Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

 ج3.ج4. كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 ج3.ج4. كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

ج3.ج4. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وقال ابن زيد : بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي عشرون ألفاً . وقيل : سبعون ألفاً . ومعنى { من السماء } يحتمل أن يكون شيئاً نازلاً من جهة العلو كريح ونحوه ، ويحتمل أن يراد من قبل الأمر النازل من عند الله تفظيعاً لشأن العذاب . والفسق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته بارتكاب الكبيرة ، فالمراد { بما كانوا يفسقون } إما الظلم المذكور وفائدة التكرار التأكيد ، وإما أن يراد أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل . ونزول الرجز عليهم من السماء بالفسق الذي كانوا يفعلون قبل ذلك التبديل مستمراً إلى أوان هذا الظلم ، وهذا أظهر لزوال التكرير ، ولأن لفظة « كانوا » تنبئ عن خصلة مستمرة ، والخصلة الواحدة المعينة لا يتصور فيها الاستمرار . فلو كان المراد ذلك لقيل بما فسقوا . وربما احتج أصحاب الشافعي بقوله تعالى { فبدل الذين ظلموا } أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التحميد والتعظيم والتسبيح ، ولا تجوز القراءة بالفارسية ، وكذا لا يجوز تبديل ما ورد به التوقيف من الأذكار بغيرها . وأجيب بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول ، فلا جرم استوجبوا الذم . فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك . ورد بأن ظاهر الآية يتناول كل من بدل قولاً بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أم لم يتفقا .
( أسئلة ) لم قال في « البقرة » { وإذ قلنا } وفي « الأعراف » { وإذ قيل } لأنه صرح بالقائل في أول القرآن إزالة للإبهام ، ولأن الكلام مرتب على قوله { اذكروا نعمتي } وفي « الأعراف » لم يبق الإبهام . ولم قال ههنا { ادخلوا } وهناك { اسكنوا } ؟ لأن الدخول مقدم على السكون ، « والبقرة » مقدمة في الذكر على « الأعراف » . ولم قال في « البقرة » { فكلوا } وفي « الأعراف » { وكلوا } بالواو؟ لما بينا في قوله { وكلا منها رغداً } . ولم قال في « البقرة » { خطاياكم } وفي « الأعراف » { خطيئاتكم } ؟ لأن الخطايا جمع الكثرة ، والخطيئات جمع السلامة للقلة ، وقد أضاف القول ههنا إلى نفسه فكان اللائق بكرمه غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك لم يذكر الفاعل فلم يكن ذكر اللفظ الدال على الكثرة واجباً . ولمثل هذا الجواب ذكر ههنا { رغداً } ليدل على الإنعام الأتم ، ولم يذكر في « الأعراف » ، ولم قال ههنا { وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة } وفي « الأعراف » بالعكس؟ لأن الواو للجمع المطلق ، ولأن المخاطبين صنفان : محسن ومذنب . واللائق بالمحسن تقدم العبادة والخضوع ، ثم ذكر التوبة على سبيل هضم النفس وإزالة العجب . واللائق بالمسيء عكس ذلك ، ولأنه ذكر في هذه السورة { ادخلوا هذه القرية } فقدم كيفية الدخول . ولم قال في « البقرة » { وسنزيد } وفي « الأعراف » { سنزيد } ؟ لأنه في « الأعراف » ذكر امرين : قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب وهو إشارة إلى العبادة .

ثم ذكر جزاءين أحدهما الغفران والآخر الزيادة ، فترك الواو ليفيا توزيع الجزاءين على الشرطين . وفي « البقرة » وقع مجموع المغفرة والزيادة جزاء لمجموع الفعلين ، أعني دخول الباب وقول الحطة ، فاحتيج إلى الواو وأيضاً الاتصال اللفظي حاصل في هذه السورة بين قوله { وإذ قلنا } وبين قوله { وسنزيد } بخلاف « الأعراف » لأن اللائق به في الظاهر سيزاد ، فحذف الواو ليكون استئنافاً للكلام . وما الفائدة في زيادة كلمة { منهم } في الأعراف؟ لأن أول القصة مبني على التخصيص { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [ الأعراف : 159 ] فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدد صنوف إنعامه وأوامره عليهم ، فلما انتهت القصة قال { فبدل الذين ظلموا منهم } فهناك ذكر أمة عادلة وأمة جائرة فصار آخر الكلام مطابقاً لأوله ، وأما في البقرة فلم يذكر في أول الآيات تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة مثل ذلك . لم قال في « البقرة » { فأنزلنا } وفي « الأعراف » { فأرسلنا } لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وذلك إنما يحدث بالآخرة . وقيل : لأن لفظ الإرسال في « الأعراف » أكثر فَرُوعي التناسب . لم قال في « البقرة » { بما كانوا يفسقون } وفي « الأعراف » { يظلمون } لأنه لما بين في البقرة كون الظلم فسقاً اكتفى بذلك البيان في « الأعراف » . وأيضاً إنهم ظلموا أنفسهم وخرجوا عن طاعة الله تعالى ، فوصفهم بالأمرين في موضعين والله أعلم .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

القراآت : عامة القراء { اثنتا عشرة } بسكون الشين للتخفيف { عليهم الذلة } بضم الهاء والميم : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، وكذلك كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة ، وافق سهل إذا كانت قبل الياء فتحة فقط . وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم ، الباقون بكسر الهاء وضم الميم . { النبيين وبابه } بالهمزة : نافع إلا في موضعين في الأحزاب { إن وهبت نفسها للنبي } [ الأحزاب : 5 ] و { بيوت النبي } [ الأحزاب : 53 ] إلا فروي إسماعيل وقالون عنه بغير همزة .
الوقوف : { الحجر } ( ط ) الحق المحذوف أي فضرب فانفجرت { عيناً } ( ط ) { مشربهم } ( ط ) { مفسدين } ( 5 ) { وبصلها } ( ط ) { هو خير } ( ط ) { سألتم } ( ط ) لأن قوله { وضربت } ابتداء إخبار عما يؤل إليه حالهم { من الله } ( ط ) { بغير الحق } ( ط ) { يعتدون } ( 5 ) .
التفسير : جمهور المفسرين سوى أبي مسلم ، على أن هذا الاستسقاء كان في التيه ، عطشوا فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر ، أما العصا فقال الحسن : كانت عصا أخذها من بعض الأشجار . وقيل : كانت من الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة . وأما الحجر فاللام إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان حجراً مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم وكانوا ستمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً وقيل : أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا . وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ورماه بنو إسرائيل بالأدرة ففرّ به ، فقال له جبريل : يقول الله تعالى : ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته . وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر . وعن الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال : وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة . ثم إنهم قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه ، وأما الصنف والشكل فقيل : كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع . وقيل : مثل رأس الإنسان . وقيل : له أربعة أوجه كما مر ، وهذا إذا لم يعتبر الفوقاني ومقابله . وأما الضرب فقيل : كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً ، فأوحى الله تعالى إليه : لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون . والفاء في قوله { فانفجرت } فاء فصيحة كما سبق في { فتاب عليكم } [ البقرة : 54 ] وفي هذا الحذف دلالة على أن موسى لم يتوقف عن اتباع الأمر ، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به .

والانفجار والانبجاس واحد ومعناه خروج الماء بسعة وكثرة . وأصل الفجر الشق ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بمخالفتهم . وقيل : الانبجاس خروج الماء قليلاً ، ووجه بأن الفجر في الأصل هو الشق ، والبجس الشق الضيق فلا يتناقضان كما لا يتناقض المطلق والمقيد والعام والخاص ، أو لعله انبجس أوّلاً ثم انفجر ثانياً وكذا العيون تظهر الماء قليلاً ثم يكثر لدوام خروجه ، أو لعل حاجتهم تشتد تارة فينفجر وتضعف أخرى فينبجس .
{ قد علم كل أناس } أي كل سبط { مشربهم } كأنه أمر كل سبط أن لا يشرب إلا من جدول معين حسماً لمادة التشاجر ، فإن العادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين . وهذا أيضاً من تمام النعمة عليهم ، وإنما فقد العاطف لأن قوله { قد علم } بيان وتفصيل لما أجمل في قوله { اثنتا عشرة } كأنه قيل : هذا المجموع مشاع بينهم أو مقسوم فقيل قد علم { كلوا } على إرادة القول أي وقلنا أي قال لهم موسى كلوا من المن والسلوى الذي رزقناكم بلا تعب ولا نصب ، واشربوا من هذا الماء . وقيل : إن الأغذية لا تنبت إلا بالماء ، فلما أعطاهم الماء فكأنما أعطاهم المأكول والمشروب . والعثو أشد الفساد ، و { مفسدين } قيل : نصب على الحال المؤكدة وهو ضعيف ، فإن من شرطها أن تكون مقررة لمضمون جملة اسمية . وقيل : حال منتقلة ومعناه النهي عن التمادي في حالة الإفساد ، إما مطلقاً أو مقيداً بأنه إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع . ويرد على هذا القول أن الإفساد منهي عنه مطلقاً ، وهذا التفسير يقتضي أن يكون المنهي عنه هو التمادي في الإفساد لا نفس الإفساد . والصحيح أن يقال : إن المنصوبات في نحو قوله عز من قائل { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } { ثم وليتم مدبرين } [ التوبة : 25 ] وفي نحو قولهم « تعال جائياً وقم قائماً » من الصفات القائمة مقام المصدر نحو « أقاعداً وقد سار الركب » بقي في الآية بحث ، وهو أنه كيف يعقل خروج المياه الكثيرة من الحجر الصغير؟ والجواب أما على القول بالفاعل المختار فظاهر فإن له أن يحدث أيّ فعل خارق شاء من غير أن يطلب له سبب وواسطة ، وأما عند طالب الأسباب والوسائط فإن العناصر الأربعة لها هيولي مشتركة عندهم . وجوّز وانقلاب صور بعضها إلى بعض ، فجاز استمداد الماء الكامن في الحجر من الهواء المجاور له ، ومثل هذا ما رواه أنس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء ، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم . قال قتادة قلت لأنس : كم كنتم؟ قال : ثلثمائة أو زهاء ثلثمائة . بل معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة ، أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ، قال أهل الإشارة : الروح الإنساني وصفاته في عالم القالب بمثابة موسى وقومه ، وإنه يستسقي ربه لإروائها من ماء الحكمة والمعرفة فيضرب بعصا لا إله إلا الله .

ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نوراً عند استيلاء ظلمات النفس على حجر القلب فيتفجر اثنتا عشرة عيناً من ماء الحكمة بعدد حروف لا إله إلا الله ، قد علم كل سبط من أسباط الإنسان وهي خمس حواس ظاهرة ، وخمس باطنة مع القلب والنفس مشربهم فيستوي في حظه بحسب مشربه .
قوله سبحانه { وإذ قلتم يا موسى } الآية . زعم بعض المفسرين أن هذا السؤال منهم كان معصية ، فإن اللائق بحال المكلف الصبر على ما ساقه الله تعالى إليه خصوصاً إذا كان نعمة وعفواً وصفواً ، ولا سيما إذا كان المسؤول أدون وأحقر . ولهذا أنكره موسى عليهم { قال أتستبدلون } . وقال الآخرون : إنه غير معصية لأن قوله { كلوا واشربوا } عند إنزال المن والسلوى ، وانفجار الماء أمر إباحة لا إيجاب . ثم إنهم كانوا أهل فلاحة فرغبوا إلى مألوفهم ، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رغبته فيما لا يعتاد وإن كان شريفاً . ولعلهم سئموا من التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم البلاد . وأيضاً المواظبة على الطعام الواحد تميت الشهوة وتضعف الهضم ، فيصح أن يكون التبديل مطلوباً للعقلاء ، ولهذا أجابهم الله تعالى إلى ما سألوا ، ولو كان معصية لم يجبهم إلى ذلك ، اللهم إلا أن يكون من قبيل { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } [ الشورى : 20 ] وإنما صح إطلاق الطعام الواحد على المن والسلوى ، لأنهم أرادوا بالوحدة نفي التبدل والاختلاف ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها ويأكلها كل يوم لا يبدلها . قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً . ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترفه ، ونحن أهل زراعة ما نريد إلا ما ألفناه . ومعنى يخرج لنا يوجد ويظهر . والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر كالنعناع والكرفس والكراث وغير ذلك من أطايب البقول التي يأكلها الناس عادة . والقثاء الخيار ، والفوم الثوم ، ويدل عليه قراءة عبد الله { وثومها } وهو بالعدس والبصل أوفق . وقال بعضهم : الفوم الحمص لغة شامية ، ويقال : هو الحنطة . ومنه قولهم « فوّموا لنا » أي اختبزوا . قال الفراء : هي لغة قديمة { الذي هو أدنى } أي أقرب منزلة وأدون مقداراً كقولهم في ضده « هو بعيد المحل وبعيد الهمة » يعنون الرفعة والعلو { اهبطوا مصراً } أي انحدروا إليه من التيه . يقال : هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج .

وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين اثنا عشر فرسخاً في ثمانية . ومصر إما مصر فرعون ، والتنوين فيه في القراآت المعتبرة مع أن فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في نوح ولوط ، وفيهما العلمية والعجمية . وإما مصر من الأمصار كأنه قيل لهم : ادخلوا بلداً أيّ بلد كان لتحدوا فيه هذه الأشياء . ولما ذكر الله سبحانه صنوف نعمه على بني إسرائيل إجمالاً ثم تفصيلاً ، أراد أن يبين مآل حالهم ليكون عبرة للنظار وتبصرة لأولي الأبصار وتحذيراً للإنسان عن الجحود والكفران المستتبعين للخزي والهوان فقال { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أي جعلت محيطة بهم مشتملة عليهم كالقبة المضروبة على الشخص ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلصق به . فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية . وهذا من جملة الأخبار عن الغيب الدال على كون القرآن وحياً نازلاً من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم . هذا حالهم في الدنيا ، وأما حالهم في العقبى فذلك قوله { وباؤا بغضب من الله } من قولك « باء فلان بفلان » إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه وهو إرادة انتقامه { ذلك } الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب ، بسبب كفرهم بآيات الله أي القرآن ، بل وبالتوراة لأن الكفر به مستلزم للكفر بها ، وقتلهم الأنبياء ، وقد قتلت اليهود - لعنوا - شعيباً وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق أي من غير ما شبهة عندهم توجب استحقاق القتل . فإن الآتي بالباطل قد يكون اعتقده حقاً لشبهة عنت له ، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً . ولا شك أن الثاني أقبح وأدخل في القحة ، أو كرر للتأكيد نحو { ومن يدع مع الله الهاً آخر لا برهان له به } [ المؤمنون : 117 ] ومحال أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان . والنبيء بالهمزة « فعيل » بمعنى فاعل من نبأ بالتخفيف أي أخبر لأنه نبأ عن الله تعالى . قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلا أهل مكة ، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك . وقيل : أصله من نبأت من أرض إلى أرض أي خرجت منها إلى أخرى . وهذا المعنى أراد الأعرابي بقوله « يا نبيء الله » أي يا من خرج من مكة إلى المدينة . فأنكر عليه صلى الله عليه وسلم الهمزة . وقيل : النبي بالإدغام من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض ، أي أنه صلى الله عليه وسلم شرف على سائر الخلق « فعيل » بمعنى « مفعول » ، والجمع أنبياء .

وعلى الأول إنما جمع على أنبياء لأن الهمز لما أبدل وألزم الإبدال جمع جمع ما أصل لامه حرف العلة { ذلك بما عصوا } تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول كقول السيد لعبده وقد احتمل منه ذنوباً سلفت منه فعاقبه عند آخرها « هذا بما عصيتني وخالفت أمري . هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي » ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر والقتل على معنى انهمكوا في العصيان والاعتداء حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء ، أو تكون الباء بمعنى « مع » أي ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا سائر أنواع المعاصي ، واعتدوا حدود الله في كل شيء . وقيل : هو اعتداؤهم في السبت . واعلم أنه سبحانه لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين سبب ذلك أولاً بما فعلوه في حق الله وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ، ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية الترتيب . وقيل : الأول إشارة إلى متقدميهم ، والثاني إشارة إلى من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنه تعالى بيَّن سبب ما نزل بالفريقين من البلاء والمحنة ليظهر للخلائق أن ذلك على قانون العدالة وقضية الحكمة . فإن قيل : لم قيل ههنا { ويقتلون النبيين بغير الحق } وفي « آل عمران » { ويقتلون النبيين بغير حق } [ آل عمران : 21 ] منكراً؟ قلت : الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل ما في قوله صلى الله عليه وسلم « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق » فالحق المعرف إشارة إلى هذا ، وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

القراآت : { النصارى } بالإمالة : أو عمرو وحمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري ، والخراز عن هبيرة ، وكذلك كل راء بعدها ياء . وروى قتيبة بكسر الصاد والراء ، وكذلك قوله { سكارى } و { أسارى } و { يوارى } و { أوارى } كلها بإمالة ما قبل الألف { والصابئين } بغير همزة : أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة .
الوقوف : { عند ربهم } ( ز ) لنوع عدول عن إثبات إلى نفي مع اتفاق الجملتين . و { يحزنون } ( 5 ) { الطور } ( ط ) لأن التقدير : قلنا لكم خذوا { تتقون } ( 5 ) { من بعد ذلك } ( ج ) لأن « لولا » للابتداء وقد دخل الفاء فيه { الخاسرين } ( 5 ) { خاسئين } ( 5 ) ( ج ) للآية والعطف بالفاء { المتقين } ( 5 ) .
التفسير : قد انجرّ الكلام في الآي المتقدمة إلى وعيد أهل الكتاب ومن يقفو آثارهم ، فقرن به ما يتضمن الوعد جرياً على عادته سبحانه من ذكر الترغيب مع الترهيب فقال { إن الذين آمنوا } . واختلف المفسرون ههنا لأن قوله في آخر الآية { من آمن } . يدل على أن المراد من قوله { آمنوا } شيء آخر ، كقوله { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا } [ النساء : 136 ] . فعن ابن عباس : المراد أن الذين آمنوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بعيسى عليه السلام مع البراءة من أباطيل اليهود والنصارى كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري . كأنه قيل : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، والذين كانوا على الدين الباطل لليهود ، والذين كانوا على الدين الباطل للنصارى ، كل من آمن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلى الله عليه وسلم فلهم أجرهم . وعن سفيان الثوري : إن الذين آمنوا باللسان دون القلب وهم المنافقون ، والذين تهوّدوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية ، والنصارى ، والصابئين ، كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم كذا . وقيل : الذين آمنوا هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي . وكأنه قيل : إن الذين آمنوا في الماضي ، واليهود والنصارى والصابئين ، كل من آمن منهم وثبت على ذلك في المستقبل واستمر . واشتقاق اليهود قيل من قولهم { إنا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] أي تبنا ورجعنا . عن ابن عباس : وقيل نسبوا إلى يهودا أكبر ولد يعقوب . وقيل : إنهم يتهودون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة . واشتقاق النصارى قبل من ناصرة قرية كان ينزلها عيسى صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج . وقيل : لتناصرهم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضاً . وقيل : لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله . واحد النصارى نصران ، ومؤنثه نصرانة : والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري ، والصابئين بالهمزة اشتقاقه من صبأ الرجل يصبأ صبواً إذا خرج من دينه إلى دين آخر .

وكانت العرب يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً لأنه صلى الله عليه وسلم أظهر ديناً على خلاف أديانهم . عن مجاهد والحسن : هم طائفة من اليهود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم . وعن قتادة : قوم يعبدون الملائكة ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات . وقيل : وهو الأقرب - إنهم قوم يعبدون الكواكب ثم فيهم قولان : الأوّل أن خالق العالم هو الله سبحانه إلا أنه أمر بتعظيم هذه الأجرام واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء . والثاني أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وفوّض التدبير إليها ، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ، ثم إنها تعبد الله سبحانه . وينسب هذا المذهب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام ، فبين الله تعالى أن هذه الفرق الأربع إذا آمنوا بالله ويدخل فيه الإيمان بكل ما أوجبه كالإيمان برسله وآمنوا باليوم الآخر وبما وعد فيه ، فإن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند الله تعالى . ومحل { من آمن } رفع على أنه مبتدأ خبره { فلهم أجرهم } والجملة خبر « إن » ، أو نصب على أنه بدل من اسم « أن » . والمعطوفات عليه . وخبر « أن » { فلهم أجرهم } والفاء لتضمن من أو الذين معنى الشرط . قال أهل البرهان : قدم النصارى على الصابئين لأنهم أهل كتاب ، وعكس الترتيب في الحج لأن الصابئين مقدمة على النصارى بالزمان ، وراعى في المائدة المعنيين فقدمهم في اللفظ وأخرهم في التقدير ، لأن تقديره : والصابئون كذلك . وقوله سبحانه { وإذا أخذنا ميثاقكم } مخاطبة فيها معاتبة لاستمالها على تذكير النعم وتقدير المنعم . وللمفسرين في هذا الميثاق أقوال : أحدها : أنه ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وقدرته وحكمته وعلى صدق أنبيائه ورسله وهو أقوى المواثيق والعهود ، لأنه لا يحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه من الوجوه وهو قول الأصم ، وثانيها ما روي عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح ، قرأوا ما فيها من الأخبار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، أمر جبرائيل بقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم فحينئذ قبلوا وأعطوا الميثاق . وعن ابن عباس : إن لله ميثاقين الأول ، حين أخرجهم من صلب آدم على أنفسهم ، والثاني أنه تعالى ألزم الناس متابعة الأنبياء . والمراد ههنا هو هذا العهد . وإنما قال { ميثاقكم } ولم يقل « مواثيقكم » للعلم بذلك كقوله { يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] أي كل واحد منكم ، أو لأن الميثاق بشيء واحد أخذه من كل واحد منهم . ولو قال مواثيقكم لأشبه أن يكون لكل منهم ميثاق آخر .

والواو في { ورفعنا } إما واو عطف إن جعل الميثاق مقدماً على رفع الجبل كما في قول الأصم وابن عباس ، وإما واو الحال إن جعل مقارناً للرفع ، كأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم والطور . قيل : الجبل مطلقاً . وعن ابن عباس : أنه جبل من جبال فلسطين . وقيل : جبل معهود ، والأقرب أنه الجبل الذي وقعت المناجاة عليه ، وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم ، فإن القادر على أن يسكن الجبل في الهواء قادر على أن ينقله إليهم من المكان البعيد .
{ خذوا } على إرادة القول أي وقلنا خذوا { ما آتيناكم } من الكتاب { بقوّة } بجد وعزيمة غير متكاسلين ولا متثاقلين وقيل : بقوة ربانية { واذكروا ما فيه } احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه ، وإنما لم يحمل على نفس الذكر لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله فكيف يجوز الأمر به؟ { لعلكم تتقون } رجاء منكم أن تكونوا متقين ، أو قلنا خذوا إرادة أن تتقوا { ثم توليتم } معطوف على محذوف أي فقبلتم والتزمتم ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به . ويمكن أن يقال أخذ الميثاق عبارة عن قبولهم فلا حاجة إلى تقدير { من بعد ذلك } أي من بعد القبول والالتزام . قال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ، فحرفوا التوراة وتركوا العمل به وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم . ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ، ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ، ويجاهرون بالمعاصي في عسكره ، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون ، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأونها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله ، فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب ، وجحودهم لحقه صلى الله عليه وسلم وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } بإمهالكم وتأخير العذاب عنكم { لكنتم من الخاسرين } أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم ، ولكنكم خرجتم من هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليكم بالإمهال حتى تبتم . فإن كلمة « لولا » تدل على امتناع الثاني لوجود الأول ، فامتنع الخسران لوجود فضل الله . ويحتمل أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله { ثم توليتم من بعد ذلك } ويكون قوله { فلولا فضل الله } رجوعاً بالكلام إلى أوّله ، أي لولا لطف الله بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردكم للكتاب ، ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولطف بكم بذلك حتى تبتم .

قوله عز من قائل { ولقد علمتم } اللام للابتداء ، ولا تكاد تدخل الماضي بدون قد لأنها ولتأكيد مضمون الجملة الاسمية نحو : لزيد قائم ، أو لتأكيد المضارع نحو : ليضرب زيد . لكن قد تقرب الماضي من الحال فيصير الماضي كالمضارع مع تناسب معنى « قد » . ومعنى « اللام » في التحقيق ، وعند الكوفيين يقدر القسم قبله . عن ابن عباس : إن هؤلاء القوم كانوا في زمن داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشأم ، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أوب في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة ، فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، وكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد . فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ، ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من العقوبة ، فلما طال العهد استنت الأبناء سنة الآباء واتخذوا الأموال ، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت فنهوهم فلم ينتهوا وقالوا : نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيراً . فقيل لهم : لا تغتروا بذلك فربما ينزل بكم العذاب والهلاك . فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا ثلاثة أيام ثم ماتوا . قال بعضهم : وفي الكلام حذف أي ولقد علمتم اعتداء الذين اعتدوا ليكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك . والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت والاعتداء فيه ، إما نفس الاصطياد لأنهم أمروا فيه بالتجرد للعبادة فجاوزوا ما حد لهم واشتغلوا بالصيد ، وإما الاصطياد مع استحلاله . وقوله { كونوا } المراد منه سرعة الإيجاد وإظهار القدرة وإن لم يكن هناك قول { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] { وقردة خاسئين } خبر « إن » أي كونوا جامعين بين القردة ، والخسوء وهو الصغار والطرد . عن مجاهد أنه مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } [ الجمعة : 5 ] ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجع فيه تعليمه : كن حماراً . واحتج بأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، فإذا أبطله وخلق مكانه تركيب القرد رجع حاصل المسخ إلى إعدام الأعراض التي باعتبارها كان ذلك الجسم إنساناً ، وإيجاد أعراض أخر باعتبارها صار قرداً . وأيضاً لو جوزنا ذلك لم نأمن في كل ما نراه قرداً وكلباً أنه كان إنساناً عاقلاً وذلك شك في المشاهدات . وأجيب بأن الإنسان ليس هذا الهيكل لتبدله بالسمن والهزال فهو أمر وراء ذلك ، إما جسماني سار في جميع البدن ، أو جزء في جانب من البدن كقلب أو دماغ ، أو مجرد كما يقوله الفلاسفة . وعلى التقادير فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ ، وبهذا التأويل يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولأنه لم يتغير منهم إلا الخلقة والصورة والعقل ، والفهم باقٍ فإنهم يعرفون ما نالهم بشؤم المعصية من تغير الخلقة وتشوّه الصورة وعدم القدرة على النطق وسائر الخواص الإنسانية ، فيتألمون بذلك ويتعذبون ، ثم أولئك القرود بقوا أو أفناهم الله ، وإن بقوا فهذه القرود التي في زماننا من نسلهم أم لا ، الكل جائز عقلاً إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا { فجعلناها } أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة { نكالاً } عقوبة شديدة رادعة عن الإقدام على المعصية .

والنكول عن اليمين الامتناع عنها . ولم يقصد بذلك ما يقصده الناس من التشفي وإطفاء نائرة الغيظ ، وإنما جعلناها عبرة لما قبلها ومعها وبعدها من الأمم والقرون ، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها وسيبلغ خبرها إلى الآخرين فيعتبرون ، أو أريد بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم ، أو جعلناها عقوبة لجميع ما ارتكبوه قبل هذا الفعل وبعده ، هكذا قال بعضهم ، والأولى عندي أن يقال : جعلناها عقوبة لأجل ذنوب تقدمت المسخة ، ولأجل ذنوب تأخرت عنها ، لأنهم إن لم يكونوا ممسوخين لم ينتهوا عنها فهم في حكم المرتكبين لها . ولا يلزم من ذلك تجويز العقاب على الذنب المفروض الموهوم لأنه أمر اعتباري ، والعقوبة في نفسها واحدة ثابتة على حالها لم تزدد لأجل الذنب المتأخر شيئاً ، فليس الأمر فيه كمن ضرب عبده لأجل الإباق المتقدم مائة جلدة ، ولأجل الإباق المتأخر المترقب مائة أخرى ، ولكنه كمن قيد عبده أو حبسه لأجل الإباق المتقدم والإباق المترقب والله أعلم { وموعظة للمتقين } لأن منفعة الاتعاظ تعود إليهم لا إلى غيرهم مثل { هدى للمتقين } أو ليعظ المتقون بعضهم بعضاً . وقيل : للمتقين الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

القراآت : { يأمركم } بالاختلاس : أبو عمرو وكذلك كل فعل مستقبل مهموز من ذوات الراء . { هزؤا } ساكنة الزاء مهموزة ، حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل . وقرأ حمزة مبدلة الواو من الهمزة في الوقف لمكان الخط ، وقرأ حفض غير الخراز مثقلاً غير مهموز ، الباقون : مثقلاً مهموزاً { جئت } وبابه بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى وحمزة في الوقت { فأدارأتم } بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف ، { عما يعملون } بالياء التحتانية : ابن كثير .
الوقوف : { بقرة } ( ط ) { هزواً } ( ط ) { الجاهلين } ( 5 ) نصف الجزء { ما هي } ( ط ) { ولا بكر } ( ط ) لأن التقدير هي عوان { بين ذلك } ( ط ) على تقدير قد تبين لكم { فافعلوا ما تؤمرون } ( 5 ) { ما لونها } ( ط ) { صفراء } ( لا ) إلى آخر الآية لأن الجملة صفة بعد صفة { الناظرين } ( 5 ) { ما هي } ( لا ) لأن التقدير فإن البقر أو لأن البقر إيلاء لعذر تكرار السؤال { علينا } ( ط ) { لمهتدون } ( 5 ) { الحرث } ( ج ) لأن قوله { مسلمة } صفة بقرة أو خبر محذوف أي هي مسلمة { لا شية فيها } ( ط ) { جئت بالحق } ( ط ) لأن التقدير فطلبوها فوجدوها { فذبحوها } ( ط ) { يفعلون } ( 5 ) { فادارأتم فيها } ( ط ) { يكتمون } ( 5 ) ج للآية والفاء بعدها { ببعضها } ( ط ) لأن التقدير فضربوه فحيي فقيل لهم { كذلك يحيي الله الموتى } { تعقلون } ( 5 ) { قسوة } ( ط ) { الأنهار } ( ط ) { الماء } ( ط ) { خشية الله } ( ط ) لتفصيل دلائل القدرة { تعملون } ( 5 ) .
التفسير : عن ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام ، فاجتهد موسى في تعرف القاتل . فلما لم يظهر قالوا له : سل لنا ربك حتى يبينه ، فسأله فأوحى الله إليه إن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة . فعجبوا من ذلك فشددوا على أنفسهم بالاستفهام حالاً بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعين لم يجدوها بذلك النعت إلا عند يتيم . وذلك أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر ، وكان براً بوالديه ، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة فذبحوها ، وأمر موسى عليه السلام أن يأخذوا عضواً منها فيضربوا به القتيل فصار المقتول حياً وسمى لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قوداً . واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند مجوّز تكليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فمختلف فيه ، فالمجوزون استدلوا بالآية قالوا : أمروا بذبح بقرة معينة بدليل تعيينها بسؤالهم آخراً ، وبدليل أنه لم يؤمر بمتجدد بل المأمور به في الثانية هو المأمور به في الأولى بالاتفاق ، وبدليل المطابقة لما ذبح .

والمانعون قالوا : معناه اذبحوا أية بقرة شئتم بدليل تنكير بقرة ، وهو ظاهر في أن المراد بقرة غير معينة ، وبدليل أن ابن عباس قال : لو ذبحوا بقرة ما لأجزأهم ، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، وبدليل التعنيف في قوله { وما كادوا يفعلون } ولو كانت معينة لما استحقوا التعنيف على السؤال . وأجيب بأن ترك الظاهر يجوز لموجب راجح ، وما نقل عن ابن عباس خبر الواحد ، والتعنيف يجوز أن يكون لتفريطهم في الامتثال بعد حصول البيان التام . ويتفرع على قول المانعين أن التكليف يكون متغايراً فكلفوا في الأول أيّ بقرة كانت ، وثانياً أن تكون لا فارضاً ولا بكراً بل عواناً ، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلولاً تثير الأرض ولا تسقي الحرث . ثم اختلف القائلون بهذا المذهب . منهم من قال في التكليف الواقع أخيراً يجب أن يكون مستوفياً كل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارضاً ولا بكراً وصفراء فاقعاً لونها . ومنهم من يقول : إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط ، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفاً بعد تكليف ، وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند ترك الامتثال . وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر وأنه تكليف بعد تكليف ، دل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق ، فإن المربي لولده قد يأمره بالسهل اختباراً ، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب . ويدل أيضاً على جواز النسخ قبل الفعل وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء ، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام ، ويدل أيضاً على أن الزيادة في الخطاب نسخ له .
{ أتتخذنا هزواً } استفهام بطريقة الإنكار ، معناه لا تجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوءاً بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء . كان القوم ظنوا أنه يداعبهم لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة ، وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حياً ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء . ويحتمل أنه وإن كان قد تبين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يحيا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة . واختلف العلماء ههنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا ، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي ، وذلك أيضاً كفر . وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة ، أو المراد ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء { من الجاهلين } إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك كما يقول الرجل عند مثل ذلك : أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى ، أو أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لما في الاستهزاء من نقصان الدين والعقاب الشديد .

وقيل : نفس الهزء قد يسمى جهلاً ، فإن الجهل ضد الحلم ، كما أنه ضد العلم . ثم إن قيل : إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها غير مبينة التعيين حسن موقع سؤالهم ، لأن المأمور به لما كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام . أما على قول القائل إنها للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار فذكروا وجوهاً أحدها : أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة ، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من سائر العصي بتلك الخواص ، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى ، أو لعل القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال : المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى ، أو الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال ، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة . فإن قيل : السؤال بما هو لطلب الحقيقة والحقيقة لا تعلم إلا بأجزائها ومقوماتها لا بصفاتها الخارجة ، فالجواب بالأوصاف الخارجة لا يكون مطابقاً للسؤال . قلنا : من البين أن مقصودهم من قولهم « ما البقرة » ليس طلب ماهيتها النوعية فإن ذلك كالمفروغ منه عندهم ، وإنما وقع السؤال عن المشخصات . فالظاهر يقتضي أن يقال : أي بقرة هي؟ فإن مطلب « أي » السؤال عن الصفات الذاتية والخواص . فسبب العدول إما إقامة الحقيقة الشخصية مقام الحقيقة النوعية فإن الشخص من حيث هو شخص حقيقة أيضاً قد يطلب تصورها ، وإما لأنهم تصوروا أن البقرة التي لها هذه الخاصية العجيبة حقيقتها مغايرة لحقيقة سائر البقرات وإن كانت صورتها موافقة لصورتها ، وإما لأن السؤال عن الجزئيات كزيد وعمرو إنما يكون ب « من » إذا كان طلباً للعوارض ، وههنا الجزئي غير ذي عقل فناسب أن يقام ما مقام « من » .
الفارض المسنة ، وقد فرضت فروضاً فهي فارض كطالق كأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها . والبكر الفتية ، وكان الأظهر أنها التي لم تلد كما في الإنسان .

والعوان النصف قال :
نواعم بين أبكار وعون . ... وقد غونت وقال :
فإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا
وقد يستدل من هذا على جواز الاجتهاد واستعمال غلبة الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا بطريق الاجتهاد . وإنما جاز دخول « بين » على لفظة « ذلك » مع أنه لا يدخل إلا على متعدد ، لأنها في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر من الفارض والبكر . وإنما أشير بذلك إلى مؤنثين وهو للإشارة إلى واحد مذكر على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار في الكلام { ما تؤمرون } مثل : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به . بمعنى ما تؤمرون به ، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير ، ولما بين لهم كمال حالها في السن شرعوا في تعرف حال اللون . والفقوع أشد ما يكون من الصفرة . يقال في التوكيد أصفر فاقع مثل أسود حالك ، وأحمر قانئ ، وارتفع اللون على أنه فاعل سببي لفاقع . والفرق بين قولك « صفراء فاقعة » و « صفراء فاقع لونها » أن في الثاني تأكيداً ليس في الأول ، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل : شديد الصفرة صفرتها مثل جد جده ، وجنونه مجنون . وعن وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها . والسرور حالة نفسانية تعرض عند اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع . وعن علي عليه السلام : من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله { سر الناظرين } وعن الحسن البصري : صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد ، ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها يعلوه صفرة وبه فسر قوله تعالى { جمالات صفر } [ المرسلات : 33 ] { إن البقر تشابه علينا } لأن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير { وإنا إن شاء الله لمهتدون } عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً » وفيه دليل على أن الاستثناء مندوب في كل عمل صالح يراد تحصيله ، ففيه استعانة بالله وتفويض للأمر إليه ، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية ، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن . والمعنى إنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عداها ، أو إنا إن شاء الله على هدى في استقصاء السؤال أي نرجو أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث ، أو إنا إن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي لها ، أو إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل { لا ذلول } صفة لبقرة مثل لا فارض أي بقرة غير ذلول لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحرث .

« لا » الأولى للنفي والثانية مزيدة للتوكيد ، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية . والذل بالكسر اللين ضد الصعوبة ، ودابة ذلول بينة الذل « فعول » بمعنى « فاعل » ، ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث . تقول : رجل صبور وامرأة صبور { مسلمة } سلمها الله تعالى من العيوب مطلقاً ، أو معفاة من العلم وحشية مرسلة عن الحبس ، أو مخلسة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان . وعلى هذا يكون { لا شية فيها } كالبيان . والشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره أي لا لون فيها يخالف سائر لونها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر « وشاة » إذا خلط بلونه لوناً آخر ، أصلها وشية حذف فاؤها كما هو « عدة » و « زنة » { الآن } اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غير متمكن وقع معرفة ، وليس الألف واللام فيه للتعريف لأنه ليس له ما يشركه وهو يائي { جئت بالحق } أي بحقيقة وصف البقرة أو ما بقي إشكال في أمرها فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف { فذبحوها } والذبح هو قطع أعلى العنق وهو المستحب في الغنم والبقر . والنحر هو قطع اللبة أسفل العنق وهو المستحب في الإبل . والمرعي في الحالتين قطع الحلقوم والمرئ لكن عنق الإبل طويل ، فإذا قطع أعلاه تباطأ الزهوق . ولا يكره الذبح في الإبل والنحر في البقر والغنم وإن كان خلاف المستحب { وما كادوا يفعلون } استبطاء لهم ، وأنهم لكثرة استكشافهم ما كاد ينقطع خيط أشباههم . وقيل : وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها . وقيل : لخوف الفضيحة في ظهور القاتل . وقد يستدل بهذا على أن الأمر للوجوب بل للفور وإلا لما ترتب هذا الذم على تثاقلهم { وإذ قتلتم نفساً } خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم { فادارأتم فيها } فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفعه ويزحمه ، أو ينفي كل واحد منكم القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره أو يدفع بعضكم بعضاً عن البراءة ويتهمه . وأصله تدارأتم أدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل ، ويحتمل أن يرجع الضمير في « فيها » إلى القتلة المعلومة من قتلتم { والله مخرج } مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل . وقد حكي ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ كما حكي الحاضر في قوله { وكلبهم باسط ذراعيه } [ الكهف : 18 ] فلهذا صح عمل اسم الفاعل . وهذه الجملة معترضة ، وفيها دليل على جواز عموم النص الوارد على السبب الخاص ، لأن هذا يتناول كل المكتومات . وفيها دليل على أن الله لا يحب الفساد ، وأنه سيجعل إلى زواله سبيلاً ، وأن ما يسّره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فالله سيظهره ، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم

« إن عبداً لو أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس » وكذلك المعصية والضمير في { اضربوه } عائد إلى النفس ، والتذكير على تأويل الشخص أو الإنسان ، ويحتمل أن يعود إلى القتيل بدلالة { قتلتم } أو { ما كنتم تكتمون } واختلف في البعض من البقرة فقيل لسانها ، وقيل : فخذها اليمنى ، وقيل : عجبها ، وقيل : العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن ، وقيل : الأذن ، وقيل : البضعة من بين الكتفين ، والظاهر أنهم كانوا مخيرين بين أيّ بعض أرادوا ، وههنا محذوف بدلالة الفاء الفصيحة والمعنى فضربوه فحيي فقلنا كذلك يحيي الله الموتى . روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال : قتلني فلان وفلان - وهما ابنا عمه - ثم سقط ميتاً فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك ، ويؤيده قوله نبينا صلى الله عليه وسلم « ليس للقاتل من الميراث شيء » والسر فيه أنه استعجل الميراث فناسب أن يعارض بنقيض مقصوده وهو قول الشافعي . ولم يفرق بين أن يكون القتل مستحقاً كالعادل إذا قتل الباغي ، أو غير مستحق عمداً كان أو خطأ . وعند أبي حنيفة لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه . وقال مالك : لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله . ومحل { كذلك } نصب على المصدر أي يحيي الله الموتى مثل ذلك الإحياء . وهذا الكلام إما مع الذين حضروا حياة القتيل لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا بذلك من طريق العيان والمشاهدة ، وشتان بين عين اليقين وعلم اليقين . وإما أن يكون مع منكري البعث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير « فقلنا » بعد تقدير « فضربوه فحيي » { ويريكم آياته } دلائله على أنه قادر على كل شيء . فدلالة هذه القصة على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإعدام آية ، ودلالتها على صدق موسى عليه السلام آية ، ودلالتها على براءة ساحة من سوى القاتل آية ، ودلالتها على حشر الأموات آية ، فهي وإن كانت واحدة إلا أنها في الحقيقة آيات عدة . ويمكن أن يراد بالآيات غير هذه أي مثل هذه الإراءة يريكم سائر الإراآت ، كما أن مثل هذا الإحياء يحيي سائر الأموات . وفي قوله { كذلك } دون أن يقال كهذا تعظيم للمشار إليه بتبعيده كما قلنا في { ذلك الكتاب } { لعلكم تعقلون } تعملون على قضية عقولكم ، فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها إذ لا أثر للمخصصات في ذلك . فإن قيل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أنه قادر على إحيائه ابتداء؟ قلنا : الفائدة فيه كون الحجة آكد وعن الحيلة أبعد ، فقد كان يجوز لملحد أن يتوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه ، أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، ولما في ذبح البقرة من القربان وأداء التكليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على طلب الحوائج ، وما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم من اللطف لهم وللآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله على الفور ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين والإشفاق على الأولاد ، وتجهيل المستهزئ بما لا يعلم تأويله من كلام الحكيم ، وبيان أن من حق المتقرب به إلى الرب أن يكون من أحسن ما يتقرب به ، فتيّ السن حسن اللون بريئاً من العيوب ثميناً نفيساً « أسمنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم » فإن قيل : هلا قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة كما هو حق القصة؟ قلنا : لأنها كانت تكون حينئذ قصة واحدة ويذهب الغرض في ثنية التقريع بالاستهزاء وترك المبادرة بالامتثال أولاً ، وبقتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية ثانياً ، على أنها دلت على اتحاد القصتين برجوع الضمير في { ببعضها } إلى البقرة وهي مذكورة في الأولى .

قوله { ثم قست قلوبكم } الآية . خطاب لأولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى ، أو للذين هم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم من بعد ذلك الإحياء ، أو من بعد ذلك الذي عددنا من جميع الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات . ومعنى « ثم » استبعاد القسوة من بعدما يوجب اللين والرقة . وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار والاتعاظ فهي كالحجارة مثلها في القسوة ، أو هي أشد قسوة من الحجارة . فمن عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة ، ويجوز أن يقدر مضاف أي هي كالحجارة أو مثل أشد قسوة . فمن عرفها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى من الحجارة كالحديد مثلاً . وإنما قيل : أشد قسوة مع إمكان بناء أفعل التفضيل من فعل القسوة ، لكونه أدل على فرط القسوة ، أو لأنه لم يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل : اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة منها ، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو : زيد كريم وعمر أكرم . وكلمة « أو » ههنا ليست للشك ، فعلام الغيوب لا يشك في شيء ، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقاً ، ولو جمعت بينهما جاز . ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير ، وإن منها للذي ينشق انشقاقاً طولاً أو عرضاً فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها ، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض .

ثم إن كان ظاهر الأرض رخواً نفشت وانفصلت ، وإن كان صلباً حجرياً اجتمعت وصارت مياهاً ، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهاراً أو عيوناً . وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل . ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم « يذكر » في « يتذكر » { لما يهبط } للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله ، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم ، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر ، وقيل : أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء { وما الله بغافل عما تعملون } وعيد ، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة { فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً } [ مريم : 84 ] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] .
التأويل : ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية ، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا .
اقتلوني يا ثقاتي ... إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي ... ومماتي في حياتي
مت بالإرادة تحيا بالطبيعة . وقال بعضهم : مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة { ما هي إنها بقرة } نفس تصلح للذبح بسيف الصدق { لا فارض } في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد { ولا بكر } في سن شرخ الشباب يستهويه سكره { عوان بين ذلك } لقوله { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } [ الأحقاف : 15 ] . { بقرة صفراء } إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضيات { فاقع لونها } يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين . { لا ذلول تثير الأرض } لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها { ولا تسقي } حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق ، فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق { مسلمة } من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله { وما كادوا يفعلون } بمقتضى الطبيعة لولا فضل الله وحسن توفيقه . { وإذ قتلتم نفساً } يعني القلب { فادّارأتم } فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أو من النفس الأمارة { فقلنا اضربوه ببعضها } ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله تعالى وقال

{ إن النفس لأمارة بالسوء } [ يوسف : 53 ] { وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } مراتب القلوب في القسوة مختلفة ، فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان أنوار الروح يترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيين والهنود ، والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء ، والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية ، وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم . والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدوا في قربهم وقبولهم ودرجاتهم ، ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم ، والمسلمون مخصوصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه . فإراءة الآيات للخواص { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] { ويريكم آياته لعلكم تعقلون } [ البقرة : 73 ] لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما في حق يوسف { لولا أن رأى برهان ربه } [ يوسف : 24 ] سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال : واردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها . والله أعلم .
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)

القراآت : { إلا أماني } حيث كان خفيفاً : يزيد إلا قوله { تلك أمانيهم } { وليس بأمانيكم ولا أماني } { وغرتكم الأماني } فإن أربعتهن بالإسكان عنده { بأيديهم } بضم الهاء : يعقوب ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة { خطيآته } بالجمع : أبو جعفر ونافع .
الوقوف : { يعلمون } ( 5 ) { آمنا } ( ج ) والوصل أجوز لبيان حالتيهما المتناقضتين وهو المقصود { عند ربكم } ( ط ) { أفلا تعقلون } ( 5 ) { يعلنون } ( 5 ) { يظنون } ( ج ) { قليلاً } ( ط ) { يكسبون } ( 5 ) { معدودة } ( ط ) { ما لا تعلمون } ( 5 ) { النار } ( ج ) لأن الجملة مبتدأ وخبر بعد خبر . { خالدون } ( 5 ) { الجنة } ( ج ) { خالدون } ( 5 ) .
التفسير : لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح أسلاف اليهود وسوء معاملتهم مع نبيهم ، أردفها قبائح أخلافهم المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل : إذا كان هذا أفعالهم فيما بينهم ، فكيف تطمعون أيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في أن يؤمنوا أي يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم؟ كقوله { فآمن له لوط } { وقد كان فريق منهم } طائفة من أسلافهم { يسمعون كلام الله } وهو ما يتلونه من التوراة { ثم يحرفونه } كما حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية الرجم . وقيل : هم قوم من الذين حضروا الميقات ، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى عنه ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس { من بعد ما عقلوه } فهموه وضبطوه بعقولهم من غير ما شبهة { وهم يعلمون } أنهم مفترون كذابون . والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك كما تقول للرجل : كيف تطمع أن يفلح فلان وأستاذه فلان يأخذ عنه لا عن غيره؟ فهؤلاء المقلدة لا يقبلون إلا قول معلميهم وأحبارهم الذين تعمدوا التحريف عناداً أو لضرب من الأغراض الدنيوية { وإذا لقوا } أي اليهود قال منافقوهم : آمنا بأنكم على الحق ونشهد أن صاحبكم صادق ، ونجده بنعته وصفته في كتابنا . { وإذا خلا بعضهم } الذين لم ينافقوا { إلى بعض } الذين نافقوا { قالوا } عاتبين عليهم { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } بما بين لكم في التوراة من نعته وصفته مأخوذ من قولهم « قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه ، أو قال المنافقون لعيرهم يرونهم التصلب في دينهم : أتحدثونهم إنكاراً عليهم أن يفتحوا عليهم شيئاً في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود { ليحاجوكم به عند ربكم } ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه . جعلوا محاجتهم به وقولهم » هو في كتابكم هكذا « محاجة عند الله . ألا تراك تقول : هو في كتاب الله كذا وهو عند الله كذا بمعنى واحد؟ وعن الحسن : ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم تعالى من اتباع الرسل محاجة فيه أي دينه .

وقال الأصم : يحاجوكم يوم القيامة عند المساءلة فيكون زيادة في توبيخكم ، فكان القوم يعتقدون أن ذلك مما يزيد في فضيحتهم في الآخرة . وقيل : ليحاجوكم به على وجه الديانة والنصيحة ، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه : أزحت علتك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي ، فإن قبلت أحسنت إلى نفسك ، وإن جحدت كنت الخاسر الخائب . وقيل : لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله كما يقال : فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي . وهذا عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة كذا { أفلا تعقلون } أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه فإنكم إذا حدثتموهم بالذي يحاجونكم به رجع وباله عليكم { أو لا يعلمون أن الله يعلم } جميع { ما يسرون وما يعلنون } ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان ، خوّفهم الله تعالى بذلك لأنهم كانوا يعرفون أن الله يعلم السر والعلانية { ومنهم أميون } لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها كأنه منسوب إلى الأم وهو أصل الشيء ، فالأمي على أصل فطرته لم يكتسب علماً وكتابة { لا يعلمون الكتاب } التوراة { إلا أماني } وأحدها أمنية على أفعولة من مني إذا قدر . تقول : منه تمنيت الشيء ومنيته غيري تمنية ، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوّز ما يتمناه ، وأماني اليهود هي أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وما يمنيهم الأحبار من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة . وقيل : الأماني الأكاذيب المختلفة التي سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد . يقال : أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته؟ وذلك أن المختلق يقدر أن كلمة كذا بعد كذا . وفي الصحاح أنه مقلوب المين وهو الكذب . وقيل : إلا ما يقرأون من قولهم « تمنيت الكتاب قرأته » قال الشاعر يرثي عثمان :
تمنى كتاب الله أوّل ليلة ... وآخرها لا في حمام المقادر
والقارئ مقدر الكلمات كالمختلق ، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلاً كأنه قيل : لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه . ثم إ نهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل ، وعلى الأول يكون استثناء منقطعاً . ومن قرأ { أماني } بالتخفيف حذف المد كما يقال مفاتح { وإن هم إلا يظنون } كالمحقق لما تقدمه من قوله { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } ذكر الفرقة الضالة المضلة المحرفة ، ثم الفرقة المنافقين منهم ، ثم الفرقة المجادلة لأهل النفاق ، ثم العوام المقلدة ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ، لأن للعالم أن يعمل بعلمه وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن إن كان متمكناً من العلم ولا سيما في أصول الدين ، الويل كلمة يقولها كل مكروب ، وعن ابن عباس : أنه العذاب الأليم .

وعن الثوري : صديد أهل الجحيم . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره » . وقال عطاء بن يسار : الويل واد في جهنم ، لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره . ولا شبهة في دلالتها على نهاية الوعيد والتهديد { يكتبون الكتاب } المحرف { بأيديهم } تأكيد كما تقول للمنكر هذا ما كتبته بيمينك . حكى عنهم أمرين : كتبة الكتاب وإسناده إلى الله . فالوعيد مرتب على كل منهما وعلى مجموعهما إلا أنه على الثاني أبلغ ولهذا جيء ب « ثم » وقوله { ليشتروا به ثمناً قليلاً } تنبيه على شقاوتهم ، فإنهم استبدلوا النفع الحقير العاجل الزائل بالأجر العظيم الآجل الدائم { فويل لهم مما كتبت أيديهم } أي مما أسلفت من كتبها ما لم يكن يحل لهم { وويل لهم مما يكسبون } بذلك بعد من الرشا على التحريف وفي إعادة الويل في الكسب دليل على أن الوعيد كما يلحقهم بسبب الكتبة وإسنادها إلى الله ، فكذلك يلحقهم بسبب أخذ المال عليه ليعلم أن أخذ المال على الباطل محرم وإن كان بالتراضي { وقالوا لن تمسنا النار } نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياماً معدودة قليلة ، وهذا الجزم مما لا سبيل إليه بالعقل ألبتة ، ولا دليل له سمعياً فلا يجزم به عاقل . والأيام المعدودة قالوا : أربعون يوماً هي أيام عبادة العجل . وعن مجاهد قالوا : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً لأن يوماً عند الله ألف سنة . وأيام معدودة ومعدودات كلاهما فصيح مثل الأيام مضت ومضين . والعهد ههنا يجري مجرى الوعد والخبر ، لأن خبره سبحانه كالعهود المؤكدة منا بالقسم والنذر . و { أتخذتم } استفهام بطريق الإنكار ، وإنه يدل على عدم الدليل السمعي . { فلن يخلف الله عهده } لتنزهه سبحانه عن كل نقيصة وخلاف الخبر أنقص النقائص . فإن قيل : هب أن الخلف في الوعد لؤم ونقيصة ، لكنه في الوعيد كرم ولطف . قلنا : الخلف من حيث هو كذب قبيح لا يجوّزه كامل ، ولعل للكرم طريقاً آخر سوى هذا فتأمل . و « أم » إما معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقدير لأن العلم واقع بكون أحدهما وهذا من الكامل المنصف نحو { وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 8 ] ، ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى « بل أتقولون » كأنه أعرض عن الاستفهام الأول واستأنف سؤالاً ثانياً . فالاستفهام الأول لتقرير النفي ، والاستفهام الثاني لتقرير الإثبات . وفي الآية تنبيه على أن القول بغير دليل باطل وأن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي . ولا حجة لمنكري القياس وخبر الواحد فيه لأنه لما دل الدليل على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد ، كان وجوب العمل معلوماً فكان القول به قولاً بالمعلوم { بلى } إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله { لن تمسنا النار } أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله تعالى { هم فيها خالدون } عن ابن عباس : وجد أهل الكتاب ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا : لن نعذب في النار إلا ما وجدنا في التوراة ، وإذا كان يوم القيامة أقحموا في النار فساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شفير سقر وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة أهل النار : يا أعداء الله ، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة ، فقد انقضى العدد وبقي الأبد .

قلت : وفي مثل حالهم ضلال الفلاسفة القائلين بأن الأرواح وإن صارت مكدرة بقبائح أفعال الأشباح ، إلا أنها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس ، ولا يزاحمها شيء من قبائح الأعمال إلا أياماً معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية ، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب . ومنهم من زعم أن استيفاء اللذات الحسية يقلل التعلقات الدنيوية ويسهل عروج الروح إلى عالمه العلوي ، وكل هذا خيال فاسد ومتاع كاسد ، وإنه قول من لم يجرب ولم يجد من نفسه أنها كيف تتدنس وتتكدر بالأخلاق الذميمة البهيمية والسبعية ، ويكف تتصفى وتتطهر بالأخلاق الحميدة الروحانية الملكية ، فغمر بصدإ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين : 14 ] فلا يجلوها إلا مرور الدهور وكرور الأعصار . وقد ينضم الكفر إلى تلك الأخلاق فيبقى خالداً مخلداً في النار ، في ويل طويل وزفير وعويل ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . والسيئة أصلها سيوئة من ساءه يسوءه سوأ ومساءة ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، وهي من الصفات الغالبة . وقوله { سيئة } يتناول جميع المعاصي صغرت أو كبرت ، فضم إليها شرط آخر وهو كون السيئة محيطة به ليختص بالكبيرة . ولفظ الإحاطة حقيقة في المجسمات إحاطة السور بالبلد والظرف بالمظروف ، فنقل إلى الخطيئة وهي عرض لمعنيين من جهة أن المحيط يستر المحاط به . والكبيرة تستر الطاعات ، ومن جهة أن الكبيرة تحبط الطاعات وتستولي عليها إحاطة العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من الخلاص عنهم . والآية وإن وردت في اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبمثلها تتمسك المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة ، وفسر غيرهم الخطيئة المحيطة بالكفر فيه تتحقق الإحاطة التامة . واعلم أن في المسألة خلافاً لأهل القبلة . منهم من قطع بوعيدهم إما مؤبداً - وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج - وإما منقطعاً - وهو قول بشر المريسي والخالدي ومنهم من قطع بأنه وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر .

والذي عليه أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والإمامية ، القطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة ، وأنه إذا عذب أحدهم فلا يعذبه أبداً ، لكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه والبعض المعذب على التعيين . أما المعتزلة فاستدلوا بعمومات وردت في وعيد الفساق كقوله { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها } [ النساء : 14 ] وقوله { وإن الفجار لفي جحيم } [ الإنفطار : 14 ] وقوله { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] ومن الحديث « من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة . ومن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » وعن أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم « والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار » وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا النار بقتلهم أولى . وأجيب بالمنع من أن هذه الصيغ للعموم بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها نحو : كل من دخل داري فله كذا ، أو بعض من دخل . ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض ، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ الكل ، ولاحتمال المخصصات . القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكباشر احتجوا بنحو قوله تعالى { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } [ النحل : 27 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } [ الرعد : 6 ] { لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى } [ الليل : 15 ، 16 ] وبالعمومات الواردة في الوعد مثل { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } [ البقرة : 3 ] الآية . حكم بالفلاح على كل من آمن . وعورض بعمومات الوعيد . أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض والتوقف في البعض ، فقد تمسكوا بنحو قوله عز من قائل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] وبأن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلا بد من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل إليه ، لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف ، وإهمال الوعد باضد . وأيضاً القرآن مملوء من قوله { عفواً غفوراً } { رحيماً } { كريماً } . وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حد التواتر . وأيضاً إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ، ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر ، ولا يهدمه ما سوى الكفر من المعاصي ، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي : إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة ، فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة؟ إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات ، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي ، وإذا دلت الآيات على الوعد والوعيد فلا بد من التوفيق بينهما .

فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب وهو باطل بالإجماع ، أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب . واعلم أن مذهب الأصحاب إلى الأدب أقرب من حيث إنهم يصفونه بصفات الجمال كالعفو والمغفرة ، وبصفات الجلال كالقهر والانتقام ، ولكن لا يوجبون عليه ثواباً ولا عقاباً ، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . ومن حيث إنهم لا يعينون البعض المستحق للثواب ولا البعض المستحق للعقاب من المسلمين ، لأن فعله مبرأ عن التعلل بلواحق الغايات وسوابق البواعث . ومذهب المعتزلة إلى الاحتياط أقرب ، فإن من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير ممن أمنك حتى تبلغ الجوف .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

القراآت : { لا يعبدون } بالياء للغيبة . ابن كثير وحمزة وعلي والمفضل { القربى } بالإمالة المفرطة : حمزة وعلي وخلف ، وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على وزن « فعلى » { حسنا } وصفاً : يعقوب وحمزة وعلي وخلف والمفضل { تظاهرون } خفيفاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، وحذف إحدى التاءين للتخفيف ، الباقون بالتشديد ووجهه إدغام التاء في الظاء { أسارى } بالإمالة { تفدوهم } أبو عمرو وخلف . { أسارى } مفخماً { تفدوهم } ابن كثير وابن عامر { أسرى } بالإمالة { تفدوهم } حمزة . { أسارى } بالإمالة { تفادوهم } علي والنجاري عن ورش والخراز عن هبيرة ، والباقون { أسارى } مفخماً { تفادوهم } { تردون } بتاء الخطاب : أبو زيد عن المفضل { يعلمون } بياء الغيبة : ابن كثير ونافع وخلف ويعقوب وأبو بكر وحماد بناء لآخر الكلام على أوّله ، الباقون بالتاء تغليباً للمخاطبين على الغيب .
الوقوف : { الزكاة } لأن « ثم » لترتيب الأخبار أي مع ذلك توليتم و { معرضون } و { تشهدون } ( 5 ) { من ديارهم } ( ز ) لأن { تظاهرون } يشبه استئنافاً ، وكونه حالاً أوجه و { العدوان } ( ط ) { إخراجهم } ( ط ) { ببعض } ( ج ) لابتداء الاستفهام أو النفي مع فاء التعقيب { الدنيا } ( ط ) لعطف الجملتين المختلفتين { العذاب } ( ط ) { يعملون } ( 5 ) { الآخرة } ( ز ) لأن الفعل مستأنف وفيه فاء التعقيب للجزاء { ينصرون } ( 5 ) .
التفسير : إنه سبحانه كلفهم بأشياء : الأوّل : قوله { لا تعبدون إلا الله } من قرأ بياء الغيبة فلأنهم غيب ، ومن قرأ بتاء الخطاب فلحكاية ما خوطبوا به ، وفي إعرابه أقوال : أحدها : أنه إخبار في معنى النهي كقولك « تذهب إلى فلان » تريد الأمر وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنه سورع إلى الامتثال فهو يخبر عنه . ويؤيد هذا القول عطف { وقولوا } { وأقيموا } عليه . وثانيها : التقدير أن لا تعبدوا فلما حذفت « أن » رفعت كقوله « ألا أبهذا الزاجري أحضر الوغى » ويحتمل أن تكون « أن » مفسرة وأن تكون مع الفعل بدلاً من الميثاق كأنه قيل : أخذنا ميثاق بني إسرائيل توحيدهم . وثالثها : هو جواب قوله { أخذنا ميثاق بني إسرائيل } إجراء له مجرى القسم كأنه قيل : وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون . وهذا التكليف بالحقيقة يتضمن جميع ما لا بد منه في الدين ، لأن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وبجميع ما يجب له ويستحيل عليه ، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة .
التكليف الثاني : قوله : { وبالوالدين إحساناً } معناه يحسنون بالوالدين إحساناً ليناسب { لا تعبدون } أو أحسنوا ليناسب { وقولوا } ويمكن أن يقدر « وصيناهم » عطفاً على { أخذنا } وهذا أنسب لمكان الباء ، ولا بد من تقدير القول إما قبل { لا تعبدوا } وإما قبل { أحسنوا } وإما قبل { قولوا } وإنما جعل الإحسان إلى الوالدين تالياً لعبادة الله لوجوه منها : أنهما سبب وجود الولد كما أنهما سبب التربية ، وغير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين .

ومنها أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثواباً { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } [ الإنسان : 9 ] . ومنها أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم ، فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بارٍ بهما ، ومنها أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح والغبطة ، والله سبحانه يأخذ الحبة فيربيها مثل جبل أحد . ومنها أن المناسبة والميل والحبة بين الوالد وولده ذاتية حتى عمت جميع الحيوان ، كما أن المناسبة بين الواجب والممكن ذاتية لا عرضية ، وههنا أسرار فليتأمل . ومنها أنه لا كمال يمكن للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه ، كما أن الله تعالى لا خير يمكن للعبد إلا وهو يريده عليه ، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الأدلة وأزاح العلة ، ومن غاية شفقة الوالدين أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيراً منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما فإنه لا يرضى أن يكون غيره خيراً منه . وتعظيم الوالدين أمر معتبر في جميع الشرائع ومركوز في كل العقول ، وقد ورد « أطع الوالدين وإن كانا كافرين » وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركاً ، ولهذا أطلق الإحسان إليهما في الآية إطلاقاً . وقد تلطف إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله { يا أبت ، يا أبت } والإحسان إليهما أن يحبهما من صميم القلب ويراعي دقائق الأدب والخدمة والشفقة ويبذل وسعه في رضاهما قولاً وفعلاً ، ولا يمنع أعز أوقاته وكرائم أمواله عنهما ، ويجتهد في تنفيذ وصاياهما ويذكرهما في صالح دعائه كما أرشد الله تعالى إلى جميع ما ذكرنا في قوله { فلا تقل لهما أف } [ الإسراء : 23 ] إلى آخر الآية .
التكليف الثالث : الإحسان إلى ذوي القرابة ويعبر عنه بصلة الرحم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « الرحم شجنة من الرحمن قال الله : من وصلك وصلته ومن قطعك قعطعته » والشجنة الاشتباك أي الرحم مشتقة من الرحمن يعني أنها قرابة من الله مشتبكة كاشتباك العروق والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة ، ولهذا صار كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين قال الشافعي : لو أصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث وغير الوارث ، والمحرم وغير المحرم ، والمسلم والكافر ، والذكر والأنثى ، والغني والفقير ، والأجداد والأحفاد ، لا الأبوان والولد على الأظهر ، لأن الوالد والولد لا يعرفان في العرف بالقريب .

وههنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية ليرتفع نسبهم ، ونحن لو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا ، فلهذا قال الشافعي : نرتقي إلى أقرب جد ينسب هو إليه ويعرف به . وذكروا في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي فإنا نصرفه إلى أولاد شافع فإنه منسوب إليه ، ولا يدخل فيها أولاد علي والعباس وإن كان شافع وعلي والعباس كلهم أولاد السائب بن عبيد ، والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف . قال المحققون : هذا في زمان الشافعي ، وأما في زماننا فلا نصرفه إلا إلى أولاد الشافعي ولا نرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، ولا يدخل الأقارب من الأم في وصية العرب لأن قرابة الأم لا تعدها العرب قرابة ولا تفتخر بها أما لو أوصى لذي رحم زيد فيدخل فيه قرابة الأم في وصية العرب والعجم ، لأن لفظ الرحم لا يختص بطرف الأب بحال . وذهبت طائفة إلى أن الأقوى على ما أجاب به العراقيون ومال إليه أبو حنيفة ، هو أن أقارب الأم تدخل في الوصية سواء كانت في وصية العرب أو وصية العجم ، وتوجيه الفارق ممنوع لقوله صلى الله عليه وسلم « سعد خالي فليرني امرؤ خاله » . والإحسان إلى الأقارب قريب من الإحسان إلى الوالدين ، وذلك بأن يجتهد في رضاهم بما تيسر له عرفاً وشرعاً ، وينفق عليهم بالمعروف إن كانوا معسرين وهو موسر .
التكليف الرابع : الإحسان إلى اليتامى واليتيم من الأطفال الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم ، فيجب على وليه حفظ ماله واستنماؤه قدر النفقة والزكاة ومؤن الملك بما أمكنه والقيام بمصالحه مع رعاية دقائق الغبطة وقضاء حقوق النصيحة . قال ابن عباس : يرفق بهم ويدنيهم ويمسح رأسهم . واليتم في غير الإنسان من قبل أمه ، واليتيم من الدر ما لا أخت له وإنما يجمع « يتيم » على « يتامى » لأن اليتم لما كان من صفات الابتلاء حمل على الوجع والحبط . فكما قالوا في وجع وحبط للمنتفخ البطن ، وجاعي وحباطي ، قيل في يتيم يتامى . وفي الكشاف : إنه أجرى يتيم مجرى الأسماء نحو « صاحب » و « فارس » فقيل « يتائم » ثم « يتامى » على القلب وكذا في اليتيمة .
التكليف الخامس : الإحسان إلى المساكين واحدها مسكين أخذ من السكون ، كأن الفقر سكنه ، أو لأنه الدائم السكون إلى الناس ، لأنه لا شيء له كالسكير الدائم السكر وهو أسوأ حالاً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة ومالك ، واحتجوا عليه بقوله تعالى { أو مسكيناً ذا متربة }

[ البلد : 16 ] وعند الشافعي وأحمد : الأمر بالعكس قالوا : اشتقاق الفقير من فقار الظهر ، كأن فقاره انكسرت لشدة حاجته ، والمسكين قد يملك ما يتعلل به كما في قوله تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف : 79 ] ويظهر أثر الخلاف فيما لو أوصى للفقراء دون المساكين أو بالعكس . والإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين ينبغي أن يكون مغايراً للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير .
التكليف السادس : { وقولوا للناس حسناً } بالوصف أي قولاً حسناً . وحسناً على المصدر أي قولاً ذا حسن ، أو قولاً هو الحسن في نفسه لإفراط حسنه ، أو ليحسن قولكم حسناً . والظاهر أن المخاطبين بذلك هم الذين أخذ ميثاقهم لاتحاد القصة . قيل : إنه مخصوص إما بتخصيص الناس أي قولوا للمؤمنين حسناً بدليل آية القتال { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] وإما بتخصيص القول أي قولوا للناس حسناً في الدعاء إلى الله والأمر بالمعروف . وقال أهل الحقيقة : إنه على العموم وذلك أن كلام الناس مع الناس في الأمور الدينية إن كان بالدعوة إلى الإيمان وجب أن يكون بالرفق واللين كما قال لموسى { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } [ آل عمران : 159 ] وإن كان بالدعوة إلى الطاعة كالفساق فحسن القول أيضاً معتبر { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] { ادفع بالتي هي أحسن } [ فصلت : 34 ] وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض باللطيف من القول لم يعدل إلى غيره ، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه ، وما دخل الخرق في شيء إلا شانه ، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخل تحت هذا القول . وعن الباقر : قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم .
التكليف السابع والثامن : قوله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقد تقدم تفسيرهما . ولا شك في وجوب هذه التكاليف عليهم بدليل : أخذ الميثاق ، ولأن ظاهر الأمر للوجوب ولترتب الذم عليه بتوليهم ، وهذه التكاليف أيضاً واجبة في شرعنا . وعن ابن عباس : أن الزكاة نسخت كل حق . وضعف بأن إغاثة المضطر واجبة وإن لم تجب علينا الزكاة . واعلم أن التكليف إما بدني أو مالي وكل منهما إما عام أو خاص . فالبدني العام هو العبادة المطلقة ، وهي أن يكون بكل الجوارح والقوى منقاداً مطيعاً مؤتمراً لأمر الله تعالى ، بحيث لا يرى لنفسه شيئاً من التصرف والاختيار كالعبد الماثل بين يدي مولاه وإليه الإشارة بقوله تعالى { لا تعبدون إلا الله } . والبدني الخاص هو الصلاة وأشار إليه بقوله { وأقيموا الصلاة } فللصلاة أوقات مخصوصة وأركان وشروط معدودة . والمالي الخاص هو الزكاة لتخصصها بالأصناف الزكوية وبالنصاب وبالحول وغير ذلك . والمالي العام لكونه منوطاً بالقدرة . والإمكان سببه إما نسب أولاً ، والنسب إما سابق أو مقارن أو لاحق . فالسابق الوالدان ، والمقارن الأقارب ، واللاحق اليتامى ، لأنهم أولاد .

وذلك إذا كان الولي جداً أو بمنزلة الأولاد ، وذلك إذا كان الولي غيره . وغير النسب إما الاحتياج والفقر وهو المساكين ، أو الاشتراك في النوع ، ولا يمكن إلا بالقول الحسن ، وما ينخرط في سلكه من مكارم الأخلاق الفعلية « إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم » فالقول الحسن يشمل الأصناف المتقدمة أيضاً بهذا الاعتبار ، وحين هذا الترتيب مما لا مزيد عليه ، وقد كرر أكثر هذه المعاني في سورة النساء بضرب من التأكيد ، فأكد العبادة بقوله { ولا تشركوا به شيئاً } [ النساء : 36 ] وأكد الإحسان إلى ذي القربى . وما يتلوه بتكرير الجار وهو الباء وبضم أصناف أخر وهم الجار وغيره إليهم فكأنه كالتفصيل لقوله { وقولوا للناس حسناً } .
قوله تعالى { ثم توليتم } قيل الخطاب لمتقدمي بني إسرائيل على طريقة الالتفات ، ووجهه أن أول الكلام معهم فكذا آخره إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر ، وقيل : إنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود ، كأنه تعالى بين أن تلك المواثيق كما لزمهم التمسك بها فكذلك هي لازمة لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته ، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم إلا قليلاً منكم وهم الذين آمنوا وأنتم معرضون . الواو للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الإعراض ، أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم . وقيل : ثم توليتم للمتقدمين وأنتم معرضون للمتأخرين . وأما قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم } فقيل : خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد أخذنا ميثاق آبائكم . وقيل : خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف . وفي قوله { لا تسفكون دماءكم } إشكال ، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه فأي فائدة في النهي؟ والجواب أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت من أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور ، وككثير ممن يصعب عليه الزمان ، أو المراد لا يفعل ذلك بعضكم ببعض جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلاً أو ديناً ، أو أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه ، أو لا تتعرضوا لمقاتلة من يغلبكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم . { ولا تخرجون أنفسكم } لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم . والمراد إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم لأن ذلك مما تعظم فيه الفتنة حتى يقرب من الهلاك . وإعراب { لا تسفكون } و { لا تخرجون } على قياس ما تقرر في { لا تعبدون } { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها كقولك « فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها » أو اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك ، لأنه كان شائعاً فيما بينهم مشهوراً ، وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق .

{ ثم أنتم } معنى « ثم » الاستبعاد لما أسند إليهم من القتل ، والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم . « وأنتم » مبتدأ و « هؤلاء » خبره أي أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين تنزيلاً لتغير الصفة منزلة تغير الذات كما تقول : خرجت بغير الوجه الذي دخلت به ، و « تقتلون » بيان « لأنتم هؤلاء » وقيل « هؤلاء » موصول بمعنى الذين وهذا عند الكوفيين فإنهم يجوزون كون جميع أسماء الإشارة بمعنى الموصول . والتظاهر التعاون ، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضاً مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة ، بيّن تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان ، وفيه دليل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة . ولا يشكل هذا بتمكين الله تعالى الظالم من الظلم فإنه كما مكنه فقد زجره عنه ونهاه بخلاف معين الظالم فإنه يدعوه إلى الظلم ويحسنه في عينه مع أنه تعالى لا يسأل عما يفعل . أسرى جمع أسير كجرحى في جريح ، وأسارى جمع أسرى كسكرى وسكارى . وقيل : أسارى من الجموع التي ترك مفردها كأنه جمع « إسران » كعجالى وعجلان . وقوله { تفادوهم } جمهور المفسرين على أنه وصف لهم بما هو طاعة وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم و { هو } ضمير الشأن و { إخراجهم } مبتدأ و { محرم } خبره والجملة خبر الضمير . ويجوز أن يكون { هو } مبتدأ مبهماً و { محرم } خبره و { إخراجهم } تفسيره ، { أفتؤمنون ببعض الكتاب } أي بالفداء { وتكفرون ببعض } أي بالقتال والإجلاء . وذلك أن قريظة كانوا حلفاء الأوس والنضير كانوا حلفاء الخزرج ، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب فقالت :
كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟
فيقولون : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحيي أن يذل حلفاؤنا فذمهم الله تعالى على المناقضة إذا أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض ، ولعلهم صرحوا باعتقاد عدم وجوبه فلهذا سماه كفراً ، وقد تكون المناقضة أدخل في الذم وفي ذلك تنبيه على أنهم في تصديقهم بنبوة موسى مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم والحجة في أمرهما على سواء ، يجرون مجرى طريقة السلف منهم في الإيمان ببعض والكفر ببعض وكل في الميثاق سواء . الخزي الذل والهوان خزي بالكسر يخزي خزياً أي ذل وهان ، وخزي أيضاً يخزى خزاية أي استحيا فهو خزيان . فإذا قيل : أخزاه الله . فالمراد أهانه أو أوقعه موقعاً يستحيي منه وتنكير « خزي » يدل على فظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغاً لا يكتنه كنهه ، والأظهر أنه غير مختص ببعض الوجوه .

وقيل : هو قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النضير ، وقيل : الجزية ، وعلى هذين القولين يختص الخزي بمن في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وبمن يخلفهم دون أسلافهم ، فإن قيل : عذاب منكري الصانع كالدهرية يجب أن يكون أشد ، فكيف يقال في حق اليهود يردون إلى أشد العذاب؟ قلنا : إما لأن كفر العناد أغلظ ، وإما لأن المراد أشد من الخزي لا الأشد مطلقاً . وفي قوله : { وما الله بغافل } وعيد شديد للعاصين وبشارة عظيمة للمطيعين ، لأن القدرة الكاملة مع عدم الغفلة تدل على وصول الحقوق إلى مستحقها لا محالة . { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } استبدلوها بها { فلا يخفف عنهم العذاب } لا ينقطع ولا يفتر بل يدوم على حالة واحدة { ولا هم ينصرون } بدفع هذا العذاب عنهم . وفيه تنبيه على أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا إذا كانت على وفق الهوى لا الشرع ، وبين لذات الآخرة ممتنع يستتبع وجود إحداهما عدم الأخرى والله ولي التوفيق .
التأويل : { وإذ أخذنا ميثاقكم } في عهد { ألست بربكم } { لا تسفكون دماءكم } بامتثال أوامر الشيطان واتباع خطواته كما قيل :
إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي
{ ولا تخرجون أنفسكم } من ديار عبوديتكم التي كنتم فيها في أصل الفطرة { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } لا تقتصرون على ضلالكم بل يعاون بعضكم بعضاً على الإعراض عن حقوق الله والإقبال على حظوظ النفس { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } فمن أسر في قيد الهوى فإنقاذه بالدلالة على الهدى ، ومن أسر في قيد حب الدنيا فخلاصه في كثرة ذكر المولى ، ومن أسر في أيدي الشكوك والشبهات ففداؤه إرشاده إلى اليقين بلوائح البراهين ولوامع البينات ، ومن أسر في حبس وجود فنجاته فيما يحل عنه وثاق الكون ويوصله إلى معبوده ، ومن أسر في قبضة الحق فليس لأسراهم فداء ولا لقتلاهم قود ولا لرهطهم خلاص ولا لقومهم مناص ولا منهم فرار ولا معهم قرار ولا إليهم بغيره سبيل ولا لديهم دليل { أفتؤمنون ببعض الكتاب } وهو ما سمعتم في أول الخطاب { ألست بربكم } فقلتم بلى { وتكفرون ببعض } وهو الذي عاهدتم عليه ألا تعبدوا غير الله من الشيطان والنفس والهوى الله حسبي .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

القراآت : { القدس } بسكون الدال حيث كان : ابن كثير . { بئسما } وبابه بغير همز : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف . { ينزل } خفيفاً : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الوقوف : { القدس } ( ط ) { استكبرتم } ( ج ) لتناهي الاستفهام مع تعقب فاء التعقيب بعده { كذبتم } ( ز ) لعطف المستقبل على الماضي مع تقدم المفعولين فيهما { تقتلون } ( 5 ) { غلف } ( ط ) ( ز ) لأن « بل » إعراض عن الأول وتحقيق للثاني { يؤمنون } ( 5 ) { لما معهم } ( ط ) « لأن » الواو للحال { كفروا } ( ج ) لأن « لما » متضمنة للشرط وجوابها منتظر والوصل أجوز لأن « لما » مكرر وجوابهما متحد ، وقوله : { وكانوا من قبل } حال معترض { كفروا به } ( ج ) لأن ما بعده مبتدأ لكن الفاء تقتضي تعجيل ذكر جوابهم { الكافرين } ( 5 ) { من عباده } ( ج ) لطول الكلام مع فاء التعقيب { على غضب } ( ط ) { مهين } ( 5 ) { لما معهم } ( ط ) { مؤمنين } ( ط ) .
التفسير : لما ذكر سبحانه في آلاي المتقدمة صنيع اليهود في مخالفتهم أمره تعالى ومناقضة حالهم ، أكد ذلك في هذه الآي بذكر نعم أفاضها عليهم ثم إنهم قابلوها بالكفران ونقيض المقصود زيادة في تبكيتهم . أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله تعالى إياه جملة واحدة . عن ابن عباس أنها لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك ، فبعث الله لكل آية منها ملكاً فلم يطيقوا حملها ، فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها ، فخففها الله على موسى عليه السلام فحملها . القفو والتقفية الإتباع وهو من القفا كالتذنيب من الذنب أي أتبعنا على أثره رسلاً كثيرين وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم . روي أن هؤلاء الرسل كانوا على شريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه جاء بشريعة مجددة ناسخة لأكثر شرع موسى ، وكان المقصود من بعثة ثؤلاء تنفيذ الشريعة السالفة وإحياء بعض ما اندرس منها ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » « إن الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها » فقيل عيسى بالسريانية أيشوع أي المبارك ، ومريم بمعنى الخادم . وقيل مريم بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وهو الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن ، سمي بذلك لكثرة زيارته لهن وبه فسر قول رؤبة :
قلت لزير لم تصله مريمه ... ووزن « مريم » عند أهل الصرف « مفعل » لأن فعيلاً بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو « عثير » للغبار « وعليب » اسم واد . البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك ، أيدناه قويناه من الأيد القوة ، وبروح القدس الروح المقدس كما يقال حاتم الجود ورجل صدق أي بجبريل سمي بذلك لأنه سبب حياة الدين كما أن الروح سبب حياة البدن ، ولأنه الغالب عليه الروحانية ، ولأنه لم تضمه أصلاب الفحول ولا أرحام الأمهات ، وقيل بالإنجيل كما قال

{ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] لأن العلم سبب حياة القلوب ، وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، عن ابن عباس وسعيد بن جبير . وقيل : الروح الذي نفخ فيه ، والقدس والقدوس هو الله ، وإضافة الروح إليه تشريف وتعظيم كما يقال « بيت الله » و « ناقة الله » . عن الربيع : وكون الروح ههنا جبريل أظهر لأن اختصاصه بعيسى أكثر لأنه الذي بشر مريم بولادتها وقد تولد عليه السلام من نفخة جبريل في أمه وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء .
قوله تعالى : { أفكلما } وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من قوله : { ولقد آتينا } لإفادة التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على مقدر معناه أأعرضتم فكلما { جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } الباء للتعدية أو بمعنى « مع » ، وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ترفعاً وترؤساً على عامتهم . وأخذ أموالهم بغير حق يوهمون عوامهم أنهم على الحق والنبي صلى الله عليه وسلم على الباطل ، ويحتجون على ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه السلام { ففريقاً كذبتم } على التمام وما بقي منه غير مكذب { وفريقاً تقتلون } أي ما تيسر لكم قتله بعد على التمام لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة . قال صلى الله عليه وسلم عند وفاته : « ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان قطعت أبهري » . والعداد اهتياج وجع اللديغ بعد كل سنة ، والأبهر عرق يخرج من القلب إذا انقطع مات صاحبه . ويجوز أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب كقوله :
فأضربها بلا دهش فخرت ... وفائدة تقديم المفعول به على الفعلين بعد رعاية الفاصلة في { يقتلون } بيان غاية عنادهم وفرط عتوهم حيث جعلوا الرسل فريقين : أحدهما مخصص بالتكذيب والآخر بالقتل ، كأن وصف الرسالة عندهم هو الذي اقتضى عندهم أحد هذين حتى خص المنعوت به دون سائر الناس بأحد الأمرين ، وهذا نهاية الجهالة حيث استقبلوا أشرف الأصناف لأكرم الأوصاف بغاية الاستخفاف . غلف جمع أغلف وهو كل ما فيه غلاف ومنه الأغلف للذي لم يختن ، أي قلوبنا مغشاة بأغطية فلا تتأثر من دعوتك لمكان الحائل بينهما .

وقيل : غلف تخفيف غلف بضمتين جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلم والحكمة فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره لا حاجة بنا إلى شرعك . { بل لعنهم الله } رد لقولهم وأن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة ، والتمكن من قبول الحق ولكنهم لعنوا أي طردوا عن رحمة الله وأبعدوا عن الخيرات بسبب كفرهم الذي أحدثوه بعد نصب الأدلة وإزاحة العلة . وفي هذا لطف للمكلفين أن لا يتسلقوا إلى المعاصي بإبلاء نحو هذا العذر وإبداء مثل هذه الحجة ، ولكن يشمرون عن ساق الاجتهاد « فكل ميسر لما خلق » له { فقليلاً ما يؤمنون } أي إيماناً قليلاً يؤمنون . و « ما » مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب أو بقليل مما كلفوا به . يؤمنون ، فانتصب بنزع الخافض . و « ما » صفة أي بشيء قليل من الأشياء المكلف بها . ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أي لا يؤمنون أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً كما يقال : قليلاً ما تفعل . أي لا تفعل ألبتة . وذلك أن الإيمان بالله إنما يعبأ به إذا كان مؤمناً بجميع ما أنزل الله ، فإذا فرق بين أوامره فهو عن الإيمان بمعزل . { ولما جاءهم } جوابه محذوف وهو نحو : كذبوا به واستهانوا بمجيئه . ويجوز أن يكون جوابه هو جواب « لما » الثانية المكررة للتأكيد لطول الكلام نحو قوله { فلا تحسبنهم بمفازة } [ آل عمران : 188 ] بعد قوله { لا تحسبن } [ آل عمران : 188 ] . واتفقوا على أن المراد بالكتاب هو القرآن ، ووجه تصديقه لما معهم ليس هو الموافقة في أصول الشرائع ، لأن جميع كتب الله كذلك ، بل المراد ما يختص بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلامات والنعوت والصفات . والتحقيق أن ذكر الكتاب ههنا كناية عن الرسول لأن الرسول يلزمه الكتاب عرفاً أو مجازاً لأن الكتاب مستلزم للرسول لا محالة يدل على ذلك قوله { يستخفون على الذين كفروا } [ البقرة : 89 ] وذلك أن اليهود قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن كانوا يسألون به الفتح والنصرة على المشركين إذا قاتلوهم يقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة . وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . وقيل : معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبياً يبعث منهم قد قرب أوانه . والسين للمبالغة أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم كالسين في « استعجب » و « استخسر » ، أو يسأل بعضهم بعضاً أن يفتح عليه ، { فلما جاءهم ما عرفوا من الحق } وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن تكون « ما » بمعنى « من » نحو : سبحان ما سخركن لنا أي فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم { كفروا به } ، إما لأنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة مجيء الرسل منهم فيرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب من ذرية إسماعيل عليه السلام عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب بغياً وحسداً وعناداً ولدداً ، وإما لأنهم ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة ، وإما لأن اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم ومكاسبهم فأبوا وأصروا على الإنكار .

فكفرهم إذاً كفر عناد ، { فلعنة الله } وهي الإبعاد عن الخيرات الحقيقية الباقية ) { على الكافرين } أي عليهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أن اللعنة إنما لحقتهم لكفرهم ، واللام للعهد أو للجنس ويدخلون فيه دخولاً أولياً . فإن قيل : أليس أنه تعالى ذكر { وقولوا للناس حسناً } [ البقرة : 83 ] قلنا : العام قد يخص ، وأيضاً لعن من يستحق اللعن حسن ، وأيضاً أولئك بالنسناس أشبه منهم بالناس { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] « بئس » لإنشاء الذم ، وفاعله قد يكون مظهراً نحو « بئس الرجل زيد » ، وقد يكون مضمراً يعود إلى معهود ذهني فيفسر حينئذ بنكرة منصوبة وبعدهما المخصوص بالذم ف « ما » نكرة منصوبة مفسرة : لفاعل « بئس » أي بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم ، والمخصوص بالذم { أن يكفروا } واختلف في إعراب المخصوص فقيل : مبتدأ والجملة قبله خبره . وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو أن يكفروا . واشتروا بمعنى باعوا لأن الكفر حاصل تعلق نفوسهم بأبدانهم كما أ ، الثمن حاصل ملك المالك . وقيل : إن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى فأتى بأعمال يظن بها أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال ، وهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ويوصلهم إلى الثواب ، فقد ظنوا أنهم قد اشتروا أنفسهم بها ، والمراد بما أنزل الله القرآن لأنهم كانوا مؤمنين بغيره . ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر فقال { بغياً } أي حسداً وطلباً لما ليس لهم ، ولولا هذا البيان لجاز أن يكون الباعث لهم على ذلك الكفر هو الجهل لا البغي ولما كان الباعث على البغي قد يكون وجوهاً شتى بين أن الحامل لهم على البغي هو { أن ينزل الله من فضله } الذي هو الوحي { على من يشاء } وتقتضي حكمته إرساله وهذا هو اللائق بما حكينا من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم يحصل في قومهم ، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد ، وعلى هذا يكون الجار المحذوف هو لام الغرض أي لأجل أن ينزل ، ويحتمل أني قال المحذوف على أي حسدوه على أن ينزل .
{ فباءوا بغضب على غضب } لا بد من إثبات سببي غضبين : أحدهما تكذيبهم عيسى وما أنزل عليه ، والثاني تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ، فصار ذلك سبباً بعد سبب لسخط بعد سخط وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة .

وقيل : الأول لعبادتهم العجل ، والثاني لكتمانهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم نبوته عن السدي . وقيل : ليس المراد إثبات الغضبين فقط ، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور متوالية صدرت عنهم كقولهم { عُزير ابن الله } [ التوبة : 30 ] { يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ] { إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران : 181 ] عن عطاء وعبيد بن عمير . وقيل : المراد تأكيد الغضب وتكثير له لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحداً إلا أنه عظيم ، وهو قول أبي مسلم . ومعنى الغضب في حقه تعالى قد عرفت مراراً أنه عبارة عن لازمه وهو إرادة الانتقام ، وأما تزايده وتكثره فيصح فيه ذلك كصحته في العذاب ، فلا يكون غضبه على من كفر بخصال كثيرة كمن كفر بخصلة واحدة { وللكافرين عذاب مهين } من وضع الظاهر مقام المضمر أي ولهم عذاب ، وفائدته ما ذكرنا في قوله { فلعنة الله على الكافرين } ووصف العذاب بالمهين والمهين هو المعذب لأن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه لأنها بسبب منه ، ولا يلزم من اقتران العذاب بالإهانة تكرار فقد يكون العذاب ولا إهانة كالوالد يؤدب ولده { آمنوا بما أنزل الله } بكل ما أنزل الله من كتاب وقد يستدل به على عموم « ما » { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } أي بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين آتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام { ويكفرون بما وراءه } أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وهو الإنجيل والقرآن { وهو الحق } الضمير يعود إلى « ما وراءه » أو إلى القرآن فقط . و { مصدقاً } حال مؤكدة لوجود شرطها وهو كونها مقررة لمضمون جملة اسمية ، أو كون مضمونها لازماً لمضمون الجملة الاسمية ، فإن التصديق لازم حقية القرآن فصار كأنه هو والعامل في { مصدقاً } محذوف وهو يبدو أو يثبت على الأصح . وأما الواو في { وهو الحق } فيجوز أن تكون معترضة فلا محل للجملة ، ويجوز أن تكون للحال وحينئذ إما أن يكون العامل فيها هو العامل في قوله { ويكفرون } على أن كلاً منهما حال بحيالها ، وإما أن يكون العامل فيها هو يكفرون على أنهما حالان متداخلتان . وفي قوله { وهو الحق مصدقاً لما معهم } دلالة على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لما أثبت نبوته بالمعجزات ثم إنه أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله وأنه صلى الله عليه وسلم أمر المكلفين بالإيمان ، كان الإيمان به واجباً لا محالة ، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعضهم وبعضها محال .

وأيضاً أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعلم علماً ولم يقرأ ولم يخط ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بالقصص والأخبار مطابقة لما في التوراة ، فيعلم بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم استفادها من قبل الوحي وأيضاً القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق التوراة وجب اشتمال التوراة على الأخبار عن نبوته . فمدعي الإيمان بالتوراة يجب أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وإلا كان كاذباً . ثم إنه تعالى بين من وجه آخر كذب دعواهم ، وهو أن التوراة لا تسوغ قتل الأنبياء وأنهم سوغوا ذلك ، وفيه دليل على أن إيراد المناقضة على الخصم الألد جائز . والكلام وإن كان على وجه الخطاب إلا أن المراد بذلك أسلافهم بدليل { من قبل } وتقتلون حكاية حال ماضية . وأصل « لم » لما بإدخال لام التعليل في « ما » الاستفهامية ، حذفت الألف للتخفيف أي لأي غرض وبأي حجة كان أسلافكم يقتلون الأنبياء . وفي قوله { إن كنتم مؤمنين } تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم الإيمان ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما تقدمه . وفيه تنبيه على أن اليهود المعاصرين خرجوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالتوراة كما أن أسلافهم خرجوا بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بها والله تعالى أعلم .
التأويل : هذا حال أكثر البطالين المتشبهين بالطالبين يصغون إلى كلمات العلماء الراسخين ، فما استحلته نفوسهم قبلوه ، وما استغربته نبذوه وأنكروه ، فيكذبون فريقاً منهم فراراً عن تحمل أعباء الطلب ويثيرون الفتنة على فريق بالحسد والإنكار والفتنة أشد من القتل { وقالوا قلوبنا غلف } فيه إشارة إلى أن الطالب إذا ابتلى في أثناء الطلب بالرهقة أو الفترة لم يضره ذلك ما دام متمسكاً بالإرادة ، فيرجى رجوعه بإذن الله وبمدد همة الأستاذ والشيخ ، فأما إذا زلت قدمه عن جادة الإرادة وأظهر الإنكار والاعتراض فلن يرجى فلاحه . { ولما جاءهم كتاب } فيه إشارة إلى أن أهل كل زمان يتمنون أن يدركوا أحداً من العلماء والأولياء المحظوظين بالعلوم الكسبية واللدنية ويتوسلون بهم إلى الله تعالى عند رفع حوائجهم في صالح دعائهم ويظهرون محبتهم عند الخلق { فلما وجدوا } واحداً منهم { ما عرفوا } قدره وحسدوه وأظهروا عداوته وما أنصفوه { فباءوا بغضب } من رد ولاية الأولياء { على غضب } من الله لأوليائه كما جاء في الحديث « من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة » و « إنما أنا أغضب لأوليائي كما يغضب الليث لجروه » والله أعلم بالصواب .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

القراآت : { ولقد جاءكم } مدغمة الدال في الجيم كل القرآن : أبو عمرو وحمزة وعلي خلف وهشام { جاءكم } وبابه بالإمالة : حمزة وخلف وابن ذكوان { قلوبهم العجل } بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضم الهاء والميم ، الباقون بكسر الهاء وضم الميم وكذلك كل ما لقي الميم حرف ساكن وقبل الهاء كسرة { بما تعملون } بتاء الخطاب : يعقوب .
والوقوف : { ظالمون } ( 5 ) { الطور } ( ط ) لتقدير القول { واسمعوا } ( ط ) { بكفرهم } ( ط ) { مؤمنين } ( 5 ) { صادقين } ( 5 ) { أيديهم } ( ط ) { بالظالمين } ( 5 ) { على حياة } ( ج ) على تقدير : ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، ومن وقف على { أشركوا } فتقديره أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا و { يود } مستأنف للبيان وإنما لم يدخل من في الناس وأدخل في الذين أشركوا لأن اليهود من الناس وليسوا من المشركين كقولك « الياقوت أفضل الحجارة وأفضل من الديباج » { سنة } ( ط ) لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً { أن يعمر } ( ط ) { يعملون } ( 5 ) .
التفسير : السبب في تكرير قصة اتخاذ العجل ههنا القدح بوجه آخر في قولهم { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] وبيان وصفهم بالعناد والتكذيب تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له ، فإن قوم موسى عليه السلام بعد ظهور المعجزات الواضحات على يده اتخذوا العجل إلهاً ومع ذلك صبر وثبت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه . وكرر ذكر رفع الطور للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قولهم { سمعنا وعصينا } الدال على نهاية لجاجهم وذلك أنه قال لهم : اسمعوا سماع تقبل وطاعة . فقالوا : سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، وظاهر الآية يدل على أنهم قالوا هذا القول أعني سمعنا وعصينا وعليه الأكثرون . وعن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المعنى سمعوه وتلقوه بالعصيان ، فعبر عن ذلك بالقول مثل { قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] { وأشربوا في قلوبهم العجل } أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ . وقوله تعالى { في قلوبهم } بيان لمكان الإشراب كقوله { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] وفي هذه الاستعارة لطيفة وهي أنه كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة للقبائح الصادرة عنهم . وفي قوله { واشربوا } دلالة على أن فاعلاً غيرهم فعل ذلك بهم كالسامري وإبليس وشياطين الجن والإنس ، وذلك بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه على الله تعالى ولا ريب أن جميع الأسباب تنتهي إلى الله تعالى وقد عرفت التحقيق في أمثال ذلك مراراً . { بئسما يأمركم } المخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل ، فليس في التوراة عبادة العجاجيل . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب { أصلاتك تأمرك } [ هود : 87 ] وكذلك إضافة الإيمان إليهم .

واعلم أن الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي ، لكن الداعي إلى الفعل والسبب فيه قد يشبه بالأمر كقوله { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } الدار اسم « كان » وفي الخبر ثلاثة أوجه : الأول : { خالصة } و { عند } ظرف لخالصة أو للاستقرار الذي في { لكم } ويجوز أن يكون { عند } حالاً من الدار والعامل فيها « كان » أو الاستقرار . وأما { لكم } فيكون على هذا متعلقاً ب « كان » لأنها تعمل في حروف الجر ، ويجوز أن يكون للتبيين فيكون موضعها بعد { خالصة } أي خالصة لكم فيتعلق بنفس خالصة ، ويجوز أن يكون صفة لخالصة قدمت عليها فيتعلق حينئذ بمحذوف . الثاني : أن يكون خبر كان { لكم } و { عند الله } ظرف و { خالصة } حال والعامل « كان » أو الاستقرار . الثالث : أن يكون { عند الله } هو الخبر و { خالصة } حال والعامل فيها إما عند ، و ما يتعلق به أو « كان » أو « لكم » وسوغ أن يكون { عند } خبر { كانت لكم } إذ كان فيه تخصيص وتبيين نحو { ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] وقوله { من دون الناس } نصب ب { خالصة } لأنك تقول : خلص كذا من كذا . والمراد بالدار الآخرة الجنة لأنها هي المطلوبة من الدار الآخرة دون النار . والمراد بقوله { عند الله } الرتبة والمنزلة ، وحمله على عندية المكان ممكن ههنا إذ لعلهم كانوا مشبهة . ومعنى خالصة لكم أي سالمة خاصة بكم لا حق لأحد فيها سواكم . « ودون » ههنا يفيد التجاوز والتخطي في المكان كما تقول لمن وهبته منك ملكاً : هذا لك من دون الناس . أي لا يتجاوز منك إلى غيرك . والناس للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] ولأنه لم يوجد ههنا معهود . فإن قلت : من أين ثبت أنهم ادعوا ذلك؟ قلنا : لأنه لا يجوز أن يقال في معرض الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح إلزامه بالثاني ، ولقوه تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] ولما اعتقدوا في أنفسهم أنهم هم المحقون ، لأن النسخ غير جائز عندهم ، ولزعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ويوصلونهم إلى ثواب الله فلهذه الأسباب عظموا شأن أنفسهم وكانوا يفتخرون على العرب ، وربما جعلوه كالحجة في أن النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب ، وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فبين الله تعالى فساد معتقدهم بالآية . وبيان الملازمة أن متاع الدنيا قليل في جنب نعم الآخرة ، وذلك القليل كان أيضاً منغصاً عليهم بعد ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ومنازعته معهم بالجدال والقتال .

فالموت خير لهم لا محالة لأنه يوصل إلى الخيرات الكثيرة الدائمة الصافية عن النغص ، ولا يفوت إلا القليل النكد . والوسيلة وإن كانت مكروهة نظراً إلى ذاتها لكنه لا يتركها العاقل نظراً إلى غايتها كالفصد ونحوه . والنهي عن تمني الموت في قوله صلى الله عليه وسلم « لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان ولا بد فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً إليّ وأمتني ما كانت الوفاة خيراً لي » محمول على تمن سببه عدم الصبر على الضر ونكد العيش كما قال قائل :
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن روح عبد ... تصدق بالوفاة على أخيه
فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقضاء ويدل على الجزع وضيق العطن وينافي قضية التوكل والتسليم ، أو على تمن سببه الجزم بالوصول إلى نعيم الآخرة فإن ذلك خارج عن قانون الأدب ، ونوع من الأخبار بالغيب لا يليق إلا ببعض أولياء الله . روي أن علياً عليه السلام كان يطوف بين الصفين في غلالة وهي شعار يلبس تحت الثوب وتحت الدرع أيضاً . فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزي المحاربين . فقال : يا بني ، لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت . وعن حذيفة أنه رضي الله عنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال رضي الله عنه : حبيب جاء على فاقة لا يفلح من ندم . يعني على التمني . وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة ، محمداً وحزبه . وكان كل واحد من العشرة المبشرة بالجنة يحب الموت ويحن إليه لجزمهم بلقاء الله و نيل ثوابه وذلك لمكان البشارة ، فأما أحدنا فلا يليق به تمني الموت إلا على سبيل الرجاء وحسن الظن بالله « أنا عند ظن عبدي بي » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على الأرض يهودي » وليس لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلى الله عليه وسلم فيقولوا : إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك وأمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم ، وبعد الموت تتخلصون إلى دار الكرامة والنعيم ، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لتبليغ الشرائع وتنفيذ الأحكام ولا يتم المقصود إلا بحياته وحياة أمته ، فله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأجل هذا لا أرضى بالقتل مع أن المؤمن من هذه الأمة قلما يخلو من النزاع والشوق إلى لقاء ربه ، فالعبد المطيع يحب الرجوع إلى سيده ، والعبد الآبق يكره العود إلى مولاه ، ولهذا جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وبذلوا أرواحهم دون الدين والذب عن الملة الحنيفية

{ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر } [ الأحزاب : 23 ] عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه . وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه » ثم إنه تعالى بين انتفاء اللازم بقوله { ولن يتمنوه أبداً } وبرهن عليه بقوله { بما قدمت أيديهم } أي بما أسلفوا من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وكتحريف كتاب الله وسائر قبائح أفعالهم . وذكر الأيدي مجاز لأن أكثر الأعمال يتم بمباشرة اليد . وقوله { ولن يتمنوه أبداً } من المعجزات لأنه إخبار بالغيب ، وكان كما أخبر به كقوله { ولن تفعلوا } [ البقرة : 24 ] وذلك أن التمني ليس من أعمال القلب حتى لا يطلع عليه أحد ، وإنما هو قول الإنسان بلسانه تمنيت أو ليت لي كذا ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب . فلو إنهم تمنوا لنقل ذلك كما ينقل سائر الحوادث العظام ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن أكثر من الذرّ . وأيضاً لو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك . وأيضاً لولا أنه تعالى أوحى إليه أنهم لم يتمنوا لم يكن في العقل رخصة الإقدام على مثل هذا الإلزام ، لأنه في غاية السهولة ، وإذا ثبت انتفاء اللازم ثبت انتفاء الملزوم بالضرورة وهو أن لا تكون الدال الآخرة لهم خالصة ، وأما أنها ليست لهم بالاشتراك أيضاً ، فيستفاد من الآية التالية . وفي قوله { والله عليم بالظالمين } إشارة أيضاً إلى ذلك لأنه إذا كان محيطاً بسرهم وعلانيتهم وقد قدموا من القبائح ما قدموا فيجازيهم بما يحقون له . وفي وضع الظاهر وهو بالظالمين مقام المضمر وهو بهم إشارة أخرى إلى سوء منقلبهم { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 227 ] واللام إما للعهد وإما للجنس ، فيشملهم أولاً وغيرهم من الظلمة ثانياً . فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا { ولن يتمنوه } وفي سورة الجمعة { ولا يتمنونه } [ الجمعة : 7 ] ؟ قلنا : لأن الدعوى هنا كون الدار الآخرة خالصة لهم ، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس ، والأول مطلوب بالذات ، والثاني وسيلة إليه ، فناسب أن ينفي الأول بما هو أبلغ في إفادة النفي وهو « لن » ، أو لأن الدعوى الثانية أخص فإنه لا يلزم أن يكون كل من له الدار الآخرة ولياً بمعنى أنه يلي النبي في الكمال والإكمال ، ونفي العام أبعد من نفي الخاص كما أن إثبات الخاص في قولك « فلان ابن فلان موجود » أبعد من إثبات العام في قولك « الإنسان موجود » .

فحيث كانت الدعوى الأولى أبعد احتيج إلى أداة هي في باب النفي أبلغ . ثم إنه سبحانه لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت ، أخبر بعد ذلك أنهم في غاية الحرص على الحياة ، لأن ههنا قسماً ثالثاً وهو أن لا يتمنى الحياة ولا الموت فقال { ولتجدنهم أحرص الناس } مؤكداً باللام والنون والقسم المقدر وهو من وجد بمعنى علم . وقوله { على حياة } بالتنكير لأنه أراد نوعاً من الحياة مخصوصاً وهي الحياة المتطاولة أو حياة وأيّ حياة . وفي جعلهم أحرص من الذين أشركوا توبيخ عظيم ، لأن المشركين لا يؤمنون بمعاد وعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فهي جنتهم ، فلا يستبعد حرصهم عليها . فإذا ازداد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان خليقاً بالتوبيخ . وسبب زيادة حرصهم هو علمهم بأنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون غافلون عن ذلك . وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان . وعن ابن عباس : هو قول الأعاجم « زي هزار سال » ، ويحسن أن يقال { ومن الذين أشركوا } كلام مبتدأ أي ومنهم ناس يودّ على حذف الموصوف كقوله { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] أي وما منا ملك لقوة الدلالة عليه بذكر ما اشتمل عليه قبله ، فكأنه مذكور ، وعلى هذا يلزم توبيخ اليهود من جهة أخرى وهي انضمامهم في زمرة المشركين وكونهم بعضاً منهم وذلك كقولهم { عزير ابن الله } [ التوبة : 30 ] . وقال أبو مسلم : في الآية تقديم وتأخير أي ولتجدنهم طائفة من الذين أشركوا وأحرص الناس على حياة ، ثم فسر بقوله { يود أحدهم } أي كل واحد يغرض لو يعمر . و « لو » في معنى التمني و { لو يعمر } حكاية لودادتهم ، وكان يجوز « لو أعمر » على الحكاية إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله { يود أحدهم } مثل « حلف بالله ليفعلن » وتخصيص الألف بالذكر بناء على العرف ولأنه أول عقد يستحيل وقوعه في أعمار بني آدم أو يندر . والضمير في قوله { وما هو } يعود إلى أحدهم و { أن يعمر } فاعل { بمزحزحه } أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره . ويجوز أن يكون الضمير لما دل عليه { يعمر } من مصدره و { أن يعمر } بدل منه كأنه قيل : وما التعمير بمزحزحه من العذاب أن يعمر . ويجوز أن يكون { هو } مبهماً و { أن يعمر } موضحه . والزحزحة المباعدة والتنحية . { والله بصير بما يعملون } فيه تهديد لأهل البغي والعناد ، وزجر للعصاة عن الفساد . والبصر قد يراد به العلم يقال فلان بصير بهذا الأمر أي عارف به ، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها ، وكلا الوصفين يصح عليه سبحانه ما لم يثبت له جارحة . فإن قلنا : إن من الأعمال ما لا يصح أن يرى ، تعين حمل البصر فيه على العلم والله أعلم بالصواب . وإليه المرجع والمآب .
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

القراآت : { جبريل } مفتوحة الجيم مكسورة الراء غير مهموز : ابن كثير . وقرأ حمزه وعلي وخلف وعاصم غير حفص ويحيى مفتوحة الراء والجيم مهموزة مشبعاً . وقرأ يحيى مختلساً . الباقون : مكسورة الراء والجيم غير مهموز . { ميكال } أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص ، وقرأ أبو جعفر ونافع مختلساً مهموزاً . الباقون : ميكائيل مهموزاً مشبعاً .
الوقوف : { للمؤمنين } ( 5 ) { للكافرين } ( 5 ) { بينات } ( ج ) لأن هذه الواو للابتداء أو الحال والحال أوجه لاتحاد القصة { الفاسقون } ( 5 ) { فريق منهم } ( ط ) لأن « بل » للإعراض عن الأول { لا يؤمنون } ( 5 ) { أوتوا الكتاب } ( ط ) قد قيل يوقف لبيان أن كتاب الله مفعول « نبذ » لا بدل مما قبله { لا يعلمون } ( 5 ) قد يجوز للآية ، والوصل للعطف على { نبذ } لإتمام سوء اختيارهم في النبذ والاتباع .
التفسير : هذا نوع آخر من قبائح أفعال اليهود ، والسبب في نزوله أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا من أحبار فدك فقال : يا محمد ، كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجيء في آخر الزمان ، فقال صلى الله عليه وسلم تنام عيناي ولا ينام قلبي . قال : صدقت يا محمد ، فأخبرنا عن الولد من الرجل يكون أو من المرأة؟ فقال : أما العظام والعصب والغضروف فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة . فقال صدقت . قال : فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله ، أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال : أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له . قال : صدقت . قال : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب على نفسه وهو لحمان الإبل وألبانها » فقالوا : اللهم نعم . فقال له : بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك . أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله؟ قال : جبريل قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، ورسولنا ميكائيل يأتي باليسر والرخاء . فإن كان هو يأتيك آمنا بك . فقال عمر : ما مبدأ هذا العداوة؟ فقال ابن صوريا : إن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس يخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ، ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله على قتله . فهذا ليس هو ذاك وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه . ثم إنه كبر وقوي وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدواً . وأما ميكائيل فإنه عدو لجبريل .

فقال عمر : فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكاكئيل ، وهما عدوان لمن عاداهما ، فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين . وقيل : كان لعمر أرض بالمدينة أعلاها ، وكان ممره على مدراس اليهود ، وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم . فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك . فقال : والله لا أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني ، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم . ثم سألوه فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال عمر : جبريل . فقالوا : ذاك عدوّنا يطلع محمداً على أسرارنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام . فقال لهم : وما منزلتهما من الله؟ قالوا : أقرب منزلة جبريل وهو عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وميكائيل عدوّ لجبريل . فقال عمر : إن كان كما تقولون فما هما بعدوّين ، ولأنتم أكفر من الحمير . ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر ، ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله . ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لقد وافقك ربك يا عمر » . قال : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر . وعن مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل عدونا أمر بأن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا . والأقرب في سبب عداوتهم إياه أنه كان ينزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كما يشعر بذلك قوله { فإنه نزله } أي إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم وموافقاً له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك كانوا يحرّفونه ويجحدون موافقته له كقولك « إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه » أو إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في النزول بما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم . ويمكن أن يتوجه الجزاء إلى قوله { بإذن الله } إلى آخره . أي إن عاداه أحد فلا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وباختياره وإنما جاء به بإذن الله وأمره الذي لا محيص عنه ولا سبيل إلى مخالفته وجاء به مصدقاً هادياً مبشراً ، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً ، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يلزم أن يكون مشكوراً . فعداوة من هذا سبيله عداوة الله ، ولو أنه تعالى أمر ميكائيل بذلك لانقاد لأمره أيضاً لا محالة ولتوجه الإشكال عليه ، فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟ وجبريل ممتنع من الصرف للعلمية والعجمة بشرطها . وعن ابن عباس وغيره أن معناه عبد الله ، والضمير في نزله للقرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم مثل قوله تعالى

{ ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] وهذا النوع من الإضمار فيه فخامة لشأن صاحبه حيث جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه . وأكثر الأمة على أن القرآن إنما نزل على محمد لا على قلبه ، لكن خص القلب بالذكر لأن السبب في تمكنه صلى الله عليه وسلم من الأداء ثباته في قلبه ، فمعنى على قلبك حفظه إياك وفهمه . وقيل : أي جعل قلبك متصفاً بأخلاق القرآن ومتأدباً بآدابه كما في حديث عائشة « كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن » وكان حق الكلام أن يقال على قلبي إلا أنه جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي { من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك } ومعنى { مصدقاً لما بين يديه } موافقاً لما قبله من كتب الأنبياء فيما يرجع إلى المبادئ والغايات دون الأوساط التي يتطرق إليها الاختلاف بتبدل الأزمان والأوقات . ومعنى قوله { وهدى وبشرى } أن القرآن يشتمل على أمرين . أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأفعال الجوارح فهو من هذا الوجه هدى ، وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه فهو من هذا الوجه بشرى ، والأول مقدم على الثاني في الوجود فقدم في الذكر أيضاً . ولا ريب أن البشرى تختص بالمؤمنين ، وأما الهدى فلأنهم هم المنتفعون به كما مر في { هدى للمتقين } . ولما بين في الآية المتقدمة أن من كان عدواً لجبريل لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون عدواً لله تعالى ، بين في الآية التالية أن من كان عدواً لله وللمخصوصين بكرامته فإن الله يعاديهم وينتقم منهم . والعداوة بالحقيقة لا تصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به ، وهذا التصور يستحيل في حقه تعالى من العاقل المتفطن لا الغافل المتغابي . فمعنى قوله { من كان عدواً لله } أي لأولياء الله كقوله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [ الأحزاب : 57 ] . أو يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وبعدهم عن التمسك بدينه ، لأن العدو لا يكاد يوافق عدوه وينقاد لأمره . قال أهل التحقيق : عداوتهم لله وملائكته نتيجة عداوة الله لهم ونظره إليهم في الأزل بالقهر « هؤلاء في النار ولا أبالي » كما أن محبة المؤمنين لله نتيجة محبة الله إياهم { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] وذلك أن صفات الله تعالى قديمة وصفات الخلق محدثة ، والأولى علة الثانية . وأفرد الملكان بالذكر دلالة على فضلها كأنهما من جنس آخر ، فإن التغاير في الوصف قد ينزل منزلة التغاير في الذات ، ولأن الآية نزلت فيما يتعلق بهما فحسن أن ينص على اسميهما . وتقديم جبريل في الذكر يدل على أنه أفضل من ميكائيل وأيضاً أن جبريل ينزل بالوحي والعلم وذلك سبب بقاء الأرواح ، وميكائيل ينزل بالخصب والرزق وهو سبب بقاء الأبدان .

والواو في جبريل وميكائيل بمعنى « أو » لأن عداوة أحد هؤلاء توجب عداوة الله كما أن عداوة كلهم توجب ذلك ، ويحتمل أن يكون الواو على الأصل ويعرف ما ذكرنا من القرينة . وقوله { للكافرين } من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن عداوة هؤلاء كفر . الآيات البينات هي آيات القرآن ، ولا يبعد أن تشمل سائر معجزاته وإن كان لفظ الإنزال نابياً عنه بضع النبوّ . ومعنى كون الآية بينة أن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله ، والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصل إليه أصعب ، وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة . والكفر بها إما جحودها مع العلم بصحتها ، وإما جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها ، وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه ، والفسق هو خروج الإنسان عما حد له إلى الفساد ويقرب منه الفجور ، لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد . عن الحسن : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره . ولهذا لا يوصف صاحب الصغيرة بالفسق وإن تجاوز عن أمر الله تعالى كمن فتح من النهر نقباً صغيراً لا يقال : إنه فجر النهر . وفي قوله { إلا الفاسقون } وجهان : أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس ، وكان ذكر الفاسق أولى ليأتي على الكافر وغيره . الثاني أن المراد وما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره . وهذه الآيات لما كانت بينة لم يكفر بها إلا الكافر الذي بلغ في الكفر النهاية القصوى ، وهذا نوع آخر من فضائح اليهود . عن ابن عباس أنهم كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم من العرب كفروا به وجحدوا بما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته . فقال بعضهم : ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فنزلت . واللام في { الفاسقون } للجنس أو إشارة إلى أهل الكتاب . { أو كلما } الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات؟ وكلما عاهدوا واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة . وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس من مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك .

والنبذ الرمي بالذمام ورفضه ، وإنما قيل { فريق منهم } لأن منهم من لم ينقض بل أكثرهم لا يؤمنون بالتوراة وليسوا من الدين في شيء ، فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً . { ولما جاءهم رسول } أي كتاب لتلازمهما بدليل كتاب الله وهو القرآن ، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، يعني أن علمهم بذلك رصين من قبل التوراة ولكن المكابرة هجيراهم ، ونبذه وراء ظهورهم مثل لإعراضهم عنه وتركهم العمل به . وقيل : كتاب الله التوراة لأنهم لكفرهم برسول الله كافرون بها . وعن سفيان : أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه . اللهم ارزقنا العلم بكتابك والعمل به .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

القراآت : { ولكن } خفيفاً { الشياطين } بالرفع : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وكذلك قوله { ولكن الله قتلهم } { ولكن الله رمى } { الملكين } بكسر اللام ههنا وفي سورة الأعراف : قتيبة . على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل .
الوقوف : { علىملك سليمان } ( ج ) لأن الواو قد تصلح حالاً لبيان نزاهة سليمان وردّ ما افتروا عليه { السحر } ( ط ) قيل : على جعل « ما » نافية ولا يتضح لمناقضته ما في سياق الآية من إثبات السحر بل « ما » خبرية معطوفة على قوله { السحر } على أنها وإن كانت نافية يحتمل كون الواو حالاً على تقدير : يعلمون الناس السحر غير منزل فلا يفصل . وفي الآية عشر « ماآت » إحداها كافة في { إنما } والأخيرة نكرة منصوبة في { لبئسما } والباقية خبرية ثم نافية ثم خبرية على التعاقب { وماروت } ( ط ) { فلا تكفر } ( ط ) { وزوجه } ( ط ) { بإذن الله } ( ط ) { ولا ينفعهم } ( ط ) { من خلاق } ( ط ) يجوز الوقف لابتداء اللام { أنفسهم } ( ط ) { يعلمون } ( 5 ) { خير } ( ط ) { يعلمون } ( 5 ) .
التفسير : من قبائح أفعالهم أنهم نبذوا كتاب الله وأقبلوا على السحر ودعوا الناس إليه ، وهذا شأن اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : إنهم الذين تقدموا من اليهود . وقيل : إنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان ويعدّونه من جملة ملوك الدنيا ، فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر . والأولى أن يقال : اللفظ يتناول الكل . قال السدي : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت . ومعنى « تتلو » تقرأ ، أو { على ملك سليمان } أي على عهده وفي زمانه . وقيل : تلا عليه أي كذب . فالقوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان . وأما الشياطين فالأكثرون على أنهم شياطين الجن ، وأنهم كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة ، وقد دوّنوها ويقرأونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمان سليمان حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون : هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم . وقيل : إنهم شياطين الإنس لما روي في الخبر أن سليمان كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون ، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ، ثم من بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إلا بهذه الأشياء .

وزيفوا قول الأكثرين بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف مخيفاً فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع ، وهذا بخلاف ما يفعله الإنسان فإنه لا يكاد يخفى على بني نوعه . واختلف في سبب إضافتهم السحر إلى سليمان فقيل : ليروج ذلك منهم . وقيل : لأنهم ما كانوا مقرين بنبوته . وقيل : لأنه لما خالط الجن وأظهر أسراراً عجيبة غلب على ظنونهم أنه استفاد ذلك من الجن . وقوله { وما كفر سليمان } تنزيه له عما نسب القوم إليه من السحر المستلزم للكفر ، فإن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً . ثم بين أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال { ولكن الشياطين كفروا } ثم ذكر ما به كفروا فقد كان من الجائز أن يتوهم أنهم كفروا لا بالسحر فقال { يعلمون الناس السحر وما أنزل } أي ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين . وهاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما ممتنعان من الصرف للعلمية والعجمة ، وليسا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم ، لأنهما لو كانا منهما لانصرفا . وقيل : بدلان منهما .
ولنذكر ههنا حقيقة السحر وقصة هاروت وماروت . أما السحر ففي اللغة عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ومنه الساحر للعالم . وسحره خدعه ، والسحر الرئة ، وفي الشرع : مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل من غير حقيقة ويجري مجرى التمويه والخداع . ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى { سحروا أعين الناس } [ الأعراف : 116 ] يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى . وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد وهو السحر الحلال قال صلى الله عليه وسلم « إن من البيان لسحراً » سمى صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحراً لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ولطف عبارته ، ويقدر على تحسين القبيح وتقبيح الحسن ، يسخط تارة فيقول أسوأ ما يمكن ، ويرضى تارة فيقول أحسن ما يعلم . ثم السحر على أقسام : منها سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهو قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة ، ويستحدثون الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم وراداً عليهم مذاهبهم . ومنها سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية بدليل أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعاً على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر ، وما ذاك إلا لأن تخيل السقوط متى قوي أوجبه .

وقد اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران ، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام . وحكي في الشفاء عن أرسطو أن الدجاجة إذا تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة في الصوت تنبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك . وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية . واجتمعت الأمم على أن الدعاء مظنة الإجابة ، وأن الدعاء باللسان من غير طلب نفساني قليل الأثر . ويحكى أن بعض الملوك عرض له فالج ، فدخل عليه بعض الحذاق من الأطباء على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض ، فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية وزالت تلك العلة المزمنة . والإصابة بالعين مما اتفق عليه العقلاء ، والتحقيق فيه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات ، كانت كأنها روح من الأرواح السماوية ، وكانت قوية التأثير في مواد هذا العالم . أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف ألبتة إلا في هذا البدن . فإذا أراد أن يتعدى تأثيرها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس فاشتغل الحس به وتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة بالكلية على ذلك ، فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ، ويعضده الانقطاع عن المألوف والمشتهيات وتقليل الغذاء والاعتزال عن الناس ، ثم إن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر بحسب ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير . وأما الرقى فإن كانت بألفاظ معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حسن البصر كما اشتغل بالأمور المناسبة للغرض ، فحس السمع أيضاً يشتغل بها ، فإن الحواس متى تطابقت متوجهة إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه أقوى وإن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة ، ويحصل لها إذ ذاك انجذاب وانقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل ، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض . وهكذا القول في الدخن قالوا : فثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مستقل بالتأثير فإن انظم إليه الاستعانة بالقسم الأول وهو تأثيرات الكواكب قوي الأثر جداً ، لا سيما إن حصل لهذه النفس مدد من النفوس المفارقة المشابهة لها أو من الأنوار الفائضة من النفوس الفلكية . ومنها سحر من يستعين بالأرواح الأرضية وهو المسمى بالعزائم ، وتسخير الجن ومنه التخييلات الآخذة بالعيون وتسمى الشعوذة . وذلك أن أغلاط البصر كثيرة ، فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركاً ، والقطرة النازلة ترى خطاً مستقيماً ، والعنبة ترى في الماء كالزجاجة ، ويرى العظيم من البعيد صغيراً . وقد لا تقف القوة الباصرة على المحسوس وقوفاً تاماً إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جداً فيخلط البعض بالبعض ولا يتميز ، فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطاً كثيرة بألوان مختلفة ثم أديرت ، فإن البصر يرى لوناً واحداً كأنه مركب من كل تلك الألوان .

وأيضاً النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر ، فلا يشعر الحس به ألبتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه لما أن قلبه مشغول بشيء آخر ، وكذا الناظر في المرآة ربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستوٍ أم لا ، فلا يرى شيئاً مما في المرآة . فالمشعوذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استقر بهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه ، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة فيبقى ذلك العمل خفياً لتعاون الشيئين اشتغالهم بالأول وسرعة إتيانه بالثاني . ومنها الأعمال العجيبة التي تظهر من الآلات المركبة على النسب الهندسية ، أو لضروب الخيلاء كفارسين يقتتلان فيقتل احدهما الآخر ، ومنه الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، وقد يصورونها ضاحكة أو باكية . وقد يفرق بين ضحك السرور وضحك الخجل ، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات وعلم جر الأثقال وهذا لا يعد من السحر عرفاً ، لأن لها أسباباً معلومة يقينية . ومنها الاستعانة بخواص الأدوية والأحجار ، ومنها تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن ينقادون له في أكثر الأمور ، فإذا اتفق أن كان السامع ضعيف القلب قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في قلبه نوع من الرعب ، وحينئذ تضعف القوى الحساسة فيتمكن الساحر من أن يفعل فيه ما شاء . وإن من جرب الأمور وعرف أحوال الناس علم أن لتعليق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار . ومنها السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفية لطيفة وذلك شائع في الناس . فهذه جملة الكلام في أقسام السحر ، وعند المسلمين كلها مستندة إلى قدرة الله ، فإنه لا يمنتع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة . واتفقوا على أن العلم به ليس بقبيح ولا محظور ، لأن العلم لذاته شريف ولعموم قوله تعالى { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] ولأن الفرق بينه وبين المعجز يمكن به إلا أن اجتنابه أقرب إلى السلامة كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية . وأما أن الساحر هل يكفر أم لا فلا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور ، فإنه يكون كافراً على الإطلاق ، وهذا هو القسم الأول من السحر . وأما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر على إيجاد الأجسام وإعدامها وتغيير البنية والشكل ، فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تفكيره ، وأما أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل ، فالمعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا : لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل ، وزيف بأن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار الخوارق على يده لئلا يحصل التلبيس ، أما إذا لم يدع النبوة فظهرت الخوارق على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس ، فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة ، وإن حصلت لم يتم فصوله الباطل كنار العرفج .

وأما سائر أنواع السحر فلا شك أنها ليست بكفر ، وحكم من كفر بالسحر حكم المرتد . وإذا سحر إنساناً فمات فإن قال : إني سحرته وسحري يقتل غالباً وجب عليه القود ، وإن قال : سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل ، فهو شبه عمد ، وإن قال : سحرت غيره فوافق اسمه اسمه فخطأ . وعن أبي حنيفة أنه قال : يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله « إني أترك السحر وأتوب منه » فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه . وإن شهد شاهدان علي أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب ، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل . وأما قصة هاروت وماروت فقد يروى عن ابن عباس أن الملائكة لما قالت { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فأجابهم الله بقوله { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 31 ] ثم وكل عليهم جمعاً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة ، فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح . ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة ، فأراد الله أن يبتلي الملائكة فقال لهم : اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علماً وزهداً وديانة لأنزلهم إلى الأرض فأختبرهم . فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا والشرب . فنزلا ، فأمر الله تعالى الكوكب المسمى بالزهرة والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض ، فجعلت الزهرة في صورة امرأة ، والملك في صورة رجل . ثم إن الزهرة اتخذت منزلاً وزينت نفسها ودعتهما إليها ، ونصب الملك نفسه في منزلها في مثال صنم فأقبلا عليها وطلبا الفاحشة فأبت عليهما إلا أن يشربا الخمر فقالا : لا نشرب الخمر . ثم غلبت الشهوة عليهما فشربا ثم دعواها إلى ذلك فقالت : بقيت خصلة لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها .

قالا : وما هي؟ قالت : تسجدان لهذا الصنم . فقالا : لا نشرك بالله شيئاً . ثم غلبت الشهوة عليهما فقالا : نفعل ثم نستغفر . فسجدا للصنم . ثم دخل سائل عليهم فقالت : إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا ، فإن أردتما الوصول إليّ فاقتلا هذا الرجل . فامتنعا منه ، ثم اشتغلا بقتله . فلما فرغا من القتل ارتفعت ا لزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء فعرفا حينئذ أنه إنما أصابهما بسبب تعيير بني آدم . وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض ، وأنهما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للصنم وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا يعرجان به إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم فعرجت إلى السماء فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب ثم إن الله تعالى خيرهما بين عذاب الآخرة آجلاً وبين الدنيا عاجلاً ، فاختارا عذاب الدنيا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع ليعلم السحر خاصة . وهذه القصة عند المحققين غير مقبولة ، فليس في كتاب الله ما يدل عليها ، ولأن الدلائل الدالة على عصمة الملائكة تنافيها ، ولاستبعاد كونهما معلمين للسحر حال العذاب ، ولأن الفاجرة كيف يعقل أنها صعدت غلى السماء وجعلها الله تعالى كوكباً مضيئاً ، ولأنه ذكر في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا : لو فعلت بنا يا رب لما عصيناك وهذا منهم تكذيب الله وتجهيل . فإذن السبب في إنزالهما أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبواباً غريبة من السحر وكانوا يدعون النبوة ، فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكاذبين ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد . وأيضاً تعريف حقيقة السحر ليميز بينه وبين المعجزة حسن ، وكذا السحر لإيقاع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أوليائه . ولعل للجن أنواعاً من السحر لا يقدر البشر على معارضتها إلا بإعانة الملك وإرشاده ، ويجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم يمنعه من استعماله ، كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب مزيد الثواب كما ابتلي قوم طالوت بالنهر { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } [ البقرة : 249 ] ويقال : هذه الواقعة كانت في زمان إدريس لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض ، فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له ، ولا يجوز كونهما رسولين لأن رسول الإنس ثبت أنه لا يكون إلا منهم .
قوله تعالى { وما يعلمان } أي وما يعلم الملكان أحداً حتى ينهياه وينصحاه ويقولا له { إنما نحن فتنة } ابتلاء واختبار من الله { فلا تكفر } بأن تتعلمه معتقداً له أنه حق أو متوصلاً به إلى شيء من المعاصي والأعراض العاجلة { فيتعلمون } الضمير لما دل عليه العموم في { من أحد } أي فيتعلم الناس من الملكين { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } إما لأنه إذا اعتقد أن السحر حق كفر فبانت منه امرأته ، وإما لأنه يفرّق بينهما بالتمويه والاحتيال كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز ابتلاء منه ، لا أن السحر له أثر في نفسه بدليل قوله { وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله } بإدارته وقدرته ، لأنه إن شاء أحدث عند ذلك شيئاً من أفعاله وإن شاء لم يحدث ، وكان الذي يتعلمونه منهما لم يكن مقصوراً على هذه الصورة ، ولكن سكون المرء وركونه إلى زوجه لما كان أشد خصت بالذكر ليدل بذلك على أن سائر الصور بتأثير السحر فيها أولى وقرأ الأعمش { وما هم بضارين به من أحد } فجعل الجارّ جزءاً من المجرور وهو « أحد » وأضاف إلى المجموع وفصل بينهما بالظرف .

ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم لأنهم يستعملونه في وجوه المفاسد { ولقد علموا } علم هؤلاء اليهود اللام فيه للابتداء وكذا في { لمن اشتراه } استبدل ما تتلو الشياطين واختاره على كتاب الله { ما له في الآخرة من خلاق } من نصيب كأنه قدر له هذا المقدار ، وقيل : الخلاق الخلاص . وقيل معنى الآية أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر للدنيا فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا { ولبئسما شروا به أنفسهم } أي باعوها والمخصوص محذوف وهو السحر أو منافع الدنيا ، وجواب « لو » محذوف يدل على ما قبله أي لو كانوا يعلمون لعلموا قبح ما شروا . ويجوز أن يكون « لو » للتمني مجازاً كما تقدم من الترجي في { لعلكم تتقون } وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب . بقي ههنا سؤال وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله { ولقد علموا } على سبيل التوكيد بالقسم إجمالاً ثم نفاه عنهم في قوله { لو كانوا يعلمون } ؟ فإن « لو » لامتناع الثاني لامتناع الأول ، وكذا لو كان للتمني فإن التمني استدعاء أمر هو كالممتنع . والجواب أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا ، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، والذين لا يعلمون هم الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر . سلمنا أن القوم واحد ، ولكنهم علموا شيئاً وجهلوا شيئاً آخر ، علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة ، وجهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة وما حصل لهم من مضارّها وعقوباتها ، سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ، ولكنهم نسبوا إلى الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم ولم ينتفعوا به كما قيل : إنهم صم بكم عمي حيث لم ينتفعوا بالحواس .

ولما أوعدهم بقوله { ولقد علموا } أتبع ذلك الوعد جامعاً بين الترهيب والترغيب ليكون أدعى إلى الطاعة وأنهى عن المعصية فقال { ولو أنهم آمنوا } بعين ما نبذوه من كتاب الله وهو القرآن أو التوراة التي يصدقها القرآن أو كلاهما ، واتقوا فعل المنهيات وترك المأمورات ، أو اتقوا الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين { لمثوبة من عند الله } لشيء من ثوابه { خير } ولا بد من تقدير فعل يكون « أن » مع ما بعده فاعلاً له ، أي لو ثبت أنهم آمنوا ، وجواب « لو » محذوف أيضاً ويدل عليه هذه الجملة الاسمية المصدرة باللام أي لأثيبوا وإنما تركت الفعلية إلى هذه ليدل على ثبات المثوبة واستقرارها . ويجوز أن يكون القسم مقدراً وقوله { لمثوبة } جوابه ساداً مسد جواب الشرط مغنياً عنه ، ودخول اللام الموطئة في الشرط غير واجب في القسم المقدر وإن كان هو الأكثر ، على أن دخول اللام الموطئة « لو » مستثقل فيشبه أن يكون الأكثر بل الواجب ههنا عدم الدخول . ويجوز أن يكون « لو » للتمني مجازاً عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل : وليتهم آمنوا . ثم ابتدئ { لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } أن ثواب الله خير مما هم فيه لآمنوا واتقوا ، وقد علموا لكنه جهلهم لترك العلم بالعلم . ويجوز أن يكون « لو » بمعنى التمني كما تقرر والله تعالى أعلم .
التأويل : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } النفوس { على ملك سليمان } الروح الذي هو خليفة الله في أرضه { وما كفر سليمان } الروح { ولكن الشياطين } النفس والهوى { كفروا يعلمون الناس السحر } من تخييلات الهواجس وتمويهات الوساوس { وما أنزل على الملكين } فتنة وخذلاناً من العلوم الضارة غير النافعة كشبهات الفلاسفة والمبتدعة على ملكي الروح والقلب { ببابل } الجسد { هاروت } الروح { وماروت } القلب فإنهما من العالم العلوي الروحاني أهبطا إلى الأرض العالم الجسماني بالخلافة لإقامة الحق وإزهاق الباطل فافتتنا بزهرة الحياة الدنيا واتبعا خداعها فوقعا في شبكة الشهوة التي تركت فيها ابتلاء وامتحاناً ، وشربا خمر الحرص والغفلة التي تخامر العقل ، وزنيا ببغي الدنيا الدنية ، وعبدا صنم الهوى فعذبا منكسين برؤوسهما بالالتفات إلى السفليات وإعراضهما عن العلويات ، فحرما استماع خطاب الحق وكشف حقائق العلوم النافعة الموجبة للجمعية ، ومع هذا من خصوصية الملائكة الروحانية ما يعلمان أحداً من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية . والقوى البشرية حتى يلهماها { إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء } القلب { وزوجه } دينه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

القراآت : { ما ننسخ } بضم النون وكسر السين : ابن ذكوان { ننسأها } مهموزاً : ابن كثير وأبو عمرو غير أوقية ، وروى أوقية بغير همز ، الباقون : ننسها من الإنساء { نأت بخير } بغير همز : أبو عمرو غير إبراهيم بن حماد ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف ، الباقون وإبراهيم بن حماد بالهمزة لأنه جواب الشرط ، ومن شرطه أن يهمز كل ما كان نسقاً أي عطفاً على المجزوم أو جواباً للمجزوم كل القرآن مثل قوله عز وجل { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم } وقوله { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } وأشباه ذلك { فقد ضل } بالإظهار : حجازي غير ورش وعاصم غير الأعشى ، وكذلك يظهرون الدال عند الذال والظاء حيث وقعتا مثل قوله تعالى : { فقد ظلم } { ولقد ذرأنا } وأشباه ذلك .
الوقوف : { واسمعوا } ( ط ) { أليم } ( 5 ) { من ربكم } ( ط ) { من يشاء } ( ط ) { العظيم } ( 5 ) { أو مثلها } ( ط ) { قدير } ( 5 ) { والأرض } ( ط ) { ولا نصير } ( 5 ) ربع الجزء { ومن قبل } ( ط ) { السبيل } ( 5 ) .
التفسير : لما شرح الله تعالى قبائح أفعال السلف من اليهود ، شرع في قبائح أخلاق المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجدّهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه ، واعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن . قال ابن عباس : وكان يخاطب في التوراة ب « يا أيها المساكين » فكأنه سبحانه لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت لهم المسكنة آخراً حيث قال { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } [ البقرة : 61 ] وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أوّلاً فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب آخراً { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً } [ الأحزاب : 47 ] ، ولا سيما فإن المؤمن اسم من أسمائه العظام ، ففيه دليل على أنه تعالى يقرّبهم منه في دار السلام . وقيل : آمنوا على الغيبة نظراً إلى المظهر وهو « الذين » ولو قيل آمنتم نظراً إلى النداء جاز من حيث العربية ، ثم إنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من إحداهما ويأذن في الأخرى ومن هنا قال الشافعي : لا تصح الصلاة بترجمة الفاتحة عربية كانت أو فارسية .
فلا يبعد أن يمنع الله من قول { راعنا } ويأذن في قول { انظرنا } وإن كانا مترادفين . ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قول { راعنا } لاشتماله على مفسدة . ثم ذكروا وجوهاً منها : أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقي عليهم شيئاً من العلم راعنا يا رسول الله ، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي « راعينا » ومعناها « اسمع لا سمعت » كما صرح بذلك في سورة النساء { ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا }

[ النساء : 46 ] فإن الجميع كأنها متقاربة فلما سمعوا المسلمين يقولون « راعنا » افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون المسبة ، فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي { انظرنا } . روي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه ، فقالوا : أولستم تقولونها؟ فنزلت ، ومنها قال قطرب : هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند الهزء والسخرية فلا جرم نهى الله عنها ، وقيل : إن اليهود كانوا يقولون « راعينا » أي أنت راعي غنمنا فنهاهم عنه . وقيل : إن هذه اللفظة لكونها من باب المفاعلة ، تدل علىلمساواة بين المتخاطبين كأنهم قالوا : أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهوا عنه { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } [ النور : 63 ] وقيل : « راعنا » خطاب مع الاستعلاء أي راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره ، وليس في { انظرنا } إلا سؤال الانتظار . وقيل : إنها تشبه اسم الفاعل من الرعونة والحمق ، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم « عائذاً بك » أي أعوذ عياذاً . فقولهم { راعنا } أي فعلت رعونة ، ويحتمل أنهم أرادوا صرت راعنا أي ذا رعونة ، فلمكان هذه الوجوه الفاسدة نهى الله عنها ، وقيل : المراد لا تقولوا قولاً راعناً أي منسوباً إلى الرعن كدارع ولابن ، ومنه قراءة الحسن { راعناً } بالتنوين . وانظرنا من نظره إذا انتظره { انظرونا نقتبس من نوركم } [ الحديد : 13 ] أمرهم الله تعالى أن يسألوه صلى الله عليه وسلم الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعادة كأنهم قالوا له : توقف في كلامك وبيانك مقدار ما يصل إلى أفهامنا . وهذا القدر غير خارج عن قانون الأدب فقد يلتمسه المتعلم حرصاً منه على أن لا يفوت منه شيء من الفوائد وإن كان المعلم غير مهمل دقائق التفهيم والإرشاد من التثبت والتأني والإعادة إن احتيج إليها ونحو ذلك . وقيل : انظرنا معناه انظر إلينا مثل { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] أي من قومه . والغرض أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كانت إفاضته عليه أظهر وأقوى . وفي قراءة أبيّ { انظرنا } من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظه . { واسمعوا } معناه أحسنوا سماع كلام نبيكم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة ، أو اسمعوا سماع قبول وطاعة لا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا ، أو اسمعوا ما أمرتم به ولا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قول راعنا ، وللكافرين ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه عذاب أليم قوله { ما يود } الآية . « من » الأولى للبيان ، لأن { الذين كفروا } جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون . كقوله { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين }

[ البينة : 1 ] « ولا » مزيدة لتأكيد النفي وقرئ { ولا المشركون } والثانية مزيدة لاستغراق الخير ف { أن ينزل } في سياق النفي : فمعنى ما يود أن ينزل يود أن لا ينزل . والثالثة لابتداء الغاية ، والخير الوحي وكذلك الرحمة { أهم يقسمون رحمة ربك } [ الزخرفة : 32 ] والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي ، ولا أثر لهذا الحسد فإن الله يختص بالنبوة من يشاء ولا يكون إلا ما يشاء ، وما يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة . { والله ذو الفضل العظيم } والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة ، والإفضال والإحسان ، وفيه إشعار بأن إيتاء النبوة من غاية الإحسان وأنهار شحة من بحار كماله { إن فضله كان عليك كبيراً } [ الإسراء : 87 ] .
قوله عز من قائل { وما ننسخ من آية } نوع ثان من تقرير مطاعن اليهود خذلهم الله في الإسلام . روي أنهم قالوا : ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً فنزلت . وفي الآية مسائل :
الأولى : النسخ لغة هو الإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل أي أزالته . والنقل أيضاً وهو أ ن يغير الشيء في صفته وحاله مع بقائه في نفسه ، ومنه نسخت الكتاب ، والمناسخات في المواريث لانتقال التركة من قوم إلى قوم . فقيل مشترك بينهما ، وقيل حقيقة في الأول مجاز في الثاني ، وقيل بالعكس . وفي الاصطلاح : هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، فيخرج المباح بحكم الأصل إذا ورد الشرع بضده رافعاً لإباحته فإنه لا يسمى نسخاً إذ ليس رفع حكم شرعي ويخرج أيضاً الرفع بالنور والغفلة لأن ذلك الرفع ليس بمجرد الدليل الشرعي وهو « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان » ونحوه ، بل يقتضيه العقل أيضاً بخلاف الرفع بنحو « دعي الصلاة أيام أقرائك » فإنه لا مجال للعقل فيه . ويخرج الرفع بنحو « صم إلى آخر الشهر » فإن « إلى » أوجبت مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها إلا أنها لا تسمى نسخاً لأنه ليس متأخراً ، ويمكن أن يقال : إن قيد متأخر إنما ينبغي أن يذكر لأن دليل النسخ لا يكون إلا كذلك . ونحو « صم إلى كذا » وأمثاله من أنواع التخصيص متصلاً كان أو منفصلاً ، إنما خرج بقيد الرفع لأن رفع الحكم إنما يكون بعد إرادة حصوله على المكلف ، والتخصيص ليس كذلك لأن صورة التخصيص غير مرادة من اللفظ بل التخصيص مبين لمراد الشارع من العام . ونعني بالحكم ههنا ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن ، فإن الوجوب المشروط بالعقل الذي هو مناط التكليف لم يكن حاصلاً عند انتفاء العقل والموقوف على الحادث حادث . وإذا كان المراد بالحكم هذا فلا يرد قول المعتزلة الحكم عندكم قديم فكيف يرتفع؟ وذلك أنا عنينا بالحكم تعلق الخطاب بعدما لم يتعلق وهذا محدث يرتفع .

وأيضاً نقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب الثابت أولاً وهو المعنى بالرفع ، ويحسن أيضاً أن يقال : النسخ بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ ، فيخرج بقولنا « شرعي » بيان انتهاء حكم عقلي كالبراءة الأصلية ، و « بطريق شرعي » يخرج به بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق عقلي كانتساخ القيام عمن ينكسر رجله . وقولنا « متراخ » ليخرج التخصيص بالغاية . ومن هذا يعلم تعريف الناسخ والمنسوخ ، ومعنى بيان انتهاء الحكم أن الخطاب السابق له غاية في علم الله تعالى ، فإذا انتهى إلى تلك الغاية زال بذاته ، ثم ورد الخطاب اللاحق بياناً لذلك .
المسألة الثانية : انعقد الإجماع من أكثر أرباب الشرائع ومن المسلمين خاصة على جواز النسخ عقلاً وعلى الوقوع شرعاً ، وخالف اليهود في الجواز ، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في الوقوع لا الجواز . لنا القطع بالجواز ضرورة فإن له تعالى أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير النظر إلى حكمة ومصلحة ، وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات فهذا ما يدل على جواز النسخ . وفي التوراة أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده باتفاق ، وهذا ما يدل على وقوعه ، وكيف لا وقد ثبت بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة نبوته محمد صلى الله عليه وسلم ، وبصحة نبوته يلزم نسخ شرع من قبله . ولم يكن لليهود والنصارى نص صريح يعلم منه أمد شرعهم على التعيين حتى يلزم أن يكون شرع نبينا انتهاء غاية لا نسخاً . حجة اليهود لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر « هذه شريعة مؤبدة عليكم بها ما دامت السموات والأرض » وأيضاً إن كان نسخ الحكم الشرعي لحكمة ظهرت له تعالى لم تكن ظاهرة فهو البداء وإلا فعبث وكلاهما محال على الله تعالى ، إذ البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء والعبث فعل لا يستتبع غاية . والجواب عن الأول المنع من أنه قول موسى عليه السلام ، ويؤكده أنه لو كان هذا القول صحيحاً عندهم لقضت العادة بقوله لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولحاجوه بذلك ، لكن اليهود لم يتمسكوا به في عهده فدل ذلك على أنه إفك افتراه المتأخرون منهم . وعن الثاني بعد تسليم اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في حال وضرره في آخر ، بل الزمان الممتد من الأزل إلى الأبد قد وزع أجزاؤه فيما لم يزل على الجزئيات الواقعة فيها الصادرة شيئاً فشيئاً بحسب وقت وقت لا لمصلحة تعود إليه تعالى بل لما هو أصلح بالنسبة إلى المتزمنات . فالظهور والخفاء والسابق واللاحق ، والإعدام والإيجاد ، كلها بالنسبة إلينا ، وأما بالنسبة إلى حضرة الواجب جل ذكره فقد جف القلبم بما هو كائن إلى يوم الدين .

والحاصل أن كل حكم فله غاية في علم الله تعالى ، ولكن قد يظن المكلف استمراره في الاستقبال من قرائن الأحوال ، فإذا ورد ما يبين أمده ونص له على زواله فذلك الوارد ناسخ والأول منسوخ والورود نسخ ، وكل هذه التجددات بالنسبة إلى المكلف ، وأما بالإضافة إليه تعالى فكل من الحكمين موجود في وقته الذي قدر له فيه الظهور متقدماً أحدهما ومتأخراً الآخر . وليس هذا في الأحكام فقط وإنما ذلك في كل حادث ، فمن تأمل نسخة الوجود ونسب الحوادث المتفاوتة بعضها إلى بعض بالتقدم والتأخر والمعية ، وجد وجوداتها المترتبة أشبه شيء بكتاب يقرؤه القارئ سطراً بعد سطر ، وكلمة تلو كلمة ، إذا انقضى مجموع من ذلك تلاه مجموع آخر حسب ما رتبه الحكيم العليم بمبادئه ومقاطعه ، فالمنقضي في حكم المحو ، والتالي في حكم الإثبات ، والهيئة الاجتماعية بدون اعتبار التلاوة المستلزمة لانقضاء شيء وظهور ما يعقبه هي أم الكتاب ، وهذا سر قوله عز من قائل { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } [ الرعد : 39 ] ولك أن تعبر عن المجموع الدفعي بالقضاء وعن ظهوره التدريجي بالقدر وفي هذا القدر كفاية للفطن المستبصر .
المسألة الثالثة : اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه : أحدها : هذه الآية أعني ما ننسخ من آية . وأجاب أبو مسلم بأن المراد بالآيات المنسوخة الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله عنا وتعبدنا بغيره ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فأبطل الله ذلك عليهم بهذه الآية . وأيضاً لعل المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب . وأيضاً إن ما ههنا يفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك « من جاءك فأكرمه » لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام ، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه وثانيها : الاعتداد بالحول في قوله { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول } [ البقرة : 240 ] نسخ بأربعة أشهر وعشر في قوله { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] أجاب أبو مسلم بأن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا نسخاً . ورد بأن عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر ، فجعل السنة مدة للعدة يكون زائلاً بالكلية . وثالثها : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة }

[ المجادلة : 12 ] منسوخة بالاتفاق ، أجاب بأنه زال لزوال سببه ، لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون عن المؤمنين . ورد بأنه يلزم منه أن من لم يتصدق كان منافقاً وهو باطل ، لما روي أنه لم يتصدق غير علي عليه السلام ، وبدليل { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } [ المجادلة : 13 ] ورابعها : الأمر بثبات الواحد للعشرة في قوله { فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] ثم نسخ ذلك بقوله { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 66 ] وخامسها : تحويل القبلة . قال أبو مسلم : حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر . ورد بأن بيت المقدس وسائر الجهات في ذلك سواء . وسادسها : { وإذا بدلنا آية مكان آية } [ النحل : 101 ] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم . وكيفما كان فهو رفع ونسخ ، فهذه الدلائل وأمثالها تدل على وقوع النسخ في الجملة . حجة أبي مسلم { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 42 ] والجواب أن الضمير للمجموع ، وأيضاً نسخة بالنسبة إلى المكلف لا ينافي حقيته في نفسه وكونه قرآناً عربياً .
المسألة الرابعة : المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط كالآيات المعدودة ، أو التلاوة فقط كما يروى عن عمر أنه قال : كنا نقرأ آية الرجم « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم » وروي « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب » ، أو الحكم والتلاوة معاً كما روي عن عائشة « كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخن بخمس » فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً ، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم . ويروى أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان .
ولنرجع إلى تفسير الآية { ما ننسخ } محمول على نسخ الحكم وإزالته دون التلاوة ، أو ننسها على نسخ الحكم والتلاوة جميعاً . وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب وذلك بأن تخرج من جملة ما يتلى ويقرأ في الصلاة ، أو يحتج به ، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي ، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد ، فتصير بهذا الوجه منسية من الصدور أو يكون ذلك معجزة له صلى الله عليه وسلم كما يروى أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها . قال عز من قائل { سنقرئك فلا تنسى . إلا ما شاء الله } [ الأعلى : 6 ، 7 ] وإنساخ الآية الأمر بنسخها وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها ، ونسؤها تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل . وقيل : ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط ، أو تلاوتها فقط ، أو نبدلهما ، أو ننسها نتركها كما كانت ولا نبدلها ، لأن النسيان قد يجيء بمعنى الترك .

وقيل : ما ننسخ من آية ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها بالهمزة نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ ، أو نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة . ولا يخفى أن قوله { نأت بخير منها أو مثلها } لا ينطبق على هذين القولين كما ينبغي . ومعنى الآية عند جمهور المفسرين آية القرآن ، وعند أبي مسلم التوراة والإنجيل كما مر . وقد عرفت أنه يمكن حملها على معنى أعم ، فكل مجموع من الوجود في كل زمان من الأزمنة آية من صحيفة المخلوقات ، وكل فرد من ذلك المجموع كلمة من كلمة الله { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي } [ الكهف : 109 ] ومعنى { نأت بخير منها أو مثلها } إن حملنا الآية على ما يتضمن حكماً على المكلف أن الثاني أخف أو أصلح بالنسبة إلى وقته كما أن الأول كان أصلح بالإضافة إلى وقته . فالثاني خير بالنسبة إلى وقته ، ومثل الأول بالنسبة إلى وقته ، أو يراد أن العمل بالثاني أكثر ثواباً من العمل بالأول أو مساوٍ له ، فكل منهما قد تقتضيه الحكمة دون ما هو أقل ثواباً ، وإن حملنا الآية على غير ذلك فيتعين الأصلح . قال أهل الإشارة أراد بالنسخ نقل السالك وترقيه من حال إلى حال أعلى منه ، وإن غصن استكمالهم أبداً ناضر ، ونجم وصالهم دائماً زاهر ، فلا ينسخ من آثار عباداتهم شيء إلا أبدل منها أشياء من أنوار العبودية ، ولا ينسخ شيء من أنوار العبودية إلا أقيم مكانها أشياء من أقمار الربوبية . وأيضاً إنهم يشاهدون بعض الوقائع الشريفة في الصور اللطيفة كسبتها المتخيلة بحسب صفاء الوقت وعلو المقام ، فلما ارتقوا إلى مقام آخر لا يشاهدون ذلك بتلك المشاهدة ، فيظن السالك الغر أنه حجب عن ذلك المقام أو الحال ، فقيل : ما ننسخ من آية من آيات المقامات ، أو ننسها بأن نمحوها من إدراك الخيال ، نأت بخير من تلك المشاهدة أو مثلها . ثم الأئمة استنبطوا من الآية مسائل : الأولى : زعم قوم أنه لا يجوز نسخ الحكم لا إلى بدل لقوله { نأت بخير منها أو مثلها } والجمهور على خلافه لأن الآية لا تدل إلا على وجوب الإتيان بآية أخرى ، أما على وجوب الإتيان بحكم آخر فلا . سلمنا لكنه مخصوص بنسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى ، وبنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر من غير بدل . سلمنا عدم تخصيصه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك البدل عدم الحكم الذي رفع بالنسخ ويكون نسخه بغير بدل وجودي خيراً للمكلف لمصلحة علمت . الثانية : زعم قوم أن النسخ لا يجوز بأثقل ، لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله .

وردّ الجمهور عليهم بأن المراد كثرة الثواب وذلك لا ينافي كونه أثقل « أجرك على قدر نصبك » وأيضاً قد وقع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بالصوم حتماً ، وصوم عاشوراء برمضان ، والحبس في البيوت للزاني بالحد . وأما النسخ إلى الأخف فكنسخ العدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها . وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة . الثالثة : عن الشافعي أن الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة لقوله { نأت بخير منها } وذلك يدل على أن المأتي به من جنسه كما إذا قال الإنسان « ما آخذ منك من ثوب آتك بخير منه » يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه ، وجنس القرآن قرآن . وأيضاً { نأت } يدل على أن الآتي هو الله لا الرسول . وأيضاً المأتي به خير والسنة لا تكون خيراً من القرآن . وأيضاً قوله { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } دل على أن الآتي بذلك الخير هو القادر على جميع الخيرات وعلى تصريف المكلف تحت مشيئته وإرادته ، لا دافع لما أراد ولا مانع لما شاء وذلك هو الله تعالى . وأجيب بأن قوله { نأت بخير منها } ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخاً ، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئاً مغايراً للناسخ يحصل بعد حصول النسخ وذلك أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى ، فلو كان نسخ تلك الآية مرتباً على الإتيان بذلك الخير لزم الدور . قلت : ويمكن دفع الدور بأن يقال : المراد ما أردنا نسخها من آية نأت بخير منها حتى ننسخها . ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله « ألا لا وصية لوارث » وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم . أجاب الشافعي : بأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية ، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ، ولعل الرجم إنما ثبت بقوله تعالى « الشيخ والشيخة » الخ .
{ له ملك السموات والأرض } فهو يدبر الأمور ويجريها على حسب المصالح ، وهو أعلم بما يتعبد المكلفين به من ناسخ ومنسوخ . والخطاب في { ألم تعلم } إما للنبي صلى الله عليه وسلم فتدخل الأمة تبعاً ، أو لكل من له أهلية الخطاب . ومعنى الاستفهام فيه التقرير والإثبات لظهور آثار قدرته ووضوح آيات ملكه وسلطانه . وقيل : إشارة إلى ما شاهد ليلة المعجزات بعين اليقين ثم علمها حق اليقين ، فترقى من رؤية الآيات إلى كشف الصفات ، ومن كشف الصفات إلى عيان الذات ، ثم نسخت عن الخيال وأثبتت في العيان . والولي ضد العدو ، وكل من ولي أمر واحد فهو وليه ، فعيل بمعنى فاعل وكذا النصير . والواو في { وما لكم } يحتمل أن تكون للاعتراض فلا محل للجملة ، ويحتمل أن تكون للعطف على { له ملك السموات } فيدخل تحت الاستفهام ، ويكون قوله { من دون الله } من وضع الظاهر موضع الضمير ولا يوقف على { والأرض } .

{ أم تريدون } قيل : الخطاب للمسلمين لقوله { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } وهذا لا يصح إلا في حق المؤمنين ، ولأن « أم » للعطف ولا معطوف ظاهراً . فالتقدير : وقولوا انظرنا واسمعوا ، فهل تفعلون هذا كما أمرتم { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } ولأنه سأل قوم من المسلمين أن يجعل صلى الله عليه وسلم لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة وهذا قول الأصم والجبائي وأبي مسلم . وقيل : إنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقال : يا محمد ، ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً من الله إلى عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فاتبعوه . فقال له بقية الرهط : فإن لم تستطع ذلك فأتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله كما سأله السبعون ، وعن مجاهد : أن قريشاً سألت محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً . فقال : نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا . وقيل : المراد اليهود لأن هذه السورة من أول قوله { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } حكاية عنهم ومحاجة معهم ، ولأن الآية مدنية ، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يتبدل كفراً بإيمان ، وليس في ظاهر الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفية السؤال ، بل المرجع فيه إلى الروايات المذكورة . وههنا بحث وهو أن السؤال الذي ذكروه إن كان طلباً للمعجزات فمن أين أنه كفر؟ ومعلوم أن طلب الدليل علىلشيء لا يكون كفراً وإن كان ذلك طلباً لوجه الحكمة التفصيلية في نسخ الأحكام ، فهذا أيضاً لا يكون كفراً فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلق البشر ولم يكن ذلك كفراً . فالتفكير إما لأنهم طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة ، وإما لأنهم طلبوا المعجزات على وجه التعنت واللجاج . قلت : والأصوب في الآية أن يكون { أم تريدون } معطوفاً على { ألم تعلم } على أنه خطاب لكل مكلف ، فيكون في معنى الجمع .

ثم « أم » إما أن تكون متصلة على معنى أي الأمرين كائن فإن العلم واقع بكون أحدهما لأنه إما أن لا يعلم نفوذ علمه وقدرته وأن الكل تحت قدرته وقهره وتسخيره ، وإما أن يعلم فيسأل وجه الحكمة في النسخ وغيره على سبيل العناد وكلا الأمرين يوجب التكفير . أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن المعترف بحكمته البالغة وعنايته الشاملة ورأفته الكاملة وقدرته الظاهرة من حقه أن يقتصر على علمه الإجمالي ولا يتخطى مقام الأدب في البحث والتفتيش عن تفاصيل حكمته التي لا تكاد تنحصر . ويوهم أن السائل في شك مما أمر به أو نهي عنه ، وعلى هذا لا يوقف على نصير . وإما منقطعة على أنه أضرب عن الاستفهام الأول واستأنف استفهاماً ثانياً ، ويحتمل أن لا يكون قوله { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } حكماً بتكفيرهم بسبب السؤال بل يكون تنبيهاً للمكلفين ، على أن السؤال عما لا يهم لهم مما قد ينجر إلى الغواية لكثرة عروض الشكوك والشبهات حتى يقفوا على الاعتقاد الحق والتقليد الصرف فيما لا سبيل إلى درك تفاصيله أو لا يهم معرفتها . وسواء السبيل وسطه وهو الصراط المستقيم الذي مر تفسيره .
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

القراآت : قد سلفت .
الوقوف : { كفاراً } ( ج ) لأن { حسداً } مصدر محذوف أي يحسدون حسداً ، أو حال أو مفعول له وهو أوجه والوصل أجوز { الحق } ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين { بأمره } ( ط ) { قدير } ( 5 ) { الزكاة } ( ط ) لأن ما للشرط والشرط مصدر { عند الله } ( ط ) { بصير } ( 5 ) { أو نصارى } ( ط ) { أمانيهم } ( ط ) { صادقين } ( 5 ) { عند ربه } ( ص ) لعطف الجملتين المتفقتين { يحزنون } ( 5 ) { النصارى على شيء } ( ص ) لا لعطف الجملتين المتفقتين { على شيء } ( ص ) لأن الواو للحال { الكتاب } ( ط ) { مثل قولهم } ( ج ) لأن { فالله } مبتدأ مع فاء التعقيب { يختلفون } ( 5 ) .
التفسير : هذا نوع آخر من مكايد اليهود . روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً . فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد . قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت . فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ . وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً . ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت . و { كفاراً } نصب على الحال ، أو مفعول ثانٍ ل « يردون » على أنه بمعنى « صير » والحسد من أقبح الخصال الذميمة قال صلى الله عليه وسلم « الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب » وقال : « إن لنعم الله أعداء قيل : وما أولئك؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » وقال « ستة يدخلون النار قبل الحساب : الأمراء بالجور ، والعرب بالعصبية ، والدهاقين بالتكبر ، والتجار بالخيانة ، وأهل الرستاق بالجهالة ، والعلماء بالحسد » وروي أن موسى لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلاً يغتبط بمكانه فقال : إن هذا لكريم على ربه ، فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال : أحدثك من عمله ثلاثاً : كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وكان لا يعق والديه ، ولا يمشي بالنميمة ، ويحكى أن عبد الله بن عون دخل على الفضل بن المهلب ، وكان يومئذ على واسط فقال : إني أريد أن أعظك بشيء : إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ { فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة ، أمكنه الله من جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم تلا { اهبطا منها } [ طه : 123 ] وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ

{ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق } [ المائدة : 27 ] وقال ابن الزبير : ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا ، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة ، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ واعلم أنه إذا أنعم الله على أخيك بنعمة فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد المحرم الذي ذم الله تعالى صاحبه في هذه الآية وغيرها { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] { إن تمسسكم حسنة تسؤهم } [ آل عمران : 120 ] { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } [ يوسف : 8 ] وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة المشتقة من النفاسة وليست بحرام لقوله تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } [ الحديد : 21 ] وقال صلى الله عليه وسلم « لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً وأنفقه في سبيل الله ، ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلم الناس » وهذا يدل على أن الحسد قد يطلق على المنافسة ، وقد تكون واجبة إذا كانت النعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة ، وقد تكون مندوبة في نحو الإنفاق في سبيل الله وتشهي العلم والتعليم ، وقد تكون مباحة . وللحسد مراتب أربع : الأولى ، أن يحب زوال النعمة عنه وإن لم تحصل له وهذه أخبث . الثانية : أن يحب زوالها عنه إليه كرغبته في داره الحسنة أو امرأته أو ولايته فالمطلوب بالذات حصولها له ، فأما زوالها عن غيره فمطلوب بالعرض . الثالثة : أن لا يشتهي زوالها بل يشتهي لنفسه مثلها ، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما . الرابعة : ن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها عنه . وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا ، والمندوب إليه إن كان في الدين ، والثالثة منها مذموم وغير مذموم ، والثانية أخف والأولى أخبث قال تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] تمنيه لمثل ذلك غير مذموم وتمنيه لعين ذلك مذموم . وأسباب الحسد سبعة : أولها العداوة والبغضاء ، فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وتولد منه الحقد المنشئ للتشفي والانتقام ، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان كما قال عز من قائل { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } [ آل عمران : 120 ] . وربما أفضى هذا الحسد إلى التنازع والتقاتل ، وثانيها التعزز فإن واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً فترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك ، أراد زوال ذلك المنصب عنه . وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته . وثالثها : أن يكون في طبعه أن يستخدم غ يره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض

{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] { أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا } [ الأنعام : 53 ] كالاستحقار لهم والأنفة منهم . ورابعها : التعجب { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } [ الأعراف : 63 ] وخامسها : الخوف من فوت المقاصد وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد ، كتحاسد الضرائر في التزاحم على مقاصد الزوجية ، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين ، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة . وسادسها : حب الرياسة كمن يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون ، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته ، فإن الكمال محبوب لذاته وضد المحبوب مكروه . ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال لكن هذا يمتنع حصوله إلا لله تعالى ، ومن طمع في المحال خاب وخسر . وسابعها : شح النفس بالخير على عباد الله ، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا تكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك ، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم فرح به ، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه ، وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس كما قيل : البخيل من بخل بمال غيره . وقد يجتمع بعض هذه الأسباب فيعظم الحسد ويتقوى بحسبه ، وقلما يقع التحاسد إلا في الأمور الدنيوية ، لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين . وأما الآخرة فلا ضيق فيها فلهذا لا يكون تحاسد بين أرباب الدين وأصحاب اليقين ، وإنما يكونون بلقاء إخوانهم مستأنسين وببقاء أقرانهم فرحين { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين } [ الحجر : 47 ] وأما علاج الحسد فأمران : العلم والعمل . أما العلم ففيه مقامان : إجمالي وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يرده كراهية كاره ولا يجره إرادة مريد . وتفصيلي وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان حيث كره حكم الله وقسمته في عباده وغش للإخوان ، وعذاب أليم ، وحزن مقيم ، ومورث للوسواس ، ومكدر للحواس . ولا ضرر على المحسود في دنياه لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك ، ولا في دينه بل ينتفع به لأنه مظلوم من جهتك فيثيبه الله على ذلك . وقد ينتفع في دنياه أيضاً من جهة أنك عدوه ، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك إلى أن يقضي بك إلى الدنف والتلف .
اصبر على مضض الحسو ... د فإن صبرك قائله
النار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من الله تعالى بمزيد الفضائل .
لا مات أعداؤك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد

والحاسد مذموم بين الخلق ، ملعون عند الخالق ، مشكور عند إبليس وأصدقائه ، مدحور عند الخالق وأوليائه ، فهل هو إلا كمن رمى حجراً إلى عدو ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع على حدقته اليمنى فيقلعها ، فيزداد غضبه فيعود ثانياً فيرميه أشد من الأول فيرجع على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ، فيعود ثالثاً فيرجع على رأسه فيشدخه ، وعدوه سالم في كل الأحوال وقد عاد عليه الوبال وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون؟ هذا له في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى . وأما العمل فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد ، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له ، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له ، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه حتى يصير المحسود محبوباً محباً له ، { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ فصلت : 34 ] ، وذلك التكلف يصير بالآخرة طبعاً والله الموفق . واعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه؟ وإنما الاخل تحت التكليف رضاه بتلك النفرة ثم إظهار آثارها من القدح فيه والقصد إلى إزالة النعمة عنه وجر أسباب المحنة إليه ، ثم إن اليهود كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعدما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق ، فألقوا إليهم ضربين من الشبهة لعلمهم أن المحق لا يعدل عن الحق إلا بالشبهة أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو قولهم لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وذهباب أموالكم واستمرار الخوف عليكم ، فاتركوا إيمانكم الذي ساقكم إلى هذه . الثاني في باب الدين بالقدح في المعجزات وتحريف التوراة .
قوله { من عند أنفسهم } إما أن يتعلق ب { ود } أي تمنوا ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ، لأنهم ودوا ذلك من بعدما تبين لهم أنكم على الحق ، وإما أن يتعلق ب { حسداً } أي منبعثاً من أصل نفوسهم { فاعفوا واصفحوا } فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح بترك المقابلة والإعراض عن الجواب ، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة لا دائماً بل { حتى يأتي الله بأمره } عن الحسن أنه المجازاة يوم القيامة ، وقيل قوة الإسلام وكثرة المسلمين ، والأكثرون على أنه الأمر بالقتال فعنده يتعين إما الإسلام وإما قبول الجزية ، وتحمل الذل والصغار . والآية منسوخة لأن الآية التي علق بها غير معلومة شرعاً فليس كقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] بل يحل محل قوله { فاعفوا واصفحوا } إلى أن أنسخه عنكم . عن الباقر عليه السلام : إنه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل بقوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا } [ الحج : 39 ] وقلده سيفاً فكان أول قتال قتال أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر .

فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون والكفار حينئذ أصحاب قوة وشوكة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ قلنا : إن الرجل من المسلمين كان ينال الأذى فيقدر على بعض التشفي والإستعانة بسائر أصحابه ، فأمروا أن لا يهيجوا قتالاً وفتنة . وأيضاً القليل منهم كان يقاوم الكثير من المشركين { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] وأيضاً جعل الصابر إلى القوة قوياً ليظهره على الدين كله . وقيل : المراد بالعفو والصفح حسن الاستدعاء واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق وترك التشدد ، وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة . وكذا لو قيل : المراد بأمر الله قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم { إن الله على كل شيء قدير } فهو يقدر على الانتقام منهم { وأقيموا الصلاة } تنبيه على أنه كما يلزمهم لحظ حال غيرهم بالعفو والصفح ، كذلك يلزمهم لحظ أنفسهم بأداء الواجبات من خير من حسنة صلوات أو صدقة فريضة أو تطوع ، فعمم بعدما خص تنبيهاً على أن الثواب لا يختص بالواجبات بل بها وبغيرها من الطاعات ، ولا بد من إضمار أي تحدوا ثوابه ، لأن وجدان عين تلك الأشياء غير مطلوب { إن الله بما تعملون بصير } لا يخفى عليه شيء من الأعمال وفيه ترغيب للمحسن وترهيب للمسيء { وقالوا لن يدخل الجنة } نوع آخر من تخليط أهل الكتاب اليهود والنصارى والضمير في { وقالوا } لهم والمعنى وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصارى ، فضم بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق ما قاله لما علم من تكفير كل واحد منهما صاحبه ومثله { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } [ البقرة : 135 ] والهود جمعم هائد كبازل وبزل وعائذ وعوذ ، والعائذ الحديثة النتاج من النوق ، والبازل الذي خرج نابه ، ووحد اسم « كان » حملاً على لفظ « من » وجمع خبره حملاً على المعنى ومثله { فلا أجره عند ربه ولا خوف عليهم } [ البقرة : 112 ] { تلك أمانيهم } على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعاً في البطلان مثل هذه وهي قولهم { لن يدخل الجنة } أو أشير بتلك إلى أن ودادتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم أمنية ، وودادتهم أن يردوهم كفاراً أمنية ، وقولهم { لن يدخل الجنة } أمنية أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم ، وقوله { قل هاتوا برهانكم } متصل بقوله { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } و { تلك أمانيهم } اعتراض على هذا . وهات الشيء اسم فعل معناه أعط ، ويتصرف فيه بحسب المأمور هات ، هاتيا ، هاتوا ، هاتي ، هاتين ، وقيل : الصحيح أنه ليس باسم فعل وإنما الهاء فيه مبدلة من الهمزة ، وأصله آت من الإيتاء .

برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة { إن كنتم صادقين } في دعواكم ، وفيه دليل واضح على أن المدعي نفياً أو إثباتاً لا بدل له من برهان وإلا فدعواه باطلة .
من ادعى شيئاً بلا شاهد ... لا بد أن تبطل دعواه
{ بلى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، وقوله { من أسلم } إلى آخره جملة شرطية مستأنفة ، ويجوز أن يكون { من أسلم } فاعلاً لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم ويكون قوله { فله أجره } كلاماً معطوفاً على يدخلها { من أسلم } وفيه إشارة إلى أن لهؤلاء الداخلين برهاناً وهو استسلام النفس وانقيادها لطاعة الله مع الإحسان وفيه ترغيب لهم في الإسلام وبيان لمفارقة حالهم حال من يدخل الجنة كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة ، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس وينبوع الفكر والتخييل ، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى ، ولأن الوجه قد يكنى به عن النفس والذات { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } [ الليل : 20 ] ولأن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه . وهذا الإسلام أخص من الإسلام الذي ورد في الحديث « الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً » لأن هذا عبارة عن الإذعان الكلي بجميع القوى والجوارح في كل الأحوال والأوقات ، وهو الإسلام الذي أمر به إبراهيم عليه السلام { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] ويؤكد ذلك قوله { لله } أي خالصاً له لا يشوبه شرك فلا يكون عابداً مع الله غيره ولا معلقاً رجاءه بغيره ، وزاد التأكيد بقوله { وهو محسن } أي حال كونه محسناً في عمله ، ومعنى الإحسان هو الذي في الحديث « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ولا ريب أن العبادة على هذا الوجه لا تصدر إلا عن صدق النية وصفاء الطوية ، فإن مثول العبد بين يدي مولاه يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فلا يقع قصده فيما هو فيه إلا لوجه الله فلا يصدر عنه شيء من السيئات ، وأما الطاعات والمباحات فتكون مقتضية لتزايد الحسنات ورفع الدرجات في الخبر « من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة » وذلك أن المتطيب إن كان قصده التنعم واستيفاء اللذات أو التودد إلى النسوان كان المتطيب معصية ، وإن كان قصده إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة ، وكذا الكلام في المناكح والمطاعم والمشارب .

والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق ، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب ، روي أن رجلاً في بني إسرائيل مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه : لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس . فأوحى الله تعالى إلى نبيه قل له : إن الله قد صدقك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به . وليس النية أن يقول في نفسه أو بلسانه عند تدريسه أو تجارته « نويت أن أدرس لله أو أتجر لله » هيهات أنها لحديث نفس أو لسان وما ذاك إلا كقول الفارغ « نويت أن أعشق » وأما النية فهي انبعاث النفس وميلها إلى سلوك طريق الحق في كل فعل ، فاجتهد في تصيير ذلك ملكة لنفسك .
« وللناس فميا يعشقون مذاهب » ... فمنهم من يعمل لباعث الخوف من النار فله ذلك ، ومنهم من يعمل لباعث الطمع في الجنة وهم أكثر أهل الجنة لقصور هممهم عن طموح ما فوقها من الكمالات واللذات الحقيقيات أكثر أهل الجنة البله « ومنهم من يعمل لله فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولما جمع الله تعالى أهل الكتابين في الآية المتقدمة ، فصل بينهما وبين قول كل فريق في حق الآخر ، والظاهر حمل لفظي اليهود والنصارى على العموم وإن كان السبب خاصاً لأن هذا اعتقاد كل واحد من كل من الطائفتين في حق الأخرى . روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل . وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى والتوراة . ومعنى { على شيء } أي شيء يصح ويعتد به ، وفيه مبالغة عظيمة كقول العرب » أقل من لا شيء « عن ابن عباس : والله صدقوا . قلت : وذلك أن الإيمان بالله إنما يعتد به إذا كان مؤمناً برسوله وبكل ما أنزله { وهم يتلون الكتاب } الواو للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله أن يؤمن بالباقي ولا يكفر به ، لأن جميع الكتب السماوية متواردة في تصديق بعضها بعضاً { كذلك } الكاف للتشبيه و { ذلك } إشارة إلى المذكور أي قولاً مثل الذي سمعت به { قال الذين لا يعلمون } و { مثل قولهم } مكرر للتأكيد ولطول الكلام بالموصول والصلة . والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام القائلين إن المسلمين ليسوا على شيء وفيه توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم فقالوا قولاً عن التشهي والعصبية مثلهم { فالله يحكم بينهم } أي بين اليهود والنصارى يوم القيامة . عن الحسن : يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكافرين الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإلى المسلمين ، ويحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه ، فينتصر من الظالم المكذب للمظلوم المكذب ، أو يريهم من يدخل الجنة عياناً ويدخل النار عياناً أعاذنا الله تعالى منها .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

القراآت : { قالوا اتخذ الله } بلا واو العطف : ابن عامر اتباعاً لمصاحف أهل الشام { كن فيكون } بالنصب كل القرآن : ابن عامر إلا قوله { كن فيكون الحق } في آل عمران ، و { كن فيكون قوله الحق } في الأنعام . وافقه الكسائي في النحل ويس .
الوقوف : { خرابها } ( ط ) للفصل بين الاستفهام والخبر { خائفين } ط لأن ما بعده إخبار وعيد مبتدأ منتظر { عظيم } ( 5 ) { وجه الله } ( ط ) { عليم } ( 5 ) { وإذا } ( لا ) تعجيلاً للتنزيه { سبحانه } ( ط ) { والأرض } ( ط ) لأن ما بعده مبتدأ { قانتون } ( 5 ) { والأرض } ( ط ) لأن إذا أجيبت بالفاء وكانت للشرط { فيكون } ( 5 ) { آية } ( ط ) { قلوبهم } ( ط ) لأن قد لتوكيد الاستئناف { يوقنون } ( 5 ) .
التفسير : عن ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى الذرية وأحرق التوراة ، ولم يزل خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمان عمر فنزلت الآية فيهم . وعن الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك بعض النصارى . ورد بأن بختنصر كان قبل مولد المسيح بزمان . وقيل : نزلت في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إلى الله بمكة ألجأوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام . وقيل : المراد منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية . ووجه اتصال الآية بما قبلها على القولين الأولين . هو أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط ، فبين أنهم أظلم منهم فكيف يدخلون الجنة؟ وعلى الآخرين هو أنه جرى ذكر مشركي العرب في قوله { كذلك قال الذين لا يعلمون } فعقب ذلك بسائر قبائحهم و « من » استفهامية لتقرير النفي أي ليس أحد أظلم ممن منع و { أن يذكر } ثاني مفعوليه لأنك تقول : منعته كذا أو بدل من { مساجد } أو حذف حرف الجر مع أن والتقدير كراهة أن يذكر فيكون مفعولاً له .
وهذا حكم عام لجنس مساجد الله ، وأن مانعها من ذكر الله تعالى مفرط في الظلم ، ولا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً من أظلم ممن آذى الصالحين؟ ومثله { ويل لكل همزة لمزة } [ الهمزة : 1 ] والمنزول فيه الأخنس بن شريق . وينبغي أن يراد بمن منع العموم أيضاً لا الذين منعوا من أولئك النصارى أو المشركين بأعيانهم والسعي في خراب المساجد بانقطاع الذكر أو تخريب البنيان قيل : إن قوله { ومن أظلم } الذي هو في قوة ليس أحد أظلم ليس على عمومه لأن الشرك أعظم من هذا الفعل { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وكذا الزنا وقتل النفس قلت : أما استعمال لفظ الظلم في هذا المعنى في غاية الحسن ، لأن المسجد موضوع لذكر الله تعالى فيه ، فالمانع من ذلك واضع للشيء في غير موضعه .

وأما أنه لا أظلم منه فلأنه إن كان مشركاً فقد جمع مع شركه هذه الخصلة الشنعاء فلا أظلم منه ، وإن كان يدعي الإسلام ففعله مناقض لقوله ، لأن من اعتقد أن لو معبوداً عرف وجوب عبادته له عقلاً أو شرعاً ، والعبادة تستدعي متعبداً لا محالة . فتخريب المتعبد ينبئ عن إنكار العبادة وإنكار العبادة يستلزم إنكار المعبود ، فهذا الشخص لا يكون في الحقيقة مسلماً وإنما هو منخرط في سلك أهل النفاق ، والمنافق كافر أسوأ حالاً من الكافر الأصلي بالاتفاق { أولئك } المانعون { ما كان لهم } أي ما ينبغي لهم { أن يدخلوها } في حال من الأحوال { إلا خائفين } على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها . والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم . وقيل : هذه بشارة للمؤمنين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين من أن يعاقبوا أو يقتلوا إن لم يسلموا . وقد أنجز الله هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر : ألا لا يحجن بعد العام مشرك . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب ، وصار بيت المقدس في أيدي المسلمين . وقيل : يحرم عليهم دخول المسجد إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمحاكمة أو المخاصمة أو المحاجة . وقيل : اللفظ خبر ولكن معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب : 53 ] فمن هنا قال مالك : لا يجوز للكافر دخول المساجد . وخصص الشافعي المنع بالمسجد الحرام لجلالة قدره ومزيد شرفه ، للتصريح بذلك في قوله { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] . وجوز أبو حنيفة دخول المساجد كلها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد ثقيف فأنزلهم المسجد . وأجيب بأنه في أول الإسلام ثم نسخ بالآية { خزي } ذل يمنعهم من المساجد أو بالجزية في حق أهل الذمة وبالسبي والقتل في حق أهل الحرب ، وفيه ردع لهم عن ثباتهم على الكفر . وقيل : الخزي فتح مدائنهم قسطنطينية وعمورية ورومية ، والعذاب العظيم يناسب الظلم العظيم ولنذكر هنا فوائد :
( الأولى ) في بيان فضل المساجد ومن ذاك إضافتها إلى الله في الآية وذلك دليل على شرفها وكذا في قوله { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] بلام الاختصاص { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 18 ] { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } [ النور : 39 ] وقال صلى الله عليه وسلم

« أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها » وليس ذلك إلا لأن المسجد يذكر الحبيب ، والسوق يشغل عنه ، وفي الآية نكتة وهي أن مخرب المساجد لما كان في نهاية الظلم والكفر يلزم أن يكون عامر المساجد في غاية العدل والإيمان .
( الثانية ) في فضل المشي إلى المساجد عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال « من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فيه فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة » وقال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد « دياركم تكتب آثاركم »
( الثالثة ) في تزيين المساجد . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما أمرت بتشييد المساجد » قال ابن عباس : بزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى . التشييد رفع البناء وتطويله ، والزخرفة التزيين والتمويه . وأمر عمر ببناء مسجد فقال : أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس .
( الرابعة ) في تحية المسجد . عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس » وتؤدى التحية بالفرض أو النفل نواها أولا وهذا مذهب الحسن البصري ومكحول والشافعي وأحمد وإسحق . وقيل : يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة ومالك والثوري وأصحاب الرأي .
( الخامسة ) في الدعاء عند الدخول في المسجد والخروج منه . روت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال : « رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي ابواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك » .
( السادسة ) في فضيلة القعود فيه لانتظار الصلاة عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : « الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول : اللهم اغفر له وارحمه ما لم يحدث » .
( السابعة ) في كراهية البيع والشراء فيه ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيها ، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة يعني لمذاكرة العلم ونحوه ، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة ، وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه أيضاً . عن أبي هريرة أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا »

وقد كره بعض السلف المسالة في المسجد ، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد ، وقال معاذ بن جبل : إن المساجد طهرت من خمس : من أن تقام فيها الحدود ، أو يقبض فيها الخراج ، أو ينطق فيها بالأشعار ، أو ينشد فيها الضالة ، أو تتخذ سوقاً . ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأساً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد ، ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد ، وكان الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارجاً من المسجد .
( الثامنة ) النوم في المسجد . عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى . وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع وأنواع الاستراحة في المسجد وجوازها في البيت إلا الانبطاح ، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : « إنها ضجعة يبغضها الله »
( التاسعة ) في كراهة البزاق في المسجد . عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها » وعنه صلى الله عليه وسلم « إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه ، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجله فيدفنه »
( العاشرة ) عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا » وعنه صلى الله عليه وسلم « من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس » .
( الحادية عشرة ) في بناء المساجد في الدور عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب . وفيه دليل أن مجرد تسمية الموضع بالمسجد لا يخرجه عن ملكه ما لم يسبله .
قوله عز من قائل { ولله المشرق والمغرب } الآية ، الأكثرون على أنها نزلت في أمر يختص بالصلاة ، ومنهم من زعم أنها نزلت في أمر لا يختص بالصلاة أما الفرقة الأولى فاختلفوا على وجوه : أحدها : أراد به تحويل المسلمين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فقال : إن المشرق والمغرب وجميع الأطراف مملوكة له سبحانه ومخلوقة له ، فأينما أمركم باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل بجعل الله تعالى ، فكانت الآية مقدمة لما أراد من نسخ القبلة ، وثانيها عن ابن عباس : لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت رداً عليهم . وثالثها قول أبي مسلم : إن كلاً من اليهود والنصارى زعمت أن الجنة لهم وحدهم فرد الله عليهم ، وذلك أن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لاعتقادهم أنه تعالى صعد السماء من الصخرة ، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى ولد هناك

{ إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } [ مريم : 16 ] فكل منهما وصف معبوده بالحلول في الأماكن ، ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق؟ ورابعها : قول قتادة وابن زيد : إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاءوا بهذه الآية ، وكان للمسلمين ذلك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس ، ثم إنه تعالى نسخ ذلك التخيير بتعيين الكعبة . وخامسها أن الآية في حق من يشاهد الكعبة فله الاستقبال من أي جهة شاء . وسادسها : روى عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا ، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية عذراً لنا في خطئنا . وهذا الحديث يدل على أنهم حينئذ قد نقلوا إلى الكعبة ، لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ القبلة . وسابعها : عن ابن عمر نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث توجهت به راحلته ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يومئ برأسه نحو المدينة . فمعنى الآية أينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله ، أي فقد صادفتم رضاه إن الله واسع الفضل عليم بمصالحكم فمن ثم رخص لكم كيلا يلزم ترك النوافل والتخلف عن الرفقة ، فإن النوافل غير محصورة بخلاف الفرائض فإنها محصورة . فتكليف النزول عن الراحلة لاستقبال القبلة لا يفضي فيها إلى الحرج ، ولا يخفى أن الآية على الوجه الأول ناسخة ، وعلى الوجه الرابع منسوخة ، وعلى سائر الوجوه لا ناسخة ولا منسوخة . وأما الفرقة الثانية فاختلفوا أيضاً فقيل : الخطاب في { تولوا } للمانعين والساعين يريد أنهم أين هربوا فإن سلطاني يلحقهم وتدبيري يسبقهم وعلمي محيط بمكانهم . عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم » فنزلت { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم } [ آل عمران : 199 ] الآية . فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية أي الجهات التي يصلي إليها أهل كل ملة لي . فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريد طاعتي وجد ثوابي ، فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبال المشرق كقوله { وما كان الله ليضيع إيمانكم }

[ البقرة : 143 ] وعن الحسن ومجاهد والضحاك : لما نزلت { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] قالوا : أين ندعوه؟ فنزلت ، وعن علي بن عيسى أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فللَّه بلاد المشرق والمغرب والجهات كلها ، ففي أي مكان فعلتم التولية التي أمرتم بها بدليل { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] { فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 144 ] فثم الجهة المأمورة المرضية وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « جعلت لي الأرض مسجداً » وقيل : نزلت في المجتهدين في الصلاة أو في غيرها ، وفيه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد رأياً فهو مصيب . ومعنى تولوا في جميع الوجوه تقبلوا بوجوهكم إليها . ويقال : ولى هارباً أي أدبر ، فالتولية من الأضداد ، ومن جعل الخطاب للمانعين احتمل أن يريد بالتولية الإدبار و { ثم } إشارة إلى المكان خاصة . وقد زعمت المجسمة من الآية أن لله تعالى وجهاً وأيضاً سماه واسعاً ، والسعة من نعوت الأجسام . والجواب أن الآية عليه لا له ، فإن الوجه لو حمل على مفهومه اللغوي لزم خلاف المعقول فإنه إن كان محاذياً للشرقي استحال أن يكون حينئذ محاذياً للغربي ، فلا بد من تأويل هو : أن الإضافة للتشريف مثل « بيت الله » « وناقة الله » لأنه خلقهما وأوجدهما فأي وجه من وجوه العالم وجهاته المضافة إليه بالخلق والتكوين نصبه وعينه فهو قبلة والمراد بالوجه القصد والنية مثل { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } [ الأنعام : 79 ] أو المراد فثم مرضاة الله مثل { إنما نطعمكم لوجه الله } [ الدهر : 9 ] فإن المتقرب إلى رضا أحد شيئاً فشيئاً كالمتوجه إلى شخص ذاهباً إليه شيئاً فشيئاً . و كيف يكون له وجه أو وجهة ، أم كيف يكون جسماً أو جسمانياً وأنه خالق الأمكنة والأحياز والجواهر والأعراض والخالق مقدم على المخلوق تقدماً بالذات والعلية والشرف؟ فالمراد بالسعة كمال الاستيلاء والقدرة والملك وكثرة العطاء والرحمة والإنعام ، وأنه تعالى قادر على الإطلاق وفي توفية ثواب من يقوم بالمأمورات على شرطها ، وتوفية عقاب من يتكاسل فيها ، عليم بمواقع نياتهم فيجازيهم على حسب أعمالهم .
قوله { وقالوا اتخذ الله ولداً } نوع آخر من قبائح أفعال اليهود والنصارى والمشركين جميعاً فقد مر ذكرهم في قوله { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } وفي قوله { ومن أظلم } كما مر . والضمير يصلح للعود إليهم ، فاليهود قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، والمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه له عن ذلك وتبعيد { بل له ما في السموات والأرض } ملكاً وخلقاً وإبداعاً وصنعاً ، ومن جملتهم الملائكة وعزير والمسيح . والولد لا بد أن يكون من جنس الوالد ، ومن أين المناسبة بين واجب الوجود لذاته وممكن الوجود لذاته؟ اللهم إلا في مطلق الوجود ، وذلك لا يقتضي شركة في الحقيقة الخاصة بكل منهما .

وقد يتخذ الولد للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته وذلك على الغني المطلق والقيوم الحق محال { كل له قانتون } التنوين عوض عن محذوف أي كل ما في السموات والأرض والقنوت في الأصل الدوام ثم الطاعة ، أو طول القيام أو السكوت فالمعنى أن دوام الممكنات واستمرارها جميعاً به ولأجله وقيل : عن مجاهد وابن عباس مطيعون فسئل ما للكفار ، فأجاب : أنهم يطيعون يوم القيامة فسئل هذا للمكلفين . وقوله { بل له ما في السموات } يعم المكلف وغيره ، فعدل إلى تفسير آخر قائلاً المراد كونها شاهدة على وجود الخالق بما فيها من آثار القدرة وأمارات الحدوث ، أو كون جميعها في ملكه وتحت قهره لا يمتنع عن تصرفه فيها كيف يشاء . وعلى هذه الوجوه جمع السلامة في { قانتون } للتغليب ، أو يراد كل من الملائكة وعزير والمسيح عابدون له مقرون بربوبيته منكرون لما أضافوا إليهم من الولدية ، وعلى هذا الوجه يجمع على الأصل . يحكى أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لبعض النصارى : لولا تمرد عيسى عن عبادة الله تعالى لصرت على دينه . فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله؟ فقال علي : إن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره؟ وإنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني وبهت { بديع } خبر مبتدأ محذوف أي هو بديع { السموات والأرض } عم أولاً لأن الملكية والاختصاص لا يستلزم كون المالك موجداً للمملوك ، ثم خص ثانياً فقال بديع : بدع الشيء بالضم فهو بديع ، وأبدعته اخترعته لأعلى مثال ، وهذا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه . وقيل : بمعنى المبدع كأليم بمعنى مؤلم وضعف ، ثم إنه تعالى بين كيفية إبداعه فقال : { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } أصل التركيب من « ق ض ى » يدل على القطع . قضى القاضي بهذا إذا فصل الدعوى ، وانقضى الشيء انقطع ، وقضى حاجته قطعها عن المحتاج ، وقضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ، لأن إتمام العمل قطع له ، وقضى دينه أداه لأنه انقطع كل منهما عن صاحبه وضاق الشيء لأنه كأنه مقطوع الأطراف ، والأمر الشأن ، والفعل ههنا ، ومعنى قضى أمراً أتمه أو حكم بأنه يفعله أو أحكمه قال :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
ثم من قرأ { فيكون } بالرفع على تقدير فهو يكون فلا إشكال ، وأما من قرأ بالنصب على أنه جواب الأمر فأورد عليه أن جواب الأمر لا بد أن يخالف الأمر في الفعل أو في الفاعل أو فيهما نحو : اذهب تنتفع ، أو اذهب يذهب زيد ، أو اذهب ينفعك زيد ، فإما أن يتفق الفعلان والفاعلان نحو : اذهب تذهب فغير جائز لأن الشيء لا يكون شرطاً لنفسه .

قلت : لا استبعاد في هذا ، لأن الغرض الذي رتب على الأمر قد يكون شيئاً مغايراً لفعل الأمر وذلك أكثري ، وقد لا يكون الغرض إلا مجرد ذلك الفعل فيوقع في جواب نفسه ليعلم أن الغرض منه ليس شيئاً آخر مغايراً له . فقول القائل « اذهب تذهب أو فتذهب » معناه إعلام أن الغرض من الأمر هو نفس صدور الذهاب عنه لا شيء آخر ، كما أن المقصود في الآية من الأمر بالوجود هو نفس الوجود ، فأوقع « كان » التامة جواباً لمثلها لهذا الغرض ، على أنه يمكن أن يشبه الواقع بعد الأمر بجواب الأمر وإن لم يكن جواباً له من حيث المعنى . فإن قلت : إن قوله { فيكون } لما كان من تتمة المقول . فالصواب أن يكون بتاء الخطاب نحو « اذهب فتذهب » قلت : هذا الحادث قد ذكر مرتين بلفظ الغيبة في قوله { أمراً } وفي قوله { له } ومرة على سبيل الخطاب فغلب جانب الغيبة ، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات تحقيراً لشأنه في سهولة تكونه ، ولأن أول الكلام مع المكلفين فروعي ذلك . وههنا بحث آخر وهو أنه لا يجوز أن يتوقف إيجاد الله تعالى لشيء على صدور لفظة « كن » منه لوجوه : الأول أن قوله { كن } إما أن يكون قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً ، لأن النون لكونه مسبوقاً بالكاف يكون محدثاً لا محالة ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان مقدر يكون محدثاً أيضاً ، ولأن « إذا » للاستقبال فالقضاء محدث ، وقوله « كن » مرتب عليه بفاء التعقيب ، والمتأخر عن المحدث محدث ، ولأن تكون المخلوق مرتب على قوله « كن » بالفاء والمتقدم على المحدث بزمان محصور محدث أيضاً ، ولا جائز أن يكون « كن » محدثاً وإلا احتاج إلى مثله ويلزم إما الدور وإما التسلسل وإذا بطل القسمان بطل توقف الأشياء على « كن » ( الثاني ) إما أن يخاطب المخلوق ب « كن » قبل دخوله في الوجود وخطاب المعدوم سفه ، وإما بعد دخوله في الوجود لا فائدة فيه . ( الثالث ) المخلوق قد يكون جماداً وتكليف الجماد لا يليق بالحكمة . ( الرابع ) إذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن قوله { كن } فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إلى { كن } ، وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب { كن } فيلزم عجز القادر بالنظر إلى ذاته ، أو يرجع الحاصل إلى تسمية القدرة ب { كن } ولا نزاع في اللفظ . ( الخامس ) أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها وكذا إذا تكلم بها غيرنا . ( السادس ) المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين ، فعند مجيء الثاني ينقضي الأول ، وإما أحدهما وهذا خلاف المفروض فثبت بهذه الوجوه أن حمل الآية على الظاهر غير جائز فلا بد من تأويل ، وأصحه أن يقال : المراد أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، فشبه حال هذا المتكون بحال المأمور المطيع الذي يؤمر فيتمثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يأبى ، وفيه تأكيد لاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها وقيل : إنه علامة وضعها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، عن أبي الهزيل .

وقيل إنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كونوا قردة ومن يجري مجراهم من الأمم . وقيل : أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة { وقال الذين لا يعلمون } يعني الجهلة من المشركين . وقيل : من أهل الكتاب أيضاً . ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به . فالآية الأولى فيها بيان قدحهم في التوحيد ، وهذه الآية فيها بيان قدحهم في النبوة . ولولا حرف تحضيض أي هلا يكلمنا وتقرير الشبهة أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء اختار أقرب الطربق المؤدية إلى المطلوب ، ثم إنه تعالى كلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة؟ فإن لم يفعل ذلك فلم لا تأتي بآية ومعجزة؟ وهذا طعن منهم في كون القرآن آية ومعجزة فأجابهم الله تعالى بقوله { كذلك قال الذين من قبلهم } من مكذبي الرسل { تشابهت قلوبهم } أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله { أتواصوا به } [ الذاريات : 53 ] فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت واقتراح الأباطيل { لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 61 ] { أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] فكذلك هؤلاء المشركون { قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [ الفرقان : 21 ] وكذلك المعاصرون من اليهود والنصارى { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] { قد بينا الآيات لقوم } يفقهون ف { يوقنون } أنها آيات . فلو كان غرضهم طلب الحق لوقع الاكتفاء بها لكونها آيات ظاهرة هي القرآن العظيم الذي أخرس شقاشق الفصحاء عن آخرهم ، ومعجزات باهرة كمجيء الشجرة وحنين الجذع وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وأيضاً لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال ما اقترحوه لفعلها ، لكنه علم لجاجهم وعنادهم فلا جرم لم يفعل ذلك وأيضاً ، لعل في تلك الآيات مفاسد لا يعلمها إلا علام الغيوب كإفضائها إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف ، وكإيجابها استئصاهم بالكلية إذا استمروا على التكذيب ، وكخروجها عن القدر الصالح لإلزام الحجة ، وأيضاً كثرة الآيات وتعاقبها ينافي كونها خوارق لعادة فلا تبقى آيات ، وكل ما أدى وجوده إلى عدمه ففرض وجوده محال ، فثبت بهذه البيانات أن عدم إسعافهم بما اقترحوه لا يقدح في صحة النبوة والله أعلم .

التأويل : مساجد الله التي يذكر فيها أساميها عند أهل النظر ، النفس والقلب والروح ، والسر والخفي - وهو سر السر - وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد . فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات ، وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات ، كما أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك كل الشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة . وذكر مسجد الروح الشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات ، وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات والقربات ، وذكر مسجد الخفي بذل الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات { أولئك ما كان لهم } أن يدخلوا هذه المشاهد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب { لهم في الدنيا خزي } من ذل الحجاب { ولهم في الآخرة عذاب } الحرمان من جوار الله . { ولله المشرق والمغرب } القلوب مشارق شموس المعارف ومغاربها ، والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق ، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق بظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى ، وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود ، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة ، فإذا تحلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال ، وإذا استولى سلطان الحقيقة على ممالك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود ، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمة ولا الضياء ، إذ ليس عند الله صباح ولا مساء . وتلاشي العبدية في كعبة العندية ، وتودوا بفناء الفناء من عالم البقاء ، رفعت القبلة وما بقي إلا الله { فأينما تولوا فثم وجه الله } { إن الله واسع } يوسع قلب من يشاء من عباده ليسعه { عليم } بتوسيع القلب لسعته بلا كيف وحيف كما قال لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن والله أعلم .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

القراآت : { ولا تسئل } على النهي : نافع ويعقوب . الباقون بضم التاء ورفع اللام على الخبر .
الوقوف : { ونذيراً } ( لا ) للعطف أي نذيراً وغير مسؤول إلا لمن قرأ { ولا تسئل } على النهي لاختلاف الجملتين { الجحيم } ( 5 ) { ملتهم } ( ط ) { الهدى } ( ط ) { من العلم } ( لا ) لأن نفي الولاية والنصرة يتعلق بشرط اتباع أهوائهم فكان في الإطلاق حظر { نصير } ( 5 ) { تلاوته } ( ط ) لأن ما بعدها مبتدأ آخر مع خبره . وعندي أن الأصوب عدم الوقف لتكون الجملة أعني يتلونه حالاً من مفعول آتينا أو من فاعله مقدرة وقوله { أولئك يؤمنون به } الجملة خبر « الذين » لأن الإخبار عن أهل الكتاب مطلقاً بأنهم يتلونه حق تلاوته لا يصح ، اللهم إلا أن يحمل الكتاب على القرآن كما يجيء { يؤمنون به } ( ط ) للابتداء بالشرط { الخاسرون } ( 5 ) { العالمين } ( 5 ) { ينصرون } ( 5 ) .
التفسير : لما بين غاية إصرارهم على العناد وتصميمهم على الكفر بعد نزول ما يكفي في باب الاقتداء والاهتداء من الآيات البينات ، أراد أن يسلي ويسري عن رسوله لئلا يضيق صدره فقال إنا أرسلناك يا محمد بالحق . والصواب حسب ما تقتضيه الحكمة وهو أن لا يكون لك أن تجبرهم على الإيمان بل لا يتجاوز حالك عن أن تكون بشيراً لمن اتبعك بكل خبر ونذيراً لمن خالفك بكل سوء { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] فإنك غير مسؤول عن أصحاب الجحيم وهو من أسماء النار ، وكل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم من قوله تعالى { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } [ الصافات : 97 ] والجاحم المكان الشديد الحر ، وهذا كقوله { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } [ الرعد : 40 ] وأما قراءة النهي فيروى أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواي فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله . وفي هذه الرواية بُعْدٌ ، لأن سياق الكلام ينبو عن ذلك ، ولأنه صلى الله عليه وسلم مع علمه الإجمالي بحال الكفار ، كيف يتمنى ذلك؟ والأقرب أن معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من المحن كما إذا سألت عمن وقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه ، فكان المسؤول يحرج أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته ، أو يرى أنك لا تقدر على استماع خبره لأنه يورث الوحشة والضجر . وقوله { ولن ترضى } فيه إقناط لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم وأن القوم قد بلغوا من التصميم على ما هم فيه إلى حد لا يقنعون بالكفاف ولا يرضون رأساً برأس ، بل يريدون منك عكس ما تطمع منهم زاعمين أن ملتهم التي حان نسخها هي الهدى { قل إن هدى الله } الذي هو الإسلام { هو الهدى } الحق ليس وراءه هدى لأنه ناسخ للأديان كلها { ولو اتبعت أهواءهم } مشتهياتهم وآراءهم الباطلة المنسوخة { بعد الذي جاءك من العلم } بأمر الديانة لوضوح البراهين وسطوع الدلائل { ما لك من الله } من عقابه وسخطه { من ولي } معين يعصمك { ولا نصير } يذب عنك .

قال أهل البرهان إنما لم يقل في هذه الآية { بعدما جاءك من العلم } كما قال في آية القبلة على ما يجيء ، لأن العلم في الآية الأولى علم كامل ليس وراءه علم وهو العلم بالله وبصفاته وأن الهدى هدى الله ، فكأن لفظ « الذي » أليق لأنه في التعريف أبلغ ، فإن « الذي » يعرفه صلته ولا يتنكر قط ، ويلزمه الألف واللام . بخلاف ما فإنه نكرة ولا يدخله الألف واللام وخصت آية القبلة « بما » و « من » التي لابتداء الغاية ، لأن المراد هناك قليل من كثير العلم وهو العلم بالقبلة وليس الأول موقتاً بوقت أعني العلم بالله وبصفاته - فلم يحتج إلى زيادة من التوقيتية ، وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران { من بعدما جاءك من العلم } [ آل عمران : 61 ] فلهذا جاء بلفظ « ما » وزاد لفظة « من » وأما في سورة الرعد فإنه { ولو اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم } [ الرعد : 37 ] لأن العلم فيها هو الحكم العربي أي القرآن ، فكأن بعضاً من الأول وهو العلم بالله وبصفاته فجاء لفظ « ما » ولم يزد لفظ « من » التوقيتية لأنه غير موقت والله أعلم بأسرار كلامه . وفي الآية دليل على بطلان التقليد فيما إلى تحقيقه سبيل حتى لا يكون اتباع الهوى ، وفيها أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة على العلم بالمأمور به لقوله { بعدما جاءك من العلم } فلأن لا يجوز التوعد إلا بعد القدرة على المأمور به كان أولى ، فبطل القول بتكليف ما لا يطاق . وفيها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله ونظيره وقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] وإنما يحسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هو أحد صوارفه ، ولأن فيه زجراً شديداً لأمته لأنهم إذا علموا مآل حال النبي صلى الله عليه وسلم لو فرض منه اتباع أهوائهم مع ما ورد في حقه { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] ولم يبق لهم طمع في الخلاص لو وجد منهم ذلك { الذين آتيناهم الكتاب } قيل : إنهم المؤمنون الذين آتاهم القرآن ، لأن الكتاب الذي يمدح على تلاوته هو القرآن . والأصح أنه لما قدم ذكر المعاندين من أهل الكتاب أراد أن يذكر مؤمنيهم . ومعنى يتلونه حق تلاوته لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يتبعون مقتضاه من غير تكاسل ومنع متمسكين بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما ، أو يخضعون عند تلاوته ويخشعون ، أو يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، أولئك يؤمنون بكتابهم دون من ليس على حالهم ممن لا يتلو الكتاب حق تلاوته كما يستحق أن يتلى { ومن يكفر به } من المحرفين أو من الواضعين من حقه { فأولئك هم الخاسرون } حيث لم ينتفعوا بما يحق أن ينتفع به ويغتنم وروده فرجعوا منه بخفي حنين وفازوا بكل حين . { يا بني إسرائيل } الآيتان رجوع إلى أول القصة تذكيراً للنعم بعد تعداد مواجب النقم ليتنبه منهم من وفق للتنبه والله المستعان .
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

القراآت : { إبراهام } بالألف في البقرة والنساء إلا { فقد آتينا آل إبراهيم } وفي الأنعام { ملة إبراهام } وفي جميع براءة إلا { وقوم إبراهيم } وفي إبراهيم { وإذ قال إبراهام } وفي النحل ومريم والعنكبوت { ولما جاءت رسلنا إبراهام } خاصة وفي « حم عَسَقَ » وجميع المفصل وإلا قوله في المودة { إلا قول إبراهيم } وفي الأعلى { صحف إبراهيم } هشام وابن ذكوان وروى ابن مجاهد في هذه السورة فقط . ( واعلم ) أن ذكر إبراهيم في القرآن تسعة وستون موضعاً منها ثلاثة وثلاثون « إبراهام » بالألف في قراءة ابن عامر عن ابن ذكوان ، وستة وثلاثون « إبراهيم » بالياء ، والعلة في ذلك اتباع مصحفهم . فما كتب بالألف قرئ بالألف ، وما كتب بالياء قرئ بالياء ، والاختيار عند الأئمة أن يقرأ ههنا بالألف لبيان المذهب والبواقي بالياء ، لأنه أحسن في اللفظ وأشهر ، ويوافقه سائر الأسماء الأعجمية كإسرائيل وإسرافيل وإسماعيل { عهدي } مرسلة الياء : حمزة وحفص { وإذ جعلنا } وبابه مدغمة الذال في الجيم : أبو عمرو وهشام { بيتي } بالفتح : أبو جعفر ونافع . وحفص وهشام { واتخذوا } بفتح الخاء : نافع وابن عامر الباقون بالكسر { فأمتعه } خفيفاً ابن عامر . الباقون بالتشديد .
الوقوف : { فأتمهن } ( ط ) { إماماً } ( ط ) { ذريتي } ( ط ) { الظالمين } ( 5 ) { وأمنا } ( ط ) لمن قرأ { واتخذوا } بالكسر لاعتراض الأمر بين ماضيين { مصلى } ( ط ) كذلك ومن فتح الخاء نسق الأفعال الثلاثة فلا وقف { السجود } ( 5 ) { واليوم الآخر } ( ط ) { عذاب النار } ( ط ) لأن « نعم » و « بئس » للمبالغة في المدح والذم فيبتدئ بهما تنبيهاً على المدح والذم { المصير } ( 5 ) .
التفسير : إنه تعالى لما استقصى في شرح نعمه على بني إسرائيل والمشركين ومقابلتهم النعمة بالكفران والعناد ، شرع في نوع آخر من البيان وهو ذكر قصة إبراهيم عليه السلام لأن كلهم معترفون بفضله وأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخدام بيته ، وفي قصته أمور توجب الاعتراف بدين محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه منها : أنه أمر ببعض التكاليف ثم وفى بها فنال منصب الاقتداء به ، فيعلم أن الخيرات كلها لا تحصل إلا بترك التمرد والانقياد لحكم الله والتزام تكاليفه ، ومنها أنه طلب الإمامة لذريته فقيل له { لا ينال عهدي الظالمين } فيعرف أن طالب الحق يجب أن يترك التعصب والمراء ووضع ما رفعه الله لينال رياسة الدارين ، ومنها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فأريد إزالة غيظهم بأن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي اعترفوا بتعظيمه والاقتداء به ، ومنها أنه دعا بإرسال نبي من ذريته وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما يجيء فيجب على من يعترف بإبراهيم أن يعترف بمحمد صلى الله عليه وسلم . أما قوله { وإذ ابتلى } العامل في « إذ » إما مضمر نحو « واذكر » وتكون بمعنى الوقت فقط ، أو وإذ ابتلى كان كيت وكيت ، وإما { قال إني جاعلك للناس إماماً } وعلى هذين التقديرين تكون ظرفاً لكان أو قال .

وموقع « قال » على الأولين استئناف كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فأجيب { قال إني جاعلك } وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها من الآيات ولا يخفى أن الاستئناف أصوب ليناسب سياق الجملتين الآتيتين لورودهما أيضاً على طريقة السؤال المقدر والجواب ، وليكون على منهاج { وإذا جعلنا } { وإذا قال إبراهيم } { وإذ يرفع } [ البقرة : 127 ] والابتلاء الاختبار والامتحان ، عبر تكليفه إياه بالبلوى تشبيهاً لأمره بأمر المخلوقين وبناء على العرف بيننا ، فإن كثيراً منا قد يأمر ليعرف ما يكون من المأمور حينئذ وإلا فكيف يجوز حقيقة الابتلاء عليه تعالى مع أنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقيل : مجاز عن تمكينه العبد من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله وما يشتهيه هو كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك . واعلم أن هشام بن الحكم ومن تابعه زعم أنه تعالى كان في الأزل عالماً بحقائق الأشياء وماهياتها فقط ، وأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها بدليل هذه الآية وأمثالها المذكور فيها الابتلاء . وكلمة « لعل » والجواب عنها ما مر ، وقد يستدل أيضاً على مذهبه بوجوه معقولة منها أنه تعالى لو كان عالماً بالأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق ، لأن ما علم الله وقوعه استحال أن لا يقع ، وما علم أنه لا يقع استحال أن يقع ولا قدرة على الواجب وعلى الممتنع بالاتفاق ، والجواب أن الوجوب بالغير وكذا الامتناع بالغير لا ينافيان قدرة القادر عليه ، وإنما المنافي للقدرة عليه كونه واجباً لذاته أو ممتنعاً لذاته ، ومنها أنه لو كان عالماً بجميع الجزئيات لكان له علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية ، فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال ، لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منها ، فالناقص متناه وكذا الزائد . ونوقض بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها ، وأيضاً المجموعية والزيادة والنقصان كلها من خواص المتناهي ، فأما الذي لا نهاية له ففرض هذه الأعراض فيه محال . ومنها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها مفضلة أو لا يعلم؟ فإن علم عددها فهي متناهية ، وإن لم يعلم فهو المطلوب . والجواب الاختيار أنه لا يعلم عددها ، ولا يلزم الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم إن الله لا يعلم عددها ، فأما إذا لم يكن لها عدد في نفسها فلا جهل ومنها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه ، وكل متميز عما عداه خارج عنه ، وكل ما خرج عنه غيره فهو متناه ، وكل معلوم متناه فما هو غير متناه استحال أن يكون معلوماً .

والجواب أنه ليس من شرط المعلوم تميزه من غيره عند العالم ، لأن العلم بتميزه عن غيره موقوف على العلم بذلك الغير ، ويلزم منه أن لا يعلم الإنسان شيئاً إلا إذا علم أموراً لا نهاية لها . والحق أن نور الأنوار لا يتناهى ووراء لا يتناهى ، ما لا يتناهى ، وإحاطة غير المتناهي بغير المتناهي غير بعيد وقد يتعلق علمنا بكثير من الأشياء قبل حصولها ، فإذا كان علمنا مع تناهي قوتنا ونوريتنا . هكذا فما ظنك بالعليم الخبير الذي هو نور النور ومدبر الأمور وكل عسير عليه يسير؟ { إبراهيم } بالنصب { ربه } بالرفع هو المشهور وهذه الصورة مما يجب فيه تأخير الفاعل وإزالته عن مركزه الأصلي ، فإنه لو قدم الفاعل وقد اتصل به ضمير المفعول لزم الإضمار قبل الذكر لفظاً ، وعن ابن عباس وأبي حنيفة رفع { إبراهيم } ونصب { ربه } فالمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيب الله تعالى إليهن أم لا؟ واختلف المفسرون في أن ظاهر لفظ التنزيل هل يدل على تلك الكلمات أم لا؟ فقال بعضهم : اللفظ يدل عليها وهي الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم ، فكل هذه تكاليف شاقة ، أما الإمامة فلأن المراد بها النبوة ، وأعباؤها أكثر من أن تحصى ، ولهذا فإن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره ، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدة البلوى فيه . ثم إنه يتضمن إقامة المناسك ، وقد امتحن الله الخليل بالشيطان في الموقف كرمي الجمار وغيره . وأما الاشتغال بالدعاء ببعث نبي آخر الزمان فيحتاج فيه إلى الإخلاص وإزالة الحسد عن القلب وذلك في غاية الصعوبة . واعترض على هذا القول بأن المراد من الكلمات لو كانت هذه لناسب أن يذكر قوله { فأتمهن } بعد تعداد الجميع . وأجيب بأنه أخبر أنه ابتلاه بكلمات على الإجمال ثم أخبر أنه أتمها ثم فصل تلك الأمور ، وهذا ترتيب في غاية الحسن ، إذ لو ذكر { فأتمهن } بعد هذا التفصيل لوقع ضائعاً ولانقطع النظم . والقائلون بأن ظاهر الآية لا دلالة فيه على الكلمات زعم بعضهم أنها الكلمات التي تكلم بها إبراهيم مع قومه وقت تبليغ الرسالة ، وزعم بعضهم أنها أوامر ونواهٍ . فعن ابن عباس هي عشر خصال كانت فريضة في شرعه وهي عندنا سنة : خمس في الرأس : المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك ، وخمس في الجسد : الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء .

وقيل : ابتلاه الله تعالى من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً ، عشرة في براءة { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] الآية وعشرة في الأحزاب { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] وعشرة في « المؤمنين » « وسأل سائل » إلى قوله { والذين هم على صلاتهم يحافظون } [ المعارج : 34 ] وقيل : هن مناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام والوقوف بعرفة . وقيل : ابتلاه بسبعة أشياء : بالكواكب والقمر والشمس والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة ، فوفى بالكل { وإبراهيم الذي وفى } [ النجم : 34 ] وقيل : ما ذكره في قوله { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وقيل : المناظرات التي جرت بينه وبين أبيه ونمروذ وقومه ، والصلاة والزكاة والصوم ، وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها . وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كل ما في فعله كلفة ، واللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء وكلاً منها إلا أن الكلام في الرواية ، ثم قيل : إن هذا الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى نبه على أن قيامه بهن كالسبب لأن جعله إماماً . وقيل : إنه بعد النبوة لأنه لم يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي . والحق أن هذا يختلف باختلاف تفسير التكاليف ، فمنها ما يعلم بالضرورة كونها قبل النبوة كحديث الكوكب والشمس والقمر ، ومنها ما ثبت أنه كان بعد النبوة كذبح الولد والهجرة والنار ، وكذا الختان فإنه يروى أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين ، ومنها ما هو بصدد الاحتمال فقد يمكن أن يكون إلى معرفته سبيل سوى الوحي كمنام أو إلهام . والضمير في « أتمهن » على القراءة المشهورة لإبراهيم عليه السلام بمعنى فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ وفي الأخرى لله تعالى أي فأعطاه ما طلبه ولم ينقص منه شيئاً ، ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله { رب اجعل هذا بلداً آمناً } { واجعلنا مسلمين لك } [ البقرة : 128 ] { وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] { ربنا تقبل منا } [ البقرة : 127 ] والإمام اسم لمن يؤتم به « فعال » بمعنى « مفعول » كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينهم . والأكثرون على أن الإمام ههنا النبي لأنه جعله إماماً لكل الناس ، فلو لم يكن مستقلاً بشرع كان تابعاً لرسول ويبطل العموم ولأن إطلاق الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، والذي يكون كذلك لا بد أن يكون نبياً ، ولأن الله تعالى سماه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجلّ مراتب الإمامة كقوله { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [ السجدة : 24 ] لا على من هو دونه ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة والقاضي والفقيه وإمام الصلاة ، ولقد أنجز الله تعالى هذا الوعد فعظمه في عيون أهل الأديان كلها ، وقد اقتدى به من بعده من الأنبياء في أصول مللهم { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً }

[ النحل : 123 ] وكفى به فضلاً أن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقولون في صلاتهم « اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم » ثم القائلون بأن الإمام لا يصير إماماً إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية وأمثالها من نحو { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] { يا داود إنا جعلناك خليفة } [ ص : 26 ] ومنع بأن الإمام يراد به ههنا النبي سلمنا أن المراد به مطلق الإمام لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه ، إنما النزاع في أنه لا طريق للإمامة سوى النص ، ولا دلالة في الآية على ذلك وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان معصوماً عن جميع الذنوب ، لأنه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به وذلك يؤدي إلى كون الفعل الواحد ممنوعاً منه مندوباً إليه وذلك محال . والذرية نسل الثقلين من ذرأ الله الخلق ذرأ خلقهم إلا أن العرب تركت همزها كما في البرية ، ويحتمل أن يكون منسوباً إلى الذر صغار النمل ، والضم من تغيير النسب كالدهري في النسبة إلى دهر { ومن ذريتي } عطف على الكاف كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي كما يقال « سأكرمك فتقول وزيداً » ولا يخفى أن « من » التبعيضية تدل على أنه طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بأن كلهم قد لا يليق بذلك لأن ناساً غير محصورين لا يخلو من ظالم فيهم غالباً ، ولعلمه بأن بعضهم يليق بها كإسماعيل وإسحق . وقد حقق الله تعالى أمله فجعل في أولاده وأحفاده كإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ثم محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأشرفهم ، ولأنه لم يطلب الإمامة إلا للبعض فكان يكفي في الجواب نعم إلا أنه لم يكن حينئذ نصاً في أن ذلك البعض من المؤمنين أم من الظالمين . ولو قال « ينال عهدي المؤمنين » كان غاية ذلك خروج الظالمين بالمفهوم لا بالنص ، فلمكان التنصيص على إخراج الظالم قال { لا ينال عهدي الظالمين } والمراد بالعهد هو الإمامة المطلوبة ، سميت عهداً لاشتمالها على كل عهد عهد به الله تعالى إلى بنى آدم إذ لا رياسة أعظم من ذلك كقوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } [ طه : 115 ] { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } [ الأحزاب : 7 ] وإذا خرج الظالم تعين الصالح للإمامة بطريق برهاني . وذلك أن دعاءه مستجاب ألبتة فكل نبي مجاب ، ولأنه لو لم يكن الصالح إماماً لم يكن لإخراج الظالم وتخصيصه بالذكر معنى . ويحتمل أن يقال : إنه أراد الإمامة لأولاده المؤمنين لا محالة لعلمه بأن الكفرة والظلمة لا تصلح لذلك ، فأجيب بما أجيب إسعافاً لطلبته بأبلغ معنى وأتمه كما إذا قيل لمن أشرف « أوص لابنك بشيء » فيقول : لا يرث مني أجنبي أي كل ما يبقى مني فهو لابني ، فكيف أوصي له بشيء؟ ولا يرد أن يونس نال عهده مع أنه ظالم

{ سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] لأن الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] لا على الكفر والفسق . وقد يستدل الإمامية على إبطال غير إمامة علي كرم الله وجهه قالوا : إنهم كانوا مشركين قبل الإسلام بالاتفاق ، وكل مشرك ظالم { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وكل ظالم فإنه لا ينال عهد الإمامة قالوا : لا يقال إنهم كانوا ظالمين حال كفرهم ، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول : الظالم من ثبت له الظلم ، وهذا المعنى صادق عليه دائماً ولهذا يسمى النائم مؤمناً لأنه ثبت له الإيمان وإن لم يكن التصديق حاصلاً حال النوم ، وأيضاً المتكلم والماشي حقيقة في مفهومهما مع أن أجزاء التكلم والمشي لا توجد دفعة ، فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطاً لكون الاسم المشتق حقيقة . وعورض بأنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث ، وبأن التائب عن المعصية لا يسمى عاصياً فكذا التائب عن الكفر ، وإن قيل : لعل هذا المانع شرعي هو تعظيم الصحابة أو لمانع عرفي فهذا القدر يكفينا على أنا بينا أن المراد من الإمامة في الآية النبوة ، فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة وكذا الفاسق حال الفسق لا يجوز عقد الإمامة له باتفاق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين ، فإن كل عاصٍ ظالم . والعبرة بالعدالة الظاهرة فنحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر خلافاً للشيعة فإنهم يقولون بوجوب العصمة ظاهراً وباطناً ، ومما يدل على بطلان إمامة الفاسق أن العهد في كتاب الله تعالى قد يستعمل بمعنى الأمر { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [ يس : 60 ] أي ألم آمركم؟ لكن المراد في الآية لا يمكن أن يكون ذلك فإن أوامره تعالى لازمة للظالمين كما للمطيعين ، فثبت أن المراد كونهم غير مؤتمنين على أوامر الله وغير مقتدى بهم فيها قال صلى الله عليه وسلم « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » فالفاسق لا ينبغي أن يكون حاكماً ولا تنفذ أحكامه إذا ولي الحكم ، ولا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فتياه إذا أفتى ، ولا يقدم للصلاة وإن كان بحيث لو اقتدى به لم تفسد صلاته . قال أبو بكر الرازي : ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضياً ، وهذا خطأ عظيم . نعم أنه قال : القاضي إذا كان عدلاً في نفسه وتولى القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة ، لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه .

وليس من شرط أعوان القاضي أن يكون عدولاً ، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه كان قضاؤه نافذاً وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان؟ قال : وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على قضائه وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطاً ، فلما خيف عليه قال له الفقهاء : اقبل له شيئاً من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب ، فتولى له عد أحمال التبن التي تدخل عليه فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور المدينة ، وذلك أنه كان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت ، وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة ، وحمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه ، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن . وفي الآية إنذار بليغ وتخويف شديد عن وخامة عاقبة الظلم وقبح موقعه فإنه يحط أولاً عن رتبة النبوة { لا ينال عهدي الظالمين } وثانياً عن درجة الولاية { ألا لعنة الله على الظالمين } [ هود : 18 ] وثالثاً عن مرتبة السلطنة « بيت الظالم خراب ولو بعد حين » ، ورابعاً عن نظر الخلائق « جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها » وخامساً عن حظ نفسه { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [ البقرة : 57 ] ولله در القائل :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً ... فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم
ولآخر :
مرتع ظلم الورى وخيم ... يا صاحب اللب والحجاره
لا تظلم الناس واخش ناراً ... وقودها الناس والحجاره
غيره :
أيحسب الظالم في ظلمه ... أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملوا بل لهم موعد ... لن يجدوا من دونه موئلا
غيره :
أتلعب بالدعاء وتزدريه ... وما يدريك ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاء
واعلم أن عهد الله الذي أخذ على عباده هو بالحقيقة عهد العبودية { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] والعهد الذي التزمه لعباده هو عهد الربوبية { ربكم ورب آبائكم الأولين } [ الشعراء : 26 ] ثم إنه تعالى لا يزال يلاحظك بنظر الربوبية فيربيك ويربيك وبعد نعمة الوجود يعطيك نعم الصحة المكنة والعافية والسلامة والإيمان والأمان والإخوان والأخدان { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وأنك لا تنفك عن تقصير ونسيان وجهل وعدوان وإيذاء لملائكة الله وعبيده وإرضاء لحزب الشيطان وجنوده .

فيا أيها المغرور ما هذا التقصير فإن لله المصير وما للظالمين من نصير .
قوله { وإذ جعلنا البيت } تقرير تكليف آخر . والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا وهذا من الأسماء التي كانت في الأصل للجنس ، ثم كثر استعماله في واحد من ذلك الجنس لخصلة مختصة به من بين سائر الأفراد حتى صار علماً له . ولا بد أن يكون وقت استعماله لذلك الواحد قبل العلمية مع لام العهد ليفيد الاختصاص به ويسمى بالعلم الاتفاقى ، وإنما لزمت اللام في مثله لأنه لم يصر علماً إلا مع اللام فصارت كبعض حروفه ، إلا أنه تعالى لم يرد بالبيت نفس الكعبة فقط بل جميع الحرم لأن حكم الأمن يشمل الكل . وصح هذا الإطلاق لأن الحرمة نشأت بسبب الكعبة نفسها ومثله قوله تعالى { هدياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] والمراد الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام . وقوله { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] والمراد - والله أعلم - منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، ويحتمل أن يكون المراد جعلنا البيت سبب الأمن ، وعلى هذا يكون البيت نفس الكعبة ، وعلى الأول يكون معنى { أمناً } موضع أمن كقوله { حرماً آمناً } [ القصص : 57 ] والمثابة المباءة والمرجع قيل : إن مثاباً ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة . وقيل : التاء للمبالغة كعلامة . عن الحسن : أي يثوبون إليه في كل عام . وعن ابن عباس ومجاهد : لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه وذلك لدعاء إبراهيم عليه السلام { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } [ إبراهيم : 37 ] وقيل : مثابة أي يحجون فيثابون عليه . وكون البيت مثابة إنما يكون بجعل الله تعالى بناء على أن فعل العبد مخلوق لله ، أو بأن الله تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وذلك لمنافع دينية ودنيوية ، قال صلى الله عليه وسلم « من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه » وقال : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » ثم إن قطان الخافقين يجتمعون هناك للتجارات وضروب المكاسب فيعظم فيه النفع لمن أراد ولا شك أن قوله { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } [ البقرة : 125 ] خبر فتارة تتركه على ظاهره وتقول إنه خبر بأن يكون { حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] لا أن يكون إخباراً عن عدم وقوع القتل فيه أصلاً ، فإن الموجود بخلافه فقد يقع القتل الحرام وكذا المباح قال تعالى { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] وتارة تصرفه عن ظاهره وتقول . إنه أمر بأن يجعلوا ذلك الموضع أمناً من الغارة والقتل قال صلى الله عليه وسلم

« إن الله حرم مكة وإنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار » وقد عادت حرمتها كما كانت ، فذهب الشافعي إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد أن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما من دخل البيت من الذين وجبت عليهم الحدود فقال الشافعي : إن الإمام يأمر بالضيق عليه بما يؤدي إلى خروجه ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل ، فإن لم يخرج جاز قتله فيه ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه . وعند أبي حنيفة لا يستوفى قصاص النفس في الحرم إلا أن ينشئ القتل فيه ، ولكن يضيق الأمر عليه ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل وسلم أن يستوفى منه قصاص الطرف . وعند أحمد : لا يستوفى من الملتجئ واحد من القصاصين ، ولو التجأ إلى المسجد الحرام قال الإمام : أو مسجد آخر يخرج منه ويقتل لأنه تأخير يسير ، وفيه صيانة المسجد وحفظ حرمته . وقيل : تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلاً لتوفية الحق { واتخذوا } بفتح الخاء معطوف على { جعلنا } أي اتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، وعلى هذا المراد بالمصلى القبلة . وأما من قرأ بالكسر على الأمر فعلى إرادة القول أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه استحباباً لا وجوباً . وفي مقام إبراهيم أقوال . فعن الحسن وقتادة والربيع بن أنس : أنه لما جاء إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل ، لأن سارة شرطت عليه أن لا ينزل غيرة على هاجر فجاءته بحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه . وعن ابن عباس : أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ، فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على حجر فغاصت فيه قدماه . وقيل : إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند الأذان بالحج . قال القفال : ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام قام على هذا الحجر في هذه الأمور كلها . وعن مجاهد : مقام إبراهيم الحرم كله ، فعلى هذا يراد بالمصلى المدعى من الصلاة بمعنى الدعاء . وعن عطاء : مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار لأنه قام في هذه المواضع ودعا بها ، والقول بأن مقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه أولى ، لأن هذا الاسم في العرب مختص بذلك الموضع يعرفه المكي وغيره ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجله وذلك من أظهر الدلائل على صنع الله تعالى وإعجاز إبراهيم ، وكان أشد اختصاصاً به ، فإطلاق مقام إبراهيم عليه أولى ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال : هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى؟ فقال : لم أؤمر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت .

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } « ومن » هذه تجريدية على نحو « رأيت منك أسداً » و « وهب الله لي منك ولياً مشفقاً » ففيه بيان المتخذ والمرئي والموهوب وتمييزه في ذلك المعنى عن غيره . ولا ريب أن للصلاة به فضلاً علىغيره من حيث التيمن والتبرك بموطئ قدم إبراهيم عليه السلام ، وركعتا الطواف خلف المقام ثم في الحجر ثم في المسجد أي مسجد كان حيث شاء متى شاء ليلاً أو نهاراً سنة عند الشافعي في أصح قوليه بعد الفراغ من الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين قال هل علي غيرها؟ قال : لا إلا أن تطوع ، وفي قوله الآخر فرض لظاهر قوله { واتخذوا } والأمر للوجوب ، والرواية عن أبي حنيفة أيضاً مختلفة ، { وعهدنا } المراد بالعهد هنا الأمر أي ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمراً ووثقنا عليهما فيه أن طهرا إن كانت « أن » مخففة فالتقدير بأن طهرا وإن كانت مفسرة فمعناه أي طهراً والمراد التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت ، أما من الأنجاس والأقذار فلأن موضع البيت وحواليه مصلى ، وأما من الشرك ومظانه فلأنه مقام العبادة والإخلاص وكل هذه إما أن لا تكون موجودة هناك أصلاً والمراد أقراه على طهارته مثل { ولهم فيها أزواج مطهرة } [ البقرة : 25 ] فمعلوم أنهن لم يطهرن بل خلقن طاهرات ، وإما أن تكون موجودة فأمر بإزالتها . وقيل : عرّفا الناس أن بيتي طهر لهم متى حجوه للطائفين إلى آخره . العطف يقتضي مغايرة ، فالطائف من يقصد البيت حاجاً ومعتمراً فيطوف به ، والعاكف من يقيم هناك . ويجاور أو يعتكف ، والركع السجود جمعاً راكع وساجد أي من يصلي هناك ، وعن عطاء ، إذا كان طائفاً فهو من الطائفين ، وإذ كان جالساً فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود . ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين كما قال { للطائفين والقائمين والركع السجود } [ الحج : 26 ] والمعنى للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود هيئات للمصلي ، ولعل الوجه الأول أولى ليكون الركع والسجود كلاهما فقط بمعنى المصلين ولهذا لم يفصل بينهما بالواو . ثم إذا فسرنا الطائعين بالغرباء دلت الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ، لأنه تعالى مدحهم بذلك . وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل ، والصلاة لأهل مكة أفضل .

وفي إطلاق الآية دليل على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أو نفلاً خلافاً لأحمد ومالك في الفريضة قالا { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] ومن كان داخل المسجد لم يكن متوجهاً إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه ، وأجيب بأن التوجه إلى جزئه كافٍ لأن المتوجه الواحد لا يكون إلا كذلك وإن كان خارج المسجد ، وبأن الفرق بين الفرض والنفل لاغٍ .
قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم } قيل : في الآية تقديم وتأخير لأن قوله { رب اجعل هذا بلداً آمناً } لا يمكن لا بعد دخول البلد في الوجود . فقوله { وإذ يرفع } [ البقرة : 127 ] وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم من حيث المعنى قلت : في ترتيب القصة فوائد منها : أنه أجمل القصة في قوله { وإذ ابتلى } إلى { فأتمهن } ثم فسر ، وفي التفسير قدم الأهم فالأهم ، ولا ريب أن ذكر جعل إبراهيم إماماً أولى بالتقديم لعموم نفعه للخلائق ولتقدمه في الوجود أيضاً ، ثم ذكر جعل البيت مثابة للناس وأمناً لأنه المقصود من عمارة البيت ثم حكاية عمارة البيت . وقد حصل في ضمن رعاية الأهم فوائد أخر منها : أنه كما كان مبنى القصة على الإجمال والتفسير وقع كل من أجزائها أيضاً كذلك فقوله { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } مجمل ، ثم فسر ذلك بأن جعله ذا أمن كان بسبب دعاء إبراهيم . وذكر البيت أولاً وقع مجملاً ثم فسر بأنه كيف بني ومنها أنه وقع ختم الكلام بأدعية إبراهيم عليه السلام ووقع ختم الأدعية بذكر خاتم النبيين ، وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه ولعل ما فاتنا من أسرار هذا الترتيب أكثر مما أحصينا . { هذا بلداً آمناً } ذا أمن مثل عيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك « ليل نائم » وإنما قيل ههنا بلداً آمناً على التنكير وفي سورة إبراهيم { هذا البلد آمناً } إما لأن هذا الدعاء صدر منه قبل جعل المكان بلداً فكأنه قال : واجعل هذا الوادي بلداً آمناً ، وذاك الدعاء صدر وقد جعل بلداً فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً بلداً ذا أمن ، وإما لأن الدعوتين واحدة والمراد اجعل هذا البلد بلداً آمناً فيفيد مبالغة زائدة كقولك « هذا اليوم يوم جار » معناه اجعله من البلدان الكاملة من الأمن بخلاف قوله { اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] ففيه طلب الأمن نفسه قيل : سأل الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي ضرع ولا زرع وقيل : من الخسف والمسخ ، وقيل : من القتل كيلا يكون سؤال الرزق بعده تكراراً ، وأجيب بأن التوسعة في الرزق مغايرة لطلب إزالة القحط . ثم إنه تعالى استجاب دعاءه فجعله آمناً من الآفات فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل . قيل : أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء؟ وأجيب بأن مقصوده لم يكن تخريب الكعبة نفسها وإنما كان غرضه شيئاً آخر .

{ من الثمرات } « من » للابتداء لا للتبعيض بدليل قوله { يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] وإنما سأل إبراهيم عليه السلام الأمن وأن يجبى إليه الثمرات وإن كان يتعلق بالدنيا لأن البلد إذا كان آمناً ذا خصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى ويكون سبباً لاجتماع الناس وإتيانهم إليه من كل أوب زائرين وعاكفين ، وطلب الدنيا لأجل الدين من سنن الصالحين « نعم المال الصالح للرجل الصالح » واختلف في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم وصار ذلك مؤكداً بدعائه فقيل : نعم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض » ولقوله { عند بيتك المحرم } [ إبراهيم : 37 ] وقيل : إنما صارت حرماً آمناً بدعوته ، وقبلها كانت كسائر البلاد بدليل قوله : « إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة » وقيل بالجمع بينهما ، وذلك أنه كان ممنوعاً قبله بمنع الله تعالى من الاصطلام وبما أوقع في النفوس من التعظيم ثم صار آمناً على ألسنة الرسل . و { من آمن منهم } بدل من { أهله } يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة كأنه قاس الرزق على الإمامة حيث ميز هناك بين المؤمن والكافر فقيل : { لا ينال عهدي الظالمين } فعرف الفرق بينهما فقيل { ومن كفر } عطفاً على { من آمن } كما مر في { ومن ذريتي } أو هو مبتدأ مضمن معنى الشرط جوابه { فأمتعه } وذلك أن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي فيؤدي عن الله أمره ونهيه ولا يأخذه في الدين لومة لائم ولا سطوة جبار وظالم وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ولهذا قيل : من استسرعى الذئب فقد ظلم . وأما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المؤمن والكافر والصالح والفاجر لعموم الرحمة ، ولأنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة على أنه متاع قليل وأمد يسير فيما بين الأزل والأبد و { قليلاً } أي إمتاعاً أو تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً فنعمة المؤمنين في العاجل موصولة بنعيمهم في الآجل ، ونعمة الكافرين مقطوعة عنهم بعد الموت ، والزائل لا يجدي بطائل { أفرأيت إن متعناهم سنين . ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [ الشعراء : 205-207 ] ومعنى الاضطرار أن يفعل به ما يلجئه إلى النار كقوله { يوم يدعُّون إلى نار جهنم دعا } [ الطور : 13 ] { وسيق الذين كفروا إلى جهنم } [ الزمر : 71 ] أو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً كالاضطرار إلى أكل الميتة مثلاً { وبئس المصير } ذلك الذي اضطر إليه أو ذلك الاضطرار ، فحذف المخصوص للعلم به . والمصير إما مصدر بمعنى الصيرورة يقال : صرت إلى فلان مصيراً وإما موضع وكلاهما شاذ والقياس مصار مثل « معاش » وكلاهما مستعمل والله أعلم .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

القراآت : { أرنا } وبابه ساكنة الراء : ابن كثير ورويس قياساً على كسرة فخذ إذ تسكن فيقال « فخذ » . وقرأ أبو عمرو بالاختلاس طلباً للخفة وحذراً من الإجحاف { ويعلمهم } بالاختلاس : ابن عباس ، وكذلك كل فعل مستقبل مجموع حيث وقع . وروى ابن رومي عن ابن عباس { يكلمنا } و { تعدنا } وكل كلمة تضمنت جمعين من الأسماء باختلاس مثل { في أعينكم } { وأسلحتكم } { وأمتعتكم } و { أوصى } من الإيصاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون { وصى } بالتشديد . { شهداء إذ } عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . والباقون { شهداء يذ } وكذلك ما أشبهه في كل القرآن .
الوقوف : { وإسماعيل } ( ط ) لإضمار القول أي يقولان ومحله نصب على الحال { منا } ( ط ) للابتداء بأن ولجواز الوصل وجه لطيف على تقدير فإنك أو لأنك { العليم } ( 5 ) { مسلمة لك } ( ص ) لعطف المتفقين { علينا } ( ط ) وقد ذكر { الرحيم } ( 5 ) { ويزكيهم } ( ط ) { الحكيم } ( 5 ) { نفسه } ( ط ) للفصل بين الاستفهام والإخبار { في الدنيا } ( ج ) لعطف الجملتين { الصالحين } ( 5 ) { أسلم } ( ط ) لأن قوله « قال » عامل « إذ » وإلا وجب أن يقال « فقال » وإلا انقطع النظم { العالمين } ( 5 ) { ويعقوب } ( ط ) لإرادة القول على الأصح ، ومن وصل جعل الوصية في معنى القول { مسلمون } ( ط ) لأن « أم » بمعنى همزة الاستفهام للإنكار { الموت } ( لا ) لأن « إذ » بدل من « إذ » الأولى و « إذ » الأولى ظرف { شهدا } و « اذ » الثانية ظرف { حضر } ومن قطعها عن الأول فوقف على الموت وجعل { قالوا } عاملاً ولم يقف على { بعدي } فله وجه لا يتضح لأن الإنكار متوجه على قولهم : إن يعقوب أوصى بنيه باليهودية لا على أن يعقوب قد مات { من بعدي } ( ط ) { واحداً } ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أجوز على جعل الواو حالاً { مسلمون } ( 5 ) { قد خلت } ( ج ) لأن ما بعدها تصلح صفة للأمة وتصلح استئنافاً وهو واضح لعطف { ولكم ما كسبتم } عليها { ولكم ما كسبتم } ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين { يعلمون } ( 5 ) .
التفسير : عن وهب بن منبه قال : إن آدم صلى الله عليه وسلم لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها ، ولأنه لم ير فيها أحداً غيره فقال : يا رب أما لأرضك عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟ فقال الله : إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي ، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري وسأبوئك منها بيتاً أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي وأسميه بيتي ، أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي ، وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي ، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض ، أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرماً وأمناً أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله ، فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ، ومن أحله فقد أباح حرمتي ، ومن أمن أهله استوجب بذلك أماني ، ومن أخافهم فقد جفاني ، ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ، ومن تهاون به فقد صغر في عيني ، سكانها جيراني ، وعمارها وفدي ، وزوارها أضيافي ، أجعله أوّل بيت وضع للناس ، وأعمره بأهل السماء والأرض ، يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجاً ويضجون بالتلبية ضجيجاً ، فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ووفد عليّ ونزل بي فحق علي أن ألحقه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته ، تعمره يا آدم ما كنت حياً ثم يعمره من بعدك الأمم في القرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن ونبياً بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك إلى نبي من ولدك يقال له « محمد » وهو خاتم النبيين فأجعله من عماره ، وسكانه وحماته وولاته ، يكون أميني عليه ما دام حياً ، فإذا انقلب إلي وجدني وقد ذخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلي والوسيلة عندي وأجعل اسم ذلك البيت وشرفه وذكره ومجده وسناه ومكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبوه يقال له « إبراهيم » ، أرفع به قواعده وأقضي على يديه عمارته ، وأعلمه مشاعره ومناسكه ، وأجعله أمة واحدة قانتاً قائماً بأمري داعياً إلى سبيلي ، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم ، أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فَيَفي ، أستجيب دعاءه في ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وحماته وسقاته وخدمه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا ويغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة ، يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الخلق الجن والإنس .

وروي أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد شرقي وغربي . وقال لآدم : أهبطت لك بيتاً يطاف به كما يطاف حول عرشي ، فتوجه إليه آدم من أرض الهند ماشياً وتلقته الملائكة فقالوا : برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام . وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة ، فهو البيت المعمور . ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبرائيل مكانه . وعن علي عليه السلام : البيت المعمور بيت في السماء يقال له « الضراح » وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً .

وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي » وعن ابن عباس أنه كان أشد بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك . وأما قصة إسماعيل عليه السلام وأمه ، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : 63 ] وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك . فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك ، فأرسل إليها فأتى بها وقام إبراهيم إلى الصلاة ، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأولتين فقال : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له : إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر . قال : فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم انصرف فقال : مهيم . فقالت : خيراً كفى الله يد الفاجر وأخدم خادماً » قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء . قلت : وذلك أنها ملكتها سارة إبراهيم فولدت له إسماعيل أبا العرب . وأما تتمة القصة ، بعد أن غارت سارة على هاجر حيث لم يكن لسارة من إبراهيم ولد فإنها ولدت إسحق بعد ولادة هاجر إسماعيل بأربع عشرة سنة . فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هناك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفىَ إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ولك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا .

ثم رجعت فانطلق إبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } حتى بلغ { يشكرون } [ إبراهيم : 37 ] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً ففعلت ذلك سبع مرات . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم « فلذلك سعى الناس بينهما » . فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت صوتاً أيضاً فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوّض وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد أن تغرف . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يرحم الله أم إسماعيل لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً » . قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء . فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا وأخبروهم ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس » . فنزلوا وأرسلوا إلى أهاليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب الغلام ، فلما أدرك الغلام زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة وشكت . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال : أوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غير عتبة بابك .

قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها . وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم أتاهم بعد ذلك فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت : خرج يبتغي لنا قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يثبت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير . قال : فأوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه وصنعا ما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ههنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ، فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } وعن علي كرم الله وجهه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة ، ومر عليه الدهر فانهدم فبناه قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه .
واعلم أن للبيت أربعة أركان : ركنان يمانيان وركنان شاميان ، وكان لاصقاً بالأرض ، وله بابان شرقي وغربي فذكر أن السيل هدمه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين فأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هي عليها اليوم ، ولم يجدوا من النذور والهدايا والأموال الطيبة ما يفي بالنفقة فتركوا من جانب الحجر بعض البيت وخلفوا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وضيقوا عرض الجدار من الأسود إلى الشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعاً وهو الذي يسمى الشاذروان ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة

« » لولا حدثان قومك بالشرك لهدمت البيت ولبنيته على قواعد إبراهيم فألصقته بالأرض وجعلت لها بابين شرقياً وغربياً « ثم إن ابن الزبير هدمه أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم ، ثم لما استولى عليه الحجاج هدمه وأعاده على الصورة التي هو عليها اليوم وهي بناء قريش . ولنعد إلى المقصود فنقول { يرفع } حكاية حال ماضية ، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة معناها الثابتة ، ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه فيرتفع كل منها بسبب وضع الآخر عليه ، ورفع القواعد صريح فيما ذهب إليه الأكثرون من أن القواعد كانت موجودة وأن إبراهيم عمّرها ورفعها كما مر في الأحاديث . وإنما لم يقل » قواعد البيت « ليكون الكلام مبنياً على تبيين بعد إبهام ففيه تفخيم لشأن المبين ، ثم إن الله تعالى حكى عنهما ثلاثة أنواع من الدعاء في تلك الحالة؛ الأول : قولهما { تقبل منا } وقبول الله عمل العبد عبارة عن كون العمل بحيث يرضاه الله تعالى أو يثبت عليه ، والأول ألذ عند العارفين من الثاني ، شبه الفعل من العبد بالهدية ، وإثابة الله تعالى عليه ورضاه به بالقبول . وقيل : إن بين القبول والتقبل فرقاً ، فالتقبل عبارة عن تكلف القبول وذلك حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل ، فاختير تقبل هضماً وتواضعاً واستقصاراً . وقد يستدل بهذا على أن الفعل المقرون بالإخلاص لا يجب ترتب الثواب عليه وإلا لم يكن في طلبه فائدة ، ويحتمل أن يقال : الطلب متوجه إلى جعله من جملة الأفعال المقرونة بالإخلاص ، فكنى بطلب القبول عن ذلك ويؤكده قولهما { إنك أنت السميع } يعني سماع إجابة العليم بنياتنا . النوع الثاني { ربنا واجعلنا مسلمين لك } فإن أريد بالإسلام الدين والاعتقاد توجه الطلب إلى الثبات والدوام أي ثبتنا على ذلك وإلا كان تحصيلاً للحاصل بالنسبة إليهما وقتئذ ، وإن أريد الاستسلام والخضوع والإذعان الكلي والرضا بكل ما قدر وأمر فتوجه الطلب إلى هذه الأمور أنفسها غير مفيد لأنها أمور خارجة عن الضبط لا تتيسر إلا بمجرد تيسير الله وتوفيقه بخلاف أصل الإسلام الذي وقع به التكليف فإنه مضبوط . وقد يظن أن للعبد اختياراً فيه وإن كان اختياره على تقدير ثبوته ينتهي إلى مسبب الأسباب . وقوله { واجعلنا } إما معطوف على { تقبل } وقوله { إنك أنت السميع العليم } { ربنا } اعتراض للتأكيد وإما معطوف على محذوف أي ربنا افعل هذا واجعلنا . { ومن ذريتنا } من للتبعيض كما في قوله { ومن ذريتي }

[ البقرة : 124 ] .
والأمة الجماعة من الناس ، وقيل أراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم { مسلمة } يحتمل ههنا أصل الإسلام والزيادة عليه أيضاً . وقيل : أسلم مطلقاً يفيد الإيمان والاعتقاد ومعدى باللام معناه الاستسلام والانقياد الكلي . طلب الإسلام لهم بعد ما طلب لهم الإمامة إظهاراً للشفقة . فالشفيق بسوء الظن مولع ، ويحتمل أن يكون هذا الدعاء بياناً لما أجمل هناك فيكونان واحداً . وتخصيص الذرية بالدعاء من بين الخلائق لأنهم أحق بالنصيحة وأقوم { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] ولأنهم أئمة بصلاحهم يصلح غيرهم وفي سدادهم يكون سداد من وراءهم . ولقد استجاب الله دعاءه فلم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ، ولم يزل الرسل من ذرية إبراهيم ، وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو ابن نفيل وقس بن ساعدة . ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين الحق قائلين بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب يوحدون الله ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان { وأرنا } إن كان منقولاً عن رؤية العلم فمعناه علمنا أن شرائع حجنا كيف هي إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو الناس إلى حجه ، وإن كان منقولاً عن رؤية البصر - وهو الأظهر - ولذلك لم يتجاوز مفعولين ظاهراً . فالمعنى بصرنا متعبداتنا في الحج . قال الحسن : إن جبريل أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال : يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال : نعم ، فسميت عرفات . فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمر جبريل أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب الشيطان ، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع وكل ذلك يأمره جبريل برمي الحصيات . وقيل : المراد العلم والرؤية معاً لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وليس ببعيد ، فإن اللفظ المشترك يصح إطلاقه على معنييه معاً وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز يصح إرادتهما معاً من لفظ واحد كالعقد والوطء من النكاح . غاية ما في الباب أن يكون هذا الإطلاق مجازاً ، ومن الناس من يحمل المناسك على المذابح . فقد يسمى الذبح للتقرب نسكاً والذبيحة نسيكة ، وليس لهذا التخصيص وجه فإن الذبح إنما يسمى نسكاً لدخوله تحت أصل معنى النسك وهو التعبد ، فحمل المناسك على جميع أعمال الحج أولى قال صلى الله عليه وسلم « خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا » بل لا يبعد أن يحمل على جميع ما شرعه الله لإبراهيم أي علمنا كيف نعبدك ومتى وأين نعبدك ، وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك بذلك خدمة العبد لمولاه؟ { وتب علينا } التوبة منهما محمولة على ما عسى أن يكون فرط منهما من الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء ، وعلى ترك الأولى ونحو ذلك عند غيرهم ، ويمكن أن تكون التوبة منهما تصويراً لأنفسهما بصورة النادم العازم على التحرز تشدداً في الانصراف عما لا يليق بهما .

قال صلى الله عليه وسلم « يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة » وأيضاً لعلهما استتابا لذريتهما لعلمهما بأن فيهم ظالمين لقوله تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } وذلك لغاية شفقتهما عليهم . وباقي مباحث التوبة ، قد مر في قصة آدم فليتذكر النوع الثالث { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } وفيه أمران : الأول : أن يبعث في تلك الأمة رسولاً ليبين لهم الشرع القويم وينهج الصراط المستقيم ، والثاني : أن يكون ذلك الرسول منهم لا من غيرهم لأن الرسول والمرسل إليهم إذا كانوا جميعاً من ذريته كان رتبته أجل ، ولأنه إذا كان منهم عرفوا مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته ، ولأنه إذا كان منهم كان أحرص عليهم وأشفق من أجنبي لو أرسل إليهم . وأما الرسول فهو محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع المفسرين وهو حجة ولقوله تعالى في موضع آخر { لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [ آل عمران : 164 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم « أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي » أما الدعوة فهذه ، وأما البشارة فقوله تعالى في سورة الصف { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [ الصف : 6 ] وأما الرؤيا فما رأت آمنة وهي حامل أنه خرج منها نور أضاء ما بين الخافقين . وههنا نكتة وهي أن الخليل لما دعا للحبيب بقوله { ربنا وابعث فيهم رسولاً } فلا جرم قضى الله تعالى حق الحبيب للخليل بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة يقولون في صلاتهم : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم . ولهذا الذكر مناسبات أخر منها : أن الخليل دعا لنفسه بقوله { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } [ الشعراء : 84 ] أي أبق لي ثناءً حسناً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأجابه الله تعالى وقرن ذكره بذكر حبيبه . ومنها أن إبراهيم أبو الملة { ملة أبيكم إبراهيم } [ الحج : 78 ] ومحمد صلى الله عليه وسلم أبو الرحمة { بالمؤمنين رءوف رحيم } [ التوبة : 128 ] { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [ الأحزاب : 6 ] « إنما أنا لكم مثل الوالد لولده » يعني في الرأفة والرحمة ، فلما ثبت لكل منهما الأبوة قرن بين ذكرهما في التحية . ومنها أن إبراهيم منادي الشريعة { وأذن في الناس بالحج } [ الحج : 27 ] ومحمد منادي الدين { سمعنا منادياً ينادي للإيمان } [ آل عمران : 193 ] ومنها أنه كان أول الأنبياء بعد الطوفان ، ومحمد خاتم النبيين ورسول آخر الزمان . ومنها إن الخليل تبرأ عن سائر الأديان

{ إني بريء مما تشركون } [ هود : 54 ] والحبيب تنزه عن جميع الأكوان { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] ثم إن إبراهيم عليه السلام ذكر لذلك الرسول صفات أولاها { يتلو عليهم آياتك } فهو الفرقان المتلو عليهم ، أو جميع ما بلغه من دلائل التوحيد وغيره « أوتيت القرآن ومثله معه » وثانيتها « ويعلمهم الكتاب » أي معانيه وحقائقه ، وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصوناً من التحريف ، ولأن لفظه ونظمه معجز وفي تلاوته نوع عبادة ولا سيما في الصلوات إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام . وثالثتها قوله { والحكمة } أي ويعلمهم الحكمة . وقيل : هي الإصابة في القول والعمل جميعاً ، فلا يسمى حكيماً إلا وقد اجتمع فيه الأمران فيضع كل شيء موضعه ولهذا عبر عنها بعض الحكماء بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، ويناسبه قوله صلى الله عليه وسلم « تخلقوا بأخلاق الله » وعن ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له . وعن قتادة وإليه ذهب الشافعي : هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر تلاوة الكتاب ثم تعليمه ثم عطف عليه الحكمة فيكون شيئاً خارجاً عنهما وليس ذلك إلا سنة الرسول ، فإن الدلائل العقلية الدالة على التوحيد والنبوة وما يتلوهما مستقلة بالفهم فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى . وقيل : هي الفصل بين الحق والباطل من الحكم . وقيل : المراد بالكتاب الآيات المحكمات ، وبالحكمة المتشابهات . وقيل : هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح . ورابعتها { ويزكيهم } لأن الإرشاد يتم بأمرين : التحلية والتخلية . فكما يجب على المعلم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلم بها ، يجب عليه التحذير عن النقصان ليتحرز عنها وذلك بنحو ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير والتشبث بأمور الدنيا لتتقوى بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ، ولذلك مدح بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق . وقيل : يزكيهم يطهرهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] وقيل : يشهد لهم بأنهم عدول يوم القيامة { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] وعن ابن عباس : التزكية هي الطاعة لله والإخلاص { إنك أنت العزيز } القادر الذي لا يغلب { الحكيم } العالم الذي لا يفعل إلا على وفق المصالح ، وإذا كان كذلك صح منه إجابة الدعاء وبعثة الرسل وإنزال الكتب { ومن يرغب } الاستفهام فيه لتقرير النفي أي لا يرغب أحد . يقال : رغب عن الأمر إذا كرهه ورغب فيه إذا أراده . ومحل { من سفه } الرفع على البدل من الضمير في { يرغب } وذلك أنه غير موجب مثل « هل جاءك أحد إلا زيد » وسفه الإما متعد : ومعنى سفه نفسه امتهنها واستخفها فأصل السفه الخفة وفي الحديث

« الكبر أن نسفه الحق وتغمص الناس » لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة . وعن الحسن : إلا من جهل نفسه فلم يفكر فيها ، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنع على وحدانية الله تعالى وحكمته ويرتقي إلى صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وعن أبي عبيدة : أهلك نفسه وأوبقها . وقيل : أضل نفسه وإما لازم فمعناه سفه في نفسه فحذف الجار نحو « زيد ظني مقيم » أي في ظني وقيل : نصب على التمييز نحو « غبن رأيه وألم رأسه » وهذا عند الكوفيين . فإن التمييز عندهم يجوز أن يكون معرفة . وفيه توبيخ لليهود والنصارى ومشركي العرب وتعجيب من حالهم ، فإن أعظم مفاخرهم وفضائلهم الانتماء إلى إبراهيم ، ثم إنهم لا يؤمنون بالرسول الذي هو دعوته ومطلوبه بالتضرع والإخلاص . فإن قيل : ملة إبراهيم عين ملة محمد في الأصول والفروع ، أو هما متحدتان في الأصول كالتوحيد والنبوة ، وأصول مكارم الأخلاق ولكنهما مختلفتان في فروع الأعمال ولا سبيل إلى الأول وإلا لم يكن شرع محمد صلى الله عليه وسلم ناسخاً لسائر الشرائع ولا إلى الثاني لأنه يلزم أن يكون محمد أيضاً راغباً عن ملة إبراهيم ، ولأن الاعتراف بالأصول لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : المختار اتحاد الملتين في الأصول فقط ، لكن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأصول التي مهدها إبراهيم عليه السلام . والمراد بملة إبراهيم في الآية أصولها التي لا تختلف بمر الأعصار وكر الدهور ، فلا يلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم راغباً عنها لأنه أمر باتباعها { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون . فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فنزلت . ثم إنه تعالى لما سفه من يرغب عن ملة إبراهيم بين السبب في ذلك فقال { ولقد اصطفيناه في الدنيا } أي أخترناه للرسالة من دون الخليقة وعرفناه الملة الجامعة للتوحيد والعدل والإمامة الباقية إلى قيام الساعة حتى نال منزلة الخلة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } فيلزمه ما يلزمهم من الكرامة وحسن الثواب فليتحقق كل ذي لب أن الراغب عن سيرة من هو فائز بسعادة الدارين لا رأي له والله الموفق . ثم بين سبب الاصطفاء فأعمل { اصطفينا } في { إذ قال } أي اخترناه في ذلك الوقت ، ويجوز أن ينتصب بإضمار « اذكر » استشهاداً على ما ذكر من حاله كأنه قيل له : اذكر الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله { إذ قال له ربه } من باب الالتفات ، ولولا ذلك لكان حقه أن يقال : إذ قلنا له ، والأكثرون على أنه تعالى قال له ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارة الحدوث فيها ، فلما عرف ربه قال له أسلم ، فإنه لا يجوز أن يقول له قبل أن عرف ربه .

ويحتمل أن يكون ذلك قبل الاستدلال ، ولا يكون المراد منه نفس القول بل دلالة الدليل عليه كقولهم « نطق الحال » قال تعالى { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [ الروم : 35 ] فجعل دلالة البرهان كلاماً ، ويحتمل أن يكون هذا بعد النبوة والمراد استقامته على الإسلام وثباته عليه كقوله { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] أو المقصود الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الاعتراض بالقلب واللسان . وقيل : الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح وإن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه فكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح . وفي تخصيص لفظ الرب بهذا الموضع بل بأكثر قصص إبراهيم إشارة إلى أن طريق عرفانه النظر في المربوبات فلا جرم وصل إلى الرب ، وطريق عرفان محمد صلى الله عليه وسلم عكس ذلك الترتيب فلا جرم بدأ من الله { فاعلم أنه لا إله إلا الله } [ محمد : 19 ] والأول طريق حسن { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ] لكن الطريق الثاني أحسن { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] ومن هنا يعرف أكملية محمد صلى الله عليه وسلم .
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم يستطعه الأوائل
فألف إبراهيم دلالة على استقامة سيرته ، وميم محمد دليل على أنه مكمل الأوضاع وبه ابتدأ الأمر من حيث انتهى فتمت دائرة النبوة وحصلت الخاتمة . وكما أن ألف إبراهيم دليل على وجود الاستقامة { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 31 ] فألف إبليس دليل عدم الاستقامة { إلا إبليس أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] والوجود خير والعدم شر فحصل من خاء الخير مع لام الابتلاء { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] تركيب الخلة { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } [ النساء : 125 ] ومن شين الشر مع دال الدوام على الكفر { وكان من الكافرين } [ البقرة : 34 ] اسم الشدة { والكافرون لهم عذاب شديد } [ الشورى : 26 ] ثم إن الخلة مأخوذة من التخلل بين الشيئين ومنه الخلال فلا جرم كان إبراهيم عليه السلام واسطة في الطريقة { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] والمحبة مأخوذة من الحبة وهو خالص كل شيء وداخله ، ومنه حبة القلب فلا جرم كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحبيب رب العالمين وزبدة الكائنات وغاية الحركات ، لولاك لما خلقت الأفلاك ، أول الفكر آخر العمل

« أول ما خلق الله تعالى نوري ، أنا أول من ينشق عنه قبر ، آدم ومن دونه تحت لوائي ، أنا سيد المرسلين ولا فخر » محمد صلى الله عليه وسلم أبو الحقيقة وإن كان إبراهيم عليه السلام أبا الطريقة ، والحقيقة لكونها مقصودة بالذات أقوى من الطريقة ، لا جرم وقع الصلاة على إبراهيم في الصلاة تبعاً للصلاة على محمد « اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم » وأن الصلاة لا تصح بدون الصلاة على محمد بخلاف الصلاة على غيره . ولنعد إلى ما كنا فيه { ووصى } التوصية من جملة الأمور المستحسنة التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم . أوصيته بكذا ووصيته بمعنى ، وأصله من وصيت الشيء بكذا بالتخفيف إذا وصلته إليه . وأرض واصية متصلة النبات ، فالموصي يصل القربة الحاصلة له بعد الموت إلى القربات الحاصلة له في الحياة ويحمد الموصي على هذا الوصل بسبب الوصية . والضمير في ( بها ) قيل : يعود إلى الكلمة أو الجملة وهي أسلمت لرب العالمين ، ونحوه رجوع الضمير في قوله { وجعلها كلمة باقية } [ الزخرف : 28 ] إلى قوله { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } [ الزخرف : 26 ] وقيل : الأولى أن يرجع إلى الملة لأنها مذكورة صريحاً في قوله { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } ولأن الوصية بالملة جامعة لجميع أسباب الفلاح بخلاف الوصية بالشهادة وحدها اللهم إلا أن يحمل الإسلام على الانقياد الكلي . وفي الآية دقائق مرعية في قبول الدين منها : أنه لم يقل وأمر بها لأن الوصية عند أمارات الموت وعند ذلك يكون الاهتمام بالأمور أشد . ومنها أنه خص نبيه بذلك في آخر عمره مع أنه كان يدعو كل الناس إلى الدين ، فدل على أنه لا شيء عنده أهم من ذلك . ومنها التعميم لجميع الأبناء وأنه لم يقيد الوصية بزمان أو مكان ولم يخلطها بشيء آخر ، ثم نهاهم أن يموتوا غير مسلمين وكل هذه دلائل شدة الاهتمام بالأمور وهو المشهود له بالفضل وحسن السيرة ، فيجب قبول قوله لكل عاقل وكذلك وصى بها يعقوب بنيه . وقرئ يعقوب بالنصب فمعناه وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب قائلاً لكل منهما { يا بني } أصله يا بنون فأضيف إلى ياء المتكلم فسقطت النون وصار الواو ياء لأجل النصب فأدغم الياء في الياء { إن الله اصطفى لكم الدين } استخلصه واختاره لكم بأن أقام عليه الدلائل الواضحة ودعاكم إليه ومنعكم من غيره ووفقكم للأخذ به { فلا تموتن } فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام نحو « لا تصل إلا وأنت خاشع » لا ينهاه عن نفس الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته . والنكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم

« لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » فإنه في قوة قوله لجار المسجد : لا تصل إلا في المسجد . فكان موتهم لا على حال الإسلام موتاً لا خير فيه لأنه ليس بموت السعداء ومن حق هذا الموت أن لا يحل فيهم .
{ أم كنتم شهداء } يحتمل أن تكون « أم » منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها الإنكار لمجرد الحضور عند وفاته والخطاب للمؤمنين أي ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي ، أو لأهل الكتاب المعاصرين كأنه قيل لهم : كيف تزعمون أن ما أنتم عليه دين الرسل ولم تشهدوا وصايا الأنبياء ولو شهدتم ذلك وسمعتم قولهم لنبيهم لظهر لكم حرصهم على ملة الإسلام والدين الحنيفي فرغبتم في دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ويحتمل كون « أم » متصلة على أن يقدر قبلها محذوف معناه ، أتدعون على الأنبياء اليهودية { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } قيل : أي إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد ودين الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء وفيه نظر ، لأن « أم » المعادلة أحد الأمرين كائن فيها فقط ، فإن كان الحضور ثابتاً لم تكن الدعوى ثابتة لكنها ثابتة ولهذا توجه الإنكار عليها ، فالوجه أن يقال : المراد أن الحضور غير ثابت لتطاول الزمان ، فإذن دعواهم يهودية الأنبياء دعوى بلا دليل فلا تسمع منهم على أنه تعالى نص على بطلانها بقوله { إذ قال لبنيه } إلى آخره ، ويتجه على هذا التقدير أن تكون « أم » منقطعة كأنه استفهم أولاً على سبيل الإنكار أي لم تدعون ، ثم استأنف استفهاماً ثانياً لتقرير النفي أي ما كنتم شهداء أو لتقرير الإثبات على أن أوائلهم قد شهدوا فيكون مؤكداً لذلك الإنكار { ما تعبدون } أي شيء تعبدون . و « ما » عام لأولي العلم وغيرهم ، « ومن » مختص بأولي العلم ولهذا قال العلماء « من » لما يعقل . و « من » خصص « ما » بغير أولي العقل قال : المراد السؤال عن صفة المعبود كما تقول « ما زيد » تريد أفقيه أم طبيب روي أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون الأوثان والنيران فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضاً على التمسك بعبادة الله لا أنهم كانوا يعبدون غير الله ، لأن مبادرتهم إلى الاعتراف بالتوحيد تنافي ذلك ، ولأن المشهور من أمر الأسباط أنهم كانوا قوماً صالحين ، و { إبراهيم وإسماعيل وإسحق } عطف بيان لآبائك ، وقدم إسماعيل لأنه أسن ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه لأن العمل أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد هو الأخوة قال صلى الله عليه وسلم




=====================

ج4. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


« عم الرجل صنو أبيه » أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة . وأيضاً أطلق اسم الأب على إبراهيم وهو جده فعن الشافعي أنه مجاز ولهذا قال : الإخوة والأخوات للأب والأم لا يسقطون بالجد ، وإليه ذهب مالك وأبو يوسف ومحمد وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد ، وقال أبو حنيفة : إنه حقيقة وإنهم يسقطون بالجد وهو قول أبي بكر وابن عباس وعائشة والحسن وطاوس وعطاء . ثم التعليمية قالوا : لا طريق لنا إلى معرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام لأنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل العقل عليه بل قالوا : نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباؤك يعبدونه ، فدل على أن طريق المعرفة هو التعليم . وأجيب بمنع دلالة الآية على ذلك بل لعل المعرفة حلت لهم بالاستدلال إلا أنهم اختصروا الكلام فتركوا شرح صفات الله وبيان ذلك ، وأيضاً إنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على مثل طريقتك من اليقين بالله والإخلاص له في عبادته . وأيضاً لعل مرادهم نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك كقوله { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] { إلهاً واحداً } بدل من { إله آبائك } مثل { بالناصية كاذبة } [ العلق : 15 ، 16 ] أو نصب على الاختصاص والمدح { ونحن له مسلمون } مذعنون أو مخلصون التوحيد ومحله النصب حالاً من فاعل { نعبد } أو من مفعوله لرجوع الضمير في { له } إليه ، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على { نعبد } أو جملة معترضة مؤكدة { تلك } إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون ، { خلت } مضت وانقرضت والغرض أنه لم يبق منهم أثر سوى ما عملوا ، ولهذا قيل { لها ما كسبت } أي ثوابه يريد أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه ، فإن أنتم فعلتم ذلك فزتم كما فازوا ، وإن أبيتم خسرتم أنتم دونهم { ولا تسئلون عما كانوا يعملون } لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا ينفعكم حسناتهم ، وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا إنهم يعذبون أياماً معدودة لكفر آبائهم باتخاذ العجل . وفي الآية وعيد شديد للأبناء إذا لم يعملوا بعمل الآباء قال صلى الله عليه وسلم « يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً » « من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه » ثم الآية تدل على أن للعبد كسباً ولكن الأئمة اختلفوا في تفسيره ، فالأشعري على أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدور أصلاً ، لأنه لو كان موحداً لأفعاله لكان عالماً بتفاصيل فعله وليس كذلك ، ولما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك ، بل المقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله تعالى ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب ، واعترض عليه بأن مقدور العبد إذا كان واقعاً بخلق الله تعالى ، فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف حينئذ به ، وإذا لم يخلقه فيه استحال أن يتصف به ، فأي معنى لكون العبد قادراً عليه؟ وأيضاً الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعاً بقدرة الله فلا أثر للعبد فلا يكون مكتسباً له وإن وقع بالقدرتين معاً فلا تكون قدرة الله تعالى مستقلة ، والمفروض بالخلاف ، فبقي أن يكون بقدرة العبد ، وعن القاضي : أن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل صفة طاعة أو صفة معصية ، فهذه الصفة تقع بقدرة العبد .

وضعف بأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز ، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فعين المنهي عنه قد خلقه الله فيه وهذا تكليف ما لا يطاق ، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب . وزعم الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني أن ذات الفعل تقع بالقدرتين ، وزيف بأن قدرة الله مستقلة بالتأثير . ومنهم من زعم أن القدرة الحادثة مع الداعي توجب الفعل ، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود ، والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به ، وإلى هذا ذهب إمام الحرمين وهو مناسب لقول الفلاسفة . وزعم جمهور المعتزلة أن القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا هو الفعل والكسب . فهذا تقرير المذاهب ، وقول الأشعري أقرب إلى الأدب ، وقول إمام الحرمين أقرب إلى التحقيق لأن نسبة الأثر إلى المؤثر القريب لا تنافي كون ذلك المؤثر منسوباً إلى أثر آخر بعيد ، ثم إلى أبعد إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب وفاعل الكل ومبدأ المبادئ وإليك الاختيار بعقلك دون هواك .
التأويل : من قوله { وإذ ابتلى } البلاء للولاء كاللهب للذهب فأصدقهم ولاء أشدهم بلاء { وإذ ابتلى } الخليل بكلمات هي أحكام النبوة الخصال العشر في جسده ولوازم الرسالة الصبر عند صدمات المكروهات وفقدان المألوفات . وموجبات الخلة التبري عما سوى الخليل { إني بريء مما تشركون } [ الأنعام : 78 ] وعداوة غير الخليل { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 77 ] ورفع الوسائط حيث قال له جبريل في الهواء هل لك من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا والتسليم أسلمت لرب العالمين ، والرضا بما أمر به عند ذبح الولد { فلما أسلما وتله للجبين } [ الصافات : 103 ] بخلاف ما قال نوح { إن ابني من أهلي } [ هود : 45 ] فلا جرم زيد له في الاصطفاء وشرف بكرامة الإمامة والاقتداء به

{ وإذ جعلنا البيت } [ البقرة : 125 ] بيت القلب كما جاء « أن الله تعالى أوحى إلى داود فرغ لي بيتاً أسكن فيه فقال : وكيف يا رب؟ فقال : فرغ لي قلبك » أي جعلنا القلب الإنساني مثابة للناس ترجعون إليه يا طلابي وزواري كما ترجعون إلى الكعبة في الصورة ، ومأمناً للسالك من تصرفات الشيطان ومكايده حين بلغ منزل القلب ، لأن القلب خزانة الحق محروسة من دخول الشيطان . وإنما جولان لص الشيطان في ميادين الصدور كقوله { يوسوس في صدور الناس } [ الناس : 5 ] { واتخذوا } [ البقرة : 125 ] عند الوصول إلى كعبة القلب { من مقام إبراهيم } [ البقرة : 125 ] وهو الخلة قبلة توجهكم ليكون قصدكم إلي لا إلى غيري كما قال إبراهيم { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } [ البقرة : 125 ] في الميثاق { أن طهرا } القلب من أدناس تعلقات الكونين وأوضار ملاحظة الأغيار { للطائفين } [ البقرة : 125 ] وهي واردات الأحوال { والعاكفين } [ البقرة : 125 ] وهي الملكات والمقامات { والركع السجود } [ البقرة : 125 ] وهي صفات القلب المطهرة من الإرادة والصدق والإخلاص والتواضع والخوف والرجاء والتسليم والرضا والتوكل . وجملة هذه الصفات العبودية { وإذ قال إبراهيم } [ البقرة : 126 ] الآية لما أهبط آدم الروح إلى الأرض الجسد وفقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في جنة حظيرة القدس استوحش ، فأنزل الله تعالى ياقوتة القلب من جنة حظيرة القدس له بابان شرقي إلى حظيرة رب العالمين تطلع منها شوارق الألطاف ، وباب غربي إلى عالم الجسد وفيه قناديل العقل ، وأنزل حجر الذرة المخاطبة بخطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] منوراً بنور جواب { بلى } قد ألقم كتاب العهد يوم الميثاق وهو يمين الله في أرضه ، فلما كان طوفان آفات الصفات البشرية من الطفولية إلى البلوغ ، وفار تنور الشهوات رفع بيت معمور القلب إلى السماء الرابعة يعني حجب أستار خواص العناصر الأربع ، وخبئ حجر الذرة في أبي قبيس صفات النفس ، فلما أمر إبراهيم الروح بعد البلوغ ببناء بيت القلب وعمارته من خمس أجبل أركان الإسلام وقد اهتدى إلى موضع بيت القلب بدلالة بيت السكينة { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } [ الفتح : 4 ] فجعل إسماعيل النفس المطمئنة يجيء بأحجار أعمال الشريعة من جبال أركان الإسلام ويناولها إبراهيم الروح وهو يبني إلى أن بلغ موضع الحجر فنودي من أبي قبيس الهوى إن لك عندي وديعة فخذها . فخلص حجر الذرة من أستار صفات النفس والهوى فوضعه مكانه ، وكان أبيض فلما لمسته حيض اللذات الدنيوية ومشركو الشهوات النفسانية في جاهلية الطفولية اسودَّ ، فلما فرغا من رفع قواعد بيت القلب سألا ربهما الاستسلام لأحكامه الظاهرة الشرعية والباطنة التي جف القلم بها في الأزل ، وكذا لذريتهما المتولدات من الصفات الروحانية والنفسانية وأن يبعث فيهم رسولاً منهم لا من الخارج ، فمن لم يكن له في القلب رسول وارد من الحق وهو السر لم يسمع كلام الرسول لخارجي . ثم إن إبراهيم الروح يوصي لمتولداته من القلب وصفاته والسر وصفاته والنفس وصفاتها والقوى البشرية والحواس الخمس والأعضاء والجوارح كله ملته . وفي الآيات إشارة إلى أنه تعالى إذا تجلى لروح عبد مخلص متضرع إليه محب له ، ظهرت آثار أنوار تجليه على قلبه وسره ونفسه وقواه وحواسه وجميع أعضائه ويخضعون له بكليتهم فيعبدون إلهاً أحداً لا متفرقاً من الهوى والدنيا والآخرة والله ولي التوفيق .


وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

القراآت : { أم تقولون } بتاء الخطاب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر والحماد والمفضل ، الباقون : بياء الغيبة .
الوقوف : { تهتدوا } ( ط ) { المشركين } ( 5 ) { ومن ربهم } ( ج ) لطول الكلام والاستئناف والأصح أنه حال أي آمنا غير مفرقين { منهم } ( ج ) لاحتمال الابتداء والحال أوجه { مسلمون } ( 5 ) { اهتدوا } ( ج ) لابتداء شرط آخر مع العطف { شقاق } ج للابتداء بسين الوعيد مع دخول الفاء { فسيكفيكهم الله } ( ج ) لاحتمال الواو الابتداء والحال { العليم } ( ط ) لأن الجملة الناصبة لقوله { صبغة الله } محذوفة يدل عليها قوله { آمنا بالله } وقوله { فإن آمنوا } شرط معترض { صبغة الله } ( ج ) لابتداء الاستفهام مع أن الواو للحال { صبغة } ( ج ) على جعل الواو للابتداء أو للحال أو للعطف على آمنا { عابدون } ( 5 ) { وربكم } ( ج ) لأن الواو يصلح أن يكون عطفاً على الحال الأولى ويصلح أن يكون مستأنفاً { أعمالكم } ( ج ) { مخلصون } ( ط ) لمن قرأ { أم يقولون } بياء الغيبة ، ومن قرأ بالتاء لم يقف لكون « أم » معادلة للهمزة في { أتحاجوننا } { أو نصارى } ( ط ) { أم الله } ( ط ) { من الله } ( ط ) { تعملون } ( 5 ) { فدخلت } ( ج ) { ما كسبتم } ( ج ) { يعملون } .
التفسير : إنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة صحة دين الإسلام ، ذكر أنواعاً من شبه الطاعنين منها : أن اليهود قالوا { كونوا هوداً } تهتدوا ، والنصارى قالوا كذلك ، لما علم من التعادي بين الفريقين كما بين كل منهما وبين المسلمين وقد مر مثل هذا في قوله تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] فأجابهم الله بقوله { قل بل ملة إبراهيم } أي نكون أهل ملته مثل { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] أي أهلها ، أو بل نتبع ملة إبراهيم وقرئ بالرفع أي ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن أهل ملته ، وحنيفاً حال من المضاف إليه كقولك « رأيت وجه هند قائمة » وذلك أن المضاف إليه متضمن للحرف فيقتضي متعلقاً هو الفعل أو شبهه ، وحينئذ يشتمل على فاعل ومفعول . فالحال عن المضاف إليه ترجع في التحقيق إلى الحال عن أحدهما وعند الكوفيين نصب على القطع أراد ملة إبراهيم الحنيف ، فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منها فانتصب ، والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق ، وتحنف إذا مال وحاصل الجواب أن المعّول في الدين إن كان النظر والاستدلال فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان التقليد فالمتفق أولى من المختلف . وقد اتفق الكل على صحة دين إبراهيم فاتباعه أولى وهذا جواب إلزامي ، ثم لما كان من المحتمل أن يزعم اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم أزيحت علتهم بقوله { وما كان من المشركين } لكون النصارى قائلين بالتثليث واليهود بالتشبيه ، وأيضاً قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، فليسوا من ملة إبراهيم التي هي محض التوحيد وخالص الإسلام في شيء { قولوا } خطاب للمؤمنين ، ويجوز أن يكون للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل ، وكذلك قوله { بل ملة إبراهيم } يجوز أن يكون أمراً لهم أي اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته ، وهذا جواب آخر برهاني ، وذلك أن طريق معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز على أيديهم ، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان به وبما أنزل عليه كما اعترفوا بنبوة إبراهيم وموسى وعيسى ، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وعن الحسن أن قوله { قل بل ملة إبراهيم } خطاب للنبي وقوله { قولوا } خطاب لأمته والظاهر العموم وإنما قدم الإيمان بالله لأن معرفة النبي والكتاب متوقفة على معرفته وفيه إبطال ما ذهب إليه التعليمية والمقلدة من أن طريق معرفة الله الكتاب والسنة ، قال الخليل : الأسباط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب .

وقيل : السبط الحافد ، وكان الحسن والحسين سبطي النبي صلى الله عليه وسلم فهم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر ، عدّد بعض الأنبياء لتقدمهم وشرفهم ثم عمم لتعذر التفصيل . { لا نفرق بين أحد منهم } لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كأهل الكتاب . ومعنى الإيمان بجميعهم أن كلا منهم حق في زمانه أولا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانة { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } [ الشورى : 13 ] وأحد في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه { ونحن له مسلمون } إذعاناً وإخلاصاً فلا جرم لا نخص بالقبول بعض عبيده المؤيدين بالمعجزات خلاف من كان إسلامه تقليداً أو هوى . ولما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة كل من قامت الدلالة على نبوته من غير مناقضة ، رغبهم في مثل هذا الإيمان ، وههنا سؤال وهو أن دين الإسلام وهو الحق واحد فما معنى المثل في قوله { بمثل ما آمنتم به } ؟ والجواب أن قوله { فإن آمنوا } بكلمة الشك دليل على أن الأمر مبني على الفرض ، والتقدير أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ومساوياً له في الصحة والسداد { فقد اهتدوا } لكن لا دين صحيحاً سوى هذا لسلامته عن التناقض بخلاف غيره فلا اهتداء إلا بهذا ، ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه « هذا هو الرأي الصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به » وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وقيل : الباء للاستعانة لا للإلصاق والتمثيل بين التصديقين أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم . وقيل : المثل صلة ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود { فإن آمنوا بما آمنتم به } وقيل : معناه إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف ، فإن آمنوا هم بمثل ذلك في التوراة فقد اهتدوا لأنهم يتوسلون به إلى معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

وفي الآية دليل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وهي الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عن وجوهها ، والاهتداء قبولها والعمل بها ليفوزوا بالسعادة العظمى . وإن تولوا عما قيل لهم ولم ينصفوا فما هم إلا في شقاق خلاف وعداوة وهو مأخوذ من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه ، أو من الشق لأنه فارق الجماعة وشق عصاهم ، أو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه ، وفي وصف القوم بذلك دليل على معاداتهم الرسول وإضمارهم له كل سوء وتربصهم به الإيقاع في المحن ، فلا جرم آمنه الله تعالى والمؤمنين من كيدهم وقال { فسيكفيكهم الله } وناهيك به من كاف كافل . ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين وذلك أن فيها معنى التوكيد لوقوعها في مقابلة « لن » قال سيبويه : لن أفعل نفى سأفعل ، ولقد أنجز وعده عما قريب بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم ، وهذا إخبار بالغيب وكم من مثله في القرآن وكل ذلك مما يتأكد به إعجاز التنزيل العزيز وحصوله بطريق الوحي الصراح { وهو السميع العليم } وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي يسمع دعاءك ويعلم نيتك في أعلاء كلمة الحق وإعلانها فهو يستجيب لك لا محالة ، ووعيد لأعدائه أي هو منهم بمرأى ومسمع يعلم ما يسرون من الحسد والحقد والغل فيكافئهم على ذلك { صبغة الله } مصدر مؤكد منتصب عن قوله { آمنا بالله } مثل وعد الله قاله سيبويه وقيل : بدل من { ملة إبراهيم } أو نصب على الإغراء أي عليكم صبغة الله ، وفيما فك لنظم الكلام وإخراج له عن الالتئام . والصبغة فعلة من صبغ للحالة التي يقع عليها الصبغ كالجلسة . والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفس . وأصله أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه بالمعمودية ويقولون هو تطهير لهم وبه يصير الواحد منهم نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون أن يقولوا لهم آمنا وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم ، وذلك على طريق المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار اغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً يصطنع الكرام ، ونظيره قوله { إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم } [ البقرة : 15 ] وقيل : اللفظة من قولهم « فلان يصبغ فلاناً في الشر » أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثوب . وقيل : سمي الدين صبغة لظهور هيئته عند صاحبه . { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار « وقيل : وصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله ليبين أن المباينة بينه وبين غيره ظاهرة جلية يدركها كل ذي حس سليم كما يدرك الألوان .

وقيل : صبغة الله فطرته . أقول : وذلك أن آثار النقص الإمكاني لازمة للإنسان لزوم الصبغ للثوب ، فيمكنه أن يتدرج منها إلى وجود الصانع والإيمان به . وقيل : صبغة الله الختان . وقيل : حجة الله . وقيل : سنة الله .
{ ومن أحسن من الله صبغة } معنى الاستفهام الإنكار وصبغة تمييز أي لا صبغة أحسن من الإيمان بالله والدين الذي شرع لكم ليطهركم به من أوضار الكفر وأوزار الشرك . { ونحن له عابدون } عبارة عن كمال الإيمان كما تقدم مراراً . { قل أتحاجوننا } أما المحاجة فهي إما قولهم نحن أحق بأن تكون النبوة فينا لأنا أهل الكتاب والعرب عبدة أوثان ، وإما قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] وقولهم { كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } وأما الخطاب فإما لأهل الكتاب وإما لمشركي العرب حيث قالوا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] وإما للكل والمعنى ، أتجادلون في شأن الله أو في دينه وهو ربنا وربكم وللرب أن يفعل بمربوبه ما يعلم فيه مصلحته ويعرفه أهلاً له ، عبيده كلهم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } فكما أن لكم أعمالاً ترجون نيل الكرامة بها فنحن كذلك ، فالعمل هو الأساس وبه الاعتبار ولكن { نحن له مخلصون } موحدون لا نقصد بالعبادة أحداً سواه ، فلا يبعد أن يؤهل أهل إخلاصه بمزيد الكرامة من عنده . { أم تقولون } من قرأ بتاء الخطاب احتمل أن تكون « أم » منقطعة بمعنى استئناف استفهام آخر أي بل أتقولون والهمزة للإنكار كما في { أتحاجوننا } واحتمل أن تكون متصلة بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء إنكاراً عليهم واستجهالاً لهم بما كان منهم . وعن الزجاج : بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا ، أبالتوحيد فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون؟ ومن قرأ بياء الغيبة فلا تكون إلا منقطعة لانقطاع الاستفهام الأول بسبب الالتفات . { قل أأنتم أعلم أم الله } بل الله أعلم وخبره أصدق ، وقد أخبر في التوراة والإنجيل والقرآن بأن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وكيف لا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ ولأنهم مقرون بأن الله أعلم ، وقد أخبر بنقيض ما ادعوه فإن قالوا ذلك عن ظن فقد بان لهم خطؤه ، وإن قالوا ذلك عن جحود وعناد فما أجهلهم وأشقاهم ، فإذن فائدة الكلام إما التنبيه وإما التجهيل . { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } قوله { من الله } إما أن يتعلق بأظلم والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هوداً أو نصارى ، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لأن الظلم من الأعدل أشنع ، وإما أن يتعلق بكتم أي لا أحد أظلم ممن عنده شهادة ، ثم إنه لم يقمها عند الله وكتمها وأخفاها منه وأما أن يتعلق بشهادة كقولك « عندي شهادة من فلان » ومثله { براءة من الله ورسوله } والمعنى ليس أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده جاءته من الله ، وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لم يكتموا ما عندهم من الحق وشهدوا لإبراهيم بالحنيفية ، وتعريض بأن أهل الكتاب قد كتموا شهادات الله فأنكروا نبوة محمد وحنيفية إبراهيم وغير ذلك من تحريفاتهم .

{ وما الله بغافل عما تعملون } كلام جامع لكل وعيد لهم ولأضرابهم ، ولو أن أحداً كان عليه رقيب من قبل ملك مجازي لكان دائم الحذر والوجل ، فكيف بالرقيب القريب الذي يعلم أسراره ويعد عليه أنفاسه وأفكاره ثم هو يقدر على أن يدخله جنته أو ناره؟ { تلك أمة } إشارة إلى إبراهيم وبنيه . كما مر ، وإنما أعيدت الآية ههنا لغرض آخر وهو زجرهم عن الاشتغال بوصف ما عليه الأمم السالفة من الدين فإن أديانهم لا تنفع إلا إياهم لاندراس آثارها وانطماس أنوارها ، وأما الآن فالدين هو الإسلام الثابت بالدليل القاطع والبرهان البين فيجب اتباع المعلوم واقتفاؤه وإلقاء المظنون وإلغاؤه ، ولا يسأل المتأخر عن المتقدم ولا المحسن عن المسيء وكل بعمله مجزي .


سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

القراآت : { من يشاء إلى } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . الباقون { يشاء ولى } بقلب الثانية واواً . وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة { يشاو إلى } بقلب الأولى واواً { لرؤف } مهموزاً مشبعاً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل والبرجمي . وقرأ يزيد بتليين الهمزة والإشباع . الباقون : { لرؤف } على وزن « الرعف » { . . يعملون ولئن } بياء الغيبة : ابن كثير ونافع وخلف وعاصم وأبو عمرو ويعقوب ، الباقون : بالتاء { مولاها } بالألف : ابن عامر والباقون : بالباء وكسر اللام { يعملون ومن حيث } بياء المغايبة : أبو عمرو . الباقون : بالتاء { ليلاً } مدغمة غير مهموزة عن ورش ، وعن ابن كثير وحمزة وعلي وخلفٍ ويعقوب مدغماً مهموزاً . الباقون : مظهراً مهموزاً ، والاختيار عن يعقوب وهشام الإظهار . { فاذكروني } بفتح الياء : ابن كثير .
الوقوف : { عليها } ط { المغرب } ط { مستقيم } 5 { شهيداً } ط { عقبيه } ط { هدى الله } ط { ايمانكم } ط { رحيم } 5 { في السماء } ج لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد دخل الثانية حرفا توكيد يختصان بالقسم والقسم مصدّر { ترضيها } ص لأن فاء التعقيب لتعجيل الموعود { الحرام } ط { شطره } ط { من ربهم } ط { تعملون } 5 { قبلتك } ج { قبلتهم } ج وكلاهما لتفصيل الأحوال مع اتحاد المقصود { قبلة بعض } ط { من العلم } لا لأن « ان » جواب معنى القسم في « لئن » ، فلو فصل كان { من الظالمين } مطلقاً وفي الاطلاق حظر { الظالمين } 5 م لأنه لو وصل صار « الذين » صفة وهو مبتدأ في مدح عبد الله ابن سلام وأضرابه { أبناءهم } ط { يعملون } 5 { الممترين } 5 { الخيرات } ط { جميعاً } ط { قدير } 5 { الحرام } ( ط ) { من ربك } ط { تعملون } 5 { الحرام } ط لأن « حيث » متضمن الشرط { شطره } لا لتعلق لام في { حجة } ط قبل تحرزاً عن إثبات الحجة بعد النفي والوصل 5 في العربية أوضح ، ولا منافاة لأن المراد من الحجة الخصومة وبيان الحق لا ينافي الخصومة { تهتدون } إذا علق { كما أرسلنا } بما قبله ووقف على { تعلمون } وإن علق بما بعده وقف على { تهتدون } دون { تعلمون } { تعلمون } 5 { ولا تكفرون } 5 .
التفسير : هذه شبهة ثانية من أهل الكتاب طعناً في الإسلام . قالوا : النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل لأن الأمر إن كان خالياً عن القيد كفى فعله مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعده على خلافه ناسخاً مقيداً . وإن كان مقيداً بالدوام فكذلك ، وإن كان مقيداً بالدوام فإن كان الآمر يعتقد دوامه ثم رفعه كان جهلاً وبداء ، وإن كان عالماً بلا دوامه كان تجهيلاً ، وكل هذه من الحكيم قبيح . ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، وهو أنّا إذا جوزنا النسخ عند اختلاف المصالح فههنا لا مصلحة فإن الجهات متساوية وهذا دليل على أن هذا التغيير ليس من عند الله .

قال القفال : لفظ { سيقول } وإن كان للاستقبال لكنه قد يستعمل في الماضي كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون فيّ . كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فسيذكرونه مرات أخرى ، ويؤيد ذلك ما ورد من الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية . والمشهور أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه ، وفيه فوائد منها : أنه إخبار بالغيب فيكون معجزاً . ومنها أن مفاجأة المكروه أشد مما إذا وطن النفس له . ومنها أن الجواب العتيد أقطع للخصم وقبل الرمي يراش السهم ، والسفهاء الخفاف الأحلام وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعدّ سفيهاً شرعاً ، فالذي يضيع أمر آخرته أولى بهذا الاسم . عن ابن عباس ومجاهد : هم اليهود ، ذلك أنهم كانوا يأنسون بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم في القبلة ، فلمّا تحول استوحشوا لا سيما وأنهم لا يرون النسخ . وعن البراء بن عازب والحسن الأصم : أنهم مشركو العرب قالوا : أبى إلاّ الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه أولاً كان أولى به . وقيل : هم المنافقون ذكروا ذلك استهزاء من حيث إن تميز بعض الجهات عن بعض ليس له دليل معقول فحملوا الأمر على العبث والعمل بالرأي والتشهي والأقرب أن يكون الكل داخلاً فيه ، لأن الأعداء جبلت على الغيظ وطلب التشفي ، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً { ما ولاهم } ما صرفهم استفهموا على جهة التعجب والاستهزاء { عن قبلتهم التي كانوا عليها } القبلة بيت المقدس ، وضمير الجمع للرسول والمؤمنين هذا هو المجمع عليه عند المفسرين ، ولولا الإجماع لاحتمل أن يعود الضمير في « كانوا » إلى « السفهاء » أي ما الذي صرف الرسول والمؤمنين عن القبلة التي كان السفهاء عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلاّ قبلة اليهود وهي إلى المغرب وقبلة النصارى وهي إلى المشرق؟ فكأنهم قالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين؟ فاجابهم الله عن شبهتهم بقوله { قل لله المشرق والمغرب } أي بلادهما ، والأرض كلها والجهات بأسرها ملكاً وملكاً ، ثم أكد ذلك بقوله { يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ } وهو القبلة التي اقتضت الحكمة في هذا الزمان توجيه الناس إليها ويحتمل أن يراد به الطريقة المؤدية إلى سعادة الدارين فيشتمل القبلة وغيرها . وحاصل الجواب بعد ما مر في آية النسخ أنه تعالى فاعل لما يشاء كما يشاء ، لا اعتراض لأحد عليه كما لا اعتراض على من يتصرف في ملكه كما يريد ، وأفعاله تعالى لا تعلل بغرض وإن كانت لا تخلو عن فائدة وحكمة كما سبق ، وكثير منها مما لا يهتدي عقول البشر إلى تفاصيل حكمها لكنهم قد يستنبطون بحسب أفهامهم لبعضها وجوهاً مناسبة ، أما تعيين القبلة في الصلاة فالحكمة فيه أن للإنسان قوة عقلية يدرك المجردات والمعقولات بها وقوة خيالية يتصرف بها في عالم الأجسام ، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية وإعانتها كالمهندس يضع في إدراك أحكام المقادير صورة معيّنة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين له على إدراك تلك الأحكام الكلية ، وكالذي يريد أن يثني على ملك مجازي فإنه يستقبله بوجهه ثم يشتغل بالثناء والخدمة .

فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك ، والقراءة تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود جاريان مجرى الخدمة . وأيضاً الخشوع في الصلاة لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات ، ولا يتأتى ذلك إلاّ إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين . وإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام فاستقباله أولى . وأيضاً إنه تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد من عليهم بذلك { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم ينعمته إخواناً } [ آل عمران : 103 ] . وتوجه كل مصلٍ إلى أي جهة تتفق مظنة الاختلاف فلم يكن بد من تعيين جهة ليحصل الاتفاق . وأيضاً كأنه تعالى يقول : يا مؤمن أنت عبد ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، وقلبك عرشي ، والجنة دار كرامتي ، فاستقبل بوجهك إلى بيتي وبقلبك إليّ ، أبوئك دار كرامتي . وأيضاً اليهود استقبلوا مغرب الأنوار { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [ القصص : 44 ] . والنصارى استقبلوا مطلع الأنوار { إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } [ مريم : 16 ] فالمؤمنون استقبلوا مظهر الأنوار وهو مكة ، فمنها محمد ومنه خلق الأنوار ولأجله دال الفلك الدوّار . وأيضاً المغرب قبلة موسى ، والمشرق قبلة عيسى ، وبينهما قبلة إبراهيم ومحمد ، وخير الأمور أوسطها؛ وأيضاً الكعبة سرة الأرض ووسطها ، وأمة محمد وسط { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } . والوسط بالوسط أولى { الطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . وأيضاً العرش قبلة الحملة ، والكرسي قبلة البررة ، والبيت المعمور قبلة السفرة ، والكعبة قبلة المؤمنين ، والحق قبلة المتحيرين { فأينما تولوا فثم وجه الله } والعرش مخلوق من النور ، والكرسي من الدر ، والبيت المعمور من الياقوت ، والكعبة من جبال خمسة : سينا وزيتا وجوديّ ولبنان وحراء . كأنه قال : إن كان عليك مثل هذه الجبال ذنوباً فأتيت الكعبة حاجاً أو معتمراً أو توجهت مصلياً الصلوات الخمس غفرتها لك . وأيضاً لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في توجهها أشد وأيضاً اليهود كانوا يعيرون المسلمين بأنا قد أرشدناكم إلى القبلة وينكسر بذلك قلوب المسلمين . فأزيل تشويشهم ، وأيضاً الكعبة منشأ محمد ، فتعظيمها يقتضي تعظيمه ، وتعظيمه مما يعين على قبول أوامره ونواهيه ، فبمقدار حشمة المرء يكون قبول قوله . فهذه هي الوجوه المناسبة ، والوجه الأقوى هو الذي ذكره الله تعالى في قوله { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } وقوله { وكذلك جعلناكم } الكاف للتشبيه ، وفي اسم الإشارة وجوه .

فقيل : راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم ، أو كما هديناكم إلى أوسط البقلة جعلناكم أمة وسطاً . وقيل : عائد إلى قوله { ولقد اصطفينا } [ البقرة : 130 ] . أي كما اصطفينا إبراهيم في الدنيا جعلناكم . وقيل : ينصرف إلى قوله { ولله المشرق والمغرب } أي كما خصصنا بعض الجهات المتساوية بمزيد التشريف والتكريم حتى صارت قبلةً فضلاً منا وإحساناً ، جعلناكم مختصين بالعدالة براً منا وامتناناً مع تساوي الخلق في العبودية . وقيل : قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً مثل { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء ، فالمعنى ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد غيري جعلناكم أمةً وسطاً . الجوهري : يقال جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف ، وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم ، وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط ، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك . قال : والوسط من كل شيء أعدله ، وشيء وسط أي بين الجيد والرديء ، وأمةً وسطاً أي عدولاً قال زهير :
همو وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وذلك أن العدل متوسط في الأخلاق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ولهذا ذكره الله تعالى في معرض المدح والامتنان . وقيل : الوسط الخيار لأنه يستعمل في الجمادات . قال في الكشاف : اكتريت بمكة جمل أعرابي فقال : أعطني من سطاتهن - أراد من خيار الدنانير - ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وإنما أطلق الوسط على الخيار لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والعيب ، والأوساط محمية محوطة . وقيل : المراد بالوسط ههنا أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط والغالي والمقصر في شأن الأنبياء لا كالنصارى حيث جعلوا النبي صلّى الله عليه وسلم ابناً وإلهاً ، ولا كاليهود حيث قتلوا الأنبياء وبدلوا الكتب ، ولأن الوسط في الأصل اسم وصف به استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث { لتكونوا شهداء على الناس } الأكثرون على أن هذه الشهادة في الآخرة إما بأن يكونوا شهداء للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم . روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء يوم القيامة فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا - وهو أعلم - فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق . فيؤتى بمحمد فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى { فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }

[ النساء : 41 ] قلت : والحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الفضل عن سائر الأمم حيث يبادرون إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق ، ولذلك تقبل شهادتهم على الأمم ، ولا تقبل شهادة الأمم عليهم . وإنما سمي هذا الإخبار شهادة لقوله صلى الله عليه وسلم « إذا علمت مثل الشمس فاشهد » والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه معلوم مثل الشمس فتصح الشهادة عليه ، وإما بأنْ يشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها . قال ابن زيد : الأشهاد أربعة : الملائكة الحفظة { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } [ ق : 21 ] والنبيون { ويكون الرسول عليكم شهيد } وأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة { لتكونوا شهداء على الناس } { ويوم يقوم الأشهاد } [ غافر : 51 ] والجوارح { يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم وأرجلهم } [ النور : 24 ] . وقيل : إن هذه الشهادة في الدنيا ، وذلك أن الشاهد في عرف الشرع من يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ، فكل من عرف حال شخص فله أن يشهد عليه فإن الشهادة خبر قاطع ، وشهادة الأمة لا يجوز أن تكون موقوفة على الآخرة لأن عدالتهم في الدنيا ثابتة بدليل { جعلناكم } بلفظ الماضي ، فلا أقل من حصولها في الحال . ثم رتب كونهم شهداء على عدالتهم ، فيجب أن يكونوا شهداء في الدنيا . وإن قيل : لعل التحمل في الدنيا ولكن الأداء في الآخرة . قلنا : المراد في الآية الأداء لأن العدالة إنما تعتبر في الأداء لا في التحمل ، ومن هنا يعلم أن إجماعهم حجة لا بمعنى أن كل واحدٍ منهم محق في نفسه ، بل بمعنى أن هيئتهم الاجتماعية تقتضي كونهم محقين ، وهذا من خواص هذه الأمة ، ثم لا يبعد أن يحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا بينوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد علىلعقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم ، أو يكون المعنى لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلاّ بشهادة العدول الأخيار ، ويكون الرسول عليكم شهيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم . وإنما قدمت صلة الشهادة في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم فقط ، فبقيت صلة الشهادة في مركزها . والغرض في الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم فأزيلت عن مركزها ليفيد الاختصاص . وإنما لم يقل لكم شهيداً مع أن شهادته لهم لا عليهم ، لأنه ضمن معنى الرقيب مثل { والله على كل شيءٍ شهيد } [ المجادلة : 6 ] مع رعاية الطباق للأول . وإنما قيل « شهداء على الناس في الدنيا » لأن قولهم يقتضي التكليف إما بفعل أو بقول وذلك عليهم لا لهم في الحال .

قيل : الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحدٍ منهم بها وليس كذلك ، فلا بد من حملها على البعض . فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمناه لكن الخطاب في { جعلناكم } للموجودين عند نزول الآية لأن خطاب من لم يوجد محال . فالآية تدل على أن إجماع أولئك حق لكنا لا نعلم بقاء جميعهم بأعيانهم إلى ما بعد وفاة الرسول فلا تثبت صحة الإجماع وقتئذ . سلمنا ذلك لكن المراد بالعدالة اجتناب الكبائر فقط ، فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقْدح ذلك في خيريتهم وعدالتهم . وأجيب بأن حال الشخص في نفسه غير حاله بالقياس إلى غيره ، فلم يجوز أن يكون الشخص غير مقبول القول عند الانفراد ويكون مقبولاً عند الاجتماع؟ والخطاب لجميع الأمة من حين نزول الآية إلى قيام الساعة كما في سائر التكاليف مثل { كتب عليكم الصيام كما } [ البقرة : 183 ] { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] فللموجودين بالذات وللباقين بالتبعية ، لكنا لو اعتبرنا أوّل الأمة وآخرها بأسرها لزالت فائدة الآية إذا لم يبق بعد انقضائها من تكون الآية حجة عليه ، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر . ثم إن الله تعالى منّ على هذه الأمة بأن جعلهم خياراً أو عدولاً عند الاجتماع ، فلو أمكن اجتماعهم على الخطأ لم يبق بينهم وبين سائر الأمم فرق في ذلك فلا منة . { وما جعلنا } يريد الجعل بمعنى الشرع والحكم . { التي } صفة موصوف محذوف هو ثاني مفعولي « جعل » أي وما جعلنا القبلة أي الجهة التي كنت عليها أي كنت معتقداً لاستقبالها كقولك « الشافعي على كذا » ثم ههنا وجهان : أحدهما أن هذا الكلام بيان للحكمة في جعل الكعبة قبلة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تألفاً لليهود وامتحاناً للذلن اتّبعوه بمكة ، ثم حول إلى الكعبة اختباراً ثانياً أي ما رددناك إلى الجهة التي كنت عليها أولاً إلا امتحاناً للناس وابتلاء وثانيهما أنه بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة ، يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لفائدة هي أن نمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه . واللام في { لنعلم } ليست لأجل الغرض وإنما هي لتقرير الحكمة والفائدة التي يستتبعها الجعل . فإن قيل : كيف؟ قال { لنعلم } ولم يزل عالماً بذلك؟ فالجواب أن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين كما يقول الملك : فتحنا البلد . وإنما فتحه جنده أو لنعلمه موجوداً حاصلاً وهو العلم الذي يتعلق به الجزاء . ولا يلزم منه أن يحدث لله علم فإن العلم الأزلي بالحادث الفلاني في الوقت الفلاني غير متغير ، وإنما هو قبل حدوث الحادث كهو حال حدوثه .

وإنما جاء المضي والاستقبال من ضرورة كون الحادث زمانياً وكون كل زمان مكنوفاً بزمانين : سابق ولاحق . فإذا نسبت العلم الأزلي إلى الزمان السابق قلت « سيعلم الله » وإذا نسبت إلى زمانه قلت « يعلم » وإذا نسبت إلى الزمان اللاحق قلت « قد علم » فجميع هذه التغيرات انبعثت من اعتباراتك ، وعلم الله واحد فافهم . أو لنميز التابع من الناكص كقوله { ليميز الله الخبيث من الطيب } [ الأنفال : 37 ] فسمي التمييز علماً لأنه أحد فوائد العلم وثمراته ، أو لنرى كما تستعمل الرؤية مكان العلم . وعن الفراء : أن حدوث العلم في الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله : أن جاهلاً وعاقلاً اجتمعا فيقول الجاهل : الحطب يحرق النار . ويقول العاقل : بل النار تحرق الحطب ، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه ، معناه لنعلم أينا الجاهل . وهذا من كلام المصنف مثل { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] وقوله { ممن ينقلب على عقبيه } استعارة للكفر والارتداد كأنه يرجع إلى حيث أتى ثم إن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة . أو بسبب تحويلها من الناس ، من قال بالأول لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى الكعبة ، فلما جاء إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ، ثم لما تحول إلى الكعبة شق ذلك على اليهود . والأكثرون على الثاني لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم منها في تعيين القبلة ، عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا ، ولو كان على يقين من أمر تغير رأيه . وعن السدي : لما توجه إلى الكعبة اختلفوا ، قال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟ وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وقد صلوا نحو البيت المقدس . وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده . وقال المشركون : تحير في دينه . { وإن كانت لكبيرة } هي « إن » المخففة التي يلزمها اللام الفارقة بينها وبين « إن » النافية ، وتتهيأ بالتخفيف للدخول على الأفعال . لكن البصريين أوجبوا كون الفعل الذي دخلت هي عليه من باب « كان » أو « علم » ويبطل عمل « إن » في الظاهر ، وكذا في التقدير ، فلا يقدر ضمير الشأنّ كما يقدر في « أن » المفتوحة إذا خففت ، فقوله { لكبيرة } خبر « كانت » واسمها الضمير العائد إلى القبلة لأنها هي المذكورة ، أو إلى ما دل عليه الكلام السابق من التولية في { ما ولاهم } أو الجعلة ، أو الردة ، أو التحويلة في { وما جعلنا } ومعنى لكبيرة لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } وذلك أن الامتحان إن وقع بنفس القبلة فالفطام عن المألوف شديد والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف عسير ، وإن وقع بالتحويل فهو مبني على جواز النسخ وفيه ما فيه من الشبه والإشكال فيصعب اعتقاد حقيقته إلا على الذين هدى الله .

الراجع محذوف أي هداهم الله إلى الثبات على دين الإسلام بأن نصب لهم الدلائل أولاً ، ثم جعلهم منتفعين بها ثانياً ، وإلا فالدلالة عامة للكل { وما كان الله ليضيع إيمانكم } الخطاب للمؤمنين المعاصرين ، واللام لتأكيد النفي الداخل في « كان » ينتصب المضارع بعدها بتقدير « أن » أي لن يضيع الله ثواب ثباتكم على الإيمان ، وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا ، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب الجزيل عن الحسن . وقال ابن زيد : ما كان الله ليترك تحويلكم من بيت المقدس إلى الكعبة لعلمه بأن تقريركم على ذلك مفسدة لكم وإضاعة لصلواتكم ، أي لثوابها . أطلق الإيمان على الصلاة لأنها أعظم آثار الإيمان وأشرف نتائجه ، أو لأن المراد لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة . وعن ابن عباس : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فنزلت . وإنما خوطبوا تغليباً للأحياء مثل { وإذ قتلتم نفساً } [ البقرة : 72 ] { وإذ فرقنا بكم البحر } [ البقرة : 50 ] والمراد أهل ملتهم . وليس هذا السؤال من الشك في حقية النسخ في شيء وإنما هو لأجل الاطمئنان وازدياد اليقين ولعلهم إنما خصوا السؤال بالأموات لأنهم ظنوا أنفسهم مستغنين عن ذلك حيث تقع صلاتهم إلى الكعبة بقية عمرهم مكفرة لما سلف منهم ، فأجيبوا بما يخرج عنه جواب الأموات والأحياء جميعاً ، فإن المنسوخ حق في وقته كما أن الناسخ حق في وقته ، سواء عمل المكلف بهما في وقتيهما أو لم يعمل إلا بالمنسوخ لانقضاء أجله قبل الناسخ . وجوز بعضهم أن يكون السؤال صادراً عن منافق فنبه الله المسلمين على الجواب . وقيل : بل المعنى وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم ، فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا . يحكى عن الحجاج أنه قال للحسن : ما رأيك في أبي تراب؟ فقرأ قوله { إلا على الذين هدى الله } ثم قال : وعلي منهم وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته وأقرب الناس إليه وأحبهم { إن الله بالناس لرؤف رحيم } الجوهري : الرأفة أشد الرحمة . رؤفت به أرؤف بالضم فيهما رأفة ورآفة ورأفت به أرأف بالفتح فيهما . ورئفت به بالكسر رأفاً والصفة رؤوف ورؤف على « فعول » و « فعل » وقيل : الرحمة تقع في الكراهة للمصلحة ، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة ، وقيل : الرأفة مبالغة في رحمة خاصة هي دفع المكروه وإزالة الضرر قال { ولا تأخذكم بهما رأفةٌ } [ النور : 2 ] . والرحمة اسم جامع خصص أولاً ثم عمم . والمراد أن الرؤف الرحيم كيف يتصور منه الإضاعة ، أو كيف لا ينقلكم من شرع إلى شرع هو أصلح لكم وإنما هَدى مَنْ هَدَى لأنه بالناس رؤف رحيم ، فمن كان أقبل للفيض كان الأثر عليه أظهر .

قوله عز من قائل { قد نرى } معناه كثرة الرؤية ههنا وإن كان في الأصل للتقليل قال :
قد أترك القرن مصفراً أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد
كما أن « رب » في الأصل للتقليل ، ثم قد تستعمل في معنى التكثير كقوله « فإن تمس مهجور الفناء فربما » . أقام به بعد الوفود وفود . ووجه ذلك أن المادح يستقل الشيء الكثير من المدائح لأن الكثير منها كأنه قليل بالنسبة إلى الممدوح ومثله { قد يعلم الله } فإن المتمدح بكثرة العلم يقول لا تنكر أن أعرف شيئاً من العلم . { تقلب وجهك } تردد نظرك في جهة السماء وذلك لانتظار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . عن ابن عباس أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها » . فقال له جبريل عليه السلام : أنا عبد مثلك فسل ربك ذلك . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فنزلت . وإنما أحب ذلك لأن اليهود كانوا يقولون : إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل أو لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم ولأن ذلك أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ، ولأنه أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه ، ولا يبعد أن يميل طبعه إلى شيء ثم يتمنى في قلبه إذن الله فيه . وقيل : إنه استأذن جبريل في أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله قد أذن له في الدعاء ، فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل للإجابة . وعن الحسن : أن جبريل أخبره بأن الله تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس من غير تعيين للمحول إليها - ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة - فكان ينتظر الوحي بذلك وعلى هذا فقيل : منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة وكان يخاف أن يدخل وقت الصلاة ولا قبلة ، فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم . وقيل : بل وعد بذلك . وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يقلب طرفه وهذا وإلا لم تكن القبلة ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة ، لكن المفسرين أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ، لأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه . واختلف في صلاته بمكة فقيل : كان يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر أو ثلاثة عشر أو ستة عشر أو سبعة عشر - وهو الأكثر - أو ثمانية عشر أو سنتين أقوال .

وقيل : بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس . واختلفوا أيضاً في أن توجه بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره . فعن الربيع بن أنس أنه كان مخيراً لقوله { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] الآية . ولما روي أن قوماً قصدوا الرسول من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة فتوجه بعضهم في الطريق لصلاته إلى الكعبة وبعضهم إلى بيت المقدس ، فلما قدموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم ينكر عليهم . وعن ابن عباس أن ذلك كان فرضاً لقوله { فلنولينك قبلة ترضاها } فدل على أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة . ومعنى « فلنولينك » فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولهم « وليته كذا » جعلته والياً له ، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس . ترضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته . وعن الأصم : كل جهة وجهك الله إليها يجب أن تكون رضاً لا تسخطها كما فعل من انقلب على عقبيه . وقيل : ترضى عاقبتها لأنك تميز بها الموافق عن المنافق . { فول وجهك } أي كل بدنك لأن الواجب على الشخص أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط . وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وبه تتميز الأشخاص . وشطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته قاله جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وعن بعضهم أن الشطر نصف الشيء والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب ، فاختبر هذه العبارة ليعرف أن الواجب هو التوجه إلى بقعة الكعبة ، وزيف بالفرق بين النصف وبين المنتصف والمكلف مأمور بالثاني دون الأول . عن ابن عباس : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال : إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة . وفي الموطأ : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين . واختلفوا في المراد بالمسجد الحرام . ففي شرح السنة عن ابن عباس أنه قال : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك . وقال آخرون : القبلة هي الكعبة لما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أخبرني أسامة بن زيد قال : لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة .

وقد وردت أخبار كثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة كما قلنا في حديث ابن عمر ، فاستداروا إلى الكعبة . وقال آخرون : القبلة هي المسجد الحرام كله .
واعلم أن الواجب عند الشافعي في أظهر قوليه أن يستقبل المصلي عين الكعبة قريباً كان أو بعيداً لظاهر قوله تعالى { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ولقوله صلى الله عليه وسلم : « هذه القبلة » مشيراً به إلى العين ، ولأن تعظيم الكعبة من النبي صلى الله عليه وسلم بلغ مبلغ التواتر . وتوقيف صحة الصلاة وهي من أعظم شعائر الدين على استقبال عين الكعبة مما يوجب مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعاً . ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وغيره مشكوك فيه والأخذ بالمعلوم أحوط . وأما عند أبي حنيفة ويوافقه القول الآخر للشافعي ، فمحاذاة جهة الكعبة كافية لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً للبعيد ، ولأن في ذكر المسجد الحرام دون الكعبة دلالة على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ، ولأن الشطر الجانب واكتفى به في الآية ، ولأن أهل قباء استداروا إلى الكعبة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ومن المعلوم أن مقابلة العين من المدينة إلى مكة حيث إنها تحتاج إلى النظر الدقيق لم يتأت لهم حينئذ ، ثم لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وسمى مسجدهم بذي القبلتين ، ولأن استقبال عين الكعبة لو كان واجباً ولا سبيل إليه إلا بالدلائل الهندسية فإنها هي المفيدة لليقين وغيرها من الأمارات لا يفيد إلا الظن ، والقادر على اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لزم أن يكون تعلم تلك الدلائل واجباً ، ولم يذهب إليه أحد والإنصاف أن القول الأول أقرب إلى التعبد ، وإصابة العين للبعيد غير بعيد ، فما من نقطتين في الأرض ولا في السماء إلا ويمكن أن يوصل بينهما بخط ، والغرض أن يكون المصلي ساجداً على قوس عظيمة أرضية مارّة بقدميه وموضع سجوده ووسط البيت بشرط أن يكون القوس أقل من نصف الدور . وغير عسير معرفة هذا القدر بالدائرة الهندسية وغيرها من الطرق المشهورة فيما بين أهل الهيئة وقد برهنا على كثير منها في كتبنا النجومية ، وذكرها ههنا خروج عن الصناعة مع أن المتعلم لا ينتفع بها دون مقدماتها .
ولمعرفة القبلة أمارات أخر قد يستعين بها المتحير وهي : إما أرضية وهي الجبال والقرى والأنهار ، أو هوائية وهي الرياح ، أو سماوية وهي النجوم . أما الأرضية والهوائية فغير مضبوطة لكن ربما يكون في الطريق جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه ، وكذلك الرياح قد تهب في بعض النواحي من صوب معين ، وأما السماوية ففي النهار لا بد أن يراعي قبل الخروج عن البلد ، الشمس عند الزوال هي بين الحاجبين أم على العين اليمنى أم على اليسرى أم تميل ميلاً أكثر من ذلك ، فإن الشمس في البلاد الشمالية قلما تعد وهذه المواقع .

وكذلك يراعى وقت العصر ويعرف وقت الغروب أنها تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه . وكذلك يعرف وقت العشاء الاخرة موضع الشفق ، ووقت الصبح مشرق الشمس ، ويحتاط في مشرق الصيف والشتاء ومغربها . وبالليل يستدل بالكوكب الذي يقال له « الجدي » فيعرف أنه على قفا المستقبل أو على منكبه الأيمن أو الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها بخلاف ذلك . فإذا عرف هذه الدلائل في بلده فليعول عليها في الطريق كله إلا إذا طال السفر ، فحينئذ إذا انتهى إلى بلد سأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو يستقبل محراب جامع البلد ثم يستدل بها في سائر طريقه . ومعرفة دلائل القبلة فرض على العين أم فرض على الكفاية؟ أصح الوجهين في مذهب الشافعي الأول كأركان الصلاة وشرائطها .
قوله تعالى { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ليس بتكرار لأن الأول الخطاب للرسول وهذا خطاب للأمة ، أو لأن الأمة قد دخلت في الأول تبعاً . واحتمل أيضاً أن يكون الخطاب مختصاً بأهل المدينة وفي الثاني عم المكلفين جميعاً في جميع بقاع الأرض .
واعلم أن الاستقبال يتوقف على مستقبل ومستقبل نحوه هو القبلة ، ولا بد من حالة يقع فيها الاستقبال ، فلنتكلم في هذه الأركان الثلاثة على الإجمال وتفصيل ذلك في كتبنا الفقهية .
الركن الأول الحالة : وهي الصلاة للإجماع على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب وإن كان طاعة لقوله صلى الله عليه وسلم « خير المجالس ما استقبل به القبلة » والصلاة إما فريضة ويتعين الاستقبال فيها إلا في حالة الخوف ، وإما نافلة ويجب فيها الاستقبال إلا في حالة الخوف ، وفي السفر راكباً أو ماشياً متوجهاً إلى طريقه لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر في راحلته حيث توجهت به . ويحكى عن أحمد خلاف في الماشي وكذا من أبي حنيفة . وهل يجب على المتنقل أن يستقبل القبلة عند التحرم؟ الأصح نعم إن سهل بأن لم تكن مقطرة أو لا حران بها وإلا فلا ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته وكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه . وأم عدم الاشتراط عند الصعوبة فلدفع المشقة واختلال أمر السير عليه ، وأما الاستقبال عند السلام فالأصح أنه لا يشترط كما في سائر الأركان إلا الماشي فعليه الاستقبال في كل ركوع وسجود كما عليه الإتمام بخلاف الراكب فإنه لا يكلف الاستقبال فيهما ولا وضع الجبهة في السجود على السرج أو الإكاف ، بل يقتصر فيهما على الإيماء ويجعل السجود أخفض .

وليس لراكب التعاسيف الذي لا مقصد له رخصة ترك الاستقبال في التنقل .
الركن الثاني القبلة : للمصلي إن وقف في جوف الكعبة وهي على هيئتها مبنية تصح صلاته فريضة كانت أو نافلة خلافاً لأحمد ومالك في الفريضة . قيل لنا إنه صلى متوجهاً إلى بعض أجزاء الكعبة فتصح صلاته كالنافلة كما يتوجه إليها من خارج ، ثم يتخير في استقبال أي جدار شاء . ويجوز أن يستقبل الباب أيضاً إن كان مردوداً ، وإن كان مفتوحاً فإن كانت العتبة قدر مؤخرة الرحل صحت صلاته وإلا فلا . ومؤخرة الرحل ثلثا ذراع إلى ذراع تقريباً كأنهم راعوا أن يكون في سجوده يسامت بمعظم بدنه الشاخص . وإن انهدمت الكعبة - حاشاها - وبقي موضعها عرصة فإن وقف خارجها وصلى إليها جاز لأن المتوجه إلى هواء البيت والحالة هذه متوجه نحو المسجد الحرام كمن صلى على أبي قبيس والكعبة تحته يجوز لتوجهه إلى هواء البيت . ولو صلى في العرصة فالحكم كما لو وقف الآن على سطح الكعبة ، فإن لم يكن بين يديه شاخص من نفس الكعبة قدر مؤخرة الرحل فالأصح أنه لا يجزيه خلافاً لأبي حنيفة . وإن كان المصلي خارج الكعبة فإن كان حاضر المسجد الحرام وجب عليه لا محالة استقبال عين الكعبة بكل بدنه لأنه قادر عليه ، والإمام يقف خلف المقام استحباباً ، والقوم يقفون مستديرين بالبيت وإلا فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة إلا عند من يرى الجهة كافية . ولو تراخى الصف الطويل ووقفوا في آخر باب المسجد صحت صلاتهم لأن البعيد تزداد محاذاته . يتبين ذلك إذا جعلت البيت رأس مثلث متساوي الساقين والصفوف خطوطاً موازية لقاعدته . وإن كان خارج المسجد فإن كان يعاين القبلة سوّى محرابه بناء على العيان وصلى إليه أبداً . ومحراب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة نازل منزلة الكعبة لأنه لا يقر على الخطأ فهو صواب قطعاً فيسوّي سائر المحاريب عليه . وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضبط المحراب ، وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين . وفي الطرق التي هي جادتهم يتعين التوجه إليها وكذلك في القرية الصغيرة التي نشأ فيها قرن من المسلمين ، ولا بد من الاجتهاد في التيامن والتياسر ، وأما في محراب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا . ولا يجوز الاجتهاد في الجهة في شيء من محاريب المسلمين لأن الخطأ منهم في الجهة بعيد بخلاف التيامن والتياسر . ويقال : إن عبد الله بن المبارك كان يقول بعد رجوعه من الحج : تياسروا يا أهل مرو .
الركن الثالث المستقبل : إذا قدر على اليقين بالمعاينة أو بأمارات أخر فلا يجتهد ولا يقلد وإن لم يقدر ، فإن وجد من يخبره عن علم وكان المخبر ممن يعتد بقوله رجع إلى قوله ولم يجتهد أيضاً كما في الوقت إذا أخبره عدل عن طلوع الفجر يأخذ بقوله ولا يجتهد وكذلك في الحوادث إذا روى العدل خبراً يؤخذ به ، وكل ذلك قبول الخبر من أهل الرواية وليس من التقليد في شيء ويشترط في المخبر أن يكون عدلاً يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد ، ولا يقبل خبر الكافر بحال وكذا خبر الصبي غير المميز عند الأكثرين .

ثم الإخبار عن القبلة قد يكون صريحاً وذلك ظاهر ، وقد يكون دلالة كما في نصب المحاريب في المواضع التي يعتمد عليها . ولا فرق في لزوم الرجوع إلى الخبر بين أن يكون الشخص من أهل الاجتهاد وبين أن لا يكون . فإن لم يجد من يخبره عن علم فإن قدر على الاجتهاد ولا يتيسر إلا بمعرفة أدلة القبلة كما عددنا اجتهد ولم يقلد كما في الأحكام الشرعية ، ولو فعل يلزمه القضاء ولا فرق في وجوب الاجتهاد ههنا بين الغائب عن مكة والحاضر بها إذا حال بينه وبين الكعبة حائل أصليّ كالجبال أو حادث كالأبنية ، ولو خفيت الدلائل على المجتهد بغيم أو حبس أو تعارضت ، صلّى كيف اتفق لحق الوقت ويقضي . وإن عجز عن الاجتهاد فإن لم يمكنه التعلم لعدم البصر أو لعدم البصيرة فالواجب عليه التقليد كالعامي في الأحكام ، وتقليد الغير هو قبول قول المستند إلى الاجتهاد بعد أن كان المجتهد مسلماً عدلاً عارفاً بأدلة القبلة يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد . فإن وجد مجتهدين مختلفين قلد من شاء منهما ، والأحب أن يقلد الأوثق الأعلم عنده ، وإن أمكنه التعلم فليس له التقليد بناء على ما مر من أن تعلم الأدلة فرض العين . فإن قلد قضى ، وإن ضاق الوقت عن التعلم صلى لحق الوقت وقضى . ثم المجتهد إن بان له الخطأ يقيناً أو كان دليل الاجتهاد الثاني أرجح ولم يشرع بعد في الصلاة ، عمل بمقتضى الثاني . وإن بان بعد الفراغ من الصلاة فإن تيقن الخطأ قضى على الأصح ، وإن ظن لم يقض . وإن تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة انحرف ويبني . فهذه هي المسائل المستنبطة من الآية التي ذكرناها لأنها من أهم مهمات الدين { وإن الذين أوتوا الكتاب } يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى لعموم اللفظ ولشمول الكتاب التوراة والإنجيل ، ولكن يجب أن يكونوا أقل من عدد أهل التواتر ليصح عنهم الكتمان . وعن السدي : أنهم اليهود خاصة ، والكتاب التوراة ، والضمير في أنه الحق إما للرسول أي أنه مع شرعه ونبوته حق يشمل أمر القبلة وغيرها ، وإما لهذا التكليف الخاص وهو أنسب بالمقام ، وذلك أن علماءهم عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وأنه يصلي إلى القبلتين وأن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .

وأيضاً أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات والبشارات وكل ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق ، فهذا التحويل حق . { وما الله بغافلٍ عما يعملون } وعد للمتقين ووعيد للناكصين والمعاندين ، ثم بين استمرار أهل الكتاب على عنادهم فقال { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } قيل : هم جميع اليهود والنصارى لعموم اللفظ ، وقيل : هم علماؤهم المذكورون في الآية المتقدمة لأنهم وصفوا باتباع الهوى في قوله { ولئن اتبعت أهواءهم } ومجرد اعتقاد الباطل لا يكفي فيه ، بل الذين بقلوبهم ثم يقولون غير الحق في الظاهر فهم المتبعون للهوى . ونوقش فيه بأن صاحب كل شبهة صاحب هوى . قالوا : الآيتان المكتنفتان بهذه الآية مخصوصتان بالعلماء منهم لأن الجمع العظيم لا يجوز منهم الكتمان فكذا هذه الآية . وأجيب بأنه لا يلزم من تخصيصهما تخصيصها . قالوا : أخبر عنهم بالإصرار والاستمرار وهذا شأن المعاند اللجوج لا دأب العامي المتحير . وردّ بأن المقلد أيضاً قد يصر . قالوا : الحمل على العموم يكذبه الوجود فإن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبع قبلته . ووجه بأن المراد من قوله { ما تبعوا قبلتك } أنهم لا يجتمعون على الاتباع كقوله { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } [ الأنعام : 35 ] وسلب الاجتماع لا ينافي اتباع البعض { بكل آية } بكل برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق { ما تبعوا قبلتك } جواب للقسم المحذوف ساد مسد جواب الشرط واللام في { ولئن } لتوطئه القسم أي والله لئن أتيتهم بكل برهان ما اجتمعوا على قبلتك لأن فيهم من قد ترك اتباعك لا لشبهة تزيلها بإيراد الحجة بل عناداً ومكابرة مع علمهم بما في كتبهم من نعتك . ومن خص اللفظ بالعلماء بأن صح عنده أنه لم يتبع منهم أحد قبلتنا لم يحتج إلى هذا التأويل بل يكون ما تبعوا في قوة ما تبع أحد منهم { وما أنت بتابعٍ قبلتهم } رفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة بالتوجه إلى بيت المقدس حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم وقالوا : لو ثبت على قبلتنا كلنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره . وفيه أنه لا يجب عليه استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية . وإنما وحد القبلة للعلم بأن لليهود قبلة وللنصارى قبلة أخرى أو لأنهما بحكم الاتحاد في البطلان واحد { وما بعضهم بتابعٍ قبلة بعض } إن حمل على الحال فالمعنى أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن رضاهم باتباعها أو أنهم مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى شيئين مختلفين؟ أو أنه إذا جاز أن يختلف قبلتاهما للمصلحة فلم لا يجوز أن تكون المصلحة في ثالث؟ وإن حمل على الاستقبال فالمعنى أن اليهود لا تترك قبلتهم إلى المشرق ، ولا النصارى إلى المغرب ، بحيث تتعطل إحدى القبلتين ، لا أن اليهودي لا يصير نصرانياً أو بالعكس فإن ذلك قد وقع .

أخبر الله تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه محقاً أو مبطلاً { ولئن اتبعت أهواءهم } كلام على سبيل الفرض والتقدير لقرينة وما أنت بتابع قبلتهم المعنى لئن اتبعت مثلاً بعد وضوح الدلائل وانكشاف جلية الأمر في باب الديانة { إنك إذاً } أي إذا اتبعت لمن المرتكبين الظلم الفاحش لأن صغائر الرجل الكبير كبائر فكيف بكبائره؟ وفيه أن ترك العمل من العلماء أقبح ، وفيه لطف للنبي صلى الله عليه وسلم فإن مزيد المحبة تقتضي التخصيص بمزيد التحذير ، ولعله كان في بعض الأمور يتبع أغراضهم كترك المخاشنة في القول واستمالة قلوبهم طمعاً منه في إسلامهم ومعاضدتهم ، فنهى عن ذلك القدر أيضاً وآيسه منهم بالكلية . كقوله { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً } [ الإسراء : 74 ] { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] وفيه إشارة للأمة كالرجل الحازم يقبل على أبرّ أولاده وأصلحهم فيزجره عن شيء بحضرة سائر الأولاد والغرض زجرهم وإصلاحهم وأنه لا محالة يؤاخذون بالطريق الأولى لو خالفوه { الذين آتيناهم الكتاب } هم علماؤهم بدليل { يعرفونه } أي الرسول معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالمشخصات من النعت والنسب والقبلة حسب ما وجدوه في كتبهم { كما يعرفون أبناءهم } لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم . « وما » مصدرية أو كافة ، والغرض تشبيه عرفان شخصه بعرفان أشخاص الأبناء لا تشبيه العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم ببنوة الأبناء وإلا كان تشبيه المعلوم بالمظنون . عن عمر أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به مني يا بني . قال : لم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت ، فقبل عمر رأسه . وجاز إضمار الرسول وإن لم يجز له ذكر لدلالة الكلام عليه ، وفيه تفخيم لشأنه وأنه معلوم بغير إعلام ، ولا يصح أن يقال : المراد بالمعرفة معرفتهم الحاصلة من قبل ظهور المعجزات على يده لأنه لا يفيد إلا كونه نبياً وهم لا ينكرون ذلك ، وإنما ينكرون كونه النبي صلى الله عليه وسلم المنعوت في كتبهم فرد الله عليه ذلك فافهم . وإنما خص الأبناء بالذكر لأنهم أعرف وأشهر وبصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ولو تساويا فالذكور أولى بالذكر . وقيل : الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة وفي الكل تكلف ينبو عنه قوله { أبناءهم } ويباينه الحديث عن عبد الله بن سلام ولما كان من علمائهم العارفين بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم من آمن به وأظهر الحق وهو ما يجب القول به ويجب العمل بمقتضاه كعبد الله بن سلام وأتباعه .

قال تعالى { وإن فريقاً منهم } يريد من سوى المسلمين المؤمنين منهم { ليكتمون الحق } الذي هو أمر محمد أو أمر القبلة ثم أكد ذلك بقوله { وهم يعلمون } فإنه لا يوصف بالكتمان إلا من علم المكتوم { الحق من ربك } يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ، « ومن ربك » خبر بعد خبر أو حال . وأن يكون مبتدأ خبره « من ربك » . ثم في اللام يكون وجهان : العهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلى الحق الذي في قوله { ليكتمون الحق } أو الجنس على معنى الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه وما سواه كما يدعيه أهل الكتاب باطل { فلا تكونن من الممترين } الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم أو في كون الحق من ربك . وقد يجوز أن ينهى الشخص عما يعلم أنه منته عنه لمثل ما تقرر في قوله { ولئن اتبعت } . { ولكل } التنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، والوجهة اسم الجهة ولذلك ثبتت الواو كما قالوا « ولدة » في جمع الوليد الصبي ، وإنما لا تجمع مع الهاء في المصادر ، وقوله { هو } إما أن يعود إلى الكل وإما أن يعود إلى الله . وثاني مفعولي { موليها } محذوف أي هو موليها وجهه ، أو الله موليها إياه . ثم اختلف في التفسير فقيل : المعنى ولكل أهل دين من الأديان المختلفة قبلة وجهة إما بشريعة وإما بهوى هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي يتقرب بها إلى ربه ، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة ، ولستم تؤاخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم { فاستبقوا } أنتم { الخيرات } الدنيوية وهي الشرف والفخر بقبلة إبراهيم ، والأخروية وهي الثواب الجزيل المعد للمطيعين . { وأينما تكونوا } من جهات الأرض { يأت بكم الله جميعاً } في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل والمصيب والمخطئ إنه قادر على ذلك . وقيل : إن الله تعالى عرفنا أن كل واحدة من بيت المقدس والكعبة قبلة . فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمره في الحالين ولا تلتفتوا إلى مطاعن السفهاء فإن الله يجمعكم وإياهم يوم القيامة فيحكم بينكم . وقيل : ولكل قوم منكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت { أينما تكونوا } من الجهات المختلفة { يأت بكم الله جميعا } يجمعكم للجزاء ويجعل صلواتكم واحدة كأنها إلى جهة واحدة لمحاذاة الجميع الكعبة . ولقراءة ابن عامر { مولاها } معنيان : أحدهما أن ما وليته فقد ولاك والآخر زينت له تلك الجهة وحببت إليه .

وقيل : ولكل مخلوق قبلة فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك أنت الكعبة ، بل قبلة جسدك هي ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك أنت الكعبة ، بل قبلة جسدك هي ، وقبلة روحك أنا ، وقبلتي أنت « أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » . ثم إن الشافعي استدل بقوله { فاستبقوا الخيرات } على أن الصلاة في أول الوقت أفضل . وعند أبي حنيفة : التأخير أفضل إحرازاً لفضيلة الانتظار ولتكثر الجماعة ، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر » وقال ابن مسعود : ما رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر . وأجيب بأن الانتظار قبل مجيء الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم « يا علي ثلاث لا تؤخرها : الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً » وأن المراد بالإسفار والتنوير هو طلوع الفجر الصادق بحيث لا يشك فيه وذلك مما لا نزاع فيه ، وإنما النزاع فيما إذا تحقق دخول الوقت ثم تكاسل المكلف وتثاقل أو بغير أسباب الصلاة تشاغل . { ومن حيث خرجت } ومن أي بلد خرجت يا محمد { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } إذا صليت { وإنه } وإن هذا المأمور به { للحق } الذي يجب أن يقبل ويعمل به حال كونه { من ربك وما الله بغافلٍ عما يعملون } وعد للمتشاغلين ووعيد للمتغافلين . واعلم أن أمر التولية ذكره الله تعالى ثلاث مرات ، وللعلماء في سبب التكرير أقوال :
أولها : أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام ، والثانية على أن يكون غائباً عنه ولكن يكون في البلد ، والثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض ، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم .
وثانيها : أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ، وذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة والإنجيل ، وأكد الثاني بإخبار الله تعالى عن حقيته وكفى به شهيداً ، وأتبع الثالث غرض التحويل وهو قوله { لئلا يكون للناس عليكم حجة } كما أن قوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } وأمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة .
وثالثها : أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلباً لهواه حيث قال { فلنولينك قبلةً ترضاها } فأزيل الوهم بتكرار الأمر وتعقيبه بقوله { وإنه للحق من ربك } أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك وهواك كقبلة اليهود والمنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والتشهي ، ولكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك ، وفي الثالثة بيان الغرض .

ورابعها : أن الأولى لتعميم الأحوال والثانية لتعميم الأمكنة ، والثالثة لتعميم الأزمنة إشعاراً بأنها لا تصير منسوخة ألبتة .
وخامسها : الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها ، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى . الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا وهذا قريب من الثالث .
وسادسها : هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد والتقرير .
وسابعها : قلت : الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم { فلنولينك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } ثم على تكليف عام له ولأمته { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } والآية الثانية { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } لأجل تكليف أخص وهو تكليف الالتفات عما سوى الله إلى الله وهو تكليف الصدّيقين وهو سنة خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } [ الأنعام : 49 ] ومما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله { وإنه للحق من ربك } لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو وهو مقام الفناء في الله بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير . وأيضاً اقتصر ههنا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة لأن هذه المرتبة وهي المسجد الحرام - حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد . وأيضاً قدم على الآية قوله { ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات } فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين { ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } [ فاطر : 32 ] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه والعام له ولأمته ، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باقٍ بالنسبة إلى عموم المكلفين والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
قوله { لئلا يكون } أي ولوا لأجل هذا الغرض . وقال الزجاج : يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة . و الناس قيل للعموم ، وقيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ويقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه . وقيل : هم العرب قالوا : إنه يقول أنا على دين إبراهيم ، ولما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم . وإنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة ، أو سماها حجة تهكماً أو طباقاً أو بناءً على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة . وقد تكون الحجة باطلة قال تعالى { حجتهم داحضة عند ربهم } [ الشورى : 16 ] وكل كلام يقصد به غلبة الغير حجة ، وعلى هذا فالاستثناء متصل . والمراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء ، أو بعض العرب القائلون بأن محمداً عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية .

وقيل : الاستثناء منقطع . وقيل : « إلا » بمعنى الواو وأنشد شعر :
وكل أخٍ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني والفرقدان . وإذا طعنوا في دينكم من غير ما سببٍ { فلا تخشوهم } فإنهم لا يضرونكم { واخشون } واحذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم على وفق مصلحتكم ، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله وتروكه خشية الله ويقطع الرجاء والخوف عمن سواه . قوله { ولأتم } قيل : معطوف على { لئلا } أي حوّلتكم إلى هذه القبلة لحكمتين : إحداهما انقطاع حجتهم ، والثانية إتمام النعمة بحصول شرف قبلة إبراهيم . وقيل : متعلقة محذوف معناه ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك . وقيل : معطوف على علة مقدرة كأنه قال : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم وهذا الإتمام لا ينافي ما أنزل في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] فإن لله تعالى في كل وقت نعمة على المكلفين ولها تمام بحسبها ، فهذا إتمام النعمة في أمر القبلة ، وذاك تمام النعمة في أمر الدين على الإطلاق وعن علي عليه السلام : تمام النعمة الموت على الإسلام . وفي الحديث « تمام النعمة دخول الجنة » { كما أرسلنا } « ما » مصدرية أو كافة . ثم إن الجار والمجرور يتعلق بما قبله أو بما بعده . وعلى الأول قيل : معناه ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول ، أو لأتم نعمتي ببيان الشرائع ، أو أهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم حيث قال { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابةً لدعوته حيث قال { ربنا وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] وقيل : معناه كذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً ، وعلى الثاني معناه كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني أذكركم تارةً أخرى . وفيه أن نعمه على العبد لا تنقطع ، فكل نعمة سابقة فسيضم إليها أخرى لاحقة حتى يكون له الفضل أولاً وأخيراً وبدايةً ونهايةً . وفي إرساله فيهم ومنهم أي من العرب نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب . وكون القرآن متلواً من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ، ولأنه يتلى فتستفاد منه جميع العلوم ، ولأنه يتلى فيوقف على مجامع الأخلاق الحميدة ففي تلاوته خير الدنيا والآخرة . ومعنى التزكية وتعليم الكتاب والحكمة قد مر في دعاء إبراهيم . وفي قوله { يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } تنبيه على أنه تعالى أرسله على فترة من الرسل وجهالة من الأمر وتحير الناس في أمر الديانة ، فعلمهم ما احتاجوا إليه في صلاح معاشهم ومعادهم وذلك من أعظم أنواع النعم { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } تكليف بأمرين : الذكر والشكر .

وقد مر ذكر الشكر في تفسير الحمد وقوله { ولا تكفرون } عطف بالواو ليعلم أن جحود النعمة منهيّ عنه كما أن الشكر مأمور به . ولو قطع على طريقة قوله :
« أقول له ارحل لا تقيمن عندنا » لأوهم أن المقصود بالذات هو الثاني والأول في حكم المنحى . ويحتمل من حيث العربية أن تكون « لا » نافية والنون ليست للوقاية ، ومحل الجملة النصب على الحال أي اشكروا لي غير جاحدين لنعمتي . وأما الذكر فباللسان وهو أن يحمده ويسبحه ويمجده ويقرأ كتابه ، أو بالقلب وهو أن يتفكر في الدلائل على ذاته وصفاته ، وفي الأجوبة عن شبه الطاعنين فيها وفي الدلائل على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ليعمل بمقتضاها ، ثم يتفكر في أسرار المخلوقات متوصلاً من كل ذرة إلى موجدها ، أو بالجوارح وهو أن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها فارغة عن الأشغال المنهي عنها . وبهذا الوجه سمى الصلاة ذكراً { فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] وأما ذكر الله تعالى فلا بد أن يحمل على ما له تعلق بالثواب وإظهار الرضا واستحقاق المنزلة والإكرام فالحاصل اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي ، اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ، اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء ، اذكروني بالمجاهدة أذكركم بالهداية ، اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، اذكروني بالعبودية أذكركم بالربوبية ، اذكروني بالفناء أذكركم بالبقاء .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

القراآت : { إنا لله } بالإمالة فيهما : قتيبة ونصير . وإنما جازت مع امتناعها في الحروف لكثرة استعمال كلمة الاسترجاع .
الوقوف : { والصلاة } ط { الصابرين } لا { أموات } ط { لا تشعرون } 5 { والثمرات } ط { الصابرين } لا لأن صفتهم { مصيبة } لا لأن « قالوا » جواب « إذا » { راجعون } ط لأن « أولئك » مبتدأ على الأصح ومن ابتداء بالذين فخبره « أولئك » مع ما يتلوه ووقف على الصابرين ولم يقف على { راجعون } { المهتدون } 5 .
التفسير : أنه تعالى لما أوجب بقوله { فاذكروني أذكركم واشكروا لي } جميع الطاعات ورغب بقوله { ولا تكفرون } عن جميع المنهيات فإن الشكر بالحقيقة صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه إلى ما أعطاه لأجله ، ندب إلى الاستعانة على تلك الوظائف بالصبر والصلاة . فالصبر قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى ، والصلاة إذا اشتملت على مواجب الخشوع والتذلل للمعبود والتدبر لآيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، انجر ذلك إلى أداء حقوق سائر الطاعات والاجتناب عن جميع الفواحش والمنكرات { إن الله مع الصابرين } بالنصر والتأييد ومزيد التوفيق والتسديد { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } [ مريم : 76 ] وقيل : الصبر الصوم . وقيل : الجهاد بدليل قوله { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء } أي هم أموات بل هم أحياء . وعلى الوجه الأول كأنه قيل : استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني وسلوك سبيلي ، فإن احتجتم في ذلك إلى مجاهدة عدوّي بأموالكم وأنفسكم فتلفت فإن قتلاكم أحياء عندي ، من قتله محبته فديته رؤيته . ثم إن أكثر المفسرين على أنهم أحياء في الحال ، فمن الجائز أن يجمع الله تعالى من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة فيرى معظم جسد الشهيد ميتاً فلا يحس بحياته وإليه الإشارة بقوله { ولكن لا تشعرون } ومما يؤيد هذا القول الآيات الدالة على إثبات عذاب القبر { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [ غافر : 46 ] { أغرقوا فأدخلوا ناراً } [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب وقال صلى الله عليه وسلم « القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفرة النيران » ولم يزل أرباب القلوب يزورون قبور الشهداء ويعظمونها . وقيل : المعنى لا تسموهم بالأموات وقولوا لهم الشهداء الأحياء . أو المراد : قولوا لهم أحياء في الدين وإنهم على هدى ونور من ربهم لا كما يزعم المشركون أنهم ليسوا من الدين في شيء أو لا تقولوا مثل ما يقول منكرو البعث إنهم لا ينشرون وقد ضيعوا أعمارهم ، ولكنهم سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة . وعلى هذه الوجوه لا يبقى لتخصيص الشهداء بكونهم أحياء فائدة وكذا لقوله مع المؤمنين ولكن لا تشعرون . وقيل : إن الثواب وكذا العقاب للروح لا للقالب ، لأنه مدرك للجزئيات أيضاً فلا يمتنع أن يتألم ويلتذ .

ثم إنه سبحانه يرد الروح إلى البدن في القيامة الكبرى حتى يضم الأحوال الجسمانية إلى الإدراكات الروحانية . عن ابن عباس أن الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار . وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة » أي تأكل { ولنبوكم } ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من أداء حقوق الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه ، أم تنقلبون على أعقابكم وتظهرون الجزع على استرداد ما يدكم فيه يد المستعير؟ أمر أولاً بالشكر على إكمال الشرائع ، ثم بالصبر على التكاليف الدينية ، ثم حض على التثبت عند طروق النوائب وبروق المصائب ، ومعنى { بشيء } بيان من هذه الأشياء وأيضاً لو قال « بأشياء » لأوهم أن من كل واحد من الخوف وغيره ضروباً وليس بمراد . وفيه أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل هو بالنسبة إليه ، وفيه أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم . واعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فإذا خطر ببالك وهو قد مضى سمي ذكراً وتذكراً ، وإن كان في الحال سمي ذوقاً ووجداً لأنها حالة تجدها من نفسك ، وإن تعلق بالاستقبال وغلب خطوره على قلبك سمي انتظاراً وتوقعاً ، فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً ، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً والارتياح رجاء . وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت . عن عطاء والربيع بن أنس : أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقد حصل لهم عند مكاشفة العرب خوف شديد بسبب الدين ، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان { هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } [ الأحزاب : 11 ] وأما الجوع فقج أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يشد الحجر على بطنه . وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فالتقى مع أبي بكر فقال : ما أخرجك؟ قال : الجوع . قال : أخرجني ما أخرجك وكانوا ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد ثم يقتلون . فهناك يحصل النقص في المال والنفس ، وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله } إلى قوله { إلا كتب لهم به عملٌ صالح } [ التوبة : 120 ] وقد يكون النقص في النفس بموت الإخوان والأخدان . وإما نقص الثمرات فقد يكون بالجدوب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد .

وعن الشافعي : الخوف خوف الله ، والجوع صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس الأمراض ، ومن الثمرات موت الأولاد . قال صلى الله عليه وسلم « إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم . فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم . فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع فيقول الله : » ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد « { ونقص } عطف على { شيء } ويحتمل أن يعطف على الخوف بمعنى وشيء من نقص الأموال . و الخطاب في { وبشر } لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يتأتى منه البشارة . قال الإمام الغزالي رحمه الله : الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم لنقصانها ، فليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً ، ولا في الملائكة فليس لعقلهم شهوة تصرفهم عن الاشتغال بخدمة الكبير المتعال وتمنعهم عن الاستغراق في مطالعة حضرة ذي الجلال . وأما الإنسان فإنه في الصبا بمنزلة البهيمة ليس له إلا شهوة الغذاء ، ثم شهوة اللعب بعد حين ، ثم شهوة النكاح لكنه إذا بلغ انضم له مع الشهوة الباعثة على اللذات العاجلة عقل يدعوه إلى الإعراض عنها والإقبال على تحصيل السعادات الباقية ، فيقع بين داعيتي العقل والشهوة تضاد قصد العقل إياها هو المعنى بالصبر . وإنه ضربان : بدني فعلاً كتعاطي الأعمال الشاقة ، أو انفعالاً كالثبات على الآلام ، ونفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الطبع ، فإن كان حبساً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان احتمال مكروه ، فإن كان من مصيبة خص باسم الصبر ويضاده حالة هي الجزع وهي إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب ونحوها ، وإن كان في حال الغنى سمي ضبط النفس ، ويضاده حالة البطر . وإن كان في حال مبارزة الأقران سمي شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلماً ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من النوائب سمي سعة الصدر ويضاده الضجر وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً وضده الحرص ، وإن كان على قدر يسير من المال سمي قناعه ويضاده الشره . وليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك فإنه غير ممكن ، وإنما الصبر على المصيبة هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع . ولا بأس بظهور الدمع وتغير اللون فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى على إبراهيم ابنه فقيل له في ذلك فقال : إنها رحمة ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء . ثم قال : العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا . ثم الصبر عند الصدمة الأولى وإلا سمي سلواً وهو مما لا بد منه ولهذا قيل : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه .

وقد وصف الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال { وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا } [ السجدة : 27 ] { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] { ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 96 ] { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] فما من طاعةٍ إلا وأجرها مقدر إلا الصبر ، ولأن الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي « الصوم لي » فأضافه إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال { واصبروا إن الله مع الصابرين } [ الأنفال : 46 ] وعلق النصرة بالصبر فقال { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } [ آل عمران : 125 ] وجمع للصابرين أموراً لم يجمعها لغيرهم { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } وقال صلى الله عليه وسلم « الصبر نصف الإيمان » لأن الإيمان لا يتم إلا بترك ما لا ينبغي ، والإتيان بما ينبغي والاستمرار على كل منهما إنما يتأتى بالصبر . فكل الإيمان صبر إلا أن كل واحدٍ منهما قد يكون مطابقاً لمقتضى الشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر ، فلهذا عاد إلى النصف . وقد جاء « الإيمان هو الصبر » وذلك كقوله « الحج عرفة » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر » وقال : « يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول تعالى لقد أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين » ومن فضيلة الصبر أن قال صلى الله عليه وسلم : « الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر » فإن المشبه به يجب أن يكون أقوى كما قال « شارب الخمر كعابد الوثن » وروي أن سليمان يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً لمكان ملكه ، وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه . وفي الخبر : أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد . وأول من يدخله أهل البلاء إمامهم أيوب . ثم إن الله تعالى بيّن أن الإنسان كيف يكون صابراً وأنه متى يستحق البشارة فقال { الذين إذا أصابتهم مصيبة } هي من الصفات الغالية التي لا تكاد تستعمل موصوفاتها وتختص من بين ما يصيب الإنسان بحالة مكروهة كالنازلة والواقعة والملمة ، وإنما نكرت لتشمل كل مضرة تناله من قبل الأسباب السماوية والأرضية المنتهية إلى مسبب الأسباب بواسطة ظاهرة أو خفية { قالوا : إنا لله } إقرار بالعبودية { وإنا إليه راجعون } تفويض للأمر إليه كما يقال : إن الملك والدولة رجع إلى فلان لا يراد الانتقال بل القدرة وترك المنازعة { إنا لله } اعتراف منا له بالملك { وإنا إليه راجعون } إقرار على أنفسنا بالهلك { إنا لله } إشارة إلى المبدأ { وإنا إليه راجعون } تصريح بالمعاد .

{ إنا لله } إعلام بالفناء فيه { وإنا إليه راجعون } إشعار بالبقاء به . { إنا لله } إيمان بقضائه { وإنا إليه راجعون } إيمان بقدره . واعلم أن الرضا بالقضاء إنما يحصل للعبد من الله تعالى بطريقين : الصرف أو الجذب أما الصرف فمتى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إليه جعله تعالى منشأ للآفات لينصرف وجه قلبه من عالم الحدوث إلى جانب القدس ، كما أن آدم لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة فبقي آدم مع ذكر الله . ولما استأنس يعقوب بيوسف أوقع الفراق بينهما فبقي يعقوب مع ذكر الحق . ولما طمع محمد صلى الله عليه وسلم من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس بغضاً له فأخرجوه . وقد لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة ، فحينئذ يرجع العبد إلى الله . وقد يتوقع العبد من جانب خيراً فيعطيه الله تعالى ذلك بلا واسطة فيستحي العبد فيرجع إلى الله . وأما الجذب فجذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين . ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوباً لأن الحق غالب فتصير الربوبية غالبة على العبودية ، والحقيقة مستعلية على المجاز ، كالعبد الداخل على السلطان المهيب ينصرف فكره إليه ويشتغل بالكلية عمن سواه ويصير فانياً عن نفسه وعن حظوظها فيحصل له مرتبة الرضا بأقضية الحق سبحانه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة . عن النبي صلى الله عليه وسلم « من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه » وروي أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { إنا لله وإنا إليه راجعون } فقيل : أمصيبة هي؟ قال : نعم . كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة . وعن أم سلمة أن أبا سلمة حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به » من قوله « { إنا لله وإنا إليه راجعون } اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني منها وعوّضني خيراً منها ألا أجره الله عليها وعوضه خيراً منها » قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت : هذا القول فعوّضني الله محمداً صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس : أخبر الله تعالى أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال : الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى . وعن عمر قال : نعم العدلان { إنا لله وإنا إليه راجعون } { أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة } ونعم العلاوة { وأولئك هم المهتدون } .

قيل : الصلوات من الله الثناء والمدح والتعظيم ، والرحمة النعم العاجلة والآجلة . وقيل : الصلاة الحنو والتعطف وضعت موضع الرأفة كقوله { رأفة ورحمة } { رؤف رحيم } والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة أيّ رحمة { وأولئك هم المهتدون } لطريق الصواب والفائزون بالكرامة والثواب ، أو هم المستمسكون بآدابه المستنون بما ألزم وأمر وفي الآية حكمان : فرض ونفل . فالفرض هو التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على أداء فرائضه لا يصرفه عنها مصائب الدنيا ، والنفل قوله { إنا لله وإنا إليه راجعون } فإن في إظهاره فوائد منها : أن غيره يقتدي به إذا سمعه ، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته . وأما الحكمة في تقديم تعريف الابتلاء فهي أن يوطنوا نفوسهم لهذه المصائب إذا وردت فتكون أبعد من الجزع . وأيضاً إذا علموا أنه سيصل إليهم تلك المحن اشتد حزنهم فيكون ذلك الحزن تعجيلاً للابتلاء فيستحقون بذلك مزيد الثواب . وأيضاً إذا أخبروا بوقوع هذا الابتلاء ثم وقع كان ذلك إخباراً بالغيب فيكون معجزةً . وأيضاً فيه تنفير وتمييز له عن الموافق . كما أن الحكمة في نفس الابتلاء أيضاً ذلك .
دعوى الإخاء على الإخاء كثيرة ... بل في الشدائد تعرف الإخوان
إذا قلت أهدى الهجر إن خلل البلى ... يقولون لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت كربي دائمُ قالت إنما ... يعدّ محباً من يدوم له الكرب
وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبةً ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب


إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

القراآت : { من يطوع } بتشديد الطاء والجزم : حمزة وعلي وخلف وزيد ورويس الباقون : بالتاء والتخفيف وفتح الآخر على المضي .
الوقوف : { شعائر الله } ج للشرط مع فاء التعقيب { بهما } ط لأن التطوع خارج عن موجب كونهما من شعائر الله فكان استئناف حكم { عليم } ، { في الكتاب } لا لأن « أولئك » خبر « إن » { اللاعنون } لا للاستثناء { أتوب عليهم } ج لاحتمال الواو للاستئناف والحال { الرحيم } 5 { أجمعين } لا لأن « خالدين » حال عامله معنى الفعل في اللعنة أي لعنهم الله حتى قرأ الحسن { والملائكة } وما بعده بالرفع { فيها } ج لأن ما بعده حال بعد حال واستئناف إخبار { ينظرون } 5 .
التفسير : إن في تعليق الآية بما قبلها وجوهاً منها : أن السعي بين الصفا والمروة من شرائع إبراهيم عليه السلام كما مر في قصة هاجر ، فذكر عقيب تحويل القبلة الذي فيه إحياء شرع إبراهيم . ومنها أنه من آثار هاجر وإسماعيل ، وفيه تذكير لما جرى عليهما من البلوى وحسن عاقبتهما ، فناسب أن يردف آية الابتلاء ليعلم أن من صبر على البلوى نال الدرجة العليا في الدنيا والعقبى . ومنها أن أقسام التكاليف ثلاثة : أولها ما يهتدي العقل إلى حسنه كشكر المنعم وذكره وأشير إلى ذلك بقوله { فاذكروني أذكركم واشكروا لي } [ البقرة : 152 ] وثانيها ما ركز في العقول قبحه والنفور عنه كالآلام والفقر والمحن فإنه تعالى يتألم منه إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه وهي الابتلاء والامتحان فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً وذلك قوله { ولنبلونكم } [ البقرة : 155 ] الآية ، وثالثها ما ليس يهتدي العقل إلى حسنه ولا إلى قبحه بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة فيأتي به تعبداً محضاً وهو أكثر أفعال الحج من السعي ورمي الجمار ونحوهما ، فذكرت طرق من هذا القسم عقيب القسمين الأولين تتميماً للأحكام واستيفاءً لجميع الأقسام . والصفا والمروة هكذا باللام علمان للجبلين المعروفين بمكة - زادها الله شرفاً . والصفاة في اللغة صخرة ملساء وفي المثل « ما تندى صفاته » والجمع صفا مقصور وأصفاء وصفي على « فعول » وإذا نعتوا الصخرة قالوا « صفاة صفواء » وإذا ذكروا قالوا « صفا صفوان » قال تعالى { كمثل صفوان عليه تراب } [ البقرة : 264 ] وعن الأصمعي : المرو حجارة بيض براقة يقدح منها النار ، الواحدة مروة . والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة . وذلك أن السعي بين الجبلين من أعلام دين الله ، أوهما من متعبداته . وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك كما مر قوله { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 138 ] وليس السعي عبادة تامة في نفسه وإنما يصير عبادة إذا كان بعضاً من أبعاض الحج فلهذا قرن بقوله { فمن حج البيت أو اعتمر } والحج لغة القصد .

رجل محجوج أي مقصود وهو أيضاً كثرة الاختلاف والتردد ، وحج فلان فلاناً إذا أطال الاختلاف إليه . ثم غلب استعماله في القصد إلى مكة للنسك . والحاج يأتي البيت أولاً ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر . ومنه محجة الطريق لكثرة تردد الناس فيها . والاعتمار لغة الزيارة . فالمعتمر يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم ينصرف كالزائر يزور ثم ينصرف . والعمرة اسم من الاعتمار غلبت على النسك المعروف . والجناح الحرج والإثم من قولهم « جنح لكذا » أي مال إليه ، كأن صاحبه مال إلى الباطل . أو لأن الناس يميلون إلى صاحبه بالمطالبة ثم قوله { لا جناح عليه } يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح . وظاهر الآية لا يدل على أحد الثلاثة بالتعيين فلهذا اختلف العلماء في أن السعي واجب أم لا ، متمسكين بدلائل أخر . فعن الشافعي أنه ركن ولا يقوم الدم مقامه لقوله صلى الله عليه وسلم « إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا » وليس المراد منه العدو بل الجد والاجتهاد في ذلك المشي بحيث لا يفوت لقوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] ولما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سعى فيجب علينا اتباعه لقوله تعالى { واتبعوه } ولقوله صلى الله عليه وسلم « خذوا عني مناسككم » والأمر للوجوب . وعن أبي حنيفة أنه ليس بركن ولكنه واجب وعلى تاركه دم . وعن ابن الزبير وابن عباس وأنس : أنه تطوع وليس على تاركه شيء لأن رفع الحرج دليل الإباحة لقوله بعد ذلك { ومن تطوع خيراً } أجاب الشافعي بما يروى أنه كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلةٍ وهما صنمان . كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن يكون عليهم جناح في ذلك فرفع عنهم الجناح . فالإباحة تنصرف إلى وجود الصنمين حال السعي لا إلى نفس السعي كما لو كان على الثوب نجاسة يسيرة عند أبي حنيفة ، أو دم البراغيث عندنا ، فيقال : لا جناح عليك أن تصلي فيه . فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا غلى نفس الصلاة ، ولهذا قال عروة لعائشة : أرى أنه ما على أحد من جناح أن يطوف بالصفا والمروة ، قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ، إن هذه لو كانت على ما أولتها كانت « لا جناح عليه أن يطوّف بهما » وأصل « يطوف » « يتطوف » فأدغم كمن قرأ « يطوع » بالتشديد وأصله « يتطوع » والتطوع ما ترغب من ذات نفسك من غير إيجاب عليك .

ومن قال : إن السعي واجب فسر هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب . وعن الحسن : المراد منه جميع الطاعات . وهذا أولى لعموم اللفظ { فإن الله شاكر } ، أي مجازيهم على الطاعة سمي جزاء الطاعة شكراً تشبيهاً بجزاء النعمة ، وفيه تلطف العباد مثل { من ذا الذي يقرض الله } [ البقرة : 245 ] كأنه يقول : إني وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع ما لو صح عليّ أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل . { عليم } بالسرائر فيوفي كل ذي حق حقه . وهو وعد ليناسب قرنية الشكر وإن كان أيضاً يحتمل التحذير من الإخلال بوظائف الإخلاص في العبادة { إن الذين يكتمون } كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين . وقيل : هم أهل الكتاب . وقيل : اليهود خاصة لما روي عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفته صلى الله عليه وسلم ومن الأحكام فكتموا فنزلت ، والأول أولى لعموم اللفظ ، ولأن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم ، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلا ريب أن كتمان الدين يناسب استحقاق اللعن من الله تعالى فيعم الحكم حسب عموم الوصف . ولا يخفى أنَّ القرآن قبل صيرورته متواتراً يمكن كتمانه ، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه بخبر الواحد يجري فيه الكتمان . وكذا القول فيما يحتاج إليه المكلف من الدلائل العقلية ، ولأن جماعة من الصحابة حملوه على العموم . عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } فحملت الآية على العموم . وعن أبي هريرة قال : لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس : أكثر أبو هريرة وتلا { إن الذين يكتمون } قال بعض المحققين : الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً . فلما كان ما أنزل الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين ، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها . وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس . وفي الآية دليل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، والمراد بالبينات كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً ووحياً دون أدلة العقل . والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ، لأن الهدى الدلالة فيعم الكل . وبعبارة أخرى الأول هو التنزيل ، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد .

ولقوله { من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } فيشمل كون خبر الواحد والإجماع والقياس حجة لأن الكتاب دل على هذه الأمور . وهذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين ، لأنه إذا أظهره البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه ولم يبق مكتوماً ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى . وقيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان مأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر؟ وأجيب بأن هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان ، إلا وهم فمن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم . ومن الناس من يحتج بالآية على وجوب قبول خبر الواحد لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر لا سيما وقد قال { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } فحكم بوقوع البيان بخبرهم . واستدل بالآية أيضاً على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم لأنها دلت على وجوب التعليم ولا أجرة على أداء الواجب . وقيل في الكتاب أي في التوراة والإنجيل من نعت الرسول ومن الأحكام . والمعنى أنا لخصناه بحيث لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس . وقيل : أراد بالمنزل الأول كتب الأولين وبالهدى القرآن { أولئك } تبعيد لهم عن درجة الاعتبار { يلعنهم الله } يبعدهم عن كل خير { ويلعنهم } يدعو عليهم باللعن { اللاعنون } الذين يتأتى منهم اللعن ويعتدّ بلعنهم من الملائكة وصالحي الثقلين . وقيل : يدخل فيهم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول : منعنا القطر بشؤم معاصي بني آدم . واللاعنون دون اللاعنات تغليب للعقلاء : وإذا قيل : هم الهوام فقط فالتذكير لأنه تعالى وصفهم بصفات العقلاء مثل { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] { وقالوا لجلودهم لم شهدتم } [ فصلت : 21 ] وقيل : كل شيء سوى الثقلين بتقدير أنها لو كانت عاقلة كانت تلعنهم ، أو لأنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه . وقيل : إن أهل النار يلعنونهم أيضاً لأنهم كتموهم الدين { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ] وعن ابن مسعود : إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق ، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه . وعن ابن عباس : أن لهم لعنتين : لعنة الله ولعنة الخلائق . قال : وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك؟ فيقول : لا أدري . فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك : لا دريت ولا تليت { إلا الذين } استثناء منهم ، وفيه من الرحمة ما فيه . وقد مر أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لقبحه لا لغرض سواه ، فإن من ترك رد الوديعة ثم ندم لأن الناس لاموه أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائباً { وأصلحوا } ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم { وبينوا } ما كتموه أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ويقتدى بهم غيرهم من المفسدين { فأولئك أتوب عليهم } أقبل توبتهم بأن أسقط عنهم تجملاً وأضع مكانه الثواب تفضلاً بدلالة قوله { وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا } عام في كل من كان كذلك .

وقيل : مخصوص بهؤلاء الكاتمين . ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً إذا لم يتوبوا على هذا القول يكون إطلاق الكفر عليهم - وهم من أصحاب الكبائر - مجازاً تغليظاً ، أو يراد بالكفر جحود الحق وستره . والمراد بالناس اللاعنين من يعتد بلعنه وهم المؤمنون أجمعون ، وقيل : يوم القيامة يلعن بعض الكفار بعضاً فيعم المؤمن والكافر . وقيل : لعن الجاهل والظالم مقرر في العقول حتى إن الظالم قد يلعن نفسه إذا تأمل في حاله . وقيل : وقوع اللعن محمول على استحقاق اللعن ، على من مات كافراً وإن زال التكليف عنه بالموت على أن الكافر إذا جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطاً للعنه والبراءة منه ، وكذلك سبيل ما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح إذا مات صاحبه أو جن لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال . وفي الآية دليل على أن الأمور بخواتيمها ، وأنه إذا كفر ومات لا على الكفر لم يكن ملعوناً ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط { خالدين فيها } في اللعنة . وقيل : في النار . وأضمرت وإن لم يجر لها ذكر تفخيماً لشأنها وتهويلاً لمكانها . والأول أولى لتقدم ذكره لفظاً ، ولأن اللعنة تشمل النار وزيادة ، ولأنها تصح في الحال والمآل جميعاً بخلاف النار فإنها في الاستقبال . فمن فسر « الذين كفروا » بالكاتمين وجوّز الخلاص على صاحب الكبيرة فسر الخلود بالمكث الطويل وقد سلف مثل ذلك { لا يخفف عنهم العذاب } بل يتشابه في الأوقات باقياً على المبلغ الذي أتيح له حسب ما استحقه { ولا هم ينظرون } إذا استنظروا من الإنظار الإمهال ، أو لا ينظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة أعاذنا الله تعالى من تلك الحالة بعميم فضله وجسيم طوله .
التأويل : الصفا للسر ، والمروة للروح ، والسالك بينهما يسعى . ففي صفا السر يقطع التعلقات عن الكونين وهو التعظيم لأمر الله ، وفي مروة الروح يوصل الخير إلى أهله وعياله ونفسه لمراقبة أحوال الباطن ومزاولة أعمال الظاهر وهو الشفقة على خلق الله ، ومعنى سبع مرات أن تصل بركات سعيه إلى سبعة آرابه في الظاهر وإلى سبعة أطواره في الباطن وإلى سبعة أقاليم العالم لقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى } [ النجم : 39 ، 40 ] . ومن كمال رأفته بأهل محبته أن جعل آثار أقدامهم أشرف الأمكنة ، وساعات أيامهم أعز الأزمنة . فإلى تلك المعاهد والأطلال تشد الرحال ، وتلك المشاهد والآثار تعظم وتزار .
أهوى هواها لمن قد كان ساكنها ... وليس في الدار لي هم ولا وطر
حسبي الله ونعم الوكيل .


وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

القراآت : { لا إله إلا هو } بالمد وكذلك جميع التهليل . روى الهاشمي عن ابن كثير لورود الأثر في هذه الكلمة وهو قوله صلى الله عليه وسلم « من قال لا إله إلا الله ومدها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر » وروى أبو الفرج عن قتيبة « إلا » هو بالإمالة حيث كان . { الريح } مفرداً : حمزة وعلي وخلفٍ . الباقون : الرياح مجموعاً .
الوقوف : { واحد } ج نظراً إلى أن ما بعده وصف آخر . وإلى الاختلاف بالنفي والإثبات { الرحيم } 5 { من كل دابة } ص ضرورة طول الآية وإلا فاسم « إن » { لآيات } والجار وما يتصل به معترض ، والأولى الوصل والرجوع . { يعقلون } 5 .
التفسير : الواحد قد يكون اسماً وذلك في العدد واحد ، اثنان ، ثلاثة . وقد يكون صفة كقولك « شخص واحد » ومعناه أنه لا ينقسم من جهة ما قيل : له إنه واحد . فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان ، لأن الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم إلى إنسانين ، بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء وذلك من جهة أخرى . ثم زعم قوم أن الواحدية صفة زائدة على الذات لأن الجوهر قد يشارك العرض في كونه واحداً لا يشاركه في كونه جوهراً فقط ، ولأنه يصح تعقل الجوهر مع الذهول عن كونه واحداً ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، ولأن قولنا « الجوهر واحد » ليس يجري مجرى قولنا « الجوهر جوهر » ولأن مقابل الجوهر العرض ، ومقابل الواحد هو الكثير . ثم المفهوم من كونه واحداً أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبياً لكان سلباً للكثرة . فإن كانت الكثرة سلبية وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب ، وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال ، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية . ثم إنه لا يمكن أن يقال : إنه لا تحقق لها إلا في الذهن لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحداً في نفسه قبل أن يوجد في ذهننا واعتبارنا فثبت أن كون الشيء واحداً صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات . والجواب أن كون الشيء واحداً في ذاته معناه كونه بحيث يصح أن يدرك الذهن منه معنى الوحدة ، وهذه الحيثية لا تتوقف على حصول الذهن في الخارج . ثم إن الوحدة لو كانت صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها ، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلم جرا وذلك محال ، ثم إن شيئاً من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد ، فإن العشرة الواحدة يعرض لها الوحدة من حيث هي عشرة واحدة .

فإن قلت : عشر ثانٍ فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت لها الوحدة من هذه الجهة ، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة . ولكن الوحدة تغاير الوجود لأن الموجود ينقسم إلى الواحد ، والكثير والمنقسم إلى شيئين : مغاير لما به الانقسام . والواحد الحق سبحانه وتعالى واحد باعتبارين : أحدهما أن ذاته ليست مركبة من أمور كثيرة بل ولا من أمرين أيضاً وإليه الإشارة بقوله { إلهكم إله واحد } والخطاب للممكنات بأسرهم . والتذكير لتغليب ذوي العقول الذكور ، وثانيهما أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب وفي كونه مبدأ لجميع الممكنات وهو المراد بقوله { لا إله إلا هو } ويمكن أن يقال : القرينتان تدلان على نفي الشريك إلا أن الأولى منهما تدل على إثبات وحدته في الإلهية بالمطابقة . ويلزم منه نفي الشريك كقولك « هو سيد واحد » تريد الوحدة في السيادة ، فيلزم نفي أن يكون غيره سيداً . والقرينة الثانية تدل على نفي الشريك بالمطابقة . ثم على إثبات المعبودية بالحق فمعناه لا إله في الوجود إلا هو . وفيه نكتة شريفة وهي أن إثبات الحق وقع في كلتا القرينتين بالمطابقة ليعلم أنه المقصد الأسنى والغاية القصوى . وتحقيقه أن العارف له رجوع وعروج ، وذلك أنه قد يفنى في عالم اللاهوت ويبقى ببقاء الحي الذي لا يموت ، ويطالع عالم الشهود فيلزمه حينئذ نفي ما سوى الحق . وإذا رجع إلى عالم الناسوت ضرورة وجب عليه نفي كل من سواه حتى يعرج إلى المقصود . فهذا سر عكس الترتيب في القرينتين ، ولأن الأولى مرتبة الصديقين السابقين فلا جرم وقع التكليف بالترتيب الأخير « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » . ثم البرهان العقلي على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه لا يجمعه أجزاء مقدارية كما للأجسام ، ولا يحصره أجزاء معنوية كما في البسائط النوعية ، ولا أجزاء اعتبارية كما في البسائط الجنسية ، هو أن كل مركب فإنه يفتقر في تحققه أجزائه ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجب الوجود لذاته . وأيضاً فكل ممكن فإن وجوده زائد على ماهيته في العقل والاعتبار فإنه يمكن تصور الممكن من حيث إنه ممكن مع الشك في وجوده الخارجي . ولكن لا يمكن تعقل الواجب من حيث إنه واجب مع الشك في وجوده ، ولا نعني بكون الوجود زائداً على الماهية وغير زائد إلا هذا . وأما أنه تعالى وحده لا شريك له فلأن وجوب الوجود يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقراً في شيء إلى شيء أصلاً ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان في غاية الكمال ونهاية الجلال والجمال ، ولا ريب أن من كمالات الجميل كونه عديم النظير . ومن تحقق معنى وجوب الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجوده تعالى ولا في أن واجب الوجود من جميع جهاته ، وواجب الوجود في جميع صفاته ، وواحد بجميع اعتباراته حتى عن حمل الوحدة عليه وعن تصور ذاته .

وههنا حالة عجيبة ، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة ، فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة . فاعرف هذه الأسرار لتتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار وتفوز بمقامات الأبرار وتستغرق في بحار عالم الأنوار بعون الملك الجبار وشروق أنوار الواحد القهار . ولك أن تقول : إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له . أما أنه واحد في ذاته فلأنه لو شاركه غيره في حقيقته لزم تركبه مما به الاشتراك وما به الامتياز ، وكل مركب مفتقر ، وكل مفتقر ممكن . وأما أنه واحد في صفاته فلأن صفات غيره من غيره وصفاته من نفسه ، ولأن صفات غيره زمانية دون صفاته ولأن صفات غيره متناهية وصفاته غير متناهية كعلمه مثلاً ، فإن له معلومات غير متناهية بل له في كل معلوم علوم غير متناهية بحسب أحياز ذلك المعلوم وأوقاته وسائر أحواله ، ولأن موصوفية ذاته بالصفات ليست بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذات محلاً لها ، ولا بمعنى أن ذاته تستكمل بها لأن ذاته كالمبدأ لتلك الصفات ولن يستكمل المبدأ بما عن المبدأ بل ذاته مستكملة بذاته . ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال ، وقد يفضي التقرير ههنا إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به ، وتلك أنه لا خبر عند العقول من صفاته كما أنه لا خبر عندها من ذاته ، فإنا لا نعرف من علمه إلا أنه الآمر الذي لأجله ظهر الأحكام والإتقان في المخلوقات ، كما أنا لا نعلم من ذاته إلا أنه مبدأ جميع الممكنات . من طبع على قلبه مني بالخذلان ، ومن كشف له الغطاء صار حيران فلا إحاطة للقطرة بكرة الماء ، ولا ظهور لضوء السهى عند حلول الشمس .
كبد السماء أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله
فالموت في إدباره ... والعيش في إقباله
وأصدّ عنه إذا بدا ... وأروم طيف خياله
وأما أنه واحد في أفعاله فلأن ما سواه ممكن الوجود لذاته ، وبقدر البون بين الواجب للذات والممكن للذات يوجد التفاوت بين فعليهما إن فرض للممكن فعل من نفسه { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الروم : 40 ] ثم إنه تعالى خص الموضع بذكر الرحمن الرحيم ، لأن الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو ، فقعبهما بذكر الصفتين ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعاراً بأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان { إن في خلق السموات والأرض } الآية .

ذكر علماء المعاني في إيجاز هذه الآية أن في ترجيح وقوع أيّ ممكن كان على « لا وقوعه » لآيات للعقلاء . إلا أن الكلام لما كان مع الإنس أو الجن فحسب بل مع الثقلين ، ولا مع قرن دون قرن بل مع القرون كلهم إلى انقراض الدنيا وفيهم من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من لا يحصي من طوائف الغواة ، لم يكن مقام أدعى لترك الإيجاز إلى الإطناب من هذا . عن عطاء قال : نزل بالمدينة على النبي صلى الله عليه وسلم { وإلهكم إله واحد } فقالت كفار قريش بمكة - ولهم حينئذ حول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً - : كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزلت { إن في خلق السموات والأرض } إلى آخرها وعن سعيد بن مسروق : لما نزلت { وإلهكم إله واحد } تعجب المشركون وقالوا : إله واحد؟ إن كان صادقاً فليأتنا بآية فنزلت . وزعم بعض الناس أن الخلق هو المخلوق وهو الذي يدل على الصانع . والتحقيق أنه غيره لأن الخلق التقدير ، وتقدير المخلوقات غير نفس المخلوقات ، ولو كان عينها والخالقية صفة لله تعالى لزم اتصافه تعالى بالقاذورات ، والشياطين . ولأنه يصح تعليل حدوث الحادث بخلق الله تعالى فلا يصح تعليل حدوثه بنفس ذلك الحادث ، ولأنه يصح أن يقال : خلق السواد وخلق البياض ومفهوم الخلق فيهما واحد ، ومفهوم السواد غير مفهوم البياض ، ولاتفاق المعتبرين من النحاة على أن العالم في قول « خلق الله العالم » مفعول به لا مفعول مطلق . ثم لا نزاع في الاستدلال على الخالق بالمخلوق ، لكن لا من جهة عينه بل من جهة خلق الله إياه ، وهذه الجهة التي صيرته آية .
وقد عدد الله تعالى في هذه الآية ثماني آيات :
الأولى : خلق السموات وقد تكلمنا في عددها وترتيبها في تفسير قوله تعالى { فسوّاهن سبع سموات } [ البقرة : 29 ] وقد زعم أهل الهيئة لما شاهدوا من كل واحد من السيارات السبع حركات مختلفة كالبطء والسرعة بعد التوسط في الحركة والوقوف والرجوع بعد الاستقامة وهي الحركة على توالي البروج وعندهم مقدمتان كليتان إحداهما أن السمويات لا يتطرق إليها إلا الاختلاف الوضعي .
الثانية : أن حركة الكوكب في الفلك ليست كحركة السمك في الماء ولكه يدور بإدارة الفلك إياه ، أن كل واحد من أفلاك السيارات ينقسم إلى أفلاك أخر يتضمنها فلكه الكلي الذي مركزه مركز العالم ، ومراكزها تخالف مركزه في الأغلب . ثم إن كان مع المخالفة في المركز محيطاً بالأرض يخص باسم الخارج المركز ويبقى بعد توهم انفصاله من الفلك الكلي جسمان تعليميان متبادلاً وضع الغلظ والرقة يسميان المتممين ، وإن لم يكن محيطاً بالأرض سمي بالتدوير ، ويكون الكوكب مركوزاً فيه كالفص في الخاتم . ويلزم له من مجموع الحركات المركبة من تلك الأفلاك حركة مختلفة في النظر ، وإن كان كل منهما متشابهاً في نفس الأمر ، ويعني بالتشابه ههنا أن يقطع المتحرك من المحيط في أزمنة متساوية قسياً متساوية ، أو يحدث عند المركز زوايا متساوية وبالاختلاف نقيض ذلك .

فللقمر من تلك الأفلاك أربعة : اثنان متوافقان في المركز وخارج وتدوير . وللعطارد أربعة : أحدها يوافق مركزه مركز العالم وخارجان وتدوير . وللزهرة ثلاثة : وللشمس اثنان : موافق وخارج . ولكل من الثلاثة العلوية كما للزهرة . ومقادير حركات هذه الأفلاك بسيطة موضوعة في الزيجات ، وأما المختلفة فالشمس تقطع جميع الفلك في سنة شمسية وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم إلا كسراً ، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً ، وكل من عطارد والزهرة كالشمس وزحل في ثلاثين سنة ، والمريخ في سنتين ، والمشتري في اثنتي عشرة سنة جميع ذلك بالتقريب . وإذا تقرر ذلك على الإجمال فنقول في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال : إن اختصاص مقادير كل واحد من الأفلاك بمقدار معين مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية ، تدل على مخصص مدبر مختار خبير قهار . وكذا تخصص كل منها بحيز معين ، وكذا تعيين نقطتين من سطح الفلك للقطبية مع تساوي جميع النقط المفروضة عليه في صلوح ذلك ، وكذا حصول الكواكب أو التدوير في جانب معين من الفلك ، وكذا تفصيل الأفلاك الكلية إلى الخوارج المراكز وإبقاء المتممات على أقدار معينة في الرقة والغلظ ، وكذا تعيين كل من الأجرام بحركة معينة . السيارات كما قلنا آنفاً والثوابت بحيث تتم دوراً في ستة وثلاثين ألف سنة على ما في المجسطي ، أو في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة عند المتأخرين ، والفلك الأعظم في يوم بليلة . وكذا تعيين جهات الحركات شرقاً أو غرباً أو شمالاً أو جنوباً ، وكذا تعيين مبادئ الحركات وتخصيصها بزمان دون زمان ، فإن الأفلاك سواء قلنا أن ذواتها حادثة أو يقال إنها أزلية ، لا بد أن يكون لحركاتها أول فإن الحركة انتقال من حالة إلى حالة ، وكون الحركة أزلية ينافي المسبوقية بالغير . فالابتداء بالحركة بعد أن لم تكن يقتضي الافتقار إلى فاعل مختار يكون الكل تحت قهره وتسخيره ، وكذا تخصيص كل من الكواكب بعظم آخر وبلون آخر وبلون آخر كصفرة عطارد وبياض الزهرة كمودة زحل ودريّة المشتري وحمرة المريخ وظلمة القمر في ذاته بحيث إذا حال حائل بين الناظر وبين الشمس - وذلك في الاجتماع المرئي - كسفه . وكذا اختلاف تأثيراتها في هذا العالم بإذن خالقها . وبالجملة فإن هذا الترتيب العجيب والنسق الأنيق في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركتها وارتباط أجرامها واختلاف أوضاعها المستتبعة لاتصالاتها وانصرافاتها ، أترى أنها مبنية على حكمة وبقدرة قدير خبير أم هي واقعة عبثاً وجزافاً؟ هيهات فإن من جوّز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولد منهما اللبنات ثم تركبت تلك اللبنات وتولدت من تركيبها القصر ثم تزين بنفسه بالنقوش الغريبة والرسوم اللطيفة ، قضى العقل له بالجنون وسجل عليه بسخافة الرأي بل يعد من زمرة الأنعام من جملة الأنام .

الآية الثانية خلق الأرض : ومن تأمل في شكلها من الاستدارة وفي حيزها من كونها واقعة في مركز العالم حتى انبعث منها بوقوع الشمس عليها مخروط ظلي في مقابلة الشمس متى وقع القمر فيه انخسف ، ومن انكشاف بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها ، وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى السماء حتى اختلف مرور الشمس وسائر الكواكب بسمت رؤوس قطان البلدان وتباينت الفصول والأمزجة والأخلاق وتغايرت الطوالع والمطالع بحسب تغاير الآفاق ، ومن سائر أعراضها ومنافعها التي تقرر طرف منها في تفسير قوله { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [ البقرة : 22 ] علم افتقارها إلى مدبر قدير وعليم خبير واحد في ملكه يفعل ما يشاء كما يشاء من غير منازع ومعاند .
الثالثة : اختلاف الليل والنهار : أما النهار فإنه عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأفق . وفي عرف الشرع : زيادة ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع جرم الشمس . وأما الليل ، فعبارة عن مدة خفاء الشمس تحت الأفق ، أو بنقصان الزيادة المذكورة ، وذلك لأن الشمس إذا غابت ارتفع رأس مخروط ظل الأرض إلى فوق فوقع الإبصار داخله إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشرقي فيكون أول الفجر الكاذب إن كان الضوء مرتفعاً عن الأفق بعد ، وأول الفجر الصادق إذا قرب من الأفق جداً وانبسط النور حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأفق طلع مركز جرم الشمس في مقابله فظهر أن الليل والنهار كيف يختلفان أي يتعاقبان مجيئاً وذهاباً كقوله { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } [ الفرقان : 62 ] أو يختلفان ظلاماً وضياءً أو طولاً وقصراً لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ضرورة كون مجموعهما أربعاً وعشرين ساعة . أو كيف يختلفان في الأمكنة فإن نهار كل بقعة تقابلها ضرورة كروية الأرض . أو كيف يختلفان باختلاف البلدان فإن البلد كلما ازداد عرضاً عن خط الاستواء - وهو الموضع المحاذي لمنطقة الفلك الأعظم المسماة معدل النهار - ازداد نهاره في الصيف طولاً وفي الشتاء قصراً وبالعكس في الليل وقد يرتقي طول النهار بحسب تزايد ارتفاع القطب إلى حيث يصير اليوم بليلته نهاراً كله وبإزائه الليل ، ثم إلى أكثر من ذلك إلى حيث يكون نصف السنة نهاراً ونصفها الآخر ليلاً وذلك إذا صار قطب الفلك الأعظم محاذياً لسمت الرأس ولا عمارة هناك ، ولا حيث يزيد النهار الأطول على يوم بليلته لشدة البرد اللازم من قبل انخفاض الشمس . وكون الليل والنهار في أنفسهما آيتين على وجود الصانع ووحدانيته ظاهر ، وكذا من جهة ارتباطهما بحركة النير الأعظم ، وكذا من جهة انتظام أحوال العباد بهما بسبب طلب المعاش في الأيام والنوم والراحة في الليالي .

ومن الغرائب تعاون المتنافيين على أمر واحد هو إصلاح معاش الحيوان ، وأن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولاً عند النفخة الأولى ، ويقظتهم عند طلوع الفجر تضاهي عود الحياة إليهم في النفخة الثانية ، وانشقاق ظلمة الليل بظهور الفجر المستطيل فيه من أعجب الأشياء كأنه جدول ماء صاف يسيل فيما بين بحر كدر بحيث لا يمتزجان . وكل هذه الأمور دلائل على وجود مبدع عظيم الشأن غني عن الزمان والمكان مبرأ عن سمات الحدوث والإمكان .
الرابعة : الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس أي متلبسة بالذي ينفعهم مما يحمل فيها ، أو بنفع الناس . والفلك بالضم والسكون السفينة ، واحد وجمع . فضمة الواحد ضمة برد وضمة الجمع ضمة أسد ، وتأنيث صفته ههنا أن يكون لتضمين معنى السفينة ، ويحتمل أن يكون لمعنى الجمعية أي المراكب التي تجري ، والتركيب يدل على الاستدارة والدوران ومنه « الفلك جسم كروي يحيط به سطحان متوازيان مركزهما واحد » « وفلكة المغزل » « وفلك ثدي الجارية استدار » . والبحر خلاف البر . قيل : سمي بذلك لاتساعه وتعمقه ومنه « تبحر في العلم والمال » ويسمى الفرس الواسع الجري بحراً . قال صلى الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة : « إن وجدناه لبحراً » وقيل : من الشق بحرت أذن الناقة شققتها . ومنه البحيرة . هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [ البقرة : 22 ] . أن الماء محيط بأكثر جوانب القدر المعمور من الأرض فذلك هو البحر المحيط . وقد دخل من ذلك الماء من جانب الجنوب متصلاً بالمحيط الشرقي ومنقطعاً عن الغربي إلى وسط العمارة أربعة خلجان : أولها إذا ابتدئ من الغرب الخليج البربري لكونه حدود بربر من أرض الحبشة طوله من الجنوب إلى الشمال مائة وستون فرسخاً ، وعرضه خمسة وثلاثون فرسخاً . وعلى ضلعه الغربي بلاد كفار الحبشة وبعض الزنج ، وعلى الشرقي بلاد مسلمي الحبشة . وثانيها الخليج الأحمر ، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخاً ، وعرضه بقرب منتهاه ستون فرسخاً ، وبين طرفه وفسطاط مصر الذي على شرقي النيل مسيرة ثلاثة أيام على البر ، وعلى ضلعه الغربي بلاد الزنج من البربر وبعض بلاد الحبشة ، وعلى ضلعه الشرقي سواحل عليها فرضة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لقوافل مصر والحبشة إلى الحجاز ، ثم سواحل اليمن ، ثم عدن على الزاوية الشرقية منه . وثالثها خليج فارس ، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخاً ، وعرضه قريب مائة وثمانين ، وعلى سواحل ضلعه الغربي اليمن وبلاد عمان ولهذا ينسب البحر هناك إليها . وجملة ولاية العرب وأحيائهم من الحجاز واليمن والطائف وغيرها وبواديهم بين الضلع الغربي من هذا البحر والشرقي من الخليج الأحمر ، فلهذا تسمى العمارة الواقعة بينهما جزيرة العرب وفيها مكة زاد الله شرفها .

وعلى سواحل ضلعه الشرقي بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران ثم سواحل السند . ورابعها الخليج الأخضر مثلث الشكل آخذ من الجنوب إلى الشمال . ضلعه الشرقي من بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران يتصل بالمحيط الشرقي . وضلعه الغربي خمسمائة فرسخ تقريباً . وعلى سواحل هذا الضلع ولايات القتا والصين ولهذا يسمى بحر الصين ، ومن زاويته الشرقية من بحر فارس يسمى بحر الهند لكون بعض ولاياتهم على سواحله ، وأيضاً قد دخل إلى العمارة من جانب الغرب خليج عظيم يمر من جانب الجنوب على كثير من بلاد المغرب ويحاذي أرض السودان وينتهي إلى بلاد مصر والشام ، ومن جانب الشمال على بلاد أندلس والجلانقة والصقالبة إلى بلاد الروم والشام ، ويتشعب منه شعبة من شمال أرض الصقالبة إلى أرض مسلمي بلغار يسمى بحر ورتك . طوله المعلوم مائة فرسخ ، وعرضه ثلاثة وثلاثون . وإذا جاوز تلك النواحي امتدّ نحو المشرق عما وراء جبال غير مسلوكة وأراض غير مسكونة ، ويتشعب منه أيضاً شعبة تسمى بحر طرابزون . فهذه هي البحار المتصلة بالمحيط . أما غير المتصلة فأعظمها بحر طبرستان وجيلان وباب الأبواب والخرز والبكون ، لكون هذه الولايات على سواحله مستطيل الشكل آخذ من المشرق إلى المغرب بأكثر من مائتين وخمسين فرسخاً ، ومن الجنوب إلى الشمال تقريب من مائتين . ومن عجائب البحار الحيوانات المختلفة الأعظام والأنواع والأصناف ، ومنها الجزائر الواقعة فيها . فقد يقال في بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلثمائة وسبعون ، منها جزيرة عظيمة في أقصى البحر تقابل أرض الهند في ناحية المشرق . وعند بلاد الصين تسمى جزيرة سرنديب دورها ثلاثة آلاف ميل ، فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر . وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة فيها مدائن وقرى كثيرة ، ومن جزائر هذا البحر جزيرة « كلة » التي يجلب منها الرصاص القلعي ، وجزيرة « سريرة » التي يجلب منها الكافور . وغرائب البحر كثيرة ولهذا قيل : حدث عن البحر ولا حرج وسئل بعض العقلاء ما رأيت من عجائب البحر؟ قال : سلامتي منه . والسفينة مما ألهم الله تعالى تركيبها ثم أجراها بقدرته على وجه الماء ، فلولا رقة الماء وخفة مادة السفينة ثم عجيب صنعتها لما تم جريها ، ولولا الرياح المعينة على تحركها لما تكامل النفع بها ، ولولا اعتدال الريح لما سلمت من تلاطم الأمواج ، ولولا تقوية قلوب راكبيها لما صبروا على شدائد ركوبها ، ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء لم تنبعث الدواعي إلى اقتحام الأخطار في هذه الأسفار وحمل الأمتعة إلى الأمصار في البراري والبحار ، فلا جرم ينتفع الحامل من حيث إنه يربح ، وينتفع المحمول إليه من حيث إنه يجد ما أعوزه .

وفي الآية دليل على إباحة ركوب السفينة وإباحة الانتفاع بالتجارة .
الخامسة : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } أما نزول المطر من السماء فقد مر تحقيق ذلك في تفسير قوله تعالى { أو كصيبٍ من السماء } [ البقرة : 19 ] وأن المراد من السماء السحاب أو التقدير من جانب السماء . وأما تنكير { من ماء } فلأن الغرض الوحدة الشخصية أو الصنفية يعني ماء هو سبب حياة الأرض لا المطر الذي قد لا ينبت شيئاً كما جاء في الحديث « ليس السنة بالتي لا تمطر وإنما السنة التي تمطر ولا تنبت » ولا ريب أن في إنزال ذلك الماء دلالات على الصانع ووحدانيته حيث جعله في غاية الصفاء واللطافة والعذوبة وصيره سبباً للأرزاق وأنزله بعد قنوط الناس منه وشدة احتياجهم إليه وأودع في نزوله حياة الأرض أي حسنها ونضارتها ورواءها وبهجتها وخضرتها بخروج أصناف النبات وضروب الأعشاب وألوان الأزهار وأنواع الأشجار والأثمار وجريان الجداول بينها والأنهار بحيث تروق الناظرين وتشوق السامعين .
فوقت الربيع في الأزمان ... كسن الصبا في الأسنان
وموت الأرض من ترشيح الاستعارة ، فإنه لما عبر عن بهجتها ونضرتها وخضرتها بالحياة ، عبر عن جمودها وكمودتها وبقائها على الهيئة الأصلية بالموت كأنها جسد لا روح فيه . فلا دواء عليه .
السادسة : { وبث فيها من كل دابةٍ } وإنه معطوف على { أنزل } فيدخل تحت حكم الصلة ، ويصح عود الضمير { فيها } إلى الأرض لأن قوله { فأحيا } عطف على { أنزل } فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد . فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ويجوز عطفه على { أحيا } أي فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابةٍ ، لأن معاش الحيوان بل حياته يدور على الماء { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء : 30 ] . واعلم أن الحيوان إما توليدي أو توالدي ، وكلا الصنفين يحتاج إلى صانع فردٍ حكيم . يحكى أن شخصاً قال بحضرة عمر : إني أتعجب من أمر الشطرنج ورقعته صغيرة ولو لعب الإنسان به ألف مرة لم يتفق مرتان فقال عمر : ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر ، ثم إن مواضع الأعضاء التي فيها من الحاجبين والعينين والأنف والفم لا يتغير ألبتة ومع ذلك لا ترى شخصين أبداً يشتبهان في الصورة . فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها ، ولولا هذا الاختلاف لاشتبه الناس بعضهم ببعض وانقطع نظم معايشهم وحوائجهم . ومن تأمل كتب التشريح وقرأ كتاب الحيوان وتتبع عجائب المخلوقات وقف من تراكيبها وخواصها على ما يقضي منه العجب ويفضي إلى الاعتراف بوحدانية الرب .
السابعة : تصريف الله تعالى الرياح مع دقتها ولطافتها وفي ذلك نفع عظيم لانتفاع الحيوان بتنشق الهواء البارد ، وبجريان السفن بهبوب الرياح ، ومن قبل تلقيح الأشجار وسوق السحاب إلى حيث يرسله الله تعالى ، ومن جهة تصحيح الأهوية الوبائية إلى غير ذلك من المنافع .

والمراد بتصريفها تقليبها في جهات العالم على حسب المصالح شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً أي صباً ودبوراً على كيفيات متخالفة حارّة وباردة وعاصفة ورخاء . ومن قرأ الريح بالموحدة فليس فيها دلالة على العذاب في هذا المقام ، والذي جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال : « اللَّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » . فلا يدل إلا على أن مواضع الرحمة بالجمع أدل كما قال تعالى : { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } [ الروم : 46 ] وقال { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] وقد تختص اللفظة في القرآن بشيء فتكون أمارة له . فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله { وما يدريك } مبهم غير معين قال { وما يدريك لعل الساعة قريب } [ الشورى : 17 ] وما كان من لفظ « أدراك » فإنه مفسر { وما أدراك ما القارعة } [ القارعة : 3 ] { وما أدراك ما هيه } [ القارعة : 10 ] .
الثامنة : السحاب المسخر بين السماء والأرض سمي سحاباً لانسحابه في الهواء . ومعنى التسخير التذليل . وذلك أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف طبعه بقاسر ومخسر . وأيضاً لو دام لعظم ضرره من حيث إنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأنداء والأمطار ويتعذر التردد في الحوائج ، ولو انقطع لعظم ضرره لاستلزامه الجدب والإمحال ، فكان تقديره بالمقدار المعلوم والإتيان به في وقت الحاجة ودفعه عند زوالها بمدبر ومسخر لا محالة . وفي نفس السحاب من عظمه وتراكمه وارتفاعه وانخفاضه وانبساطه وتخلخله وسده الأفق في لحظة وانقشاعه في أخرى واشتماله على الرعد والبرق والسحمة والتطبيق إلى غير ذلك من العجائب دلالات واضحة على كمال حكمة موجده ومقدّره . وأما قوله تعالى { الآيات } فيحتمل أن يكون راجعاً إلى الكل أي مجموع هذه الأشياء الثمانية آيات ، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد فإن كل واحد منها يدل على مدلولات كثيرة كما فصلنا . وأيضاً فكل واحدة منها من حيث إنها موجودة فدل على وجود موجدها ، وكونه قادراً ومن حيث إنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان تدل على علم الصانع ، ومن حيث حدوثها واختصاصها بوقتٍ دون وقت تدل على إرادته واختياره ، ومن حيث إنها وجدت على الاتساق والانتظام دلت على وحدانية الله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] . وأما قوله تعالى { لقوم يعقلون } فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه والاستدلال به . وفي الآية من الفوائد أن التقليد مذموم فيما إلى تحقيقه سبيل . وفيها أن جميع المعارف ليست ضرورية وإلا لم يحتج إلى النظر في شيء منها ، وإنما خص الآيات الثمانية بالذكر مع أن سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصانع بل كل ذرّة من الذرات ، لأنها جامعة بين كونها نعماً على المكلفين ، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيراً في الخواطر . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « ويلٌ لمن قرأ هذه الآية فمج بها » أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها حسبي الله ونعم الوكيل .


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

القراآت : { ولو ترى } بتاء الخطاب : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب . الباقون : بالياء { إذ يرون } بضم الياء من الإراءة : ابن عامر { إن القوة } { وإن الله } بكسر الألف فيهما : يزيد وسهل ويعقوب { إذ تبرأ } بإدغام الذال في التاء وكذا ما أشبهه : هشام وسهل وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف . { يريهم الله } بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل . وقرأ حمزة وعلي وخلف ويعقوب بضم الهاء والميم . والباقون بكسر الهاء وضم الميم { بخارجين } بالإمالة : عباس وقتيبة لجوار من النار . الوقوف : { كحب الله } ط { حباً لله } ط { العذاب } لا وكذلك { وجميعاً } لا من قرأ « أن » بالكسر فيهما { شديد العذاب } 5 { الأسباب } 5 { تبرؤا منا } ط { عليهم } ط { ومن النار } 5 .
التفسير : أنه سبحانه وتعالى لما قرر للتوحيد الدلائل الباهرة عقبها تقبيح ما يضاده « فبضدها تتبين الأشياء » والند المثل المناد كما سلف . والمراد بالأنداد ههنا هي الأصنام التي اعتقد المشركون أنها تقربهم إلى الله زلفى ، ونذروا لها النذور وقربوا لأجلها القرابين ، وقيل : يعني السادة الذين كانوا يطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم محلين ما حرم الله ومحرّمين ما أحل . عن السدى : واستدل على تفسيره بأن قوله { يحبونهم } فيه ضمير العقلاء ولأنه من المستبعد أن تكون محبتهم لها كمحبتهم لله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ولقوله { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ العقلاء أنداداً وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون لله تعالى . ويمكن تزييف الحجج بأن ضمير العقلاء جاز عوده إلى الأصنام بناء على اعتقاد الجهلة حيث نظموها في سلك المعبود الحق . قال تعالى { وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] . وأيضاً علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ممنوع ولو علموا بذلك ما أشركوا وأيضاً التبري لا يمتنع من الأصنام بدليل قوله تعالى { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } [ فاطر : 14 ] وقال أهل العرفان : كل شيء شغلت قلبك به سوى الله فقد جعلته في قلبك نداً لله تعالى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] { يحبونهم } يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم ، أو يعظمونهم ويخضعون لهم كحب الله من إضافة المصدر إلى المفعول أي كما يحب الله على أنه مصدر من المبني المفعول . وإنما استغنى عن ذكر من يحبه وهم المؤمنون لأنه غير ملتبس . وقيل : كالحب اللازم عليهم لله وقيل : كحبهم الله أي يسوّون بينه وبينهم في محبتهم بناء على أنهم كانوا مقرّين بالله { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } [ العنكبوت : 65 ] { والذين آمنوا أشدُ حباً لله } لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره في السراء ولا في الضراء ، ولا يجعلون وسائط بينهم وبينه بخلاف المشركين يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله .

ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة آلهتها من حيس وهو الأقط والسمن والتمر عام المجاعة وفيهم قال الشاعر :
أكلت حنيفة ربها ... زمن التجعم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعة
واعلم أن إطلاق محبة العبد لله تعالى قد ورد في القرآن والحديث كما في هذه الآية وكقوله { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] ويروى أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت . وقد جاء لقبض روحه - هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله إليه : هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله . فقال : يا ملك الموت الآن فاقبض . وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة؟ فقال : « ماذا أعددت لها » فقال : ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله . فقال صلى الله عليه وسلم : « المرء مع من أحبه » . ثم إن الأئمة اختلفوا في معناها فقال جمهور المتكلمين : إن المحبة نوع من أنواع الإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، ويستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته ، فمعنى قولنا يحب الله يحب طاعة الله وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه . وأما العارفون فيقولون : إنا نحب الله لذاته لا لغرض ، ولو كان كل شيء محبوباً لأجل شيء آخر دار أو تسلسل وإذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه ، والرجل الشجاع لقوته وغلبته ، والرجل الزاهد لبراءة ساحته عن المثالب ، فالله تعالى أحق بالمحبة لأن كل كمال بالنسبة إلى كماله نقص ، والكمال مطلوب لذاته محبوب لنفسه . وكلما كان الاطلاع على دقائق حكمة الله وقدرته وصنعه أكثر كان حبه له أتم ، وبحسب الترقي في درجات العرفان تزداد المحبة إلى أن يستولي سلطان الحب على قلب المؤمن فيشغله عن الالتفات لغيره ويفنى عن حظوظ نفسه ، فيه يسمع وبه يبصر وبه يمشي ويتكلم بلسان الحال « ليس في جبتي سوى الله » فلا يعصي الله طرفة عين ولا يشتغل بحظ نفسه لمحة بصر كما قيل :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
ويحب الله ويحب أولياءه ومقربيه ويناوئ أعداءه ومخالفيه { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] .
لعين تغدى ألف عين ويتقى ... ويكرم ألف للحبيب المكرم
{ ولو يرى } قرئ بالياء والتاء « وأن » « وإن » بالفتح والكسر فههنا أربعة تقديرات : الأول : لو يعلم الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد إذا عاينوا العذاب يوم القيامة أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم وأن عذاب الله للظالمين شديد ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم .

وحذف جواب « لو » دليل على فخامة شأن المحذوف ليذهب الوهم كل مذهب ويقدر من الفظاعة ما لا يكتنه كنهه كقولهم « لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه » بخلاف ما وقع التعبير عنه بلفظ معين . الثاني : ولو ترى - يا محمد أو يا من يتأتى منه الرؤية - هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم وقت معاينتهم العذاب بمعاينتهم أن القدرة كلها لله وأنه شديد العذاب ، لرأيت أمراً عظيماً . فعلى هذا « أن » و « إن » مع معمولهما بدل من العذاب . قال الفراء : الوجه فيه تكرير الرؤية أي يرون أن القوة لله جميعاً . الثالث : بياء الغيبة وكسر « إن » و « إن » ومعناه كالأول ، والجملتان معترضتان . أو المعنى لقيل : إن القوة لله . والرابع : على هذا القياس . ودخول « لو » وكذا « إذا » في المستقبل مع « أن » حقهما الدخول على الماضي نظم للمستقبل في سلك الماضي المقطوع به لصدوره عمن لا خلاف في إخباره . وقيل : لأن الساعة قريب فكأنها قد وقعت وكذا الكلام في { إذ تبرأ } وأنه بدل من { إذ يرون العذاب } وقيل : هو معمول شديد . والمراد بالذين اتبعوا القادة والرؤساء من مشركي الإنس . عن قتادة والربيع وعطاء : أو شياطين الجن الذين صاروا متبوعين بالوسوسة عن السدي : وقيل الأوثان . والتبري إما بالقول وهو أقرب ، وإما بظهور العجز والندم بحيث لا يغنون عن أنفسهم من عقاب الله شيئاً فكيف عن غيرهم؟ { ورأوا العذاب } الواو للحال أي تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب { وتقطعت } عطف على { تبرأ } { بهم } أي عنهم فإن « تقطع » في معنى « زال أو وقع » تقطع الأسباب ملتبسة بهم مثل { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] بضم النون أو الباء للتعدية كأن أسباب الوصل صارت أسباب القطع ومصالحهم انقلبت عليهم مفاسد . والسبب في اللغة الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به . قالوا : ولا يدعى الحبل سبباً حتى ينزل ويصعد به . والمراد ههنا الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب والأتباع والأشياع والعهود والعقود { لو أن لنا كرة } تمنّ ولذلك أجيب بالغاء كأنه قيل : ليت لنا كرة رجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف والمتبوعون مفتقرون إلى اتباعنا ونصرتنا حتى نتبرأ منهم بعدم النصرة والإعانة كما فعلوا هم اليوم { كذلك } مثل ذلك الإراء الفظيع { يريهم الله أعمالهم حسرات } هو ثالث مفعول « أرى » أو مثل ذلك التبرؤ يريهم أعمالهم حسرات ، فإن ذلك التبرؤ نوع إراءة . والمراد بالأعمال قيل الطاعات لزمتهم فلم يقوموا بها وضيعوها . عن السدي : وقيل المعاصي وأعمالهم الخبيثة يتحسرون لم عملوها . عن الربيع وابن زيد : وقيل ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر .

عن الأصم : وقيل أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم . والحسرة شدة الندم على ما فات حتى بقي النادم كالحسير من الدواب وهو الذي لا منفعة فيه . والتركيب يدور على الكشف ومنه انحسر الطائر انكشف بذهاب ريشه . والحاصل أنهم لا يرون مكان أعمالهم إلا حسرات . في أيها المغرور بالسلامة ما أعددت ليوم القيامة ، يوم الحسرة والندامة ، يوم يجعل الولدان شيباً ، يوم يدع المسرور كئيباً . الدنيا دار تجارة فالويل لمن تزود منها الخسارة { وما هم بخارجين من النار } استدل الأشاعرة بالتقديم على التخصيص فقالوا : إن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار . وزعم المعتزلة أن بناء الكلام على « هم » لتقوي الحكم وإفادة التأكيد كقوله تعالى { وهم يخلقون } [ الأعراف : 19 ] فإنه لا يدل على أن غير الأصنام غير مخلوق والله أعلم حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

القراآت : { خطوات } ساكنة الطاء حيث كان : أبو عمرو وغير عباس ونافع وحمزة وخلف الهاشمي وأبو ربيعة عن البزي والقواس والحماد وأبو بكر غير البرجمي . الباقون : بالضم . { بل نتبع } . وبابه مثل { هل ننبئكم } [ الكهف : 103 ] و { بل نقذف } [ الأنبياء : 18 ] مدغماً حيث كان : علي وهشام .
الوقوف : { طيباً } ز والوصل أجوز لعطف الجملتين المتفقتين { الشيطان } ط { مبين } 5 { ما لا تعلمون } 5 { آباءنا } ط لابتداء الاستفهام { ولا يهتدون } 5 { ونداء } ط لحق المحذوف أي هم صم { لا يعقلون } 5 .
التفسير : قال الكلبي : نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . والآية مسوقة لتقرير طرف من جهالات المشركين المتخذين من دون الله أنداداً . وحلالاً مفعول كلوا أو حال مما في الأرض وهو المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه من الحل الذي يقابل العقد . ومنه حل بالمكان إذا نزل ، وحل عقد الرحال ، وحل الدين وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة ، والحلة لأنها تحل عن الطي للبس . وتحلة القسم لأن عقدة اليمين تنحل به . ثم الحرام قد يكون حراماً في جنسه كالميتة والدم ، وقد يكون حراماً لعرض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله ، فالحلال هو الخالي عن القيدين ، والطيب إن أريد به ما يقرب من الحلال لأن الحرام يوصف بالخبيث { قل لا يستوي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] فالوصف لتأكيد المدح مثل { نفخة واحدة } [ الحاقة : 13 ] أي الطاهر من كل شبهة . ويمكن أن يراد بالطيب اللذيذ ، أو يراد بالحلال ما يكون بجنسه حلالاً وبالطيب ما لا يتعلق به حق الغير . والخطوة بالضم ما بين قدمي الخاطي كالغرفة بالضم اسم لما يغترف والفعلة بالضم والسكون إذا كانت اسماً تجمع في الصحيح بسكون العين وضمها . يقال : اتبع خطواته ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته { مبين } ظاهر العداوة لا خفاء به { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين } [ ص : 82 ] { لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } [ الأعراف : 16-17 ] { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } السوء متناول جميع المعاصي من أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، والفحشاء هي التي جاوزت الحد في القبح فلهذا قد تحقق الأول بما لم يجب فيه الحد والثاني بما يجب فيه الحد { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وهذا أقبح الكل لأن وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم الكبائر فهذه الآية كالتفسير لقوله { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } والصغائر والكبائر والكفر والجهل كلها من مأمورات الشيطان ، بل لا يأمر الشيطان إلا بهذه الأمور بدليل « إنما » وهي للحصر وقد يدعو الشيطان إلى الخير ظاهراً وغرضه أن يجرّه إلى الشر آخراً مثل أن يجرّه من الأفضل إلى الفاضل فيتمكن بعد ذلك أن يجرّه إلى الشر .

ومثل أن يجره من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سبباً لتنفره عن الطاعة . ويدخل في قوله { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } جميع المذاهب الباطلة والعقائد الفاسدة وقول الرجل هذا حلال وهذا حرام بغير علم بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلداً للحق لكنه قال ما لا يعلم فصار مستحقاً للذم من جهة أنه قادر على تحصيل العلم بالحق ، ثم إنه قنع بالظن والتخمين . ومعنى أمر الشيطان وسوسته وقد سلف في شرح الاستعاذة ، وفي التعبير عن وسوسته بالأمر رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم أو قبولكم وساوسه . وإذا كان الآمر المطاع مرجوماً مذموماً فكيف حال المأمور المطيع؟ وفي هذا معتبر للبصراء ومزدجر للعقلاء أعاذنا الله بحوله وأيده من مكر الشيطان وكيده . { وإذا قيل لهم } أي للمتخذين من دون الله أنداداً أو للناس . والالتفات إلى الغيبة للنداء على ضلالتهم كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون : وعن ابن عباس : نزلت في اليهود حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا : نتبع ما ألفينا أي وجدنا عليه آباءنا ، فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم . وقد يعود الضمير إلى المعلوم كما يعود إلى المذكور ، وعلى هذا فالآية مستأنفة . وإنما خص هذا الموضع بقوله { ألفينا } لأن « ألفيت » يتعدى إلى مفعولين ألبتة فكان نصاً في ذلك فورد في الموضع الأول على الأصل . واقتصر في المائدة ولقمان على لفظ « وجدنا » المشترك بين المتعدي إلى واحد والمتعدي إلى اثنين اكتفاء بما ورد في الأول مع تغيير العبارة عارضوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة بالتقليد فما أغفلهم وأنفسهم فلا جرم أجاب الله تعالى بقوله { أو لو كان } الواو للعطف لا للحال على ما وقع في الكشاف ، والهمزة للرد والتعجب وفعل الاستفهام ، محذوف وكذا جواب الشرط ، أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للثواب ، أيتبعونهم أيضاً؟ وتقرير الجواب أن يقال للمقلد : أعرفت أن المقلد محق أم لا . فإن لم تعرف فكيف قلدته مع احتمال كونه مبطلاً ، وإن عرفت فإما بتقليد آخر ويستلزم التسلسل ، أو بالعقل فذلك كافٍ في معرفة الحق والتقليد ضائع . وأيضاً علم المقلد إن حصل بالتقليد تسلسل ، وإن حصل بالدليل فإنما يتبعه المقلد إذا علم ذلك الدليل أيضاً وإلا كان مخالفاً فظهر . . . . . . فقال وضلال { ومثل الذين كفروا } فيه للعلماء طريقان : أحدهما تصحيح المعنى بإضمار إما في المشبه أي مثل من يدعو الحق كمثل الذي ينعق يقال : نعق الراعي بالضأن إذا صاح بها . وأما نغق الغراب فبالغين المعجمة شبه الداعي إلى الحق براعي الغنم والكفرة بالغنم ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تعلم المراد ، وهؤلاء الكفار يسمعون صوت الرسول وألفاظه وما كانوا ينتفعون بها فكأنهم لا يفهمون معانيها .

وإما بإضمار في المشبه به أي مثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق الطريق . الثاني : التصحيح بغير إضمار أي مثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع ، لكن قوله { لا دعاء ونداء } لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئاً . أو مثلهم في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل فإنه لا يسمع إلا صدى صوته . فإذا قال : يا زيد . يسمع من الصدى يا زيد ، فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعوا الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء . أو مثلهم في قلة عقلهم حيث عبدوا الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم . فكما أن الكلام مع البهائم دليل سخافة العقل فكذلك عبادتهم لها أي ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل الذي يتكلم مع البهائم ، فكما أن ذلك عبث ضائع فكذا تقليدهم واتباعهم { صم } عن استماع الحق والانتفاع به { بكم } عن إجابة الداعي إلى سبيل الخير { عمي } عن النظر في الدلائل { فهم لا يعقلون } العقل المسموع ولا المطبوع وذلك أن طريق الاكتساب الاستعانة بالحواس ولهذا قيل : من فقد حساً فقد علماً . فلما فقدوا فائدة الحواس فكأنهم عدموها خلقة ، قال شابور بن أردشير : العقل نوعان : مطبوع ومسموع . فلا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه فإن أحدهما بمنزلة العين والآخر بمثابة الشمس ولا يكمل الإبصار إلا بتعاونهما . وقال النبي صلى الله عليه وسلم « إن لكل شيء دعامة ودعامة عمل المرء عقله » فبقدر عقله تكون عبادته لربه . أما سمعتم قول الله عز وجلّ حكاية عن الفجار؟ { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك : 10 ] وقال : « ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى » .
التأويل : الذين كفروا لم يسمعوا إذ خاطبهم الحق بقوله { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] إلا دعاء ونداء لأنهم كانوا في الصف الأخير من الأرواح المجندة في أربعة صفوف : الأول للأنبياء ، والثاني للأولياء ، والثالث للمؤمنين ، والرابع للكافرين فما شاهدوا شيئاً من أنوار الحق ولكنهم قالوا بالتقليد بلى فبقوا على التقليد { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

القراآت : { الميتة } بتشديد الياء : يزيد . الباقون : بالسكون؛ { فمن اضطر } بكسر النون وضم الطاء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وكسر الطاء : يزيد . الباقون : بضمهما .
الوقوف : { تعبدون } 5 { لغير الله } ج الشرط مع فاء التعقيب { عليه } ط { رحيم } 5 { قليلاً } لا لأن ما بعده خبر « إن » { تزكيهم } ج والوصل أولى لاتصال بعض جزائهم بالبعض { أليم } 5 { بالمغفرة } ج للابتداء بالتعجب أو الاستفهام والوجه الوصل للمبالغة في الإنكار . { على النار } 5 { بالحق } ط للابتداء بأن { بعيد } ربع الجزء .
التفسير : إنه سبحانه تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى شرح أهل النفاق والشقاق من المشركين وأهل الكتاب ، وذيل كلاً من ذلك بما يناسبه ، ومن ههنا شرع في بيان الأحكام الشرعية . الحكم الأول : إباحة الأكل للمؤمنين بعد ما عمم للناس كلهم ، وهذا بالنظر إلى الأصل . وقد يصير واجباً العارض كما لو أشرف على الهلاك بسبب المجاعة ، وقد يكون مندوباً كموافقة الضيف واستدل بقوله { من طيبات ما رزقناكم } على أن الرزق قد يكون حراماً فإن الطيب هو الحلال . ولو كان الرزق حلالاً ألبتة لم يبق في ذكر الطيب فائدة إذ يصير المعنى كلوا من حلالات ما أحللنا لكم وأجيب بالمنع من أن معنى الطيب ما ذكر بل المعنى كلوا من متلذذات ما رزقناكم ، ولعل أقواماً ظنوا أن التوسع في الأكل الحلال والاستكثار من الملاذ ممنوع منه فرفع الحرج . { واشكروا لله } الذي رزقكموها { إن كنتم إياه تعبدون } إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم فإن الشكر رأس العبادة ، والتركيب يدور على الكشف والإظهار ومنه كشر إذا كشف عن ثغره ، فنشر النعم وحصرها باللسان من الشكر . وباطن الشكر أن يستعين بالنعم على الطاعة دون المعصية وقال بعضهم :
أوليتني نعماً أبوح بشكرها ... وكفيتني كل الأمور بأسرها
فلأشكرنك ما حييت فإن أمت ... فلتشكرنك أعظمي في قبرها
عن النبي صلى الله عليه وسلم « يقول الله تعالى إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري » ولما أجمل في الآية ما يباح أكله ذيل بحصر ما هو محرّم ليبقى ما عدا ذلك على أصل الإباحة فقيل { إنما حرم عليكم الميتة والدم } يتناول ما مات حتف أنفه وما لم تدرك ذكاته على الوجه الشرعي . وإذا كانت محرمة وجب الحكم بنجاستها إجماعاً ، ولأن تحريم ما ليس بمحرم ولا فيه ضر وظاهر يدل على النجاسة . وليس في الآية إجمال عند الأكثرين ، لأن المفهوم من تحريم الميتة ليس تحريم أعيانها وإنما المفهوم في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما لو قيل : فلان يملك جارية .

فهم منه عرفاً أنه يملك التصرف فيها . وعلى هذا فالآية تدل على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص كالسمك والجراد لقوله صلى الله عليه وسلم « أحلت لنا ميتتان ودمان . أما الميتتان فالجراد والنون . وأما الدمان فالطحال والكبد » وقال صلى الله عليه وسلم في صفة البحر « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » وهذا عام لجميع الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء وإن لم تكن على صورة السمكة المشهورة . ولا فرق أيضاً بين ما يؤكل نظيره في البر كالبقر والشاة وبين ما لا يؤكل كخنزير الماء وكلبه على أصح القولين للشافعي . وقد زعم بعض الناس كصاحب الكشاف أن السمك والجراد يخرج بنفسه لأن الميتة لا تتناولهما عرفاً وعادة ، ولهذا من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة لقوله تعالى { لتأكلوا منه لحماً طرياً } [ النحل : 14 ] وشبهوه بما لو حلف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث وإن عدّ الكافر من الدواب لقوله تعالى { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] وفيه نظر . لأن عدم التناول عرفاً إنما هو بعد تخصيص الشارع فلا يمكن أن يجعل دليلاً على عمومه . وكالجنين الذي يوجد ميتاً عند ذبح الأم عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو المروي عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وابن عمر لقوله صلى الله عليه وسلم « ذكاة الجنين ذكاة أمه » وقال أبو حنيفة : لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح وحمل الحديث على الإضمار أي ذكاة الجنين كذكاة أمه وردّ بأن الإضمار خلاف الأصل ، وبأنه إذا خرج لا يسمى جنيناً ، وبأنه لا يبقى للخبر حينئذ فائدة ، لأن ذلك معلوم ، ولما روي عن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجنين يخرج ميتاً قال : « إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه » وكشعر الميتة وصوفها فإنهما عند أبي حنيفة ظاهران لقوله تعالى في معرض الامتنان { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ النحل : 80 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة « إنما حرم من الميتة أكلها » ولأنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب ، ولأن الشعر ، وا لصوف لا حياة فيه لأن حكم الحياة الإدراك والشعور . ومن ههنا ذهب مالك إلى تحريم العظام دون الشعور ، وعند الشافعي الشعر والعظم ونحوهما كالقرن والظفر والسن كلها نجسة لقوله صلى الله عليه وسلم « ما أبين من حي فهو ميت » ولأن الحياة عندنا عبارة عن كونه متعرض للفساد والتعفن ، وهذا المعنى يعم الشعر واللحم . وأما الإهاب فللفقهاء فيه مذاهب سبعة . فأوسع الناس قولاً الزهري . جوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ ، ثم داود قال : تطهر كلها بالدباغ لقوله صلى الله عليه وسلم

« أيما إهاب دبغ فقد طهر » ولأن الدباغ يعيد الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة من عدم التعفن والفساد . ثم مالك يطهر ظاهر كلها دون باطنها . ثم أبو حنيفة يطهر كلها إلا جلد الخنزير لدسومته والآدمي لكرامته . ثم الشافعي يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير . ثم الأوزاعي وأبو ثور يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط . ثم أحمد بن حنبل والشيعة لا يطهر شيء منها بالدباغ لإطلاق الآية ولقول عبد الله بن حكيم : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب . واختلف في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازي والبهيمة؟ فمنهم من منع منه حتى قال بعضهم : إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة وجب علينا منعه . وجوز الشافعي استعمال نجس العين كجلد الكلب والخنزير للضرورة كمفاجأة قتال مع فقدان غيره ، وكدفع الحر والبرد المهلكين ، ولأجل تجليل الكلب وإن لم يكن ضرورة ، وكذا استعمال جلد الميتة قبل الدباغ لتجليل الدابة والكلب ، وكذا استعمال النجس العين كودك الميتة والخنزير والزبل للاستصباح وتسميد الأرض لعموم الحاجة القريبة من الضرورة ، وقد نقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وسئل عليه السلام عن الفأرة تقع في السمن فقال : « استصبحوا به ولا تأكلوه » . والدخان وإن كان نجساً لكنه قليل معفو عنه . وعند أبي حنيفة : إذا مات في الماء القليل ما ليس له نفس سائلة أي دم كالذباب والبعوض والخنفساء والعقرب وبنات وردان لم يفسد الماء قل أو كثر لأن رطوبة هذه الحيوانات تشبه رطوبة النبات فهي حية وميتة على هيئة واحدة . وعند الشافعي فيه قولان : وعامة الأصحاب عدّوا دود الطعام من جملة ما ليس له نفس سائلة وقالوا : لا ينجس الطعام الذي تولد منه بموته فيه بلا خلاف . وإن وقع في ماء أو في مائع آخر فقولان . ثم الذباب والبعوض ونحوهما وإن حكم بطهارة ميتتهما فهي محرمة لأنها مستقذرة مندرجة تحت عموم اسم الميتة . وفي جواز أكل دود الطعام والفواكه والماء وجهان ، والأظهر تحرمها عند الانفراد ، ومع هذه الأشياء يمكن أن يسامح به . وسأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه : ما ترون فيها؟ فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل فيهراق المرق . فقال أبو حنيفة : بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها : فكما في هذه الرواية ، وإن وقع فيها في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق . قال ابن المبارك : ولم ذلك؟ قال : لأنه إذا سقط فيها في حال غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم ، وإذا وقع فيها في حال سكونها فمات فقد وسخت الميتة اللحم .

فاستحسنه ابن المبارك . وعند أبي حنيفة : ذبح ما لا يؤكل لحمه يستعقب الطهارة . وعند الشافعي لا يستعقبها كما لا يستعقب حل الأكل ، وكما لو ذبح المجوسي مأكول اللحم . ولبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهران عند أبي حنيفة دون الشافعي ومالك ، لا لأن الآية لا تتناولهما فإن اللبن لا يوصف بأنه ميتة ، بل لتنجسهما بمجاورة الميتة . وبيض مأكول اللحم إذا مات ووجد ذلك في جوفه فإن كان متصلباً فطاهر بعد أن يغسل وإلاّ فلا . أما الدم فعند الشافعي جميعه محرم سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح لإطلاق الآية إلا الكبد والطحال للخبر عند من يقول بتناول الآية إياهما ، وعند من يقول بذلك لا تخصيص . وقال أبو حنيفة : دم السمك ليس بمحرم ، وأما لحم الخنزير فأجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وتخصيص اللحم بالذكر لأن معظم الانتفاع متعلق به . أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمه وتنجيسه . واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز؟ فأبو حنيفة ومحمد يجوز ، والشافعي لا يجوز . واحتج أبو حنيفة بأنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ، ولأن الحاجة ماسة إليه . وأما ما أهل به لغير الله فمعناه رفع به الصوت للصنم وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى . وأهل المعتمر إذا رفع صوته بالتلبية . قال العلماء : لو أن مسلماً ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتداً ، وذبيحته ذبيحة مرتد . وقدم به في هذه السورة وأخر في المائدة والأنعام والنحل لأن تقدم الباء هو الأصل لأنه يجري في إفادة التعدية مجرى الهمزة والتضعيف ، فكان الموضع الأول هو اللائق بهذا الأصل ، وفي سائر المواضع قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله ، ولهذا لم يذكر في سائر الآية قوله { فلا إثم عليه } اكتفاء بما ذكر في الموضع الأول . ويستثنى مما أهل به لغير الله ذبائح أهل الكتاب إذا سمي عليها باسم المسيح مثلاً لإطلاق قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } [ المائدة : 5 ] ولأن النصراني إذا سمي الله تعالى فإنما يريد به المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم . وإذا ذبحوا على اسم الله فظاهر اللفظ يقتضي الحل ولا عبرة بما لو أراد به المسيح . وعن علي كرم الله وجهه : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون سوى هذه الأشياء محرماً ، لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات ، فكلمة إنما متروكة العمل بظاهرها والله أعلم { فمن اضطر } افتعل من الضر وهو الضيق أي ألجئ .

استثنى من التحريم حالة الضرورة ولها سببان : أحدهما الجوع الشديد وأن لا يجد مأكولاً حلالاً يسد به الرمق فعند ذلك يكون مضطراً إلى أكل المحرم . الثاني : إذا أكرهه على تناوله مكره فيحل له تناول ما أكره عليه . والاضطرار ليس من أفعال المكلف حتى يقال إنه لا إثم عليه فيه ، فلا بد من إضمار وهو الأكل . أي فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه ، وإنما حذف للعلم به . « وغير » ههنا بمعنى « لا » النافية كأنه قيل : فمن اضطر باغياً ولا عادياً . والبغي في اللغة الظلم والخروج عن الإنصاف . بغي الجرح ورم وترامي إلى فساد . وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي . والعدوان الظلم الصراح وتجاوز الحد . وللأئمة في الآية قولان : أحدهما وإليه ذهب أبو حنيفة تخصيص البغي والعدوان بالأكل ، وعلى هذا فالمعنى غير باغ بأن يجد حلالاً تكرهه النفس ، فعد إلى أكل الحرام للذته { ولا عاد } أي متجاوز قدر الرخصة ، أو غير باغ أي طالب للذة ولا عاد متجاوز سداً لجوعه ، عن الحسن وقتادة والربيع ومجاهد وابن زيد : أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ، ولا عاد في سد الجوعة . والثاني وإليه ذهب الشافعي والإمامية : غير باغٍ على إمام المسلمين ، ولا عادٍ بالمعصية طريق المحقين . ويتفرع على الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا؟ فعند أبي حنيفة يترخص لأنه مضطر وغير باغٍ ولا عادٍ في الأكل . وعند الشافعي لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان ويؤيده الآية الأخرى { فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم } [ المائدة : 3 ] وأيضاً غير باغٍ ولا عادٍ حالان من الاضطرار ، فلا بد أن يكون وصف الاضطرار باقياً في الحالين وليس كذلك ، لأنه حال الأكل لا يبقى وصف الاضطرار . وأيضاً الإنسان نفور بطبعه عن تناول الميتة والدم فلا حاجة إلى نهيه عن التعدي في الأكل . وأيضاً إنه نفي ماهية البغي والعدوان ، وإنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ويتحقق حينئذٍ نفي العدوان في السفر كما هو مقصودنا . وأما تخصيص البغي بالأكل كما ذهبتم إليه فترجيح من غير دليل . حجة أبي حنيفة قوله تعالى في آية أخرى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } [ الأنعام : 119 ] وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص . وأيضاً قال تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] والامتناع عن الأكل سعي في قتل النفس ، فيحرم كما لو ترك دفع أسباب الهلاك عن نفسه إذا صال عليه جمل أو فيل أو حية . وأيضاً الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا .

أجاب الشافعي : بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة ، فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه . ثم إن الرخصة إعانة على السفر وإذا كان السفر معصية فالرخصة إعانة على المعصية ، والسعي في تحصيل المعصية محظور ، فالجمع غير ممكن ثم اتفق الإمامان على أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه إلا إذا عجز عن السير ويهلك فيتناول المشبع . وقال عبد الله بن الحسن العنبري : يأكل منها ما يسد جوعته . وعن مالك : يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غنى عنها طرحها . والأول أقرب ، لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة ، كما لو وجد الحلال لم يحل له تناول الميتة ، وكما أن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه . وهذه الرخصة لجميع المحرمات عند الأكثرين ، وبعضهم خصصها بما سوى لحم الخنزير ، والشافعي منع عن شرب الخمر لشدة العطش دون إساغة اللقمة . وفي التداوي بها وجهان ، وبسائر المحرمات يجوز ولا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت فإن الأكل حينئذٍ لا ينفع ، بل لو انتهى إلى تلك الحالة له التناول . وحدوث مرض مخوف في جنسه كخوف الموت ، وهكذا إن كان يخاف منه لطوله وتماديه . ولا يشترط في جميع ذلك إلا غلبة الظن دون التيقن . ومعنى قوله { فلا إثم عليه } رفع الحرج والضيق كما مر في قوله { فلا جناح عليه أن يطوّف بهما } [ البقرة : 158 ] ورفع الحرج قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح فلا ينافي وجوب الأكل في حالة الاضطرار . ومعنى قوله { أن الله غفور رحيم } أن المقتضي للحرمة قائم إلا أنه زالت الحرمة لوجود العارض ، فلما كان تناوله تناول ما حصل فيه المقتضى للحرمة ذكر بعده المغفرة ، ثم ذكر أنه رحيم يعني لأجل الرحمة أبحت لكم ذلك ، أو لعل المضطر يزيد على تناول قدر الحاجة فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة ، رحيم حيث أباح تناول قدر الحاجة . أو أنه لما بين هذه الأحكام فالمكلفون بالنسبة إليها إما أن يعصوا فذكر أنه غفور لهم إذا تابوا ، أو يطيعوا فهو رحيم حيث وفقهم للطاعة . { إن الذين يكتمون } عن ابن عباس : نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم - كعب بن الأشرف وحي بن أخطب ونحوهما - كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، فلما بعث من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم وقالوا : هذا نعت نبي آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبي الذي بمكة . فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتبعونه { ويشترون به } أي بالككتمان لدلالة الفعل عليه ، أو بالمنزل .

وقد سبق معنى الاشتراء والثمن القليل { في بطونهم } حال أي ملء بطونهم . أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه { إلا النار } لأنه إذا أكل ما يلتبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقولهم « أكل الدم » أي الدية التي هي بدل منه : قال :
أكلت دماً إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وذلك أنهم كانوا يستنكفون عن أخذ الدية وبعيدة مهوى القرط كناية عن طول العنق . ويمكن أن يقال : إنهم يأكلون في الآخرة النار لأكلهم في الدنيا الحرام { ولا يكلمهم الله } بما يحبون لأنهم كتموا كلامه في الدنيا بل بنحو { اخسؤا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] أو لا يكلمهم الله أصلاً لغضبه عليهم كما هو ديدن الملوك من الإعراض عند السخط والإقبال عند الرضا { ولا يزكيهم } بالإثناء عليهم أو بقبول أعمالهم { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } بيان لتماديهم في الخسارة فإن أحسن الأشياء في الدنيا الاهتداء والعلم ، وأقبحها الضلال والجهل . وفي الآخرة أنفع الأشياء المغفرة ، وأضرها العذاب فهم في خسران الدارين لاستبدالهم في الدنيا أقبح الأمور بأحسنها ، وفي الآخرة أضر الأشياء بأنفعها . { فما أصبرهم على النار } تعجب من حالهم في تلبسهم بمواجب النار من غير مبالاة منهم ، فإن الراضي بموجب الشيء لا بد أن يكون راضياً بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان « ما أصبرك على القيد والسجن » وهذا التعجب منهم في حال التكليف واشترائهم الضلالة بالهدى . وعن الأصم : أن المراد أنه إذا قيل لهم { اخسؤا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] فهم يسكتون ويصبرون على النار لليأس من الخلاص . وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة . وقيل : إن « ما » في { ما أصبرهم } للاستفهام لمعنى التوبيخ معناه أي شيء صبرهم عليها حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهذا أصل معنى فعل التعجب والتعجب استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء هذا هو الأصل ، ثم قد يستعمل لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب كما في حق الله تعالى { ذلك } الوعيد الشديد أو ذلك الكتمان وسوء معاملتهم إنما هو بسبب { إن الله نزل الكتاب } يعني جنس الكتب السماوية أو القرآن { بالحق } بالصدق أو ببيان الحق وقد نزل في جملة ما نزل أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر فإنه تعالى ختم على قلوبهم { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } جنسه فقالوا في البعض حق وفي البعض باطل وهم أهل الكتاب { لفي شقاق } خلاف { بعيد } عن الحق ، أو الذين اختلفوا في القرآن فقال بعضهم شعر ، وبعضهم سحر ، وبعضهم أساطير الأولين ، أو الذين اختلفوا في التوراة والإنجيل فقدح كل منهما في الآخر ، أو ذكر كل منهما للآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تأويلاً آخر فاسداً ، أو حرفوا كلاً منهما على وجه آخر لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ ومنازعةٍ شديدةٍ .

فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة ، فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة . وعن أبي مسلم : اختلفوا في الكتاب أي توارده مثل { إن في اختلاف الليل والنهار } [ يونس : 6 ] أي تعاقبهما . واعلم أن الآية وإن نزلت في أهل الكتاب ، يشبه أن تكون عامة في كل من كتم شيئاً من باب الدين فيكون حكماً ثانياً للمسلمين ، ويصلح أن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر . وكان السبب في تعقيب هذا الحكم الحكم الأول أن أهل الكتاب قد حرموا بعض ما أحل الله كلحوم الإبل وألبانها وأحلوا بعض الشحوم ، فسيقت الآية تعريضاً بصنعهم وتصريحاً بجزائهم وجزاء أضرابهم والله أعلم .
التأويل : الميتة جيفة الدنيا والدم وهي الشهوات النفسانية « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم « سدوا مجاري الشيطان بالجوع » ولحم الخنزير مادة الشره والحرص ، وما أهل به لغير الله كل ما يتقرب به إلى الله رياء وسمعة والله تعالى أعلم .


لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

القراآت : { ليس البر } بنصب الراء : حمزة وحفص الخراز عنه مخير . الباقون : بالرفع { ولكن } خفيفاً { البر } رفعاً وكذلك فيما بعد : نافع وابن عامر . الباقون : بالتشديد والنصب .
الوقوف : { والنبيَّن } ج لطول الكلام واختلاف المعنى لأن ما قبله أصول الإيمان وما بعده فروع : { وفي الرقاب } ج للطول مع انتهاء شرع المكارم وابتداء اللوازم { الزكاة } ج { عاهدوا } ج للعدول عن النسق إلى المدح والتقدير : هم الموفون أعني الصابرين { اليأس } ط { صدقوا } ط { المتقون } 5 .
التفسير : هذا حكم آخر من أحكام الإسلام . عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله تعالى هذه الآية . قال : وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم مات على ذلك وجبت له الجنة . وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا لشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ، ولكن البر الذي يجب صرف الهمة إليه بر من آمن وقام بهذه الأعمال ، وعلى هذا فالخطاب عام . وقيل : الخطاب لأهل الكتاب لأن المشرق قبلة النصارى ، والمغرب قبلة اليهود ، وأنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة . وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد عليهم بأن ما أنتم عليه خارج من البر . أما أولاً فلأنه منسوخ ، وأما ثانياً فلأنه على تقدير صحته شرط من شرائط أعمال البر لأن من جملتها الصلاة واستقبال القبلة شرط فيها ، ولن يكون شرط جزء الشيء تمام حقيقة ذلك الشيء ، وذلك أن البر اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله ومنه بر الوالدين وهو استرضاؤهما بكل ما أمكن . والتركيب يدل على الاتساع ومنه البر خلاف البحر . قيل : إن قراءة رفع البر أولى ليكون الاسم مقدماً على الخبر على الأصل . وقيل : بالنصب أولى لأن « أن » مع صلتها تشبه المضمر في أنها لا توصف ، والمضمر أدخل في الاختصاص من المظهر فهو أولى بأن يكون اسماً { ولكن البر من آمن } على تقدير حذف المضاف أي بر من آمن . وقيل : التقدير هكذا ولكن ذا البر من آمن . وقيل : البر بمعنى البار مثل رجل صوم أي صائم . وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت { ولكن البر } بفتح الباء . قال في التفسير الكبير : إنه تعالى اعتبر في تحقيق ماهية البر أموراً :
الأول : الإيمان بأمور خمسة : أولها الإيمان بالله ، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلائل الدالة عليها فيدخل فيها العلم بحدوث العالم .

والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوبه وقدمه وبقائه وكونه عالماً بكل المعلومات ، قادراً على كل الممكنات ، حياً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً ، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية . ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثه الرسل . وثانيها الإيمان باليوم الآخر ويتفرع على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات قادراً على كل الممكنات . وثالثها الإيمان بالملائكة ورابعها الإيمان بالكتب السماوية . وخامسها الإيمان بالنبيين . وسبب هذا الترتيب أن للمكلف مبدأ وسطاً ونهايةً ، ومعرفة المبتدأ والمنتهي هو المقصود بالذات أعني الإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي منوطة بالوحي الذي يأتي به الملك ، فثبت أن كل ما يلزم المكلف التصديق به داخل في الآية .
الثاني : إيتاء المال على حبه أي على حب المال . عن أبي هريرة أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الصدقة خير؟ قال : « أن تتصدق وأنت صحيح حريص ، تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا » عن أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال « مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما يشبع » والسبب أنه عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال ، وعند ظن الموت يحصل الاستغناء ، وبذل الشيء عند الاحتياج أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه . وأيضاً الإعطاء عند الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطائه حال المرض والموت . وأيضاً الهبة عند الموت تشبه الهبة عند الخوف من الفوت . وقيل : الضمير يرجع إلى الإيتاء أي يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله . وقيل : يرجع إلى الله أي يعطي المال على حب الله وطلب مرضاته . ثم ذكر سبحانه وتعالى ممن يؤتون المال أصنافاً ستة : أولهم القرابة ، وثانيهم اليتامى ، وثالثهم المساكين وقد مر ما يتعلق بكل منهم في تفسير قوله تعالى { وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } [ البقرة : 83 ] وإنما قدم ذوي القربى لأنهم أحق قال صلى الله عليه وسلم : « صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذي رحمك اثنتان » لأنها صدقة وصلة ولتأكد استحقاقه نال رتبة الوارثة ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يمكن من الوصية إلا في الثلث . وأطلق ذوي القربى واليتامى والمراد الفقراء منهم لعد الإلباس ، وتقديم اليتامى على المساكين لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا هو كاسب منقطع الحيلة من كل الوجوه . ورابع الأصناف ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله . جعل ابناً للسبيل لملازمته له كما يقال لطير الماء « ابن الماء » وللشجاع « أخو الحرب » وللناس « بنو الزمان » .

وقيل : هو الضيف لأن السبيل يرعف به . وخامسهم السائلون وهم المستطعمون ويدخل فيه المسلم والكافر وقريب منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « للسائل حق وإن جاء على فرس » وسادسهم المكاتبون وأشار إليه بقوله { وفي الرقاب } أي في معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم . وقيل : في ابتياع الرقاب وإعتاقها . وقيل : في فك الأسارى . والرقاب جمع الرقبة وهو مؤخر أصل العنق . واشتقاقها من المراقبة وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم ، ولهذا يقال للمملوك رقبة كأنه يراقب العذاب ولا يقال له عنق .
الثالث والرابع : قوله { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } وقد سلف مباحثهما . ثم إن الأئمة حيث ذكر الله تعالى ، إيتاء المال في الوجوه المذكورة ، ثم قفاه بإيتاء الزكاة . ومن حق المعطوف عليه ، غلب على ظنونهم أن في المال حقاً سوى الزكاة . وكيف لا وقد اكتنف الإيتاء فرضان وهما الإيمان وإقامة الصلاة؟ وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره طاوٍ إلى جنبه » ولا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة . وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهراً . وما روي عن علي عليه السلام أن الزكاة نسخت كل حق كأنه أراد الحقوق المقدّرة بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة والنفقة على الأقارب وعلى المملوك .
الخامس : قوله { الموفون بعهدهم إذا عاهدوا } وهو مرفوع على المدح أي هم الموفون ، أو عطف على { من آمن } والمراد بالعهد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته ، فقبل العباد ذلك حيث آمنوا بالأنبياء والكتب . ويندرج فيه ما يلتزمه المكلف ابتداء من تلقاء نفسه مما يكون بينه وبين الله كالنذور والأيمان ، أو بينه وبين رسول الله كبيعة الرضوان بايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أن لا يقولوا إلا بالحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائمٍ ، أو بينه وبين الناس واجباً كعقود المعاوضات ، أو مندوباً كالمواعيد ، فلهذا قال المفسرون ههنا : هم الذين إذا واعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا ، وإذا اؤتمنوا أدّوا ، وإذا قالوا صدقوا .
السادس : { والصابرين في البأساء والضراء } وهو نصب على المدح والاختصاص إظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال . قال أبو علي الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القبول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملةً واحدة .

وذكر المحققون في إفادة اختلاف الحركة المدح والذم أن أصل المدح والذم من كلام السامع ، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له : قام زيد . فربما أثنى السامع على زيد وقال : ذكرت والله الظريف وذكرت العاقل . أو هو - والله - الطريف ، أو هو العاقل . فأراد المتكلم أن يمدحه بمثل ما مدحه به السامع فجرى الإعراب على ذلك أي أريد الظريف أو العاقل { والبأساء } الفقر والشدة { والضراء } المرض والزمانة . وهما فعلاء من البؤس والضر لا أفعل لهما لأنهما ليسا بنعتين { وحين البأس } القتال في سبيل الله والجهاد . وأصل البأس الشدة { أولئك الذين صدقوا } في إيمانهم وجدّوا في الدين { وأولئك هم المتقون } ونظير هاتين الجملتين في القطع للاستئناف قوله { أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون } [ البقرة : 5 ] كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات وصفوا بالبر الذي هو أصل كل خير؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين لهم قدم صدقٍ في الإسلام ، وهم المتسمون بسمة التقوى . وكل منهم منطو على جميع الخيرات ومتضمن لكل المأمورات والمنهيات ، فلهذا اتصفوا بتلك الصفات . وذكر الواحدي ههنا أن الواوان في هذه الأوصاف للجمع . فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن يجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائماً بالبر إلا عند استجماع هذه الخصال حتى قال بعضهم : إن البر من خواص الأنبياء . والحق أنه ليس بمستبعد أن يوجد في الأمة موصوف بالبر إلا أن كمال البر لا يكون إلا في النبي ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . ثم إن أهل الكتاب كما أخلوا بجميع أوصاف البر أخلوا بالإيمان بالله { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] { وقالت اليهود يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ] وذهبت اليهود إلى التجسيم ، والنصارى إلى الحلول والاتحاد ، وأنكروا المعاد الجسماني وقالوا { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 8 ] وقالوا : إن جبريل عدوّنا وكفروا بالكتب السماوية { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 85 ] وقتلوا النبيين وطعنوا في نبوة المرسلين ، واتسموا بسمة الشح حتى اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ونقضوا العهود { أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريقٌ منهم } [ البقرة : 100 ] ولم يصبروا في اللأواء { لن نصبر على طعامٍ واحد } [ البقرة : 61 ] ولا حين البأس { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] فالعجب كل العجب منهم حيث ادّعوا البر ولا شيء ولا واحد من أجزاء البر فيهم ، وهذا غاية القحة ونهاية العناد والله بصير بالعباد .

التأويل : ليس البر بركم بتولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر الحقيقي هو بري معكم بتولية وجوه أرواحكم بجذبات المحبة قبل الحضرة الربوبية المحبوبية لتؤمنوا بدلالة نور بري بي وببر حبي لكم تحبوني ، والملائكة يحبونكم ببر حبي لكم . وبر حبي لكم ليس بمحدث كبركم معي بل هو بر قديم في الكتاب القديم ، وبنور هذه المحبة تحبون أهل محبتي وهم النبيون . فالجنسية علة الضم . { وآتى المال على حبه } أي ما حصل للعبد من بر الحب وما مال إلى سره من عواطف الحق ينفقه على حب حبيبه بأداء حقوق الشريعة والطريقة بالمعاملات القالبية والقلبية { ذوي القربى } وهم الروح والقلب والسر ذوو قرابة الحق { واليتامى } المتولدات من النفس الحيوانية الأمارة بالسوء إذا ماتت النفس عن صفاتها بسطوات تجلي صفات الحق { والمساكين } هم الأعضاء والجوارح { وابن السبيل } القوى البشرية والحواس الخمس فإنهم في التردد والسفر إلى عوالم المعقولات والمخيلات والمحسوسات والموهومات { والسائلين } الدواعي الحيوانية والروحانية { وفي الرقاب } في فك رقبة السر عن أسر تعلقات الكونين . فحينئذٍ أقام صلاة المحاضرة مع الله بالله وآتى زكاة مواهب الحق إلى أهل استحقاقها من الخلق وهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا مع الله بالتوحيد والعبودية الخالصة يوم الميثاق ، والصابرين في بأساء مراعاة الحقوق وضراء مخالفات الحظوظ وفناء الوجود عند لقاء الشهود وحين بأس سطوات تجلي صفات الجلال { أولئك الذين صدقوا } ببذل الوجود { وأولئك هم المتقون } من شرك الأنانية والله أعلم .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

الوقوف : { في القتلى } ط { بالأنثى } ط لأن العفو إعطاء الدية صلحاً فكان خارجاً عن أصل موجب القتل مستأنفاً { بإحسان } ط { رحمة } ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه فكان مستأنفاً { أليم } 5 { تتقون } 5 .
التفسير : هذا حكم آخر ، وسببه أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى يوجبون العفو فقط . فأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية ، لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من الحكمين . فإذا وقع القتل بين قبيلتين كان يقول الشريف للخسيس لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم ، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن رجلاً قتل رجلاً من الأشراف ثم اجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول فقالوا : ماذا تريد؟ قال : إحدى ثلاث . قالوا : وما هي؟ قال : تحيون ولدي ، أو تملؤن داري من نجوم السماء ، أو تدفعون إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم ، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً . وكانوا يجعلون دية الشريف أضعاف دية الخسيس فبعث الله محمداً بالعدل وسوّى بين عباده في القصاص . وقيل : نزلت في واقعة قتل حمزة . ومعنى كتب فرض وأوجب كقوله { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] ولفظة « على » أيضاً تفيد الوجوب كقوله { ولله على الناس حج البيت } والقصاص أن تفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك « اقتص فلان أثر فلان » إذا فعل مثل فعله . ومنه القصة لأن الحكاية تساوي المحكي والمقص لتعادل جانبيه . وقوله { في القتلى } أي بسبب قتل القتلى كقوله « في النفس المؤمنة مائة إبل » أي بسببها . فظاهر الآية يدل على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب جميع القتلى إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج عن هذا العموم . وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضاً في صور كما إذا قتل الوالد ولده ، والسيد عبده ، والمسلم حربياً أو معاهداً ، أو مسلم مسلماً خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه . فإن قيل : لو جب القصاص لوجب إما على القاتل وليس عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك ، وإما على ولي الدم وهو مخير بين الفعل والترك ، بل هو مندوب إلى الترك . { والعافين عن الناس } [ الأعراف : 134 ] وإما على أجنبي وليس ذلك بالاتفاق . وأيضاً القصاص عبارة عن التسوية ، ووجوب رعاية المساواة على تقدير القتل لا يوجب نفس القتل . قلنا عن الأول إن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجري مجرى الإمام ، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود وهو من جملة المؤمنين فالتقدير : يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أرادوا لي الدم أستيفاء .

ويحتمل أن يكون خطاباً مع القاتل لأنه كتب عليه تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص . وذلك أن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر ، بل للزاني والسارق الهرب من الحدود ، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله فلا يعترفا ، فكان أمر القتل أشنع ، وفيه حق الآدمي أكثر . وعن الثاني أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل ، والتسوية في القتل صفة للقتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات . فالآية تفيد إيجاب القتل . ثم اختلفوا في كيفية المماثلة التي تجب رعايتها فقال الشافعي : إن كان قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل ، فإن مات عنه في تلك المرة وإلا حزت رقبته . وكذلك إن أحرق الأول بالنار أحرق الثاني ، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه » ورضخ يهودي رأس جارية بالحجارة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفعل به مثله . ولأنه لا يجوز أن يقال : كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل ، وحيث لم يستثن دخل . وأيضاً الحكم بالعموم يوجب التخصيص في بعض الصور كما لو قتله بالسحر فلا يقتل السحر لأنه محرم بل بالسيف . وكما لو قتل صغيراً باللواط فإنه يقتل بالسيف على الأصح . ولو لم يحكم بالعموم لزم الإجمال ، والتخصيص أهون منه . وأيضاً لو لم تفد الآية إلا إيجاب التسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور ، فلا يستفاد من الآية شيء ألبتة . وقال أبو حنيفة : المراد بالمماثلة تماثل النفس ويتعين السيف لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا قود إلا بالسيف » واتفقوا على أن القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة له من الله . أما إذا تاب فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة للدلائل الدالة على قبول التوبة { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [ الشورى : 25 ] فما الحكمة في وجوب قتله؟ أجاب أصحابنا بأنه تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل . وقالت المعتزلة : إنما شرع ليكون لطفاً . وكيف يتصور هذا اللطف ولا تكليف بعد القتل؟ قالوا : فيه منفعة للقاتل من حيث إنه إذا علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعياً له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد ، ومنفعة لولي المقتول من حيث التشفي ، ومنفعة لسائر المكلفين من حيث الانزجار عن القتل .
قوله عز من قائل { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } الباء للبدل نحو « بعت هذا بذاك » أي الحر مقتول بدل الحر . ثم فيه قولان : الأول ويروى عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة ، أن لا يكون القصاص مشروعاً إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين ، لأن الألف واللام تفيد العموم أي كل حر يقتل بحر .

فلو كان قتل حر بعبد مشروعاً لكان ذلك الحر مقتولاً بعير حر وهو يناقض الآية . ولأن هذا القول خرج مخرج البيان لقوله { كتب عليكم القصاص } وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال للتسوية فلا يكون مشروعاً وهو يناقض الآية ، وإلى هذا ذهب الشافعي ومالك وقالا : لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه أولى ، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر . وأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع ، وكأن سنده أن الذكورة والأنوثة فضيلتان كالعلم والجهل والشرف والخسة ، فكما أنه لم يفرق بين العالم والجاهل فكذلك بين الذكر والأنثى ، ويروى عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن « أن الذكر يقتل الأنثى » القول الثاني ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والنوري وهذا مذهب أبي حنيفة ، أن الحر بالحر لا يفيد الحصر ألبتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على حال سائر الأقسام . لأن قوله { والأنثى بالأنثى } يقتضي قصاص الحرة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله { الحر بالحر والعبد بالعبد } مانعاً من ذلك تناقض . وأيضاً قوله { كتب عليكم القصاص } جملة مستقلة وقوله { الحر بالحر } تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر ، فلا يمنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات . ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى { النفس بالنفس } وقوله صلى الله عليه وسلم « المسلمون تتكافأ دماؤهم » وقد يقتل الجماعة بواحد فدل على أن التفاضل غير معتبر في الأنفس ثم إنهم قالوا : الفائدة في تخصيص هذه الجزئيات بالذكر ما ذكرنا في سبب النزول أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل فمنعوا عن ذلك . وأيضاً نقل عن علي رضي الله عنه والحسن البصري أن الغرض أن هذه الصورة هي التي يكتفى فيها بالقصاص . أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعاً بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص ، بل لا بد من التراجع . فأيما حر قتل عبداً فقود به ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا قيمة العبد من دية الحر ويؤدوا إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن قتل عبد حراً فهو به فإن شاء أولياء الحر قتلوا وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن شاءوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد . وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا بعد ذلك نصف ديته إلى أوليائه ، وإن شاءوا تركوا قتله وأخذوا ديتها .

وإذا قتلت امرأة رجلاً فهي به قود ، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإن شاءوا تركوها وأخذوا كل الدية ، فعلى هذا الغرض من الآية أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين ، فأما عند اختلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع .
قوله تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } المعنى فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو كقولك « سير بزيد بعض السير وطائفة من السير » ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به لأن عفا لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة . فإن قيل : إن « عفا » يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله { فمن عفى له } فالجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال تعالى { عفا الله عنك } [ التوبة : 23 ] فإذا تعدى إلى الذنب وإلى الجاني معاً قيل « عفوت لفلان عما جنى » كما تقول « غفرت له ذنبه » وتجاوزت له عنه . فمعنى الآية فمن عفى له عن جنابته . فاستغنى عن ذكر الجناية . فإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية . وأخوه هو ولي المقتول وإنما قيل له أخوه لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به كما تقول للرجل « قل لصاحبك كذا » إذا كان بينهما أدنى تعلق . أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام . وقد يستدل بهذا على أن الفاسق مؤمن لأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم ، ولا شك أن هذه الأخوة بسبب الدين { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] مع أن قتل العمد العدوان بالإجماع من الكبائر . وأيضاً إنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والعفو إنما يليق عن المؤمن . ويحتمل أن يجاب بأن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمناً فلعله تعالى سماه مؤمناً بهذا التأويل ، وبأن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمناً . ثم إنه تعالى أدخل غير التائب فيه على سبيل التغليب . وأيضاً لعل الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحداً . ولا شك أن المؤمنين أخوة قبل الإقدام على القتل . وأيضاً الظاهر أن الفاسق يتوب ، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخاً له . وأيضاً يجوز أن يكون قد جعله أخاً له في النسب كقوله تعالى { وإلى عاد أخاهم هوداً } [ هود : 50 ] { فاتباع بالمعروف } أي فليكن اتباع ، أو فالأمر ، أو فحكمه اتباع . أو فعلية اتباع فقيل : على العافي اتباع بالمعروف بأن يشدد في المطالبة بل يجري فيها على العادة المألوفة ، فإن كان معسراً فالنظرة وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق ، وإن كان واجداً بغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يستدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات { و } إلى المعفو عنه { أداء إليه بإحسان } بأن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود ، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه ، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل من غير مطل وبخس ، هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد .

وقيل : هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان { ذلك } قيل : إشارة إلى الاتباع والأداء . وعن ابن عباس : وهو الأقرب إنه إشارة إلى الحكم بسرع القصاص والدية والعفو ، فإن هذه الأمة خيرت بينهن توسعة وتيسيراً ، ولم يكن لليهود إلا القصاص وللنصارى إلا العفو وإثبات الخيرة فضل من الله ورحمة في حقنا ، لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتجاً إلى المال ، وقد يكون القود آثر عنده إذا كان راغباً في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه . وقد يؤثر ثواب الآخرة فيعفو عن القصاص وعن بدله جميعاً وهو الدية . { فمن اعتدى بعد ذلك } التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل مع قتل القاتل أو دونه أو قتل بعد أخذ الدية والعفو فقد كان لولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ثم يظفر به فيقتله { فله عذاب أليم } نوع من العذاب الأليم في الآخرة . وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل من الدية كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية » وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير وضعفه غيرهم . ولما كانت الآية مشتملة على إيلام العبد الضعيف وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله { ولكم في القصاص حياة } . قال المفسرون : القصاص إزالة الحياة ، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة . وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ، ويحتمل أن يقال : نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين . وقرأ أبو الجوزاء { ولكم في القصص حياة } أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص . وقيل : القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب . وهذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه { ولكم في القصاص حياة } بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز ، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم « قتل البعض أحياء للجميع » وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم « القتل أنفى للقتل » .

والترجيح مع ذلك للآية من وجوه : الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلماً ليس أنفى للقتل قصاصاً بل أدعى له . ولو خصص فقيل « القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً » طال . والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف . الثاني : أن القتل قصاصاً لا ينفي القتل ظلماً من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص . وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم . الثالث : أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة . فالتنصيص على المقصود الأصلي أولى . الرابع : التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية . الخامس : أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة ، وفي كلامهم أربعة عشر . السادس : أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب ، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة . السابع : ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال ، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سبباً لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير . الثامن : المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم . التاسع : اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة ، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم . العاشر : اشتمال الآية على اسمين وأداة ، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة . وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان ، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها ، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن . فتقدير كلامهم « القتل أنفى للقتل من كل شيء » فأين الوجازة { يا أولي الألباب } يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه ، وواحده ذو بمعنى صاحب . وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى { وأولات الأحمال } [ الطلاق : 4 ] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم . وزادوا في « أولي » واواً فرقاً بينها وبين « إلى » وأجرى « أولو » عليه . واللب العقل ، ولب النخلة قلبها ، وخالص كل شيء لبه . خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله { لعلكم تتقون } يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته ، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به . وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة ، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص .

عن الحسن والأصم : وقد بقي على الآية بحث ، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر ، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفاً عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته ، فكيف يفيد شرع القصاص حياة؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سبباً يدور مسببه معه وجوداً وعدماً . وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سبباً لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله ، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به . ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها . وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم .
التأويل : كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه وقال : من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أي من كان متوجهاً إليه تعالى بالكلية كان فيضه تعالى متصلاً به بالكلية ، ومن كان في رق غيره من المكوّنات لم يتصل به فيضه غاية الاتصال ، ومن كان ناقصاً في دعوى محبته لم يكن مستحقاً لكمال محبته { فمن عفي له } من الأحباء والأصفياء { شيء } من أنواع البلاء والابتلاء الذي هو موكل بالأنبياء والأولياء فإنه معروف من معارفه . فالواجب على العبد أداء شكره إلى الله بإحسان . { فمن اعتدى بعد ذلك } الوفاء بملابسة الجفاء وألقى جلباب الحياء { فله عذاب أليم } فإن الكفر مرتعه وخيم { ولكم في القصاص حياة } الدارين والتقاء برب الثقلين { يا أولي الألباب } الذين بدلوا قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الصمداني { لعلكم تتقون } شرك وجودكم .


كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

القراآت : { خاف } بالإمالة حيث كان : حمزة . { موصٍ } بالتشديد : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة الباقون : بالتخفيف من الإيصاء .
الوقوف : { خيراً } ج لأن قوله { الوصية } مفعول { كتب } وإنما لم يؤنث الفعل لتقدمه ولاعتراض ظرف وشرط بينهما ، أو « الوصية » مبتدأ « وللوالدين » خبره ، ومفعول « كتب » محذوف أي كتب عليكم أن توصوا . ثم بين لمن الوصية والوصل أولى لئلا يحتاج إلى الحذف . { بالمعروف } ح لأن التقدير حق ذلك حقاً أو كتب الوصية حقاً . { المتقين } ط وإن كان بعدها فاء التعقيب لأنه حكم آخر { يبدلونه } ط عليم كذلك { عليه } ط { رحيم } ( 5 ) .
التفسير : وهذا حكم آخر . قوله { كتب عليكم } يقتضي الوجوب كما مر . والمراد من حضور الموت ليس معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يكونه عاجزاً عن الإيصاء والأكثرون قالوا : المراد ظهور أمارة الموت وهو المرض المخوف كما يقال لمن قارب البلد : إنه وصل . وعن الأصم : المراد فرض عليكم في حال الصحة الوصية بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا ، وزيف بأنه ترك للظاهر . ولا شك أن الخير قد ورد في القرآن بمعنى المال { وما تنفقوا من خير } [ البقرة : 272 ] { وإنه لحب الخير لشديد } [ العاديات : 8 ] { من خير فقير } [ القصص : 24 ] لكن الأئمة اختلفوا في المراد بالخير ههنا بعد اتفاقهم على أنه المال . فعن الزهري : أنه المال مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً بدليل قوله { من خير فقير } [ القصص : 24 ] { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [ الزلزلة : 7 ] وأنه تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر قال تعالى { وللنساء نصيبٌ مما ترك الولدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً } [ النساء : 7 ] فكذا الوصية ، ولأن كل ما ينتفع به فهو خير . والأكثرون على أن لفظ الخير في الآية مختص بالمال الكثير كما لو قيل « فلان ذو مال » يفهم منه أن ماله قد جاوز حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال يقع في الحقيقة على ما يتموله الإنسان من قليلٍ أو كثير . وكما إذا قيل « فلان في نعمة من الله تعالى » فإنه يراد تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهو باب من المجاز مشهور ينفون الاسم عن الشيء لنقصه ومن قوله صلى الله عليه وسلم « لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » ولو كانت الوصية واجبة في كل ما يترك لم يكن لقوله { إن ترك خيراً } فائدة لندرة من يموت فاقداً أقل ما يتمول . ثم القائلون بهذا اختلفوا في أن المسمى بالخير في الآية مقدر بمقدار معين أم لا . فمنهم من قال : إنه غير مقدّر ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل .

فقد يوصف المرء لمقدار من المال بأنه غنيّ ولا يوصف غيره بالغنى لذلك المقدار لأجل كثرة العيال وتوسع النفقة ، فيكون التعيين في كل صورة موكولاً إلى الاجتهاد ، وهذا لا ينافي أصل الإيجاب . ومنهم من قال : إنه مقدر . ثم اختلفوا فعن علي كرم الله وجهه : أنه دخل على مولى في مرض الموت وله سبعمائة درهم فقال : ألا أوصي؟ قال : لا قال الله تعالى { إن ترك خيراً } وليس لك كثير مال . وعن عائشة أن رجلاً قال لها : إني أريد أن أوصي . قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : كم عيالك؟ قال أربعة . قالت : قال الله تعالى { إن ترك خيراً } وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل . وعن ابن عباس : أنه إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي ، فإذا بلغ ثمانمائة درهم أوصى . وعن قتادة : ألف درهم . وعن النخعي من ألف إلى خمسمائة درهم . قال أبو البقاء : جواب الشرط عند الأخفش الوصية بحذف الفاء أي فالوصية للوالدين على الابتداء والخبر واحتج بقول الشاعر :
من يفعل الحسنات اللَّه يشكرها ... وقال غيره : جواب الشرط في المعنى ما تقدم من كتب الوصية كما تقول « لك كذا إن فعلت » ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الإيصاء لا معنى الكتب بناء على رفع الوصية بكتب وهو الوجه . وقيل : المرفوع بكتب الجار والمجرور وهو { عليكم } وليس بشيء وأما إذا فهو ظرف لمعنى الوصية ولا يحتاج إلى جواب . والأقربين قيل هم الأولاد عن ابن زيد . وقيل من عدا الولد عن ابن عباس ومجاهد . وقيل : جميع القرابات . وقيل : غير الوارث . وقوله { بالمعروف } أمر بأن يسلك في الوصية الطريقة الجميلة . فلو حرم الفقير ووصى للغني لم يكن معروفاً ، ولو سوّى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفاً ، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الإخوة لم يكن ما يأتيه معروفاً . { وحقاً } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً على المتقين على الذين آثر والتقوى وجعلوها مذهباً لهم وسيرة .
واعلم أن الأئمة القائلين بوجوب هذه الوصية اختلفوا في أنها منسوخة أم لا . أما أبو مسلم فإنه اختار عدم نسخها وقال : معناها كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصبائهم ، أو لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية . فالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت ، فالوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين ، ولو قدرنا حصول المنافاة فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين . ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً في الآية .

وذلك أن من الوالدين من لا يرث بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ، ومن الأقارب من يسقط في حال ويثبت في حال ، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم . فآية الميراث مخصصة لهذه الآية لا ناسخة لها . وأكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء على أن الآية منسوخة قالوا : نسخت بآية المواريث أو بالإجماع أو بقوله صلى الله عليه وسلم « أن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه ألا لا وصية لوارث » وهذا وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول حتى التحق بالمتواتر فيجوز نسخ القرآن به عند الجمهور . ومن أئمة الأمة من قال : هي منسوخة في حق من يرث ، ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك : من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية . وقال طاوس : إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب . قالوا : الآية دلت على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق القريب الوارث ، إما بآية المواريث أو بقوله « لا وصية لوارث » أو بإجماع الأمة . فبقيت الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم « ما من حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه » وفي رواية « له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين » وفي رواية « ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده » لكن الوصية لغير الأقارب غير واجبة بالإجماع فوجب أن تختص بالأقارب . وهؤلاء القائلون بأن الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً اختلفوا في موضعين : الأول : نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء . وقال الحسن البصري والأغنياء سواء . الثاني : عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن معلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه : يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة ، وثلث الثلث لمن أوصى له . وعن طاوس : أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزغت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب { فمن بدله } فمن غير الإيصاء أو ما قاله الميت وأوصى به عن وجهه إن كان موافقاً للشرع { بعد ما سمعه } وتحققه فلا معنى للسماع لو لم يقع العلم به والمبدل إما الوصي بأن يغير الوصية في الكتابة ، أو في قسمة الحقوق ، وإما الشاهد بأن يغير شهادته أو يكتمها غيرهما بأن يمنع من وصول ذلك المال إلى مستحقه ، وقيل : المنهي عن التغيير هو الموصي ، نهي عن تغيير الوصية عن الموضع الذي بيّن الله تعالى الوصية فيه . فإنهم كانوا يوصون في الجاهلية للأبعدين طلباً للفخر والشرف ، ويتركون الأقارب في الضر والفقر ، فأمرهم بالوصية للأقربين وأوعدهم على تركها .

{ فإنما إثمه } ما إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل إلا على الذين يبدلونه ، فإن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره . ومنه يعلم أن الطفل لا يعذب بكفر أبيه ، وأن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه فإن الميت لا يعذب بتقصير ذلك الوارث ، وأن الميت لا يعذب بنياحة غيره عليه { إن الله سميعٌ عليم } يسمع الوصية على حدها ويعلمها على صفتها فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها ، وفي ذلك وعيد للمبدّل وأيّ وعيد . ثم إنه سبحانه لما أطلق الإيعاد على التبديل أتبعه قوله { فمن خاف } ليعلم أن التغيير من الباطل إلى الحق على طريق الإصلاح مستحسن شرعاً كما هو حسن عقلاً ، وللخوف ههنا تفسيران : أحدهما : الخشية فيسأل أنه إنما يصح في أمر منتظر مظنون والوصية وقعت وعلمت . وأجيب بأن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريق الحق مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل أو شاهد فيه إثماً أي تعمداً بأن يزيد غير المستحق ، أو ينقص المستحق أو يعدل عن المستحق . فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقق الوصية يأخذ في الإصلاح بينهم أي بين أهل الوصية ، لأن قوله { من موصٍ } يدل على سائر ملابساته . فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة : أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب ، أو أن أزيد فلاناً مع أنه غير مستحق للزيادة ، أو أنقص فلاناً مع أنه مستحق للزيادة ، فعند ذلك يصير السامع خائفاً من جنف أو إثم لا قاطعاً به ، وأيضاً الجائز أن لا يستمر الموصي على وصيته فإن له الفسخ ما دام في حياته ، فمن أين يحصل الثقة بما فعل وقد يعدل عن الحق في آخر الأمر؟ وبتقدير أن تستقر الوصية ومات الوصي على ذلك لم يبعد أن يقع بين الورثة والموصى لهم تنازع فيما نسب إلى الموصي ، وقد يعزى حينئذٍ إلى الجنف أو الإثم فيحتاج إلى الإصلاح بينهم بإجرائهم على قانون الشرع . والتفسير الثاني إن { خاف } بمعنى علم . وقد يستعمل الخوف والخشية مقام العلم ، لأن الخوف منشؤه ظن مخصوص ، وبين العلم والظن مشابهة من وجوه كثيرة ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر استعمالاً شائعاً من ذلك قولهم « أخاف أن ترسل السماء » يريدون التوقع . والظن الغالب الجاري مجرى العلم . فمعنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمداً فلا حرج على من علم ذلك أن يرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع . وفي الآية دليل على جواز الإصلاح بين المتنازعين إذا خاف المصلح إفضاء المنازعة إلى محذور شرعاً . والغرض من قوله { فلا إثم عليه } رفع الحرج حتى لا ينافي الوجوب .

وفيه مع ذلك نكتة هي أن الإصلاح بين القوم يحتاج إلى الإكثار من القول وذلك قد يفضي إلى الإسهاب والتكلم ببعض ما لا ينبغي فبين تعالى أنه لا مؤاخذة على المصلح من هذا الجنس إذا كان غرضه الأصلي صحيحاً ولهذا أتبعه قوله { أن الله غفورٌ رحيم } وأيضاً كأنه قيل : أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب ، فلأن أوصل رحمتي إليك أيها المصلح مع تحمل أعباء الإصلاح أولى . أو المراد أن الموصي الذي أقدم على الجنف أو الإثم متى أصلح خلل وصيته فإن الله يغفر له ويرحمه بفضله . وبهذا التأويل يجوز أن يرجع الضمير في قوله { فلا إثم عليه } إلى الموصي .
واعلم أن أكثر الأئمة وإن ذهبوا إلى أن وجوب الوصية منسوخ بآية المواريث إلا أنهم اتفقوا على أنها الآن جائزة في الثلث لما روي أنه صلى الله عليه وسلم عاد سعد ابن أبي وقاص فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي؟ قال : لا . قال : فبشطره؟ قال : لا قال : فبالثلث؟ قال : الثلث والثلث كثير . لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس . فأفاد الحديث المنع من الزيادة واستحباب النقصان عن الثلث إن كانت الورثة فقراء . والوصية أوسع مجالاً من الإرث ، فإذا أراد الوصية فالأفضل أن يقدم من لا يرث من أقاربه لأن الله أعطى الأقربين الميراث ويقدم منهم المحارم ثم يقدم بالرضاع ثم بالمصاهرة ثم بالولاء ثم بالجوار كما في الصدقات المنجزة . فإن أوصى للورثة بعضهم جاز لكن بالإجازة من سائر الورثة كما لو زاد على الثلث للأجنبي ، فإن الزائد يحتاج إلى إجازة الورثة . التأويل : كتب على الأغنياء الوصية بالمال وعلى الولياء الوصية بالحال ، والأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلث والأولياء يخرجون في مبادئ أحوالهم عن الكل . والمعنى إذا حضر قلب أحدكم مع الله وأمات نفسه عن الصفات الحيوانية ، فعليه أن يوصي للوالدين . وهما الروح العلوي والبدن السفلي ، فإن النفس تولدت من ازدواجهما ، وللأقربين - وهم القلب - والسر بترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية والجسمانية بالمعروف من غير إسراف يفضي غلى الإتلاف معرضاً عن الشهوات مجتنباً عن الرسوم والعادات كما قال صلى الله عليه وسلم : « بعثت لرفع العادات وترك الشهوات بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » ومن مكارم الأخلاق أن يجعل المشارب مشرباً واحداً والمذاهب مذهباً واحداً .
وكل له سؤل وجين ومذهب ... ووصلكم سؤلي وديني هواكم
وأنتم من الدنيا مرادي وهمتي ... مناي مناكم واختياري رضاكم
{ حقاً على المتقين } من الشرك الخفي ولهذا لم يقل على المسلمين أو المؤمنين لأنهم أهل الظواهر والمتقون هم أهل البواطن كما قال صلى الله عليه وسلم

« التقوى ههنا » وأشار إلى صدره . وأحكام الظواهر يحتمل النسخ وأحكام البواطن وهي الحكم والحقائق لا تحتمل النسخ . فحكم الوصية في حق المتقين غير منسوخ أبداً { فمن بدله } فمن غير من الروح والقلب والسر والوصية الصادرة من نفسه الميتة { فإنما إثمه } عليهم . وسبب هذا التوكيد أن السر والقلب والروح كلهم من العالم الروحاني ، وصفاتهم حميدة باقية فترك مشاربها والخروج عنها صعب جداً { فمن خاف } تفرس { من موصٍ جنفاً } في ترك المشارب بأن يبالغ في المجاهدات لنيل المشاهدات { أو إثماً } تجاوزاً عن حد الشرع في رفع الطبع { فأصلح } بينهم بين الروح والبدن والقلب والسر ولكن بنظر شيخ كامل ومرب عارف ، فلا حرج على المصلح والله الموفق .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

القراآت : { فديةٌ طعام } مضافاً { مساكين } بالجمع : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان . وروى الحلواني والداري عن هشام والنجاري { فديةٌ } بالتنوين { طعام } بالرفع مضافاً إلى مساكين بالجمع . الباقون : مثل هذا إلا أن { مسكين } مفرد مجرور { فمن تطوع } بتشديد الطاء والواو وبياء الغيبة وجزم العين : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بلفظ الماضي من باب التفعل { القرآن } غير مهموز حيث كان : ابن كثير وعباس وحمزة في الوقف فإذا كان بمعنى القراءة فإن عباساً فيه مخير إن شاء همز وإن شاء لم يهمز كقوله تعالى { وقرآن الفجر أن قرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] { ولا تعجل بالقرآن } [ طه : 114 ] { إن علينا جمعه وقرآنه } [ القيامة : 17 ] { فاتبع قرآنه } [ القيامة : 18 ] الباقون بالهمز { اليسر والعسر } حيث كانا مثقلين : يزيد إلا قوله { فالجاريات يسرا } [ الذاريات : 3 ] { ولتكملوا العدة } من التكميل : أبو بكر وحماد وعباس ورويس . والباقون : من الإكمال . { الداعي إذا دعاني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل . وافق أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو بالياء في الوصل . والباقون بغير ياء فيها في الحالين { في لعلهم } بفتح الياء : ورش . الباقون : بالسكون .
الوقوف : { تتقون } لا لأن « أياماً » ظرف « الصيام » أو الاتقاء { معدودات } ط لأن المرض والسفر عارضان فكانا خارجين عن أصل الوضع { أخر } ط لأن خبر الجار منتظر وهو « فدية » فلا تعلق له بما قبله { مسكين } ط لأن التطوع خارج عن موجب الأصل { خير له } ط لأن التقدير والصوم خيرٌ لكم . { تعلمون } 5 { والفرقان } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { فليصمه } ط للابتداء بشرط آخر { أخر } ط { العسر } ز قد يجوز { تشكرون } 5 { قريب } ط لأن قوله « أجيب مستأنف { دعان } ص للفاء { يرشدون } 5 { لهن } ط { عنكم } ج لعطف الجملتين المختلفتين { لكم } ص لذلك { إلى الليل } ج وإن اتفقت الجملتان لأن حكم الصوم والاعتكاف مختلفان ولكل واحد شأن { في المساجد } ط لأن » تلك « مبتدأ { فلا تقربوها } ط لأن كذلك صفة مصدر محذوف أي يبين الله بياناً كبيان ما تقدم { يتقون } 5 .
التفسير : هذا حكم آخر . والصيام مصدر صام كالقيام والعياذ . وهو في اللغة الإمساك عن الشيء . قال الخليل : الصوم قيام بلا عمل . وصام الفرس صوماً أي قام على غير اعتلاف . وقال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم . وإنه في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة تسمى المفطرات كالأكل والشرب والوقاع في زمان مخصوص هو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس . ولا بد في صحته من النية وأن يقع في غير يومي العيد بالاتفاق ، وفي غير أيام التشريق عند الأكثرين . ويوافقه الجديد من قول الشافعي » ومن غير يوم الشك بلا ورد ونذر وقضاء وكفارة « .

ولا بد للصائم من الإسلام والنقاء عن الحيض والنفاس ، ومن العقل كل اليوم ، ومن انتفاء الإغماء في جزء من اليوم . وقوله سبحانه { كما كتب على الذين من قبلكم } أي على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم . قال علي كرم الله وجهه : أوّلهم آدم يعني أن الصوم عبادة أصلية قديمة ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم . { لعلكم تتقون } بالمحافظة عليها لقدمها ، أو المعاصي لأن في الصوم ظلفاً للنفس عن المناهي ومواقعة السوء ، أو لعلكم تنتظمون في سلك أهل التقوى فإن الصوم شعارهم . وقيل : معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام وهو رمضان ، كتب على النصارى فأصابهم موتان فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده . وقيل : كان يقع في البرد الشديد والحر الشديد فشق عليهم فجعلوه بين الشتاء والربيع وزادوا عشرين كفارة . ومعنى معدودات مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل مثل { دراهم معدودة } [ يوسف : 20 ] وأصله أن المال القليل يعدّ عدّاً ، والكثير يحثى حثياً كأنه قال : إني رحمتكم فلم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا أكثره ولكن أياماً معدودة قليلة ، وعلى هذا يحتمل أن يكون وجه الشبه بين الفرضين مجرد تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان . ثم إن الأئمة اختلفوا في هذه الأيام على قولين : الأول : أنها غير رمضان . فعن عطاء : ثلاثة أيام من كل شهر . وعن قتادة : هي مع صوم عاشوراء . ثم اختلفوا أيضاً فقيل : كان تطوّعاً ثم فرض وقيل بل كان واجباً . واتفقوا أنه نسخ بصوم رمضان واستدلوا على قولهم إنها غير صوم رمضان بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن صوم رمضان نسخ كل صوم » فدل على أن صوماً آخر كان واجباً . وأيضاً ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية وفي التي تتلوها ، فلو اتحد الصومان كان تكريراً محضاً . وأيضاً ذكر في هذه الآية التخيير بين الصوم والفدية وصوم رمضان واجب على التعيين فيختلفان . والثاني : وهو اختيار أبي مسلم والحسن وأكثر المحققين أنها شهر رمضان أجمل أولاً ذكر الصيام ، ثم بينه بعض البيان بقوله { أياماً معدودات } ثم كمل البيان بقوله { شهر رمضان } وهذا ترتيب في غاية الحسن من غير زيادة ولا نقصان . وأجيب عن استدلالهم الأول بأنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يراد به نسخ كل صوم وجب الشرائع المتقدمة . سلمنا أن المراد به صوم ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخاً لصيام وجب بغير هذه الآية . وعن الثاني أن صوم رمضان كان واجباً مخيراً ، وفي الآية الثانية جعل واجباً على التعيين ، فأعيد حكم المريض والمسافر ليعلم أن حالهما ثانياً في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولاً .

وعن الثالث أن الاختلاف مسلم لكن في التخيير والتعيين ، أما في نفس الصوم فلا . وههنا سؤال وهو أن قوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } كيف كان ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ؟ والجواب أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول ، بل المقدم في التلاوة يمكن أن يكون ناسخاً والمتأخر منسوخاً كآية الاعتداد بالحول . وهكذا نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير . قال القفال : انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، فبين أولاً أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم السالفة ، فإن الأمور الشاقة إذا عمت خفت . ثم بين ثانياً وجه الحكمة في إيجاب الصوم وحصول التقوى . ثم بين ثالثاً أنه مختص بأيام قلائل لا بكلها ولا بأكثرها . ثم بين رابعاً أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن ليعلم شرفه فتوطن النفس له . ثم ذكر خامساً إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى زمن الرفاهية والصحة وهي هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنها الأفعال كلها سليمة والمرض زوالها . واختلف الأئمة في المرض والسفر المبيحين للإفطار على أقوال : أحدها أن أيّ مريض كان ، وأيّ مسافر كان ، فله أن يترخص تنزيلاً للفظ المطلق على أقل أحواله ، وهذا قول الحسن وابن سيرين . يروى أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه . وعن داود : الرخصة حاصلة في كل سفرٍ ولو كان فرسخاً . وثانيها أنه المرض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وكذا السفر وهو قول الأصم . وحاصله تنزيل اللفظ على أكمل أحواله . وثالثها وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء أنه الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في العقل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتد حماه ، والأرمد يخاف أن يشتد وجع عينه . قالوا : وكيف يمكن أن يقال : كل مرض مرخص مع علمنا بأن في الأمراض ما ينفعه الصوم؟ فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته تأثيراً يعتد به والتأثير اليسير لا عبرة به . المرض المرخص لا يفرق فيه بين أن يعرف كونه كذلك بنفسه أو يخبره بذلك طبيب حاذق بشرط كونه مسلماً بالغاً عدلاً . وأصل السفر من الكشف لأنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم . وعن الأزهري : سمي مسافراً لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء . قال الأوزاعي : السفر المبيح مسافة يوم . وعند الشافعي مقدر بستة عشر فرسخاً ولا يحسب منه مسافة الإياب . كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قدر أميال البادية ، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة .

وإلى هذه ذهب مالك وأحمد وإسحق ، وذلك أن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله بخلاف ما إذا تكرر في يومين فحينئذٍ يناسب الرخصة ، ولما روى الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان » قال أهل اللغة : كل بريد أربعة فراسخ . وروى الشافعي أيضاً أن عطاء قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة؟ فقال : لا فقال : إلى مرّ الظهران؟ فقال : لا . ولكن اقصر إلى جدّة وعسفان والطائف . قال مالك : بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد . وقال أبو حنيفة والثوري : رخصة السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل ، أربعة وعشرين فرسخاً قياساً على المسح . والإجماع على الرخصة في هذا المدة والخلاف فيما دون ذلك فيبقى المختلف فيه على أصل وجوب الصوم . وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم « يمسح المقيم يوماً وليلة » لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة ، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة يصير مقيماً . وكذا قوله صلى الله عليه وسلم « والمسافر ثلاثة أيام » لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام . وأيضاً الترجيح للإفطار لقوله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة « هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » وإنما قيل { أو على سفرٍ } دون أن يقول مسافراً كما قال { مريضاً } لأن السفر يتعلق بقصده واختياره حتى لو عزم على الإقامة في منزل من المنازل لم يبق على قصد السفر ، فلا يصح الإفطار وإن كان مسافراً وهذا بخلاف المرض فإنه صفة قائمة به إن حصلت حصلت وإلا فلا .
وعدّة فعلة من العدّ بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ، وعدة المرأة من هذا . وإنما قيل { فعدّة } على التنكير ولم يقل « فعدتها » أي فعدة الأيام المعدودات للعلم بأنه لا يؤثر عدد على عددها وأنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد ظاهراً ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة . والمعنى فعليه صوم عدّة . وقرئ بالنصب أي فليصم عدّة . وأخر جمع أخرى تأنيث آخر ، وإنه غير مصروف للصفة والعدل من أخر من كذا . واعلم أن قوماً من علماء الصحابة ذهبوا إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر حتى قالا : لو صام في السفر قضى في الحضر . واختاره داود بن علي الأصفهاني وهو مذهب الإمامية لأن قوله تعالى { فعدّة } أي فعليه عدّة مشعر بالوجوب عليه .

ولأن قوله { يريد بكم اليسر } ينبئ عن إرادته الإفطار ولقوله صلى الله عليه وسلم « ليس من البر الصيام في السفر » وفي الرواية بدل لام التعريف ميم التعريف . وقوله « الصائم في السفر كالمفطر في الحضر » وذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام لما يجيء من قوله تعالى { وإن تصوموا خيرٌ لكم } ولما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هل أصوم في السفر فقال « صم إن شئت وأفطر إن شئت » . قالوا وفي الآية إضمار التقدير : فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى { أو به أذى من رأسه ففديةٌ } [ البقرة : 196 ] أي فحلق فعليه فدية . ثم اختلف هؤلاء فعن الشافعي وأبو حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد : أن الصوم أفضل . وقالت طائفةٌ : الأفضل الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحق . وقيل : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء . واختلف أيضاً في القضاء فعامة العلماء على التخيير . وعن أبي عبيدة بن الجراح : أن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق . وعن علي كرم الله وجهه وابن عمر والشعبي وغيرهم : أنه يقضي كما فات متتابعاً ويؤيده قراءة أبي { فعدة من أيامٍ أخر متتابعات } قوله سبحانه { وعلى الذين يطيقونه } فيه ثلاثة أقوال :
الأول : وهو قول أكثر المفسرين : أن المعنى وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم لكونهم مقيمين صحيحين إن أفطروا فدية هي طعام مسكين . والفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وأنه ههنا عند أهل العراق - ومنهم أبو حنيفة - نصف صاع من بر أو صاع من غيره . وعند أهل الحجاز - ومنهم الشافعي - مدّ من غالب قوت البلد لكل يوم ويصرف إلى الفقير والمسكين . قالوا : كان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية . عن سلمة بن الأكوع : لما نزلت { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } كان من أراد أن يفطر يفطر ويفتدي حتى نزلت { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فنسختها . من قرأ بإضافة الفدية إلى طعام فالإضافة فيه كهي في قولك « خاتم حديد » ومن قرأ « مساكين » على الجمع فلأن الذين يطيقونه جمع فكل واحد منهم يلزمه طعام مسكين لكل يوم . والاعتبار بمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مائة وثلاثة وسبعون درهماً وثلث الدرهم .
الثاني : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض . وذلك أن المريض والمسافر منهما من لا يطيق أصلاً وإليه الإشارة بقوله { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيامٍ أخر } ومنهما من يطيق الصوم مع الكلفة وهو المراد بقوله { وعلى الذين يطيقونه } قالوا : هذا أولى ليلزم النسخ أقل ، فإن نسخ التخيير بين الصوم والفدية عن المريض المطيق أقل من نسخ التخيير عنه وعن الصحيح المقيم .

الثالث : أنه نزل في الشيخ الهرم . عن السدي : وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ويؤيده القراءة الشاذة { يطوّقونه } تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة أي يكلفونه ، أو يقلدونه . والتركيب يستعمل فيمن يقدر على شيء مع ضرب من المشقة والكلفة وبعضهم أضاف إلى الشيخ الهرم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وولديهما . واتفقوا على أنا لشيخ إذا أفطر فعليه الفدية ، وأما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فقال الشافعي : عليهما القضاء والفدية لحق الوقت . وقال أبو حنيفة : لا يجب إلا القضاء كيلا يلزم الجمع بين البدلين . { فمن تطوّع خيراً } بأن يطعم مسكينين أو أكثر أو يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب ، أو صام مع الفدية عن الزهري . { فهو } أي التطوع { خير له وأن تصوموا } أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتهم متاعب الصيام { خيرٌ لكم } من الفدية وتطوّع الخير . ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً عند من يرى أن الصوم لهما أفضل { إن كنتم تعلمون } أن الصوم أشق عليكم وأن أجركم على قدر نصبكم ، أو تعلمون بالله فتخشونه فتمتثلون أمره { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] أو تعلمون ما في الصوم من الفوائد الدنيوية والأخروية . عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يقول الله عز وجلّ الصوم لي وأنا أجزى به وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربه . والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك » وعنه صلى الله عليه وسلم « إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم » وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه . ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » وفضيلة الصوم ومنافعه أكثر من أن تحصى ولو لم يكن فيه إلا التشبه بالملائكة والارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالروحانيات المجرّدة لكفى به فضلاً ومنقبة .

هذا صوم الشريعة ، فأما صوم الطريقة فالإمساك عما حرم الله عز وجلّ والإفطار بما أباح وأحل ، وصوم الحقيقة الإمساك عن الأكوان والإفطار بمشاهدة الرحمن .
صمت عن غيره فلما تجلى ... كأن بي شاغلٌ عن الإفطار
وتشوّقت مدة ثم لما ... زارني جَلّ عن مدى الأنظار
قوله عز من قائل { شهر رمضان } الشهر مأخوذ من الشهرة . عن مجاهد : رمضان اسم الله تعالى . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله » وعلى هذا شهر رمضان أي شهر الله .
والأكثرون على أنه اسم علم للشهر كرجب وشعبان ومنع الصرف للعلمية والألف والنون . ثم اختلف في اشتقاقه فعن الخليل : أنه من الرمض بتسكين الميم وهو مطر يأتي وقت الخريف ويطهر وجه الأرض عن الغبار ، سمي الشهر بذلك لأنه يطهر الأبدان عن أوضار الأوزار . وقيل : من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس والأرض رمضاء . وفي الكشاف : الرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء ، سمي بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع كما سموه ناتقاً لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم لشدته عليهم ، أو لأن الذنوب ترمض فيه أي تحترق . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباده » وكأن هذا من قولهم « رمضت النصل » جعلته بين حجرين أملسين ثم دققته ليرق . وعن الأزهري : أنهم كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا منها أوطارهم في شوّال قبل دخول الأشهر الحرم . وقيل : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك . وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء ، وإضافة الشهر إليه إضافة العام إلى الخاص ، ولو لم يتلفظ بالشهر جاز كقوله صلى الله عليه وسلم « من صام رمضان إيماناً » الحديث . لأن التسمية وقعت برمضان فقط . وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره { الذي أنزل فيه القرآن } أو على أنه بدل من الصيام في قوله { كتب عليكم الصيام } أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان . وعلى هذين الوجهين يكون الموصول مع صلته صفة لشهر رمضان . قال أبو علي : وهذا أولى ليكون أيضاً في الأمر بصوم الشهر وإلا كان خبراً عن إنزال القرآن فيه . وقرئ بالنصب على صوموا شهر رمضان أو على الإبدال من { أياماً } أو على مفعول { وأن تصوموا } وفي هذا الوجه نظر من قبل الفصل بين { أن تصوموا } ومعموله بالخبر . وفائدة وصف الشهر بإنزال القرآن فيه التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه .

وذلك أنه لما خص بأعظم آيات الربوبية ناسب أن يخص بأشق سمات العبودية فبقدر هضم النفس يترقى العبد في مدارج الأنس ويصل إلى معارج القدس وتنخرق له الحجب الناسوتية ويطلع على الحكم اللاهوتية ويفهم معاني القرآن ويتبدل له العلم بالعيان وكان حينئذٍ من العجائب ما كان . وفي إنزال القرآن في رمضان أقوال . فعن سفيان بن عيينة أنزل في فضله القرآن كما تقول أنزل في علي عليه السلام كذا . وقال ابن الأنباري : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن كما تقول : أنزل الله في الزكاة كذا أي في إيجابها ، وأنزل في الخمر كذا أي في تحريمها . والقولان متقاربان ، أو هما واحد فإنه لم ينزل سوى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } الآيات . واختيار الجمهور أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان . عن النبي صلى الله عليه وسلم « نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين » ثم إنه لا شك أن القرآن قد نزل منجماً مفرقاً على حسب المصالح والوقائع ، فأوّلت الآية بأن المراد أنه ابتدئ فيه إنزاله وذلك ليلة القدر . ومبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لشرفها وانضباطها . وهذا قول محمد بن إسحق . أو أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل إلى الأرض نجوماً ، وليس يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم ، وفيه مصلحة للرسول من حيث توقع الوحي عن أقرب الجهات . ولعل فيه مصلحة لجبريل المأمور بالإنزال والتأدية ولا سيما على رأي الفلاسفة الذين جبريل عندهم هو العقل الفعال الأخير الذي يدير عالم الكون والفساد وخاصة نوع الإنسان . وعلى هذا القول يحتمل أن يقال : إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ، ثم نزله على محمدٍ صلى الله عليه وسلم منجماً إلى آخر عمره . ويحتمل أن يقال : إنه سبحانه كان ينزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر كل سنة ما يحتاجون إليه في تلك السنة وكذلك أبداً إلى أن تم إنزاله . وعلى هذا يكون تعين رمضان الذي أنزل فيه القرآن نوعياً لا شخصياً { هدى للناس وبيناتٍ } منصوبان على الحالية أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات من جملة ما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل من الكتب السماوية وذلك أن الهدى قسمان : جلي مكشوف وخفي مشتبه ، فوصفه أولاً بجنس الهداية ثم قال : إنه من نوع البين الواضح . ويحتمل أن يقال : القرآن هدى من نفسه ومع ذلك ففيه أيضاً بينات من هدى الكتب المتقدمة ، فيكون المراد بالهدى والفرقان والتوراة والإنجيل ، أو يقال : الهدى الأول أصول الدين ، والثاني فروعه ، فيزول التكرار .

نقل الواحدي عن الأخفش والمازني أن الفاء في { فمن شهد } زائدة إذ لا معنى للعطف والجزاء ههنا وهذا وهم لظهور كونها للجزاء كأنه قيل : لما علمتم اختصاص هذا الشهر بفضيلة إنزال القرآن فيه فأنتم أيضاً خصوه بهذه العبادة ، ومعنى شهد أي حضر . ثم قيل : إن مفعوله محذوف { والشهر } منصوب على الظرف وكذلك الهاء في { فليصمه } ولا يكون مفعولاً به كقولك « شهدت الجمعة » لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان الشهر . فالمعنى فمن شهد منكم في الشهر المذكور المعلوم البلد أو المقام فليصم في الشهر . وصاحب هذا القول ارتكب الإضمار حذراً من لزوم التخصيص في حق المسافر إلا أنه يلزمه ما فر منه أية سلك لأن الصبي والمجنون والمريض كل منهم شهد البلد مع أنه لا يجب عليه الصوم . أما إذا قيل : إن الشهر مفعول به مثل « شهدت عصر فلان وأدركت زمانه » فلا يلزم منه إلا أحد الأمرين وهو التخصيص بقوله { ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدّة من أيامٍ أخر } فيكون أولى من الأول لأن الإضمار والتخصيص إذا تعارضا فالتخصيص أولى ، فكيف إذا وقع الإضمار والتخصيص في جانب والتخصيص وحده في جانب؟ هذا ما قاله الإمام فخر الدين الرازي معترضاً به على صاحب الكشاف وغيره . ( قلت ) : الإنصاف أن الترجيح مع صاحب الكشاف لأن لزوم الإضمار في الآية ممنوع ، وذلك أن { شهد } ههنا متروك المفعول كقولهم « فلان يعطى ويمنع » ومعنى من شهد من كان على حالة الحضر سواء كان في البلد أو في منزل من المنازل ونوى الإقامة . وأما التخصيص فمشترك على القولين إلا أنه على قول صاحب الكشاف أقل لعدم دخول المسافر فيه ، فيكون أولى . فإن قيل : فعلى هذا يكون قوله بعيد ذلك { أو على سفرٍ } تكراراً قلنا : إنما أعيد ليترتب عليه حكم القضاء كما للمريض . وأيضاً لا يلزم من إيجاب الصوم على الحاضر عدم إيجابه على المسافر ، ولو سلم فبالمفهوم أوّلاً وبالمنطوق ثانياً ، فأين التكرار؟ وإنما وضع المظهر وهو الشهر مقام المضمر حيث لم يقل فمن شهده اعتناء بشأنه واعتلاء لمكانه وتمكيناً في القلوب وتعظيماً في النفوس كقوله :
أن يسأل الحق يعطى الحق سائله . ... وههنا بحث وهو أن قوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } جملة شرطية ، وما لم يوجد الشرط بتمامه لم يترتب عليه الجزاء ، والشهر عبارة عن زمان مخصوص من أوله إلى آخره ، فظاهر الآية يقتضي أن الصوم لا يجب عليه إلا عند شهود الجزء الأخير وهو محال لأنه يقتضي إيقاع الفعل في الزمان المنقضي . وأجيب بأن المراد من الشهر جزء من أجزائه وهذا مجاز مشهور ، والمعنى من شهد جزءاً من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر . ثم إن كان هذا الجزء من أول الشهر كما لو شهد هلال رمضان فهذا موافق لما نقل عن علي كرم الله وجهه : أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر وجب أن يصوم الكل .

وأما سائر المجتهدين فيقولون : هذا عام يدخل فيه الحاضر والمسافر إلا أن قوله { ومن كان مريضاً أو على سفرٍ } يخصصه ، وإن كان في أثناء الشهر فيوافق قول أبي حنيفة : إن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى . قلت : لا حاجة إلى ارتكاب التجوز المذكور وهو إطلاق لفظ الشهر على جزء من أجزائه ، ولا يلزم منه المحال المذكور إذ المراد من شهد الشهر أجمع فليكن بحيث قد وجد منه الصوم في جميع أيامه ، أو المراد من عزم على كونه مقيماً في الشهر فليصمه . ويعلم منه أنه إن كان حاضراً في بعضه يتعلق إيجاب الصوم بذلك البعض فقط بدليل قوله { ومن كان مريضاً أو على سفرٍ } فإنه لما علم الوجوب للحاضر في كله والرخصة للمسافر في كله علم الحكمان جميعاً للحاضر في بعضه والمسافر في البعض الآخر ، فكل يوم مستقل بنفسه فيما يقتضيه ، والصوم فيه عبادة مستقلة ، وكأن ما نقل عن علي كرم الله وجهه أمر إلزامي رعاية لحرمة الشهر كما لو أدركت الحائض من أول الوقت قدر ما يسع تلك الصلاة ، وفي قول قدر ركعة ، وفي قول قدر تكبيرة ، لزمها قضاؤها إذا طهرت . وأما أن شهر رمضان بم يثبت حتى يعتبر الشهود فيه فقد قال صلى الله عليه وسلم « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاستكملوا العدة » يعني عدة شعبان ثلاثين يوماً . ومهما شهد عند القاضي عدل واحد أنه رأى الهلال ثبت لما روي عن عمر أنه رأى الهلال وحده فشهد عند النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الناس بالصوم . ولما روي أن علياً عليه السلام شهد عنده رجل على رؤية هلال رمضان فصام وقال : صيام يوم من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان ، وللاحتياط في أمر العبادة . ولا يثبت الهلال في سائر الشهور إلا برؤية عدلين ، وعند أبي حنيفة : يثبت هلال رمضان في الغيم بواحد وفي الصحو تعتبر الاستفاضة . وإذا رؤي في موضع شمل الحكم لمن هو على ما دون مسافة القصر منه ولا يجب الصوم بذلك على من عداهم . { يريد الله بكم اليسر } معناه في اللغة السهولة ومنه اليسار للغني لأنه يتسهل به الأمور وتتسنى المقاصد واليد اليسرى لبقائها على اليسر ، أو لأن الأمور تسهل بمعاونتها اليمنى والعسر نقيضه . وفي الصحاح : قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه . أوجب الصوم على سبيل السهولة لأنه ما أوجب إلا في مدة قليلة من السنة ، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض والمسافر وههنا يتحقق صدق قوله صلى الله عليه وسلم

« بعثت بالحنيفية السهلة السمحة » ومن كمال رأفته تعالى أنه نفى الحرج أولاً ضمناً بقوله { يريد الله بكم اليسر } ثم نفاه صريحاً بقوله { ولا يريد بكم العسر } والظاهر أن الألف واللام في اليسر والعسر يفيد العموم ، فيمكن أن يستدل به على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق . والمعتزلة تمسكوا بالآية أنه قد يقع من العبد ما لا يريد الله تعالى ، فإن المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده فقد ما لم يرد الله منه إذ كان لا يريد العسر . وأجيب بأنا نحمل اللفظ على أنه تعالى لا يأمره بالعسر وإن كان قدير يدمنه العسر فإن الأمر عندنا قد يثبت بدون الإرادة . فكما أنه يجوز أن يأمر ولا يريد جاز أن يريد ولا يأمر . قوله { ولتكملوا } أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف فيه . فعن الفراء : التقدير ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون . شرع جملة ما ذكره وهو الأمر بصوم العدة وتعليم كيفية القضاء والرخصة في إباحة الفطر . وهذا نوع من اللف لطيف المسلك . فقوله { لتكملوا } علة الأمر بمراعاة العدة { ولتكبروا } علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر . { ولعلكم تشكرون } أي إرادة أن تشكروا علة الترخيص والتيسير . وعن الزجاج : أن المحذوف فعل أمر مقدر قبله كأنه قيل : لتعلموا ما تعملون ولتكملوا . والفرق أن حذف النون في الأول للنصب وفي هذا للجزم . ولا يخفى أن قوله { ولعلكم تشكرون } يبقى في هذا الوجه غير مرتبط بما قبله إلا أن يقال : إنه في قوة « ولتشكروا » . وفيه أيضاً بعد ويحتمل أن يقال { ولتكملوا } معطوف على اليسر كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ويريد بكم لتكملوا كقوله { يريدون ليطفؤا } [ الصف : 8 ] وإنما قيل { ولتكملوا العدة } ولم يقل « ولتكملوا الشهر » ليشمل عدة أيام الشهر وعدة أيام القضاء جميعاً . وعدى فعل التكبير بعلى لتضمين معنى الحمد أي ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم . والمراد بالتكبير قيل : إنه تعظيم الله تعالى والثناء عليه شكراً على ما وفق لهذه الطاعة . وتمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل . فالقول أن يقر بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزهه عما يليق به من ند وصاحبة وولد وتشبيه بالخلق ، وكل ذلك لا يعتدّ به إلا مع الاعتقاد القلبي . وأما العمل فالتعبد بالأوامر والتبعد عن النواهي . وهذا لا يختص بوقت استكمال عدة رمضان ، ولكنه شامل لجميع الأحيان . وقيل : هو تكبير الفطر وإنه مشروع في العيدين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى .

وأوّل وقته في العيدين جميعاً غروب الشمس ليلة العيد . وعن أحمد ومالك أنه لا تكبير ليلة العيد وإنما يكبر في يومه . لنا قوله تعالى { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } قال الشافعي : سمعت من أرضى به من أهل العلم بالقرآن يقول { ولتكملوا العدة } أي عدة صوم رمضان { ولتكبروا الله } عند إكمالها ، وإكمالها بغروب الشمس آخر يوم من رمضان وأما آخر التكبير فأصح الأقوال أنهم يكبرون إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد ، لأن الكلام مباح إلى تلك الغاية والتكبير أولى ما يقع به الاشتغال . والمسنون في صيغته أن يكبر ثلاثاً نسقاً وبه قال مالك . وقال أحمد وأبو حنيفة : يكبر مرتين . لنا الرواية عن جابر وابن عباس . وأيضاً فإنه تكبير موضوع شعاراً للعيد فكان وتراً كتكبير الصلاة . قال الشافعي : وما زاد من ذكر الله فحسن . واستحسن في « الأم » أن تكون زيادته ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قاله على الصفا وهو : « الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون . لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده لا إله إلا الله والله أكبر » قال في الشامل : والذي يقوله الناس لا بأس به أيضاً وهو : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد . يرفع الناس أصواتهم بالتكبير ليلتي العيد في المنازل والمساجد والطرق والأسواق سفراً كانوا أو حاضرين في اليومين في طريق المصلي وبالمصلى إلى الغاية المذكورة سواء كان يصلي المكبر مع الإمام أو لا يصلي . ويستثني من ذلك الحاج فلا يكبر ليلة الأضحى . واختلف في أن التكبير في أي العيدين أوكد ، ففي القديم ليلة النحر لإجماع السلف عليها ، وفي الجديد ليلة الفطر لورود النص فيها .
قوله سبحانه { وإذا سألك عبادي عني } وجه اتصاله بما قبله هو أنه لما أمر العباد بالتكبير الذي هو الذكر وبالشكر نبههم على أنه مطلع على ذكرهم وشكرهم فيسمع نداءهم ويجيب دعاءهم ولا يخيب رجاءهم ، أو أنه أمرهم بالثناء ثم رغبهم في الدعاء تعليماً للمسألة وتنبيهاً على حسن الطلب ، وسبب نزوله ما روي أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقيل : كان في غزاة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء فقال صلى الله عليه وسلم : « إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً » . وعن قتادة أن الصحابة قالوا : يا نبي الله كيف ندعو ربنا فنزلت . وعن عطاء أنهم سألوا في أي ساعة ندعو فنزلت .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا : يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت . وعن الحسن : سألت الصحابة فقالوا أين ربنا فنزلت . وقيل : فرض عليهم الصيام كما كتب على الذين من قبلهم أي إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا ربهم في ذلك التكليف ، ثم ندموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن توبتهم فنزلت مبشرة بقبول توبتهم . ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم ، وبهذا الوجه تصير الآية مناسبة لما قبلها ولما بعدها . ثم إن سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الله إما أن يكون عن ذاته بأن يكون السائل ممن يجوّز التشبيه فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات ، وإما أن يكون عن صفاته بأنه هل يسمع دعاءنا ، أو عن أفعاله بأنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا ، أو كيف أذن في الدعاء وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة ، وهل أذن أن ندعوه كيف شئنا ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه على وجه معين كما قال تعالى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } [ الإسراء : 110 ] وكل هذه الوجوه محتملة لأن قوله { فإني قريب } يدل على أن السؤال كان عن الذات وقوله { أجيب دعوة الداع } دليل على أن السؤال عن الصفة لأن الإجابة بعد السماع وإطلاق قوله { إذا دعان } يرشد إلى الإذن في الدعاء على أي نحو أراد ما لم يتجاوز قانون الأدب عرفاً كقوله تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180 ] قال العلماء : ليس القرب ههنا بالمكان ، لأنه لو كان في المكان كان مشاراً إليه بالحس ومنقسماً إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد . وكل منقسم مفتقر في تحققه إلى أجزائه . وكل مفتقر ممكن . وأيضاً لو كان في المكان ، فإما أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو محال فإن كل بعد متناه ببرهان تناهي الأبعاد أو من جانب واحد فكذلك مع أن كونه بحيث يقتضي جانب منه عدم التناهي ، وجانب منه التناهي يوجب كونه مركباً من أجزاء مختلفة الطبائع ، أو يكون متناهياً من جميع الجوانب وهو باطل بالاتفاق . وأيضاً هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب ليس بالجهة لأنه لو كان في المكان لما كان قريباً من الكل بل لو كان قريباً من حملة العرش يكون بعيداً عن غيرهم ، ولو كان قريباً من المشرقي كان بعيداً عن المغربي . قالوا : فثبت أن المراد بالقرب قربه بالتدبير والحفظ والكلاءة . قال في الكشاف : هو تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه . فإذا دعى أسرعت تلبيته ونحوه { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }

[ ق : 16 ] وقوله صلى الله عليه وسلم « هو بينكم وبين أعناق رواحلكم » وقد أشار بعض المحققين إلى أن اتصاف ماهيات الممكنات بوجودها لما كان بإيجاد الصانع فهو كالمتوسط بين ماهياتها ووجوداتها ، فيكون أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها بل ماهية كل شيء إنما صارت هي هي بجعل الصانع حتى ماهية الوجود فبه صار الجوهر جوهراً والسواد سواداً والعقل عقلاً والنفس نفساً . فالصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهيات إلى نفسها ( قلت ) استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إلى المكان . ولئن سلم أن كل مفتقر إلى المكان ينقسم ، فانقسام كل مستصحب للمكان ممنوع ، وبراهين تناهي الأبعاد مختلة زيفناها في مواضعها . فلا ذرة من ذرات العالم إلا ونور الأنوار محيط بها قاهر عليها قريب منها ، أقرب من وجودها إليها ، لا بمجرد العلم فقط ولا بمعنى الصنع والإيجاد فقط بل بضرب آخر لا يكشف المقال عنه غير الخيال ، مع أن التعبير عن بعض ذلك يوجب شنعة الجهال . شعر :
رمزت إليه حذار الرقيب ... وكتمان سر الحبيب حبيب
إذا ما تلاشيت في نوره ... يقول لي ادع فإني قريب
فإن سألوه عليه السلام : أين ربنا؟ صح الجواب بأني قريب ، وإن سألوه : هل يسمع ربنا دعاءنا؟ صح الجواب بأني قريب ، وإن سألوه كيف ندعوه أبرفع الصوت أم بإخفائه؟ صح أن يجاب إني قريب ، وإن سألوه : هل يعطينا ربنا مطلوبنا بالدعاء صحّ في الجواب فإني قريب ، وإن سألوه إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا؟ صَحَّ أن يجاب إني قريب أي بالنظر إليهم والتجاوز عنهم . واعلم أن الدعاء مصدر دعوت أدعو وقد يكون اسماً . تقول : سمعت دعاءً كما تقول سمعت صوتاً . وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية والاستمداد والمعونة . قال بعض الظاهريين : لا فائدة في الدعاء لأن المطلوب به إن كان معلوم الوقوع عند الله كان واجب الوقوع وإلا فلا . ولأن الأقدار سابقة والأقضية جارية وقد جف القلم بما هو كائن ، فالدعاء لا يزيد فيها شيئاً ولا ينقص ، ولأن المقصود إن كان من صالح العبد فالجواد لطق لا يبخل به ، وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه ، ولأن أجل مقامات الصدّيقين الرضا بالقضاء وإهمال حظوظ النفس . والاشتغال بالدعاء ينافي ذلك ، ولأن الدعاء شبيه بالأمر أو النهي وذلك خارج عن الأدب ، ولهذا ورد في الكلام القدسي « من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين » وقال جمهور العقلاء : إن الدعاء من أعظم مقامات العبودية وإنه من شعار الصالحين ودأب الأنبياء والمرسلين . والقرآن ناطق بصحته عن الصديقين ، والأحاديث مشحونة بالأدعية المأثورة بحيث لا مساغ للإنكار ولا مجال للعناد . والسبب العقلي فيه أن كيفية علم الله وقضائه وقدره غائبة عن العقول ، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقاً بين الرجاء والخوف اللذين بهما تتم العبودية .

وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله وجريان قضائه وقدره في الكل . وما روي عن جابر أنه جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ففيم العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال : بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير . قال : ففيم العمل؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له . وكل عامل بعمله منبه على ما قلنا ، فإنه صلى الله عليه وسلم علقهم بين الأمرين ، رهبهم بسابق القدر ثم رغبهم في العمل ولم يترك أحد الأمرين للآخر فقال : كل ميسر لما خلق له . يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق به القدر قبل وجوده إلا أنك تحب أن تعرف الفرق بين الميسر والمسخر كيلا تغرق في لجة القضاء والقدر ، وكذا القول في باب الرزق والكسب . والحاصل أن الأسباب والوسائط والروابط معتبرة في جميع أمور هذا العالم . ومن جملة الوسائل في قضاء الأوطار الدعاء والالتماس كما في الشاهد . فلعل الله تعالى قد جعل دعاء العبد سبباً لبعض مناجحه . فإذا كان كذلك فلا بد أن يدعو حتى يصل إلى مطلوبه ، ولم يكن شيء من ذلك خارجاً عن قانون القضاء السابق وناسخاً للكتاب المسطور . ومن فوائد الدعاء إظهار شعار الذل والانكسار ، والإقرار بسمة العجز والافتقار ، وتصحيح نسبة العبودية ، والانغماس في غمرات النقصان الإمكاني ، والإفلاس عن ذروة الترفع ، والاستغناء إلى حضيض الاستكانة ، والحاجة والفاقة ، ولهذا ورد « من لم يسأل الله يغضب عليه » فإذا كان الداعي عارفاً بالله تعالى وعالماً بأنه لا يفعل إلا ما وافق مشيئته وسبق به قضاؤه وقدره ، ودعا على النمط المذكور من غير أن يكون في دعائه حظ من حظوظ النفس الأمارة ، راجياً فيما عند الله من الخير ، خائفاً من الإقدام على موقف المسألة والمناجاة ، وأن تكون استجابته صورة الاستدراج ، كان دعاؤه خليقاً بالإجابة وجديراً بالقبول وأن تعود بركته عليه قال صلى الله عليه وسلم « ما من رجلٍ يدعو الله بدعاء إلا استجيب له . فإما أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل » قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال : « يقول دعوت ربي فما استجاب لي » وأما هيئة الداعي فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ »

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم » وأما شرائط الدعاء فمنها بعد ما مر من الإخلاص وغيره تزكية البدن وإصلاحه بلقمة الحلال . وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء أشعث أغبر يقول : يا رب يا رب . ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟ وذكر المحققون أن الدعاء مفتاح باب السماء ، وأسنانه لقمة الحلال . وأما وقت الدعاء ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له » وعن أبي أمامة قال : يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع؟ قال : جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد » وزاد في رواية قال : فماذا نقول يا رسول الله؟ قال : « سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة » . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء » وعنه أنه قال « من سره أن يستجيب الله له دعاءه عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء » وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين » وأما كيفية الدعاء فعن فضالة بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو في صلاته فلم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره « إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بعد ما شاء » وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى عليّ فلا تجعلوني كغمر الراكب صلوا عليّ أول الدعاء وأوسطه وآخره » ومن لطائف الآية أنه تعالى قال { فإني قريب } دون أن يقول « فقل إني قريب » كما قال في سائر الأسئلة والأجوبة . وذلك في مواضع من كتابه { ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] { ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً } [ طه : 105 ]

{ يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي } [ الأعراف : 187 ] وهذه الأسئلة أصولية . { يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } [ البقرة : 215 ] { ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } [ البقرة : 220 ] { ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى } [ البقرة : 222 ] { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } [ النساء : 127 ] { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [ النساء : 176 ] { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : 1 ] { ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي } [ يونس : 53 ] { ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً } [ الكهف : 83 ] فكأنه سبحانه يقول : عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء ، أما في الدعاء فلا واسطة بيني وبينك . وأيضاً في مقام السؤال قال : { عبادي } وهذا يدل على أن العبد له ، وفي مقام الإجابة قال { فإني قريب } وهذا يدل على أنه للعبد . وأيضاً لم يقل « العبد مني قريب » بل قال { إني قريب } منه إشارة إلى أنه ما للتراب ورب الأرباب وإنما يصل من حضيض الإمكان الذاتي إلى ذروة الوجود والبقاء بفضل الواجب وفيضه { فليستجيبوا لي } أجاب واستجاب بمعنى يقال : أجاب واستجاب له أي فليمتثلوا أمري إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة { وليؤمنوا بي } وليستقيموا وليعزموا على الاستجابة ، وليؤمنوا كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم إرادة أن يكونوا من الراشدين المهتدين إلى مصالح دينهم ودنياهم ، فإن طاعة الله تعالى هي المستتبعة للخيرات عاجلاً وآجلاً { من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] وفي ضده { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ونحشره يوم القيامة أعمى } [ طه : 124 ] وحاصل الكلام : أنا أجيب دعاءكم مع أني غني عنكم على الإطلاق فكونوا أنتم مجيبين دعوتي مع افتقاركم إليّ من جميع الوجوه . وفيه نكتة وهي أنه تعالى لم يقل أجب دعائي حتى أجيب دعاءك لئلا يصير المذنب محروماً عن هذا الإكرام بل قال : أنا أجيب دعاءك على جميع أحوالك فكن أنت مجيباً لدعائي وهذا يدل على أن نعمه تعالى شاملة ورحمته كاملة تعم المطيعين والمذنبين والكاملين والناقصين . وقيل : الدعاء في الآية هو العبادة لما روي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الدعاء هو العبادة » وقرأ { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ غافر : 60 ] وعلى هذا فالإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كقوله تعالى { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله } [ الشورى : 26 ] وقيل : المراد من الدعاء التوبة . وذلك أن التائب يدعو الله عند التوبة ، فإجابة الدعوة على هذا التفسير عبارة عن قبول التوبة .
قوله عز وجل : { أحل لكم } الآية جمهور المفسرين على أنها ناسخة لما عليه الناس في أول الإسلام . روي عن ابن عباس أنه لما نزلت { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } كانوا إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب وصاموا إلى القابلة ، فاختان رجل فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر ، فأراد الله أن يجعل ذلك تيسيراً لمن بقي ورخصة ومنفعة .

وعن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي . وقال : إن قيس بن صرمة الأنصاري ، أو صرمة بن قيس ، أو قيس بن عمرو - على اختلاف الروايات - كان صائماً . فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : أعندك طعام؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { أحل لكم } ففرحوا بها فرحاً شديداً ، وأبو مسلم خالف الجمهور بناء على مذهبه من أنه لم يقع في القرآن نسخ ألبتة . احتج الجمهور بوجوه منها . أنه تعالى شبه إيجاب الصوم على هذه الأمة بإيجابه على من قبلهم ، فيلزم منه حرمة الأكل والشرب والوقاع بعد النوم في شرعنا كما كانت في شرعهم . وإذا كانت الحرمة ثابتة فهذه الآية رافعة لها ناسخة لحكمها . ومنع أبو مسلم من أن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور ، فلعلهم إنما كانوا يمتنعون من الأكل والشرب والوقاع اعتقاداً منهم ببقاء تلك الحرمة في شرعنا كما هي في شرع من قبلنا مع جواز كونها مباحة في نفس الأمر . ومع قيام هذا الاحتمال فلا جزم بالنسخ ومنها قوله تعالى { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } ولو كان ذلك حلالاً لم ينسبوا إلى الخيانة ، قيل : إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل . فقال صلى الله عليه وسلم : ما كنت جديراً بذلك يا عمر فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء فنزلت . قال أبو مسلم : أصل الخيانة النقص . وخان واختان وتخوّن بمعنى واحد مثل كسب واكتسب وتكسب . والمعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظها من اللذات لا من الثواب والخير . ومنها قوله { فتاب عليكم وعفا عنكم } والتوبة والعفو يكونان بعد المعصية وارتكاب ما هو محرم . قال أبو مسلم : التوبة من العباد الرجوع إلى الله بالعبادة ، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان . والعفو التسهيل والتوسعة والتخفيف . قال صلى الله عليه وسلم « عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهماً درهم » وقال « أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله »

والمراد التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت . ويقال : أتاني هذا المال عفواً أي سهلاً . فالمعنى عاد عليكم بالرحمة وسع عليكم بإباحة هذه الأشياء المحرمة على الذين من قبلكم . وأما الروايات فأخبار آحاد لا يوجب شيء منها حمل القرآن على النسخ . ولنشتغل بتفسير الألفاظ فنقول : ليلة الصيام قال الواحدي : أراد ليالي الصوم ، فوضع الواحد موضع الجمع . ويمكن أن يقال : أضاف الليلة إلى هذه الحقيقة فتتناول الكل من غير تكلف . والرفث الجماع . والرفث أيضاً الفحش من القول وكلام النساء في الجماع . وقيل لابن عباس . حين أنشد :
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
أترفث وأنت محرم؟ فقال : إنما الرفث ما واجه به النساء . هميساً أي مشياً ليناً ، ولميس اسم امرأة أي أن يصدق الفأل ننكها . وقال أبو علي : معناه الفرج . ويقال : جامع الرجل أو ناك . فإذا أردت الكناية عن هذه العبارة قلت : رفث الرجل . وإنما كني عنه ههنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يعبر عنه بالإفضاء أو الغشيان أو المس ونحوها كما في مواضع آخر { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } [ النساء : 21 ] { فلما تغشاها } [ الأعراف : 189 ] { باشروهن } [ البقرة : 187 ] { من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] { أولمستم النساء } [ النساء : 43 ] وفي قوله : { دخلتم بهن } [ النساء : 23 ] { فأتوا حرثكم } [ البقرة : 223 ] { فما استمعتم به منهن } [ النساء : 24 ] { ولا تقربوهنّ } [ البقرة : 222 ] حتى استهجان لما وجد منهم قبل الإباحة ، أو البيان كما سماه اختياناً لأنفسهم . قال الأخفش إنما عدي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } [ النساء : 21 ] .
{ هن لباس لكم } وجه التشبيه أنهما يعتنقان فينضم جسد أحدهما إلى جسد صاحبه ويشتمل عليه كالثوب . قال الربيع : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن . وقال ابن زيد : كل منهما يستر صاحبه عن الأبصار عند الجماع . قال الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباساً
أو سميا لباساً لستر كل منهما صاحبه عما لا يحل كما في الخبر « من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه » أو المراد تستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يتستر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار . وعن الأصم : أن كل واحد منهما كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي كانوا يفعلونه ، وزيف بأن هذه القرينة واردة في معرض الإنعام لا في مقام الذم . ووحد اللباس إما لأنه جنس وإما لأنه مصدر « لابس » وضع موضع الصفة . وموقع قوله { هنّ لباس لكم } استئناف لأنه كالبيان لسبب الإحلال ، فإن مثل هذه المخالطة والملابسة توجب قلة الصبر عنهن . ومعنى { علم الله } ظهر معلومه أو هو عالم ، ولم يذكر في الآية أن الخيانة فيماذا إلا أن الذي تقدم هو ذكر الجماع والذي تأخر هو مثله بدليل { فالآن باشروهن } فتعين أن يكون المراد به الخيانة في الجماع .

ومن المعلوم أن كل واحد منهم لم يختن فالخطاب لبعضهم ، وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه لأنه جلب إليها العقاب ونقص حظها من الثواب . وقيل : إن الآية لا تدل على وقوع الخيانة منهم ، وإنما المراد علم الله أنكم بحيث لو دام هذا التكليف تختانون أنفسكم فضعفكم وقلة صبركم ، فوسع الأمر عليكم حتى لا تقعوا في الخيانة . { فتاب عليكم } من الفاء الفصيحة أي فتبتم فقبل توبتكم . وعلى قول أبي مسلم لا إضمار . { فالآن باشروهن } تأكيد لقوله { أحل لكم } وفيه ضرب من البيان لأن حل الرفث في ليلة الصيام لا يوجب حله في جميع أجزائها حتى الصباح . والجمهور على أن المراد بالمباشرة ههنا الجماع ، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين فيه . ومنه ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « لا يباشر الرجل الرجل والمرأة المرأة » وإنما قلنا إنا لمراد بها الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، ولأن الرفث أريد به ذلك إلا أن إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه فصح ما نقل عن الأصم أن المراد بها الجماع وغيره ورجع النزاع لفظياً . وأما المباشرة في قوله { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فلا يعود النزاع فيها إلى اللفظ ، لأن المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه من الاستمتاعات . { وابتغوا ما كتب الله لكم } جعل أو قضى أو كتب في اللوح من الولد أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن للغرض الأصلي من النكاح وهو التناسل . قال صلى الله عليه وسلم « تناكحوا تكثروا » وقيل : هو نهي عن العزل فقد وردت الأخبار في كراهية ذلك . وعن الشافعي : لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ، ولا بأس أن يعزل عن الأمة . وعن علي كرم الله وجهه : أنه كان يكره العزل . وقيل : اطلبوا المحل الذي حلله الله لكم كقوله تعالى { فأتوهنّ من حيث أمركم الله } [ البقرة : 222 ] وقيل : وابتغوا هذه المباشرة التي كتب الله لكم بعد أن كانت محرمة عليكم ، وعن أبي مسلم : وابتغوا المباشرة التي كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم تظنون أنها محرّمة عليكم . وقيل : يعني لا تباشروهن إلا في الأوقات والأحوال التي أذن الله لكم في مباشرتهن دون أوقات الحيض والنفاس والعدّة والردة . وقيل : أي لا تبتغوا المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة وهو الذي كتب في القرآن من قوله { إلا على أزواجهم أن ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] وعن معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء : اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها . واستبعده بعضهم وليس ببعيد ، فإن توزع الفكر بسبب الشهوة المشوّشة قد يمنع عن الإخلاص في العبودية ولا يتفرغ المكلف حينئذ لطلب ليلة القدر التي هي حاصل صوم رمضان فقال سبحانه { فالآن باشروهن } لتفرغوا لطلب الغاية من صيامكم والله أعلم بمراده ، عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وجعلت أنظر إليهما من الليل ولا يستبين لي ، فإذا تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت .

فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال : إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل . وكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عن بلاهة عديّ وقلة فطنته ، وفي الصحيحين أيضاً عن سهل بن سعد : نزلت ولم ينزل { من الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله عز وجل بعد { من الفجر } فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار .
واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره عن وقت الخطاب فجائز عند الأكثرين . ولما كان من مستعملات العرب إطلاق الخيط الأبيض على أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ، والخيط الأسود على ما يمتد معه من غبس الليل قال أبو دواد :
فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا
والسدفة الضياء المخلوط بالظلام ، اقتصر على الاستعارة أوّلاً ، ثم لما اشتبه الأمر على بعض من لا دراية له باللغة العربية نزل من الفجر بياناً للخيط الأبيض واستغنى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما يستتبع بيان الآخر . وخرج الكلام من الاستعارة إلى التشبيه البليغ كما أن قولك « رأيت أسداً » مجاز ، فإذا زدت « من فلانٍ » رجع تشبهاً . فالاستعارة وإن كانت أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة من حيث إنها استعارة كما بين في موضعه إلا أن رفع الاشتباه عن المكلفين أهم وأولى . فالفصاحة في هذا المقام ترك الاستعارة ، وليس هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة على الإطلاق ، لأن المحتاجين ههنا إلى البيان ساقطون عن درجة الاعتبار لأن فهم المعنى من اللفظ إنما يعتبر بالنسبة إلى العارف بقوانين العرب واستعمالاتهم لا بالإضافة إلى الأغبياء منهم . نعم التفهيم يعم البليد والذكي والله المستعان . ولا يسبقنّ إلى الوهم أن المشبه بالخيط الأبيض هو الصبح الكاذب المستطيل لأنه يناقض ما ورد في الخبر « لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير » وإنما المشبه هو الفجر الصادق ، وهو أيضاً يبدو دقيقاً ولكن يرتفع مستطيراً أي منتشراً في الأفق لا مستطيلاً . ويمكن أن يقال : الفصل المشترك بين ما انفجر من الضياء .

أي انشق وبين ما هو مظلم بعد يشبه خيطين اتصلا عرضاً . فالذي انتهى إليه الضياء خيط أبيض ، والذي ابتدأ منه الظلام خيط أسود . وقد سبق تقرير الصبح في تفسير قوله تعالى { واختلاف الليل والنهار } [ البقرة : 164 ] فليتذكر . قيل : ويجوز أن تكون « من » في قوله تعالى { من الفجر } للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوّله : ولا شك أن « حتى » لانتهاء الغاية فدلت الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح . فاستدل بهذا على جواز صوم من يصبح جنباً . وبقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } على أن الصوم ينتهي عند غروب الشمس ، لأن ما بعد « إلى » لا يدخل فيما قبلها وخاصة إذا لم يكن من جنسه ، بل على حرمة الوصال . ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد غربت الشمس وأفطر الصائم » فيجب على المكلف أن يتناول في هذا الوقت شيئاً . وكيف لا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوصال فقيل : يا رسول الله إنك تواصل . فقال : « إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » . أي من طعام الجنة ، أو إني على ثقة بأني لو احتجت أطعمني من الجنة ، أو إني أعطيت قوة من طعم وشرب . والتحقيق أن استغراقه في مطالعة جلال الله يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فإذا تناول شيئاً قليلاً ولو قطرة من الماء فبعد ذلك كان بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف التقصير في الصوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول بمقدار الحاجة ، وقد يتشبث الحنفي بالآية على جواز النية في نهار صوم رمضان لأن مدة الإمساك هو النهار فقط فيجب قصد الإمساك فيه فقط ، ومقتضى هذا الدليل صحة الفرض بنيته بعد الزوال إلا أنا نقول : الأقل ملحق بالأغلب ، فأبطلنا الصوم بنيته بعد الزوال وصححناه بنيته قبله . حجة الشافعي قوله صلى الله عليه وسلم « من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له » ويروى « من لم ينو » وإنما جوز في النفل أن ينوي قبل الزوال لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول : هل من غداء؟ فإن قالوا لا قال : إني صائم ، وأيضاً الحنفي : يجب إتمام الصوم النفل لقوله { ثم أتموا } والأمر للوجوب . وقال الشافعي : قد ورد هذا عقيب الفرض فيتخصص به وأعلم أنه سبحانه خصص بالذكر من المفطرات الرفث والأكل والشرب لأن النفس تميل إليها . وهاهنا مفطرات أخر استنبطت من الآية أو استفيدت من السنة فمنها الاستمناء لأن الإيلاج من غير إنزال مبطل . فالإنزال بنوع شهوة أولى ، وكذا الإنزال باللمس أو القبلة دون الفكر أو النظر بشهوة لأن هذا يشبه الاحتلام ، وعند مالك الإنزال بالنظر مفطر ، وعند أحمد إن كرر النظر حتى أنزل أفطر .

ومنها الاستقاء لقوله صلى الله عليه وسلم « من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه ومن استقاء فليقض » ومنها دخول الشيء جوفه من منفذ مفتوح سواء كان فيه قوة محيلة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء أولا ، فالحلق جوف وكذا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة لما روي عن ابن عباس أن الفطر مما دخل والوضوء مما خرج ، فالحقنة مبطلة للصوم وكذا السعوط إذا وصل إلى الدماغ . ولا بأس بالاكتحال ، وليست العين من الأجواف فإنه صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم . وعن مالك وأحمد إنه إذا وجد في الحلق طعماً أفطر . والتقطير في الأذن إذا وصل إلى الباطن كالسعوط وكذا في الإحليل وإن لم يصل عليه إلى المثانة . ولا بأس بالفصد والحجامة لكن يكره خيفة الضعف . احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم محرم في حجة الوداع . وقال أحمد : يفسد الصوم بالحجامة . ولو دهن رأسه أو بطنه فوصل إلى جوفه بتشرب المسام لم يضر كالاغتسال والانغماس عند الشافعي ، ولا بد أن يكون الواصل عن قصد منه فلو طارت ذبابة إلى حلقه أو وصل غبار الطريق أو غربلة الدقيق إلى جوفه لم يفطر . ولو فتح فاه عمداً لما في الحفظ من العسر . ولو ضبطت المرأة ووطئت أو وجيء بالسكين أو أوجر بغير اختياره فلا إفطار . وكذا لو كان مغمى عليه فأوجر معالجة ولو أكره حتى أكل بنفسه أفطر لأنه أتى بضد الصوم ، ولا أثر لدفع الضرر كما لو أكل أو شرب لدفع الجوع أو العطش . وعند أحمد لا يفطر . وابتلاع الريق الصرف الطاهر من الفم لا يفطر ، والنخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر وإن حصلت فيه بانصبابها من الدماغ إلى الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم ، فإن قدر على مجه ولم يمج حتى جرى بنفسه بطل صومه لتقصيره وإلا فلا ، وإذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه أو استنشق فوصل الماء إلى دماغه لم يفطر على الأصح إن لم يبالغ وبه قال أحمد . وعند أبي حنيفة ومالك يفطر وإن بالغ أفطر وفاقاً . قال صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة : « بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً » ولو بقي طعام في خلل أسنانه فابتلعه عمداً أفطر خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا كان يسيراً ، وربما قدره بالحمصة . وإن جرى به الريق من غير قصد منه لم يفطر على الأصح . ولا بد أيضاً في وصول العين من ذكر الصوم ، فإذا أكل ناسياً ، فإن قل لم يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم

« من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه » وخالف مالك . وإن كثر أفطر . ولو جامع ناسياً للصوم فالأصح أنه لا يبطل كما في الأكل . ولو أكل على ظن أن الصبح لم يطلع بعد ، أو أن الشمس قد غربت وكان غالطاً لم يجزئه صومه على الأشهر لأنه تحقق خلاف ما ظنه واليقين مقدم على الظن . ثم إن كان الصوم واجباً قضى ، وإن كان تطوعاً فلا قضاء . والأحوط في آخر النهار أن لا يأكل إلا بعد تيقن غروب الشمس لأن الأصل بقاء النهار ولو اجتهد وغلب على ظنه دخول الليل بورد أو غيره ، فالأصح جواز الأكل ، وقد أفطر الناس في زمان عمر ثم انكشف السحاب وظهرت الشمس . وأما في أول النهار فيجوز الأكل بالظن والاجتهاد إلى طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل ، فإن قيل : إن أول الفجر كيف يدرك ويحس ومتى عرف المترصد الطلوع كان الطلوع الحقيقي مقدماً عليه؟ فيجاب إما بأن المسألة موضوعة على التقدير كدأب الفقهاء في أمثالها وإما بأنا نتعبد بما يطلع عليه . ولا معنى للصبح إلا بظهور الضوء للناظر وما قبله لا حكم له كالزوال عند زيادة الظل ، وإذا كان الشخص عارفاً بالأوقات ومنازل القمر ، وكان بحيث لا حائل بينه وبين مطلع الفجر وترصد فمتى أدرك فهو أول الصبح المعتبر ، وحينئذ يحرم المفطرات وعن الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والوقاع إلى طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره . وجعل الخيط الأبيض وقت الطلوع والخيط الأسود ما اتصل به من آخر الليل . ومن الناس من قال : لا يجوز الإفطار إلا عند غروب الحمرة ، كما أنه لا يجوز الأكل إلا إلى طلوع الفجر . وهذه المذاهب قد انقرضت ، والفقهاء أجمعوا على بطلانها . يحكى عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش : إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك فكيف إذا زرتني؟ فسكت عنه أبو حنيفة ، فلما خرج قيل له : لم سكت عنه؟ قال : ماذا أقول في رجل ما صام ولا صلى في دهره عنى أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل طلوع الشمس فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإكسال فلا صلاة له . واعلم أن في الآية ترتيباً عجيباً ونسقاً أنيقاً وذلك أن الرفث لما كان من أشنع الأمور التي يجب الإمساك عنها في رمضان حتى قال بعض الناس إنه كان حراماً في رمضان ليلاً ونهاراً وفيه قد وقعت الخيانة كما مر في الإخبار . قدم إباحته أولاً ثم بين السبب في إباحته ، ثم وبخ المختانون في شأنه وعقب التوبيخ بالعفو وقبول التوبة ، ثم أعيد ذكر إباحته ليترتب عليه الغرض الأصلي من الرفث وهو طلب النسل ، وليعطف عليه إباحة الأكل والشرب جميع ذلك إلى آخر جزء من أجزاء الليل ، ثم لما بين مدة الإفطار وما أبيح فيها بين مدة الصوم الذي هو المقصود الأصلي تلك المدة هي ما بقي من مدة الإفطار إلى تمام أربع وعشرين ساعة هي مجموع اليوم بليلته ، أعني من أول الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، ثم لما كان زمان الاعتكاف مستثنى من ذلك لأنه فهم من الآية أن الإمساك عن الرفث كان مختصاً بنهار رمضان لا بليلته ولا بسائر أيام السنة ولياليها عقب إباحة الرفث فيما سوى نهار رمضان بخطره في حال الاعتكاف فقيل { ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد } قال الشافعي : الاعتكاف حبس المرء نفسه على شيء براً كان أو إثماً .

قال تعالى { يعكفون على أصنام لهم } [ الأعراف : 138 ] والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله تعالى تقربا إليه . وهو من الشرائع القديمة . قال تعالى { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين } [ البقرة : 125 ] وللأئمة خلاف في المراد من المباشرة ههنا . فعن الشافعي : في أصح قوليه ووافقه أبو حنيفة وأحمد : إنها الجماع والمقدمات المفضية إلى الإنزال . لأن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين . فالمنع من هذه الحقيقة ما دام في المعتكف وحين يخرج لحاجة ولم تتم مدة الاعتكاف منع عن القبلة والعناق وكل ما فيه تلاصق البشرتين . خالفنا الدليل فيما إذا لم ينزل من هذه الأمور لتبين عدم الشهوة فيها ، وقد علم أن اللمس بغير شهوة جائزة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه من عائشة لترجل رأسه وهو صلى الله عليه وسلم معتكف ، فيبقى ما فيه الشهوة على أصل المنع . احتج من قال إنها لا تبطل الاعتكاف بأن هذه الأمور لا تبطل الصوم والحج فلا تفسد الاعتكاف ، لأنه ليس أعلى درجة منهما . وأجيب بأن النص مقدم على القياس . واتفقوا على أن شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد لأنه مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بنى لإقامة الطاعات . ثم اختلفوا فعن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى { طهر بيتي للطائفين والعاكفين } [ البقرة : 125 ] أي لجميع العاكفين . وعن عطاء فيه وفي مسجد المدينة لقوله صلى الله عليه وسلم « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام » وعن حذيفة فيهما وفي مسجد بيت المقدس لقوله صلى الله عليه وسلم « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا » الزهري : لا يصح إلا في الجامع . أبو حنيفة : لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب . الشافعي : يجوز في جميع المساجد لإطلاق قوله { في المساجد } إلا أن الجامع أولى حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة . ولا خلاف أن الاعتكاف مع الصوم أفضل وهل يجوز بغير صوم؟ الشافعي : نعم لأنه بغير الصوم عاكف وأنه تعالى منع العاكف من المباشرة ولو كان اعتكافه باطلاً لما كان ممنوعاً .

وأيضاً لو كان الاعتكاف موجباً للصوم لم يصح الاعتكاف في رمضان لأن ذمته مشغولة بالصوم الواجب لشهود الشهر فلا يمكنه الاشتغال بالصوم الذي يوجبه الاعتكاف ، لكنهم أجمعوا على صحة الاعتكاف في رمضان . وأيضاً لو تلازما لخرج المعتكف عن اعتكافه بالليل كما يخرج عن الصوم لكنه لا يخرج . وأيضاً « روي أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، فقال صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك » . ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليلة . أبو حنيفة : لا يجوز لأنه يجب الصيام في الاعتكاف بالنذر فيجب بغير نذر أيضاً كعكسه في الصلاة حال الاعتكاف ، وهو أن الصلاة لما لم تجب في النذر بالإجماع لم تجب في غير النذر ، أيضاً وفرق بأن الصوم والاعتكاف متقاربان ، فكل منهما كف وإمساك ، والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف فلا يجعل أحدهما وصفاً للآخر ، ولهذا قلنا : إنه لو نذر أن يعتكف صائماً أو يصوم معتكفاً لزمه كلاهما ، والجمع بينهما . ولو نذر أن يعتكف مصلياً أو يصلي معتكفاً لزمه كلاهما دون الجمع بينهما . ويتفرع على المذهبين أنه يجوز أن ينذر اعتكاف ساعة عند الشافعي ، وأما عند أبي حنيفة فلا يجوز أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس . قال الشافعي : وأحب أن يعتكف يوماً وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف . { تلك حدود الله } إشارة إلى جميع ما تقدم من أول آية الصيام إلى ههنا لا إلى عدم المباشرة في الاعتكاف وحده ، لأنه حد واحد أللهم إلا أن يراد أمثال تلك الجملة . وحد الشيء مقطعه ومنتهاه ، وحد الدار ما يمنع غيرها أن يدخل فيها ، والحد الكلام الجامع لمانع فحدود الله ما منع من مخالفتها بعد أن قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة . وإنما قال ههنا { فلا تقربوها } وفي موضع آخر { فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] لأن العامل بشرائع الله أوامر ونواهي منصرف في حيز الحق ، فإذا تعداه وقع في حيز الباطل . فالنهي عن التعدي هو المقصود إلا أن الأحوط أن لا يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل كيلا يذهل فيقع في الباطل . عن النعمان بن بشير : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا ولكل ملك حمى وحمى الله محارمه » وقيل : لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله

{ ولا تقربوا مال اليتيم } [ الإسراء : 34 ] وقيل : الأحكام المذكورة بعضها أمر وأكثرها نهي ، فغلب جانب التحريم أي لا تقربوا تلك الأشياء التي منعتم عنها . وأما في الأوامر فقال { فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] أي اثبتوا عليها ولا تتخطوها ، { كذلك } أي كما بين ما أمركم به وما نهاكم عنه في هذا المقام { يبين } سائر أدلته على دينه وشرعه إرادة أن يتصف الناس بالتقوى جعلنا الله تعالى من المتقين بفضله ورحمته .
التأويل : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » الضمير عائد إلى الحق . على كل عضو في الظاهر صوم ، وعلى كل صفة في الباطن صوم . فصوم اللسان عن الكذب والنميمة ، وصوم العين عن محل الريبة ، وصوم السمع عن استماع الملاهي ، وعلى هذا فقس البواقي . وصوم النفس عن التمني والشهوات ، وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها ، وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها ، وصوم السر عن شهود غير الله { كما كتب على الذين من قبلكم } أي على بسائطكم وأجزائكم فإنها كانت صائمة عن المشارب كلها ، فلما تعلق الروح بالقلب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية { لعلكم تتقون } مشارب المركبات وتطهرون عن دنس الحظوظ الحيوانيات والروحانيات ، فحين يأفل كوكب استدعاء الحظوظ الفانية تطلع شمس حقوق الملاقاة الروحانية الباقية كما قال صلى الله عليه وسلم « للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه » { فمن كان منكم مريضاً } أي وقع له فترة في السلوك لمرض غلبات صفات النفس وكسل الطبيعة { أو على سفر } حصل له وقفة للعجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة ، فليمهل حتى تدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الإلطاف وأشربة الإعطاف فيتداركه في أيام سلامة القلب . { وعلى الذين يطيقونه } على من كان له قوة في صدق الطلب { طعام مسكين } فالطعام كل مشرب غير مشرب ألطاف الحق ، والمسكين من يكون مشربه غير ما عند الله ويقنع به ، فيدفع تلك المشارب إلى أهاليها ويخرج عما سوى الله ، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشراب مشاربه وهو معنى « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { فمن تطوع خيراً } فمن زاد في الفداء أي كلما فطم من مشرب وسقى من مشرب آخر . وروي فدى ذلك المشرب أيضاً أي تركه إلى أن يصير مشربه ترك المشارب كلها وداوم الصوم كقوله تعالى { وأن تصوموا خير لكم } فينزل فيه حقائق القرآن وهذا معنى قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } فيكون على مأدبة الله لا بمعنى أنه يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم ، ولكن المأدبة تأكله حتى تفنيه عن وجوده وتبقيه بشهوده فيكون خلقه القرآن وحينئذ يفرق بين الوجود الحقيقي والوجود المجازي كما قال { وبينات من الهدى والفرقان } فيقال يا محمد له أصبت فالزم وهو معنى قوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } قال أبو يزيد : ناداني ربي وقال : أنا بدك اللازم فالزم بدك .

رمضان يرمض ذنوب قوم ، ورمضان الحقيقي يحرق وجود قوم . رمضان اسم من أسماء الله أي من حضر مع الله فليمسك عن غير الله { يريد الله بكم اليسر } وهو مقام الوصول { ولا يريد بكم العسر } وهو ما في الطريق من الرياضة والمجاهدة كالطبيب يسقي دواء مراً ، فمراده حصول الصحة لا إذاقة مرارة الدواء . وأيضاً « كل ميسر لما خلق له » لو لم يرد بنا اليسر لم يجعلنا طالبين لليسر ( شعر ) :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتني الطلبا
{ ولتكملوا } عدة أنواع الغاية بجذبات { يريد الله بكم اليسر } { ولتكبروا الله } ولتعظموه { على ما هداكم } إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال { ولعلكم تشكرون } نعمة الوصال بتنزيه ذي الجلال عن إدراك عقول أهل الكمال وإحاطة الوهم والخيال . قوله سبحانه { أحل لكم ليلة الصيام } اعلم أن في الإنسان تلوناً في الأحوال . فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في ضياء نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وهو حالة السكر ، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردوداً إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذه حالة الصحو ، فخصه الله تعالى بنهار كشف الأستار وطلوع شموس الأسرار ليصوموا فيه عما سواه ، وبليلة إسبال أستار الرحمة ليسكنوا فيها ويستريحوا بها كما منّ الله تعالى بقوله { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً } [ القصص : 72 ] الآيتين . ومعنى الرفث إلى النساء التمتع بالحظوظ الدنيوية التي تتصرف النفس فيها تصرف الرجال في النساء { هن لباس لكم } أي الصفات والحظوظ الإنسانية ستر لكم يحميكم عن حرارة شموس الجلال لكيلا تحرقكم سطوات التجلي { وأنتم لباس لهن } تسترون معايب الدنيا بالأموال الصالحة واستعمال الأموال على قوانين الشرع والعقل « نعم المال الصالح للرجل الصالح » { فالآن باشروهن } بقدر الحاجة الضرورية { وابتغوا } بقوة هذه المباشرة { ما كتب الله لكم } من المقامات العلية { وكلوا واشربوا } في ليالي الصحو { حتى يتبين لكم } آثار أنوار المحو فالأحوال تنقسم إلى بسط وقبض ، وزيادة ونقص ، وجذب وحجب ، وجمع وفرق ، وأخذ ورد ، وكشف وستر ، وسكر وصحو ، وإثبات ومحو ، وتمكين وتكوين ، كما قيل :
كأن شيئاً لم يزل إذا أتى ... كان شيئاً لم يكن إذا مضى
{ في المساجد } أي في مقامات القربة والأنس . وفيه إشارة إلى أنه يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات من حيث الصورة وتكون الأسرار والأرواح مع الحق ، وهذا مقام أهل التمكين { فلا تقربوها } بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف وبالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف حسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير .


وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

القراآت : { البيوت } بضم الباء : أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والبرجمي وهشام غير الحلواني . الباقون : بكسر الباء .
الوقوف : { تعلموا } 5 { عن الأهلة } ط لابتداء حكم آخر مع النفي { من اتقى } ج و { الحج } ط ج لعطف الجملتين المختلفتين { أبوابها } ص لعطف المتفقتين { تفلحون } 5 .
التفسير : لما كان الصوم منتهياً إلى الإفطار والإفطار يتضمن الأكل ، ناسب أن يردف حكم الصيام بحكم ما يصلح للأكل وما لا يصلح له . ولما كان الصوم والفطر منوطين برؤية الهلال عقباً بذكر السؤال عن حال الأهلة . قال الإمام الغزالي في الإحياء : المال يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه ، والأول إما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان ، أما المعادن والنبات فلا يحرم شيء منهما إلا ما يزيل الحياة وهي السموم ، أو الصحة وهي الأدوية في غير وقتها ، أو العقل كالخمر والبنج وسائر المسكرات . وأما حدثنا الحيوان فينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل . وما يحل فإنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً ، وإذا ذبح فلا يحل جميع أجزائه بل يحرم منه الدم والفرث وكل ذلك مذكور في كتب الفقه . والثاني وهو ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه نقول فيه أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث . والذي باختياره إما أن لا يكون مأخوذاً من مالك كالمعادن ، وإما أن يكون مأخوذاً من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي . والمأخوذ قهراً إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم ، أولاً لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم . والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية ، فهذه أقسام ستة :
الأول : ما لا يؤخذ من مالك كنيل المعادن وإحياء الموات والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش ، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين .
الثاني : المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس فقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهده .
الثالث : المأخوذ قهراً بالاستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على المستحق .
الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط لفظي الإيجاب والقبول مع ما يعتد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة .
الخامس : ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره .

السادس : ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان المورث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإفراز الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة . فهذه مجامع مداخل الحلال وما سوى ذلك فحرام لا يجوز أكله . وكذا إن كان من هذه الجهات وصرفه إلى غير المصارف الشرعية كالخمر والزمر والزنا واللواط والميسر والسرف المحرم ، وكل هذه الوجوه داخلة تحت قوله سبحانه { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه { بينكم } أي في المعاملات الجارية بينكم والتصرفات الواقعة بينكم . وليس المراد منه الأكل خاصة بل غير الأكل من التصرف كالأكل في هذا الباب إلا أنه خص الأكل بالذكر لأنه المقصود الأعظم من المال . وقد يقال لمن أنفق ماله إنه أكله . والإدلاء أصله من أدليت دلوي أرسلتها في البئر للاستقاء ، فإذا استخرجتها قلت دلوتها . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء . ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده . وفلان يدلي إلى الميت بقرابة ورحم إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستقي الماء بالدلو . قوله { وتدلوا } داخل في حكم النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم ، أو لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالإثم بشهادة الزور أو باليمين الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم . والفرق بين الوجهين أن الحكام على الأول حكام السوء الذين يقبلون الرشا التي هي رشا الحاجة ، فبها يصير المقصود البعيد قريباً ، وإذا أخذها حاكم السوء مضى في الحكم من غير ثبت كمضي الدلو في الإرسال . وعلى الثاني قد يكون الحاكم عادلاً ولكن قد يشتبه عليه الحق كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين : « إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه . فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً فإنما أقضي له قطعة من نار » فبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي . فقال : اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه . « فتوخيا » أي اقصدا الحق فميا تصنعانه من القسمة واقترعا وليأخذ كل منكما ما تخرجه القسمة بالقرعة ثم تحاللا : { وأنتم تعلمون } أنكم على الباطل وارتكاب المعاصي مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق .
روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ألا يكون على حالة واحدة؟ { يسئلونك عن الأهلة } وقيل : إن السائلين هم اليهود .

ثم إن الله تعالى لم يجبهم بأنه إنما يرى كذلك لأنه يستفيد النور من الشمس وأنه مظلم في ذاته ويفصل أبداً بين المضيء والمظلم منه دائرة لاستداره المنير والمستنير ، ويفصل بين المرئي وغير المرئي من القمر أيضاً دائرة . والدائرتان تتطابقان في الاجتماع بحيث لا يظهر شيء من المستنير وتكون القطعة المظلمة مما يلي البصر وهذه الحالة هي المحاق . وكذا في الاستقبال لكن القطعة المضيئة هي التي تلي البصر والقمر في هذه الحالة يسمى بدراً . وفي سائر الأوضاع يتقاطعان . أما في التربيعين فعلى زوايا قوائم تقريباً ، وفي غير التربيعين على زوايا حادة ومنفرجة ، وعلى التقديرين تنقسم كرة القمر بهما إلى أربع قطع : اثنتان مضيئتان وهما اللتان تليان الشمس ، والباقيتان مظلمتان . ويقع في مخروط البصر إحدى الأوليين وإحدى الأخريين ، لكنه يحس بالمضيئة دون المظلمة . والقطع الأربع في التربيعين متساويات تقريباً ، وفي غيرهما تختلف المتجاورتان وتتساوى المتقابلتان . والقطعة المرئية من المتجاورتين الواقعتين في مخروط البصر في الربعين الأول والأخير من الشهر أصغرهما ، لأن زاوية تلك القطعة أصغر اللتين يليان الإبصار أعني أنها حادة وتسمى القطعة المرئية الصغيرة أول ما يبدو إلى ليلتين هلالاً ويجمع على أهلة ، لأنه يتعدد اعتباراً . وفي الربعين الباقيين من الشهر القطعة المضيئة المرئية أعظم المتجاورتين الموصوفتين لأن زاويتها أعظم المذكورتين أعني أنها منفرجة ، وإنما لم يجابوا بذلك لأن المكلف لا يهمه معرفة هذه التصورات في باب العمل ، وإنما الذي يعود عليه من فوائده وحكمه في باب التكليف معرفة المواقيت وهي المعالم التي يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهن ومدد حملهن ومعالم للحج يعرف بها وقته . والميقات من الوقت كالميزان من الوزن ، ولعمري إنه لو منع مانع من أن ضبط هذه الأمور لا يتسهل ولا يتسنى إلا بوقوع الاختلاف في تشكلات القمر حيث سمى عوده من كل تشكل إلى مثله ولا سيما من الهلالية إلى مثلها شهراً وبذلك قدر السنون ، وضبطت الأوقات والفصول فلن يمكنه جحود فائدته على تقدير وجود ، ولو لم يكن في الإظهار رسمة الحدوث والإمكان والزوال والنقصان في الفلكيات حتى لا يظن بها وجوب الوجود ، أو الاشتراك في القدم مع مفيض الخير والجود ، أو امتناع الخرق والالتئام كما ذهب إلى كل من ذلك طائفة من اللئام لكفى به تنبيهاً وعناية وإرشاداً وهداية إلى افتقار الفلكيات إلى فاعل مختار ومدبر قهار جاعل الظلم والأنوار ، ومصير الأهلة والأقمار ، وفي إفراد الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت عبادات أخر كالصوم والزكاة إشارة إلى أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى له ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...