاط لا يحيط بالمحيط . نعم تزداد معرفته بازدياد معرفة أوصافه { تجعلونه قراطيس } أي في القراطيس ، وما يجعلونه في قلوبهم بالتخلق بأخلاقه { وعلمتم } بتعليم محمد صلى الله عليه وسلم { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } كقوله { ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } [ البقرة : 151 ] ومن الحكمة ما هو سره الذي يكون تعليمه بسر المتابعة سراً بسر وإضماراً بإضمار ، والذي علم النبي هو الله وعلى الخواص بأن يهديهم إلى ربهم ، وعلى خواص الخواص بأن يوصلهم إلى ربهم ويخلقهم بأخلاقه ، وفي كتاب المحبوب شفاء لما في القلوب { مصدق الذي بين يديه } لأنه يصدق حقائق جميع ما في الكتب { ولتنذر أم القرى } وهي الذرة المودعة في القلب التي هي المخاطب في الميثاق وقد دحيت جميع أرض القلب من تحتها { ومن حولها } من الجوارح والأعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والأخلاق بأن يتنوّروا بأنواره وينتفعوا بأسراره ويتخلقوا بأخلاقه . { والذين يؤمنون بالآخرة } فيستعملون الأدوات والآلات في أمور الدنيا والآخرة لا في الدنيا الفانية وشهوات النفس وهواها { يؤمنون } بالقرآن { وهم على صلاتهم } بالترقي في صفاتهم إلى التخلق بأخلاق القرآن يداومون ، فإن الصلاة معراج المؤمن { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } بإظهار المواجد والحالات رياء ومراء من غير أن يكون له منها نصيب ، { أو قال أوحي إليّ } الإشارات ولم يلهم نفسه شيئاً منها ، ومن قال متشدّقاً متفيهقاً سأتكلم بمثل كلام الله من الحقائق والأسرار فتظهر مضرة ظلمة وافترائه عند سكرات الموت ، وانقطاع تعلق الروح عن البدن ، وإخراج النفس عن القالب كرهاً لتعلقها بالشهوات واللذات وطلب الرياسات ، ويكون شدة النزع والهوان بحسب التعلقات { ولقد جئتمونا فرادى } عن الدنيا وما يتعلق بها ، أو فرادى عن تعلقات الكونين { كما خلقناكم أوّل مرة } في أوّل خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب . { وتركتم } بالتجريد عن الدنيا وبالتفريد عن الدنيا والآخرة { ما خولناكم } من تعلق الكونين { وراء ظهوركم وما نرى معكم } الأعمال والأحوال التي ظننتم أنها توصلكم إلى الله { لقد تقطع بينكم } وبينها عند انتهاء سيركم كما انتهى سير جبريل عند سدرة المنتهى ، وحينئذ لا يصل إلى الوحدة إلا بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] ولو لم تدركه الجذبة المسندة إلى العناية لانقطع عن السير في الله بالله ونفى السدرة وهو يقول { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] { إن الله فالق } حبة الذرة التي أخذ منها الميثاق المودعة في حبة القلب عن نبات المحبة ، وفالق النوى ذكر لا إله إلا الله في أرض القلب عن شجرة الإيمان ، كلمة طيبة كشجرة طيبة يخرج نبات المحبة التي هي من صفات الحي القيوم من الذرة الميتة الإنسانية ، ومخرج الأفعال الطبيعية التي هي من صفات الكفار الموتى من المؤمن الحق في الدارين .

وأيضاً يخرج نخل الإيمان الحق من نوى الحروف الميتة في كلمة لا إله إلا الله ، ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهي لا إله إلا الله { فالق الإصباح } فالق ظلمة الجمادية بصباح العقل والحياة والرشاد ، وفالق ظلمة الجهالة بصباح الفهم والإدراك ، وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صحبة عالم الأفلاك ، وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات . وبالجملة فالق أنوار الروح عن ظلمة ليل البشرية ، وجاعل ليل البشرية ستراً عن ضياء شمس الروح ليسكن فيه النفس الحيوانية والأوصاف البشرية { والشمس والقمر حسباناً } يعني تجلي شمس الروحانية وطلوع قمر القلب بالحساب لئلا يفسد أمر القلب والقالب . وأيضاً تجلى شمس الربوبية وطلوع قمر الروحانية لليل البشرية بالحساب لئلا يفسد أمر الدين والدنيا على العبد بالتفريط والإفراط ، فإن إفراط طلوع شموس المعارف والشهود آفة « أنا الحق وسبحاني » وفي تفريطه آفة أنا ربكم الأعلى وعبادة الهوى . { ذلك تقدير العزيز } الذي لا يهتدى إليه إلا به { العليم } بمن يستحق الاهتداء إليه { وهو الذي جعل لكم النجوم } نجوم أنوار الغيوب في سموات القلوب { لتهتدوا بها في ظلمات } بر البشرية وبحر الروحانية إلى عالم الربوبية . { وهو الذي أنشأ } أرواحكم من روح واحد هو روح محمد صلى الله عليه وسلم « أول ما خلق الله روحي كما خلق أجسادكم من جسد واحد هو جسد آدم أبي البشر » فمن الأرواح ما تعلق بالأجساد واستقر وما هو بعد مستودع في عالم الأرواح . وأيضاً من الأرواح ما هو مستقر فيه نور صفة الإيمان وما هو مستودع فيه جذبات الحق ، ومنها ما هو مستقر في أنانيته مع علو رتبته بالبقاء وما هو مستودع أنانيته بالفناء ، وما هو مستقر ببقاء الحق باق وما هو مستودع في بقاء البقاء عن الفناء { قد فصلنا } دلالات الوصول في الوصال { لقوم يفقهون } إشارات القلوب { وهو الذي أنزل } من سماء العناية { ماء } الهداية { فأخرجنا به نبات كل شيء } من أنواع المعارف { فأخرجنا منه خضراً } طرياً من المعاني والأسرار { يخرج به } من الحقائق ما تركب بعضها بعضها فترتب بعضها على بعض { ومن النخل } يعني أصحاب الولايات من طلعها } من ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين أي منهم من يكون مريئاً فينتفع بثمرات ولايته ، ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن المريدين . { وجنات } يريد أرباب الزهد والتقوى والفتوّة الذين لم يبلغوا رتبة الولاية من أعناب الاجتهاد وزيتون الأصول ورمان الفروع { مشتبهاً } أي متفقاً في الأصول والفروع { وغير متشابه } أي مختلفاً فيما بين العلماء { انظروا } إلى ثمر الولايات كيف ينتفع به الخواص والعوام { وينعه } أي الكامل منها . { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } بأحوالهم وينتفعون بأموالهم وأحوالهم . { وجعلوا لله } إشارة إلى أنه كما يخرج بماء اللطف من أرض القلوب لأربابها أنواع الكمالات كذلك يخرج بماء القهر من أرض النفوس لأصحابها أنواع الضلالات .


بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

القراآت : { ولم يكن } بياء الغيبة : قتيبة { درست } بتاء التأنيث : ابن عامر وسهل ويعقوب { دارست } بتاء الخطاب من المدارسة : ابن كثير وابو عمرو . والباقون بتاء الخطاب { درست } من الدرس . { عدوّاً } على فعول بالضم : يعقوب . الباقون { عدوا } على فعل . { إنها إذا جاءت } بالكسر : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وقتيبة ونصير وأبو بكر وحماد . الباقون : بالفتح . { لا تؤمنون } بتاء الخطاب : ابن عامر وحمزة . الباقون : على الغيبة .
الوقوف : { والأرض } ط { صاحبة } ط { كل شيء } ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف { عليهم } ط { ربكم } ط لاحتمال الجملة الاستئناف والحال والعامل معنى الإشارة { إلا هو } ط لأن قوله { خالق } بدل من الضمير المستثنى أو خبر ضمير محذوف { فاعبدوه } ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف { وكيل } ه { لا تدركه الأبصار } ج لاختلاف الجملتين مع أن الثانية من تمام المقصود { يدرك الأبصار } ط لاحتمال الواو الاستئناف والحال أي يدرك الأبصار لطيفاً خبيراً . { الخبير } ه { من ربكم } ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { فلنفسه } ط كذلك مع الواو . { فعليها } ط { بحفيظ } ه { يعلمون } ه { من ربك } ط لاحتمال الجملة الحال والاستئناف على أنها جملة معترضة { إلا هو } ط للعطف مع العارض { المشركين } ه { ما أشركوا } ط { حفيظاً } ط للابتداء بالنفي مع اتحاد المعنى { بوكيل } ه { بغير علم } ط { يعلمون } ه { ليؤمنن بها } ط { وما يشعركم } ط لمن قرأ { إنها } بكسر الألف . { لا يؤمنون } ه { يعمهون } ه .
التفسير : لما نبه إجمالاً بغير علم على الدليل على إبطال قول من خرق له بنين وبنات ، فصل ذلك بقوله { بديع السموات والأرض } الآية . والمراد هو بديع السموات ، ويجوز أن يكون { بديع } مبتدأ والجملة بعده خبره . وتقرير الدليل أنكم إما أن تريدوا بكون عيسى ولداً له أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غيره تقدم نطفة و لا أب وحينئذ يلزمكم القول بأنه والد السموات والأرض بكونه مبدعاً لهما وهذا باطل بالاتفاق ، وإما أن تريدوا به الولادة كما هو المألوف في الحيوانات وهذا أيضاً محال لأن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة من جنسه وينفصل منه جزء يحتبس في رحمها ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة ، وكل ذلك على الله محال وأشار إلى هذا بقوله { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } وأيضاً الولد بهذا الطريق إنما يتصور في حق من لا يقدر على خلق الأشياء دفعة واحدة ، أما الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون فذلك في حقه مستحيل ، وإلى هذا أشار بقوله { خلق كل شيء } وأيضاً هذا الولد لا يكون أزلياً وإلا كان واجباً لذاته غنياً عن غيره فبقي أن يكون حادثاً فنقول : إنه تعالى عالم بكل المعلومات أزلاً وأبداً كما قال { وهو بكل شيء عليم } فإن كان قد علم أن له في تحصيل ذلك الولد كمالاً أو نفعاً أو لذة لتعلقت إرادته بإيجاده في الأزل دفعاً لذلك الاحتياج والنقصان ، فيكون الولد أزلياً على تقدير كونه حادثاً هذا خلف ، فتبين أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والأضداد والأنداد والأولاد ، فلهذا صرح بالنتيجة فقال { ذلكم الله } فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم الموصوف الجامع لتلك الصفات المقدسة هو الله إلى آخره .

وإنما قال ههنا { لا إله إلا هو خالق كل شيء } وفي « المؤمن » بالعكس لأنه وقع ههنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات فكان رفع الشرك أهم ، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض فكان تقديم الخالقية أهم . ثم قال { فاعبدوه } وهو مسبب عن مضمون الجملة المقتدمة يعني أن من استجمعت له هذه الكمالات كان حقيقاً بالعبادة { وهو } مع تلك الصفات { على كل شيء وكيل } يحفظه ويرزقه ويراقبه . قال في التفسير الكبير : إنه سبحانه أقام الدليل على وجود الخالق ، ثم زيف طريق من أثبت له شريكاً وهذا القدر لا يوجب التوحيد المحض لكن للعلماء في إثبات التوحيد طرق منها : أن الدليل قد دل على وجود صانع ، والزائد على الواحد لم يدل دليل على ثبوته فليس عدد أولي من عدد آخر فيلزم آلهة لا نهاية لها ، أو القول بعدد معين بلا ترجيح وكلاهما محال فلم يبق إلا الاكتفاء بواحد وهو المطلوب . ومنها أنا لو قدّرنا إلهين قادرين على كل المقدورات عالمين بكل المعلومات ، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر من تحصيل مقدوره وذلك يوجب أن يكون كل واحد يعجز الآخر وهو محال ، وإن كان في أحدهما عجز ونقص لم يصلح للإلهية . ومنها أنا لو فرضنا إلهاً ثانياً فكان إما أن يكون الثاني مشاركاً للأوّل في جميع صفات الكمال أولا . وعلى الأول لا بد أن يحصل الامتياز بأمر وإلا لم يحصل التعدد ، فذلك المميز إن كان من صفات الكمال لم يكن جميع صفات الكمال مشتركة بينهما ، وإن كان من صفات النقص فالموصوف به لا يصلح للإلهية وكذا إن لم يكن الثاني مشاركاً للأوّل في جميع صفات الكمال فثبت التوحيد بهذه الدلائل ، مع أن الدليل النقلي في التوحيد كاف والله أعلم . قالت الأشاعرة : عموم قوله { خالق كل شيء } يدل على أنه خالق أفعال العباد . وقالت المعتزلة : إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح ولكنه لا يتمدح بخلق الزنا والكفر واللواط ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . وأيضاً احتج كثير من المعتزلة به على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق .

أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم . وأما الأوّل فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى لزم أن تكون مخلوقة له . وأجيب بأنكم تخصصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقاً لنفسه وبحسب أفعال العباد ، فنحن أيضاً نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن . وأما الفرق بين قوله { وخلق كل شيء } وقوله { خالق كل شيء } فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي ، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار . ثم بين أن شيئاً من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلاً من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال { لا تدركه الأبصار } هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى . قالوا : الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل : أدركته ببصري وما رأيته متناقضان . ثم إن قوله { لا تدركه الأبصار } يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء . وأيضاً أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء ، وكل ما كان عدمه مدحاً ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصاً كقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] { لم يلد ولم يولد } [ الصمد : 3 ] فوجب كون الرؤية نقصاً في حقه تعالى . وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم . وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } [ الشعراء : 61 ] أي لملحقون وقوله تعالى { حتى إذا أدركه الغرق } [ يونس : 90 ] أي لحقه . وأدرك الغلام أي بلغ ، وأدركت الثمرة إذا نضجت . وإذ قد ثبت ذلك فنقول : الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة . ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية . سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله { لا تدركه الأبصار } لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا . وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضاً . فقوله { لا تدركه الأبصار } يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة ، أو نقول قول القائل : لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب ، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمداً ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس ، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي .

أو نقول : سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه ، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول : لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله { لا تدركه الأبصار } وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته . ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله . والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجباً للمدح والعلم به ضروري ، بل إذا كان النفي دليلاً على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل : إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] فإنه لا يفيد المدح نظراً إلى هذا النفي ، فإن الجماد أيضاً لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال . فقوله { لا تدركه الأبصار } يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادراً على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته . ثم نقول : إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان : قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه ، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته ، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقاً لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف . ثم إن القاضي استدل ههنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول . فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضراً وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة - وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلاً أو في حكم المقابل - فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها ، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول : القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع ، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته ، وهذان المعنيان حصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته ، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها . وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه . وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضاً لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى . وأجيب لأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار؟ وثالثها أن كل ما كان مرئياً كان مقابلاً أو في حكم المقابل ، والله تعالى منزه عن ذلك .

وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا . ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال ، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة . وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع .
( في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية ) : منها هذه الآية كما بينا . ومنها أن موسى عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها . ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز . ومنها قوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] قد اتفق الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية ، ومنها قوله { فمن كان يرجوا لقاء ربه } [ الكهف : 110 ] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء ، ومنها قوله { كانت لهم جنات الفروس نزلاً } [ الكهف : 107 ] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء . ومنها قوله { ولقد رآه نزلة أخرى } [ النجم : 13 ] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى . ومنها قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] ومنها قوله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطففين : 15 ] فيكون المؤمنون غير محجوبين . ومنها قوله { فيها ما تشتهيه الأنفس } [ الزخرف : 71 ] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان . ومنها قوله { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً } [ الدهر : 20 ] فيمن قرأ بفتح الميم وكسر اللام . وأما الأخبار فكثيرة منها : الحديث المشهور « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته » والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي . ومنها أن الصحابة اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضاً بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية . أما قوله تعالى { وهو يدرك الأبصار } ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات ، راء للمرئيات ، مطلع على ماهياتها ، عليم بعوارضها وذاتياتها . ثم قال { وهو اللطيف الخبير } وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام ، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها . أو المراد أنه لطيف في الإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...