Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج21وج22.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج21وج22. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

عن عروه بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب فيدخل من يشاء ، وكان إذا دخله ردد هذه الآية حتى يخرج . ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمر إلى مشيئة الله أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال : { إن ترن أنا أقل } ف « أنا » فصل و { أقل } مفعول ثان { مالاً وولداً } نصب على التمييز { فعسى ربي أن يؤتيني } في الدنيا أو في الآخرة جنة { خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً } هو مصدر كالغفران بمعنى الحساب أي مقداراً وقع في حساب الله وهو الحكم بتخريبها . وعن الزجاج : عذاب حسبان وهو حساب ما كسبت يداك . وقيل : هو جمع حسبانة وهو السهم القصير يعني الصواعق . { فتصبح صعيداً زلقاً } أرضاً بيضاء يزلق عليها زلقاً لملاستها . وزلقاً وغوراً كلاهما بالمصدر كقولهم « فلان زور وصوم » .
ثم أخبر سبحانه عن تحقيق ما قدر المؤمن فقال : { وأحيط بثمره } وهو عبارة عن إهلاكه وإفنائه بالكلية من إحاطة العدوّ بالشخص كقوله : { إلا أن يحاط بكم } [ يوسف : 66 ] ، { فأصبح يقلب كفيه } أي يندم { على ما أنفق فيها } لأن النادم يفعل كذلك غالباً كما قد يعض أنامله . { وهي خاوية على عروشها } أي سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم وقد مر في البقرة في قصة عزير . وقوله : { يا ليتني لم أشرك } تذكر لموعظة أخيه وفيه دلالة ظاهرة على ما قلنا من أنه كان غير عارف بالله بل كان عابد صنم ، ومن ذهب إلى أنه جعل كافراً لإنكاره البعث فسره بأن الكافر لما اغتر بكثرة الأموال والأولاد فكأنه أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى ، أو أنه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساوياً لخلقه في هذا الباب وهو نوع من الإشراك . وليس هذا الكلام منه ندماً على الشرك ورغبة في التوحيد المحض ولكنه رغب في الإيمان رغبة في جنته وطمعاً في دوام ذلك عليه ، فلهذا لم يصر ندمه مقبولاً ووصفه بعد ذلك بقوله : { ولم يكن له فئة } طائفة { ينصرونه من دون الله } لأنه وحده قادر على نصرة العباد . { وما كان منتصراً } ممتنعاً بقوته عن انتقام الله . ولما علم من قصة الرجلين أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر علم أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقيل { هنالك } أي في مثل ذلك الوقت والمقام والولاية الحق لله أو { الولاية لله الحق } والولاية بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر السلطان والملك ، أو المراد في مثل تلك الحالة الشديدة يتوب إلى الله ويلتجىء إليه كل مضطر يعني أن قول الكافر { يا ليتني } إنما صدر عنه إلجاءً واضطراراً وجزعاً ومما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها .

وقيل : { هنالك } إِشارة إلى الآخرة كقوله { لمن الملك اليوم لله } [ غافر : 16 ] { عقباً } بضم القاف وسكونها بمعنى العاقبة لأن من عمل لوجه الله لم يخسر قط .
ثم ضرب مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال { واضرب لهم } الآية . وقد مر مثله في أوائل « يونس » { إنما مثل الحياة الدنيا كماء } ومعنى { فاختلط به } التف بسببه . وقيل : معناه روى النبات ورف لاختلاط الماء به وذلك لأن الاختلاط يكون من الجانبين . والهشيم ما تهشم وتحطم ، والذر والتطيير والإذهاب . تقول : ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذرواً وذرياً . { وكان الله على كل شيء مقتدراً } من تكونيه أوّلاً وتنميته وسطاً وإذهابه آخراً . ولا ريب أن أحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أولاً في غاية الحسن والنضارة ، ثم تتزايد إلى أن تتكامل ، ثم تنتهي إلى الزوال والفناء ، ومثل هذا ليس للعاقل أن يبتهج به . وحين مهد القاعدة الكلية خصصها بصورة جزئية فقال : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات } هي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها { خير عند ربك ثواباً } أي تعلق ثواب وخير أملاً لأن الجواد المطلق أفضل مسؤول وأكرم مأمول . وقيل : هن الصلوات الخمس . وقيل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . ففي التسبيح تنزيه له عن كل مالاً ينبغي ، وفي الحمد إقرار له بكونه مبدأ لإفادة كل ما ينبغي ، وفي التهليل اعتراف بأنه لا شيء في الإمكان متصفاً بالوصفين إلا هو ، وفي التكبير إذعان لغاية عظمته وأنه أجلّ من أن يعظم . وقيل : الطيب من القول . والأصح كل عمل أريد به وجه الله وحده قاله قتادة .
التأويل : { واتل } على نفسك { وما أوحي إليك من كتاب } كتبه { ربك } في الأزل { لا مبدل لكلماته } إلى الأبد مع الدين { يدعون ربهم } وهم القلب والسر والروح والخفى في غداة الأزل إلى عشي الأبد فإنهم مجبولون على طاعة الله كما أن النفس جبلت على طاعة الهوى وطلب الدنيا . { ولا تعد } عينا همتك { عنهم } فإنك إن لم تراقب أحوالهم تصرف فيهم النفس الأمارة { ولا تطع من أغفلنا } يعني : النفس ناراً هي نار القهر والغضب { أحاط بهم سرادقها } يعني سرادق العزة { بماء كالمهل } كل ما هو لأهل اللطف أسباب لسهولة العيش وفراغ البال فإنه سبحانه جعل لأهل القهر سبباً لصعوبة الأمر وشدة التعلق حتى شوت الوجوه أي أحرقت مواد التفاتهم إلى عالم الأرواح ، وفسدت استعداداتهم فبقوا في أسفل سافلين الطبيعة { يحلون فيها من أساور } والتحلية بالأساور إشارة إلى ظهور آثار الملكات عليهم وقوله : { من ذهب } رمز إلى أنها ملكات مستحسنة معتدلة راسخة { يلبسون ثياباً } فيه أن أنوار العبادات تلوح عليهم وتشتمل بهم . وقوله : { خضراً } إشارة إلى أنها أنوار غير قاهرة و { من سندس } إشارة إلى ما لطف من الرياضات { واستبرق } إلى ما شق منها { متكئين فيها على الأرائك } لأنهم فرغوا بها وكلفوا وقضوا ما عليهم من المجاهدات وبقي ما لهم من المشاهدات { مثلاً رجلين } هما النفس الكافرة والقلب المؤمن .

{ جعلنا لأحدهما } وهو النفس { جنتين } هما الهوى والدنيا { من أعناب } الشهوات { وحففناهما بنخل } حب الرياسة { وجعلنا بينهما زرعاً } من التمتعات البهيمية { وفجرنا خلالهما نهراً } من القوى البشرية والحواس . { وكان له ثمر } من أنواع الشهوات { وهو يحاوره } يجاذب النفس والقلب { أنا أكثر منك مالاً } أي ميلاً { وأعز نفراً } من أوصاف المذمومات { وهو ظالم لنفسه } في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى { لأجدن خيراً منها } لأنه غر بالله وكرمه فلا جرم يقال له ما غرك بربك الكريم ، هلا قلت { ما شاء الله } أي أتصرف في جنة الدنيا كما شاء الله { على ما أنفق فيها } من العمر وحسن الاستعداد { كما أنزلناه } هو الروح العلوي الذي نزل إلى أرض الجسد { فاختلط } الروح بالأخلاق الذميمة { فأصبح هشيماً } تلاشت منه نداوة الأخلاق الروحانية { تذروه } رياح الأهوية المختلفة فيكون حاله خلاف روح أدركته العناية الأزلية فبعث إليه دهقان من أهل الكمال فرباه بماء العلم والعمل حتى يصير شجرة طيبة . { والباقيات الصالحات } أي ما فني منك وبقي بربك والله أعلم بالصواب .
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

القراآت : { تسير الجبال } على بناء الفعل للمفعول ورفع الجبال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو . الآخرون على بناء الفعل للفاعل ونصب الجبال . ما أشهدناهم يزيد . الآخرون { ما أشهدتهم } { وما كنت } على الخطاب روى ابن وردان عن يزيد . الباقون على التكلم { ويوم نقول } بالنون : حمزة الباقون على الغيبة { قبلاً } بضمتين : عاصم وحمزة والكسائي . الباقون بكسر القاف وفتح الباء . { لمهلكهم } بفتح الميم وكسر اللام : حفص { لمهلكهم } بفتحهما ، يحيى وحموالمفضل . الباقون بضم الميم وفتح اللام .
الوقوف : { بارزة } لا لأن التقدير وقد حشرناهم قبل ذلك { أحداً } 5 ج للآية مع العطف { صفاً } ط للعدول والحذف أي يقال لهم لقد جئتمونا { أول مرة } ز لأن « بل » قد يبتدأ به مع أن الكلام متحد { موعداً } 5 { أحصاها } ج لاستئناف الواو بعد تمام الاستفهام مع احتمال الحال بإضمار « قد » { حاضراً } 5 ط { أحداً } 5 { إلا إبليس } ط { أمر ربه } ط { عدواً } ط { بدلاً } 5 أنفسهم ص { عضداً } 5 { موبقاً } 5 { مصرفاً } 5 { مثل } ط { جدلاً } 5 { قبلاً } 5 { ومنذرين } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { هزواً } 5 { يداه } ط { وقراً } ، ط لاختلاف الجملتين مع ابتداء الشرط { أبداً } 5 { الرحمة } ط { العذاب } ط { موئلاً } 5 { موعداً } .
التفسير : لما بين خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وأهواله ، وفيه رد على أغنياء المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء المسلمين والتقدير : واذكر يوم كذا عطفاً على وأضرب . ويجوز أن ينتصب بالقول المضمر قبل { ولقد جئتمونا } وفاعل التسيير هو الله تعالى إلا أنه سمي على إحدى القراءتين ولم يسم في الأخرى ، فتسييرها إما إلى العدم لقوله : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً } [ طه : 105 ] ، { وبست الجبال بساً ، فكانت هباء منبثاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] وإما إلى موضع لا يعلمه إلا الله { وترى الأرض بارزة } لأنه لا يبقى على وجهها شيء يسترها من العمارات ولا من الجبال والأشجار ، وإما لأنها أبرزت ما في بطنها من الأموات لقوله : { وألقت ما فيها وتخلت } [ الانشقاق : 4 ] فيكون الإسناد مجازياً أي بارزاً ما في جوفها { وحشرناهم } الضمير للخلائق المعلوم حكماً { فلم نغادر منهم أحداً } من الأوّلين والآخرين . يقال : غادره وأغدره إذا تركه والترك غير لائق ومنه الغدر ترك الوفاء . والغدير ما غادره السيل لأن اللائق بحال السيل أن يذهب بالماء كله . ولا يخفى أن اللائق بحال رب العزة أن لا يترك أحداً من خلقه غير محشور وإلا كان قدحاً في عمله وحكمته وقدرته . قالت المشبهة : في قوله : { وعرضوا على ربك } دليل على أنه سبحانه في مكان يمكن أن يعرض عليه أهل القيامة وكذلك في قوله : { لقد جئتمونا } وأجيب بأنه تعالى شبه وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم بالعرض عليه وبالمجيء إلى حكمه كما يعرض الجند على السلطان .

وانتصب { صفاً } على الحال أي مصطفين ظاهرين ترى جماعاتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً . والصف إما واحد وإما جمع كقوله { يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] أي أطفالاً . وقيل : صفاً أي قياماً وبه فسر قوله : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } [ الحج : 36 ] . وقال القفال : يشبه أن يكون الصف راجعاً إلى الظهور والبروز ومنه الصفصف للصحراء وهذا قريب من الأول . وقد مر في « الأنعام » أن وجه التشبيه في قوله { خلقناكم } أنم يبعثون عراة لا شيء معهم ، أو المراد بعثناكم كما أنشأناكم وزعمهم أن لن يجعل الله لهم موعداً . أي وقتاً لإنجاز ما وعدوا على ألسنة الأنبياء إما أن يكون حقيقة وإما لأن أفعالهم تشبه فعل من يزعم ذلك . { ووضع الكتاب } أي جنسه وهو صحف الأعمال . والوضع إما حسي وهو أن يوضع كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال ، وإما عقلي ومعناه النشر والاعتبار . { فترى المجرمين مشفقين } خائفين مما في الكتاب لأن الخائن خائف خوف العقاب وخوف الافتضاح . ومعنى النداء في { يا ويلتنا } قد مر في « المائدة » في { يا ويلتي أعجزت } [ الآية : 31 ] وقوله : { صغيرة ولا كبيرة } صفتان للهيئة أو المعصية أو الفعلة وهي عبارة عن الإحاطة وضبط كل ما صدر عنهم ، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار ، فإذا حصر الصنفين فقد حصر الكل . وعن الفضيل : ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر . قلت : وذلك أن تلك الصغائر هي التي جرأتهم على الكبائر . وعن ابن عباس : الصغير التبسم والكبيرة القهقهة . وعن سعيد بن جبير : الصغيرة المسيس والكبيرة الزنا . وجوّز في الكشاف أن يريد ما كان عندهم صغائر وكبائر . وتمام البحث في المسألة أسلفناه في أوائل سورة النساء في تفسير قوله : { أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [ النساء : 31 ] فتذكر { ووجدوا ما عملوا حاضراً } في الصحف مثبتاً فيها أو وجدوا أجزاء ما عملوا ظاهراً على صفحات أحوالهم { ولا يظلم ربك أحداً } استدل الجبائي به على بطلان مذهب الأشاعرة في أن الأطفار يجوز أن تعذب بذنوب آبائهم فإن ذلك ظلم . والجواب أن الظلم إنما يتصوّر في حق من تصرف في غير ملكه قالوا : لو ثبت أن له بحكم المالكية أن يفعل ما يشاء من غير اعتراض عليه لم يكن لهذا الإخبار فائدة . وأجيب بأن تلك القضية بعد الدلائل العقلية علمت من مثل هذه الآية . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة : يوسف وأيوب وسليمان يدعو المملوك فيقول له : ما شغلك عني؟ فيقول جعلتني عبد الآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف فيقول : كان هذا عبداً مثلك ثم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار . ثم يدعى بالمبتلى فإذا قال : أشغلتني بالبلاء دعا بأيوب فيقول : قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي ويؤمر به إلى النار ، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع آتاه الله من الغنى والسعة فيقول : ماذا عملت فيما آتيتك فيقول : شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان فيقول : هذا عبدي سليمان آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك فيؤمر به إلى النار »

ثم إنه سبحانه عاد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه . قال جار الله : قوله : { كان من الجن } كلام متسأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد فقيل : { كان من الجن ففسق } والفاء للتسبيب أي كونه من الجن سبب في فسقه ولو كان ملكاً لم يفسق لثبوت عصمة الملائكة . وقال آخرون : اشتقاق الجن من الاستتار عن العيون فيشمل الملائكة والنوع المسمى بالجن . ثم من لم يوجب عصمة الملك فظاهر ، ومن أوجب قال : « كان » بمعنى « صار » أي مسخ عن حقيقة الملائكة إلى حقيقة الجن ، وقد سلف هذا البحث بتمامه في أول سوة البقرة . ومعنى { فسق عن أمر ربه } خرج عن طاعته . وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ولولا ذلك الأمر الشاق لما حصل ذلك الفسق فلهذا حسن أن يقال : { فسق عن أمر ربه } . وقال قطرب : هو على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره . ثم عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر . والمعاصي وخالق أمر الله فقال : { أفتتخذونه } كأنه قيل أعقيب ما وجد منه من إلا باء والفسق تتخذونه { وذريته أولياء من دوني } وتستبدلونهم بي وقصة آدم وإبليس سمعها قريش من أهل الكتاب وعرفوا صحتها فلذلك صح الاحتجاج بها عليهم وإن لم يعتقدوا كون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً { بئس للظالمين بدلاً } أي بئس البدل من الله . إبليس لمن استبدل به فأطاعه بدل طاعته . قال الجبائي . في الآية دلالة على أنه لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد وإلا لم يصح هذا الذم والتوبيخ ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . قال أهل التحقيق : إن الداعي لكفار قريش إلى ترك دين محمد صلى الله عليه وسلم هو النخوة والعجب والترفع والتبكر ، وهذا شأن إبليس ومن تابعه . فكل غرضه من العلم أو العمل الفخر على الأقران والترفع على أبناء الزمان فإنه مقتدٍ بإبليس وذريته وهذا مقام صعب نسأل الله الخلاص منه . ثم دل على فساد عقيدة أهل الشرك وبطلان طريقتهم بقوله : { ما أشهدتهم } فالأكثرون على أن الضمير للشركاء والمراد أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم يعني لو كان بعضهم شاهدين خلق بعض مشاركين لي فيه كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } لأمكن أن يكونوا شركاء لي في العبادة لكن الملزوم المساوي منتف فاللازم مثله يؤيد هذا التفسير قوله : { وما كنت متخذ المضلين } أي متخذهم { عضداً } أعواناً فوضع المضلين موضع الضمير نعياً عليهم بالإضلال .

وقيل : الضمير للمشركين الذي التمسوا طرد فقراء المؤمنين ، والمراد أنهم ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم قوم كسائر الخلق نظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له : لست سلطان البلد ولا مدبر المملكة حتى تقبل منك كل اقتراحاتك . وقيل : أراد أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدّها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم ، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء . ومن قرأ { وما كنت } بفتح التاء فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تغترّ بهم ، ثم عاد إلى تهويلهم بأحوال يوم القيامة وأضاف الشركاء إلى نفسه على معتقدهم توبيخاً لهم وفحوى الكلام : اذكر يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ { يقول } الله لهم { نادوا } أي ادعوا من زعمتم أنهم { شركائي } فأهلتموهم للعبادة . قال المفسرون : أراد الجن { فدعوهم } لم يذكر في هذه الآية أنهم كيف دعوا تلك الشركاء ولعل المراد بما في الآية الأخرى { إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا } [ إبراهيم : 21 ] { فلم يستجيبوا لهم } ولم يدفعوا عنهم ضرراً { وجعلنا بينهم موبقاً } عن الحسن { موبقاً } عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها الهلاك كقولهم « لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفا » . وقال الفراء : البين الوصل والمراد جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة . وفي الكشاف : الموبق المهلك وهو مصدر كالمورد أي جعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم مشتركاً هو مكان الهلاك والعذاب الشديد يهلكون فيه جميعاً . وجوز أن يريد بالشركاء الملائكة وعزيراً وعيسى ومريم . وبالموبق البرزخ أي وجعلنا بينهم أمداً بعيداً يهلك فيه السائرون لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان . قوله : { فظنوا } قيل : علموا وأيقنوا : والأقرب أن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيغلب على ظنونهم أنهم مخالطوها واقعون فيها في تلك الساعة من غير تأخير ولا مهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها نظيره { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً } [ الفرقان : 12 ] { ولم يجدوا عنها مصرفاً } أي معدلاً إلى غيرها لأن الملائكة يسوقونهم إليها آخر الأمر . ولما ذكر أن الكفرة افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم ومتصرفاتهم وأجاب عن شبههم وأقوالهم الفاسدة وضرب الأمثال النافعة وحكى أهوال الآخرة قال : { ولقد صرفنا } وقد مر تفسيره في السورة المتقدمة .

وحين لم يترك الكفار جدالهم وكانوا أبداً يتعللون بالأعذار الواهية ختم الآية بقوله : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } يعني أن الأشياء التي يتأتى منها الجدل ان فصلتها واحداً بعد واحد فإن الإنسان أكثرها خصومة فقوله : { أكثر شيء } كقوله { أول مرة } وقد مر في « الأنعام » . وكثرة جدل الإنسان لسعة مضطربه فيما بين أوج الملكية إلى حضيض البهيمية ، فليس له في جانبي التصاعد والتسافل مقام معلوم . قال أهل البرهان : قوله تعالى في سورة « بني إسرائيل » : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } [ الاسراء : 94 ] وقال في هذه السورة بزيادة { ويستغفروا ربهم } لأن المعنى هناك ما منعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا قولهم : « أبعث الله بشراً رسولاً ، هلا بعث ملكاً » وجهلوا أن التجانس يورث التوانس . ومعناه في هذا الموضع ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا الإتيان بسنة الأوّلين وانتظار ذلك . وعن الزجاج : إلا طلب سنتهم وهو قولهم « إن كان هذا هو الحق » وزاد في هذه السورة { ويستغفروا ربهم } لأن قوم نوح أمروا بالاستغفار { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } [ نوح : 10 ] وكذا قوم هود { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } [ هود : 52 ] وقوم صالح { فاسغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب } [ هود : 62 ] وقوم شعيب { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود } [ هود : 90 ] فلما خوفهم سنة الأوّلين أجرى المخاطبين مجراهم . والحاصل أنهم لا يقدمون على الإيمان والاستغفار إلا عند نزول عذاب الاستئصال أو عند تواصل أصناف البلاء عياناً . ومن قرأ بضمتين أراد أنواعاً جمع قبيل . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أنه لا مانع من الإيمان أصلاً . وقالت الأشاعرة : العلم بأنه لا يؤمن والداعي الذي يخلقه الله في الكافر يمنعانه ، فالمراد فقدان الموانع المحسوسة . ثم بين أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين أن مع هذه الأحوال { يجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا } ويزيلوا ويبطلوا { به الحق } من إدحاض القدم وهو إزلاقها { واتخذوا آياتي وما أنذروا } أي الذي أنذروا من العقاب أو إنذارهم { هزواً } موضع استهزاء . قال جار الله : جدالهم قولهم للرسل { ما أنتم إلا بشر مثلنا } [ يس : 15 ] { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } [ المؤمنون : 24 ] وما أشبه ذلك . قال أهل العرفان : قوله : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه } أي بالقرآن بدليل قوله : { أن يفقهوه } وبتذكير الضمير . { فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه } من الكفر والمعاصي فلم يتفكروا في عاقبتها ولم يتدبروا في جزائها متمسك القدرية . وإنما قال في السجدة { ثم أعرض عنها }

[ الآية : 22 ] لأن ما في هذه السورة في الكفار الأحياء الذين إيمانهم متوقع بعد ، أي ذكروا فأعرضوا عقب ذلك . وما في السجدة في الكفار الأموات بدليل قوله : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ السجدة : 12 ] أي ذكروا مرة بعد أخرى وزماناً بعد زمان ثم أعرضوا عنها بالموت فلم يؤمنوا وانقطع رجاء إيمانهم . وقوله { إنا جعلنا } وقد مر تفسيره في « الأنعام » إلى قوله : { فلن يهتدوا إذا أبداً } متمسك الجبرية وقلما تجد في القرآن دليلاً لأحد الفريقين إلا ومعه دليل للفريق الآخر فهذا شبه ابتلاء من الله ، ولعله أراد بذلك إظهار مغفرته . ورحمته على عباده كما قال : { وربك الغفور ذو الرحمة } قال المفسرون الضمير في قوله : { لو يؤاخذهم } لأهل مكة الذين أفرطوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . والموعد يوم بدر . وأقول : لا يبعد أن يكون الضمير للناس في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس } والموعد القيامة ، والموئل الملجأ يقال وأل إذا نجا ، ووأل إليه إذا لجأ إليه . قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار ، والرحمة إيصال النفع ، وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول ، لأن ترك أضرار لا نهاية لها ممكن ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال . أقول : هذا فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله ذو الرحمة أيضاً لا يخلو عن مبالغة ، وكثيراً ما ورد في القرآن إنه غفور رحيم بلفظ المبالغة في الجانبين . وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي أيضاً نظر ، لأن مقدورات الله متناهية لا فرق في ذلك بين المبقي والمتروك . ثم أشار إلى قرى الأولين اعتباراً لغيرهم فقال : { وتلك القرى } فاسم الإشارة مبتدأ وفيه تعظيم لشأنهم أو تبعيد لزمانهم ومكانهم ، والقرى صفة وما بعده خبره ولا يخفى حذف المضاف أي وتلك أصحاب القرى { أهلكناهم } ويجوز أن يكون { تلك القرى } منصوباً بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير . { وجعلنا } لزمان إهلاكهم أو لإهلاكهم أو وقت هلاكم { موعداً } وعداً أو وقت وعد لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر ، والمراد أنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتاً يمكنهم التوبة قبل ذلك .
التأويل : { ويوم نسير الجبال } وهي الأبدان الجامدة عن السلوك ، وترى أرض النفوس بارزة خالية عن موانع الطريق ، وحشرنا جميع القوى البشرية { وعرضوا على ربك صفاً } لكل قوة ولكل جوهر رتبة تليق بها ، فالروح في صف الأرواح ، والقلب في صف القلوب ، وكذا النفس وقواها . { ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } على هيئة الفطرة ، وقيل الأنبياء في صف ، والأولياء في صف ، والمؤمنون في صف ، والكافرون والمنافقون في الصف الأخير { لا يغادر صغيرة } هي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المباحات .

{ ولا كبيرة } هي التصرف في الدنيا على حبها فحب الدنيا رأس كل خطيئة { ما أشهدتهم } لأني لا أشهد إلا أوليائي كما قلت { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ الكهف : 53 ] { ورأى المجرمون النار } رأوا في الدنيا أسباب النار من الشهوات والآثام فوقعوا فيها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي ، فإذا رأوا النار في الآخرة أيقنوا أنهم مواقعوها { ولم يجدوا عنها مصرفاً } كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } فتارة مجادل في التوحيد وأخرى في النبوة ومرة في الأصول ومرة في الفروع ، ولهذا كثرت المذاهب والأديان والملل والنحل ونسأل الصواب من ملهمه { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم } أسباب الهداية { ويستغفروا ربهم } إن كانوا مذنبين { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهو جذبات العناية لأهل الهداية كقوله في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم « والله لولا الله ما اهتدينا » { أو ما يأتيهم العذاب قبلاً } كقوله : « أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » والله أعلم . ( م ) .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

القراآت : { أنسانيه } بضم الهاء حفص والمفضل ، وقرأ عليّ بالإمالة مع كسر الهاء : { نبغي } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب ، وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل . الباقون بحذف الياء في الحالين اتباعاً لخط المصحف . { رشداً } بفتحتين : أبو عمرو ويعقوب . بضمتين : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الباقون { رشداً } بضم الراء وسكون الشين . { معي } بفتح الياء : حفص { ستجدني إن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع { فلا تسألني } بنون التأكيد الثقيلة وإثبات الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . بحذف الياء : ابن مجاهد عن ابن ذكوان والأحسن إثباتها لأنه شاذ عن أهل الشام . الآخرون بنون الوقاية وحذف الياء . { ليغرق أهلها } بياء الغيبة وفتحها مع فتح الراء ورفع الأهل : حمزة وعلي وخلق . الباقون بتاء الخطاب مضمومة وكسر الراء من الإغراق وبنصب الأهل { زاكية } على « فاعله » : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب . الآخرون { زكية } على « فعيلة » { نكراً } بضمتين حيث كان : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وبان ذكوان وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد { فلا تصحبني } من الصحبة : روح وزيد . الآخرون من المصاحبة . { من لدني } خفيفاً : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد والمفضل . { يضيفوهما } من الإضافة : المفضل { لتخذت } من التخذ مدغماً : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ ابن كثير بالإظهار . الباقون : { لاتخذت } من الاتخاذ . وقرأ حفص والمفضل والأعشى والبرجمي مظهراً { يبدلهما } من التبديل وكذلك في سورة التحريم ونون والقلم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . الآخرون من الإبدال { رحماً } بضمتين : ابن عامر ويزيد وعباس وسهل ويعقوب . الباقون بسكون الحاء .
الوقوف : { حقباً } 5 { سرباً } 5 { غداءنا } ز لانقطاع النظم مع صدق اتصال المعنى { نصباً } 5 { الحوت } ز لتمام استفهام التعجب مع اتحاد الكلام وكون الواو حالاً { أن أذكره } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال في البحر وقفة . قيل : عليه تم كلام يوشع ثم ابتدأ موسى فقال عجباً أي أعجب لذلك عجباً والوصل أجوز أي سبيلاً عجباً أو اتخاذاً { عجباً } 5 { نبغ } قف قد قيل : لتمام قول أحدهما وابتداء فعلهما والوجه الوصل لعطف اللفظ وسرعة الرجوع على الفور { قصصاً } 5 لا لاتصال النظم واتحاد الحال { علماً } 5 { رشداً } 5 { صبراً } 5 { خبراً } 5 { أمراً } 5 { ذكراً } 5 { فانطلقا } وقفة لأن حتى إذا للابتداء { حرقها } ط { أهلها } ج لانقطاع النظم واتحاد القائل { إمراً } 5 { صبراً } 5 { عسراً } 5 { فانطلقا } وقفة لما مر { فقتله } لا لأن « قال » جواب « إذا » { لغير نفس } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار { نكراً } 5 { صبراً } 5 { فلا تصاحبني } ج لاختلاف الجملتين { عذراً } 5 { فانطلقا } وقفة { فأقامه } ط { أجراً } 5 { وبينك } ج { صبراً } 5 { غصباً } 5 { وكفراً } ، ج للعطف مع الآية { رحماً } 5 { صالحاً } ج لما قلنا { من ربك } ج { عن أمري } ط { صبراً } ، لانقطاع القصة .

التفسير : هذه قصة أوردها الله تعالى لتعين على المقاصد السابقة مع كونها مستقلة في الإفادة ، أما نفعها في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا : إن أخبركم محمد عنها فهو نبي وإلا فلا ، فذكر الله تعالى قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي لا يلزم أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار . وأما نفعها في الرد على كفار قريش حين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار ، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعلو منصبه واستجمام موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر وتواضع له لأجل طلب العلم فدل ذلك على أن التواضع خير من التكبر . وأكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب التوارة والمعجزات . وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يعقوب وهو قد كان نبياً قبل موسى بن عمران . فقال ابن عباس : كذب عدو الله . واحتج الأكثرون على صحة قولهم بأن موسى حيث أطلق في القرآن أريد به موسى بن عمران ، فلو كان المراد ههنا شخصاً آخر لوجب تعريفه بحيث يتميز عن المشهور . حجة الأقلين - وإليه ذهب جمهور اليهود - أن موسى بن عمران بعد أن خصه الله تعالى بالمعجزات الظاهرة التي لم يتفق لمن قبله مثلها ، يبعد أن يؤمر بالتعلم والاستفادة . وأجيب بأن العالم الكامل في أكثر العلوم قد يجهل بعض المسائل فيحتاج في تعلمها إلى من يختص بعلمها . أما فتى موسى فالأكثر على أنه يوشع بن نون ، ويروى هذا القول عن سعد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو أخو يوشع وكان مصاحباً لموسى في السفر . وعن الحسن : إنه أراد عبده ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي » قال أهل السير : إن موسى لما ظهر على مصر مع نبي إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله فقال : إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأيّ الناس أعلم؟ قال : أنا . فعتب الله حين لم يردّ العلم إلى الله ، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي بمجمع البحرين وهو الخضر ، وكان الخضر عليه السلام في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر .

وبقي إلى أيام موسى .
ويروى أن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال : فأيّ عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال : فأي عبادك أعلم؟ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على الهوى أو تردّه عن ردى . فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه . قال : أعلم منك الخضر . قال : فأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة . قال : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك . فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان فرقد موسى عليه السلام فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال : وأنى بأرضنا السلام فعرفه نفسه فقال : يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا . فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع في حرفها فنقر في الماء فقال الخضر : ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر . قلت : وهذا صحيح لأن علم الإنسان متناه وعلم الله غير متناه ، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلاً .
ولنرجع إلى التفسير قال الزجاج وتبعه جار الله : { لا أبرح } بمعنى لا أزال ، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ولأن قوله : { حتى أبلغ } غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية . فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ ، وجوز أن يكون المعنى لا أبرح سيري حتى أبلغ على أن { حتى أبلغ } هو الخبر ، وحذف المضاف وهو السير وأقيم المضاف إليه - وهو ياء المتكلم - مقامه فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وجوز أيضاً أن يكون لا أبرح ، بمعنى لا أزول من برح المكان ، والمعنى لا أبرح ما أنا عليه أي لا أترك المسير والطلب حتى أبلغ { مجمع البحرين } يعني ملتقى بحري فارس والروم وقد شرحنا وضع البحار في سورة البقرة في تفسير قوله : { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } [ الآية : 164 ] . وقيل : أراد طنجة ، وقيل أفريقية . ومن غرائب التفسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما بحر العلم ، وهذا مغ غرابته مستبشع جداً لأن البحرين إذا كان هو موسى عليه السلام فكيف يصح أن يقول : { حتى أبلغ مجمع البحرين } إذ يؤل حاصل المعنى إلى قولنا حتى أبلغ مكاناً يجتمع فيه بحران من العلم أحدهما أنا { أو أمضي حقباً } أسير زماناً طويلاً . قال جار الله : الحقب بالضم ثمانون سنة . ويقال : أكثر من ذلك . وقيل : إنه تعالى أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه بعينه فقال موسى : لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبار من موسى عليه السلام بأنه وطن تحمل التعب الشديد إلى أن يلقاه ، وفيه تنبيه على شرف العلم وأن طلب العلم يحق له أن يسافر ، ويتحمل المتاعب في الطلب من غير ملال وكلال .

{ فلما بلغا مجمع بينهما } قال جمهور المفسرين : الضمير للبحرين أي تحقق ما موسى وبلغ المكان الذي وعد فيه لقاء الخضر . ولا بد للبين من فائدة ، ولعل المراد حيث يكاد يلتقي وسط ما امتد من البحرين طولاً . والإضافة بمعنى « في » أي مجمعاً في وسط البحرين فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين ، والبيان والإيضاح بكلام علام الغيوب تعالى أولى منه بكلام موسى ، أو البين بمعنى الافتراق أي البحران المفترقان يجتمعان هناك . ويحتمل على هذا أن يعود الضمير إلى موسى والخضر أي وصلا إلى الموضع الذي وعد اجتماع شملهما هناك ، أو البين بمعنى الوصل لأنه من الأضداد فيفيد مزيد التأكيد كقولهم « جد جده » . وهذه الوجوه مما لم أجدها في التفاسير ، فإن كان صواباً فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان { نسيا حوتهما } لأنه تعالى جعل انقلاب الحوت حياً علامة على مسكن الخضر قيل : إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملوحة فطفرت وسارت . وقيل : إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب إلى الماء . وقيل : انفجرت هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر . ونسيان الحوت للذهول عن الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، والسبب في هذا الذهول مع أن هذه الحالة كانت أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ، هو أن يوشع كان قد تعود مشاهدة المعجزات الباهرة فلم يبق لحياة السمكة ولقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وقع عنده .
وقيل : إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الذي يشبه الضروري تنبيهاً لموسى عليه السلام ، على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على قلوب عباده . وانتصاب قوله : { سرباً } على أنه مفعول ثانٍ لاتخذ أي اتخذ سبيله سبيلاً سرياً وهو بيت في الأرض ، وذلك أن الله تعالى أمسك إجراء الماء عن الحوت وجعله كالكوة حتى سرى الحوت فيه معجزة لموسى عليه السلام وللخضر . وقيل : السرب هو الذهاب والتقدير سرب في البحر سرباً إلا أنه أقيم قوله : { واتخذ سبيله } مقام « سرب » { فلما جاوزا } أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الصخرة { قال موسى لفتاه آتنا غداءنا } وهو ما يؤكل بالغداة { لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } تعباً وجوعاً .

قال المفسرون : قوله { من سفرنا هذا } إشارة إلى سيرهما وراء الصخرة ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك . قال الفتى متعجباً { أرأيت } ومفعوله محذوف لدلالة قوله : { فإني نسيت الحوت } عليه كأنه قال : أرأيت ما دهاني ووقع لي . { إذ أوينا إلى الصخرة } قيل : هي الصخرة التي دون نهر الزيت { فإني نسيت الحوت } عليها ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال : { وما أنسانيه إلا الشيطان } و { أن أذكره } بدل الاشتمال من الهاء { في أنسانيه } أي وما أنساني ذكره قال الكعبي : لو كان النسيان بخلق الله وإرادته لكان إسناد ذلك إلى الله تعالى أولى من إسناده إلى الشيطان إذ ليس له في وجوده سعي ولا أثر . قال القاضي : المراد بإنساء الشيطان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر ، لأن ذلك لا يصلح أن يكون إلا من قبل الله تعالى .
قال أهل البرهان : لما كان اتخاذ الحوت سبيله في البحر عقيب النسيان ذكر أوّلاً فاتخذ بالفاء ، ولما حيل بينهما ثانياً بجملة معترضة هي قوله : { وما أنسانيه } زال معنى التعقيب وبقي العطف المجرد فقال : { واتخذ سبيله } بالواو . وانتصاب { عجباً } كما مر في { سرباً } . قال صلى الله عليه وسلم : « كان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً » { قال } موسى { ذلك } يعني اتخاذ الحوت السبيل في البحر { ما كان ينبغي } أي إنه الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب { فارتدا على آثارهما } فرجعا على طريقهما المسلوك { قصصاً } مصدر لأنه بمعنى الارتداد على الأثر يتبعان آثارهما اتباعاً ، أو هو مصدر في موضع الحال أي رجعا على الطريق الذي جاءا منه مقتصين { فوجدا عبداً من عبادنا } الأكثرون على أن ذك العبد كان نبياً لأنه تعالى وصفه بقوله : { آتيناه رحمة من عندنا } والرحمة هي الوحي والنبوّة بدليل قوله : { أهم يقسمون رحمة ربك } [ الزخرف : 32 ] وقوله : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } [ القصص : 86 ] ومنع أن كل رحمة نبوة قالوا : وصفه بقوله : { وعلمناه من لدنا علماً } والعلم المختص به تعالى هو الوحي والإخبار بالغيوب . وأيضاً آخر القصة { وما فعلته عن أمري } أي عرفته وفعلته بأمر الله وذلك مستلزم للوحي . وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك . فقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل . فقال : من عرّفك هذا؟ قال : الذي بعثك إلي . والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية . والتحقيق فيه إذا ضعفت القوى الحسية والخيالية بواسطة الرياضة قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية على جواهر العقل ، ويفيض عليه من عالم الأرواح أنوار يستعد بسببها لملاحظة أسرار الملكوت ومطالعة عالم اللاهوت . والأكثرون أيضاً على أن ذلك العبد هو الخضر سمي بذلك لأنه كان لا يقف موقفاً إلا اخضر ذلك الموقف .

وقال الجبائي : روي أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل . فإن صحت الرواية لم يكن ذلك العبد هو الخضر لأنه بعث بعده ، وبتقدير كونه معاصراً له فإنه أظهر الترفع على موسى حين قال : { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } وأن موسى أظهر التواضع له حين قال { ولا أعصي لك أمراً } مع أنه كان مبعوثاً إلى كافة بني إسرائيل ، والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي . وإن لم تكن الرواية صحيحة بأن الخضر لا يكون من بني إسرائيل لم يجز أن يكون الخضر أفضل من موسى عليه السلام لأنه تعالى قال لبني إسرائيل { وأني فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 47 ] وأجيب بأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها .
قال العلماء : إن موسى راعى مع الخضر في قوله : { هل أتبعك } أنواعاً من الأدب منها : أنه جعل نفسه تبعاً له مطلقاً ، وفيه أن المتعلم يجب عليه الخدمة وتسليم النفس والإتيان بمثل أفعال الأستاذ وأقواله على جهة التبعية لا الاستقلال ، فإن المتابعة هي الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير ، ولهذا لسنا متبعين لليهود في قولنا « لا إله إلا الله » لأنا نقول كلمة التوحيد لأجل أنهم قالوها بل لقيام الدليل على قولها ، ولكنا متابعون في الصلوات الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم لأنا نأتي بها لأجل أنه أتى بها . ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية . ومنها أنه قال : { على أن تعلمني مما علمت } وفيه إقرار على أستاذه بالعلم ، وفيه أنه لم يطلب منه إلا بعض علمه ولم يطلب . منه أن يجعله مساوياً له في العلم كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً من أجزاء ماله لأكله ، وفيه اعتراف بأن ذلك العلم علمه الله تعالى وإلا سمي فاعله ، وفيه إشعار بأن إنعامه عليه في هذا التعليم شبيه بإنعام الله عليه فيه ومن هنا قيل : أن عبد من علمني حرفاً . ومنها أن الخضر عرف أنه نبي صاحب المعجزات المشهورة ، ثم إنه مع هذه المناصب العلية والمراتب السنية لم يطلب منه المال والجاه وإنما طلب التعليم فقال : { على أن تعلمني } فدل ذلك على أنه لا كمال فوق كمال العلم ، وأنه لا يحسن صرف الهمة إلا إلى تحصيله . وفيه أن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، فكان حرصه على زيادتها أوفر . ومنها أنه قال { رشداً } وهو يصلح أن يكون مفعولاً ل { تعلمني } و { علمت } أي علماً ذا رشد أرشد به في ديني ، وفيه تعظيم لما سيعلمه فإن الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل حصل الضلال .

ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال : { لن تستطيع معي صبراً } نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد لعلمه بأنه يتولى أموراً هي في الظاهر منكرة ، والرجل الصالح لا سيما النبي الذي يحكم بظواهر الأمور شرعاً قلما يتمالك أن يصبر عليها . و { خبراً } تمييز أي لم يحط به . خبرك ، أو هو مصدر لكونه في معنى الإحاطة . استدلت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة لا تحصل فيه الفعل وإلا لكانت الاستطاعة عل الصبر حاصلة قبل الصبر ، فيكون قول الخضر بنفي الاستطاعة كذباً . وكذا قوله : { وكيف تصبر } لأنه استفهام في معنى الإنكار أي لا تصبر ألبتة . أجاب الجبائي بأنه أراد بنفي الاستطاعة أن يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه . يقال في العرف : إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ولهذا { قال } له موسى { ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصى } أي ستجدني غير عاص { لك أمراً } ويجوز أن يكون قوله : { ولا أعصي } جملة مستأنفة معطوفة على مثلها أي ستجدني ولا أعصي . قال أهل السنة . في قوله : { إن شاء الله } بطريق الشك والصبر مأمور به دليل على أنه تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه . قالت المعتزلة . إنما ذكره بطريق الأدب . وأجيب بأن هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب ، وإن فسد فأيّ أدب في ذكر الكلام الباطل .
قالت الأصوليون : في قوله : { ولا أعصي لك أمراً } دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب ، لأن تارك الأمر عاص . بهذه الآية ، والعاصي يستحق العقاب لقوله : { ومن يعصى الله ورسوله فإن له نار جهنم } [ الجن : 23 ] قال المحققون : في قوله الخضر تغليظ وتجهيل ، وفي قول موسى تحمل وتواضع ، فدل ذلك على أن المعلم إن رأى التغليظ على المتعلم فيما يعتقده نفعاً وإرشاداً إلى الخير ، فالواجب عليه ذكره وعلى المتعلم أن يتلقاه بالبشر والطلاقة . ثم قال : { فإن اتبعتني فلا تسألني } شرط على موسى عليه السلام في اتباعه أن لا يسأل عما خفي عليه وجه صحته حتى يكون الخضر هو المبتدىء بتعليمه إياه بإخباره عن وجه الحكمة فيه { فانطلقا } على ساحل البحر يطلبان السفينة ، فما ركباها يروى أن أهلها قالوا : هما من اللصوص وأمروهما بالخروج فمنعهم صاحب السفينة وقال : أرى وجوه الأنبياء . وقيل : عرفوا الخضر فحملوهم بلا أجرة ، فلما حصلوا في اللجة أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء . وقيل : خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ويقول : { أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً } أتيت شيئاً عظيماً . يقال : أمر الأمر إذا عظم . ويقال في الشيء العجيب الذي يعرف له شبيه إنه أمر إمر . احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام اعترض على الخضر بعد توكيد العهود والمواثيق وذلك ذنب .

وأجيب بأنه لم يقل ذلك اعتراضاً وتوبيخاً ولكنه أحب أن يقف على حكمة ذلك الأمر الخارج عن العبادة ، أو أنه خالف الشرط بناء على النسيان ولهذا { قال لا تؤاخذني بما نسيت } ولا مؤاخذة على الناسي . و « ما » موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي بالذي نسيت وبشيء نسيته وبنسياني . وجوز في الكشاف أن لا يكون ناسياً في الحقيقة ولكنه أوهم بقوله : { لا تؤاخذني بما نسيت } أنه قد نسي لبسط عذره في الاعتراض على المعلم وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض . وجوز أيضاً أن يكون النسيان بمعنى الترك أي بما تركت من وصيتك أول مرة { ولا ترهقني } ولا تغشني { من أمري عسراً } وأراد بأمره أمر المتابعة أي يسر عليّ متابعتك بالإغضاء وترك المناقشة .
وإنما قال في هذه القصة { خرقها } بغير « فاء » لأنه جعله جزاء للشرط ، وفي قصة الغلام جعل { فقتله } من جملة الشرط معطوفاً عليه بفاء التعقيب ، لأن القتل يعقب لقاء الغلام ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير ومنه قولهم « رأي الشيخ خير من مشهد الغلام » وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق . وليس في القرآن أنهما كيف لقياه ، وهل كان يلعب مع جمع من الغلمان ، أو كان منفرداً ، وهل كان مسلماً أو كان كافراً ، وهل كان بالغاً أو كان صغيراً واسم الغلام بالصغير أليق ، إلا أن { بغير نفس } بالبالغ لأن الصبي لا يقتل قصاصاً . وعن ابن عباس أن نجدة الحروري الخارجي كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل . قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة . وقال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب ، والزكية التي أذنبت ثم تابت . ويجوز أن يكون وصفها بالزكاء لأنه لم يرها أذنبت فهي طاهرة عنده . قيل : النكر أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهو من إغراق أهل السفينة . وقيل : النكر أشد لأن ذلك كان خرقاً تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه . وأيضاً الأمر العجيب والعجب يستعمل في الخير والشر . والنكر ما تنكره العقول فهو شر ، وظاهر الآية يدل على أن موسى استبعد أن تقتل النفس إلا بالنفس وليس كذلك لأنه قد يحل القتل بسائر الأسباب ، ولعله اعتبر السبب الأغلب والأقوى واختلفوا في كيفية قتله فقيل : فتل عنقه . وقيل : ضرب برأسه الحائط . وعن سعيد بن جبير : أضجعه ثم ذبحه بالسكين . ثم إنه سبحانه حكى عن الخضر أنه ما زاد على أن أذكره ما عاهد عليه فقال : { ألم أقل لك } وإنما زاد ههنا لك لأن الإنكار أكثر وموجب العتاب أقوى .

وقيل : أكد التقرير الثاني بقوله { لك } كما تقول لمن توبخه لك أقول وإياك أعني . وقيل : بين في الثاني المقول له لما لم يبين في الأول فعند هذا { قال } موسى { إن سألتك عن شيء بعدها } بعد هذه الكرة أو المسألة { لا تصاحبني } نهاه عن المصاحبة حينئذ مع حرصه على التعلم لظهور عذره كما قال : { قد بلغت من لدني عذراً } وهذا كلام نادم شديد الندامة جره المقال ، واضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحم الله أخي كموسى استحيا فقال ذلك » { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } هي أنطاكية : وقيل : الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء .
{ استطعما أهلها } وكان حق الإيجاز أن يقال : « استطعماهم » فوضع الظاهر موضع المضمر للتأكيد كقوله :
ليت الغراب غداة ينعب بيننا ... كان الغراب مقطع الأوداج
وأيضاً لعله كره اجتماع الضميرين المتصلين في مثل هذا اللفظ لما فيه من الكلفة والبشاعة والاستطالة { فأبوا أن يضيفوهما } يقال : أضافه وضيفه إذا أنزله وجعله ضيفه ، والتركيب يدور على الميل من ضاف السهم عن الغرض والضيف يميل إلى المضيف . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « كانوا أهل قرية لئاماً . » قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدما عليه . وأيضاً الضيافة من المندوبات وترك المندوب غير منكر ، فكيف جاز لموسى أن يغضب عليهم حتى ترك عهد صاحبه . وقال : { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } وأجيب بأن الرجل إذا جاع بحيث ضعف عن الطاعة أو أشرف على الهلاك لزمه الاستطعام ووجبت إجابته . ولقائل أن يقول : لو كان قد بلغ الجوع إلى حدّ الهلاك لم يقو على إصلاح الجدار . ولمجيب أن يقول : إنه أقام الجدار معجزة فقد يروى أنه مسحه بيده فقام واستوى . وقيل : أقامه بعمود عمده به . وقيل : نقضه وبناه . وروي أنه كان ارتفاع الجدار مائة ذراع . قال أهل الاعتبار : شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حق . ويحكى أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل الذهب فقالوا : يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاء أي « فأتوا أن يضيفوهما » فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . قوله : { يريد أن ينقض } معناه يسرع سقوطه من انقض الطائر إذا هوى في طيرانه . يقال : قضضته فانقض ، ويحتمل أن يكون « افعل » من النقض كاحمرّ من الحمرة ، فالنون تكون أصلية وإحدى الضادين مكررة زائدة عكس الأول . واستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة تشبيهاً للجماد بالأحياء نظيره { ولما سكت عن موسى الغضب } [ الأعراف : 154 ] { قالتا أتينا طائعين }

[ فصلت : 11 ] . ولما أقام الخضر الجدار ورأى موسى من الحرمان ومسيس الحاجة { قال } لصاحبه { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } لطلبت على عملك جعلاً حتى نستدفع به الضرورة . واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ على الأصح { قال } الخضر مشيراً إلى الفراق المتصور في قوله : { فلا تصاحبني } أو مشيراً إلى السؤال والاعتراض { هذا فراق بيني } الإضافة بمعنى في أي فراق أو سبب فراق في بيني { وبينك } وحكى القفال أن البين ههنا بمعنى الوصل .
ثم شرع في تقرير الحكم التي تضمنتها أفعاله وتلك الحكم تشترك في أصل واحد هو أنه أذا تعارض الضرر إن وجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فقال : { أما السفينة فكانت لمساكين } قيل : كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة { يعملون في البحر } وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين { وكان وراءهم ملك } وهو مسمى بجلندي والوراء ههنا بمعنى الأمام وقد مر في قوله : { ومن ورائه عذاب غليظ } [ إبراهيم : 17 ] وقيل : أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع وما كان عندهم خبرة { يأخذ كل سفينة } أي غير معيبة { غصباً } ولا يخفى أن الضرر الحاصل من التخريق أهون من فوات السفينة بالكلية والتخريق ، وإن كان تصرفاً في ملك الغير إلا أنه إذا تضمن نفعاً زائداً لم يكن به بأس . ولعل مثل هذا التصرف كان جائزاً في تلك الشريعة ، أو لعله كان من مخصوصات النبي صلى الله عليه وسلم . قال جار الله . قوله : { فأردت أن أعيبها } مسبب عن خوف الغصب عليها وكان حقه أن يتأخر عن السبب ولكنه قدم للعناية أي تتعجب من هذا وهو مرادي وأنا مأمور به . وأيضاً خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كون السفينة للمساكين فتوسط إرادة العيب بين المسكنة والغصب كتوسط الظن بين المبتدأ والخبر في قولك « زيد ظني مقيم » في أنه يتعلق بالطرفين { وأما الغلام } فقد قيل : إنه كان بالغاً قاطع الطريق يقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه مضطرين إلى التعصب له والذب عنه فكانا يقعان في الفسق لذلك واحتمل أن يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد كما قال : { فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً } . يقال : رهقة أي غشيه وأرهقه إياه . وقيل : إنه كان صبياً إلا أنه تعالى علم من حاله أنه لو صار بالغاً صدرت عنه هذه المفاسد ، فأعلم الخضر بحاله وأمره بقتله لئلا يرتد الأبوان بسببه ومثل هذا لا يجوز إلا إذا تأكد الظن بالوحي . وقيل : أراد فخفنا أن يغشى الوالدين طغياناً عليهما وكفراً بنعمتهما بعقوقه ، أو خفنا أن يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر . وجوزوا أن يكون قوله : { فخشينا } من كلام الله تعالى أي كرهنا كراهة من خاف سوء عاقبة أمر فغيره .

والزكاة الطهارة والنقاء من الذنوب وكأنه بإزاء قول موسى نفساً زاكية . والرحم الرحمة والعطف بمعنى الإشفاق على الأبوين . يروى أنهما ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم . ويروى أنها ولدت سبعين نبياً . وقيل : أبدلهما ابناً مؤمناً . وقيل : اسم الغلام المقتول الحيسون وفي نسخة الحسين .
{ وأما الجدار فكان لغلامين } . قيل : اسمهما أصرم وصريم . وقوله : { في المدينة } بعد قوله : { أتيا أهل قرية } فيه دلالة على أن القرية لا تنافي المدينة ومعنى الاجتماع والإقامة مراعى فيهما . أما الكنز فقيل : هو المال لقوله : { ويستخرجا } ولأن المفهوم منه عند إطلاقه هو المال . وقيل : صحف فيها علم لقوله : { وكان أبوهما صالحاً } ودفن المال لا يليق بأهل الصلاح . وعورض بقول قتادة : أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا . وحرمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا . وجمع بعضهم بين الأمرين فقال : كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . وفي قوله : { وكان أبوهما صالحاً } دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء . عن جعفر بن محمد رضي الله عنه : كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء ، وذكر من صلاح أبيهما ان الناس كانوا يضعون الودائع عنده فيردها إليهم سالمة . قالت العلماء : الأشبه أن اليتيمين كانا جاهلين بحال الكنز ووصيهما كان عالماً به إلا أنه غائب وق أشرف الجدار على السقوط و { رحمة من ربك } مصدر منصوب بأراد لأنه في معنى رحمهما أو مفعول له { وما فعلته عن أمري } أي اجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله . سؤال : لم قال في الأول : { فأردت أن أعيبها } وفي الثاني : { فأردنا } وفي الثالث { فأراد ربك } ؟ الجواب : لأن الأول إفساد في الظاهر فأسنده إلى نفسه ، وفي الثالث إنعام محض فأسنده إلى الله سبحانه ، وفي الثاني إفساد من حيث القتل وإنعام من حيث التدبيل فجمع بين الأمرين . ويمكن أن يقال : إن القتل كان منه ولكن إزهاق الروح كان من الله ، ويحتمل أن يقال : الوحدة في الأول على الأصل ، والجمع في الثاني تنبيه على أنه من العلماء بالمؤيدين بالعلوم الدينية ، والإسناد إلى الله بالآخرة إشارة إلى أنه لا إرادة إلا إرادة الله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله { ذلك } الذي ذكر من أسرار تلك الوقائع { تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } أي يرجع المقصود من تلك الأفاعيل إلى ما قررنا ، وأصل تسطع تستطيع كما في قوله : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع } إلا أن التاء حذفت لأجل التخفيف . وهذا شاذ من جهة القياس ولكنه ليس بشاذ في الاستعمال .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحم الله أخي موسى لو لبيث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب »
التأويل : { وإذ قال موسى لفتاه } فيه أن المسافر لا بد له في الطريق من الرفيق ، وفيه أن من شرطهما أن يكون أحدهما أميراً والآخر مأموراً ، وأن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده حتى يكون على بصيرة من صحبته ، وأن لا يسأم من متاعب السفر حتى يظفر بمقصوده ، وأن تكون نيته طلب شيخ يقتدي به فإن طلب الشيخ في الحقيقة هو طلب الحق . ومجمع البحرين هو مجمع ولاية الشيخ وولاية المريد وعنده عين الحياة الحقيقية ، فإذا وقعت قطرة منها على حوت قلب المريد حيي واتخذ سبيله في بحر الولاية سربا . { فلما جاوزا } فيه إشارة إلى أن المريد في أثناء السلوك لو تطرقت إليه الملالة أصاب قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن صحبة الشيخ ظاناً أن مقصوده يحصل من غير وساطة الشيخ . هيهات فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد إلا إن أدركته العناية الأزلية ورد إليه صدق الإرادة فيقول : الرفيق التوفيق . { آتنا غداءنا } وهو همة الشيخ وبركة صحبته { لقد لقينا في سفرنا هذا } الذي جاوزنا صحبة الشيخ { نصباً } فقال رفيقه { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة } صخرة النفس وتسويلها { فإني نسيت } حوت القلب { قال ذلك ما كنا نبغي من حوت القلب الميت المملح بملح حب الدنيا وزينتها أن يتخذ سبيله في بحر ولاية شيخ كامل { فوجدا عبداً من عبادنا } حراً من رق غيرنا . وفي قوله : { وعلمناه من لدنّا علماً } إشارة إلى أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها ، وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وإنما يحصل بتصفية النفس وتجريد القلب عن العلائق الجسمانية ، وقد ذهب موسى إلى تعلم العلم فكان من الواجب على الخضر أن يظهر له علماً يمكن تعلمه ، فبين علم الخضر وبين مقصد موسى تباين وتنافٍ فلهذا قال الخضر : { إنك لن تستطيع معي صبراً } وفي إظهار المسائل الثلاثة إشارة إلى ما قلنا من أن العلم الظاهر يباين العلم اللدني وليس من التعليم والتعلم في شيء ، وإذا تأمل العاقل السالك في قول موسى : { هل أتبعك } الخ في قول الخضر . { فإن اتبعتني فلا تسألني } الخ . وجد أصول الشرائط التي شرطها الصوفية للمريد وللشيخ مودعة فيها ، وفي تفصيلها طول وقد أشرنا في التفسير إلى طرف منها ، ومن أراد الكل فعليه بمطالعة كتاب « آداب المريدين » للشيخ المحقق أبي النجيب السهروردي تغمده الله بغفرانه { حتى إذا ركبا في السفينة } هي سفينة الشريعة { خرقها } بهدم الناموس في الظاهر مع صلاح الحال في الباطن وفيما بينه وبين علام الغيوب ، ومثل هذا قد يفعله كثير من المحققين طرداً للعوام وحذراً من التباهي والعجب { أخرقتها لتغرق أهلها } في أودية الضلال إذا اقتدوا بك { حتى إذا لقيا غلاماً } هو النفس الأمارة { فقتله } بسكين الرياضة وسيف المجاهدة { حتى إذا أتيا أهل قرية } هي الجسد وهم القوى الإنسانية من الحواس وغيرها { استطعما أهلها } بطلب أفاعليها التي تختص بها { فأبوا أن يضيفوهما } بإعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها { فوجدا فيها جداراً } هو التعلق الحائل بين النفس الناطقة وبين عالم المجردات { يريد أن ينقض } بقطع العلاقة { فأقامه } بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس كما قيل : نفسك مطيتك فارفق بها .

{ لو شئت لاتخذت عليه أجراً } ثواباً جزيلاً أي لو شئت لصبرت على شدة الرياضة إلى إفاضة الأنوار ونيل الكشوف . { أما السفينة فكانت لمساكين } هم العوام الذين { يعملون في } بحر الدنيا وليس لهم في بر عالم الربوبية سير وسلوك حتى يصلوا إلى ملوك تحت أطمار { فأردت أن أعيبها } في الظاهر لتسلطهم بالإخلاص في البواطن { وكان وراءهم ملك } هو الشيطان { يأخذ كل سفينة } عبادة { غصباً } لأن كل عبادة تخلو عن الانكسار والذل والخشوع فإنها للشيطان لا للرحمن { وأما الغلام فكان أبواه } وهما القلب والروح { مؤمنين فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة } هو النفس المطمئنة { وأقرب رحماً } أي نسبة إلى الأبوين . { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين } هما النفس المطمئنة والملهمة { وكان تحته كنز لهما } هو حصول الكمالات النظرية والعملية { وكان أبوهما } وهو العقل المفارق { صالحاً } كاملاً بالفعل فلهذا ادخر لأجلهما ما ادخر { فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما } بتربية الشيخ وإرشاده على سبيل الرفق والمداراة { ويستخرجا } ما كان كامناً فيهما .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

القراآت : { فأتبع } { ثم أتبع } مقطوعة : ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون بالتشديد موصولة . { حامية } الألف من غيرهم : ابن عامر ويزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص . الباقون { حمئة } بالهمزة من غير ألف { جزاء الحسنى } بالنصب منوناً . يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الآخرون { جزاء الحسنى } بالرفع والإضافة . { السدين } بفتح السين : ابن كثير ، أبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل . الآخرون بضمها . { يفقهون } بضم الياء وكسر القاف : حمزة وعلي وخلف . الباقون بفتحهما { يأجوج ومأجوج } حيث كان مهموزاً : عاصم غير الشموني { فهل نجعل } وبابه بإدغام اللام في النون : علي وهشام { خراجاً } بالألف : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد الباقون { خرجا } بسكون الراء . { سداً } بفتح السين : ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم . والباقون بضمها { مكننى } : ابن كثير : الباقون بإدغام النون في النون { ردماً ائتوني } يحيى وحماد والابتداء بكسر الألف { الصدفين } بضم الصاد والدال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب المفضل مخير ، أبو بكر وحماد بضم الصاد وإسكان الدال . الآخرون بفتح الصاد والدال . { قال ائتوني } والابتداء بكسر الألف : يحيى وحماد وحمزة { فما اسطاعوا } بالإدغام : حمزة غير حماد وخلاد ، وقرأ أبو نشيط والشموني { فما اصطاعوا } بالصاد وهو الصحيح من نقل ابن مهران . { دكاء } بالمد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل والخزاز عن هبيرة { أفحسب الذين } بسكون السين ورفع الباء : يزيد ويعقوب والأعشى في اختياره { دوني أولياء } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { أن ينفد } بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان .
الوقوف : { القرنين } ط { ذكراً } 5 ط { سبباً } لا { سبباً } 5 { قولاً } 5 ط { حسناً } 5 { نكراً } 5 { الحسنى } ج لاختلاف الجملتين { يسراً } 5 ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { سبباً } 5 { ستراً } 5 { كذلك } ط أي كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس . وقيل : يبتدأ بكذلك أي ذلك كذلك أو الأمر كذلك . وقيل : أي أحطنا بما لديه من العدد والعدد كذلك أي كعلمنا بقوم سبق ذكرهم { خبراً } 5 { ثم أتبع سبباً } 5 { قوماً } لا { قولاً } 5 { سدّاً } 5 { ردماً } 5 { الحديد } ط { انفخوا } ط { ناراً } لا لأن « قال » جواب « إذا » { قطراً } 5 ط لأن ما بعده ابتداء إخبار { نقبا } 5 { من ربي } ج لعطف الجملتين المختلفتين { دكاء } ج لذلك { حقاً } 5 ط لانقطاع القصة { جمعاً } 5 لا للعطف { عرضاً } 5 لا { سمعاً } 5 { أوليا } ط { نزلاً } 5 { أعمالاً } 5 ط للفصل بين الاستخبار والإخبار لأن التقدير هم الذين ، ويجوز أن يكون نصباً على الذم أو جراً على البدل { صنعاً } 5 { وزناً } 5 { هزواً } 5 { نزلاً } 5 { حولاً } 5 { مدداً } 5 { واحد } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { أحداً } 5 .

التفسير : ولما أجاب عن سؤالين من أسئلة اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى ، شرع في السؤال الثالث والجواب عنه . وأصح الأقوال أن ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس الرومي الذي ملك الدنيا بأسرها ، إذ لو كان غيره لانتشر خبره ولم يخف مكانه عادة . يحكى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العبرانيون والقبط والبربر ، ثم توجه نحو داراً ابن دارا وهزمه إلى أن قتله فاستولى على ممالك الفرس ، ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها . وقال الإمام فخر الدين الرازي : لما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها ، وثبت من علم التاريخ أن من هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر . قال : وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطا طاليس وكان على مذهبه . فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وصدق ذلك وذلك مما لا سبيل إليه . قلت : ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر . والسبب في تسميته بذي القرنين أنه بلغ قرني الشمس أي مطلعهما ومغربها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها . وقيل : كان له قرنان ضفيرتان . وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس . وقيل : كان لتاجه قرنان . وعن وهب أنه سمي بذلك لأنه ملك الروم وفارس . ويروى الروم والترك . وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس . وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين . وقيل : لشجاعته كما سمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه . وقيل : رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس أي بقرنيها . وزعم الفرس أن دارا الأكبر تزوّج بابنة فيلقوس ، فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها إلى أبيها وكانت قد حملت بالإسكندر فولدت الإسكندر وبقي عند فيلقوس وأظهر أنه ابنه وهو في الحقيقة دارا الأكبر . وقال أبو الريحان : إنه من ملوك حمير والدليل عليه أن الأذواء كانوا من اليمن كذي يزن وغيره . ويروى أنه ملك الدنيا بأسرها أربعة : ذو القرنين وسليمان - وهما مؤمنان - ونمرود وبختنصر - وهما كافران - واختلفوا فيه فقيل : كان عبداً صالحاً ملكه الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه .

وعن علي رضي الله عنه : سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور وأحب الله وأحبه . وسأله ابن الكواء وكان من أصحابه ما ذو القرنين أملك أم نبي؟ فقال : ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله أي في جهاده فمات ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله يعني نفسه . قالوا : وكان ذو القرنين يدعو الناس إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله . وقيل : كان نبياً لقوله تعالى : { إنا مكنا له في الأرض } والتمكين المعتد به هو النبوة ، ولقوله { وآتيناه من كل شيء سبباً } وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوّة ، ولقوله : { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب } وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي . وقيل : كان ملكاً من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلاً يقول : يا ذا القرنين : فقال : اللَّهم غفراً أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة .
قوله : { سأتلوا عليكم } أي سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى وأنزل فيه وحياً . والخطاب في { عليكم } للسائلين وهم اليهود أو قريش كأبي جهل وأضرابه { وآتيناه من كل شيء سبباً } طريقاً موصلاً إليه . والسبب في اللغة هو الحبل والمراد ههنا كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، وذلك أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً وصله إليه ، وكذلك أراد المشرق فاتبع سبباً موصلاً إليه ، وأراد بلوغ السدين فأتبع سبباً أدى إليه . ثم إنه سبحانه شرع في نعت مسيره إلى المغرب قائلاً { فأتبع سبباً } أي سلك طريقاً أفضى به إلى سفر المغرب ، ومن قرأ بقطع الهمزة فمعناه اتبع نفسه سبباً { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حامية } أي حارة ، ومن قرأ بحذف الألف مهموزاً فمعناه ذات حمأة أي طين أسود ، ولا تنافي بين القراءتين : فمن الجائز أن تكون العين جامعة للوصفين . « عن أبي ذر قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال : أتدري يا أبا ذر من أين تغرب هذه؟ قلت : الله ورسوله أعلم : قال : فإنها تغرب في عين حامية . » فقال حكماء الإسلام : قد ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كروية في وسط العالم ، وأن السماء محيطة بها من جميع الجوانب ، وأن الشمس في فلكها تدور بدوران الفلك . وأيضاً قد وضح أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض بمائة وست وستين مرة تقريباً ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ فتأويل الآية أن الشمس تشاهد هناك أعني في طرف العمارة كأنها تغيب وراء البحر الغربي في الماء كا أن راكب البحر يرى الشمس تغيب في الماء لأنه لا يرى الساحل ولهذا قال : { وجدها تغرب } ولم يخبر أنها تغرب في عين ، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية ، وأيضاً حمئة لكثرة ما في البحار من الطين الأسود .

أما قوله { ووجد عندها قوماً } فالضمير إما للشمس وإما للعين ، وذلك أن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان ذلك الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس . قال ابن جريج : هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجوب الشمس حين تجب ، كانوا كفرة بالله فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يتخذ فيهم حسناً وهو تركهم أحياء فاختار الدعوة والاجتهاد فقال { أما من ظلم } بالإصرار على الشرك { فسوف نعذبه } بالقتل في الدنيا { ثم يرد إلى ربه } في الآخرة { فيعذبه عذاباً نكراً } منكراً فظيعاً .
روى صاحب الكشاف عن قتادة أنه كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب النكر ، ومن آمن أعطاه وكساه وفيه نظر ، لأن العذاب النكر بعد أن يرد إلى ربه لا يمكن أن يكون من فعل ذي القرنين . ومن قرأ { جزاء } بالنصب أراد فله الفعلة { الحسنى } جزاء ، ومن قرأ بالرفع أراد فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كل الشهادة ، أو فله أن يجازى المثوبة الحسنى { وسنقول له من أمرنا } أي مما نأمر به الناس من الزكاة والخراج وغير ذلك { يسراً } أي قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق . ثم حكى سفره إلى أقصى الشرق قائلاً { ثم أتبع سبباً } أي هيأ أسباباً بسفر المشرق { حتى إذا بلغ مطلع الشمس } أي مكان طلوعها { وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً } عن كعب أن الستر هو الأبنية وذلك أن أرضهم لا تمسكها فليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع شعاع الشمس وتدفع حره عنهم ، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم ، وإذا غربت اشتغلوا بتحصيل المعاش ، فحالهم بالضد من أحوال سائر الخلق . وعن مجاهد أن الستر الثياب وأنهم عراة كالزنج ، وحال كل من سكن في البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك . حكى صاحب الكشاف عن بعضهم أنه قال : خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة . فبلغتهم فإذا أجدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى . وحين قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصة فغشى عليّ ثم أفقت ، فلما طلعت الشمس إذ هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم . فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم . وللمفسرين في متعلق قوله : { كذلك } وجوه أحدها : كذلك أمر ذي القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به .

الثاني : لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية أو الثياب . الثالث : بلغ مطلع الشمس مثل الذي بلغ من مغربها . الرابع : تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين ، وقد سبق بعض هذه الوجوه في الوقوف .
ثم حكى سفره إلى ناحية القطب الشمالي بعد تهيئة أسبابه قائلاً { ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين } قيل : السد إذا كان بخلق الله فهو بضم السين حتى يكون بمعنى « مفعول » أي هو مما فعله الله وخلقه ، وإذا كان ممن عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً قاله أبو عبيدة وابن الأنباري . وانتصب { بين } على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله : { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] قال الإمام فخر الدين الرازي : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال . فقيل جبلان بين أرمينية وأذربيجان ، وقيل في منقطع أرض الترك . وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً من ناحية الخزر ، فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع . وقيل : إن الواثق رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ووصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشددة بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند ، قال أبو الريحان البيرني : ومقتضى هذا الخبر أن هذا الموضع في الربع الغربي الشمالي من المعمورة والله أعلم بحقيقة الحال ، ولما بلغ الإسكندر ما بين الجبلين اللذين سد ما بينهما { وجد من دونهما } أي من ورائهما متجاوزاً عنهما قريباً { قوماً لا يكادون يفقهون } بأنفسهم أو يفقهون غيرهم قولهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم . سؤال : كيف فهم منهم ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض الخ؟ وأجيب بأن « كاد » إثبات أو لعله فهم ما في ضميرهم بالقرائن والإشارات ، أو بوحي وإلهام . وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف . وقيل : مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول ، وتأجج النار إذا تلهبت ومن أجج الريق أو موج البحر ، سمو بذلك لشدتهم وسرعة حركتهم ، وهما من ولد يافث . وقيل : يأجوج من الترك ، ومأجوج من الجيل والديلم . ومن الناس من وصفهم بصغر الجثة وقصر القامة حتى الشبر ، ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبت لهم مخالب وأضراساً كأضراس السباع . أما إفسادهم في الأرض فقيل : كانوا يقتلون الناس . وقيل : يأكلون لحومهم . وقيل : يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه { فهل نجعل لك خرجاً } وخراجاً أي جعلاً نخرجه من أموالنا ونظيرهما النول والنوال .

وقيل : الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله ، والخراج ما يجبيه السلطان من البلد كل سنة . وقال قطرب : الخرج الجزية والخراج في الأرض { قال } ذو القرنين { ما ملكني فيه ربي } أي جعلني فيه مكيناً ذا مكانة من المال واليسار { خير } مما تبذلون لي من الخراج نظيره قول سليمان { فما آتاني الله خير مما آتاكم } [ النمل : 36 ] { فأعينوني بقوة } بآلات ورجال وصناع . وقيل : بمال أصرفه في هذا المهم ولا آخذه لنفسي والردم أكبر من السد من قولهم « ثوب مردم رقاع فوق رقاع » وزبر الحديد قطعه .
قال الخليل : الزبرة من الحديد القطعة الضخمة . من قرأ { آتوني } بالمد فظاهر ، ومن قرأ { ائتوني } من الإتيان فعلى حذف باء التعدية والنصب بنزع الخافض . ثم ههنا إضمار أي فأتوه بها فوضع بعضها فوق بعض . { حتى إذ ساوى بين الصدفين } وهما على القراآت جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان { أفرغ عليه قطراً } أصب عليه النحاس المذاب { وقطراً } منصوب بأفرغ والتقدير : آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه . وهذا محمل ما يستدل به البصريون في أن المختار عند تنازع الفعلين هو إعمال الثاني إذ لو عمل الأول لقال أفرغه عليه . يحكى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً . وقيل : بعد ما بين السدين مائة فرسخ . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أخبره به فقال : كيف رأيته؟ قال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء . قال : قد والله رأيته . قال العلماء : هذا معجز من ذي القرنين صرف تأثير تلك الزبر الكثيرة إذا صارت كالنار لم يقدر الآدمي على القرب منه ، وكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين . { فما اسطاعوا أن يظهروه } أي يعلوه لارتفاعه وملاسته { وما استطاعوا له نقباً } لصلابته وثخانته لما تكرر لفظ الاستطاعة مراراً ، حذف منها التاء تخفيفاً في الموضعين وأعاد ذكرها بالآخرة تنبيهاً على الأصل ورجوعاً إلى البداية . ثم { قال } ذو القرنين { هذا } السد أو هذا الإقرار والتمكين نعمة من الله عز وجل ورحمة على عباده { فإذا جاء } أي دنا مجيء القيامة { جعله دكاً } مدكوكاً مبسوطاً مستوي بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك . ومن قرأ { دكاء } بالمد فعلى الوصف أي جعله أرضاً مستوية { وكان وعد ربي حقاً } وهذا آخر حكاية ذي القرنين .
ثم شرع سبحانه في بقية أخبارهم فقال { وتركنا بعضهم يومئذ يموجون } أي حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد .

ويروى أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة وبيت المقدس . ثم يبعث الله نغفاً وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فيدخل آذانهم فيموتون . وقيل : أراد أن قوم السد لما منعوا من الخروج ماج بعضهم في بعض خلفه . وقيل : الضمير للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا الخلق يضطربون ويختلط إنسهم وجنهم حيارى . ونفخ الصور من آيات القيامة وسيجيء وصفه . ومعنى عرض جهنم إبرازها وكشفها للذين عموا عنها في الدنيا ، وفي ذلك نوع من العقاب للكفار لما يتداخلهم من الغم والفزع { عن ذكري } أي عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم فأطلق المسبب على السبب أو عن القرآن وتأمل معانيه . وصفهم بالعمى عن الدلائل والآثار فأراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال { وكانوا لا يستطيعون سمعاً } وهو أبلغ من أن لو قال « وكانوا صماً » لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء زالت عنهم الاستطاعة بالكلية . احتجت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة مع الفعل لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا . وأجيب بأن المراد من نفي الاستطاعة النفرة والاستثقال . ثم أنفذ في التوبيخ والوعيد قائلاً { أفحسب الذين كفروا } والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله؟ وفيه إضمار تقديره أفحسبوا اتخاذ عبادي أولياء نافعاً . والعباد إما عيسى والملائكة ، وإما الشياطين الذين يطيعونهم ، وإما الأصنام أقوال . ومن قرأ بسكون السين فمعناه أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر ، أو على أنه مثل « أقائم الزيدان » يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا . قال الزجاج : النزل المأوى والمنزل . وقيل : إنه الذي يعدّ للضيف فيكون تهكماً به نحو { فبشرهم بعذاب } [ آل عمران : 21 ] أما الذين ضل سعيهم أي ضاع وبطل فعن علي رضي الله عنه أنهم الرهبان كقوله : { عاملة ناصبة } [ الغاشية : 3 ] وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن منهم أهل حروراء . وعن مجاهد : أهل الكتاب . والتحقيق أنه يندرج فيه كل ما يأتي بعمل خير لا يبتني على إيمان وإخلاص . وعن أبي سعيد الخدري : يأتي الناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئاً وذلك قوله : { فلا تقيم لهم يوم القيامة وزناً } قال القاضي : إن من غلبت معاصية طاعاته صار ما فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعاته ، وهذا مبني على الإحباط والتكفير .
وفي قوله : { فحبطت أعمالهم } إشارة إلى ذلك ، أو المراد فنزدري بهم ولا يكون له عندنا وزن ومقدار .

وقيل : لا يقام لهم ميزان لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين { ذلك } الذي ذكرناه من أنواع الوعيد { جزاؤهم } وقوله { جهنم } عطف للجزاء . والسبب فيه أنهم ضموا إلى الكفر بالله اتخاذ آيات الله واتخاذ كل رسله هزؤاً وتكذيباً ، ويجوز أن يكون كل من الأمرين سبباً مستقلاً للتعذيب ، ثم أردف الوعيد بالوعد على عادته . عن قتادة : الفردوس أوسط الجنة وأفضلها . وعن كعب : ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . وعن مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ، وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة » قال أهل السنة : جعل جنات الفردوس نزلاً فالإكرام التام يكون وراء ذلك وليس إلا الرؤية ونظيره أنه جعل جهنم بأسرها نزلاً فما وراءها هو العذاب الحقيقي وهو عذاب الحجاب { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطففين : 15 ] والحول والتحول وفيه أنه لا مزيد على نعيم الفردوس حتى تنازعهم أنفسهم إلى تلك الزيادة ، ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود أي لا تحوّل فيطلب كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر ... ولما ذكر أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص سئل عنها . نبه على كمال حال القرآن . والمداد اسم لما يمد به الشيء كالحبر والزيت للدواة والسراج ، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وفرض أن جنس البحر مداد لهما لنفد البحر قبل نفاد الكلمات ولو جئنا بمثل البحر مدداً لنفد أيضاً وهو تمييز من مثله كقولك « على التمرة مثلها زبداً » . والمدد والمداد واحد . يروى أن حيي بن أخطب قال : في كتابكم { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] ثم تقرأون { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } [ الإسراء : 85 ] فنزلت هذه الآية . يعنى أن ذلك خير كثيرة ولكنه قطرة من بحر كلمات الله . قالت الأشاعرة : إن كلام الله تعالى واحد . واعترض عليهم بهذه الآية فإنها صريحة في إثبات كلمات كثيرة لله تعالى . وأجيب بأن المراد من الكلمات متعلقات علم الله تعالى . وزعم الجبائي أن قوله : { قبل أن تنفد كلمات ربي } يدل على أن كلمات الله قد تنفد بالجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه . وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية . قلت : الإنصاف أن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدل على نفاد الشيء الآخر ولا على عدم نفاده ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا يضبطها عقول البشر . أما أنها متناهية أو غير متناهية فلا دليل في الآية على أحد النقيضين ، ولكن الحق في نفس الأمر أن كلمات الله لا تتناهى لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية بالبرهان ، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلك سبيل التواضع وهو أن حاله مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية إلا أنه امتاز بنعت الإيحاء إليه وكفى به بوناً ومباينة .

ثم بين أن الموحى هو { إنما إلهكم إله واحد } .
وفي تخصيص هذا الوحي بالذكر فائدة هي أن يستدل به على صدقه ، فإن من علامات صدق مدعي النبوة أن يدعو إلى التوحيد ، ثم أن يدعو إلى العمل الصالح المقترن بالإخلاص وذلك قوله : { فمن كان يرجو } أي يأمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه . واللقاء بمعنى الرؤية عند الأشاعرة وبمعنى لقاء الثواب أو العقاب عند المعتزلة { فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } قال المفسرون : النهي عن الإشراك بالعبادة هو أن لا يرائي بعمله ولا يبتغي به إلا وجه ربه . « يروى أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال : إن الله لا يقبل ما شورك فيه » . وروي أنه قال : لك أجران أجر السر وأجر العلانية . قال العلماء : الرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة . والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدي به . قال في الكشاف : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه . ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء » وعنه صلى الله عليه وسلم : « من قرأ عند مضجعه { قل إنما أنا بشر مثلكم } كان له من مضجعه نوراً يتلألأ إلى مكة ، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نوراً يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ » .
التأويل : لما بين للإنسان كمالاً مكنوناً وكنزاً مدفوناً يمكن له تحصيله بالتربية والإرشاد ، أراد أن يبين أن الإنسان الكامل إنما هو مستحق الخلافة في الأرض وهو ذو القرنين الذي ملك الجانبين أعني جانب عالم الأرواح وجانب عالم الأشباح ، لأنه أوتي التمكين في الأرض وأتى أسباب كل شيء في عالم الوسائط والأسباب ، فبذلك يصير كاملاً في نفسه مكملاً لغيره . { فأتبع سبباً } من أسباب الوصول إلى عالم السفلي وهو مغرب شمس الروحي الإنساني { فوجدها تغرب في عين حمئة } هي عالم القوى والطبائع والأجساد { ووجدنا عندها قوماً } قم القوى البدنية والنفوس الأرضية { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذبهم } بالقتل بسكين الرياضة وسيف المجاهدة { وإما أن تتخذ فيهم حسناً } هو الرفق والمداراة { قال أما من ظلم } بوضع خاصيته واستعمالها في غير موضعها { فسوف نعذبه } بقهره على خلاف ما هو مراده وهواه { ثم يرد إلى ربه } وهو الشيخ الكامل الذي يربيه { فيعذبه عذاباً نكراً } هو المنع عن مشتهياته ، أو يرد إلى الله تعالى فيعذبه بعذاب البعد والقطيعة .

{ وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى } هو مقام الوصول والوصال { وسنقول له من أمرنا يسراً } هو التخفيف والاستراحة بعد الفناء والمجاهدة { ثم أتبع } أسباب الوصول إلى عالم الأرواح وهو مطلع شمس النفس الناطقة الإنسانية { فوجدها تطلع على قوم } مجردين عن العلائق الجسمانية والعوائق الساترة الجسدانية { حتى إذا بلغ بين السدين } وهو عالم التعيش والتمدن والجولان في جو أسباب قوام البدن وقيامه على وجه الجسمانية إلى صلاح المعاد ونظامه { وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً } وهم العوام الذين قصارى أمرهم الجهل البسيط { إن يأجوج ومأجوج } القوى والطبائع البشرية { مفسدون في الأرض } البشرية باستعمال خواصها في غير ما خلقت هي لأجلها { فهل نجعل لك مخرجاً } هو ترك الوجود وبذلك الموجود . { فأعينوني بقوة } بهمة صارفة وعزيمة صادقة { آتوني زبر الحديد } ملكات راسخة وهيئات ثابتة أو قلوباً هن كالحديد في المضاء ، وكالجبال الراسيات في البقاء { حتى إذا ساوى } عرض ما بين طرفي العمر كما قيل من المهد إلى اللحد { قال انفخوا } بالمداومة على الأذكار والأوراد { حتى إذا جعله ناراً } بتأثير حرارة الطاعة والذكر في حديد القلب { قال آتوني أفرغ عليه قطراً } هو جوهر المحبة وكيمياء الإخلاص النافذ في سويدات القلوب بحيث لا ينفذ فيه كيد الشيطان ولا يعلوه ما سوى الرحمن الله حسبي .
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

القراآت : { كيهعص } بإمالة الهاء فقط : أبو عمرو { كهيعص } بإمالة الياء فقط : حمزة وخلف وقتيبة وابن ذكوان ، وقرأ عليّ غير قتيبة ويحيى ويحيى وحماد بإمالتهما . وقرأ أبو جعفر ونافع والخزاعي عن البزي وابن فليح بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب . الباقون بتفخيمها { صاد ذكر } مدغماً : أبو عمرو وحمزة وخلف وابن عامر وسهل { من ورائي } بفتح الياء مهموزاً : ابن كثر غير زمعة والخزاعي عن ا لبزي وقرأ زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي { من وراي } مثل { عصاي } { يرثني ويرث } بالجزم فيهما : أبو عمرو وعليّ . الباقون برفعهما { يبشرك } ثلاثياً وكذلك في آخر السورة : حمزة { عتباً } و { جثياً } و { صلياً } و { بكياً } بكسر الأوائل : حمزة وعلي وافق حفص إلا في { بكياً } الخزاز عن هبيرة { عتباً } الأولى بالكسر والثاني بالضم . { وقد خلقناك } حمزة وعلي . الآخرون { خلقتك } على التوحيد { إلى آية } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن أهل مكة .
الوقوف : { كهيعص } 5 كوفى { زكريا } 5 ح لجواز تعلق « إذ » ب { ذكر رحمة ربك } ولاحتمال انتصابه بأذكر محذوفاً . { خفياً } 5 { شقياً } ه { ولياء } لا { آل يعقوب } ق والوجوه الوصل لعطف الجملتين المتفقتين { يحيى } لا لأن ما بعده صفة غلام والاستئناف ليس بقوي . { سمياً } 5 { عتياً } 5 { كذلك } 5 بناء على أن التقدير الأمر كذلك { شيئاً } 5 { آية } ط { سوياً } 5 { وعشياً } 5 { بقوة } ط { صبياً } 5 لا للعطف أي آتيناه الحكم وحناناً منا عليه { وزكاة } ط { تقياً } 5 { عصياً } 5 { حياً } 5 .
التفسير : حروف المعجم في الوقف ثنائية وثلاثية ، وقد جرت عادة العرب بإمالة الثنائيات وبتفخيم الثلاثيات ، وفي الزاي اعتيد الأمران لأنه قد يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق فيصير ثنائياً ، ولا ريب أن التفخيم أصل والإمالة فرع عليه . فمن قرأ بإمالة الهاء والياء معاً فعلى العادة ، ومن قرأ بتفخيمهما جميعاً فعلى الأصل ومن قرأ بإمالة إحداهما فلرعاية الجانبين . وقد روى صاحب الكشاف عن الحسن أنه قرأ بضمهما فقيل : لأنه تصور أن عين الكلمة فيهما واو فنبه بالضم على أصلها . والبحث عن هذه الفواتح قد سلف في أول البقرة ، ومما يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس أن قوله { كهيعص } ثناء من الله تعالى على نفسه ، فالكاف كاف لأمور عباده ، والهاء هاد والعين عالم أو عزيز ، والصاد صادق . وعنه أيضاً أنه حمل الكاف على الكريم أو الكبير ، والياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى . وعن الربيع بن أنس أن الياء من مجير ، وهذا التفسير لا يخلو من تحكم إلا أن يسند إلى الوحي أو الإلهام ، وارتفع { ذكر رحمة } على الخبر أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة { ربك } وانتصب { عبده } على أنه مفعول لذكر و { زكريا } عطف بيان ، وقرىء برفعهما على إضافة المصدر إلى المفعول ، وعن الكلبي أنه قرأ { ذكر } بلفظ الماضي مشدداً تارة و { رحمة } و { عبده } منصوبان على المفعولية ، والفاعل ضمير المتلو .

ومخففاً أخرى و { عبده } مرفوع على الفاعلية . وقرىء { ذكر } على الأمر وهي قراءة ابن معمر . وقيل : يحتمل على هذا أن تكون الرحمة عبارة عن زكريا لأن كل نبي رحمة لأمته ، ويجوز أن يكون رحمة لنبينا صل الله عليه وسلم ولأمته لأن طريقه في الإخلاص والابتهال يصلح لأن يقتدى به وكان ذكره رحمة لنا ولنبينا . وفي خفاء ندائه . وجوه منها : أن الإخفاء أبعد عن الرياء وأدخل في الخشية ولهذا فسره الحسن بأنه نداء لا رياء فيه . ومنها أنه أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته . ومنها أنه أسره من مواليه الذين خافهم . ومنها أنه خفت صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ « صوته خفات وسمعه تارات » ولعله أتى بأقصى ما يقدر عليه من الصوت ومع ذلك كان خفياً لنهاية كبره . ثم شرع في حكاية ندائه قائلاً : { قال رب إني وهن العظم مني } إلى قوله : { واجعله رب رضياً } قال علماء المعاني : في الآية لطائف وذلك أصل الكلام : يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس ، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي ، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه ، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني ، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار : إني وهنت العظام من بدني ، لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاماً واهنة عندك ، فإذا قلت : « من بدني » فقد فصلت ، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام ، ثم لطلب شمول العظام فرداً فرداً قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل { إني وهن العظم مني } فحصل أني وهنت العظام مني . وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى . وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي . وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب الرأسي ، ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل { اشتعل } بدل « انتشر » فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب ، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي « اشتعل رأسي شيباً » .

وكونها أبلغ من وجهات منها : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت : « اشتعل بيتي ناراً » مكان « اشتعل النار في بيتي » . ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز ، ومنها تنكير { شيباً } للتعظيم كما هو حق التمييز . ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي « اشتعل الرأس مني شيباً » لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو { وهن العظم مني } ثم ترك لفظ « مني » ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ . وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال « رب » بحذف حرف النداء وياء المتكلم يناسب الاختصار في آخره . وإنما أطنب في هذا المقام لأن هذه الآية كالعلم فيما بين علماء المعاني .
ثم إنه توسل إلى الله عز وجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلاً { ولم أكن بدعائك رب شقياً } كما حكى أن محتاجاً قال لكريم : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل إلينا وقضى حاجته . تقول العرب : سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها ، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها . ومعنى { بدعائك } أي بدعائي إياك . واعلم أن زكريا عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة : الأول كونه ضعيفاً ، والثاني أنه تعالى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين وذلك قوله { وإني خفت الموالي } قال ابن عباس والحسن : أي الورثة . وعن مجاهد العصبة . وعن أبي صالح : الكلالة . وعن الأصم : بني العم وهم الذين يلونه في النسب . وعن أبي مسلم : المولى يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من تقدم في ميراثة كالولد . والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين ، وكان من عاداتهم أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب كان متعيناً للحبورة . وقوله : { من ورائي } أي بعد موتي لا يتعلق ب { خفت } لأن الخوف بعد الموت محال ولكن بمحذوف أي الموالي الذين يخلفون من بعدي ، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت ولايتهم وسوى خلافتهم بعدي ، فإن زكريا انضم له مع النبوّة الملك فخاف بعده على أحدهما أو عليهما . وسبب الخوف القرائن والأمارات التي ظهرت له من صفائح أحوالهم وأخلاقهم . وإنما قال : { خفت } بلفظ الماضي لأنه قصد به الإخبار عن تقادم الخوف ، ثم استغنى بدلالة الحال كمسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال .

وقرىء { خفت الموالي } بتشديد الفاء . وعلى هذا فمعنى ورائي خلفي وبعدي أي قلوا وعجزوا عن أمر الدين والإقامة بوظائفه ، والظرف متعلق بالموالي ، أو معناه قدامي والظرف متعلق ب { خفت } أي درجوا ولم يبق من يعتضد به . ثم صرح بالمسألة قائلاً : { فهب لي } وأكده بقوله : { من لدنك } أي ولياً صادراً من عندك مضافاً إلى اختراعك بلا سبب لأني وامرأتي لا تصلح للولادة . من قرأ { يرثني ويرث } بالجزم فيهما فهو جواب الدعاء ، ومن قرأ برفعهما فالأكثرون ومنهم جار الله قالوا : إنه صفة . وقال صاحب المفتاح : الأولى حمله على الاستئناف كأنه قيل : لم تطلب الولد؟ فقال مجيباً : يرثني أي لأنه يرثني لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا . واعترض بأن حمله على الاستئناف يوجب الإخبار عما لم يقع ، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم . أمنع من كونه غير مستجاب الدعوة . وأجيب بأن عدم ترتب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب . وأقول : الاعتراض باق لأن المعنى يؤل إلى قولنا « هب لي ولياً موصوفاً بالوراثة » أو بأن الغرض منه الوراثة ، أوهب لي ولياً أخبر عنه بأنه يرثني . وعلى التقادير يلزم عدم الاستجابة أو الكذب . والحق في الجواب هو ما سلف لنا في قصة زكريا من سورة آل عمران ، أن النبي لا يطلب في الدعاء إلا الأصلح حتى لو كان الأصلح غير ما طلبه فصرفه الله تعالى عنه كان المصروف إليه هو بالحقيقة مطلوبه . ويمكن أن يقال : لعل الوراثة قد تحققت من يحيى وإن قتل قبل زكريا ، وذلك بأن يكون قد تلقى منه كتاب أو شرع هو المقصود من وجود يحيى وبقى ذلك الكتاب أو الشرع معمولاً به بعد زكريا أيضاً إلى حين . وقد روى صاحب الكشاف ههنا قراآت شاذة لا فائدة كثيرة في تعدادها إلى قوله عن علي وجماعة وأرث من آل يعقوب أي يرثني به وارث ويسمى التجريد في علم البيان . فقيل : هو أن تجرد الكلام عن ذكر الأول حتى تقول « جاءني فلان فجاءني رجل » لا تريد به إلا الأول ، ولذلك تذكر اسمه في الجملة الثانية ، وتجرد الكلام عنه . وأقول : يشبه أن يكون معنى التجريد هو أنك تجرده عن جميع الأوصاف المنافية للرجولية . وكذا في الآية كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها .
واختلف المفسرون في أنه طلب ولداً يرثه أو طلب من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره؟ والأول أظهر لقوله في آل عمران { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] ولقوله في سورة الأنبياء { ربي لا تذرني فرداً } [ الأنبياء : 89 ] حجة المخالف أنه لما بشر بالولد استعظم وقال { أنى يكون لي غلام } ولو كان دعاؤه لأجل الولد ما استعظم ذلك .

والجواب ما مر في آل عمران . واختلفوا أيضاً في الوراثة فعن ابن عباس والحسن والضحاك : هي وراثة المال . وعنهم أيضاً أن المراد يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة أو بالعكس . وفي رواية أبي صالح أن المراد في الموضعين النبوّة . فلفظ الإرث مستعمل في المال { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } [ الأحزاب : 17 ] وفي العلم { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب } [ غافر : 53 ] « العلماء ورثة الأنبياء » وحجة الأولين ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « رحم الله زكريا وما عليه من يرثه » فإن ظاهره يدل على أنه أراد بالوراثة المال . وكذا قوله صلى الله عليه وسلم « أنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة » ، وأيضاً العلم والنبوة كيف يحصل بالميراث ولو كان المراد إرث النبوّة إلى قوله : { واجعله رب رضياً } لأن النبي لا يكون إلا مرضياً . وأجيب بأنه إذا كان المعلوم من حال الابن أنه يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين جاز أن يقال ورثه . والمراد يكون رضياً أن لا يوجد منه معصية ولا همّ بها كما جاء في حق يحيى ، وقج مر الحديث هناك . ولا يلزم من هذا أن يكون يحيى مفضلاً على غيره من الأنبياء كلهم فلعل لبعضهم فضائل أخر تختص به . احتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال ، وأجابت المعتزلة بأنه يفعل به ضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً عنده ، وزيف بأن ارتكاب المجاز على خلاف الأصل ، وبأن فعل الألطاف واجب على الله فطلب ذلك بالدعاء والتضرع عبث . واعلم أن أكثر المفسرين على أن يعقوب المذكور في الآية هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم لأن زوجة زكريا كانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهودا بن بعقوب ، وأما زكريا فقد كان من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى ولد لاوى بن يعقوب بن إسحق ، وكانت النبوّة في سبط وهو إسرائيل عليه السلام . وزعم بعض المفسرين أن المراد هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وهذا قول الكلبي ومقاتل . وعن مقاتل : أن بني ماثان كانوا رؤوس بني إسرائيل وملوكها .
قوله : { يا زكريا } الكثرون على أنه نداء من الله تعالى لقرينة التخاطب من قوله : { رب إني وهو العظم مني } إلى قوله : { رب أنى يكون لي غلام } ومنهم من قال : هو نداء الملك لقوله في آل عمران { فنادته الملائكة } [ الآية : 49 ] وجوز بعضهم الأمرين . واختلفوا في عدم السمي فقيل : أراد أن لم يسم أحد بيحيى قبله . وقيل : أراد أنه لا نظير له كقوله { هل تعلم له سمياً } [ مريم : 65 ] وذلك أنه سيداً وحصوراً ولم يعص ولم يهم بمعصية فكأنه جواب لقوله : { واجعله رب رضياً } وأيضاً سمي بيحيى قبل دخوله في الوجود ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر فلا نظير له في هذه الخواص .

قال بعض العلماء : القول الأول أظهر لما في الثاني من العدول عن الظاهر ولا يصار إليه لضرورة كما في قوله : { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } [ مريم : 65 ] لأنا نعلم أن مجرد كونه تعالى لا سميّ له لا يقتضي عبادته فنقول : السميّ هناك يراد به المثل والنظير . ويمكن أن يقال : إن التفرد بالاسم فيه ضرب من التعظيم فلا ضرورة في الآية أيضاً . قال جار الله : إنما قيل للمثل سميّ لأن كل متشاكلين يسمى كل منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير ، فكل واحد منهما سمي . قلت : ويقرب هذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم . ولم سمي بيحيى؟ تكلفوا له وجوهاً . فعن ابن عباس لأنه تعالى أحيا عقر أمه . وعن قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] { إذا دعاكم لما يحييكم } [ الأنفال : 24 ] . ولهذا كان من أول من آمن بعيسى . وقيل : لأنه استشهد والشهداء أحياء . وقيل : لأن الدين أحيى به لأن زكريا سأله لأجل الدين . قوله : { وقد بلغت من الكبر } قال جار الله : أي من أجل الكبر والطعن في السن العالية ف « من » للتعليل ، ويجوز أن تكون للابتداء أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى { عتياً } وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام . يقال : عنا العود عتياً إذا غيره طول الزمان إلى حالة اليبس .
سؤال : إنه قال في آل عمران { وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } [ آل عمران : 40 ] فلم عكس الترتيب في هذه السورة؟ وأجيب بأن الواو لا تفيد الترتيب . قلت : إن ذاك ورد على الأصل وهو تقديم نقص نفسه وههنا راعى الفاصلة . { قال } الأمر { كذلك } تصديقاً له . ثم ابتدأ قائلاً { قال ربك } فمحل { كذلك } رفع ، ويحتمل أن يكون نصباً { قال } وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله : { هو } أي خلق الغلام { عليّ هين } ويحتمل أن يكون إشارة إلى قول زكريا { أنى يكون لي غلام } أي كيف تعطيني الغلام أبأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة؟ فأجيب بقوله : { كذلك } أي نهب الولد لك مع بقائك وبقاء زوجتك على حالتكما . ولفظ الهين مجاز عن كمال القدرة وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع عن المراد { ولم تك شيئاً } لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئاً بعتد به كالنطفة ، أو كالجواهر التي لم تتألف بعد ، فيه نفس استبعاد زكريا ، لأن خلق الذات ثم تغييرها في أطوار الصفات ليس أهون من تبديل الصفات وهو أحداث القوة المولدة في زكريا وصاحبته بعد أن لم تكن { قال رب اجعل لي آية } قد مر تفسير الآية في أول عمران . قوله : { سوياً } قيل : إنه صفة لليالي أي تامة كاملة . والأكثرون على أنه صفة زكريا أي وأنت سليم الحواس مستوى الخلق ما بك خرس ولا عيّ { فخرج على قومه من المحراب } قيل : كان له موضع ينفرد فيه للصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه .

وقيل : كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه . { فأوحى إليهم } عن مجاهد : أشار بدليل قوله في أول آل عمران { إلا رمزاً } وعن ابن عباس : كتب لهم على الأرض . و { أن } هي المفسرة و { سبحوا } أي صلوا أو على الظاهر وهو قول سبحان الله . عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشيّ صلاة العصر ، فلعلهم كانوا يصلون معه هاتين الصلاتين في محرابه ، وكان يخرج إليهم ويأذن لهم بلسانه ، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته ففهمهم المقصود بالإشارة أو الكتابة . وههنا إضمار والمراد فبلغ يحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فقلنا له : { يا يحيى خذ الكتاب } أي التوراة لأنها المعهود حينئذ ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن كقول عيسى { إني عبد الله آتاني الكتاب } [ مريم : 30 ] والمراد بالأخذ إما الأخذ من حيث الحس ، وإما الأخذ من حيث المعنى وهو القيام بمواجبه كما ينبغي وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهى عنه . ثم أكده بقوله : { بقوة } أي بجد وعزيمة . { وآتيناه الحكم } أي الحكمة . عن ابن عباس : هو فهم التوراة والفقه في الدين ولذلك لما دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي قال : ما للعب خلقت . وعن معمر : العقل . وقيل : النبوة . وكل هذه الأوصاف على الأقول من الخوارق كما حق عيسى فلا استبعاد إلا من حيث العادة . والحنان أصله توقان النفس ، ثم استعمل في الرحمة وهو المراد ههنا . وما قيل إنه يحتمل أن يراد حناناً منا على زكريا أو على أمة يحيى لا يساعده وجود الواو . وقيل : أراد آتيناه الحكم والحنان على عبادنا كقوله في نبينا { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] وأراد بقوله : { وزكاة } أنه مع الإشفاق عليهم كان لا يخل بإقامة ما يجب عليهم لأن الرأفة واللين ربما تورث ترك الواجب ولهذا قال : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } [ النور : 2 ] ولا يخفى أنه يساعد هذا القول وجود لفظة { من لدنا } وعن عطاء : أن معنى حناناً تعظيماً من لدنا . وعن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج : أن معنى زكاة عملاً صالحاً زكياً . وقيل : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكى الشهود . وقيل : بركة كقول عيسى { جعلني مباركاً } وقيل : صدقة أي ينعطف على الناس ويتصدق عليهم .
ثم أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن جملة أحواله بقوله : { وكان تقياً } بحيث لم يعص الله ولا هم بمعصية قط { وبرّاً بوالديه } لأن تعظيم الوالدين تلو تعظيم الله { ولم يكن جباراً عصياً } وذلك أن الزاهد في الدنيا قلما يخلو عن طلب ترفع والرغبة في احترام ، فذكر أنه مع غاية زهده كان موصوفاً بالتواضع للخلق وتحقيق العبودية للحق .

قال سفيان : الجبار الذي يقتل عند الغضب دليله قوله : { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض } [ القصص : 19 ] ثم إنه سبحانه سلم عليه في ثلاثة مواطن هي أوحش المواطن وأحوجها إلى طلب السلامة فيها ، ويحتمل أن يكون هذا السلام من الملائكة عليه إلا أنه لما كان بإذن الله كان كلام الله ، وقيل : إنما قال : { حياً } مع أن المبعوث هو المعاد إلى حال الحياة تنبيهاً على كونه من الشهداء وهم أحياء إلا أنه يشكل بما يجيء في قصة عيسى { ويوم أبعث حياً } [ مريم : 33 ] وذلك أنه ورد في الأخبار أن عيسى سيموت بعد النزول . والظاهر أنه أراد ويوم يجعل حياً فوضع الأخص موضع الأعم تأكيداً . قيل : السلام عليه يوم ولد لا بد أن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه عمل يجزى عليه ، وأما الآخران فيجوز أن يكونا لأجل الثواب . قلت : أكثر أموره خارق للعادة ، فيحتمل أن يوجد منه في بطن أمه عمل يستحق الثواب كما يحكى أن أمه قالت لمريم وهما حاملان : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك .
التأويل : إن زكريا الروح { نادى ربه نداء خفياً } من سر السر { قال رب إني وهن } مني عظم الروحانية واشتعل شيب صفات البشرية ، وإني خفت صفات النفس أن تغلب { وكانت امرأتي } يعني الجثة التي هي روح الروح { عاقراً } لا تلد إلا بموهبة من الله { فهب لي من لدنك } سأل { ولياً } فأعطاه الله نبياً وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني فإنه ولد الروح والنفس أعدى عدوه { يرثني ويرث من آل يعقوب } أي يتصف بصفة الروح وجميع الصفات الروحانية { واجعله رب رضياً } بأن توطنه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] { اسمه يحيى } إن الله أحياه بنوره { ولم نجعل له من قبل سمياً } لا من الحيوانات ولا من الملائكة لأنه هو الذي يقبل فيض الألوهية بلا واسطة ، وهو سر حمل الأمانة كما قال : « ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن » { وقد بلغت من الكبر } أي بسبب طول زمان تعلق القلب بالقالب { عتياً } يبساً وجفافاً من غلبات صفات النفس { آيتك أن لا تكلم الناس } لا تخاطب إلا الله ولا تلتفت إلى ما سواه { ثلاث ليال } هي ثلاث مراتب الجماديات والحيوانيات والروحانيات { سوياً } متمكناً في هذا الحال من غير تلون { فخرج } زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته ، فأشار إليهم أن كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد { يا يحيى } القلب { خذ } كتاب الفيض الإلهي المكتوب لك في الأزل { بقوة } ربانية لا بقوة جسدانية لأنه خلق ضعيفاً { وآتيناه الحكم } في صباه إذ خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره { زكاة } وتطهراً من الالتفات إلى غيرنا { وبراً بوالديه } الروح والقالب .

أما البروح فلأن القلب محل قبول الفيض الإلهي لأن الفيض نصيب الروح أوّلاً ولكن لا يمسكه لغاية لطافته كما أن الهواء الصافي لا يقبل الضوء وينفذ فيه ، وأما القلب ففيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه ، وهذا أحد أسرار حمل الأمانة . وأما بر والدة القلب فهو استعمالها على وفق الشريعة والطريقة { ولم يكن جباراً عصياً } كالنفس الأمارة بالسوء { وسلام عليه يوم يولد } في أصل خلقه { ويوم يموت } من استعمال المعاصي بالتوبة { ويوم يبعث حياً } بالتربية والترقي إلى مقام السلامة الله حسبي .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

القراآت : { إني أعوذ } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { ليهب لك } على الغيبة : أبو عمرو ويعقوب وورش والحلواني عن قالون وحمزة في الوقف . الآخرون { لأهب } على التكلم { نسياً } بفتح النون : حمزة وحفص . الباقون بكسرها . { من تحتها } بكسر الميم على أنه حرف جر وبجر التاء الثانية : أبو جعفر ونافع وسهل وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقونه بفتحهما على أن « من » موصولة والظرف صلتها { تساقط } بحذف تاء التفاعل : علي وحمزة والخزاز عن هبيرة . { تساقط } من المفاعلة : حفص غير الخزاز { يساقط } بياء الغيبة ، وعلى أن الضمير للجذع وبإدغام التاء في السين : سهل ويعقوب ونصير وحماد . الباقون مثله ولكن بتاء التأنيث على أن الضمير للنخلة { آتاني الكتاب } ممالة مفتوحة الياء : عليّ . وقرأ حمزة مرسلة الياء مفخمة في الوصل ممالة في الوقف . { وأوصاني } بالإمالة : علي { قول الحق } بالنصب : ابن عامر وعاصم ويعقوب . { وإن الله } بكسر الهمزة : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وروح والمعدل عن زيد .
الوقوف : { مريم } لا ليصير « إذ » ظرفاً لأذكر { شرقياً } لا للعطف { زكياً } 5 { بغياً } 5 { كذلك } ط لما مر { هين } ج لجواز كون الواو مقحمة أو معلقة بمحذوف كما يجيء { منا } ج لاختلاف الجملتين { مقضياً } 5 { قصياً } 5 { النخلة } ج لترتب الماضي من غير عاطف والأولى أن يكون استئنافاً { منسياً } 5 { سرياً } 5 { جنياً } 5 ز { عيناً } 5 ج للشرط مع الفاء { أحداً } لا لأن ما بعده جواب الشرط { نسياً } 5 ج للعطف مع الآية { تحمله } ط { فرياً } 5 { بغياً } 5 ج { إليه } ج { صبياً } 5 { عبد الله } ط لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة . ويمكن أن يجعل معنى التحقيق في « إن » عاملاً فيكون حالاً فلا يوقف { أينما كنت } ص لطول الكلام { حياً } ص 5 لذلك والوصل أولى لأن قوله { وبراً } معطوف على قوله { مباركاً } . { بوالدتي } ج لتبدل الكلام من الإثبات إلى النفي { شقياً } ، { حياً } 5 ، { عيسى ابن مريم } ج على القراءتين لاحتمال أن يراد أقول قول الحق وأن يجعل حالاً ، وأما في قراءة الرفع فإما أن يكون بدلاً من عيسى أو يكون التقدير هو قول الحق { يمترون } 5 ، { من ولد } 5 استعجالاً للتنزيه { سبحانه } ط { فيكون } 5 ط لمن قرأ { وأن } بالكسر { فاعبدوه } ط { مستقيم } ، 5 { من بينهم } ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء { عظيم } 5 { وأبصر } لا لأن ما بعده ظرف للتعجب { مبين } 5 وسمعت عن مشايخي رحمهم الله أن الوقف على قوله { قضى الأمر } لازم لا أقل من المطلوب لأن ما بعده جملة مستأنفة ولو وصل لأوهم أن يكون حالاً من القضاء وليس كذلك { لا يؤمنون } ، 5 { يرجعون } 5 .

التفسير : هذا شروع في ابتداء خلق عيسى ولا ريب أن خلق الولد بين شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب ، فلهذا أخرت قصة عيسى عن قصة يحيى ترقياً من باب التفهم من الأدنى إلى الأعلى . وقوله « إذ » بدل الاشتمال من مريم لأن الأزمان مشتملة على ما فيها ، وفي هذا الإبدال تفخيم لشأن الوقت كوقوع قصتها العجيبة فيه . والانتباه « افتعال » من النبذ الطرح كأنها ألقت نفسها إلى جانب معتزلة عن الناس في مكان يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها . قال ابن عباس : من ههنا اتخذت النصارى المشرق قبلة { فاتخذت من دونهم حجاباً } لا بد لهذا الاحتجاب من غرض صحيح فمن المفسرين من قال : إنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود ، فلما طهرت جاء جبريل عليه السلام ، وقيل : طلبت الخلوة لأجل العبادة . وقيل : في مشربة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو شيء يسترها . وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها بابها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها ، فانفجر السقف لها فخرجت وجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك وذلك قوله : { فأرسلنا إليها روحنا } يعني جبرائيل لأن الدين يحيا به وبوحيه ، والإضافة للتشريف والتسمية مجاز كما تقول لمن تحبه إنه روحي { فتمثل لها } حال كونه { بشراً سوياً } تام الخلق أو حسن الصورة . وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، وتدرع الروحاني كجبريل مثلاُ تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالصغير غير مستبعد ، والذين اعتقدوا أن جبرائيل جسماني جوزوا أن يكون له أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة ، فبتلك الأجزاء الأصلية يكون متمكناً من التشبه بصورة الإنسان ، ولندرة أمثال هذه الأمور لا يلزم منها قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس . فلا يلزم الشك في أن زيداً الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس . قوله : { إن كنت تقياً } أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وترجع بالاستعاذة به فإني عائذة به منك . وقيل : إنه كان في ذلك العصر إنسان فاجر اسمه تقي وكان يتتبع النساء فظننت أن ذلك المتمثل هو ذلك الشخص فاستعاذت بالله . وقيل : « إن » نافية أي ما كنت تقياً حين استحللت النظر إلي وخلوت بي . وحين علم جبريل خوفها { قال إنما أنا رسول ربك } أرسلني { لأهب لك } أو ليهب لك { غلاماً زكياً } طاهراً من الذنوب ينمو على النزاهة والعفة . وكيف زال خوفها بمجرد القيل؟ احتمل أن يكون قد ظهر لها معجزة من جهة زكريا أو إرهاصاً لعيسى أو إلهاماً من الله سبحانه .

وهل تقدر الملائكة على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والنطق حتى صح قول جبرائيل { لأهب لك } ؟ قال : اجتمعت الأمة على أن لا قدرة للأجسام على إيجاد الجواهر وإعدامها وإلا فلا استبعاد في تأثير بعض الأجسام في بعضها الخاصية خصها الله بها . ووجه صحة هذه القراءة أن جبرائيل صار سبباً في الهبة بالنفخ في الدرع .
{ قالت } استغراباً من حيث العادة لا تشكيكاً في قدرة الله { أنى يكون لي غلام } ولم تقل ههنا « رب » إما لأنها تخاطب جبرائيل ، وإما اكتفاء بما سلف في آل عمران { ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } هي الفاجرة التي تبغي الرجال . عن المبرد أن أصله يغوى على « فعول » قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة . وعن ابن جنى أنه « فعيل » وإلا لقيل بغو كنهو عن المنكر خصصت بعدما عممت لزيادة الاعتبار بهذا الخزي تبرئة لساحتها عن الفحشاء . ولما جرى في أول القصة من تمثل جبرائيل لها بصورة البشر حتى ظنت أنه يريدها بسوء فاستعاذت بالرحمن منه بخلاف هذه القصة في آل عمران . فإنها بنيت على الأمن والبشارة بقوله : { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك } [ آل عمران : 45 ] فلم تحتج إلى هذه الزيادة . وقال جار الله : المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه في قوله : { من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] { أو لمستم النساء } [ النساء : 43 ] وإنما يقال في الزنا « فجر بها » و « خبث بها » ونحو ذلك ولا يليق به الكنايات والآداب . قلت لو سلم هذا من حيث اللغة إلا أنه لا بد لزيادة قوله : { ولم أك بغياً } في هذا المقام من فائدة وقد عرفت ما سنح لنا والله أعلم . { قال كذا قال ربك هو عليّ هين } تفسيره كما مر في قصة زكريا { ولنجعله } أي ولنجعل الغلام أو خلقه { آية للناس } يستدل بها على كمال اقتدارنا على إبداع الغرائب فعلنا ذلك ، ويجوز أن يكون معطوفاً على تعليل مضمر يتعلق بما يدل عليه { هين } أي تخلقه لنبين به قدرتنا { ولنجعله آية } وقد مر مثل هذا في قوله : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه } [ يوسف : 21 ] { ورحمة منا } على عبادنا لأن كل نبي رحمة لأمته فبه يهدون إلى صلاح الدارين { وكان أمراً مقضياً } مقدراً في اللوح أو أمراً حقيقاً بأن يقضي به لكونه آية ورحمة ، وهذا مبني على أن رعاية الأصلح واجبة على الله . وههنا إضمار قال ابن عباس : فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت . وقيل : في ذيلها فوصلت إلى الفرج . وقيل : في فمها . وقيل : إن النافخ هو الله كقوله { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] وعلى هذا يقع تقديم ذكر جبرائيل كالضائع ولا سيما في قراءة من قرأ { لأهب لك } قيل : حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة .

وقيل : بنت عشرين وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل . وكم مدة حملها؟ عن ابن عباس في رواية تسعة أشهر كما في سائر النساء لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب أن يذكرها الله تعالى في أثناء مدائحها . وقيل : ثمانية أشهر ولم يعش مولود لثمانية إلا عيسى . قال أهل التنجيم : إنما لا يعيش لأنه يعود إلى تربية القمر وهو مغير معفن بسرعة حركته وغلبة التبريد والترطيب عليه . وعن عطاء وأبي العالية والضحاك : سبعة أشهر . وقيل : ستة أشهر . وقيل : حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها . وعن ابن عباس في رواية أخرى : كما حملته نبذته لقوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله } إلى قوله : { كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] ولفاآت التعقيب في قوله : { فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً فأجاءها المخاض } وعلى هذا فالمكان القصي هو أقصى الدار أو وراء الجبل بعيداً من أهلها . ومعنى انتبذت به اعتزلت متلبسة به وهو في بطنها . وقصى مبالغة قاص . وروى الثعلبي عن وهب قال : إن مريم لما حملت فأول من عرف هو يوسف النجار ابن عمها و كانت سميت له ، وكانا يخدمان المسجد ولا يعلم من أهل زمانهما أكثر عبادة وصلاحاً منهما . فقال لها : إنه وقع في نفسي من أمرك شيء ولا أحب أن أكتمه عنك . فقالت : قل قولاً جميلاً . فقال : أخبريني يا مريم هل نبت زرع بغير بذر؟ قالت : نعم . ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر! أو تقول : إن الله لا يقدر على الإنبات حتى يستعين بالماء ، ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى! فقال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول : إن الله قادر على ما يشاء ، وزالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لضيق قلبها واستيلاء الضعف عليها من الحمل . فحين دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، فلما بلغت تلك الدار أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة . قال جار الله : منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . لا يقال : جئت المكان وأجاءنيه زيد كما يقال بلغته وأبلغنيه ، ونظيره « آتى » حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم يقل « أتيت المكان وآتانيه فلان » . قلت : حاصله تخصيص باء التعدية بعد تعميم و { المخاض } بفتح الميم وجع الولادة . قال الجوهري : مخضت الناقة بالكسر مخاضاً مثل سمع سماعاً . قيل : طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة .

يروى أنه كان جذعاً لنخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة خضرة ، وكان الوقت شتاء والتعريف إما كتعريف النجم والصعق لكون ذلك الجذع مشهوراً هناك ، وإما للجنس أي جذع هذه الشجرة خاصة أرشدت إليها لتطعم منها الرطب الذي هو خرسة النفساء أي طعامها الموافق لها ، ولأن النخلة أقل الأشياء صبراً على البرد ولا تثمر إلا باللقاح فكان ظهور ذلك الرطب من ذلك الجذع في الشتاء من دون لقاح وإبار دليلاً على حصول الولد من غير ذكر قال في الكشاف : النسي اسم ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها ، ونظير الذبح لما من شأنه أن يذبح . وعن يونس : أن العرب إذا ارتحلوا قالوا : انظروا أنساءكم يعنون العصا والقدح والشظاظ ونحوها . تمنت لو كانت شيئاً يعبأ به فحقه أن ينسى في العادة .
ومعنى { منسياً } أنه قد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه . وإنما تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء والخجل ، أو لأنهم بهتوا وهي عارفة ببراءة ساحتها فشق ذلك عليها ، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها . ومن قرأ { نسياً } بالفتح فقد قال الفراء : هما لغتان كالوتر والوتر . ويجوز أن يكون تسمية بالمصدر كالحمل . وقرىء { نسأ } بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته ونزارته { فناداها من تحتها } الذي هو تحتها أو إنسان تحتها يعني جبريل بناء على أنه كان يقبل الولد كالقابلة ، أو أراد أسفل من مكانها لأن مريم كانت أقرب إلى الشجرة منه ، أو كان جبريل تحت الأكمة وهي فوقها فصاح بها لا تحزني . وعن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد به عيسى لأن ذكر عيسى أقرب ، ولأن موضع اللوث لا يليق بالملك ، ولأن الصلة يجب أن تكون معلومة للسامع والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو الولد ويجري القولان فيمن قرأ بكسر الميم . وعن عكرمة وقتادة أن الضمير في تحتها للنخلة . قوله : { سرياً } جمهور المفسرين على أن السريّ هو الجدول . وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم سمي بذلك لأن الماء يسري فيه . وقيل : هو من السر ومعناه سخاء في مروءة : ويقال : فلان من سروات قومه أي من أشرافهم . وجمع السري سراة وجمع سراة سروات . عن الحسن : كان والله عبداً سرياً حجة هذا القائل أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يمكن أن يقال : المراد أن النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } [ الزخرف : 51 ] لأنه خلاف الظاهر . وأجيب بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق . وكل من كان أبعد منه كان تحت . وأراد أن النهر تحت الأكمة وهي فوقها . وأيضاً حمل السري على النهر موافق قوله :

{ واويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } [ المؤمنون : 50 ] وقوله : { فكلي واشربي } يروى أن جبريل ضرب برجله فظهر ماء عذب . وقيل : كان هناك ماء جار ، والأول أقرب لأن قوله { قد جعل ربك } مشعر بالأحداث في ذلك الوقت . قال القفال : الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة . وقال قطرب : كل خشبة في أصل شجرة هي جذع ، والباء في قوله : { بجذع النخلة } كالزائد لأن العرب تقول هزة وهز به والمعنى حركي جذع النخلة أو افعلي الهز به . و { رطباً } تمييز ومفعول تساقط على حسب القراآت اللازمة والمتعدية . وعن الأخفش المراد جواز انتصابه ب { هزي } أي هزي إليك رطباً جنياً بجذع النخلة أي على جذعها . والجني المأخوذ طرياً . والظاهر أنه ما أثمر إلا الرطب وقد صار نخلاً . وقيل : إنه كان على حاله وإنه أثمر مع الرطب غيره . قالوا : إذا عسر ولادة المرأة لم يكن لها خير من الرطب ، والتمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك . والمراد أنه جمع لها فائدتان في السري والرطب : إحداهما الأكل والشرب وقدم الأكل مع أن ذكر السري مقدم لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال من الدماء ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزين لزكريا أو إرهاصاً لعيسى أو كرامتين لمريم وأشار إلى هذه بقوله : { وقري عيناً } لأن قرّة العين تلزم قوة القلب والتسلي من الهموم والأحزان .
وقيل : إن ألم النفس أشد من ألم البدن ، فلم قدم دفع ألم البدن على دفع ألم القلب؟ وأجيب بأن الخوف النفسي كان قليلاً لتقدم بشارة جبريل فكان التذكر كافياً { فإما ترين } أصله ترأيين مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت نون الإعراب للجزم ثم ياء الضمير للساكنين وذلك بعد لحوق نون التأكيد وقد مر في قوله : { وما يبلغن عندك الكبر } [ الإسراء : 23 ] إذاً لتأكيد هذه الصورة يقصد به أن الشرط مما سيقع غالباً فإن مريم لا بد أن ترى أحداً من البشر عادة . عن أنس بن مالك : الصوم هنا الصمت . وعن ابن عباس مثله . وقال أبو عبيدة : كان ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم . وقيل : أراد الصيام إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم . قال القفال : لعل مثل هذا النذر يجوز في شرعنا لأن الاحتراز عن كلام البشر يجرد الفكر لذكر الله تعالى وهو قربة ، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق والتشديد ولا حرج في الإسلام . وفي الكشاف : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت . وروي أنه دخل أبو بكر الصديق على امرأة وقد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي . وفي أمرها بهذا النذر معنيان : أحدهما أن كلام عيسى أقوى في إزالة التهمة وفيه أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى ، والثاني أن السكوت عن جدال السفهاء أصون للعرض ومن أذل الناس سفيه لم يجد مشافهاً .

وكيف أخبرتهم بالنذر؟ قيل : بالإشارة وإلا لزم النقض . وقيل : خص هذا الكلام بالقرينة العقلية . وقوله : { إنسياً } أراد المبالغة في نفي الكلام أو أراد أني أكلم الملائكة دون الإنس وهذا أشبه بقوله : { فإما ترين من البشر } . { فأتت به } أي بعيسى { قومها تحمله } الجملة حال . عن وهب : قال أنساها كربة الميلاد وما سمعت من الناس ما كان من بشارة الملائكة ، فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته فأقبلت به إلى قومها . وعن ابن عباس : أن يوسف النجار انتهى بمريم إلى غار فلبثوا فيه أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه . فلما دخلت به على قومها تباركوا وقالوا : { لقد جئت شيئاً فرياً } بديعاً من فرى الجلد ، وليس في هذا ما يوجب تعييراً أو ذماً لأن أمرها كان خارجاً عن المعتاد ، ويحتمل أن يراد إنه أمر منكر خارج عن طريق العفة والصلاح فيكون توبيخاً ويؤكده قولهم : { يأخت هرون } الآية .
واختلفوا في هارون فقيل : كان أخاها من أبيها من أمثل بين إسرائيل وهذا أظهر لأن حمل اللفظ على الحقيقة أولى من غيره . وقيل : يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم عنوا هارون النبي أخا موسى عليهما السلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة وبينهما ألف سنة وأكثر . وعن السدي : كانت من أولاده والمراد أنها واحدة منهم كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم . وقيل : أرادوا رجلاً صالحاً في زمانها أي كنت عندنا مثله في الصلاح . ويحكى أنه تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون تبركاً به وباسمه . وقيل : كان رجلاً طالحاً معلناً بالفسق فسموها به وبالتشبيه بسيرته . ويروى أنهم هموا برجمها { فأشارت إليه } أي أن عيسى هو الذي يحكم . وبم عرفت ذلك؟ إما بأن كلمها في الطريق أو بالإلهام أو بالوحي إلى زكريا أبو بقول جبريل على أن أمرها بالسكوت بعد ما سبق من البشارة قيل : كان المستنطق لعيسى زكريا . وعن السدي . لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناهم ثم { قالوا كيف نكلم من كان في المهد } قال جار الله : « كان » لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماضٍ مبهم يصلح للقريب والبعيد ، وههنا للزمان القريب عن الحال بدلالة الحال ، أو هو حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس { صبياً } في المهد حتى تكلم هذا ، ويحتمل أن يقال : « كان » زائدة نظراً إلى أصل المعنى وإن كان يفيد زيادة ارتباط مع رعاية الفاصلة ، أو هي تامة { صبياً } حال مؤكدة .

ويرى أنه كان يرضع فلما سمع مقالتهم ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وتكلم مع جاره وأشار بسبابته قائلا : { إني عبد الله } فكان فيه أوّلاً رد قول النصارى : { آتاني الكتاب } هو الإنجيل والتوراة أي فهمها . وقيل : أكلم الله عقله واستنبأه طفلاً بل في بطن أمه . وقيل : أراد أنه سبق في قضائه ، أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد والأول أظهر وصغر الجسم لا مدح في كمال العقل وخرق العادة فيه أكذا قالوا إن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة . فيكون المعجز متقدماً على التحدي وهو غير جائز ولو كان نبياً في ذلك الوقت وجب أن يشتغل ببيان الشرائع والأحكام ولو وقع ذلك لاشتهر ونقل . والجواب أن بعض معجزات النبي لا بد أن يكون مقروناً بالتحدي ، أما الكل فممنوع ، وبعبارة أخرى لا بد أن يكون مقروناً بفعل خارق عن العادة ، ولكن كل فعل خارق للعادة فإنه لا يلزم اقترانه بالتحدي ، وكذا الكلام في بيان الشرائع فإن بعض أوقات النبي لا بد أن يقترن به التحدي دون كل أوقاته وحالاته ، على أنه أشار إلى بعض التكاليف بقوله : { وأوصاني بالصلاة والزكاة } كما يجيء . وعن بعضهم أنه كان نبياً لقوله : { وجعلني نبياً } ولكنه ما كان رسولاً لأنه ما جاء بالشريعة في ذلك الوقت ومعنى كونه نبياً أنه رفيع القدر عليّ الدرجة ، وضعف بأن النبي في عرف الشرع أخص من ذلك . ومعنى قوله : { مباركاً أينما كنت } نفاعاً حيثما كنت روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل معلماً للخير ، وضلال كثير من أهل الكتاب باختلافهم فيه لا يقدح في منصبه كما قيل :
عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر
وهذه سنة الله في أنبيائه ورسله كلهم { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً } [ الفرقان : 31 ] يروى أن مريم سلمت عيسى إلى المكتب فقالت للمعلم . أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له : اكتب . فقال له : أي شيء أكتب؟ فقال : اكتب « أبجد » فقال : لا أكتب شيئاً لا أدري . ثم قال : إن لم تعلم ما هو فأنا أعلمك . الألف من آلاء الله ، والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله ، والدال من أداء الحق إلى الله . وقيل : البركة أصلها من بروك البعير والمعنى جعلني ثابتاً في دين الله مستقراً فيه . وقيل : البركة هي الزيادة والعلو فكأنه قال : جعلني في جميع الأشياء غالباً منجحاً إلى أن يكرمني الله بالرفع إلى السماء عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص فقالت : طوبى لبطن حملتك وثدي أرضعت به . فقال عيسى عليه السلام مجيباً لها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يك جباراً شقياً .

{ وأوصاني بالصلاة والزكاة } أي بأدائهما إما في وقتهما المعين وهو وقت البلوغ ، وإما في الحال بناء على أنه كان مع صغره كامل العقل تام التركيب بحيث يقوى على أداء التكاليف ويؤيده قوله { ما دمت حياً } وقيل : الزكاة ههنا صدقة الفطر . وقيل : تطهير البدن البدن من دنس الآثام . وقيل : أوصاني بأن آمركم بهما . وفي قوله : { وبراً بوالدتي } دلالة وإشارة إلى تبرئة أمه من الزنا وإلا لم يكن الرسول المعصوم مأموراً بالبر بها . قال بعض العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا قوله : { وبراً بوالدتي } { ولم يجعلني جباراً شقياً } ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالاً فخوراً . وقرأ { وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } [ النساء : 36 ] وإنما نفى عن عيسى الشقاوة ولم ينف عنه المعصية كما نفى عن يحيى لما جاء في الخبر « ما أحد من بني آدم إلا أذنب أو هم بذنب إلا يحيى بن زكريا » ومن عقائد أهل السنة أن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر . قوله : { والسلام عليّ } قالت العلماء : إنما عرف السلام ههنا بعد تنكيره في قصة يحيى لأن النكرة إذا تكررت تعرفت على أن تعريف الجنس قريب من تنكيره . وقيل : إن الأول من الله والقليل عنه كثير .
قليل منك يكفيني ... قليلك لا يقال له قليل
وإني لأرضى منك يا هند بالذي ... لو أبصره الواشي لفرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
والثاني من عيسى والكثير منه لا يبلغ معشار سلام الله . عن بعضهم أن عيسى عليه السلام قال ليحيى : أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي . وأجاب الحسن بأن تسليمه على نفسه هو تسليم الله عليه . وقال جار الله : في هذا التعريف تعريض باللعنة على متهمي مريم وأعدائها من اليهود لأنه إذا زعم أن جنس السلام خاصته فقد عرض بأن ضده عليهم نظيره في قصة موسى { والسلام على من اتبع الهدى } [ طه : 47 ] يعني أن العذاب على من كذب وتولى . يروى أنه كلمهم بهذه الكلمات ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان . وعن اليهود والنصارى أنهم أنكروا تكلم عيسى في المهد قائلين إن هذه الواقعة مما يتوفر الدواعي على نقلها ، فلو وجدت لاشتهرت وتواترت مع شدة غلو النصارى فيه وفي مناقبه . وأيضاً إن اليهود مع شدة عداوتهم له لو سمعوا كلامه في المهد بالغوا في قتله ودفعه في طفوليته . وأجاب المسلمون من حيث العقل بأنه لولا كلامه الذي دلهم على براءتها من الذي قذفوها به لأقاموا عليها الحد ولم يتركوها ، ولعل حاضري يشتغلوا وقتئذ بدفعه والله أعلم . { ذلك } الموصوف بالصفات المذكورة من قوله : { إني عبد الله } إلى آخره هو { عيسى ابن مريم } وفي كونه ابن لهذه المرأة نفى كونه ابناً على ما زعمت الضالة وأكد هذا المعنى بقوله : { قول الحق } فإن كان الحق هو اسم الله فهو كقوله : « كلمة الله » وانتصابه على المدح ، وإن كان بمعنى الثابت والصدق فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة كقولك « هو عبد الله الحق » و { قول الحق } من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل

{ حق اليقين } [ الواقعة : 95 ] قد مر آنفاً . وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف . ومعنى { تمترون } تشكون من المرية الشك ، أو المراد يتمارون من المراء اللجاج وذلك أن اليهود قالوا : ساحر كذاب ، وقالت النصارى ابن الله وثالث ثلاثة .
ثم صرح ببطلان معتقدم فقال : { ما كان الله } ما صح له وما استقام { أن يتخذ من ولده } كما لا يستقيم أن يكون له شريك ، وقد مر مثل هذه الآية في سورة البقرة . والذي نزيده ههنا أن بعضهم قال : معنى الآية ما كان لله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمته تعالى . وزعم الجبائي بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأن قوله : { ما كان لله أن يتخذ من ولد } كقولنا « ما كان لله أن يظلم » فلا يليق شيء منها بحكمته وكمال إلهيته . وأجيب بأن الكذب على الله محال ، والظلم تصرف في ملك الغير فلا يتصوّر في حقه . فإن أردتم هذا المعنى فلا نزاع ، وإن أردتم شيئاً آخر فما الدليل على استحالته؟! احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم كلام الله لأن قوله : { كن } إن كان قديماً فهو المطلوب ، وإن كان محدثاً احتاج في حدوثه إلى قوله آخر وتسلسل . واستدلت المعتزلة بها على حدوث كلامه قالوا : إن قوله : { إذا قضى } للاستقبال وذلك القول متأخر عن القضاء المحدث ، والمتأخر عن المحدث محدث . وأيضاً الفاء في { فيكون } للتعقيب والقول متقدم عليه بلا فصل ، والمتقدم على المحدث بزمان قليل محدث ، وكلا الاستدلالين ضعيف لأنه لا نزاع في حدوث الحروف وإنما النزاع في كلام النفس . وأيضاً قوله : { كن } عبارة عن نفاذ قدرته ومشيئته وإلا فليس ثم قول لأن الخطاب مع المعدوم عبث ومع الموجود تحصيل الحاصل . ومن الناس من زعم أن المراد من قوله : { كن } هو صفة التكوين فإنها زائدة على صفة القدرة لأنه قادر على عوالم أخر سوى هذا وغير مكون لها ، ولعل هذا الزاعم سمى تعلق القدرة بالمقدور تكويناً . ومن قرأ { وأن الله } بالفتح فمعناه ولأن الله { ربي وربكم فاعبدون } وفيه أن الربوبية هي سبب العبادة فمن لم تصح ربوبيته لم يستحق أن يعبد ، ولا رب بالحقيقة إلا الله لانتهاء جميع الوسائط والأسباب إليه ، فلا يستحق العبادة إلا هو .

وههنا نكنة هي أن الله تعالى لا يصح أن يقول : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } فالتقدير قل : يا محمد بعد إظهار البراهين الباهرة على أن عيسى عبد الله { إن الله ربي وربكم } قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه من تتمة كلام عيسى وما بينهما اعتراض . وعن وهب بن منبه : عهد إليهم حين أخبرهم عن حاله وصفته أن كلنا عبيد الله تعالى { فاختلف الأحزاب من بينهم } أي من بين أهل الكتاب . قال الكلبي : هم اليهود والنصارى . وقيل : النصارى اختلفوا ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى علماء زمانهم وهم يعقوب ونسطور وملكا فقيل للأول : ما تقول في عيسى؟ فقال : هو الله هبط إلى الأرض فخلق وأحيا ثم صعد إلى السماء فتبعه على ذلك خلق كثير وهم اليعقوبية . وسئل الثاني فقال : هو ابن الله فتابعه جم غفير وهم النسطورية ، وسئل الثالث فقال : كذبوا وإنما كان عبداً مخلوقاً نبياً يطعم وينام فصارا خصمه وهو المؤمن المسلم . وقيل : كانوا أربعة والرابع اسمه إسرائيل فقال : هو إله وأمه إله والثلاثة أقانيم والروح واحد . واعلم أن بحث الحلول والاتحاد فيه طول وقد ينجر الكلام فيه إلى مقامات يصعب الترقي إليها ، فلذلك ضل فيه من ضل وزل عنه من زل والله سبحانه أعلى من جميع ذلك وأجل { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } أي من شهودهم هذا الجزاء والحساب في ذلك اليوم ، أو من زمان شهودهم ، أو من مكان شهودهم فيه وهو الموقف . ويحتمل أن يكون المشهد ومن الشهادة أي من يشهد عليهم الملائكة والأنبياء أو جوارحهم فيه بالكفر والقبائح ، أو من مكان الشهادة أو وقتها . وقيل : هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم ولادته . ومعنى « من » التعليل أي الويل لهم من أجل المشهد وبسببه قال أهل البرهان : إنما قال ههنا { فويل للذين كفروا } وفي حم الزخرف { فويل للذين ظلموا } [ الآية : 65 ] لأن الكفر أبلغ من الظلم ، وقصة عيسى في هذه السورة مشروحة وفيها ذكر نسبتهم إياه إلى الله حتى قال : { ما كان لله أن يتخذ من ولد } فذكر بلفظ الكفر ، وقصتهم في الزخرف مهملة فوصفهم بلفظ دونه وهوالظلم . قلت : ويحتمل أن يقال : الظلم إذا أريد به الشرك كان أخص من الكفر فعمم أولاً ثم خصص لأن البيان بالمقام الثاني أليق { أسمع بهم وأبصر } صيغتان للتعجب والمراد أن هاتين الحاستين منهم جديران بتعجب منهما في ذلك اليوم بعد ما كانوا صماً وعمياً في الدنيا ، وذلك لكشف الغطاء ولحاق العيان بالخبر . والتعجب استعظام الشيء بسبب عظمه ، ثم جوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير سبب . قال سفيان : قرأت عند شريح { بل عجبت ويسخرون } [ الصافات : 12 ] فقال : إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم .

فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال : إن شريحاً شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه . والمعنى أنه صدر من الله فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم . وقيل : معنى الآية التهدد بما سيسمعون وسيبصرون مما يسوءهم . وقيل : أراد أسمع بهؤلاء وأبصر أي عرفهم مآل القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم . وقال الجبائي أن يراد أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم ليعتبروا بسوء عاقبتهم والوجه هو الأول يؤيده قوله : { لكن الظالمون } أي لكنهم فوضع المظهر موضع المضمر . { اليوم } وهو يوم التكليف { في ضلال مبين } حيث أغفلوا النظر والاستماع وتركوا الجد والاجتهاد في تحصيل الزاد للمعاد وهو { يوم الحسرة } لتحسر أهل النار فيه . وقيل : أهل الجنة أيضاً إذا رأى الأدنى مقام الأعلى ، والأول أصح لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة لأنها دار السرور . و { إذ } بدل من يوم الحسرة أو منصوص بالحسرة . ومعنى { قضي الأمر } فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه فقال : « يؤتى بالموت فيذبح كما يذبح الكبش والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم » قال أرباب المعقول : إن الموت عرض فلا يمكن أن يصير حيواناً فالمراد أنه لا موت بعد ذلك . عن الحسن { وهم في غفلة } متعلق بقوله : { في ضلال مبين } وقوله : { وأنذرهم } اعتراض . ويحتمل أن يتعلق ب { أنذرهم } أي أنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين . ويحتمل أن يكون « إذ » ظرفاً ل { أنذر } أي أنذرهم حين قضي الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب . ثم أخبر عنهم أنهم في غفلة { وهم لا يؤمنون } ثم قرر بقوله : { إنا نحن نرث } أن أمور الدنيا كلها تزول وأن الخلق كلهم يرجعون إلى حيث لا يملك الحكم إلا الله وفيه من التخويف والإنذار ما فيه .
التأويل : { واذكر في الكتاب } الأزلي { مريم } القلب { إذا انتبذت من أهلها } تفردت من أهل الدنيا متوجهاً إلى جانب شروق النور الإلهي { فاتخذت من دونهم } حجاب الخلوة والعزلة { فأرسلنا إليها روحنا } وهو نور الإلهام الرباني والخاطر الرحماني كقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] { فتمثل لها بشراً سوياً } كما تمثل روح التوحيد بحروف « لا إله إلا الله » لانتفاع الخلق به . و { قالت إني أعوذ بالرحمن منك } ظناً منها أنه يشغلها عن الله . { قال إنما أنا رسول } الوارد الرباني { لأهب لك غلاماً زكياً } طاهراً عن لوث الظلمة الأنسية وهو النفس المطمئنة القدسية . { ولم يمسسني بشر } خاطر من عالم البشرية { ولم أك بغياً } أطلب غير ما خلقت لأجله وهو التوجه إلى عالم الروح المجرد { فحملته } بالقوة القريبة من الفعل { فانتبذت به مكاناً قصياً } لافتقاره إلى العبور على منازل الشريعة والطريقة { فأجاءها } مخاض الطلب والتعب { إلى جذع النخلة } وهي كلمة « لا إله إلا الله » التي كان أصلها ثابتاً في أرض نفسها { قالت يا ليتني مت قبل هذا } قال بعض أهل التحقيق : هذه كلمة يذكرها الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم .

قال عليّ عليه السلام يوم الجمل : يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة . وعن بلال : ليت بلالاً لم تلده أمه . وقيل : إن مريم قالت ذلك لعلمها بأن الله تعالى يدخل النار خلقاً كثيراً بسبب تهمتها وبسبب الغلو والتقصير في حق ابنها قلت : إن مريم القلب قالت يا ليتني مت عن اللذات الجمسية قبل هذا الوقت الذي فزت باللذات الحقيقية وكنت نسياً منسياً ، لإإن الخمول راحة والشهرة آفة { فناداها } بلسان الحال من تحت تصرفها من آلات القوى { أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك } أي تحت تصرفك { سرياً } هو الغلام الموعود أو جدول الكشوف والعلوم الدينية { وهزي إليك بجذع النخلة } بالمداومة على الذكر { تساقط عليك رطباً جنياً } من المشاهدات والمكاشفات حالاً فحالاً { فكلي واشربي } من خوان الأفضال وبحر النوال من مادته « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { وقري عينا } بأنوار الجمال في حجرة الوصال { فأما ترين } من السوانح البشرية { أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } كما قيل الدنيا يوم ولنا فيه صوم أي الالتفات لغير الله . { فأتت به قومها } من عادة الجهال إنكار أحوال أهل الكمال . { يا أخت هرون } النفس المطمئنة أو الأمارة بناء على أن هارون كان صالحاً أو طالحاً { وكان أبوك } وهو الروح المفارق { إمرأ سوء وما كانت أمك } وهي القالب { بغياً } تستأنس إلى غير عالم الطبيعة التي خلقت لأجلها { فأشارت إليه } فيه أن هذا القوم هم أهل الإشارات { في المهد } مهد السر وذلك المتولد من نفخ الروح في مريم القالب ليس ابناً لله ولا محلاً له ولا نفسه . { فاختلف الأحزاب } فقوم عبدوا الله لأجله ، وقوم عبدوه طمعاً في جنته ، وقوم عبدوا الهوى وذلك قوله : { فويل للذين كفروا } { أسمع بهم } أي بأهل الله { وأبصر يوم يأتوننا } فإنهم بالله يسمعون وبه يبصرون .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

القراآت : { ربي إنه } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { مخلصاً } بفتح اللام : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل . الباقون بكسرها . { إبراهام } وما بعده : هشام والأخفش عن ابن ذكوان { إذا ابتلي } بالياء التحتانية وكذلك في سورة الحج : قتيبة { نورث } بالتشديد : رويس .
الوقوف : { إبراهيم } ط { نبياً } 5 { شيئاً } 5 { سوياً } 5 { لا تعبد الشيطان } ط { عصياً } 5 { ولياً } 5 { يا إبراهيم } ط ج وقد يوصل ويوقف على { آلهتي } . { ملياً } 5 { سلام عليك } ج للابتداء بسين الاستقبال مع أن القائل واحد { لك ربي } ط { حفياً } 5 { وأدعو ربي } ز لانقطاع النظم والوصل أولى لأن عسى لطمع الإجابة بالدعاء { شقياً } 5 { من دون الله } لا لأن ما بعده جواب لما { ويعقوب } ط { نبياً } 5 { نبياً } 5 { علياً } 5 { موسى } ز للأبتداء بأن مع أن المراد بالذكر إخلاص موسى { نبياً } 5 { نجياً } 5 { نبياً } 5 { إسماعيل } ز لما مر { نبياً } 5 ج للآية مع العطف { والزكاة } ط { مرضيا } 5 { إدريس } ز { نبياً } 5 { علياً } 5 { مع نوح } ز على تقدير ومن ذريته إبراهيم وما بعده قوم إذا تتلى عليهم ، وكذا وجه من وقف على { ذرية آدم } أو على { إسرائيل } والأصح أن الكل عطف على ذرية آدم والوقف على قوله : { واجتبينا } لئلا يحتاج إلى الحذف وليرجع ثناء السجود والبكاء إلى الكل { وبكيا } 5 { عياً } 5 { شيئاً } 5 لا بناء على أن { جنات } بدل من { الجنة } 5 { بالغيب } ط { مأتيا } 5 { سلاماً } 5 { وعشياً } 5 { تقياً } 5 { بأمر ربك } ج لاختلاف الجملتين { ذلك } ج لأن قوله : { وما كان } معطوف على { نتنزل } مع وقوع العارض { نسياً } ج 5 ، لأن ما بعده بدل أو خبر مبتدأ محذوف { لعبادته } ط { سمياً } 5 .
التفسير : إن الذين أثبتوا معبوداً سوى الله منهم من أثبت معبوداً حياً عاقلاً كالنصارى ، ومنهم من عبد معبوداً جماداً كعبدة الأوثان ، وكلا الفريقين ضال إلا أن الفريق الثاني أضل . وحين بين ضلال الفريق الأول شرع في بيان ضلال الفريق الثاني تدرجاً من الأسهل إلى الأصعب . وإنما بدأ بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان أبا العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه وكمال دينه فكأنه قال لهم : إن كنتم مقلدين فقلدوه في ترك عبدة الأوثان وعبادتها ، وإن كنتم مستدلين فانظروا في الدلائل التي ذكرها على أبيه . والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله : { واتل عليهم نبأ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] وإلا فهو سبحانه هو الذي يذكره في تنزيله . وقوله : { إذ قال } بدل من { إبراهيم } وما بينهما اعتراض ، ولمكان هذا الاعتراض صار الوقف على { إبراهيم } مطلقاً . وجوز في الكشاف أن يتعلق « إذ » ب { كان } أو ب { صديقاً نبياً } أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات .

والصديق من أبنية المبالغة فهي إما مبالغة صادق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ، وإما مبالغة مصدق وذلك لكثرة تصديقه الحق وهذا أيضاً بالحقيقة يعود إلى الأول ، لأن مصدق الحق لا يعتبر تصديقه . إلا إذا كان صادقاً جداً في أقواله مصدقاً لجميع من تقدم من الأنبياء والكتب ، وكان نبياً في نفسه رفيع القدر عند الله وعند الناس بحيث جعل واسطة بينه وبين عباده . وقيل : إن « كان » بمعنى « صار » والأصح أنه بمعنى الثبوت والاستمرار أي إنه لم يزل موصوفاً بالصدق والنبوة في الأوقات الممكن له ذلك فيها . والتاء في { يا أبت } عوض من ياء الإضافة وقد مر في أول سورة يوسف . أورد على أبيه الدلائل والنصائح وصدر كلاً منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلب أبيه وامتثالاً لأمر ربه على ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أوحى الله إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه من جواري » فقوله : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر « منسيّ المفعول لا منويه فإن الغرض نفي الفعلين على الإطلاق دون التقييد . و » ما « موصولة أو موصوفة أي الذي لا يسمع أو معبوداً لا يسمع و { شيئاً } مفعول به من قوله : » أغن عني وجهك « أي ادفعه . ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي شيئاً من الإغناء ، وعلى هذا يجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين أي لا يسمع شيئاً من السماع إلى آخره . وحاصل الدليل أن العبادة غاية الخضوع فلا يستحقها إلا أشرف الموجودات لا أخسها وهو الجماد غاية عذرهم عن تلك هي أنها تماثيل أشياء يتصوّر نفها أو ضرها كالكواكب وغيرها فيقال لهم : أليس الكواكب وسائر الممكنات تنتهي في الاحتياج إلى واجب الوجود؟ فإذا جعل شيء من هذه الأشياء معبوداً فقد شورك الممكن والواجب في نهاية التعظيم وهذا مما ينبو عنه الطبع السليم ، ورفع الوسائط من البين أدخل في الإخلاص وأقرب إلى الخلاص . وقوله : { يا أبت أني قد جاءني } تنبيه ونصيحة وفيه أن هذا العلم تجدد له حصوله فيكون أقرب إلى التصديق . وفي قوله : { من العلم ما لم يأتك } فائدة هي أنه لم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم ليست معك فلا تستنكف ، وهب أنا في مفازة وعندي معرفة بالدلالة دونك { فاتبعني أهدك صراطاً سوياً } مستوياً مؤدّياً إلى المقصود وهو صلاح المعاش والمعاد .

استدل أرباب التعليم بالآية بأنه لا بد من الاتباع . وأجيب بأنه لا يلزم من اتباع النبي اتباع غيره . والإنصاف أن هذه الطريق أسهل .
ثم أكد المعنى المذكور بنصيحة أخرى زاجرة عما هو عليه فقال : { يا أبت لا تعبد الشيطان } أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي طاعة الشيطان . ثم أسقط حصة نفسه إذ لم يقل إن الشيطان عدوّ لبني آدم بل قدّم حق ربه فقال : { إن الشيطان كان للرحمن عصياً } حين ترك أمره بالسجود عناداً واستكباراً لا نسياناً وخطأ ، نبهه بهذه النصيحة على وجود الرحمن ثم على وجود الشيطان ، وأن الرحمن مصدر كل خير ، والشيطان مظهر كل شر بدلالة الموضوع اللغوي ، وهذا القدر كافٍ من التنبيه لمن تأمل وأنصف . ثم بين الباعث على هذه النصحية فقال : { يا أبت إني أخاف } وفيه مع التخويف من سواء العاقبة أنواع من الأدب إذ ذكر الخوف والمس ونكر العذاب . قال الفراء : معنى أخاف أعلم . والأكثرون على أنه محمول على ظاهره لأن إبراهيم عليه السلام لم يكن جازماً بموت أبيه على الكفر وإلا لم يشتغل بنصحه . والخوف على الغير ظن وصول الضرر إلى ذلك الغير مع تألم قلبه من ذلك كما يقال : أنا خائف على ولدي . وذكروا في الولي وجوهاً منها : أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع اشيطان في النار والمعية سبب الولاية أو مسببها غالباً ، وإطلاق أحدهما على الآخر مجاز . وليس هناك ولاية حقيقة لقوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ } [ الزخرف : 67 ] { إني كفرت بما أشركتمون من قبل } [ إبراهيم : 22 ] ومنها أن حمل العذاب على الخذلان ومنها أن الولي بمعنى التالي والتابع قال جار الله : جعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أتباعه وأوليائه أكبر من نفس العذاب ، لأن ولاية الشيطان في مقابلة رضا الرحمن وقال عز من قائل : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] وإذا كان رضوان الله أكبر من نعيم الجنة فولاية الشيطان أعظم من عذاب النار . ثم إن الشيخ قبل ملاطفات إبراهيم بالفظاظة والغلظة قائلاً { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } فقدم الخبر على المبتدأ إشعاراً بأنه عنده أعنى . وفي هذا الاستفهام ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته . وفي قوله : { يا إبراهيم } دون أن يقول : « يا بني » في مقابلة { يا أبت } تهاون به كيف لا وقد صرح بالإهانة قائلاً { لئن لم تنته لأرجمنك } باللسان أي لأشتمنك أو باليد أي لأقتلنك وأصله الرمي بالرجام . ثم ههنا إضمار أي فاحذرني { واهجرني ملياً } أي زماناً طويلاً من الملاوة ، أو أراد ملياً بالذهاب والهجران . مطيقاً له قوياً عليه قبل أن أثخنك بالضرب .
فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على التمرد والجهالة { قال سلام عليك } يعني سلام توديع ومتاركة كقوله : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] وفيه أن متاركة المنصوح إذا ظهر منه آثار اللجاج من سنن المرسلين ، ويحتمل أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ورفقاً به بدليل قوله : { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيّاً } بليغاً في البر والإلطاف وقد مر ي آخر « الأعراف » .

احتج بالآية بعض من طعن في عصمة الأنبياء قال : إنه استغفر لأبيه الكافر وهو منهي عنه لقوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] الآية . ولقوله في الممتحنة { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } [ الممتحنة : 4 ] إلى قوله : { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } [ الممتحنة : 4 ] فلو لم يكن هذا معصية لم يمنع من التأسي به . والجواب لعل إبراهيم عليه السلام في شرعه لم يجد ما يدل على القطع بتعذيب الكافر أو لعل بهذا الفعل منه من باب ترك الأولى ، أو لعل الاستغفار بمعنى الاستبطاء كقوله : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] والمعنى سأسأل ربي أن يخزيك بكفرك ما دمت حياً . والجواب في الحقيقة ما مر في آخر سورة التوبة في قوله عز من قائل { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } [ التوبة : 114 ] والمنع من التأسي لا يدل على المعصية ، فلعل الاستغفار مع ذلك الشرط كان من خصائصه كما أن كثيراً من الأمور كانت مباحة للرسول الله صلى الله عليه وسلم هي محرمة علينا . ثم صرح بما تضمنه السلام من التوديع والهجران فقال : { وأعتزلكم } أي أهاجر إلى الشام { و } أعتزل { ما تدعون } أي ما تعبدون { من دون الله } وقد يعبر بالدعاء عن العبادة لأنه منها ومن وسائطها ، يدل على هذا التفسير قوله : { فلما أعتزلهم وما يعبدون } أما قوله : { وأدعو ربي } فيحتمل معنيين : العبادة والدعاء كما يجيء في سورة الشعراء . وفي قوله : { عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً } تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم وعبادتها مع التواضع وهضم النفس المستفاد من لفظ { عسى } .
قال العلماء : ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم لما ترك أباه الكافر وقومه فراراً بدينه عوّضه الله أولاداً مؤمنين أنبياء وذلك قوله : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً ووهبنا لهم } شيئاً { من رحمتنا } عن الحسن : هي النبوة . وعن الكلبي : المال والولد . والأظهر أنها عامة في ذلك كل خير ديني ودنيوي ولسان الصدق والثناء الحسن ، عبر باللسان عما يوجد به كما عبر باليد عما يطلق بها وهو العطية وقد مر تحقيق الإضافة في أول يونس في قوله : { قدم صدق } [ يونس : 2 ] تبرأ إبراهيم من أبيه ابتغاء مرضاة الله فسماه الله أبا بالمؤمنين { ملة أبيكم إبراهيم } [ الحج : 78 ] ، وتل ولده للجبين ففداه الله بذبح عظيم ، وأسلم نفسه لرب العالمين فجعل النار عليه برداً وسلاماً ، وأشفق على هذه الأمة فقال وابعث فيهم رسولاً ، فأشركه الله في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس ، ووفى في حق سارة كما قال تعالى :

{ وإبراهيم الذي وفى } [ النجم : 37 ] فجعل موطىء قدمه مباركاً { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ البقرة : 125 ] وعادى كل الخلق في الله حين قال { فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 77 ] فلا جرم اتخذه الله خليلاً . ثم قفى قصة إبراهيم بقصة موسى عليه السلام لأنه تلوه في الشرف . والمخلص بكسر اللام الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء وأخلص وجهه لله ، وبالفتح الذي أخلصه الله و { كان رسولاً نبياً } الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب ، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه { برب هرون وموسى } [ طه : 7 ] { الأيمن } من اليمين أي من ناحية اليمنى من موسى أو هو من اليمن صفة للطور أو للجانب { وقربناه } حال كونه { نجياً } أي مناجياً شبه تكليمه إياه من غير واسطة ملك بتقريب بعض الملوك واحداً من ندمائه للمناجاة والمسارة . وعن أبي العالية أن التقريب حسي ، قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة والأول أظهر ، ومنه قولهم للعبادة « تقرب » وللملائكة « أنهم مقربون » . { ووهبنا له من رحمتنا } أي من أجلها أي بعض رحمتنا فيكون { أخاه } بدلاً و { هرون } عطف بيان كقولك « رأيت رجلاً أخاك زيداً » . و { نبياً } حال من هارون . قال ابن عباس : كان هارون أكبر من موسى فتنصرف الهبة إلى معاضدته وموازرته . وذلك بدعاء موسى في قوله : { واجعل لي وزيراً من أهلي } [ طه : 29 ] وخص إسماعيل بن إبراهيم بصدق الوعد وإن كان الأنبياء كلهم صادقين فيما بينهم وبين الله أو الناس ، لأنه المشهور المتواصف من خصاله من ذلك : أنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به . وعن ابن عباس أنه وعد صاحباً له أن ينتظره فانتظره سنة . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس . وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاده إلى أي وقت ينتظره؟ فقال : إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى . وكان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لغيرهم ولأن الابتداء بالإحسان الديني والدنيوي بمن هو أقرب أولى { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] « بدأ من تعول » ويحسن أن يقال : أهله أمته كلهم أقارب أو أباعد من حيث إنه يلزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة من قضاء حقوق النصيحة والشفقة ورعاية مصالحهم الدينية والدنيوية . وعلى القولين يندرج في الصلاة الصلوات المفروضة والمندوبة كصلاة التهجد وغيرها ، وأما الزكاة فالأقرب أنها الصدقة المفروضة . وعن ابن عباس أنها طاعة الله والإخلاص لأن فاعلها يزكو بها عند الله .

وأما إدريس فالأصح أنه اسم عجمي بدليل منع الصرف كما مر مراراً في آدم ويعقوب وغيرهما . وقيل : « افعيل » من الدرس لكثرة دراسته كتاب الله ، ولعل معناه بالأعجمية قريب من الدراسة فظنه القائل مشتقاً منها .
وفي رفعته أقوال منها : أن المكان العليّ شرف النبوة والزلفى عند الله ، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة ، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب ، وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود ، واسمه أخنوخ من أجداد نوح لأنه نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وأهل التنجيم بعضهم يسمونه هرمس ولهم نوادر في استخراج طوالع المواليد ينسبونه إليه . وقيل : إن الله تعالى رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت . وقال آخرون : رفع إلى السماء وقبض روحه . عن ابن عباس أنه سأل كعباً عن قوله : { ورفعناه مكاناً علياً } قال : جاء خليل من الملائكة فسأله أن يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه ، فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به ، فلما كان في السماء الرابعة إذ بملك الموت يقول : بعثت لأقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول : كيف ذلك وهو في الأرض؟ فالتفت إدريس فرأى ملك الموت فقبض روحه هناك . وعن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة . وعن الحسن : المراد أنه رفع إلى الجنة ولا شيء أعلى منها . { أولئك } المذكورون من لدن زكريا إلى إدريس هم { الذين أنعم الله عليهم من النبيين } « من » للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم { من ذرية آدم } هي للتبعيض وكذا في قوله : { وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل } والمراد بمن هو من ذرية آدم إدريس لقربه منه ، وبذرية من حمل مع نوح إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح ، وبذرية إبراهيم وإسماعيل ، وبذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم لأن مريم من ذريته . { وممن هدينا } يحتمل العطف على من الأولى والثانية وفي هذا الترتيب تنبيه على أن هؤلاء الأنبياء اجتمع لهم مع كمال الأحساب شرف الأنساب ، وأن جميع ذلك بواسطة هداية الله وبمزية اجتنائه واصطفائه . ثم إن جعلت { الذين } خبراً { لأولئك } كان { إذا يتلى } كلاماً مستأنفاً ، وإن جعلته صفة له كان خبراً وقد عرفت في الوقوف سار الوجوه من قرأ { يتلى } بالتذكير لأن تأنيث الآيات غير حقيقي والفاصل حاصل . والبكي جمع باكٍ « فعول » كسجود في « ساجد » أبدلت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها للمناسبة . ومن زعم أنه مصدر فقدسها لأنها قرينة سجداً . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا » أراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب وقال غيره : إطلاق الآيات والحديث المذكور يدل على العموم لأن كل آية إذا فكر فيها المفكر صح أن يسجد عندها ويبكي .

قلت : لعل المراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة ، لأن القرآن حينئذ لم يكن منزلاً واختلفوا في السجود . فقيل : هو الخشوع والخضوع . وقيل : الصلاة . وقيل : سجدة التلاوة على حسب ما تعبدنا به . ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا يتعبدون بالسجود . قال الزجاج : الإنسان في حال خروره لا يكون ساجداً فالمراد خروا متهيئين للسجود . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرؤا القرآن بحزن فإنه نزل بحزن » وعن ابن عباس : إذا قرأتم سجدة « سبحان » فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه . وقالت العلماء : يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللَّهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك . وإن قرأ سجدة « سبحان » قال : اللَّهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك . وإن قرأ ما في هذه السورة قال : اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك .
ولما مدح هؤلاء الأنبياء ترغيباً لغيرهم من سيرتهم وصف أضدادهم لتنفير الناس عن طريقتهم قائلاً { فخلف من بعدهم خلف } وهو عقب السوء كما مر في آخر « الأعراف » فإضاعة الصلاة في مقابلة الخرور سجداً ، واتباع الشهوات بإزاء البكاء . عن بان عباس : هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب . وعن إبراهيم النخعي ومجاهد : أضاعوها بالتأخير . وعن علي رضي الله عنه في قوله : { واتبعوا الشهوات } من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور . وعن قتادة : هو في هذه الأمة { فسوف يلقون غياً } قال جار الله : كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد . وقال الزجاج : هو على حذف المضاف أي جزاء غي كقوله : { ويلق أثاماً } [ الفرقان : 68 ] أي مجازاة أثام . وقيل : غياً من طريق الجنة . وقيل : هو وادٍ في جهنم تستعيذ منه أوديتها احتج بعضهم بقوله : { إلا من تاب وآمن } على أن تارك الصلاة كافر وإلا لم يحتج إلى تجديد الإيمان . والجواب أنه إذا كان المذكورون هم الكفرة أو اليهود - كما رويناه عن ابن عباس - سقط الاستدلال . واحتجت الأشاعرة في أن العمل ليس من الإيمان لأن العطف دليل التغاير . وأجاب الكعبي بأنه عطف الإيمان على التوبة مع أنها من الإيمان ، ومنع من أن التوبة من الإيمان ولكنها شرطه لأنها العزم على الترك والإيمان إقرار باللسان ، وإنما حذف الموصوف ههنا وقال في الفرقان { وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 70 ] لأنه أوجز في ذكر المعاصي فأوجز في التوبة وأطال هناك فأطال هناك . وهذا الاستثناء بحسب الغالب فقد يتوب عن كفره ويؤمن ولم يدخل بعد وقت الصلاة ، أو كانت المرأة حائضاً ثم مات فهو من أهل النجاة مع أنه لم يعمل صالحاً .

ومعنى { لا يظلمون شيئاً } لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم بل يضاعف لهم تفضلاً تنبيهاً على أن تقدم الكفر لا يضرهم بعد أن يتوبوا ، ويحتمل أن ينتصب { شيئاً } على المصدر أي شيئاً من الظلم . ومعنى { جنات عدن } قد مر في سورة التوبة في قوله : { ومساكن طيبة في جنات عدن } [ التوبة : 72 ] وصفها الله تعالى بالإقامة والدوام خلاف ما عليه جنان الدنيا . ولما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، ويحتمل انتصابها عل الاختصاص وكذا انتصاب « التي » . قال جار الله : عدن علم بمعنى العدن وهو الإقامة وهو علم لأرض الجنة لكونها مكان إقامة ولولا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة . ولما ساغ وصفها ب « التي » ومعنى { بالغيب } مع الغيبة أي وعدوها وهي غائبة عنهم غير حاضرة ، أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها ، أو الباء للسببية أي وعدها عباده بسبب تصديق الغيب والإيمان به خلاف حال المنافقين . وقوله : { إنه كان وعده مأتياً } بالأول أنسب وهو مفعول بمعنى « فاعل » ، أو على أصله لأن ما أتاك فقد أتيته . وجوز في الكشاف أن يكون من قولك : « أتى إليك إحساناً » أي كان وعده مفعولاً منجزاً . قوله : { إلا سلاماً } استثناء متصل على التأويل لأن اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته كما تقدم في يمين اللغو في « البقرة » وفي « المائدة » أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغواً فلا يسمعون لغواً إلا ذلك كقولهم « عتابك السيف » . أو استثناء منقطع أي لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة ، ويجوز أن يكون متصلاً بتأويل آخر وهو أن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل دار السلام عن الدعاء بالسلامة أغنياء ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام . وفي الآية تنبيه ظاهر على وجوب اتقاء اللغو حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها . ثم إنه سبحانه من عادته ترغيب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور من الذهب والفضة لبس الحرير التي كانت للعجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة ، وكانت من عادة أشراف اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء لأنها العادة الوسطى المحمودة لمتنعمين منهم فوعدهم بذلك قائلاً : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعيشاً } هذا قول الحسن . ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير أي يأكلون على مقدار الغداة على العشي . وقيل : أراد دوام الرزق كما تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين .

وقوله : { تلك الجنة التي نورت } كقوله في « الأعراف » { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] وهي استعارة أي تبقى عليهم الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث منه . قال القاضي : في الآية دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقياً غير مرتكب للكبائر . وأجيب بمنع الاختصاص وبأنه يصدق على صاحب الكبيرة . أنه اتقى الكفر .
سئل ههنا أن قوله تعالى : { تلك الجنة التي نورث } كلام الله وقوله بعده : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } خطاب ليس من كلام الله فما وجه العطف بينهما : وأجيب بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح ، فظاهر قوله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } خطاب جماعة لواحد وإنه لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول كما روي أن قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم . فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه ، وقالت اليهود : نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمان اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن ، فإن أخبركم بخصلتين منها فاتبعوه ، فاسألوه عن فئة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب ، فوعدهم الجواب ولم يقل : إن شاء الله . فاحتبس الوحي عليه أربعين يوماً - وقيل خمسة عشر يوماً - فشق عليه ذلك مشقة شديدة . وقال المشركون : ودعه ربه وقلاه . فنزل جبرائيل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك . » قال : كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذ حبست احتبست . فأنزل الله الآية وأنزل قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً } [ الكهف : 23 ] وسورة الضحى . ومعنى التنزل على ما يليق بهذا الموضع هو النزول على مهل أي نزلنا في الأحايين وقتاً غب وقت ليس إلا بأمر الله عزوجل . ثم أكد جبرائيل ما ذكره بقوله : { له ما بين أيدينا وما خلفنا } من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من المكان والزمان الذي نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته . وقيل : له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة { وما بين ذلك } وهو ما بين النفختين أربعون سنة . وقيل : ما مضى . من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها أو ما قبل وجودنا وبعد فنائنا . وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا . والسماء التي وراءنا ، وما بين السماء والأرض وعلى الأقوال فالمراد أنه الميحط بكل شيء لا يخفى عليه خافية ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فكيف يقدم على فعل إلا بأمره!
وقال أبو مسلم : في وجه النظم إن قوله : { وما نتنزل } من قول أهل الجنة لمن بحضرتهم أي ما ننزل الجنة إلا بأمر ربك .

أما قوله : { وما كان ربك نسياً } فعلى القول الأول معناه أنه ما كان امتناع النزول إلا لعدم الإذن ولم يكن لترك الله إياكم لقوله : { ما ودّعك ربك وما قلى } [ الضحى : 3 ] وعلى قول غير أبي مسلم هو تأكيد لإحاطته تعالى بجميع الأشياء ، وأنه لا يجوز عليه أن يسهو عن شيء ما ألبته . وعلى قول أبي مسلم المراد أنه ليس ناسياً لأعمال العاملين فيثيب كلاً منهم بحسب عمله فيكون من تتمة حكاية قول أهل الجنة ، أو ابتداء كلام من الله تعالى خطاباً لرسوله ويتصل به قوله : { رب السموات والأرض } أي بل هو ربهما { وما بينهما فاعبده } الفاء للسببية لأن كونه رب العالمين سبب موجب لأن يعبد { واصطبر لعبادته } لم يقل « على عبادته » لأنه جعل العبادة بمنزلة القرن في قولك للمحارب « اصطبر لقرنك » أي أوجد الاصطبار لأجل مقاومته . ثم أكد وجوب عبادته بقوله : { هل تعلم له سمياً } أي ليس له مثل ونظير حتى لا تخلص العبادة له ، وإن عديم النظير لا بد أن يصبر على مواجب إرادته وتكاليفه خصوصاً إذا كانت فائدتها راجعة إلى المكلف . وقيل : أراد أنه لا شريك له في اسمه وبيانه في وجهين : أحدهما أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله عى الوثن إلا أنهم لم يطلقوا لفظ الله على من سواه . وعن ابن عباس : أراد لا يسمى بالرحمن غيره . قلت : وهذا صحيح ولعله هو السر في أنه لم يكرر لفظ « الرحمن » في سورة تكريره في هذه السورة . وثانيهما هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل أن التسمية على الباطل كلا تسمية .
التأويل : { واذكر في الكتاب } الأزلي { إبراهيم } القلب { إنه كان صديقاً } للتصديق ثلاث مراتب : صادق صدق في أقواله ، وصادق صدق في أخلاقه وأحواله ، وصديق صدق في قيامه مع الله في الله بالله وهو الفانى عن نفسه الباقي بربه { إذ قال لأبيه } الروح الذي يعبد صنم الدنيا بتبعية النفس { فقد جاءني من العلم } اللدني { ما لم يأتك } لما ذكرنا أن القلب محل للفيض الإلهي أقبل من الروح كالمرآة فإنها تقبل النور لصفائها وينعكس النور عنها لكثافتها وصقالتها { وهبنا له إسحاق } السر { ويعقوب } الخفي { وناديناه من جانب الطور الأيمن } أسمعنا موسى القلب من جانب طور الروح لا من جانب وادي النفس الذي هو على أيسر { وكان يأمر أهله } أي الجسم والنفس والقلب والروح بالصلاة له توجه كل منهم توجهاً يليق بحاله ، وبالزكاة أي تزكية كل واحد منهم من الأخلاق الذميمة { ورفعناه مكاناً علياً } في مقعد صدق عند مليك مقتدر { خروا } بقلوبهم على عتبة العبودية { سجداً } بالتسليم للأحكام الأزلية { وبكياً } بكاء السمع يذوبان الوجود على نار الشوق والمحبة { عباده بالغيب } أي بغيبتهم عن الوجود قبل التكوين كقوله :

{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } [ التوبة : 111 ] { ولهم رزقهم } رؤية الله على ما جاء في الحديث : « وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوّاً وعشياً » { وما نتنزل إلا بأمر ربك } المقدور في علم الله ، وتنادى أهل العزة من سرادقات العزة أن يا أهل الطبيعة أفيقوا من المتمنيات فإنا ما ننزل من عالم الغيب . إلا بأمر ربك { وما كان ربك نسياً } ليحتاج إلى تذكير متمن ، بل هو رب سموات الأرواح وأرض الأجساد وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار له { فاعبده } بأركان الشريعة بجسدك وبآداب الطريقة بنفسك وبالإعراض عن الدنيا والإقبال على المولى بقلبك وبالفناء في الله والبقاء به بروحك وبسرك . { هل تعلم له } نظيراً في المحبوبية لك . والله أعلم بالصواب .
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

القراآت : { أئذا } مثل { أئنكم } في « الأنعام » { يذكر } من الذكر : ابن عامر ونافع وعاصم وسهل وروح والمعدل عن زيد . والآخرون بتشديد الذال من التذكر مدغماً . { ثم ننجي } من الإنجاء : عليّ وروح والمعدل عن زيد . الآخرون بالتشديد { خير مقاماً } بضم الميم : ابن كثير . الباقون بفتحها . { رياً } بالتشديد أبو جعفر ونافع عن ورش وابن ذكوان والأعشى وحمزة في الوقف ، وعن حمزة أيضاً بالهمزة في الوقف ليدل على أصل اللغة . الآخرون بهمز بعدها يا { وولداً } وما بعده بضم الواو سكون اللام : حمزة وعليّ . الآخرون بفتحهما { يكاد } على التذكير : نافع وعليّ { ينفطرن } من الانفطار : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وخلف وابن عامر والمفضل وأبو بكر وحماد والخزاز عن هبيرة . الباقون { يتفطرن } من التفطر .
الوقوف : { حياً } 5 { شيئاً } 5 { جثياً } 5 ج للآية وللعطف { عتياً } 5 ج لذلك { صلياً } 5 { واردها } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { مقضياً } 5 تقريباً للنجاة من الورود مع أن « ثم » لترتيب الأخبار { جثياً } 5 { آمنوا } لا لأن ما بعده مفعول « قال » { ندياً } 5 { ورئياً } 5 { مدّاً } 5 لأن « حتى » لانتهاء مدد الضلالة أو لابتداء الرؤية وجواب « إذا » محذوف وهو « آمنوا » { الساعة } ط لابتداء التهديد { جنداً } 5 { هدى } 5 { مرداً } 5 { وولداً } 5 ط لأبتداء الاستفهام للتقريع { عهداً } ط 5 للردع { كلاً } ط { مداً } 5 لا للعطف { فرداً } 5 { عزاً } 5 { كلاً } ط { ضدّاً } 5 { أزاً } 5 لا للتعجيل { عليهم } ط { عدّاً } 5 ط { وفداً } 5 ط { ورداً } 5 لئلا تشتبه الجملة بالوصف لهم { عهداً } 5 م حذرا من إيهام العطف { ولداً } 5 ط { إدّاً } 5 لا لأن ما بعده صفة { هداً } 5 لا لأن التقدير لأن دعوا { ولداً } 5 ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { ولداً } 5 ط { عبداً } 5 ط { فرداً } 5 { ودّاً } 5 { من قرن } ط { ركزاً } 5 .
التفسير : لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته بالتبعية أن يعبدوا الله ويصطبروا لعبادته كان لمنكر أن يعترض بأن هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا لأنها مشقة ولا في الآخرة لاستبعاد حشر الأجساد إلى حالها ، فلا جرم حكى قول المنكر ليجيب عن ذلك فقال : { ويقول الإنسان } وهو للجنس لأن هذ الاستغراب مركوز في الطباع قبل النظر في الدليل ، أو لأن هذا القول إذا صدر عن بعض الأفراد صح إسناده إلى بني نوعه لأنه منهم كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل واحد منهم . وقيل : المراد بالإنسان ههنا شخص معين هو أبو جهل أو أبي بن خلف .

وقيل : بعض الجنس هم الكفرة . وانتصب « إذا » بفعل مضمر يدل عليه { أخرج } المذكور لا نفسه لأن ما بدعه لام الابتداء لا يعمل فيما قبله . لا تقول : اليوم لزيد قائم . وإنما جاز الجمع بين حرف الاستقبال وبين لام الابتداء المفيدة للحال ، لأن اللام ههنا خلصت لأجل التأكيد كما خلصت الهمزة في « يا الله » للتعويض ، واضمحل عنها معنى التعريف . و « ما » في « إذا » ما للتوكيد أيضاً وكأنهم قالوا مستنكرين : أحقاً أنا سنخرج أحياء حين تمكن فينا الفناء بالموت؟ والمراد بالخروج إما الخروج من الأرض أو الخروج من حال الفناء أو الندور من قوله : « خرج فلان عالماً » إذا كان نادراً في العلم فكأنه قال على سبيل الهزء : سأخرج حياً نادراً . وإنما قدم الظرف وأولى حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ومنه جاء الإنكار كقولك لمن أساء إلى محسنه « أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه »؟! ولما كان الإنسان لا يصدر عنه هذا الإنكار إلا إذا لم يتذكر أو لم يذكر النشأة الأولى قال سبحانه منبهاً على ذلك { أو لا يذكر } وههنا إضمار تقديره أيقول ذلك ولا يذكر . وزعم جار الله أن الواو عطفت لا يذكر على يقول في قوله : { ويقول الإنسان } ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف الجر . قال العقلاء : لو اجتمعت الخلائق على إيراد حجة في البعث أوجز من هذه لم يقدروا عليها ، لأن خلق الذات مع الصفات أصعب من تغيير الذات في أطوار الصفات ، وهذا معلوم لكل صانع يتكرر عنه عمل ، لأن الأول لم يستقر بعد في خزانة خيال . والثاني قد ارتسم واستقر وثبت له مثال واحتذاء . وإذا كان حال من يتفاوت في قدرته الصعب والسهل كذلك ، فما الظن بمن لا يتوقف مقدوره إلا على مجرد تعلق الإرادة الأزلية به؟ وفي قوله : { ولم يك شيئاً } بحث قد مر في أول السورة مثله .
وحين نبه على النكتة الضرورية أكدها بالإقسام قائلاً { فوربك لنحشرنهم } الفاء للاستئناف وهو يفيد الإعراض عن قصة والشروع في أخرى عقيبها والواو للقسم وشرف المقسم به دليل كمال العناية بالمقسم عليه ، وإضافة القسم إلى المخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع المفسرين تفخيم لشأنه ورفع من مقداره ، والواو في { والشياطين } إما للعطف وإما بمعنى مع بناء على أن كل كافر مقرون مع شيطانه في سلسلة ، وإذا حشر جميع الناس حشراً واحداً وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين بل الكفرة ، وإن كان الضمير عائداً إلى منكري البعث فقط فلا إشكال . وكذا في قوله : { لنحضرنهم حول جهنم جثياً } أي جثياً على الركب غير مشاة على أقدامهم لما يدهشهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على الأرجل ، أو على العادة المعهودة في مواقف مطالبات الملوك ومقاولاتهم .

{ ثم لننزعن } لنميزن { من كل شيعة } طائفة شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة ، وقد سبق تفسيره في الأنعام . { أيهم أشد } قرىء بالنصب وهو ظاهر ، وأما المقتصرون على الضم فذهب سيبويه إلى أنها مبنية كيلا يلزم خلاف القياس من وجهين : أحدهما إعراب أيّ مع أن من حق الموصول أن يبنى ، والآخر حذف المبتدأ مع الأصل فيه أن يكون مذكوراً والتقدير : أيهم هو أشد . وذهب الخليل إلى أنها معربة ولكنها لم تنصب على أن تكون مفعول { لننزعن } بل رفعت بتقدير الحكاية أي من كل شيعة مقول فيم أيهم أشد ، فيكون من كل شيعة مفعول { لننزعن } كقولك « أكلت من كل طعام » أي بعضاً من كل . ويجوز أن يقدّر لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد ، قال سيبويه : لو جاز « اضرب أيهم » أفضل على الحكاية لجاز « اضرب الفاسق الخبيث » أي الذي يقال له الفاسق الخبيث وهذا باب قلما يصار إليه في سعة الكلام . ومذهب يونس في مثله أن الفعل الذي قبل « أيّ » معلق عن العمل ، ويجيز التعليق في غير أفعال القلوب . ثم إن علقت قوله : { على الرحمن } ب { أشد } كقولهم : « هو أشد على خصمه » فظاهر ، وإن علقته بالمصدر فذلك لا سبيل إليه عند النحويين لأن المصدر لا يعمل فيما قبله . فالوجه أن يقال : إنه بيان للمحذوف فكأنه سئل إن عتوَّه على من؟ فقيل : على الرحمن . وكذا الكلام في { أولى بها صلياً } تعلق المجرور بأفعل من غير تأويل أو ب { صلياً } على التأويل . صلى فلان النار يصلى صلياً إذا احترق . أخبر أوّلاً أنه يميز من كل فرقة ضالة من هو أضل ثم بين بقوله : { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً } أنه يطرحهم أي أهل الضلال البعيد في النار على الترتيب يقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ، ولا ريب أن الضال المضل يكون أولى بالتقدم من الضال ، وكذا الكافر المعاند بالنسبة إلى المقلد وإن كانوا جميعاً مشتركين في شدة العتوّ . ويجوز أن يراد بالذين هم أولى المنتزعين كما هم كأنه قال : ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وأنهم أولى بالصلى لكون دركاتهم أسفل .
{ وإن منكم } الخطاب للناس من غير التفات ، أو للإنسان المذكور فيكون التفاتاً ، وعلى التقديرين فإن أريد الجنس كأنه لم يكن في قوله : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } إشكال . ولكنه يشكل بأن المؤمنين كيف يردون النار؟ وأجيب بما روي عن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : « إذا دخل أهل الجنة قال بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة »

وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للناس ضجيجاً من بردها » وأما قوله : { أولئك عنها مبعدون } فالمراد عن عذابها . وعن ابن عباس : يردونها كأنها إهالة . ومنهم من لم يفسر الورود ههنا بالدخول لأن ابن عباس قال : قد يرد الشيء الشيء ولم يدخله كقوله تعالى : { لما ورد ماء مدين } [ القصص : 33 ] ومعلوم أن موسى لم يدخل الماء ولكنه قرب منه . ويقال : وردت القافلة البلد إذا قربت منه ، فالمراد بالورود جثوهم حولها وعن ابن مسعود والحسن وقتادة : هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها . وعن مجاهد : هو مس الحمى جسده في الدنيا قال عليه السلام : « الحمى من فيح جهنم » وفي رواية « الحمى حظ كل مؤمن من النار » وإن أريد بالناس أو بالإنسان الكفرة فلا إشكال في ورودهم النار ولكنه لا يطابقه قوله : { ثم ننجي الذين اتقوا } ووجه بأنه أراد أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار لا أنهم يوردونها يتخلصون .
أسئلة : كيف يندفع عنهم ضرر النار عند من فسر الورود بالدخول؟ زعم بعضهم أن البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها مواضع خالية عن النار أشباه الطرق إلى دركات جهنم ، والمؤمنون يردون تلك المواضع . والأصح أنه سبحانه يزيل عنها طبيعة الإحراق بالنسبة إلى المؤمنين وهو على كل شيء قدير ، ولهذا لا تضر النار الملائكة الموكلين بالعذاب . ما الفائدة في إيراد المؤمنين النار إذا لم يعذبوا بها؟ فيه وجوه منها : أن يزدادوا سروراً إذا رأوا الخلاص منها . ومنها افتصاح الكافرين إذا اطلع المؤمنون عليهم . ومنها أن المؤمنين يوبخون الكفار ويسخرون منهم كما سخروا في الدنيا . ومنها أن يزيد التذاذهم بالجنة فبضدها تتبيّن الأشياء . هل ثبت في الأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها؟ قد ثبت أن الحاسبة تكون في الأرض أو في موضعها لقوله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء . فالاجتماع يكون في موضع الحساب ثم يدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ، ثم يرفع الله أهل الجنة ويبقى أهل النار فيها . قلت : هذا على رأي الفلاسفة الإسلاميين ظاهر ، فالمحاسبة تكون في الأرض ومرور الكل يكون على كرة النار ، ثم يرفع أهل الكمال إلى السماء ويبقى الكفرة في النار ويؤيده قوله : { كان } أي الورود { على ربك حتماً } أي محتوماً مصدر بمعنى المفعول { مقضياً } قضى به وعزم أن لا يكون غيره ، وذلك أن العبور من جميع الجوانب على كرة النار .

وأجمعت المعتزلة بذلك على أن العقاب واجب على الله عقلاً . وقال الأشاعرة : شبه بالواجب من قبل استحالة يطرق الخلف إليه . وقد سبق أن المتقي عند المعتزلة من يجتنب المعاصي كلها ، وعند غيرهم هو الذي اجتنب الشرك فقط ، وقد يهدم بالآية قاعدة القائل بمنزلة بين المنزلتين . وأجيب أن تنجية المتقين أعم من أن تكون إلى الجنة أو إلى غيرها ، هب أن تنجيتهم إلى الجنة إلا أن الذي طاعته ومعصيته سيان غير داخل في المتقين ولا في الظالمين فيبقى حكمة مسكوتاً عنه . ومن المعتزلة من تمسك بالوعيد بقوله : { ونذر الظالمين } ومنع أن الصيغة للعموم ، ولو سلم فمخصص بآيات الوعد لما ردّ على منكري البعث وقرر كيفية الحشر . قال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا } الآية ، والمراد أنهم عارضوا حجة الله بكلام أعوج فقالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ولم يكن بالعكس ، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعز أعداءه . يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون ثم يدّعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله عز وجل منهم قال جار الله : معنى بينات مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني مبينات المقاصد ، إما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً ، أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على ما معارضتها ، أو حججاً وبراهين ، وعلى التقادير تكون حالاً مؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً } [ البقرة : 91 ] لأن آيات الله لا تكون إلا بهذه الأوصاف .
ومعنى { للذين آمنوا } أنهم يخاطبونهم بذلك أو يفوهون به لأجلهم في شأنهم . والمقام بالضم موضع الإقامة أي المنزل ، وبالفتح موضع القيام ، والنديّ المجلس ومجتمع القوم حيث ينتدون . قوله : { أيّ الفريقين } يعني المؤمنين بالآيات والجاحدين لها من الكلام المنصف على زعمهم ، والمقصود نحن أوفر حظاً على ما يظهر منا في أحوال قيامنا وقعودنا ، وحسن الحال في الدنيا ظاهر على الفضل والرفعة وضده أمارة على النقص والضعة ، فأجابهم الله تعالى بقول : { وكم أهلكنا } أي كثيراً من المرات أهلكنا قبلهم أهل عصر و « من » بيان المهلك . ويجوز أن تكون زائدة للتأكيد و « كم » استفهامية لتقرير التكثير ، أو خبرية عند من يجوّز زيادتها في الموجب . و { هم أحسن } في محل النصب صفة ل « كم » أو الجر صفة { قرن } والأثاث متاع البيت وقد مر في النحل في قوله : { أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ الآية : 80 ] قال الجوهري : من همز { رئياً } جعله من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة ، ومن لم يهمزه فإما أن يكون على تخفيف الهمزة أي قلب الهمزة ياء وأدغم ، أو يكون من « رويت ألوانهم وجلودهم رياً » أي امتلأت وحسنت .

وقال جار الله : الري هو المنظر والهيئة « فعل » بمعنى « مفعول » . وقرىء بهمز قبله ياء على القلب كقولهم « راء » في « رأي » . وقرىء بالزاي المنقوطة واشتقاقه من الزي بالفتح وهو الجمع لأن الزي محاسن مجموعة . وفي الآية حذف التقدير أحسن من هؤلاء ، والحاصل أنه تعالى أهلك من كان أكثر مالاً وجمالاً منهم وذلك دليل على إفساد إحدى مقدمتيهم وهي أن كل من وجد الدنيا كان حبيب الله ، أو على فساد المقدمة الأخرى وهي أن كل من كان حبيباً لله فإنه لا يوصل إليه غماً . ثم بين أن مآل الضال إلى الخزي والنكال وإن طالت مدته وكثرت عدته ، وقوله : { فليمدد له الرحمن } خبر مخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب الإمهال وأنه مفعول لا محالة لتنقطع معاذيرالضال ويقال له يوم القيامة { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } [ فاطر : 37 ] أو ليزدادوا إثماً كقوله { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] أو هو في معنى الدعاء بأن يمهله الله عز وجل وينفس في مدة حياته . والغاية أحد الأمرين المذكورين أي انقطاع العذر أو ازدياد الإثم . أما قوله : { حتى إذا رأوا } إلى آخر . فقد قال في الكشاف : إنه يحتمل أن يكون متصلاً بقوله : { أي الفريقين } إلى آخره ، وما بينهما اعتراض قالوا : أي الفريقين خبر مقاماً وأحسن ندياً حتى إذا رأوا ما يوعدون . والمعنى لا يزالون يتفوّهون بهذا القول مولعين به إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين { أما العذاب } في الدنيا وهو غلبة المسلمين بالقتل والأسر وتغير أحوالهم من العز إلى الذل ومن الغنى إلى الفقر ، وأما يوم القيامة ، ويحتمل أن تتصل بما يليها والمراد أنهم لا ينفكون عن ضلالتهم وسوء مقالتهم إلى أن يعاينوا عذاب الدنيا ، أو الساعة ومقدماتها . وقوله : { فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً } في مقابلة قولهم : { خير مقاماً وأحسن ندياً } لأن مقامهم هو مكانهم والنديّ المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم ، والجند الأعوان ، ولا ريب أن مكان القتل والأسر شر مكان في الدنيا ومكان عذاب النار شر مكان في الآخرة . ولا شك أيضاً أنه لو كان لهم في الوقتين ناصر لم يلحقوهم من الخزي والنكال ما لحقهم .
وحين بيّن حال أهل الضلال أراد أن يبين حال أهل الكمال فقال : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } وذلك أن بعض الاهتداء يجر إلى البعض الآخر كالإيمان يجر إلى الإخلاص فيه كما أن بعض الغواية يجر إلى بعضها . ومنها من فسر الزيادة بالعبادات المرتبة على الإيمان . والواو في { ويزيد } للاستئناف . وقد تكلف جار الله فقال : إنه للعطف على معنى { فليمدد } أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه . وقد مر في سورة الكهف أن الباقيات الصالحات فسرها الأكثرون بجميع الأعمال الصالحات المؤدية إلى السعادات الباقيات .

وفسرها بعضهم بما هي أعظم ثواباً منها كالصلوات الخمس وغيرها . وقوله : { خير } يقتضي غيراً يكون مشاركاً له في أصل الخيرية ويكون هذا خيراً منه ، فإن قدرنا ذلك شيئاً فيه خيرية كبعض الأعمال الدنيوية المباحة أو كسائر الأعمال الصالحة عند من يفسر الباقيات بمعنى الأخص فظاهر أنها خير { ثواباً وخير مرداً } أي مرجعاً وعاقبة أو منفعة من قولهم : « هل لهذا الأمر مرد » إن قدرنا ذلك شيئاً لا ثواب فيه ولا خيرية كما زعم جار الله أن المراد هي خير ثواباً من مفاخرات الكفار ، فيكون إطلاق الثواب على عقاب الكفار من قبيل التهكم ومن باب قولهم : « تحية بينهم ضرب وجيع » . ويكون وجه التفضيل في الخير ما قيل في قولهم : « الصيف أحر من الشتاء » أي هو أبلغ في حره من الشتاء في برده ، ثم أردف مقالتهم الحمقاء بأخرى مثلها قائلا على سبيل التعجب { أفرأيت } كأنه قال : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك . وإنما استعملوا « أرأيت » بمعنى « أخبر » لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه . عن الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة ، والمشهور أنها في العاص بن وائل . قال خباب بن الأرث : كان لي عليه دين فاقتضيته ، وقيل : صاع له حلياً فاقتضاه الأجر فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ، فأنا أقضيك ، ثم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذٍ . من قرأ { ولداً } بفتحتين فظاهر ، ومن قرأ بالضم فالسكون ، فإما جمع ولد كاسد في أسداً ، أو بمعنى الولد كالعرب والعرب ، فأنكر الله سبحانه عليه بقوله مستفهماً { أطلع الغيب } من قولهم « اطلع الجبل » أي ارتقى إلى أعلاه ، ولاختيار هذه الكلمة شأن كأنه قال : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى عالم الغيب الذي تفرد به علام الغيوب { أم اتخذ عند الرحمن عهداً } عن الكلبي : هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك . وعن قتادة : هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول : وقيل : العهد كلمة الشهادة { كلا } ردع وتنبيه على الخطأ فيما تصوره لنفسه وتمناه وفي قوله : { سنكتب } بسين التسويف مع أن الحفظة يكتبون ما قاله في الحلل دليل على أن السين جرد ههنا لمعنى الوعيد ، أو أراد سيظهر له نبأ الكتابة بالتعذيب والانتصار يؤيده قوله : { ونمد له } أي نطوّل له { من العذاب } ما يستأهله أمثاله من المستهزئين أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد . مده وأمده معنى .
ثم أكد المدد بالمصدر وهو مؤذن بفرط الغضب أعاذنا الله منه ، ثم عكس استهزاءه بقوله : { ونرثه ما يقول } أي نمنع عنه منتهى ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد لأنه تألى على الله في قوله : { لأوتين } ومن يتأل على الله يكذبه لأن ذلك غاية الجراءة ونهاية الأشعبية .

والمراد هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة { ويأتينا } غداً { فرداً } بلا مال ولا ولد . وكلام صاحب الكشاف في الوجهين ملخبط فليتأمل فيه . وكذا في قوله : { فرداً } على الأول حال مقدرة نحو { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] لأنه وغيره سواء في إتيانه فرداً حين يأتي ، ثم يتفاوتون بعد ذلك . وذلك أن الخلود لا يتحقق إلا بعد الدخول ، أما انفراده فمحقق في حالة الإتيان وتفاوت الحال بعد ذلك ، واشتراك الكل في الإتيان منفرداً لا مدخل له في المقصود فلا أدري ما حمله على هذا التكلف . قال : ويحتمل أن هذا القول : إنما يقوله ما دام حياً فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ، ويأتينا منفرداً عنه غير قائل له ، أو أراد أن هذا القول لا ننساه ولا نلغيه بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ، ويأتينا على فقره ومسكنته فرداً من المال والولد لم نعطه سؤله ومتمناه ، فيجتمع عليه خطبان تبعه قوله وفقد سؤله . وحين فرغ من الرد على منكري البعث شرع في الرد على عبدة الأصنام فبين أوّلاً عرضهم وذلك أن يتعززوا بآلهتهم وينتفعون بشفاعتهم ، ثم أنكر عليهم وردعهم بقوله : { كلا } ثم أخبر عن مآل حالهم بقوله { سيكفرون } فإن كان الضمير للمعبودين فهم إما الملائكة كقوله : { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } [ سبأ : 41 ] وإما الأصنام فلا يبعد أن ينطق الله الجماد بذلك كقوله : { وألقوا إليهم القول إنهم لكاذبون } [ النحل : 86 ] وإن كان الضمير للعابدين فهو كقوله : { وألقوا إليهم القول إنهم لكاذبون } [ النحل : 86 ] وإن { الأنعام : 23 ] أما الضمير في يكونون فللمعبودين ، وقوله : { عليهم } في مقابلة قوله : { لهم عزاً } وضد العز الهوان كأنه قيل : ويكونون عليهم ذلاً لهم عزاً ويحتمل أن يراد بالضد العون لأنه يضاد العدو ، ووحد لاتفاق كلمتهم وفرط تضامهم وتوافقهم كقوله صلى الله عليه وسلم : « وهم يد على من سواهم » ومعنا كون الآلهة أضداداً أي أعواناً عليهم أنهم وقود النار وأن المشركين عذبوا بسبب عبادتها ، ويحتمل أن يكون الضمير في { يكونون } للمشركين أي يكون المشركون كفرة بآلهتهم وأعداء لهم بعد أن كانوا يعبدونها .
وحيث بيّن مذاهب الفرق الضالة أراد أن يبين منشأها فقال : { ألم تر أنا أرسلنا } الآية . والأز الهز والتهييج . قالت : الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه تعالى مريد لجميع الكائنات لأن قول القائل : « أرسلت فلاناً على فلان » يفيد أنه سلطه عليه منه قوله صلى الله عليه وسلم : « سم الله وأرسل كلبك عليه » ويؤيده قوله : { تؤزهم } أي تغريهم على المعاصي وتحثهم عليها بالوسواس والتسويلات .

وقالت المعتزلة : أراد بهذا الإرسال التخلية بينهم وبينهم كما إذا لم يمنع الرجل من دخول بيت جيرانه . وحاصل كلامهم أنه أرسل الأنبياء وأرسل الشياطين ، ثم خلى بين المكلفين وبين الأنبياء والشياطين إلا أنه خص أولياءه بمزيد الألطاف حتى قبلوا قول الأنبياء ، ومنع أعداءه تلك الألطاف وهو المسمى بالخذلان فقبلوا قول الشياطين . ولما كان هذا الإرسال سبباً لهلاك الكفارة عداه ب « على » لا ب « إلى » قلت : لا يخفى أن استناد الكل إلى الله تعالى فنزاع الفريقين لفظيّ أو قريب منه . { فلا تعجل عليهم } يقال : عجلت عليه بكذا إذا استعجل منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فتستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة . قال ابن عباس : نزلت في المستهزئين وهم خمسة رهط . وعنه أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك ، وآخر العدد فراق أهلك ، وآخر العدد دخول قبرك . وعن ابن السماك أنه كان عن المأمون فقرأها فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد . وقال بعضهم :
إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا جرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ... فتى يعد عليه اللفظ والنفس
ثم لما قرر أمر الحشر وأجاب عن شبه منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين وقتئذٍ فقال : { يوم نحشر } وانتصابه بمضمر متقدم أو متأخر أي اذكر يوم كذا وكذا ونفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف . ويجوز أن ينتصب { بلا يملكون } خص المتقون بالجمع إلى محل كرامة الرحمن وافدين . يقال : وفد فلان على الأمير وفادة أي ورد رسولاً فهو وافد والجمع وفد كصاحب وصحب . عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما يحشرون على أرجلهم ولكنهم على نوق رحالهم ذهب وعلى نجائب سروجها ياقوت » وخص المجرمون بالسوق إلى جهنم ورداً أي وهم الذين يردون الماء ، وفيه من الإهانة ما فيه كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء . وقال جار الله : حقيقة الورد المسير إلى الماء فسمي به الواردون . قال بعض العلماء : في الآية دلالة على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فكيف ينالهم بعد ذلك شدة؟ قلت : يحتمل أن يكون الحشر إلى الرحمن غير الحشر إلى الموقف ، فيراد بالحشر إلى الرحمن أي إلى دار كرامته وسوقهم إلى الجنة لقوله : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً } [ الزمر : 73 ] وهذا بعد امتياز الفريقين ، فالأمن الكلي فيما بعد هذه الحالة لا ينافي الخوف والدهشة فيما قبلها كما ورد في حديث الشفاعة وغيره . وقوله : { إلى الرحمن } دون أن يقول إلينا من وضع الظاهر موضع المضمر ، وفيه من البشارة ما فيه ولا يلزم منه التجسم للتأويل الذي ذكرناه ، والضمير في { لا يملكون } للمكلفين المذكورين بقسمهم وفاعله { من اتخذ } على البدلية لأنه في معنى الجمع .

ويجوز أن تكون الواو علامة للجمع كالتي في « أكلوني البراغيث » فيكون { من اتخذ } فاعلاً والاستثناء مفرغاً . ويجوز أن ينتصب { من اتخذ } على الاستثناء أو على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة . من اتخذه واختلف المفسرون في الشفاعة فقيل : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم . وقيل : لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم . واتخاذ العهد الاستظهار بالأيمان والعمل ، أو بكلمة الشهادة وحدها والأول يناسب أصول المعتزلة ، والثاني يناسب أصول الأشاعرة . وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم : « أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا : وكيف ذلك؟ قال : يقول كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك له وأن محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذي لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة » ويجوز أن يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها كقوله : { وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله } [ النجم : 26 ] .
وحين رد على عبدة الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولداً من اليهود والنصارى والعرب ، ومنهم من خص الآية بالرد على العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة . وفي قوله : { لقد جئتم } التفات من الغيبة إلى المخاطبة تسجيلاً عليهم بالجراءة والتعرض لسخطه . والأد الأمر العجيب أو المنكر ، والتركيب يدل على الشدة والثقل ومنه أدت الناقة تؤد إذا رجعت الحنين في جوفها . ويقال : فطره بالتخفيف إذا شقه ، ومطاوعه انفطر وبالتشديد للتكثير ، ومطاوعه تفطر وهذا البناء للتكثير . وانتصب { هذا } إما على المصدر لأن الخرور في معناه ، وإما لأن التقدير يهد هداً ، أو على الحال أي مهدودة ، أو على العلة أي لأنها تهد . ومحل { أن دعوا } إما مجرور بدلاً من الهاء في { منه } وإما منصوب بنزع الخافض أي هدّاً لأن دعوا ، علل الخرور بالهد والهد بالدعاء ، وإما مرفوع بأنه فاعل هد أي هدها الدعاء ، وخير الوجوه أوسطها كما في الوقوف والدعاء .

أما بمعنى التسمية فيكون المفعول الأول متروكاً طلباً للعموم والإحاطة بكل ما دعي ولداً له ، وإما بمعنى النسبة أي نسبوا إلى الرحمن ولداً . { وما ينبغي } لا يصح ولا يستقيم وهو في الأصل مطاوع بغى إذا طلب ، وإنما لا يصير مطلوباً لأنه محال . أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها ، وأما التبني فلأن القديم لا جنس له حتى يميل طبعه إليه ميل الوالد إلى الولد لمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن المختص به ، فليس أصول النعم وفروعها إلا منه كما قيل : لينكشف عن بصرك غطاؤه فأنت وجميع ما عندك عطاؤه ، وهذا من فوائد تكرير هذا الاسم في هذا المقام .
سؤال : كيف تؤثر هذه الكلمة في الجمادات حتى تنفطر وتنشق وتخر؟ أجيب بأنه سبحانه كأنه يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند دعائهم الولد لي غضباً مني على من تفوّه بها لولا حلمي ، أو هو تصوير لأثر هذه الكلمة في الدنيا ، أو المراد أن هذا الاعتقاد يوجب أن تكون هذه الأجرام على ما ترى من النظام كقوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] وقال أبو مسلم : أراد أن هذه الأجرام كانت ممن يعقل كادت تفعل ذلك . ثم بين أن العابدين والمعبودين في السموات أو في الأرضين كلهم تحت قهره وتسخيره في الدنيا وفي الآخرة وأنه محيط بجهل أحوالهم وتفاصيلها فقال : { إن كل } « إن » نافية أي ليس فرد من أفراد الخلائق { إلا أتى الرحمن } إلا وهو ملتجىء إلى ربوبيته مقر بعبوديته . ثم أجمل حال المؤمنين بما لا مزيد عليه في باب الكرامة قائلاً { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً } أي سيحدث لهم في القلوب مودّة من غير ما سبب من الأسباب المعهودة كقرابة أو اصطناع وذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب . والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله المودة بين الناس عند إظهار الإسلام ، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي : « يا عليّ قل اللَّهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وعن ابن عباس : يعني يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : « يا جبرائيل قد أحببت فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض » وعن قتادة : ما أقبل العبد إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه .

وعن كعب قال : مكتوب في التوراة : لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ، وتصديق ذلك في القرآن { سيجعل لهم الرحمن ودّاً } هذا قول جمهور المفسرين . وعن أبي مسلم أن المراد أنه سهب لهم في الجنة ما يحبون ، واستعمال المصدر بمعنى المفعول كثير . وإنما صار إلى هذا القول لأن المسلم التقي يبغضه الكفار وقد يبغضه المسلمون أكثرهم ، وقد يحصل مثل هذه المحبة للكفار والفساق فيكونون مرزوقين بميل الناس إلى اختلاطهم ومحبتهم فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين . وأيضاً إن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا من فعل الله ، فحمل الكلام على إعطاء المنافع به أولى . وأجيب بأن المراد محبة الملائكة والأنبياء والصالحين ومثل هذه لا تحصل للكافر والفاسق ، وبأنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم . ثم عظم شأن ما في هذه السورة من التوحيد والنبوة وبيان الحشر والرد على الفرق الضالة قائلاً : { فإنما يسرناه } كأنه قال : بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك أي بلغتك وسهلناه وفصلناه لتبشر به وتنذر . واللد جمع الألد الشديد الخصومة بالباطل كقوله في « البقرة » { وهو ألد الخصام } [ البقرة : 204 ] يريد أهل مكة . ثم ختم السورة بما هو غاية في الإنذار ونهاية في التخويف لأنبائه عن انقضاء القرون الخالية بالفناء أو بالإفناء بحيث لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع فيعلم منه أن مآل الباقين أيضاً إلى ذلك فيجتهدوا في تحصيل الزاد للمعاد ولا يصرفوا همتهم إلى ما هو بصدد الزوال والنفاد . والركز الصوت الخفي وركز الرمح تغيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون .
التأويل : { ويقول } النفس الإنسانية لجهلها بالحقائق إذا مات عن الصفات البشرية { أخرج حياً } بالصفات الروحانية . { ولنحشرهم والشياطين } فلكل شخص قرين من الشياطين { ثم لنحضرنهم حول جهنم } القهر والطبيعة { وإن منكم } من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين إلا هو وارد هاوية الهوى بقدم الطبيعة { حتماً مقضياً } لأن حكمته الأزلية اقتضت خلق هذا النوع المركب من العلوي والسفلي { ثم ننجي الذين اتقوا } الهوى يقدم الشريعة على طريق الطريقة للوصول إلى الحقيقة { آياتنا } من الحقائق والأسرار { قال الذين كفروا } ستروا الحق { للذين آمنوا } تحقيقاً وإيقاناً { وكم أهلكنا } بحب الدنيا والإغراق في بحر الشهوات والإحراق بنار المناصب للعرضيات { أما العذاب } وهو الموت على الإنكار والغفلة { وإما الساعة } وهي الإماتة عن الصفات البشرية عند قيام قيامة الشوق والمحبة . { فسيعلمون } حزب الله من حزب الشيطان { ويزيد الله } بالترقي من الإيمان إلى الإيقان إلى العيان { أن دعوا للرحمن ولداً } من فوائد ذكر اسم الرحمن ههنا أن الرحمانية أمهلتهم حتى قالوا ما قالوا وإلا فالألوهية مقتضية لإعدامهم في الحال { وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } عن مشيئة وإرادة بخلافهم في الدنيا فإنهم يظنون أن لهم إرادة واختياراً . { فإنما يسرنا } فيه أنه لولا تيسير الله درايته على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فكيف يسع ظروف الحروف المحدثة المتناهية حقائق كلامه الأزلية غير المتناهية { وكم أهلكنا } في تيه الضلالة { أو تسمع لهم ركزاً } بالثناء الحسن عليهم والله أعلم بالصواب .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)

القراآت : بإمالة الطاء والهاء . حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وعباس وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب . وفي الكشاف أن أبا عمرو فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء . والآخرون بتفخيمها { لأهله امكثوا } بضم الهاء وكذلك في « القصص » : حمزة { إني آنست } { إني أنا الله } بفتح ياء المتكلم فيهما : أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو { لعلي آتيكم } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر غير ابن مجاهد { على النار هدى } ممالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدوية وحمزة في رواية ابن معدان وأبي عمر والنجاري عن ورش وأبي عمرو وغير ابراهيم وابن حماد { أني أنا ربك } بفتح الهمزة وياء المتكلم : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد . بكسر الهمزة وفتح الياء : نافع الباقون : بكسر الهمزة وسكون الياء { طوى } منوناً حيث كان : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر { وإنا اخترناك } على الجمع : حمزة والمفضل { لذكري } { إني } { لي } { أمري } { عيني } { برأسي } ( إني ) بفتح الياآت : حمزة والمفضل ونافع وأبو عمرو . ( لي فيها ) بالفتح : حفص والمفضل والأعشى والبرجمي والأصبهاني عن ورش مخير { أخي اشدد } بفتح الياء موصولة : ابن كثير غير الخزاعي عن ابن فليح وأبو عمرو { واشدد } بفتح الهمزة { وأشركه } بضمها على التكلم : ابن عامر والباقون بضم الأول وفتح الثاني على الأمر { سؤلك } بالواو : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف . الآخرون بالهمزة .
الوقوف : { طه } 5 كوفي ومن قال معناه يا رجل أو يا طالب أو يا هادي لم يقف { لتشقى } 5 للاستثناء { يخشى } 5 لا بناء على أن { تنزيلاً } بدل { تذكره } { لعلي } 5 { الرحمن } مبتدأ { استوى } 5 { الثرى } 5 { وأخفى } 5 { إلا هو } ط { الحسنى } 5 { حديث موسى } 5 لئلا يوهم أن « إذ » ظرف للإتيان { هدى } 5 { يا موسى } 5 { نعليك } ج للابتداء بأن مع اتحاد القول { طوى } 5 ط إلا لمن قرأ { إنا اخترناك } { بوحي } 5 { فاعبدني } 5 لا للعطف { لذكرى } 5 { تسعى } 5 { فتردى } 5 { يا موسى } 5 { عصاي } ج لا مكان أن يجعل { أتوكأ } مستأنفاً أو حالاً والعامل أضمر أو أشير بناء على أن « هي » بمعنى « هذه » . { أخرى } 5 { يا موسى } 5 { تسعى } 5 { ولا تخف } ق لحق السين { الأولي } 5 { آية أخرى } 5 لا لتعلق اللام . { الكبرى } 5 ج للآية والاستئناف بالأمر على أن المقول متصل { طغى } 5 { صدري } 5 { أمري } 5 لا { لساني } 5 لا { قولي } ص لطول الكلام { أهلي } 5 لا { أخي } 5 لا وقف لمن قرأ { أشدد } بفتح الهمزة جواباً للدعاء ومن فتح الياء فله الوصل ومن قرأ { اشدد } بضم الهمزة فله الجواز لاتساق الدعاء على الدعاء بلا عاطف { أزري } 5 لا { أمري } 5 لا لتعلق « كي » { كثيراً } 5 { بصيراً } { يا موسى } 5 .

التفسير : في { طه } قولان للمفسرين : أحدهما أنه من حروف التهجي وقد سلف البحث في أمثالها ، والذي زادوه ههنا أمور منها : قول الثعلبي : الطاء شجرة طوبى ، والهاء الهاوية وكأنه أقسم بالجنة والنار . ومنها ما روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن الطاء طهارة أهل الدين والهاء هدايتهم . وقيل : أراد يا طاهراً من الذنوب ويا هادياً إلى علام الغيوب . ومنها قول سعيد بن جبير هو افتتاح باسمه الطيب الطاهر الهادي . قيل : الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة ومعناه : يا أيها البدر . القول الثاني أنها كلمة مفيدة ومعناها يا رجل . مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن بير وقتادة وعكرمة والكلبي . ثم قال سعيد بن جبير بلسان القبطية : وقال قتادة بلسان اليونانية والسريانية . وقال عكرمة بلسان الحبشة . وقال الكلبي بلسان عك وهو عك ابن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن . وعن الحسن أن طه أمر وأصله طأ أمراً بالوطء فقلبت الهمزة هاء وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معاً ، ويؤكده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم بالليل حتى اسمعدّت قدماه - أي تورمتا - فقال له جبرائيل : أرفق على نفسك فإن لها عليك حقاً ونزلت { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } أي تتعب بالعبادة ولكنك بعثت بالحنيفية السهلة . وعند الأكثرين معنى { لتشقى } لتتعب بفرط تأسفك عليهم وتحسرك على أن يؤمنوا . والشقاء يجيء بمعنى التعب ومنه المثل « أشقى من رائض مهر وأتعب » . وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له : إن كل شقي لأنك تركت دين آبائك فرد الله عليهم بأن القرآن هو السبب في نيل كل سعادة . قال جار الله : إن جعلت { طه } تعديد الأسماء الحروف فقوله { ما أنزلنا } ابتداء الكلام ، وإن جعلته اسماً للسورة فمبتدأ وما بعده خبر وقد أقيم الظاهر - وهو القرآن - مقام الضمير الرابط ، وإن جعلته قسماً فما يتلوه جواب وكل واحد من { لتشقى } و { تذكرة } علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل والثاني جاز قطع اللام عنه لوجود الشرط . ولا يجوز أن يكون { تذكرة } بدلاً من محل { لتشقى } لاختلاف الجنسين ، فإن التذكرة لا يمكن أن تحمل على الشقاء ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي فيه « إلا » بمعنى « لكن » . وفي قوله { لتشقى } و { إلا تذكرة } وجه آخر وهو أنه ما أنزلنا عليك القرآن لتتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة أي ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا لهذا الغرض كما يقال : ما شافهناك بذلك الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك .

فانتصب { تذكرةً } على أنه حال أو مفعول له ، وإذا كانت حالاً جاز أن يكون { تنزيلاً } بدلاً منها ، وإذا كانت مفعولاً لأجله لم يجز أن يكون { تنزيلاً } بدلاً منها لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، فالإنزال لا يعلل بالتنزيل في الظاهر . ويجوز أن ينتصب { تنزيلاً } بمضمر أي نزل تنزيلاً أو بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنزلناه تذكرةً ، أو على المدح والاختصاص ، أبو ب { يخشى } مفعولاً به أي أنزله الله تذكرةً لمن يخشى تنزيل الله عز وجلّ أي لمن يؤل أمره إلى الخشية لأنه هو المنتفع به . ومعنى كون القرآن تذكرةً أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظهم به وببيانه . { ممن خلق } متعلق { بتنزيلاً } فيكون الظرف لغواً أو بكائناً صفة له فيكون مستقراً . وفائدة الانتقال إلى الغيبة من لفظ المتكلم حين لم يقل تنزيلاً منا أمور منها : الافتنان في الكلام على عادتهم . ومنها تنسيق الصفات مع لفظ الغيبة . ومنها التفخيم بالإسناد أولاً إلى ضمير المتكلم المطاع في { أنزلناه } ثم إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد . وقيل : أنزلنا حكاية كلام جبرائيل فلا التفات .
و { العلى } جمع العليا تأنيث الأعلى وفي وصف السموات بها دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها . ويحصل منه تعظيم شأن القرآن بالضرورة فعلى قدر المرسل يكون حال الرسالة . ومنه قول الحكماء : عقول الرجال تحت لسان أقلامهم . وارتفع { الرحمن } على المدح على تقدير هو الرحمن ، أو هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق . والبحث في الاستواء على العرش من جانبي المشبهة والموحدة قد مر مشبعاً في « الأنعام » في قوله { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام : 18 ] وفي الأعراف في قوله { إن ربكم الله الذي خلق السموات } [ الآية : 54 ] فلا حاجة إلى الإعادة . ثم أكد كمال ملكه وملكه بقوله { له ما في السموات } الآية . عن محمد بن كعب : أن ما تحت الثرى هو ما تحت سبع الأرضين . وعن السدي : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة . وقيل : الثور أو الحوت . والتحقيق أن الثرى هو التراب الندى وهو ما جاوز البحر من جرم الأرض ، فالذي تحته هو ما بقي من جرم الأرض إلى المركز فيحتمل أن يكون هناك أشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه من المعادن وغيرها ، ولا ريب أن الكل لله سبحانه . ثم بيّن كمال علمه بقوله { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } فالسر ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك ما أخطرته ببالك ، أو السر هذا وأخفى منه ما استسره . وقيل : أخفى فعل ماضٍ أي يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلم هو .

قلت : هذا المعنى صحيح لأنه تعالى محيط بجميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء قط ولا يحيط به شيء من الأشياء فلا يطلع على غيوبه أحد ، إلا أن اللفظ يحصل فيه بشاعة إذا حمل على هذا التفسير فلهذا قال صاحب الكشاف : وليس بذلك وكيف طابق الجزاء الشرط . وأجيب بأن معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك . فإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله { واذكر ربك في نفسك } [ الأعراف : 205 ] وإما أن يكون تعليماً للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر كأن يقتدي غيره به . ومن فوائد الآية زجر المكلف عن القبائح - ظاهرة كانت أو باطنة - وترغيبه في الطاعات - ظاهرة وباطنة - وقد شرحنا شمة من حقيقة علمه تعالى في تفسيره قوله { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] وفي غير ذلك من المواضع المناسبة ، فلنقتصر الآن على ذلك . ثم ذكر أن الموصوف بالقدرة والعلم على الوجه المذكور لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره . واعلم أن مراتب التوحيد أربع : الإقرار باللسان ، ثم الاعتقاد بالقلب ، ثم تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة ، ثم الاستغراق في بحر المعرفة بحيث لا يدور في خاطره سوى الأحد الصمد . والأول بدون الثاني نفاق ، والثاني بدون الأول غير مفيد إلا إذا لم يجد مهلة كما إذا نظر وعرف فمات . ويروى أن ملك الموت مكتوب في جبهته « لا إله إلا الله » حتى إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان » والإقرار بدون الثالث إيمان المقلد وفيه خلاف مشهور والأصح أنه مقبول ، وأما المقام الرابع فهو مقام الصديقين والخاصة من عباد الله ، ومبتداه تفريق ونقص وترك ورفض على ما قرره المحققون ، وآخره الفناء في الله والبقاء به .
قال النحويون : لا إله إلا الله تقديره لا إله في الوجود إلا الله . وقال أهل العرفان : معناه لا إله في الإمكان إلا الله . روي أن موسى بن عمران قال : يا رب علمني شيئاً أذكرك به . فقال : قل لا إله إلا الله . فقال : كل عبادك يقول . فقال : قل لا إله إلا الله . قال إنما أردت شيئاً تخصني به . قال : يا موسى لو أن السموات السبع ومن فوقهم في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن « لا إله إلا الله » . والبحث عن أسماء الله تعالى قد سلف في تفسير البسملة ، وعن أسمائه الحسنى قد مر في « الأعراف » في قوله { ولله الأسماء الحسنى } [ الأعراف : 180 ] واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام : كامل لا يحتمل الزيادة والنقصان وهو الله تقدس وتعالى ، وناقص لا يحتمل الكمال سوى الصورة الكمالية التي جبل عليها كصغيرة الإنسان من المخلوقات وناقص يتقلب بين الأمرين فتارةً يصعد إلى حيث يخبر عنه بأنه

{ في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 55 ] وتارةً يتسفل إلى أن يقال له { ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 5 ] والكمال بالحقيقة لما ليس معرض الزوال فلا كمال في الصحة والجاه والمال وإنما الكمال في الانتساب إلى الكبير المتعال ، وهو تحقيق نسبة العبدية المنبئة عن عزة الربوبية ، وكل منتسب إلى بلد أو قبيلة فإنه يبالغ في مدحها حتى يلزم مدحه بالعرض فيجب على المكلف أن يذكر ربه بالأسماء الحسنى حتى يثبت بذلك شرفه ويحسن ذكره . إلهنا حسن الاسم دليل حسن المسمى ، وحسن المسمى يدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يزال مواظباً على الإحسان كما قيل :
يا حسن الوجه توق الخنا ... لا تخلطن الزين بالشين
فيا حسن الأسماء والصفات لا تردّنا عن خوان إحسانك محرومين . ذكر أن صياداً اصطاد سمكةً وكانت له بنت فأخذتها وألقتها في البحر وقالت : إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها . إلهنا تلك المرأة رحمت سمكة بسبب غفلتها ونحن قد اصطادنا إبليس وأخرجنا من بحر رحمتك لغفلتنا فردّنا إلى مقرنا وأنت أرحم الراحمين . عن محمد بن كعب القرظي أن موسى عليه السلام قال : يا رب أيّ خلق أكرم عليك؟ قال : الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري . قال : أيّ خلقك أعلم؟ قال : الذي يلتمس علماً إلى علمه . قال : وأيّ خلقك أعدل؟ قال : الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس . قال : وأيّ خلقك أعظم جرماً؟ قال : الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له . إلهنا إنا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت فهو فضل ، وكل ما لا تفعله بنا من الإحسان فهو عدل ، فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا . وعن الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : سيعلم الجمع من أهل الكرم ، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس . ثم يقال : أين الذين لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله؟ ثم ينادي أين الحمادون لله على كل حال؟ ثم تكون التبعة والحساب على من بقي . إلهي فنحن حمدناك واثنينا عليك بمقدار قدرتنا وطاقتنا ، فاعف عنا بفضلك وحسن أسمائك . وحين عظم شأن القرآن وبيّن حال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كلف من أعباء الرسالة قفاه بقصة موسى تثبيتاً وتقوية وتسلية .
قال الكلبي : معنى { وهل أتاك } أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له . ويقول المرء لصاحبه : هل بلغك خبر كذا ليتطلع السامع لما يومي إليه . وعن مقاتل والضحاك عن ابن عباس أن المراد منه تقرر الخبر في قلبه أي قد أتاك ذلك في الزمان المتقدم .

« وإذ » ظرف للحديث لأنه حدث ، أو المراد اذكر وقت كذا ومظروفه محذوف أي حين رأى ناراً كان كيت وكيت . قال أهل السير : استأذن موسى شعيباً عليهما السلام في الخروج إلى أمه ، وخرج بأهله وولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده ، فرأى ناراً من يسار الطريق من بعيد . قال السدي : ظن أنها من نيران الرعاة . وقال الآخرون : إنه رآها في شجرة . واختلفوا أيضاً في أن الذي رآه كان ناراً أم لا . قالوا : والصحيح أنه كان ناراً ليكون صادقاً في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء . ويمكن أن يقال : إطلاق اللفظ على ما يشبه مسماه ليس بكذب . قيل : النار أربعة أقسام : نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ، ونار تشرب ولا تأكل وهو نار الشجر { جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } [ يس : 80 ] ونار تأكل وتشرب وهي نار موسى عليه السلام . وبعبارة أخرى نور بلا حرقة وهي نار موسى ، وحرقة بلا نور وهي نار جهنم ، وحرقة ونور وهي نار الدنيا ، ولا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار . { فقال لأهله امكثوا } إنما جمع لأن أهله جمع وهم المرأة والخادم والولد . ويجوز أن يخاطب المرأة وحدها ولكن أخرج الخطاب على ظاهر لفظ الأهل فإنه اسم جمع . وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم فقد { آنست ناراً } أي أبصرت إبصاراً لا شبهة فيه أو إبصاراً يؤنس به . والتركيب يدل على الظهور ، ومن ذلك إنسان العين لأنه يظهر الأشياء ، ومنه الإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم ، ومنه الأنس ضد الوحشة لظهور المطلوب وهو المأنوس به . قال جار الله : لما وجد الإيناس وكان مقطوعاً متيقناً حققه لهم بكلمة « إن » ليوطن أنفسهم . ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين بنى الأمر فيهما على الرجاء دون الجزم قائلاً { لعلي آتيكم } قال المحققون : فيه دلالة على أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب ألبتة لأن موسى قبل نبوته احترز عن الكذب المظنون فلم يقل « إني آتيكم » لئلا يعد ما لم يستيقن الوفاء به ، فإبراهيم وهو أبو الأنبياء أولى بالاحتراز من الكذب الصريح . والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة ونحوهما . { وهدى } على حذف المضاف أي ذوي هدى ، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى . والظاهر أنه أراد قوماً يهدونني الطريق . وعن مجاهد وقتادة : قوماً ينفعونني بهداهم في أبواب الدين ، وذلك أن همم الأبرار معقودة في جميع أحوالهم بالأمور الدينية لا يشغلهم عنها شاغلٌ . ومعنى الاستعلاء في على النار وهو مفعول ثانٍ لأجد ، أو حال من ذوي هدى أن أهل النار يشغلون المكان القريب منها أو المصطلون بها كفنوها قياماً وقعوداً فهم مشرفون عليها وإن كان المكانان مستويين .

{ فلما أتاها } أي أتى النار . قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد ، وسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً فخاف وبهت فألقيت عليه السكينة ، ثم نودي وكانت الشجرة عوسجة . وقال وهب : ظن موسى أنها أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ، ثم لم يزل تطمعه ويطمع فيها ، ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن ، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء ، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار ، فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي { يا موسى } من قرأ { أني } بالفتح فتقديره نودي بأني ، ومن قرأ بالكسر فلأن النداء في معنى القول ، أو لأن التقدير نودي فقيل يا موسى . وتكرير الضمير في « أني » { أنا ربك } لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . روي أنه لما نودي يا موسى قال : من المتكلم؟ فقال الله عزوجلّ : إني أنا ربك . فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان . فقال : أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذناً . وقيل : لعله سمع النداء من جماد كالحصا والشجرة فيكون معجزاً . وأيضاً إنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث إن الخضرة ما كانت تطفىء تلك النار ولا النار تضر بالخضرة ، فعرف أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله . وجوّز الأشاعرة أن يكون قد خلق الله تعالى علماً ضرورياً بذلك والمعتزلة منعوا منه قالوا إن حصول العلم الضروري بأن ذلك المتكلم هو الله يستلزم العلم الضروري بوجود الصانع لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلوماً بالاستدلال ، وحصول العلم الضروري بوجود الصانع ينافي التكليف وبالاتفاق لم يخرج موسى عن التكليف . قال القاضي : إن كانت النبوة قد تقدمت لموسى فلا كلام في حصول هذه الخوارق وإلا وجب أن تكون المعجزات لغيره من الأنبياء في زمانه كشعيب مثلاً . قال : وهذا أولى لأن قوله { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } دليل على أنه أوّل وحي يوحى إليه . وعند أهل السنة الإرهاص جائز فلم يوجبوا إحالة تلك الخوارق إلى غيره . وعندهم أن الله تعالى أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت . والمعتزلة أنكروا وجود ذلك الكلام . وقالوا : إنه تعالى خلق ذلك النداء في جسم من الأجساد كالشجرة وهو قادر على ذلك . وأهل السنة مما وراء النهر أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى صوت خلقه الله في الشجرة لأنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار ، والمرتب على المحدث .

ومثله استدلال المعتزلة بقوله { فاخلع نعليك } على أن كلامه تعالى ليس بقديم لأن الأمر والمأمور معدوم سفه فلا بد أن يكون هذا الأمر عند وجود موسى فيكون محدثاً . أجابت الأشاعرة بأن كلامه الأزلي ليس بأمر ولا نهي ، ولو سلم فأمره بالأزل مستمر إلى أن صار الشخص مأموراً من غير تغير في أمره كالقدرة الأزلية تتعلق بالمقدور الحادث . وأما الحكمة في الأمر بخلع النعلين قال المفسرون : لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ وهو قول علي ومقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي . وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد : ليباشر الوادي بقدميه متبركاً به . وقيل : عظم البقعة عن وطئها إلا حافياً يؤيده قوله { إنك بالواد المقدس } . ومن هنا كره بعضهم الصلاة والطواف في النعل ، وكان السلف يطوفون بالكعبة حفاة . ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه وكان إذا وقع منه ذلك تصدق . وعلى القول الأول لا يكره إلا إذا كان غير مدبوغ . « وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا : خلعت فخلعنا . قال : فإن جبرائيل أخبرني أن فيهما قذراً » يروى أن موسى خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي .
قال الجوهري { طوى } بكسر الطاء وضمها اسم موضع بالشأم . فمن صرفه جعله اسم واد ومكان ، ومن لم يصرفه جعله اسم بقعة . وقال بعضهم . طوى بالضم مثل طوى وهو الشيء المثنى أي طوى مرتين أي قدس . وقال الحسن : ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين ، ويحتمل أن يراد نودي نداءين . وقيل : طوى مصدر كهدى ومعناه العلى . وعن ابن عباس أنه مر بذلك الوادي ليلاً فطواه فكان المعنى بالواد المقدس الذي طويته طياً أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه . { وأنا أخترتك } اصطفيتك للنبوة . قيل : فيه دلالة على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق وإنما هي ابتداء عطية من الله . وفي هذه الأخبار غاية اللطف والرحمة ولكن في قوله { فاستمع } نهاية الجلال والهيبة ففي الأول رجاء وفي الثاني خوف كأنه قال : جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل جميع همتك مصروفة إليه . { لما يوحى } أي للذي يوحى أو للوحي متعلق ب { استمع } أو ب { اخترتك } ثم قال { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } ورتب عليه { فاعبدني } ليعلم أن عبادته إنما لزمت لإلهيته ومن هنا قال العلماء : إن الله معناه المستحق للعبادة . قال الأصوليون : تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ولكن عن وقت الخطاب جائز لأنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفيتها . وأيضاً قال { وأقم الصلاة } ولم يبين هيئاتها . أجاب القاضي عن هذا الأخير بأنه لا يمتنع أن موسى عليه السلام عد عرف الصلاة التي تعبد الله بها شعيباً وغيره من الأنبياء ، فكان الخطاب متوجهاً إلى ذلك ، وزيف بأن حمل الخطاب متوجهاً على التأسيس أولى قال : قد بين له ولكن لم يحك الله تعالى سوى هذا القدر .

ورد بأن البيان أكثر فائدة من المجمل ، فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية . ولقائل أن يقول : سلمنا أن المبين أكثر فائدةً للمخاطب ، ولكن لا نسلم أن حكاية المبين أولى فلعل حكاية المجمل تكفي لغيره لصيرورة بعض هيئات ذلك التكليف منسوخاً وإن كان أصله باقياً .
وفي قوله { لذكري } وجوه . لأن اللام إما بمعنى الوقت أو هي للتعليل . والذكر إما بالجنان أو هو ضد النسيان . وياء المتكلم فاعل في الأصل أو مفعول . وهل يحتمل الكلام تقدير مضاف أم لا؟ . ولمثل هذه الاعتبارات تعددت الوجوه فمنها : أن اللام للتعليل والياء منصوب أي لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلى لي ، أو أراد لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على الأذكار . عن مجاهد : والفرق أن إطلاق الذكر على العبادة والصلاة في الأول حقيقة شرعية ، وفي الثاني مجاز . أو نقول : في الأول تكون نفس الصلاة مطلوبة بالذات ، وفي الثاني تكون مطلوبة بعرض الذكر ، أو أراد لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري . ومنها أن المضاف مع ذلك محذوف أي لإخلاص ذكري وطلب وجهي . ومنها أن الياء فاعل أي لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالمدح والثنا وأجعل لك لسان صدق . ومنها أن اللام للوقت كقولك « جئتك لوقت كذا » أي لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة . ومنها أن يحمل الذكر على ضد النسيان أي لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين في كونهم رطاب اللسان في جميع الأحيان بذكر مولى الأنعام ومولى الإحسان { رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله } [ النور : 37 ] وأراد ذكر الصلاة بعد نسيانها وكان حق العبارة أن يقال لذكرها كقوله صلى الله عليه وسلم « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها » فلعل المضاف محذوف أي لذكر صلاتي ، أو ذكر الصلاة هو ذكر الله فالياء في الأصل منصوب ، أو الذكر والنسيان من الله عز وجلّ في الحقيقة فلياء فاعل . قال الشافعي : من فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ولو ترك الترتيب جاز . ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة فإن كان في الوقت سعة يستحب أن يبدأ بالفائتة ، وإن بدأ بصلاة الوقت جاز إلا إذا ضاق الوقت فإنه يجب الابتداء بصلاة الوقت ، وإن تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها . وقال أبو حنيفة : يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم يتزيد على صلاة يوم وليلة حتى لو تذكر خلال صلاة الوقت بطلت إلا أن يكون الوقت ضيقاً فلا تبطل .

حجة الشافعي ما روي في حديث قتادة أنهم ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها ، ولو كان وقت الانتباه متعيناً للصلاة لما فعل كذلك . نعم إنه وقت لتقرير الوجوب عليه ثم الوقت موسع بعد ذلك . حجة أبي حنيفة قوله تعالى { أقم الصلاة لذكري } وقوله صلى الله عليه وسلم « فليصلها » إذا ذكرها « وفي حديث جابر أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يسب كفار قريش ويقول : يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » وأنا والله ما صليتها بعد . « قال : فنزل في البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها . وأما القياس فهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة ومزدلفة . فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون كذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة ، وأما إذا دخل في حد الكثرة فيسقط هذا الترتيب . ثم لما أمر موسى بالعبادة عامة وبالصلاة التي هي أفضلها خاصة علل ذلك بقوله { إن الساعة آتية } .
سؤال : » كاد « نفيه إثبات وإثباته نفي . فقوله { أكاد أخفيها } يكون معناه لا أخفيها وهو باطل لقوله { إن الله عنده علم الساعة } [ لقمان : 34 ] ولأن قوله . { لتجزى كل نفس } إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار إذ لو كان المكلف عارفاً وقت القيامة وكذا وقت الموت اشتغل بالمعاصي إلى قريب من ذلك الوقت ثم تاب فيكون إغراء على المعصية . والجواب لا نسلم أن » كاد « إثباته نفي وإنما هو للمقاربة فقط . والباقي موكول إلى القرينة . ولئن سلم فالمراد بعدم الإخفاء إخباره بأنها آتية وإن كان وقتها غير معين كأنه قال : أكاد لا أقول هي آتية لفط إرادة الإخفاء ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به . وبالغ بعض المفسرين في هذا المعنى فقال : أراد أكاد أخفيها من نفسي أي لو صح إخفاؤها من نفسي لأخفيتها مني وأكدوا ذلك بأنهم وجدوه في مصحف أبيّ كذلك . فقال قطرب : هذا على عادة العرب في المخاطبة إذا بالغوا في كتمان الشيء قالوا : كتمته من نفسي . وقيل : » كاد « من الله واجب وأراد أنا أخفيها من الخلق كقوله { عسى أن يكون قريباً } [ الاسراء : 51 ] أي هو قريب قاله الحسن . وعن أبي مسلم أن » أكاد « بمعنى أريد كقوله { كذلك كدنا ليوسف } [ يوسف : 21 ] ومنه قولهم » لا أفعل ذلك ولا أكاد « أي لا أريد أن أفعله . وقيل : أكاد صلة والمعنى أن الساعة آتية أخفيها . وقال أبو الفتح الموصلي : الهمزة للإزالة أي أكاد أظهرها معناه قرب إظهارها كقوله

{ اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] ومثله ما روي عن أبي الدرداء وسعيد بن جبير أخفيها بفتح الهمزة من خفاه إذا أظهره . وقوله { لتجزى } متعلق { بأخفيها } كما قلنا أو ب { آتية } ، فلولا القيامة لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء وذلك خلاف قضية العدالة والحكمة . واحتجاج المعتزلة بالآية ظاهر لأنه قال { بما تسعى } أي بسعيها . فلو لم يكن أعمال العباد بسعيهم لم يصح هذا الإسناد ، ولو لم يكن الثواب مستحقاً على العمل لم يكن لباء السببية معنى والجواب أن اعتبارها الوسط لا ينافي انتهاء الكل إلى الله ، واستناد الجزاء إلى عنايته الأزلية التي لا علة لها . ومعنى الفاء في { فلا يصدّنك } أنه إذا صح عندك أني أخبرتك بإتيان الساعة فلا تلتفت إلى قول المخالف الذي يصدك عن التصديق بالساعة ، لأن قوله ناشىء عن الهوى واتباعه . وجوّز أبو مسلم أن يكون الضمير في { عنها } للصلاة . والعرب تذكر شيئين لم ترمي بضميرهما إلى السامع اعتماداً على أنه يرد كلاً منهما إلى ما هو له ، وزيف بأن هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة هنا . وأما الخطاب فالظاهر أنه لموسى لأن الكلام أجمع معه . وجوّز بعضهم أن يكون لنبينا عليه السلام والمقصود الأمة ، والنهي عن الصد في الظاهر لمن لا يؤمن بالساعة وهو بالحقيقة نهي لموسى عن التكذيب . والوجه فيه أن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب ، أو صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب كأنه قيل : كن في الدنيا صلباً حتى لا يطمع في إغوائك الكافر . والذي دعا إلى هذا النهي البالغ في معناه هو أن في المبطلين والجاحدين كثرة وهي مزلة قدم فعلى المرء أن يكون مع المحقين وإن قلوا لا مع غيرهم وإن كثروا . وفيه حث بليغ على العمل بالدليل وزجر قويّ عن التقليد وإنذار بأن الردى والهلاك مع اتباع الهوى . وههنا استدل الأصوليون على شرف علمهم ووجوب تعلمه كيلا يتمكن الخصم من تشكيكه . وزعم القاضي أن في نسبة الصد إلى الكافر بالبعث دليلاً على أن القبائح إنما تصدر عن العباد . وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . قال أهل التحقيق : قوله أوّلاً لموسى { اخلع نعليك } إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير عن الأغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيلة . وأصول ذلك ترجع إلى علم المبدأ وهو قوله { إني إنا الله } وإلى علم الوسط وهو قوله { فاعبدني } وإنه مشتمل على الأعمال الجسمانية . وقوله { لذكري } وهو مشتمل الأعمال الروحانية وإلى علم المعاد وذلك قوله { إن الساعة آتية } . وأيضاً إنه افتتح الخطاب بقوله { وأنا اخترتك } وهو غاية اللطف ، وختم الكلام بقوله { فلا يصدّنك } إلى آخره وهو قهر تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه ، وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف .

قوله { وما تلك } مبتدأ وخبر و { بيمينك } حال منتصب بمعنى الإشارة أو الاستفهام . وجوّز الكوفيون أن يكون { تلك } اسماً موصولاً صلته { بيمينك } أي ما التي بيمينك . قيل : لم يقل بيدك لأنه يحتمل أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر وكان يلتبس عليه الجواب .
أسئلة : ما الفائدة في هذا السؤال؟ جوابه أن الصانع الماهر إذا أراد أن يظهر من الشيء الحقير كقطعة من حديد شيئاً شريفاً كاللبوس المسرد عرضه على الحاضرين ويقول ما هذا حتى إنه بعد إظهار صنعته يلزمهم بقولهم ويقول : خذوا هذا من ذلك الذي قلتم فكأنه سبحانه قال لموسى : هل تعرف حقيقة ما في يمينك وأنه خشبة يابسة حتى إذا قلبه ثعباناً عظيماً كان قد نبهه على كمال قدرته الباهرة . وقال أهل الخطابة : إنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء ، وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ممازجاً باللطف والقهر والتكاليف تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له { وما تلك بيمنك يا موسى } ليعرف موسى أن يمينه هي التي فيها العصا . وأيضاً إنه لما تكلم معه بالكلم الإلهية وقرب موسى أن يدهش تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة لا لأن المسؤول عنه مما يقع فيه الغلط كما أن السائل لا يجوز عليه الغلط نظيره حال المؤمن في القبر يغلبه الوجل والخجل فيسأل عن أمر لا يشك فيه في الدنيا وهو التوحيد دفعاً للإيحاش وجلباً للاستئناس . وأيضاً لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر ما ذكر ، فعرّفه الله تعالى أن فيها منافع أجل مما ذكر تنبيهاً على أن عقول البشر قاصرة عن خفيات الأمور لولا التوفيق والإرشاد . آخر : خاطب موسى بلا واسطة خاطب محمداً صلى الله عليه وسلم بواسطة جبرائيل ، فيلزم أن يكون موسى أفضل . وجوابه المنع بدليل { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] وبيان الأفضلية أن كلامه مع موسى لم يكن سراً وكلامه مع محمد سر لم يستأهل له سواه . وأيضاً حصل لأمته في الدنيا شرف التكليم؛ المصلي يناجي ربه ، وفي الآخرة شرف التسليم والتسليم { سلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ } [ يس : 58 ] . وأيضاً إن موسى كان عند استغراقه في بحر المحبة متعلقاً بالعصا ومنافعها ، ومحمد عليه السلام لم يلتفت إلى الكونين حين عرضا عليه { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] بل كان فانياً عن الأغيار باقياً بالواحد القهار ولهذا لم يزد في الثناء حينئذٍ على قوله « أنت كما أثنيت على نفسك » .
وههنا نكت منها : أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليد بقوله { وما تلك بيمينك يا موسى } حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز ماهر فصار أحدهما - وهو الجماد - حيواناً والآخر - وهو الكثيف - نورانياً لطيفاً .

ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حياً مستنيراً . ومنها أن العصا صارت بين يمين موسى حياً فكيف لا يصير قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن حياً! ومنها أن العصا بإشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة كلهم فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء . ثم إن جواب موسى عليه السلام يتم بقوله { هي عصاي } إلا أنه زاد على ذلك لأنه كان يحب المكالمة وكان المقام مقام انبساط وقرب فاغتنم الفرصة وجعل ذلك كالوسيلة إلى درك الغرض . وقيل : هو جواب سؤال آخر كأنه سئل فما تصنع بها فأخذ في ذكر منافعها . وقيل : خاف أن ينكر عليه استصحاب العصا كالنعلين . ومعنى { أتوكأ عليها } أغتمد عليها إذا أعييت أو قوفت على رأس القطيع وعند الطفرة والتركيب يدور على الشد والإيثاق . { وأهش بها } أي أخبط الورق بها على رؤوس غنمي لتأكله . والتركيب يدل على الرخاوة واللين ومنه « رجل هش المكسر » أي سهل الشأن فيما يطلب من الحوائج وهو مدح « وهش الخبز » يهش بالكسر إذا كان ينكسر لرخاوته . قال المحققون : إن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله ورحمته قائلاً مع أمته { حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ] فورد في حقه { حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] أي حسبك وحسب من اتبعك . وأيضاً إنه بدأ بمصالح نفسه في قوله { أتوكأ عليها } ثم بمصالح رعيته بقوله { وأهش بها على غنمي } ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر أمته { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 } « اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » فلا جرم يقول موسى يوم القيامة « نفسي نفسي » ومحمد يقول « أمتي أمتي » . ثم قال { ولي فيها مآرب } هي جمع المأربة بضم الراء الحاجة وقد تفتح الراء . وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضاً ومثله الأرب بفتحتين والإربة بكسر الهمزة وسكون الراء . وإنما قال { أخرى } لأن المآرب في معنى جماعة ونظيره الأسماء الحسنى . ومن آياتنا الكبرى قالوا : إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فتطول مكالمته وقالوا : انقطع بالهيبة كلامه فأجمل . وقيل : في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والجراب وغيرها ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصله بها ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه .

وقيل : إن موسى عليه السلام كان أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال : إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ولكنك لما سألت عنها وكلمتني بسببها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى . وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل . وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب ، وكانت تقيه الهوام . قلت : هذه الخوارق إن كانت بعد نبوة موسى فلا كلام ، وإن كانت قبلها ففي صحة الرواية بُعْدٌ وإلا كان الأنسب تقديمها عند تعدد المنافع . وعلى تقدير صحتها فلعلها إرهاص أو من معجزات شعيب على ما يروى أنه كان قد أعطاها إياه .
قال أهل النكت : إن موسى لما قال { ولي فيها مآرب أخرى } أراد الله سبحانه أن يعرّفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها و { قال ألقها يا موسى } وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا ، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب ، فأمر بتركهما تنبيهاً على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلاً بنفسه وطالباً لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان . وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا ، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟! قال الكلبي : الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يديه فذاك قولنا ، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقي من يده ما ليس في يده . ويمكن أن يجاب بأن القدرة مع إلقاء العصا . قوله { فإذا هي حية تسعى } [ الأعراف : 107 ] وفي موضع آخر { فإذا هي ثعبان } وفي آخر { كأنها جان } [ النمل : 10 ] عبارات عن معبر واحد لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والعظيم . وأما الثعبان - وهو العظيم من الحيات - والجان - وهو الدقيق منها - فبينهما تنافٍ في الظاهر لا في التحقيق ، لأنها حين انقلابها كانت تكون حية صفراء دقيقة كالجان ، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى يصير ثعباناً آخر الأمر . أو أنها كانت في شخص ثعبان وسرعة حركة الجان ولهذا وصفها بالسعي وهو المشي بسرعة وخفة حركة . والعجب أن موسى قال { أتوكأ عليها } فصدّقه الله تعالى في ذلك وجعلها متكئاً له بأن كانت أعظم معجزاته .

وإنما قلبها حية في ذلك الوقت لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه فإن النداء والنور والكلام لم يكن في ظهور الدلالة كهذه ، ولأن توالي المعجزات كتتابع الخلع والكرامات . وأيضاً لأنه عرضها عليه ليشاهدها ويوطن نفسه عليها حتى لا يخافها عند عدوّه؛ فالولي يستر العيوب والعدوّ يبرز المناقب في صورة المثالب ، فكيف إذا وجد مجال طعن وقدح؟! وقد مر في « الأعراف » أن الحية كان لها عرف كعرف الفرس ، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً ، فلما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفار ما يملك البشر عند الأهوال حتى ذهل عن الدلائل وأخذ يفر ، ولو أنه بلغ حينئذٍ مقام { ففروا إلى الله } [ الذاريات : 50 ] لم يفر عن شيء . او لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في نقص الإمكان ولم يفاوت عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من الله وحده . فقد روي أنه لما قال له ربه : { لا تخف } بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها ، قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري : ذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة ، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة . وعن بعضهم أنه خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها .
قلت : يحتمل أن يكون خوف موسى وهجره إياها من فوات المنافع المعدودة ولهذا علل عدم خوفه بقوله { سنعيدها سيرتها الأولى } قال جار الله : السيرة من السير كالركبة من الركوب . يقال : سار فلان سيرة حسنة . ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة ومنه سير الأولين ، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي في طريقتها الأولى حال ما كانت عصاً ، أو يكون أعاد منقولاً بالهمزة من عاده بنزع الخافض بمعنى عاد إليه فيتعدى إلى مفعولين ، أو يكون المراد بالإعادة الإنشاء ثانياً . ونصب { سيرتها } بفعل مضمر في موضع الحال أي سنعيدها تسير سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها . ثم قوى أمره بمعجزة ثانية فقال { واضمم يدك إلى جناحك } يقال : لكل ناحيتين جناحان ومنه جناحا العسكر وجناحا الإنسان لجنبهما . والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلهما . فقيل : المراد بالآية تحت العضد بدليل قوله { تخرج } وعن ابن عباس : معناه إلى صدرك . وضعف بأنه لا يطابقه قوله { تخرج } قلت : لا شك أن الصدر مستور بالقميص فيظهر عند ذلك معنى الخروج ويفسره قوله في موضع آخر { وأدخل يدك في جيبك } [ النمل : 12 ] والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة . والبرص أبغض شيء عند العرب بحيث تمجه أسماعهم فكان جدير بأن يكنى عنه .

ومعنى { بيضاء } أنها تنور كشعاع الشمس . قال في الكشاف : من غير سوء من صلة البيضاء كما تقول : ابيضت من غير سوء . قلت : لعله أراد أن « من » للتعليل أي ليس البياض هو السوء وإنما السبب غيره وحقيقته ترجع إلى الابتداء . و { بيضاء } و { آية } حالان معاً أو متداخلتان . واحتمل أن ينتصب آية بمضمر يدل عليه الكلام نحو « خذ ودونك » . وقوله { لنريك } إما أن يتعلق بهذا المحذوف أو بمحذوف آخر أي لنريك { من آياتنا } فلعنا ما فعلنا . ولا يبعد عندي أن يتعلق بالأمرين المذكورين أي { ألقها } و { اضمم } لنريك قال الحسن : اليد في الإعجاز أعظم من العصا لأنه تعالى وصفها بالكبرى . وضعف بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما في العصا ففيه تغير اللون والزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة ، فالمراد لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى . وجوز في الكشاف أن يكون المراد لنريك بهما الكبرى من آياتنا . ويرد عليه لزوم أن تكون الآيات الكبرى منحصرة فيهما وليس كذلك فإن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكبر من الكل ، وكفاك بالقرآن شاهداً على ذلك . ثم صرح بالمقصود من المعجزات فقال { اذهب إلى فرعون } وخصه بالذكر لأن قومه تبع له . ثم بين العلة في ذلك فقال { إنه طغى } وعن وهب أن الله تعالى قال لموسى : استمع كلامي واحفظ وصيتي برسالتي فإنك بعيني وبسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر تقديسي ، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار شديدة ، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً ليناً لا يغتر بلباس الدنيا ، وإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل . قال : فسكت موسى سبعة أيام ثم جاءه ملك فقال له : أجب ربك فيما أمرك فعنده { قال رب اشرح لي صدري } قال علماء المعاني : أنهم أولاً بقوله { ربي اشرح لي } { ويسر لي } فعلم أن ثمة مشروحاً وميسراً . ثم بين فرفع الإبهام بذكر الصدر والأمر وكان أوكد من جهة الإجمال . ثم التفصيل كان في صدر موسى ضيق كما جاء في موضع آخر { ويضيق صدري } [ الشعراء : 13 ] فسأل الله أن يبدل الضيق بالسعة حتى يفهم ما أنزل عليه من الوحي . وقيل : أراد شجعني على مخاطبة فرعون وعلى تحمل أعباء الرسالة . واعلم أن الكلام في الدعاء وشرائطه وفوائده وسائر ما يتعلق به قد سبق منا في « البقرة » في تفسير قوله سبحانه

{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ الآية : 186 ] .
ولنذكر ههنا نكتاً شريفة : الأولى أنه تعالى كامل في الأزل إلا أنه غير مكمل في الأزل لأن التكميل هو جعل الشيء كاملاً ولا شيء معه في الأزل فلا تكميل ، وذلك كما يقال : « إنه سبحانه لا يعلم عدداً مفصلاً لحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول . ولما كان الغرض من التكوين تكميل الناقصين ، وكان الوجود أول صفة من صفات الكمال أجلس الله سبحانه على هذه المائدة بعض المعدومات ، لأنه لو أجلس الكل عليها لدخل في الوجود ما لا نهاية له ، ولانتهت القدرة الذاتية لامتناع إيجاد الموجود . وكما أن رحمته اقتضت وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون بعض حتى صار ذلك البعض حياً مدركاً للمنافي والملائم واللذة والألم والخير الشر فقال : الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب شرفتنا بخلعة الوجود وخلعة الحياة ، ولكن ازدادت حاجتنا لأنا - حال العدم وحال الجمادية - ما كنا نحتاج إلى الملائم والمخالف والموافق ، وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ، والآن احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي ، فإن لم يكن لنا قدرة على الهرب والطلب كنا كالزمن المعقد في الطريق عرضة للآفات وهدفاً لسهام البليات ، فاقتضت الرحمة الكاملة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض المعدومات بالوجود وتخصيص بعض الموجودات بالحياة فقال : القادرون عند ذلك : إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا للبهائم المسخرة في حمل الأثقال ، فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك . فأعطى بعضهم العقل فحصل في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية ختامه مسك كما أن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان أفضل المخلوقات ، فنظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالحقة المملوءة من الجواهر بل كسماء مزينة بالزواهر وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بداية العقول وصرائح الأذهان ، يهتدي بها السائرون في ظلمات بر الشكوك وبحر الشبهات ، فاستدل العقل بتلك الأرقام على راقم ، وبتلك النقوش على نقاش ، فغلبته دهشة الأنوار الأزلية وكاد يغرق في بحر الفكر ، ويضيق عليه نطاق التأمل والتدبر ، ويقع في تجاذب أيدي الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الجن والإنس فعند ذلك قال : { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } فانتهاء جميع الحوادث اليه وتيسير الأمور الكلية والجزئية من عنده ، وهو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته .
الثانية : إنه تعالى خاطبه أولاً بالتوحيد { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } وثانياً بالعبادة { فاعبدني } وثالثاً بمعرفة المعاد { إن الساعة آتية } ورابعاً بمعرفة الحكمة في جملة أفعاله { وما تلك بيمينك } وخامساً بعرض المعجزات الباهرة عليه { لنريك من آياتنا الكبرى } وسادساً بإرساله إلى أعظم الناس كفراً وكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً لضيق العطن وانحلال عقدة الصبر فلا جرم تضرع إلى الله سبحانه قائلاً { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } وههنا دقيقة هي أن شرح الصدر .

مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب ، والاستماع مقدّمة الفهم . ولما أعطى موسى المقدّمة بقوله { فاستمع } نسج موسى على ذلك المنوال فقال { رب اشرح لي صدري } ولما آل الأمر إلى محمد وكان خاتم النبيين ومقصوداً من الكائنات ومخاطباً بقوله { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] أوتي النتيجة فقيل له { وقل ربي زدني علماً } [ طه : 114 ] ووصف بقوله { وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 46 ] فشرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلاً للنور ، والسراج المنير هو المعطي للنور : فالتفاوت بين موسى ومحمد عليهما السلام هو التفاوت بين الآخذ والمعطي ولهذا قال موسى : اللهم اجعلني من أمة محمد .
الثالثة : إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدهما وصف ذاته بالنور { الله نور السموات والارض } [ النور : 35 ] وثانيهما الرسول { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [ المائدة : 15 ] وثالثهما الكتاب { واتبعوا النور الذي أنزل معه } [ الأعراف : 157 ] ورابعها الإيمان { يريدون أن يطفئوا نور الله } [ التوبة : 32 ] وخامسها عدل الله { وأشرقت الأرض بنور ربها } [ الزمر : 69 ] وسادسها ضياء القمر { جعل القمر فيهن نوراً } [ نوح : 16 ] وسابعها النهار { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وثامنها البينات { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] وتاسعها الأنبياء { نور على نور } [ النور : 35 ] وعاشرها المعرفة { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } [ النور : 35 ] فكأن موسى عليه السلام قال أوّلاً { رب اشرح لي صدري } بمعرفة أنوار جلال كبريائك . وثانياً { رب اشرح لي صدري } بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك . وثالثاً { رب اشرح لي صدري } باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك . ورابعاً { رب أشرح لي صدري } بنور الإيمان والإيقان بالهيتك . وخامساً { رب اشرح لي صدري } بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك . وسادساً { رب اشرح لي صدري } بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلالك وعزتك كما فعله إبراهيم صلوات الرحمن عليه . وسابعاً { رب اشرح لي صدري } عن مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك . وثامناً { رب اشرح لي صدري } بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمائك . وتاسعاً { رب اشرح لي صدري } في أن أكون خلف صدق أنبيائك المتقدمين متشبهاً بهم في الانقياد لحكم رب العالمين . وعاشراً { رب اشرح لي صدري } بأن تجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح .
الرابعة : شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج ، ومستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء : زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن . فالزند زند المجاهد { والذين جاهدوا فينا } [ العنكبوت : 69 ] والحجر حجر التضرع { وادعوا ربكم تضرعاً وخيفةً } [ الأعراف : 55 ] والحراق منع الهوى { ونهى النفس عن الهوى } [ النازعات : 40 ] والكبريت الإنابة { وأنيبوا إلى ربكم } [ الزمر : 54 ] والمسرجة الصبر { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] والفتيلة الشكر { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ ابراهيم : 7 ] والدهن الرضا { واصبر لحكم ربك }

[ الطور : 48 ] ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك بالتضرع والدعاء قائلاً { رب اشرح لي صدري } فهنالك تسمع { قد أوتيت سؤلك يا موسى } . الخامسة : هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها : الشمس يحجبها الغيم ، وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبع { إليه يصعد الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] وثانيها الشمس تغيب ليلاً وشمس المعرفة لا تغيب ليلاً { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً } [ المزمل : 6 ] { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] الليل للعاشقين ستير ياليت أوقاته تدوم وعند الصباح يحمد القوم السرى . وثالثها الشمس تفنى { إذا الشمس كورت } [ التكوير : 1 ] والمعرفة لا تفنى { أصلها ثابت وفرعها في السماء } [ ابراهيم : 24 ] { سلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ } [ يس : 58 ] ورابعها الشمس إذا قارنها القمر انكسفت وشمس توحيد المعرفة وهي « أشهد أن لا إله إلا الله » إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي « أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم » لم يصل نور إلى عالم الجوارح . وخامسها الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه { يوم تبيض وجوه } [ آل عمران : 106 ] وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الإحراق « جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي » وسابعها الشمس تصدع والمعرفة تصعد { إليه يصعد الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين { فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] وبوجه آخر الشمس زينة لأهل الأرض ، والمعرفة زينة لأهل السماء . وتاسعها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى ، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى ، وفيه أن الخيبة مع الترفع والشرف مع التواضع . وعاشرها الشمس تعرّف أحوال الخلق ، والمعرفة تصل القلب إلى الخالق . والشمس تقع على الولي والعدوّ والمعرفة لا تحصل إلا للولي ، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى بطلبه قائلاً { رب اشرح لي صدري } .
السادسة : الشمس سراج أوقدها الله تعالى للفناء { كل من عليها فان } [ الرحمن : 26 ] والمعرفة سراج استوقده للبقاء { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } [ ابراهيم : 27 ] والذي خلقه للفناء إذا قرب منه الشيطان احترق { يجد له شهاباً رصداً } [ الجن : 9 ] والذي خلقه للبقاء كيف يقرب منه الشيطان { رب اشرح لي صدري } وأيضاً : الشمس في السماء ثم إنها مع بعدها تزيل الظلمة عن بيتك ، فشمس المعرفة مع قربها لأنها في قلبك أولى أن تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك . وأيضاً الإنسان إذا استوقد سراجاً فإنه لا يزال يتعهده ويمده ، والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } [ الحجرات : 7 ] أفلا يمده وهو معنى قوله { رب اشرح لي صدري } . وأيضاً إذا كان في البيت سراج فإن اللص لا يقرب منه ، وإنه سبحانه قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه { رب اشرح لي صدري } وأيضاً المجوس إذا أوقدوا ناراً لا يجوزون إطفاءها ، فالملك القدوس إذا أوقد سراج المعرفة في قلبك كيف يرضى بإطفائها { رب اشرح لي صدري } .

السابعة : أنه سبحانه أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها { أوَمَنْ كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضاً ميتة فهي له » فيعلم أنه لما خلق أرض القلب فأحياها بنور الإيمان لا يكون لغيره فيها نصيب . وثانيها الشفاء { ويشف صدور قوم مؤمنين } [ التوبة : 14 ] وفيه أنه إذا وضع الشفاء في العسل بقيت تلك الخاصية فيه أبداً . فإذا وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى أبداً؟ وثالثها الطهارة { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } [ الحجرات : 3 ] وفيه أن الصائغ إذا امتحن الذهب فبعد ذلك لا يدخله في النار ، فالله تعالى لما امتحن قلب المؤمن كيف يدخله النار بعده؟ ورابعها الهداية { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [ التغابن : 11 ] وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك ، والأول قد يحصل وقد لا يحصل { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] وكذا الثاني { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] وأما هداية القلب فلا تزول ألبتة لأن الهادي لا يزول { ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ القصص : 56 ] وخامسها الكتابة { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] وفيه أن القرطاس إذا كتب فيه القرآن لم يجز إحراقه ، فقلب المؤمن الذي فيه القرآن وجميع أحكام ذات الله وصفاته كيف يليق بالكريم إحراقه؟ وأيضاً إن بشراً الحافي أكرم قرطاساً فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين ، فإكرام قلب فيه معرفة الله أولى بذلك . وأيضاً إن القرطاس إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى إنه لا يجوز للجنب والحائض مسه ، فالقلب الذي فيه أكرم الموجودات كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه؟ وسادسها { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } [ الفتح : 4 ] وفيه أن أبا بكر لما نزلت عليه السكينة في الغار قيل له لا تحزن إن الله معنا . فالمؤمن إذا نزلت السكينة في قلبه لا بد أن يقال له عند قبض الروح : لاتخف ولا تحزن كما قال { تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا } [ فصلت : 30 ] وسابعها المحبة والزينة كما قال { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } [ الحجرات : 6 ] وفيه أن الدهقان إذا ألقى في الأرض حبة فهو لا يفسدها ولا يحرقها ، فهو سبحانه حين ألقى حبة المحبة في أرض القلب كيف يحرقها؟ وثامنها { وألف بين قلوبكم } [ آل عمران : 103 ] وفيه أن محمداً حين ألف بين قلوب أصحابه ما تركهم غيبة ولا حضوراً سلام « علينا وعلى عباد الله الصالحين » فأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين كيف يتركهم { سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم } [ يس : 58 ] وتاسعها الطمأنينة { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 21 ] وفيه أن الحاجات غير متناهية وما سوى الله فهو متناه ، المتناهي لا يقابل غير المتناهي .

فالكافي للمهمات لا يكون إلا من له كمالات غير متناهيات فلا يزيل قلق الحوائج واضطراب الأماني إلا الله سبحانه ، وبإزاء هذه الكرامات ورد في حق الكفار أضدادها { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم } [ التوبة : 127 ] { في قلوبهم مرض } [ البقرة : 10 ] { قلوبهم قاسية } [ المائدة : 13 ] { إنا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه } [ الكهف : 57 ] { وختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] { أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24 ] { بل ران على قلوبهم } [ المطففين : 14 ] { طبع الله على قلوبهم } [ النحل : 108 ] فلأجل تلك الكرامات والهرب من أضدادها قال موسى { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } .
الثامنة : في حقيقة شرح الصدر وذلك أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا إلا رغبة بأن يكون متعلق القلب الأهل والولد وتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم ، ولا رهبة بأن يكون خائفاً من الأعداء والمنازعين فإن القوة البشرية لضعفها كينبوع صغير ، فإذا وزعت على جداول كثيرة ضعف الكل وضاعت وإذا انصب الكل في موضع واحد ظهر أثرها وقويت فائدتها ، فسأل موسى ربه أن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها ليكون متوجهاً بالكلية إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات وهذا معنى قوله { رب اشرح لي صدري } . أو نقول : إنه لما كلف بضبط الوحي في قوله { فاستمع لما يوحى } وبالمواظبة على خدمة الخالق في قوله { فاعبدني } فكأنه صار مكلفاً بتدبير العالمين ، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل موسى ربه قوة وافية بالطرفين فقال { رب اشرح لي صدري } أو نقول : معدن النور هو القلب ، والاشتغال بما سوى الله - من الزوجة والولد والصديق والعدوّ بل الجنة والنار - هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر ، فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه كالذباب والبق والبعوض فلا يدعوه رغبة إلى شيء مما يتعلق بالدنيا ولا رهبة من شيء من ذلك فيصير الكل عنده كالعدم فعند ذلك يزول الحجاب وينفسخ القلب بل الصدر للنور { رب اشرح لي صدري } .
التاسعة : لنضرب مثلاً لذلك فنقول : البدن بالكلية كالمملكة ، والصدر كالقلعة ، والفؤاد كالصفة ، والقلب كالسرير ، والروح كالملك ، والعقل كالوزير ، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة ، والغضب كالاسفهيد الذي يشتغل بالضرب ، والتأديب والحواس كالجواسيس ، وسائر القوى كالمحترفين والعملة والصناع . ثم إن الشيطان كملك مطاع وإنه يخاصم هذه البلدة والقلعة والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده ، فإذا أخرج الروح وزيره وهو العقل أخرج الشيطان في مقابله الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى إلى الشيطان . ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الخصم في مقابلته الشهوة ، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا ، والشهوة تحسن لذات الدنيا . ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتوقف على الحاضر والغائب من المعايب على ما قال « تفكر ساعة خيرمن عبادة سنة » فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً ، فأخرج الشيطان بإزائه العجلة والسرعة فلهذا قال صلى الله عليه وسلم

« ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه » وخلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصفين وقلبك وصدرك هو المعركة . ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقاً وهو الزهد في الدنيا ، وله سور وهو الرغبة في الآخرة . فإن كان الخندق عظيماً والسور قوياً عجز عسكر الشيطان وجنوده فانهزموا ، وإن كان بالضد دخل الشيطان وجنوده من الكبر والهوى والعجب والبخل وسوء الظن بالله ومن النميمة والغيبة وسائر الخصال الذميمة ، وينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه ، ثم إذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح وانشرح { رب اشرح لي صدري } .
النكتة العاشرة : في الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب . الصدر مقر الإسلام { أفمن شرح الله صدره للإسلام } [ الزمر : 22 ] والقلب مقر الإيمان { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } [ الحجرات : 7 ] { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] والفؤاد مقر المشاهدة { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] واللب مقام التوحيد { إنما يتذكر أولوا الألباب } [ الزمر : 9 ] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي . ثم إن القلب كاللوح المحفوظ في العالم الصغير فإذا ركب العقل سفينة التوفيق وألقاها في بحار أمواج المعقولات من عالم الروحانيات هبت من مهاب العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الأدبار أخرى ، فحينئذٍ يضطر الراكب إلى التماس أنوار الهدايات وطلب انفتاح أبواب السعادات فيقول { رب اشرح لي صدري } وإنما سأل موسى شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس . وأيضاً شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والجواد يكفيه الإشارة ، فإذا علم أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة . وأيضاً إنه راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى . فلا جرم أعطى المقصود فقال { قد أتيت سؤلك يا موسى } وحين اجترأ في طلب الرؤية بقوله { أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] أجيب بقوله { لن تراني } . واعلم أن جميع المهيئات الممكنة كالبلور الصافي الموضع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال ، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت له نسبة إليها بأسرها ، فينعكس شعاع كبرياء الإلهية من كل واحد منها إلى القلب فيحرق القلب . ومعلوم أن المحرق كلما كان أكثر كان الاحتراق أتم ، فلهذا قال موسى { رب اشرح لي صدري } حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات وأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال كما نبينا صلى الله عليه وسلم « أرني الأشياء كما هي » وههنا دقيقة وهي أن موسى لما زاد لفظة { لي } في قوله { رب اشرح لي } دون أن يقول « رب اشرح صدّري » علم أنه أراد أن تعود منفعة الشرح إليه فلا جرم يقول يوم القيامة « نفسي نفسي » وإن نبينا صلى الله عليه وسلم لما لم ينس أمته في مقام القرب إذ قيل له « السلام عليك أيها النبي » فقال :

« السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » ، فلا جرم يقول يوم القيامة « أمتي أمتي » وشتان ما بين نبي يتضرع إلى الله ويقول { رب اشرح لي صدري } وبين نبي يخاطب أولاً بقوله { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] . ولا يخفى أن المراد بالشرح والتيسير عند أهل السنة هو خلقهما ، وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة ، فإنه يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال .
أما قوله سبحانه { واحلل عقدةً من لساني } فاعلم أن النطق فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال { خلق الإنسان علمه البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] بغير توسط العاطف كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذا علمه البيان . وفي لسان الشاعر وهو زهير :
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم .
وعن علي كرم الله وجهه : ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة . وقالت العقلاء : المرء بأصغريه . المرء مخبوء تحت لسانه . وفي مناظرة آدم والملائكة لم تظهر الفضيلة إلا بالنطق . ومن التعريفات المشهورة : إن الإنسان هو الحيوان الناطق ، وهذا النطق وإن كان في التحقيق هو إدراك المعاني الكلية لكن النطق اللساني لا ريب أنه أظهر خواص الآدمي وقد نيط به أمر تمدنه والتعبير عما في ضميره فقول موسى { رب اشرح لي صدري } إشارة إلى طلب النور الواقع في القلب ، وقوله { ويسر لي أمري } رمز الى تسهيل ذلك التحصيل ، وقوله { واحلل } طلب لسهولة أسباب التكميل لأن اللسان آلة إلافاضة والإفادة وبه يتيسر ذلك الخط الجسيم والمنصب العظيم .
وحسبك يا فتى شرفاً وفخراً ... سكوت الحاضرين وأنت قائل
ومن الناس من مدح الصمت بوجوه منها : قوله صلى الله عليه وسلم « الصمت حكمة وقليل فاعله » وقوله : مقتل الرجل بين فكيه . وفي نوابغ الكلم : يا بني قِ فاك لا تقرع قفاك . ومنها أن الكلام خمسة أقسام : فالذي ضرره خالص أو غالب أو مساوٍ للنفع واجب الترك احترازاً من السفه والعبث ، والذي نفعه خالص أو غالب عسر المراعاة فالأولى تركه . ومنها أنه ما من موجود أو معدوم معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله بإثبات أو نفي بحق أو بباطل ، بخلاف سائر الأعضاء . فالعين لاتصل إلا إلى الألوان والسطوح ، والأذن لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف ، واليد لا تصل إلا إلى الأجسام ، وكذا باقي الجوارح .

أما اللسان فإنه رحب الميدان واسع المضطرب خفيف المؤنة سهل التناول لا يحتاج إلى آلات وأدوات للمعصية به فكان الأولى ترك الكلام وإمساك اللسان . والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والنطق في نفسه فضيلة ، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل فيرجع الحق إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم « رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم » قالوا : ترك الكلام له أربعة أسماء : الصمت وهو أعمها حتى إنه يستعمل فيما ليس يقوى على النطق كقولهم « مال ناطق أو صامت » . والسكوت وهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والإنصات هو السكوت مع استماع قال تعالى { فاستمعوا له وأنصتوا } [ الأعراف : 204 ] والإصاخة وهو الاستماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد . أما العقدة فقيل : إنها كانت في أصل خلقته وعن ابن عباس أنه في حال صباه أخذ بلحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال : هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية : إنه صبي لا يعقل وإن شئت فامتحنه بالتمرة والجمرة . وقيل : بالياقوت والجمر . فأحضرا بين يديه فأراد مد اليد إلى الياقوت فحول جبرائيل يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فظهر به تعقد وتحبس عن بعض الحروف . فإن صحت هذه الرواية فالنار إنما أحرقته وأثرت فيه إطفاء لثائرة غضب فرعون وإلا فالله سبحانه قادر على دفع الإحراق عن طبع النار كما في حق إبراهيم صلوات الرحمن عليه ، وكما في حق موسى حين ألقي في التنور . ويروى أن يده احترقت أيضاً وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم يبرأ ولما دعاه قال : الي أيّ رب تدعوني؟ قال : إلى الذين أبرأ يدي وقد عجزت عنها . وعن بعض العلماء أنه لم تبرأ يده لئلا ينعقد بينه وبين فرعون حرمة المؤاكلة من قصعة واحدة . وقيل : لم تحرق يده لأن الصولة ظهرت باليد ، وإنما احترق اللسان لأنه خاطبه بقوله « يا أبت » .
وما الحكمة في طلب حل العقدة؟ الأظهر كيلا يقع في أداء الرسالة خلل فلهذا { قال يفقهوا قولي } وقيل : لأن العقدة في اللسان قد تقتضي الاستخفاف بالقائل وعدم الالتفات إليه . وقيل : إظهاراً للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزاً له فكذا إطلاق لسان موسى كان معجزاً في حقه . وهل زالت تلك العقدة بالكلية؟ فعن الحسن نعم لقوله { قد أوتيت سؤلك يا موسى } والأصح أنه بقي بعضها لقوله تعالى حكاية عن فرعون { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } [ الزخرف : 52 ] أي يقارب أن لا يبين . وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنه رتة أي عجمة في الكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« ورثها من عمه موسى » وفي تنكير عقدة أيّ عقدة من عقد دلالة على أنه طلب حل بعضها بحيث يفهم عنه فهماً جيداً ولم يطلب الفصاحة الكاملة . وقال أهل التحقيق : وذلك لأن حل العقدة بالكلية نصيب محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفصح العرب والعجم وقد قال تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الإسراء : 34 ] فلما كان ذلك حقاً ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله . ومن مطالب موسى قوله { واجعل لي وزيراً من أهلي هرون } قال أهل الاشتقاق : الوزير من الوزر بالكسر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنة ، أو من الوزر بفتحتين وهو الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلجيء إليه أموره ، أو من الموازرة وهي المعاونة فيكون من الأزر والقوة ومنه قوله تعالى { اشدد به أزري } أي ظهري لأنه محل القوة . قال الجوهري : آزرت فلاناً أي عاونته ، والعامة تقول : وازرته . وعلى هذا فيكون القياس أزيراً بالهمز على ما حكي عن الأصمعي ووجه القلب حمل « فعيل على » مفاعل « لاتحاد معنييهما في نحو » عشير « و » جليس « و » صديق « وغيرها . وحمله على أخوته من نحو الموازرة ويوازر والاستعانة بالوزير وبحسن رأيه دأب الملوك العقلاء وقد استحسنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال » إذا أراد الله بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه عليه ، وإن أراد شراً كفه « وكان أنو شروان يقول : لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ، ولا أكرم الدواب عن السوط ، ولا أعلم الملوك عن الوزير . وكفى بمرتبة الوزارة منقبة وفخراً وشرفاً وذكراً أن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة ابتهل إلى الله سبحانه في مقام القرب والمكالمة يطلبه منه ، فيجب على من أوتي هذه الرتبة أن يؤدي إلى الله حقها ولا يغتر بالدنيا وما فيها ، ويزرع في أرض الوزارة ما لم يندم عليه وقت حصاده . وقيل : إن موسى خاف على نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر العظيم والخطب الجسيم فطلب المعين . والأظهر أنه رأى أن التعاون على الدين والتظاهر عليه مع خلوص النية وصفاء الطوية أبعد عن التهمة وأعون على الغرض ، ولهذا حكى عن عيسى أنه قال { من أنصاري إلى الله } [ الصف : 14 ] وخوطب نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال » إن لي في السماء وزيرين وفي الارض وزيرين فاللذان في السماء جبرائيل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر « ثم إن موسى طلب أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه لتكون الثقة به أكثر وليكون الشرف في بيته أوفر وإنه كان واثقاً بأخيه هارون فأراد أن يخصه بهذا المنصب الشريف قضاء لحقوق الإخاء ، فمن منع المستوجبين فقد ظلم وكان أفصح منه لساناً وأكبر سناً وألين جانباً .

قال جار الله : { وزيراً } و { هرون } مفعولاً { اجعل } قدم ثانيهما عناية بأمر الوزارة ، أو { لي } و { وزيراً } مفعولان { هرون } عطف بيان للوزير و { أخي } في الوجهين بدل من { هرون } أو عطف بيان آخر . وقيل : يجوز فيمن قرأ { اشدد } على الأمر أن يجعل { أخي } مرفوعاً على الابتداء و { اشدد } خبره فيوقف على { هرون } وشد الأزر به عبارة عن تقويته به وأن يجعله ناصراً له فيما عسى يرد عليه من الشدائد والخطوب ، بل يجعله وسيلة له في أمر النبوة وطريق الرسالة لأنه صرح بذلك في قوله { وأشركه في أمري } . ثم ذكر غاية الأدعية فإن المقصد الأسنى هو الاستغراق في بحر التوحيد ونفي الإشراك ، فإن التعاون مهيج الرغبات ومسهل سلوك سبل الخيرات فقال { كي نسبحك كثيراً } أي تسبيحاً كثيراً { ونذكرك } ذكراً { كثيراً } وقدم التسبيح وهو التنزيه لأن النفي مقدم على الإثبات ، فبالأول تزول العقائد الفاسدة ، وبالثاني ترتسم النقوش الحسنة المفيدة . ثم ختم الأدعية بقوله { إنك كنت بنا بصيراً } وفيه فوائد منها : أنه فوض استجابة الدعوات إلى عمله بأحوالهما وأنهما يصدد أهلية الإجابة أم لا ، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى . ومنها أنه عرض فقره واحتياجه على علمه وأنه مفتقر إلى التعاون والتعاضد ولهذا سأل ما سأل . ومنها أنه أعلم بأحوال أخيه هل يصلح لوزارته أم لا ، وأن وزارته هل تصير سبباً لكثرة التسبيح والذكر . وحين راعى من دقائق الأدب وأنواع حسن الطلب ما يجب رعايته فلا جرم أجاب الله تعالى مطالبه وأنجح مآربة قائلاً { قد أوتيت سؤلك } والسؤل بمعنى المسؤول كالخبز بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول . وزيادة قوله { يا موسى } بعد رعاية الفاصلة لأجل كمال التمييز والتعيين والله أعلم . بمصالح عبيده .
التأويل : يا من طاب بطهارته بساط النبوة { ما أنزلنا عليك القرآن } إلا لتسعد بتخلقك بخلقه ويسعد بسببك الأولون والآخرون من أهل السموات وأهل الأرضين . { تنزيلاً ممن خلق } أرض بشريتك وسموات روحانيتك التي هي أعلى الموجودات الممكنات كما قال « أول ما خلق الله روحي » استوى بصفة الرحمانية على عرش قلبك ليكون معه وقت لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل : { له ما في السموات } الروحانية من الصفات الحميدة { وما في الأرض } البشرية من الصفات الذميمة { وما بينهما } أي بين سماء الروح وأرض النفس وهو القلب بما فيه من الإيمان والإيقان والصدق والإخلاص { وما تحت الثرى } أي ما هو مركوز في جبلة الإنسانية : { وإن تجهر بالقول } أن يظهر شيء من صفاتك بالقول { فإنه يعلم السر } وهو ما يظهر من سيرتك { وأخفى } هو ما أخفى الله من خفيك .

السر في اصطلاح الصوفية لطيفة بين القلب والروح ، وهو معدن الأسرار الروحانية . والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط أنوار الربوبية وأسرارها وجملتها المعقولات ، وقد يحصل لكل إنسان عند نشأته الأولى وإن كان كافراً . والأخفى لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية ويكون عند نشأته الأخرى ولا يحصل إلا لمؤمن موحد صار مهبط الأنوار الربانية وجملتها المشاهدات والمكاشفات وحقائق العلوم اللدنية ، ولهذا قال عقيبه { الله لا إله إلا هو } لأن مظهر الألوهية وصفاته العليا وأسمائه الحسنى هو الخفي الذي لا شيء أقرب إلى الحضرة منه إلا وهو سر { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] وهو حقيقة قوله « إن الله خلق آدم فتجلى فيه » { وهل أتاك حديث موسى } القلب { إذ رأى ناراً } [ طه : 10 ] وهو نور في الحقيقة مأنوس به من جانب طور الروح { فقال لأهله } وهم النفس وصفاتها { امكثوا } في ظلمة الطبيعة الحيوانية { إني آنست } نار المحبة التي لا تبقى ولا تذر من حطب الوجود المجازي شيئاً { لعلي آتيكم منها بقبس } يخرجكم من ظلمات الطبيعة إلى أنوار الشريعة { أو أجد على النار هدى } بآداب الطريقة إلى الحقيقة { فلما أتاها نودي } من شجرة القدس بخطاب الإنس { فاخلع نعليك } أي اترك الالتفات إلى الزوجة والولد فإن النعل يعبر في الرؤيا بهما ، أو اترك الالتفات إلى الكونين إنك واصل الى جناب القدس ، أو هما المقدمتان في نحو قولنا « العالم محدث وكل محدث فله محدث وموجد » وذلك أنه إذا غرق في لجة العرفان بقيت المقدمات على ساحل الوسائل { وأنا اخترتك } يا موسى القلب من سائر خلق وجودك من البدن والنفس والسر والروح { فاستمع } بسمع الطاعة والقبول إنني لما تجليت بأنانية الوهيتي لأنانية وجودك المجازي لا يبقى إلا أنا { فاعبدني } بإفناء وجودك وأدم المناجاة معي لنيل ذكري إياك بالتجلي . إن قيامة العشق { آتية أكاد أخفيها } لعظم شأنها إلا أن متقاضى الكرم اقتضى إظهارها لأخص عبيدي { لتجزى كل نفس بما تسعى } في العبودية من الروح والسر والقلب والنفس والقالب فلما كان سعي الروح بحب الوطن الأصلي للرجوع إليّ أمكن إضافة { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] فجزاؤه من تجلي صفات الجلال بانعدام الناسوتية في اللاهوتية وكان سعي السعي بالخلو عن الأكوان لقبول فيض المكون فجزاؤه بإفاضة الفيض الإلهي عليه . وسعي القلب بقطع تعلقات الكونين لتصفيته وقابليته لتجلي صفات الجمال والجلال ، فجزاؤه بدوام التجلي وأن يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه من الشراب الطهور الذي يزيل لوث الحدوث عن لوح القلوب لكشف حقائق . وسعي النفس بتبديل الأخلاق وانتفاء الأوصاف الحيوانية ، فجزاؤه بإشراق نور ربها لإزالة ظلمة صفاتها واطمئنانها إلى ذكر ربها لتصير قابلة لجذبه { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] وسعي القالب باستعمال أركان الشريعة وآداب الطريقة ، فجزاؤه ورفعة الدرجات ونيل الكرامات في الدارين فلا يصدنك عن هذه السعادات النفس الأمارة بالسوء التي لا تؤمن بها .

ويحتمل أن يقال : أكاد أخفي الساعة ودخول الجنة والنار لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار . قالوا : أخطأ موسى في قوله { هي عصاي } وكان عليه أن يقول « أنت أعلم بحالها مني » وفي قوله { أتوكأ عليها } وكان عليه أن يتكىء على لطف الله وكرمه فلهذا قيل له { ألقها يا موسى } وفي قوله { وأهش بها على غنمي } إذ نسي أن العصا لا تكون واسطة لرزق أغنامه وإنما الرزاق هو الله . { خذها ولا تخف } فإن الضار والنافع هو الله وحده فلا يكن خوفك إلا منه ولا رجاؤك إلا به { واضمم } يد همتك إلى جناح قنوعك { تخرج بيضاء } نقية عن درن السؤال وعن الطمع وباقي الحقائق مذكور في التفسير . وفي قوله { قد أوتيت } بلفظ الماضي إشارة إلى أنه أعطي ذلك بالتقدير الأزلي لا بالتدبير العملي والله أعلم بالصواب .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

القراآت : { ولتصنع } بسكون اللام والعين على الأمر : يزيد الآخرون بكسر اللام ونصب العين { لنفسي اذهب } { في ذكري اذهبا } تفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { خلقه } فتح اللام على أنه فعل : نصير الباقون بالسكون . { مهداً } وكذلك في « الزخرف » : عاصم وحمزة وعليّ وخلف وروح . الآخرون { مهاداً } { سوى } بكسر السين : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وعليّ الآخرون بالضم { لا نخلفه } بالجزم جواباً للأمر : يزيد { يوم الزينة } على الظرف : هبيرة : { وقد خاب } حيث كان بالإمالة : حمزة { فيسحتكم } من الإسحات : حمزة وعليّ وخلف ورويس وحفص . الباقون بفتح الياء والحاء { إن } مخففة : ابن كثير وحفص والمفضل . الباقون مشددة . { هذين } أبو عمرو و { هذان } بالتشديد : ابن كثير . الباقون بالتخفيف { فاجمعوا } بهمزة الوصل وفتح الميم أمراً من الجمع : أبو عمرو . والآخرون على لفظ الأمر من الإجماع : { وقد أفلح } بنقل الحركة إلى الدال حيث كان : ورش وعباس وحمزة في الوقف { تخيل } بالتاء الفوقانية : ابن ذكوان وروح والمعدل عن زيد الباقون وابن مجاهد عن ابن ذكوان بالتحتانية : { تلقف } بالتشديد والرفع على الاستئناف : ابن ذكوان : { تلقف } بالتخفيف والجزم : حفص والفضل . وقرأ البزي وابن فليح مشددة التاء { كيد سحر } على المصدر : حمزة وعلي وخلف . الباقون { كيد ساحر } على الوصف . { قال آمنتم } بالمد : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وأبو جعفر ونافع وابن كثير عن ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل { قال أمنتم } على الخبر بغير مد : حفص وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل . الباقون { أآمنتم } بزيادة همزة الاستفهام { ومن يأته } مختلسة الهاء : يزيد وقالون ويعقوب غير زيد ، وأبو عمرو عن طريق الهاشمي عن اليزيدي { ومن يأته } بسكون الهاء : خلا دور جاء والعجلي وشجاع واليزيدي غير أبي شعيب ويحيى وحماد . الباقون { يأته } بالإشباع .
الوقوف : { أخرى } 5 لا لأن « إذ » تفسير المرة { ما يوحى } 5 لا لأن ما بعده تفسير { ما يوحى } { وعدوّ له } ط { مني } ج لأن الواو وقد تكون مقحمة وتعلق اللام ب { ألقيت } وقد تكون عاطفة على محذوف أي لتحب ولتصنع ، ومن جزم اللام وقف على { مني } لا محالة { على عيني } م لئلا يوهم أن « إذ » ظرف { لتصنع } { من يكفله } ط لانقطاع النظم وانتهاء الاستفهام على أن فاء التعقيب مع اتحاد القصة يجيز الوصل . { ولا تحزن } ط لابتداء منة أخرى { فتوناً } 5 ط { يا موسى } 5 { لنفسي } 5 لاتساق الكلام مع حق الفاء مضمرة { ذكري } 5 ج لمثل ما قلنا والمضمر واو { طغى } 5 للآية مع الفاء { يخشى } 5 { يطغى } 5 { وأرى } 5 { ولا تعذبهم } ط لأن « قد » لتوكيد الابتداء وقد انقطع النظم على أن اتحاد المقول يجيز الوصل { من ربك } ط لذلك فإن الواو للابتداء { في كتاب } ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف { ولا ينسى } 5 بناء على أن « الذي » صفة الرب والأحسن تقدير هو الذي أو أعني الذي { ماء } ط للالتفات { شتى } 5 { أنعامكم } ط { النهى } 5 { أخرى } 5 { وأبى } 5 { يا موسى } 5 { سوى } 5 { ضحى } 5 { أتى } 5 { بعذاب } ج لاختلاف الجملتين { افترى } 5 { النجوى } 5 { المثلى } 5 { صفاً } 5 { استعلى } 5 { ألقى } 5 { ألقوا } ج لأن التقدير فألقوا ما ألقوه فإذا حبالهم مع فاء التعقيب وإذا المفاجأة المنافيين للوقف { تسعى } 5 { موسى } 5 { الأعلى } 5 { ما صنعوا } ط { كيد ساحر } ط { أتى } 5 { وموسى } 5 { لكم } ط { السحر } ق للقسم المحذوف ولانقطاع النظم مع فاء التعقيب وإتمام مقصود الكلام { النخل } ج لابتداء معنى القسم ولفظ استفهام يعقبه مع اتفاق الجملة واتحاد الكلام .

{ وأبقى } 5 { قاض } ط { الحياة الدنيا } ط { من السحر } ط { وأبقى } 5 { جهنم } ط { ولا يحيى } 5 { العلى } 5 لا لأن ما بعده بدل { فيها } ط { تزكى } 5 .
التفسير : منّ عليه مناً أنعم ، ومنّ عليه منة أي امتن عليه كأن الله سبحانه قال لموسى : إني راعيت صلاحك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ، أو كنت ربيتك من غير سابقة حق فلو منعتك الحال مطلوبك لكان ذلك رداً بعد القبول وحرماناً بعد الأحسان وذلك ينافي الكرم الذاتي . قالوا : المنة تهدم الصنيعة فهي نوع من الأذى . فقوله { ولقد مننا عليك } يكون من المن لا من المنة ، قلت : يحتمل أن لا تكون المنة من المنعم المطلق أذية وإنما تكون تنبهاً علىلنعم وإيقاظاً من سنة الغفلة حتى يتلقى المكاف النعمة بالشكر والطاعة . وإنما قال { مرة أخرى } لأن الجملة قصة واحدة وإن كانت مشتملة على منن كثيرة ، والوحى إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في عصرها كشعيب مثلاً ، أو عن لسان ملك لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم في قوله { وإذ قالت الملائكة يا مريم } [ آل عمران : 42 ] أو أراها في المنام أنه وضع ولدها في التابوت وقذف في البحر ثم رده الله إليها ، أو ألهمها بذلك ، أو لعل الأنياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب أخبروا بذلك وانتهى خبرهم إليها . ومعنى { ما يوحى } ما يجب أن يوحى لما فيه من المصلحة الدينية ولأنه أمر عظيم ولأنه مما لا يعلم إلا بطريق الوحي . « وأن » هي المفسرة لأن الإيحاء في معنى القول ، والقذف يستعمل بمعنى الوضع أي ضعيه في التابوت وقد مر معناه في « البقرة » في قصة طالوت . قال جار الله : الضميران الباقيان في قوله { فاقذفيه في اليم فليلقه } عائدان إلى موسى أيضاً لئلا يؤدي إلى تنافر النظم ، فإن المقذوف والملقى إذا كان موسى وهو في جوف التابوت لزم أن يكون التابوت أيضاً مقذوفاً وملقى ويؤيده أن الضمير في قوله { عدوّ له } لموسى بالضرورة لأن عداوة التابوت غير معقولة .

وإذا كان الضمير الأول والضمير الأخير لموسى فالأنسب بإعجاز القرآن أن يكون الضمير المتوسط أيضاً له ، لأن المعنى صحيح واللفظ متناسب فلا حاجة إلى العدول اعتماداً على القرينة . واليم هو البحر ، والمراد ههنا نيل مصر والساحل شاطىء البحر . وأصل السحل القشر ولهذا قال ابن دريد : هو مقلوب لأن الماء سحله فهو مسحول . قال أهل الإشارة : من خصوصة انشراح الصدر بنور الوحي أن يقذف في قلبه قذف الولد الذي هو أعز الأشياء في تابوت التوكل وبحر التسليم حتى يلقيه اليم بساحل إرادة الله ومشيئته . يروى أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينا هو جالس على رأس بركة مع اسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجهاً فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه . وظاهر اللفظ يدل على أن التابوت التقط من الساحل ، فلعل اليم ألقاه بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون فأداه النهر إلى البركة . أما كون فرعون عدواً لله من جهة كفره وعتوه فظاهر ، وأما كونه عدوّاً لموسى وهو صغير فباعتباره المآل ، أو لأنه لو ظهر له حاله لقتله فسبحان من يربي حبيبه في حجر عدوّه . قالوا : كان بحضرة فرعون حينئذٍ أربعمائة غلام وجارية ، فحين أشار بأخذ التابوت ووعد من يسبق إلى ذلك الإعتاق تسابقوا جميعاً ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل . والنكتة فيه أن عدوّ الله لم يجوز من كرمه حرمان البعض إذ عزم الكل على الأخذ ، فأكرم الأكرمين كيف لا يعتبر عزائم المؤمنين على الطاعة والخير؟ فالمرجو منه إعتاق الكل من النار وإن وقع لبعضهم تقصير في العمل . قوله { مني } إما أن يتعلق ب { ألقيت } أو يكون صفة للمحبة أي محبة حاصلة مني وعلى الوجهين فالمحبة إما محبة الله ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما محبة الناس التي زرعها الله في قلوبهم ، فقد يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبرعنه من رآه . قال القاضي . هذا الوجه أقرب لأنه في الصغر لا يوصف بمحبة الله التي يرجع معناها إلى إيصال الثواب . ورد بأن محبة الله عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على العمل أو لا يكون ولهذا بين المحبة بقوله { ولتصنع على عيني } أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الشيء بالعينين إذا عني بحفظه ، ولما كان العالم بالشيء حارساً له عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه .

====================

ج22.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


وأيضاً العين سبب الحراسة فأطلق السبب وأريد المسبب ، ويقال : عين الله عليك إذا دعي له بالحفظ والحياطة ، فالجار والمجرور في موضع الحال من ضميرالمبني للمفعول في { لتصنع } وجوز في الكشاف أن يكون { إذ تمشي } ظرفاً { لتصنع } وليس بذلك وإنما هو ظرف ب { ألقيت } أو بدل من { إذ أوحينا } على الوقتين من زمان واحد واسع يقول الرجل : لقيت فلاناً سنة كذا ، ثم تقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها .
يروى أنه لما فشا الخبر أن آل فرعون أخذو غلاماً في اليم وأنه لا يرتضع من ثدي امرأة كما قال سبحانه { وحرمنا عليه المراضع } [ القصص : 12 ] جاءت أخت موسى عليه السلام واسمها مريم متنكرة فقالت { هل أدلكم على من يكفله } فجاءت بالأم فقبل ثديها وذلك قوله { فرجعناك إلى أمك } وقال في القصص { فرددناه إلى أمه } [ القصص : 13 ] تصديقاً لقوله { إنا رادوه إليك } [ القصص : 7 ] { كي تقر عينها } بلقائك { ولا تحزن } بسبب وصول لبن غيرها إلى معدتك { وقتلت } وأنت ابن اثنتي عشرة سنة { نفساً } هو القبطي الذي يجيء ذكره في القصص { فنجيناك من الغم } وهو اقتصاص فرعون منك . وقيل : الغم هو القتل بلغة قريش ، أو أراد بالغم خوف عقاب الله وذلك قوله { فاغفر لي فغفر له } [ القصص : 16 ] { وفتناك فتوناً } مصدر على « فعول » في المتعدي كالشكور والكفور ، أو جمع فتن كالظنون للظن ، أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كبدور في بدرة ، وحجوز في حجزة ، والقتنة المحنة والابتلاء بخير أو شر قال تعالى { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] وفيها معنى التخليص من قولهم « فتنت الذهب » إذا أردت تخليصه . عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن الفتون فقال : أي خلصناك من محنة بعد محنة . ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر ، وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطياً ، وأجر نفسه عشر سنين ، وضل الطريق ، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة ، وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير . قال العلماء : لا يجوز إطلاق اسم الفتان على الله تعالى وإن جاء { وفتناك } لأنه صفة ذم في العرف وستجيء قصة لبثة في أهل مدين وأنه على ثمان مراحل من مصر في سورة القصص إن شاء العزيز . قوله { على قدر } أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك فيه ، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بأخبار شعيب أو غيره . والصنع بالضم مصدر صنع إليه معروفاً قبيحاً أي فعل ، والاصطناع « افتعال » منه واستعماله في الخير أكثر ، واصطنع فلان فلاناً إذا اتخذه صنيعة ، واصطنعت فلاناً لنفسي إذا اصطنعته وخرجته ومعناه أحسنت إليه حتى إنه يضاف إليّ .

وقوله { لنفسي } أي لأصرفن جوامع همتك في أوامري حتى لا تشتغل بغير ما أمرتك به من تبليغ الرسالة وإقامة الحجة . وقال جار الله : مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك أهلاً للتقريب والتكريم لخصائص فيه فيصطنعه بالكرامة ويستخلصه لنفسه فلا يبصر إلا بعينه ولا يسمع إلا بأذنه ولا يأتمن على مكنون سره سواه . وقال غيره من المعتزلة : إنه سبحانه إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم ، ومن حمله الألطاف ما لا يعلم إلا سمعاً ، فلو لم يصطنعه للرسالة لبقي في عهدة الواجب فهذا أمر فعله الله لأجل نفسه حتى يخرج عن عهدة ما يجب عليه .
ولما عد عليه المنن السابقة بإزاء الأدعية المذكورة رتب على ذكر ذلك أمراً ونهياً . أما الأمر فقوله { اذهب أنت وأخوك } وفيه بيان ما لأجله اصطنعه وهو الإبلاغ وأداء الرسالة . { بآياتي } أي مع آياتي لأنهما لو ذهبا بدونها لم يلزمه الإيمان وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد . وما هذه الآيات غير العصا واليد لأنه لم يجر إلا ذكرهما فأطلق الجمع على الاثنين ، أو لأن كلاً منهما مشتملة على آيات أخر ، أو لأنه يستدل بكل منهما على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل وعلى نبوة موسى وعلى جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً والمظلم مستنيراً ومثله قوله { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } [ آل عمران : 97 ] وقيل : هما مع حل العقدة . وقيل : أراد اذهبا إني أمدكما بآياتي وأظهرها على أيديكما متى وقع الاحتياج إليها . وأما النهي فقوله { ولا تنيا } بكسر النون مثل تعدا وقرىء { تنيا } بكسر حرف المضارعة أيضاً للإتباع . والونى بفتحتين الضعف والفتور والكلال والإعياء ، والمعنى لا تنسياني بل اتخذا ذكري وسيلة في تحصيل المقاصد واعتقدا أن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فإن المداومة على ذكر الله توجب عدم الخوف من غيره . وأن يستحقر في نظره ما سواه لقوة نفسه واستنارة باطنه . وقيل : أراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات فضلاً عن أعظمها فائدة وأتمها عائدة . وقيل اذكرني عند فرعون وقومه بأني لا أرضى بالكفر وأعاقب عليه وأثيب على الإيمان وأرتضيه ، وبالجملة كل ما يتعلق بالترهيب والترغيب . ما الفائدة في تكرير قوله { اذهبا إلى فرعون } ؟ والجواب بعد التقرير والتأكيد أمرهما أن يشتغلا بأداء الرسالة معاً لا أن ينفرد به موسى ، أو الأول أمر بالذهاب إلى كل بني إسرائيل والقبط ، والثاني مخصوص بفرعون الطاغي . ثم إنه خوطب كلاهما وموسى حاضر فقط لأنه أصل ، أو هو كقوله { وإذ قتلتم نفساً } [ البقرة : 72 ] والقاتل واحد منهم . ويحتمل أن هارون قد حضر وقتئذ فقد روى أن الله عز وجلّ أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى .

وقيل : ألهم بذلك . وقيل : سمع بخبره فتلقاه .
سؤال : لم أمرا بتليين القول للعدوّ المعاند؟ جوابه لأن من عادة الجبابرة إذا أغلظ لهم في الكلام أن يزدادوا عتواً وعلواً . وقيل : لما له من حق تربية موسى شبه حق الأبوة . وكيف ذلك القول اللين؟ الأصح انه نحو قوله تعالى { هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى } [ النازعات : 18 ، 19 ] لأن ظاهره الاستفهام والمشورة وعرض ما فيه صلاح الدارين . وقيل : أراد عداه شباباً لا يهرم بعده ، وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت ، وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته . حكى عمرو بن دينار قال : بلغني أن فرعون عمر أربعمائة وتسعاً وستين سنة . فقال له موسى : إن أطعتني فلك مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة . وقيل : أراد كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة . ويحتمل أن يكون أمر بالقول اللين لأنه كان في موسى حدة وخشونة . بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً فعالج حدته باللين ليكون حليماً في أداء الرسالة . ومعني الترجي في { لعله } يعود إلى موسى وأخيه أي اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر سعيه فعساه يتذكر بأن يرجع من الإنكار إلى الحق رجوعاً كلياً إذا تأمل فأنصف { أو يخشى } فيقل : إنكاره وإصراره . قالت المعتزلة : جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة . وقالت الأشاعرة : العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان . قالوا : إنه كمن يدفع سكيناً إلى من علم قطعاً أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان . ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة { فقولا له قولاً ليناً } وسأقسي قلبه فلا يؤمن « { قالا ربنا } فيه دليل على أن هارون أيضاً كان حاضراً وقتئذ كما روينا . وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا { إننا نخاف } فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث بحيث لا يتطرق إليها خلل وتحريف ، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف . قلت : لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله { أن يفرط علينا } أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة { وأن يطغى } أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء . وأيضاً الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقاناً وطمأنينة ولهذا { قال لا تخافا إنني معكما } أي بالنصرة والتأييد { أسمع وأرى } ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي ، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما .

ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل : أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة . قال بعض الأصوليين : في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح . وقال بعض المتكلمين : فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم ولقائل أن يقول : الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه .
ثم كرر الأمر قائلاً : { فأتياه فقولا } فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولاً ليناً فكيف غلظاه أوّلاً بقوله { إنا رسولا ربك } ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار . وثانياً بقوله { فأرسل معنا بني إسرائيل } وفيه إدخل النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة . وثالثاً بقوله { ولا تعذبهم } وفيه منعه عما يريده بهم؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة . قيل : أليس الأولى أن يقولا { إنا رسولا ربك } { قد جئناك بآية من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل } فيكون ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة . والجواب أن قوله { فأرسل } من تتمة الدعوى ، وإنما وحد قوله { بآية } ومعه آيتان بل آيات لقوله { اذهب أنت وأخوك بآياتي } لأنه أراد الجنس كأنه قيل : قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان . قال في الكشاف : قلت : وفيه أيضاً نوع من الأدب كما لو قلت : أنا رجل قد حصلت شيئاً من العلم ولعل عندك علوماً جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه . وأيضاً الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي { والسلام } أي جنس السلامة أو سلام خزنة الجنة { على من اتبع الهدى } يحتمل أن يكون هذا أيضاً مما أمر بأن يقولاه لفرعون ، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله { بآية من ربك } ويكون هذا وعداً بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق . قالت الأشاعرة : في قوله { أن العذاب } أي جنسه أو كل فرد منه { على من كذب وتولى } دليل على أنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات ، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلاً .

وأيضاً العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة { قال فمن ربكما يا موسى } خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره ، ويجوز أنه خص موسى عليه السلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى . فأراد أن يعجز عن الجواب . قال أهل الأدب : إن فرعون كان شديد البطش جباراً ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة ، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟! وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول ، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقروناً بالجواب لئلا يبقى الشك . وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها . واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل : كان عارفاً بالله إلا أنه كان معانداً بدليل قوله { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض } [ الأسراء : 102 ] وقوله { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا } [ النمل : 14 ] وقوله في سورة القصص { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } [ الآية : 39 ] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ . وقوله في الشعراء { وما رب العالمين } [ الشعراء : 23 ] إلى قوله { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه اعترف بأصل الوجود .
وأيضاً إن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام لأن موسى لما هرب إلى مدين قال له شعيب { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } [ القصص : 25 ] فكيف يعتقد مثل هذا الشخص إنه إله العالم بل كل عاقل مكلف يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم فلا يكون واجب الوجود . وأيضاً إنه سأل ههنا بمن طالبا للكيفية ، وفي « الشعراء » بما طالبا للماهية فكأن موسى لما أقام الدلالة على الوجود ترك المناظرة والمنازعة معه في هذا المقام لظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر . وأيضاً إنه قال في الجواب { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه } وصلة الذي لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب . ومن الناس من قال : إنه كان جاهلاً بالله بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما . فمنهم من قول : إنه كان دهرياً نافياً للمؤثر أصلاً . ومنهم من قال : إنه فلسفي قائل بالعلة الموجبة أو هو من عبدة الكواكب ، أو من الحلولية والمجسمة . وأم إدعاء الالهية والربوبية فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه . قال بعض العلماء : إنما قال { فمن ربكما } [ طه : 49 ] ولم يقل « فمن إلهكما » تعريضاً بأنه رب موسى كما قال

{ ألم نربك فينا وليداً } [ الشعراء : 18 ] قلت : يحتمل أن يكون تخصيص موسى بالنداء تنبيهاً على هذا المعنى . ولم يعلم الكافر أن الربوبية التي ادّعاها موسى لله في قوله { إنا رسولا ربك } غير هذه في الحقيقة ولا مشاركة بينهما إلا في اللفظ ، وهذا كما عارض نمرود إبراهيم صلوات الرحمن عليه في قوله { أنا أحيي وأميت } [ البقرة : 258 ] ولم يعلم أن إحياءه وإماتته ليسا من الإحياء والإماتة في شيء ثم شرع موسى في الدلالة على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ، وفيه دلالة على أن موسى كان أصلاً في النبوة وأن هارون راعى الأدب فلم يشتغل بالجواب قبله لأن الأصل في النبوة هو موسى ، ولأن فرعون خصص موسى بالنداء . من قرأ { خلقه } بسكون اللام فإما بمعنى الخليقة والضمير المجرور لله وقدم المفعول الثاني ليتصل قوله { ثم اهتدى } والخليقة أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون الحديد من الجبال واللآلىء من البار ويركبون الأغذية والأدوية والأسلحة والأمتعة ونظير هذا الكلام قوله { الذي خلق فسوّى والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 2 ، 3 ] وقوله حكاية عن إبراهيم { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء : 78 ] وإما أن يكون الخلق بمعنى الصورة والشكل أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به فأعطى العين هيئتها التي تطابق الإبصار ، والأذن ما يوافق الاستماع ، والأنف للشم ، واليد للبطش ، بل أعطى رجل الآدمي شكلاً يوافق سعيه ، ورجل الحيوانات الأخر شكلاً يطابق مشيها ، بل أعطى ذوات القرون رجلاً توافق حاجتهن ، وكذا الخف والحافر وذوات المخالب . وقيل : أراد وأعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة فجعل الحصان والحجر زوجين ، وكذا البعير والناقة والرجل والمرأة . ومن قرأ { خلقه } بفتح اللام صفة للمضاف أو المضاف إليه والمفعول الثاني متروك أي كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه .
واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في مخلوقاته بحر لا ساحل له ، وقد دوّن العلماء طرفاً منها في كتب التشريح وخواص الأحجار والنبات والحيوان ، ولنذكر ههنا واحداً منها هي أن الطبيعي يقول : الثقيل هابط والخفيف صاعد ، فالماء لذلك فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الكل . ثم إنه سبحانه جعل العظم والشعر أصلب الأعضاء على طبيعة الأرض وجعل مكانهما فوق البدن . وجعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية في القلب كالنار ليكون دليلاً على وجود الفاعل المختار خلاف ما يقوله الدهري والطبيعي وسائر الكفار . وأيضاً اختصاص كل جسم بقوة وتركيب وهداية إما أن يكون واجباً أو جائزاً ، والأول محال وإلا لم يقع فيها تغير . والثاني يستدعي مرجحاً فإن كان ذلك المرجح واجب الوجود لذاته فهو المطلوب ، وإن كان جائز الوجود افتقر في اتصافه بالوجود إلى موجد ، ولا بد من الانتهاء إلى موجد يجب وجوده لذاته .

ثم إنه يستغني عن سمات النقص وشوائب الافتقار وليس إلا الله الواحد القهار .
قال أهل النظم : إن موسى عليه السلام لما قرر عليه أمر المبدأ { قال } فرعون إن كان وجود الواجب في هذه الحد من الظهور { فما بال القرون الأولى } لم يؤمنوا وجحدوا فعارض الحجة بالتقليد والبال الحال؟ أو أنه لما هدده بالعذاب في قوله { أن العذاب على من كذب وتولى } قال فما بالهم كذبوا فما عذبوا؟ فأجاب بأن هذا ما استأثر الله بعلمه وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما يخبرني به علام الغيوب . أو أنه سأله عن أحوال القرون الخالية وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ليصرف موسى عن المقصود ويشغله بالحكايات خوفاً من أن يميل قلوب ملته إلى حجته الباهرة ودلائله الظاهرة ، فلم يلتفت موسى إلى حديثه بل { قال علمها عند ربي } ولا يتعلق غرضي بأحوالهم . ويجوز أن يكون الكلام قد انجر ضمناً أو صريحاً إلى إحاطة الله سبحانه بكل شيء فنازعه الكافر قائلاً : ما بال سوالف القرون في تمادي كثرتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟ فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل . وقوله { علمها عند ربي } مع قوله { في كتاب } لا يتنافيان ، بل المراد أنه تعالى عالم بجميع المغيبات مطلع على الكليات والجزئيات من أحوال الموجودات والمعدومات ، ومع ذلك فإن جميع الأحوال ثابتة في اللوح المحفوظ ثم كان لقائل أن يقول : لعلها أثبتت في اللوح لاحتمال الخطأ والنسيان فتدارك ذلك بقوله { لا يضل ربي ولا ينسى } قال مجاهد : هما واحد المراد أنه لا يذهب عنه شيء ولا يخفى عليه . والأكثرون على الفرق فقال القفال : الأول إشارة إلى كونه عالماً بالكل ، والثاني إشارة إلى بقاء ذلك العلم أي لا يضل عن معرفة الأشياء ، وما علم من ذلك لا ينساه ولا يتغير علمه ، يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له . وقال مقاتل : لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه . وقال الحسن : لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه . وقال أبو عمر : ولا يغيب عنه شيء ولا يغرب عنه شيء . وقال ابن جرير : لا يخطىء في التدبير فيعتقد غير الصواب صواباً وإذا عرفه لا ينساه والوجوه متقاربة . والتحقيق ما قاله القفال . وعن ابن عباس : لا يترك من كفر حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه .
ولما ذكر الدليل العام المتناول لجميع المخلوقات السمويات والأرضيات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النباتات والجمادات ذكر الدلائل الخاصة فقال : { الذي جعل لكم الأرض مهدا } أي كالمهد وهو ما يمهد للصبي .

قال أبو عبيدة : الذي أختاره مهاد لأنه اسم لما يمهد والمهد مصدر . وقال غيره : المهد اسم والمهاد جمع . وقال المفضل : هما مصدران { وسلك } أي حصل { لكم فيها سبلاً } ووسطها بين الجبال والأودية والبراري . يقال : سلكت الشيء في الشيء سلكاً بالفتح أي أدخلته فيه { فأخرجنا به } أي بواسطة إنزال الماء . ومن المتكلمين الأقدمين من أنكر تأثير الوسائط رأساً و { أزواجاً } أي أصنافاً فأسميت بذلك لأنها مزدوجة مقترن بعضها ببعض . و { شتى } صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ، أو صفة للنبات لا مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها مختلفة النفع والطبع والطعم واللون والرائحة والشكل . ثم ههنا إضمار والتقدير وقلنا أو قائلين { كلوا وارعوا أنعامكم } وذلك أن بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم ، وإباحة الأكل تتضمن إباحة سائر وجوه الانتفاع كقوله : { ولا تأكلوا أموالكم } [ البقرة : 188 ] ومن نعم الله تعالى أن أرزاق العباد إنما تتحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله . قال الجوهري : النهية بالضم واحدة النهى وهي العقول لأنها تنهى عن القيبح . وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مصدراً كالهدى وخص أرباب العقول بذلك لأنهم هم المنتفعون بالنظر فيها والاستدلال بها على وجود صانعها . { ومنها خلقناكم } لأن آدم مخلوق من الأرض . أو لأن بني آدم خلقوا من النطفة ودم الطمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضية ، أو لما ورد في الخبر أن الملك يأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه الآدمي فيذرّها على النطفة . { وفيها نعيدكم } لأن الجسد يصير تراباً فيختلط بالأرض إلا من رفعه الله إلى السماء ، وهو أيضاً يحتمل أن يعاد إليها بعد ذلك . { ومنها يخرجكم تارة أخرى } بالحشر والبعث ، أو بأن نخرجكم تراباً وطيناً ثم نحييكم بعد الإخراج ، أو المراد الإحياء في القبر . وههنا بحث وهو أن يكون قوله : { الذي جعل لكم الأرض } إلى ههنا من تتمة كلام موسى ، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى . وعلى الأول يمكن أو يوجه قوله : { فأخرجنا } بأن المراد فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة والزرع { أزواجاً من نبات شتى } إلا أن قوله : { كلوا وارعوا } إلى قوله : { ومنها نخرجكم } لا يطابقه . وإن قيل : إن كلام موسى يتم عند قوله : { وأنزلنا من السماء ماء } لم يصلح قوله : { فأخرجنا } ابتداء كلام من الله لمكان فاء التعقيب ، والصواب أن يتم كلام موسى عند قوله : { ولا ينسى } ثم إنه تعالى ابتداء فقال : { الذي } أي هو الذي جعل إلى آخره ، وعلى هذا يكون قوله : { فأخرجنا } من قبيل الالتفات علماً للكلام وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره تخصيصاً بأن مثل هذا لا يدرك تحت قدرة أحد سواه .

والحاصل أنه تعالى عدد عليهم ما علق بالأرض من المنافع حيث جعلها لهم فراشاً يتقلبون عليها عند الإقامة . وسوّى لهم فيها مسالك يتقلبون بها في أسفارهم ، وأنبت فيها أصناف النبات متاعاً لهم ولأنعامهم . ثم إن الأرض لهم كالأم التي منها انشئوا وهي التي تجمعهم وتضمهم إذا ماتوا . ثم يخرجون من الأجداث خروج الأجنة من الأرحام ، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تمسحوا بالأرض » أي ارقدوا واسجدوا عليها من غير حائل ، أو تيمموا بها فإنها بكم برة أي إنها لكم كالأم . ومنا خلقناكم وفيها معايشكم وهي بعد الموت كفاتكم .
قوله عز وعلا : { ولقد أريناه آياتنا } أي عرفناه صحتها . ثم إن كان التعريف يستلزم حصول المعرفة فيكون كفره كفر جحود وعناد كقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل : 14 ] وإلا كان كفر جهالة وضلالة . سؤال الجمع المضاف يفيد العموم ولا سيما إذا أكد بالكل ، لكنه تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملتها ما أظهرها على الأنبياء الأقدمين ولم يتفق لموسى مثلها . الجواب هذا التعريف الإضافي محذوّ به حذو التعريف العهدي لو قيل الآيات كلها وهي التي ذكرت في قوله : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [ الإسراء : 101 ] ولو سلم العموم فالمراد أنه أراه الآيات الدالة على التوحيد في قوله : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه } وعلى النبوة بإظهار المعجزات القاهرة وعلى المعاد لأن تسليم القدرة على الإنشاء يستلزم تسليم القدرة على الإعادة بالطريق الأولى ، أو أراد أنه أراه آياته المختصة به وعدد عليه سائر آيات الأنبياء وإخبار النبي الصادق جارٍ مجرى العيان ، أو إراءة بعض الآيات كإراءة الكل كما أن تكذيب بعض الآيات يستلزم تكذيب الكل كما قال : { فكذب } أي الآيات كلها { وأبى } قول الحق . قال القاضي : الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك وإلا لم يتوجه الذم . وجواب الأشاعرة أنه لا يسأل عما يفعل . ثم إن فرعون خاف أن تميل قلوب ملته إلى قول موسى فذكر ما يوجب نفار القوم عنه مع القدح في نبوته لادعاء إمكان معارضته قائلاً { أجئتنا لتخرجنا } فإن الإخراج من الديار قرينة القتل بدليل قوله : { أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم } [ النساء : 66 ] ثم طالب للمعارضة موعداً فإن جعلته زمان الوعد بدليل قوله : { موعدكم يوم الزينة } بالرفع كان الضمير في { لا نخلفه } عائداً إلى الوعد المعلوم من الموعد أو إلى زمان الوعد مجازاً . وانتصب { مكاناً } على أنه ظرف للوعد المقدر ، وإن جعلته مكان الوعد ليكون قوله : { مكاناً } بدلاً منه فوجه عود الضمير في { لا نخلفه } مثل ما قلنا ، ويكون قوله : { موعدكم يوم الزينة } مطابقاً له معنى ، لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان مشتهر عندهم وكأنه قيل : موعدكم مكان الاجتماع في يوم الزينة .

وإن جعلته مصدراً ليصح وصفه بعدم الإخلاف من غير ارتكاب إضمار ، أو تجوّز انتصب { مكاناً } على أنه ظرف .
ثم من قرأ { يوم الزينة } بالنصب فظاهر أي وعدكم أو انجاز وعدكم في يوم الزينة ، أو وقت وعدكم في يوم الزينة . وفي يوم { يحشر الناس } هو ضحى أي ضحى ذلك اليوم . ومن قرأ بالرفع فيقدر مضاف محذوف أي وعدكم وعد يوم الزينة ومعنى { سوى } بالكسر والضم عدلاً ووسطاً بين الفريقين . وهو معنى قول مجاهد . فوصف المكان بالاستواء باعتبار المسافة . وقال ابن زيد : أي مستوياً لا يحجب شيئاً بارتفاعه وانخفاضه ليسهل على كل الحاضرين ما يجري بين الفريقين . وقال الكلبي : { مكاناً سوى } هذا المكان الذي نحن فيه الآن . قال القاضي : الأظهر أن قوله : { موعدكم يوم الزينة } من قول فرعون لأنه الطالب للاجتماع . وقال الإمام فخر الدين الرازي : الأقرب أنه من كلام موسى ليكون الكلام مبنياً على السؤال والجواب ، ولأن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع وهذا إنما يليق بالمحق الواثق بالغلبة لا بالمبطل المزور ، على أن موعدكم خطاب الجمع وليس هناك إلا موسى وهارون ، فإما أن يرتكب أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب مرجوح ، وإما أن يقال الجمع للتعظيم ولم يكن فرعون ليعظمهما ، ويوم الزينة يوم عيد لهم يتزينون فيه . وعن مقاتل يوم النيروز ، وعن سعيد بن جبير يوم سوق لهم . وعن ابن عباس : هو يوم عاشوراء . وإنما قال : { وأن يحشر } من غير تسمية الفاعل لأنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حشر لهم . ومحل { أن يحشر } رفع أو جر عطفاً على اليوم أو الزينة عين اليوم . ثم الساعة وهي { ضحى } ذلك اليوم . وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة ، وليشيع أمره العجيب في الأقطار والأعصار والأطراف والأكناف ، ففي ذلك تقوية دين الحق وتكثير راغبيه وقلة شوكة المخالف وتوهين عزائمهم { فتولى فرعون } انصرف إلى مقام تهيئة الأسباب المعارضة فإن صاحب السحر يحتاج في تدبير الحسر إلى طول الزمان ولهذا طلب الموعد وقال مقاتل : أعرض وثبت على إعراضه عن الحق { فجمع كيده } أي أسباب الكيد وأدوات الحيلة والتمويه من مهرة السحر وغير ذلك { ثم أتى } الموعد . عن ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا . وقيل : أربعمائة . وقيل : أكثر من ذلك فضرب لفرعون قبة طولها سبعون ذراعاً فجلس فيها ينظر إليهم فبين الله تعالى أن موسى قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير على عادة الصالحين من أهل النصح والإشفاق ، ولا سيما الأنبياء المبعوثين رحمة للأمم { ويلكم } نصب على المصدر الذي لا فعل له أو على النداء { لا تفتروا على الله كذباً } بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحراً { فيسحتكم } السحت لغة أهل الحجاز والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم ، ومعناه الاستئصال .

حذرهم أمرين : أحدهما عذاب الدارين والتنوين للتعظيم ، والآخر الخيبة والحرمان عن المقصود فإن التمويه لا بقاء له { فتنازعوا أمرهم بينهم } كقوله في الكهف : { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } [ الكهف : 21 ] أي وقع التنازع بينهم { وأسروا النجوى } الضمير لفرعون وقومه . وقيل : للسحرة ويؤده ما روي عن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه . وعن قتادة : إن كان ساحراً فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر . وعن وهب : لما قال { ويلكم } الآية قالوا : ما هذا بقول ساحر . والأكثرون على الأول وذلك أنهم تفاوضوا وتشاوروا حتى استقروا على شيء واحد وهو أنهم .
{ قالوا إنْ هذان ساحران } إلى آخر الآية : لا إشكال في قراءة أبي عمرو وكذا في قراءة ابن كثير وحفص ، لأنه كقولك « إن زيداً لمنطلق » واللام فارقة بين المخففة والنافية . وأما من قرأ « إن » بالتشديد و { هذان } بالألف فأورد عليه أن « إن » لم يعمل في المثنى . وأجيب بأنه على لغة الحرث بن كعب وخثعم وبعض بني عذرة ، ونسبها الزجاج إلى كنانة ، وابن جني إلى بعض بني ربيعة ، جعلوا التثنية كعصا وسعدى مما آخره ألف فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب . وقيل : « إن » بمعنى « نعم » واعترض أن ما بعده حينئذ يصير كقوله :
أم الحليس لعجوز شهربة ... ولا يجوز مثله إلا في ضرورة الشعر . وإنما موضع لام الابتداء في السعة هو المبتدأ . والجواب أن القرآن حجة على غيره ، وذكر الزجاج في جوابه أن التقدير لهما ساحران فاللام داخلة على صدر الجملة الصغرى . قال : وقد عرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلي وإسماعيل بن إسحاق فارتضاه كل منهم وذكروا أنه أجود ما سمعنا في هذا الباب ، وضعفه ابن جنى بأن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمراً معلوماً جلياً وإلا كان تكليفاً بعلم الغيب للمخاطب ، وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام . وأيضاً إن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب ، فالجمع بينهما محال مع أن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس . وأيضاً امتنع البصريون من جعل النفس في قولك : « زيد ضرب نفسه » تأكيداً للمستكن فدل ذلك على أن تأكيد المنوي غير جائز . وأيضاً لو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزاً لحمل النحويون قول الشاعر على ذلك ولم يحملوه على الاضطرار ، ولمن تبصر قول الزجاج أن يجيب عن الأول بأن التأكيد إنما هو لنسبة الخبر إلى المبتدأ لا للمبتدأ وحده ، ولو سلم فذكر اللام يدل على المبتدأ المنوي وذكر المبتدأ لا يدل على التأكيد فكان حذف المبتدأ أولى .

وعن الثاني بأن الكلام قد يكون موجزاً من وجه مطنباً من وجه آخر فلا منافاة ، وإنما المنافاة إذا كانت الجهتان واحدة . وعن الثالث بأنهم امتنعوا من حمل النفس على التأكيد في المثال المذكور لأنهم رأوا أن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر ، لا لأن تأكيد المنوي ممتنع على أنا بينا أن المؤكد ليس بمحذوف في الآية مطلقاً فإن أحد طرفي الكلام مذكور . وعن الرابع بأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلاً فكم ترك الأول للآخر .
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء : الطريقة اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم . ويقال : هم طريقة قومهم وهو طريقة قومه ، قبح أمر موسى في أعين الحاضرين ونفرقهم بأنه ساحر ، والطباع نفور عن السحر وبأنه يقصد إخراجكم من دياركم - وهذا أيضاً مما يبغض القاصد إليهم - وبأنه يريد أن يذهب بأشراف قومكم وأكابركم قالوا وهم بنوا إسرائيل لقول موسى أرسل معنا بني إسرائيل وجعلها الزجاج من باب حذف المضاف أي بأهل طريقتكم المثلى وسموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى لأن كل حزبٍ بما لديهم فرحون . والمثلى تأنيث الأمثل أي الأشبه بالحق ، ومنهم من فسر الطريقة ههنا بالجاه والمنصب والرياسة وكان الأمر على ما يقال به . من قرأ { فأجمعوا } من الجمع فظاهر ، ومن قرأ من الإجماع فمعناه اجعلوا كيدكم مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا نظيره ما مر في سورة يونس { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } [ الآية : 71 ] سماه كيداً لأنه علم أن السحر لا أصل له . وقال الزجاج : معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه . ثم أمرهم بأن يأتوا صفاً أي مصطفين مجتمعين ليكون أهيب في الصدور وأوقع في النفوس . وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى أي مصلى من المصليات أو هو علم لمصلى بعينه لأن الناس يصطفون فيه لعيدهم وصلواتهم . { وقد أفلح اليوم من استعلى } أي فاز من غلب وهو اعتراض . واعلم أن قصة السحرة أكثرها يشبه ما مر في « الأعراف » وقد فسرناها هنالك فنحن الآن نقتصر ونذكر ما هو المختص بهذه السورة . { إما أن تلقي } أي اختر أحد الأمرين إلقاءك أو إلقاءنا { فإذا حبالهم } هي « إذا » المفاجأة وأصلها الوقت أي فاجاً موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم . قال وهب : سحروا أعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك . وقيل : أراد أنه شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلاً { فأوجس } أضمر { في نفسه خيفةً } هو مفعول { أوجس } و { موسى } فاعله أخر للفاصلة . وذلك الخوف إما من جبلة البشرية حين ذهل عن الدليل وهو قول الحسن ، وإما لأنه خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه قاله مقاتل ، أو خاف أن يتأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت ، أو خاف أن يتفرق بعض القوم قبل أن يشاهدوا غلبته ، أو خاف تمادي الأمر عليه وتكرره فأزال الله تعالى خوفه مجملاً بقوله { إنك أنت إلاّ على } وفيه من أنواع التأكيد ما لا يخفى وهي الاستئناف والتصدير بأن ، والتوسيط بالفصل ، وكون الخبر معرفاً ولفظ العلو ومعناه الغلبة وصورة التفضيل ولا فضل لهم ومفصلاً بقوله { وألق ما في يمينك } لم يقل عصاك لما علم في الأعراف ولما في هذه السورة { وما تلك بيمينك } وقال جار الله : هو تصغير لشأن العصا وتهوين لأمر السحرة أي ألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يبتلع { ما صنعوا } أي زوّروا وافتعلوا على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها ، أو هو تعظيم لشأنها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة لأن في يمينك شيئاً أعظم شأناً من كلها { إنما صنعوا } إن الذي افتعلوه { كيد سحر } أي ذي سحر ، أو ذوي سحر ، أو هم في توغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه ، أو الإضافة للبيان أي كيد هو سحر كقولك « علم فقه » وإنما وجد ساحر فيمن قرأ على الوصف ليعلم أن المقصود هو الجنس كما قال .

{ ولا يفلح الساحر } أي هذا الجنس ولو جمع لأوهم أن المراد هو العدد وإنما نكر أولاً لأن المراد تنكير الكيد كأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر أو من أفعال السحرة وجميع أقسام السحر ، وأفراد السحرة لا فلاح فيها ومن نظائره « إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً لا في أمر دنيا ولا في أمر آخره » . ومعنى سبهللاً أنه يجيء ويذهب في غير شيء . ومعنى { حيث أتى } أينما كان وأية سلك { فألقى السحرة سجداً } قال جار الله : سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر في السجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! . وروي أنهم لم يرفعوا رؤسهم حتى رأوا الجنة والنار أو أثواب أهلها ، وعن عكرمة : لما خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة . واستبعده القاضي لأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف . وقلت : إذا كان الإيمان مقدماً على هذا الكشف فلا منافاة ولا إلجاء . ثم إن فرعون لعب لعب الحجل وأنكر عليهم إيمانهم وألفى شبهته في البين أنه كبيرهم أي أسحرهم وأعلاهم درجة في الصناعة ، أو معلمهم وأستاذهم من قول أهل مكة للمعلم « أمرني كبيري » أي أستاذي في العلم أو غير ، وأوعدهم بقطع الأيدي والأرجل { من خلاف } قال في الكشاف : « من » لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو والعضو لا من وفاقه إياه .

قالت : الأولى أن يقال الخلاف ههنا بمعنى الجهة المخالفة حتى يصح معنى الابتداء أي لأقطعن أيديكم وأرجلكم مبتدأ من الجهتين المتخالفتين يميناً وشمالاً ، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال أي لأقطعنها مختلفات الجهات . قيل { في جذوع النخل } أي عليها والأصوب أن يقال : هي على أصلها شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف { أينا أشد } أراد نفسه وموسى وفيه صلف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس واستخفاف بموسى مع الهزء به ، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء قاله في الكشاف . قلت : يحتمل أن يريد بقوله { أينا } الله تعالى ونفسه لنقدم ذكر رب هارون وموسى ، وقد سبق عذاب الله في قوله { أن العذاب على من كذب وتولى } وفي قوله { فيسحتكم بعذاب } ويؤيده قول السحرة في جوابه { والله خير وأبقى } { لن نؤثرك } لن نختارك { على ما جاءنا من البينات } المعجزات الظاهرات { و } على { الذي فطرنا } أو الواو للقسم وعلى هذا يجوز أن يكون على ما جاءنا بمعنى فيما جاءنا أي لن نميل إليك والحالة هذه . وعلى الوجه الأول ففحوى الكلام لن نترك طاعة خالقنا والتصديق بمعجزات نبيه لأجل هواك { فاقض ما أنت قاضٍ } بما شئت من العذاب { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } أي في مدة الحياة العاجلة ، وقرىء { تقضي } مبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع إجراء للظرف مجرى المفعول به اتساعاً مثل صيم يوم الجمعة . والحاصل أن قضاءك وحكمك منحصر في مدة حياتنا الفانية . والإيمان وثمرته باقٍ لا يزول ، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني للفوز بالسعادة الباقية وللخلاص من العقاب الأبدي وذلك قولهم { إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } قال الحسن : سبحان الله قوم كفار ثبت في قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا في ذات الله تعالى { فاقض ما أنت قاضٍ } والله إن أحدهم ليصحب القرآن ستين عاماً ثم ليبيع دينه بثمن غبن .
ولما كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا { وما أكرهتنا عليه من السحر } وفي هذا الإكراه وجوه : عن ابن عباس أن الفراعنة كانوا يكرهون فتيانهم على تعلم السحر ليوم الحاجة فكانوا من ذلك القبيل . وروي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائماً ففعل فوجده تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر لأن الساحر إذا نام بطل سحره فأبوا أن يعارضوه . وعن الحسن أنهم حشروا من المدائن مكرهين ، وزعم عمر بن عبيد أن دعوة السلطان إكراه ، وليس بقوي فلا إكراه إلا مع الخوف فحيثما وجد حكم بالإكراه وإلا فلا . وباقي الآيات ابتداء إخبار من الله أو هي من تتمة كلامهم فيه قولان ، ولعل الأول أولى { إنه } أي الشأن { من يأت ربه } أي حيث لا حكم إلا هو فيسقط استدلال المجسمة حال كون الآتي { مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها } موتة مريحة { ولا يحيى } حياة ممتعة .

قالت المعتزلة : صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم بالآية لعموم « من » الشرطية بدليل صحة الاستثناء فيحل القطع بوعيد أصحاب الكبائر . أجابت الأشاعرة بأن المجرم كثيراً ما يجيء في القرآن بمعنى الكافر كقوله { يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر } [ المدثر : 40-42 ] إلى قوله { وكنا نكذب بيوم الدين } [ المدثر : 46 ] ولا ريب أن التكذيب بالبعث والجزاء كفر ، وكقوله { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } [ المطففين : 29 ] إلى آخر السورة . فلم قلتم : إن المجرم ههنا ليس بمعنى الكافر فتبطل المقدمة الأولى؟ سلمنا لكن المقدمة الثانية كليتها ممنوعة على الإطلاق وإنما هي كلية بشرط عدم العفو ، وحينئذٍ لا يحصل القطع بالوعيد على الإطلاق . سلمنا المقدمتين والنتيجة لكنه معارض بعموم الوعد في قوله { ومن يأته مؤمناً } فإن قيل : صاحب الكبيرة لم يأته مؤمناً عندنا . قلنا : يصدق عليه المؤمن لأن الإيمان صدر عنه في الزمان الماضي كالضارب على من قد ضرب أمس وليس بين الحال والزمان الماضي منافاة كلية ولهذا صح « جاءني زيد قد قام » بل صح قوله { قد عمل الصالحات } وأنه حال آخر فكأنه قيل : ومن يأته قد آمن قد عمل . ولئن قيل : إن عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة . قلنا : ممنوع بل العكس أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وإقامة الحد على التائب في بعض الصور لأجل المحنة لا لأجل التنكيل . وقوله { نكالاً من الله } في حق من لم يتب بعد من السرقة سلمنا أن قوله { ومن يأته مؤمناً } لا يعم صاحب الكبيرة إلا أن قوله { فأولئك لهم الدرجات العلى } من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحات أي الواجبات ، لأن الزائدة عليها غير محصور فسائر الدرجات التي غير عالية لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان . ثم عظم شأن المذكور بقوله { وذلك جزاء من تزكى } أي قال « لا إله لا إله الله » قاله ابن عباس . وفيه دليل على أن قوله { ومن يأته مؤمناً } يشمل صاحب الكبيرة ، وقال آخرون { تزكى } أي تطهر من دنس الذنوب وعلى هذا يقع صاحب الكبيرة خارجاً .


وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)

القراآت : { لا تخف دركاً } بالجزم : حمزة الباقون { لا تخاف } بالرفع { أنجيتكم } و { واعدتكم } و { رزقكم } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف { ووعدناكم } من الوعد . أبو عمرو وسهل ويعقوب { فيحل } { ومن يحلل } بالضم فيهما : عليّ . الآخرون بالكسر { يملكنا } بفتح الميم : أبو جعفر ونافع ، وعاصم غير المفضل بضمها حمزة ، وعلي وخلف بكسرها الباقون والمفضل { حملنا } بفتح الحاء والميم مخففة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف سوى حفص . الآخرون بضم الحاء وكسر الميم مشددة { تتبعني } بالياء الساكنة في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو ونافع غير إسماعيل في الوصل ، وقرأ يزيد وإسماعيل بفتح الياء . الباقون بحذفها . { يا ابن أم } بكسر الميم : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص . { لم تبصروا } بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف الباقون على الغيبة { فنبذتها } مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وهشام وسهل { لن تخلفه } بكسر اللام : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب . الآخرون بفتحها { لنحرقنه } بفتح النون وضم الراء : يزيد . الآخرون من التحريق . { فلا يخف } بالجزم على النهي : ابن كثير { أن نقضي } النون مبنياً للفاعل { وحيه } بالنصب : يعقوب الباقون بالياء مضمومة وبفتح الضاد { وحيه } بالرفع .
الوقوف : { يبسا } ج لأن قوله { لا تخاف } يصلح صفة للطريق مع حذف الضمير العائد أي لا تخاف فيه ، ويصلح مستأنفاً . ومن قرأ { لا تخف } فوقفه أجوز لعدم العاطف ووقوع الحائل مع تعقب النهي الأمر إلا أن يكون جواباً للأمر فلا يوقف { ولا تخشى } 5 { ما غشيهم } ط لأن التقدير وقد أضل من قبل على الحال الماضية دون العطف لأنه عندما عشيه لم يتفرغ للإضلال . { وما هدى } 5 { والسلوى } 5 { غضبي } ج { هوى } 5 { اهتدى } 5 { يا موسى } 5 { لترضى } 5 { السامري } 5 { أسفاً } ج لانتساق الماضي على الماضي بلا ناسق { حسناً } ط { موعدي } 5 { السامري } 5 لا { فنسي } 5 ط { قولاً } لا للعطف { ولا نفعاً } 5 ط { فتنتم به } ج للابتداء بأن مع اتصال العطف { أمري } ج { موسى } 5 { أن لا تتبعن } ط { أمري } 5 { برأسي } ج للابتداء ( بأن ) مع اتصال المعنى واتحاد القائل { قولي } 5 { يا سامري } 5 { نفسي } 5 { لا مساس } ص { لن تخلفه } ج لاختلاف الجملتين { عاكفاً } ط للقسم المحذوف { نسفاً } 5 { إلا هو } ط { علماً } 5 { سبق } ج للإستئناف والحال { ذكرا } ج 5 لأن الشرطية تصلح صفة للذكر وتصلح مبتدأ بها { وزراً } 5 لا لأن قوله { خالدين } حال من الضمير في { يحمل } وهو عائد إلى « من » ومن للجمع معنى { فيه } ط { حملاً } 5 لا لأن { يوم ينفخ } بدل من يوم القيامة . { زرقاً } 5 ج لأن ما بعده يصلح للصفة وللاستئناف { عشراً } 5 { يوماً } 5 { نسفاً } 5 لا { صفصفاً } 5 لا { أمتا } 5 { لا عوج له } ج لاختلاف الجملتين { همساً } 5 { قولاً } 5 { علماً } 5 { القيوم } ط { ظلماً } 5 { هضماً } 5 { ذكراً } 5 { الحق } ج { وحيه } ز لعطف الجملتين المتفقتين مع اعتراض الظرف وما أضيف إليه { علماً } 5 .

التفسير : هذا شروع في قصة إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم وقد تقدم في « البقرة » وفي « الأعراف » وفي « يونس » ومعنى { فاضرب لهم طريقاً } إجعل لهم من قولهم « ضرب له في ماله سهماً وضرب اللبن عمله » أو أراد بين لهم طريقاً { في البحر } بالضرب بالعصا حتى ينفلق فعدي الضرب إلى الطريق ، ثم بين أن جميع أسباب الأمن حاصلة في ذلك الطريق . واليبس مصدر وصف به ومثله اليبس ونحوهما العدم والعدم ويوصف به المؤنث لذلك فيقال : ناقتنا يبس إذا جف لبنها . والدرك . والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك . وفي { لا تخشى } إذا قرىء { لا تخف } أوجه الاستئناف أي وأنت لا تخشى ، وجوز في الكشاف أن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله { ولا تظنون بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] وأن يكون كقول الشاعر :
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً ... أراد لم تر لأن ما قبله :
وتضحك مني شيخة عبشمية ... قلت : لعل هذا إنما يجوز في الضرورة ولا ضرورة في الآية { فأتبعهم فرعون } الحق بهم جنوده أو تبعهم ومعه جنوده كما مر في « يونس » { فغشيهم } أي علاهم ورهقهم { من اليم ما غشيهم } وهذا من جملة ما علم في باب الإيجاز لدلالته على أنه غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله ، وقد سلف منه في السور المذكورة ما حكي في الأخبار وروي في الآثار . ونسبة الإضلال إلى فرعون لا تنافي انتهاء الكل إلى إرادة الله ومشيئته . وقوله { وما هدى } تأكيد للإضلال وفيه تهكم به في قوله { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } [ غافر : 38 ] ثم عدد ما أنعم به على بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون خطاباً لليهود المعاصرين لأن النعمة على الآباء نعمة في حق الأبناء ومثله قوله { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } أي الواقع على يمين من انطلق من مصر إلى الشام لأن منفعة المواعدة عادت إليهم وإن كانت المواعدة لنبيهم فبكتب التوراة في ألواح قام شرعهم واستقام أمر معاشهم ومعادهم . { كلوا } من تتمة القول . وطغيانهم في الرزق هو شغلهم باللهو والتنعم عن القيام بشكرها وتعدي حدود الله فيها بالإسراف والتقتير والغصب . ومن قرأ { فيحل } بالكسر فبمعنى الوجوب من قولهم « حل الدين يحل » إذا وجب أداؤه ، ومن قرأ بضم فبمعنى النزول ونزول الغضب نزول نتائجة من العقوبات والمثلات . ومعنى { هوى } هلك وأصله السقوط من مكان عالٍ كالجبل . وقيل : هوى أي وقع في الهاوية .

سؤال : كيف أثبت المغفرة في حق من استجمع التوبة والإيمان والعمل الصالح ، والمغفرة إنما تتصور في حق من أذنب؟ وأيضاً ما معنى قوله { ثم اهتدى } بعد الأمور المذكور والاهتداء إنما يكون قبلها لا أقل من أن يكون معها؟ الجواب أراد وإني لغفار لمن تاب من الكفر وآمن وعمل صالحاً . وفيه دليل لمن ذهب إلى وجوب تقديم التوبة من الكفر على الإيمان . والحاصل أن الغفران يعود إلى الذنوب السابقة على هذه الأمور ، ويجوز أن يراد أنه إذا تاب من الكفر وأقبل على الإيمان والعمل الصالح فإن الله يغفر الصغائر التي تصدر عنه في خلال ذلك كقوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [ النساء : 31 ] وأما الاهتداء فالمراد به الاستقامة والثبات على الأمور المذكورة كقوله { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 20 ] ومعنى « ثم » الدلالة على تباين المرتبتين ، فإن المداومة على الخدمة أصعب من الشروع فيها كما قيل :
لكل إلى شأو العلى حركات ... ولكن عزيز في الرجال ثبات
ونظير هذا العطف قوله { أهلكناها فجاءها بأسنا } [ الأعراف : 4 ] وقد مر البحث فيه . ويروى أن موسى قد مضى مع النقباء السبعين إلى الطور على الموعد المضروب ، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله فأنكر الل تعالى تقدمه قائلاً { وما أعجلك عن قومك } أيّ شيء عجل بك عنهم؟ فالمراد بالقوم النقباء لا جميع قومه على ما توهم بعضهم يؤكده قوله { هم أولاء على أثري } ولم يكن جميع قومه على أثره . قال جار الله : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين : أحدهما إنكار العجلة في نفسها ، والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين إلى موسى تمهيد العذر من العجلة نفسها فاعتل بأنه لم يوجد مني إلا تقدم يسير وليس بيني وبينهم إلا مسافة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال { وعجلت إليك رب لترضى } أي طلبت دوم رضاك عني أو مزيد رضاك بناء على اجتهادي أن التعجيل إلى مقام المكالمة والحرص على ذلك يوجب مزيد الثواب والكرامة . وقيل : لما أنكر عليه الاستعجال دهش خوفاً من العقاب فتحير في الجواب { قال فإنا قد فتنا قومك } يعني جميع قومه الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفاً . يروى أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا : قد أكملنا العدة . ثم كان أمر العجل بعد ذلك فسئل أنه تعالى كيف قال لموسى عنه مقدمه { إنا قد فتنا قومك } ؟ وأجيب بأنه على عادة الله تعالى في إخباره عن الأمور المترقبة بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع ، أو أراد بدء الفتنة لأن السامري افترض غيبة موسى فعزم على إضلال قومه غب انطلاقه .

ولقائل أن يمنع كون هذه الأخبار عند مقدم موسى عليه السلام بل لعله عند رجوعه بدليل فاء التعقيب في قوله { فرجع موسى } قال جار الله إنه رجع بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأوتي التوراة . وسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة . وقيل : السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم . وقيل : كان علجاً من كرمان واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً وكان من قوم يعبدون البقر . قالت المعتزلة : الفتنة بمعنى الإضلال لا يجوز أن تنسب إلى الله تعالى لأنه يناقض قوله { وأضلهم السامري } وإنما الفتنة بمعنى الامتحان بتشديد التكليف ومنه « فتنت الذهب بالنار » وبيان ذلك أن السامريّ لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة الأجسام على أن العجل لا يصلح للإلهية . وقالت الأشاعرة : الشبهة في كون الشمس والقمر إلهاً أعظم من العجل الذي له خوار وهو جسد من الذهب وحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديداً في التكليف ، فلا يكون فتنة من هذا الوجه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم . وأجابوا عن إضافة الضلال إلى السامري بن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن كان الموجد لها في الحقيقة هو الله تعالى . قال بعضهم : الأسف المغتاظ ، وفرق بين الاغتياظ والغضب لأن الغيظ تغير يلحق المغتاظ فلا يصح إلا على الأجسام ، والغضب قد يراد به الإضرار بالمغضوب عليه فلهذا صح إطلاقه على الله سبحانه .
ثم عاتب موسى عليه السلام قومه بأمور منها : قوله { ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً } كأنهم كانوا معترفين بالرب الأكبر لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي تذكر عبدة الأصنام أو على تأويل الحلول . والوعد الحسن هو إنزال التوراة التي فيها هدى ونور . وقيل : هو الثواب على الطاعات ومثله ما روي عن مجاهد أن العهد المذكور من قوله { ولا تطغوا فيه } إلى قوله { ثم اهتدى } وقيل : وعدهم إهلاك فرعون ووعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل . ومنها قوله { أفطال عليكم العهد } أي الزمان يريد مدة مفارقته لهم وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فاخلفوا موعده بعبادتهم العجل . وقيل : أراد عهدهم بنعم الله تعالى من الإنجاء وغيره . والأكثرون على الأول لما روي أنه وعدهم ثلاثين كما أمر الله تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } [ الأعراف : 142 ] فجاء بعد الأربعين لقوله تعالى { وأتممناها بعشر } ولما روي أنهم حسبوا العشرين أربعين ومنها قوله { أم أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم } قالوا : هذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحداً لا يريد هلاك نفسه ولكن المعصية - وهو خلاف الموعد - لما كانت توجب ذلك صح هذا الكلام لأن مريد السبب مريد للمسبب بالعرض .

احتج العلماء بالآية وبما مر من قوله { فيحل عليكم غضبي } أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام . وموعد موسى هو ما ذكرنا من أنهم وعدوه الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور . وقيل : وعدوه اللحاق به والمجيء على أثره { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } بالحركات الثلاث أي بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده . والظاهر أن القائلين هم عبدة العجل . وقيل : إنهم الذين لم يعبدوا العجل وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل فلم يقدر على منعهم ولم يقدروا أيضاً على مخالفتهم حذراً من التفرقة وزيادة الفتنة . ثم إن القوم بينوا ذلك العذر المجمل فقالوا { ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم } أي أثقالاً من حلي القبط كما مر في « الأعراف » . وقيل : الأوزار الآثام وإنها في الحقيقة أثقال مخصوصة معنوية سموا بذلك لأن المغانم لم تحل حينئذ أو لأنهم كانوا مستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي . وقيل : إن تلك الحلي كان القبط يتزينون بها في مجامع الكفر ومجالس المعاصي فلذلك . وصفت بأنها أوزار كما يقال في آلات المعاصي { فقذفناها } أي في الحفرة ، كان هارون أمرهم بجمع الحلي انتظاراً لعود موسى ، أو في موضع أمرهم السامري بذلك بعد أن أوقد النار { فكذلك ألقى السامري } مثل فعلنا أراهم أنه يلقي حلياً في يده مثل ما ألقوه . وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حافر فرس جبريل كما يجيء في قوله { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار } قد مر في « الأعراف » { فقالوا } أي السامري ومن تبعه { هذا إلهكم وإله موسى فنسي } موسى أن يطلبه ههنا فذهب يطلبه عند الطور ، أو فنسي السامري وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر ، أو نسي الاستدلال على أن العجل لا يجوز أن يكون إلهاً بقوله { أفلا يرون أن لا يرجع } « أن » مخففة من الثقيلة ولهذا لم تعمل . وقرىء بالنصب على أنها الناصبة . قال العلماء : ظهور الخوارق على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الالتباس ، وههنا كذلك فوجب أن لا يمتنع خلق الحياة في صورة العجل . وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال : ما تصنع؟ فقال : أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي . فقال : اللهم أعطه ما سألك . فلما مضى هارون قال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور فخار . وعلى هذا التقدير يكون معجزاً للنبي لا السامري .

ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحاً وإشفاقاً في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال . أما شفقته على نفسه فهي أنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، أما الامتثال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم { يا قوم إنما فتنتم به } قال جار الله : كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون فزجرهم عن الباطل أولاً بأن هذا من جملة الفتن .
ثم دعاهم إلى الحق بقوله { وإن ربكم الرحمن } ومن فوائد تخصيص هذا الاسم بالمقام أنهم إن تابوا عما عزموا عليه لإن الله يرحمهم ويقبل توبتهم . ثم بين أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال { فاتبعوني وأطيعوا أمري } وهذا ترتيب في غاية الحسن . واعلم أن الشفقة على خلق الله أصل عظيم في الدين وقاعدة متينة . روى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس إذا نظر إلى شاب على باب المسجد فقال : من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه . فسمع الشاب ذلك فولى وقال : إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق ، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى يبر يمينه ولا تسفع النار أحداً . فهبط جبريل وقال : يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقدته من النار بتصديقه لك وفداء أمتك بنفسه وشفقته على الخلق . قال أهل السنة ههنا : إن الشيعة تمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم « أنت مني بمنزلة هارون من موسى » ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل ذلك الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعته ، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على عليّ كرم الله وجهه أن يفعل ما فعل هارون من غير تقية وخوف . وللشيعة أن يقولوا : إن هارون صرح بالحق وخاف فسكت ولهذا عاتبه موسى بما عاتب فاعتذر ب { إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } [ الأعراف : 15 ] وهكذا علي رضي الله عنه امتنع أولاً من البيعة فلما آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا . وإنما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصب . ثم إن القوم قابلوا حسن موعظة هارون بالتقليد والجحود قائلين { لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } ولا يخفى ما في هذا الكلام من أنواع التوكيد من جهة النفي ب « لن » ، ومن لفظ البراح والعكوف ، ومن صيغة اسم الفاعل ، ومن تقديم الخبر .

ثم حكى ما جرى بين موسى وهارون بعد الرجوع وقوله { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن } كقوله { ما منعك ألا تسجد } [ الأعراف : 12 ] في أن « لا » هذه مزيدة أم لا؟ . وقد مر في « الأعراف » . وفي هذا الإتباع قولان : فعن ابن عباس ما منعك من إتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم . وقال مقاتل : أراد الإتباع في وصيته كأنه قال : هلا قتلت من كفر بمن آمن ومالك لا تباشر الأمر كما كنت أباشره . قال الأصوليون : في قوله { أفعصيت أمري } دلالة على أن تارك المأمور به عاصٍ والعاصي يستحق العقاب لقوله { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم } [ الجن : 22 ] فيعلم منه أن الأمر للوجوب . واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام هل أمر هارون باتباعه أم لا؟ وعلى التقدير فهارون أتبعه أم لا؟ فإن لم يأمره أو أمره ولكن اتبعه فملامته لهارون من غير جرم تكون ذنباً ، وإن أمره ولم يتبعه كان هارون عاصياً . وأيضاً قوله { أفعصيت } بمعنى الإنكار . فإما أن يكون موسى كاذباً في نسبة العصيان إلى هارون ، وإما أن يكون هارون عاصياً . وأيضاً أخذه بلحية هارون وبرأسه إن كان بعد البحث والتفتيش فهارون عاصٍ وإلا فموسى . وأجيب بأن كل ذلك أمور اجتهادية جائزة الخطأ أو هي من باب الأولى وقد مر في أوائل « البقرة » في آدم ما يتعلق بهذه المسألة .
قوله : { ولم ترقب قولي } أي وصيتي لك بحفظ الدهماء واجتماع الشمل يؤيده قوله : { إني خشيت أن تقول فرقت } قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة ما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا في الدين ما تحملوا ، وأما قوم موسى فقد رأوا ذلك مع زيادة سائر الآيات التسع ومع ذلك اغتروا بصوت العجل وعكفوا على عبادته ، فعرفنا أن الغرض لا يحصل إلا بهداية الله تعالى . ولما فرغ موسى من عتاب هارون أقبل على السامري ، ويمكن أن يكون بعيداً ثم حضر أو ذهب إليه موسى ليخاطبه قال جار الله : الخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه . فإذا قيل : لمن يفعل شيئاً ما خطبك؟ فمعناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنيعه { قال } أي السامري } بصرت بما لم يبصروا به } قال ابن عباس ورواه أبو عبيدة : علمت بما لم يعلموا به من البصارة . يعني العلم . وقال الآخرون : رأيت بما لم تروه فالباء للتعدية ، رجح العلماء قراءة الغيبة على الخطاب احترازاً من نسبة عدم البصارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

والقبضة بالفتح مصدر بمعنى المفعول وهو المقبوض بجميع الكف . عامة المفسرين على أن المراد بالرسول جبريل عليه السالم وأثره التراب الذي أخذه من موقع حافر دابته واسمها حيزوم فرس الحياة . ومتى رآه؟ الأكثرون على أنه رآه يوم فلق البحر كان جبريل على الرمكة وفرعون على حصان وكان لا يدخل البحر ، فتقدم جبريل فتبعه فرس فرعون . وعن علي رضي الله عنه أن جبريل لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس وكان راكب حيزوم فقال : إن لهذا شأناً فقبض من تربة موطئه . فمعنى الآية فقبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد . ثم من المفسرين من جوز أن السامري لم يعرف أنه جبريل ومنهم من قال : إنه عرفه . عن ابن عباس : إنما عرفه لأنه رباه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بقتل أولاد بني إسرائيل . فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس . فكان السامري أخذه جبريل وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه . وقال أبو مسلم : إطلاق الرسول على جبريل في المقام من غير قرينة تكليف بعلم الغيب . وأيضاً تخصيص السامري من بين الناس برؤية جبريل وبمعرفة خاصية تراب حافر دابته لا يخلو عن تعسف ، ولو جاز اطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول : لعل موسى اطلع على شيء آخر لأجله قدره على الخوارق . فالأولى أن يراد بالرسول موسى فقد يواجه الحاضر بلفظ الغائب كما يقال : ما قول الأمير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه على موسى نوعاً من التهكم لأنه كان كافراً به مكذباً . وأراد بأثره سنته ورسمه من قولهم « فلان يقفو أثر فلان » أي عرفت أن الذي عليه ليس بحق وقد كنت قبضت شيئاً من سنتك فطرحتها . فعلى قول العامة يكون قوله : { وكذلك سوّلت لي نفسي } إشارة إلى ما أوحي إليه وليه الشيطان أن تلك التربة إذا نبذت على الجماد صار حيواناً . وعلى قول أبي مسلم يشير إلى أن اتباع أثرك كان من تسويلات النفس الأمارة فلذلك تركته . ثم بين موسى أن له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة . يروى أنه أراد أن يقتله فمنعه الله من ذلك وقال : لا تقتله فإنه سخيّ . وفي قوله : { لامساس } وجوه : الأوّل إنه حرم عليه مماسة الناس لأنه إذا اتفق أن هناك مماسة فأحدهم الماس والثاني الممسوس فلذلك إذا رأى أحداً صاح لا مساس . ويقال : إن قومه باقٍ فيهم ذلك إلى الآن الثاني : أن المراد منع الناس من مخالطته . قال مقاتل : إن موسى أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له : اخرج أنت وأهلك طريداً إلى البراري .

اعترض الواحدي عليه بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول : هو لامساس . وإنما يقال له ذلك . وأجيب بأن هذا على الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك لم تقل إلا لا مساس . والثالث : قول أبي مسلم إن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يمكن له مماسة المرأة أي مجامعتها . وأما حاله في الآخرة فلذلك قوله : { وإن لك موعداً لن تخلفه } قال جار الله : من قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً . ثم بين مآل حال إلهه فقال : { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً } أي ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفاً { لنحرقنه } من الإحراق ففيه دليل على أنه صار لحماً ودماً لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار ونسفه في الميم . قال السدي : أمر موسى بذبحه فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف . والنسف النقض ومن جعله من الحرق أي لنبردنه بالمبرد ففيه دلالة على أنه لم ينقلب حيواناً إلا إذا أريد برد عظامه . ومن جعله من التحريق فإنه يحتمل الوجهين والمراد إهدار السامري وإبطال كيده ومحق صنيعه والله خير الماكرين . ثم ختم الكلام ببيان الدين الحق فقال : { إنما إلهكم } أي المستحق للعباد والتعظيم { الله الذي لا إله إلاَّ هو وسع كل شيء علماً } قد مر مثله في « الأنعام » قال مقاتل : أي يعلم من يعبده .
وحين فرغ من قصة موسى شرع في تثبيت رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال : { كذلك } أي نحو اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون والسامري { نقص عليك من } سائر أخبار الرسل مع أممهم تكثيراً لمعجزاتك . ثم عظم شأن القرآن بقوله : { وقد آتيناك من لدنا ذكراً } أي ما ذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف في دنيه وفي دنياه والوزر العقوبة الثقيلة التي تنقض ظهر صاحبها ، أو المراد جزاء الوزر وهو الإثم { خالدين فيه } أي في ذلك الوزر أو في احتماله { وساء } فيه ضمير مبهم يفسره { حملاً } والمخصوص محذوف للقرينة أي ساء حملاً وزرهم . واللام في { لهم } للبيان كما في { هيت لك } [ يوسف : 23 ] ويجوز أن يكون « ساء » بمعنى « قبح » ويكون فيه ضمير الوزر . وانتصب { حملاً } على التمييز و { لهم } حال من { حملاً } ولا أدري لم أنكره صاحب الكشاف ، اللَّهم إلا أن يمنع وقوع الحال من التمييز وفيه نظر . قال ابن السكيت : الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس : وفي الصور قولان : أشهرهما أنه القرن يؤيده قوله : { فإذا نقر في الناقور } [ المدثر : 8 ] وإنه تعالى يعرّف أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر فجعل الله تعالى النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات .

وأقربهما من المعقول أن الصور جمع صورة يؤكده قراءة من قرأ بفتح الواو . يقال : صورة وصور كدرة ودرر . والنفخ نفخ الروح فيها ولكنه يرد عليه أن النفخ يتكرر لقوله تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى } [ الزمر : 68 ] والإحياء لا يتكرر بعد الموت إلا ما ثبت من سؤال القبر وليس هو بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق { ونحشر المجرمين } عن ابن عباس : هم الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر . وقال المعتزلة : هم الكفار والعصاة . وفي الزرق وجوه : قال الضحاك ومقاتل : إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب ، لأن الروم أعداؤهم وإنهم زرق العيون ، ومن كلامهم في صفة العدوّ « أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين » . وقال الكلبي : { رزقاً } أي عمياً . قال الزجاج : يخرجون بصراء في أول أمرهم لقوله : { ليوم تشخص فيه الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] ولقوله : { اقرأ كتابك } [ الإسراء : 14 ] ثم يؤل حالهم إلى العمى وإن حدقة من يذهب نور بصرة تزرق . وقيل { زرقاً } أي عطاشا لقوله : { ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً } [ مريم : 86 ] فكأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي { يتخافتون } يتسارون { بينهم } من شدة خوفهم أو لأن صدورهم امتلأت رعباً ، وهؤلاء يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لأنها أيام سرورهم وهن قصار ، وإما لأنها قد انقضت والذاهب قليل وإن طال ولا سيما بالنسبة إلى الأبد السرمدي كأن ظنينهم يقول : قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى لبثنا في الآخرة كعشرة أيام . فقال أعقلهم : بل كاليوم الواحد . وإنما قال : { عشراً } لأن المراد عشر ليال . وقال مقاتل : أراد عشر ساعات أي بعض يوم . وعلى هذا فأفضلهم رد عليهم استقصارهم وتقالهم . وقيل : المراد لبثهم في القبور .
قال أهل النظم : كأن سائلاً سأل : كيف يصح التخافت بين المجرمين والجبال حائلة مانعة؟ فلذلك قال : { ويسألونك عن الجبال } وقال الضحاك : إن مشركي مكة قالوا على سبيل الاستهزاء : يا محمد كيف يكون حال الجبال يوم القيامة؟ فنزلت . ويحتمل أن يكون هذا جواب شبهة تمسك بها منكرو البعث - منهم جالينوس - زعم أن الأفلاك لا تفنى لأنها لو فنيت لابتدأت بالنقصان حتى تنتهي إلى البطلان ، وكذا الجبال وغيرها من الأجرام الكلية ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم هذه المسألة الأصولية من غير تأخير ولهذا أدخل فاء التعقيب في الجواب . والنسف القلع . وقال الخليل : التطيير والإذهاب كأنه يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها . وحاصل الجواب أن كل بطلاً لا يلزم أن يكون ذبولياً بل قد يكون رفعياً . والضمير في { فيذرها } للمضاف المحذوف أي فيدع مقارها ومراكزها وهو للأرض للعلم بها كقوله : { ما ترك على ظهرها } [ فاطر : 45 ] والقاع المستوي من الأرض . وقيل : المكان المطمئن . وقيل : مستنقع الماء .

والصفصف الأرض الملساء المستوية . وقيل : التي لا نبات فيها . والأمت النتوّ اليسير . وقيل : التلال الصغار . قالوا : العوج بالكسر في المعاني وكأنه سبحانه نفى العوج الذي يدق عن الإحساس ولا يدرك إلا بالقياس الهندسي . وإذا كان هذا النوع من العوج الاعتباري منتفياً فكيف بالعوج الحسي! وقد يستدل بالآية على أن الأرض يومئذ تكون كرة حقيقة إذ لو كانت مضلعة وقعت بين الأضلاع فصول مشتركة فيعوج الامتداد القائم عليها هناك . ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بأن الخلائق فيه { يتبعون الداعي } قيل : هو النفخ في الصور وقوله : { لا عوج له } أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل . وقيل : إن إسرافيل أو ملكاً آخر يقوم على صخرة بيت المقدس ينادي : أيها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة ، قومي إلى ربك للحساب والجزاء فلا يعوج له مدعوّ بل يتبعون صوته من غير انحراف . { وخضعت الأصوات للرحمن } خفضت من شدة الفزع { فلا تسمع } أيها السامع { إلا همساً } وهو الصوت الخفي . وذلك أن الجن والإنس علموا أن لا مالك لهم سواه ، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه . وعن ابن عباس والحسن وعكرمة وابن زيد الهمس وطء الأقدام إلى المحشر . قوله : { إلا من أذن له الرحمن } يصلح أن يكون « من » منتصباً على المفعولية وأن يكون مرفوعاً على البدلية بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن { ورضي له } أي لأجله { قولاً } .
قال الإمام فخر الدين الرازي : الاحتمال الأول أولى لعدم التزام الإضمار ، ولأن درجة الشافع درجة عظيمة فلا تصلح ولا تحصل إلا لمن أذن له فيها وكان عند الله مرضياً . فلو حملنا الآية على ذلك كان من إيضاح الواضحات بخلاف ما لو حملت على المشفوع . وأقول : الاحتمالان متقاربان متلازمان لأن المشفوع لا تقبل الشفاعة في حقه إلا إذا أذن الرحمن لأجله فيعود إلى الثاني . قالت المعتزلة : الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوب أن لا ينتفع بشفاعة الرسول . وأجيب بأنه قد رضي لأجله قولاً واحداً من أقواله وهو كلمة الشهادة . قالوا : هب أن الفاسق قد رضي الله قولاً لأجله ، فلم قلتم إن الإذن حاصل للشافع في حقه؟ والجواب أنا أيضاً نمنع من أن الإذن غير حاصل في حقه على أنه قال في موضع آخر { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] فلم يعتبر إلا أحد القيدين . ثم أخبر عن نهاية علمه بقوله : { يعلم ما بين أيديهم } . الضمير للذين يتبعون الداعي أي يعلم ما يقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه { ولا يحيطون } بمعلومه { علماً } . وقال الكلبي ومقاتل : الضمير للشافعين من الملائكة والأنبياء كما مر في آية الكرسي . وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له أي يعلم ما كان قبل خلقهم وما كان منهم بعد خلقهم من أمر الآخرة والثواب العقاب وإنهم لا يعلمون شيئاً من ذلك فكيف يصلحون للمعبودية .

ثم ذكر غاية قدرته فقال : { وعنت الوجوه } أي زلت رقاب الممكنات منقادين لأمره كالأسارى . عنا يعنو عنوّاً إذا صار أسيراً . وقيل : أراد وجوه العصاة في القيامة كقوله : { سيئت وجوه الذي كفروا } [ الملك : 27 ] ولعله خص الوجوه بالذكر لأن أثر الذل والانكسار فيها أبين وأظهر ، قال جار الله : { وقد خاب } وما بعده اعتراض أي كل من ظلم فهو خائب خاسر . ولأهل السنة أن يخصوا الظلم ههنا بالشرك أو يعارضوا هذا العموم بعمومات الوعد . من قرأ { فلا يخاف } بالرفع فعلى الاستئناف أي فهو لا يخاف كقوله : { فينتقم الله منه } [ المائدة : 95 ] ومن قرأ { فلا يخف } فمعناه فليأ من له لأن النهي عن الخوف أمر بالأمن . من فسر الظلم بأنه الأخذ فوق حقه بالنقص من حقه كصفة المطففين فيقدر مضافاً محذوفاً أي فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم لأنه لم يظلم ولم يهضم ، ومن فسر الظلم بأنه العقاب لا على جريمة والهضم بأنه النقص من الثواب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف . قال أبو مسلم : الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفى حقه من التعظيم لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثواباً إلا إذا قارنه التعظيم .
قال جار الله : { وكذلك } عطف على قوله : { كذلك نقص } أي ومثل ذلك الإنزال وعلى نهجه ، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله عربياً لأن العرب أصل وغيرهم تبع لأن النبي عربي . { وصرفنا فيه من الوعيد } كررناه وفصلناه ويدخل في ضمنه الفرائض والمحارم لأن الوعيد يتعلق بترك أحدهما وبفعل الآخر { لعلهم يتقون أن يحدث لهم ذكراً } حمل جار الله الأول على إرادة ترك المعاصي والثاني على فعل الخبر والطاعة ، لأن الذكر قد يطلق على الطاعة والعبادة . قلت : لا ريب أن القرآن ينفر عن السيئات ويبعث على الطاعات من حيث إن فهم معانيه يؤدّي إلى ذلك ، وإنما قدم الأول على الثاني لأن التخلية مقدمة على التحلية . ويحتمل أن تكون التقوى عبارة عن فعل الخيرات وترك المنكرات جميعاً . والذكر يكون محمولاً على ضد النسيان أي إن نسوا شيئاً من التروك والأفعال أحدث لهم ذكراً إذا تأملوا معانية . وكلمة « أو » على الأول للتخيير والإباحة لا للتنافي ، وعلى الثاني يجوز أن تكون للتنافي . وقيل : أراد أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يوجب القرآن لهم ذكراً أي شرفاً ومنصباً كقوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] وعلى التقديرين يكون في إنزال القرآن نفع . ثم عظم شأن القرآن من وجه آخر وهو عظمة شأن منزلة قائلاً { فتعالى الله الملك الحق } ارتفع صفاته عن صفات المخلوقين أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وأنه منزه عن الانتفاء والتضرر بطاعاتهم ومعاصيهم .

ومعنى الحق قد مر في البسملة . قال جار الله : فيه استعظام له ولما يصرّف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه وغير ذلك كما يجري عليه أمر ملكوته . قال أبو مسلم : إن قوله : { ويسئلونك عن الجبال } إلى ههنا كلام تام . وقوله : { ولا تعجل } خطاب مستأنف . وقال آخرون : إنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يفوته شيء فيقرأ مع الملك ، فإنه تعالى حين شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن الانتفاع والتضرر بالطاعات والمعاصي . وأنه موصوف بالملك الدائم والعز بالباقي ، وكل من كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي وما يتعلق بصلاح العباد في المعاش والمعاد . قال : { ولا تعجل بالقرآن } لأنه حصل لك الأمان من السهو والنسيان { من قبل أن يقضي إليك وحيه } أي من قبل أن تتم قراءة جبريل ونحوه قوله { لا تحرّك به لسانك لتعجل به } [ القيامة : 16 ] قاله مقاتل والسدي وابن عباس في رواية عطاء . وقال مجاهد وقتادة : أراد ولا تعجل بالقرآن فتقرأ على أصحابك من قبل أن يوحى إليك بيان معانية أي لا تبلغ ما كان مجملاً حتى يأتيك البيان . وقال الضحاك : إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا : يا محمد ، أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة أن اليهود قد غلبوا فنزلت هذه الآية . أي لا تعجل بنزول القرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومن جبرائيل ومنه إليك . وعن الحسن : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : زوجي لطم وجهي فقال : بينكما القصاص فنزلت الآية فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصاص . وإنما نشأت هذه الأقوال لأن قوله : { ولا تعجل بالقرآن } يحتمل التعجيل بقراءته في نفسه ، أو في تأديته إلى غيره ، أو في اعتقاده ظاهره ، أو في تعريف الغير ما يقتضيه الظاهر . وقوله : { من قبل أن يقضى إليك وحيه } احتمل أن يراد من قبل أن يقضى إليك تمامه ، أو من قبل أن يقضى إليك بيانه فقد يجوز أن يحصل عقيبه استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات والمبينات ويؤكد هذه المعاني قوله : { وقل رب زدني علماً } لأن معرفة البيان علم زائد على معرفة الإجمال . والظاهر أن هذا الاستعجال كان أمراً اجتهادياً وكان الأولى تركه فلذلك نهى عنه . قال جار الله : هذا الأمر متضمن للتواضع لله والشكر له عندما علم من ترتيب التعلم أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي فزدنى علماً إلى علم . ومن فضائل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم .

وفيه إشارة إلى أن أسرار القرآن غير متناهية ، اللَّهم إن هذا العبد الضعيف معترف بقصوره ونقصانه فأسألك مما سألك به نبيك أن ترزقني بتبعيته علماً ينفعني في الدارين .
التأويل : { ولقد أوحينا إلى موسى } القلب { أن أسر بعبادي } وهم صفات القلب من الأخلاق الحميدة سر بهم من مصر البشرية إلى بحر الورحانية . { فاضرب لهم } بعصا الذكر { طريقاً يبساً } من ماء الهوى وطين الصفات الحيوانية وباقي التأويل كما مر في « يونس » { ونزلنا عليكم } منّ صفاتنا وسلوى أخلاقنا فاتصفوا بطيبات أخلاقنا { ولا تطغوا فيه } بإفشاء أسرار الربوبية إلى غيرنا كمن قال : أنا الحق وسبحاني . فإن الحالات لا تصلح للمقاولات . { وإني لغفار لمن } رجع عن الطغيان { وآمن } بالربوبية { وعمل صالحاً } في مقام العبودية { ثم اهتدى } فتحقق أن حضرة الربوبية منزهة عن دنس الوهم والخيال ومقام الوصال مباين للقيل والقال . { وعجلت إليك } فيه أن الشوق إذا غلب انقطع العلائق وأن مطلوب السائل لا ينبغي أن يكون إلا رضا الله . { قد فتنّا قومك من بعدك } فيه أن فتنة الأمة والمريد مقرونة بالنبي والشيخ . { بملكنا } أي بإرادتنا ومشيئتنا ولكن بإرادة الله ومشيئته . { فكذلك ألقى السامري } من غير اختيار منه ولكن باضطرار من القدر { با ابن أم } قيل خاطبه بذلك ليذكره قول الملائكة : يا ابن النساء الحيض ما للتراب ورب الأرباب . { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } فيه أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة ولأهل الغرامة استدراج وفتنة فيصرفونها في الباطل والطبيعة لا في الحق والحقيقة . قوله : { لامساس } فيه معارضة بنقيض مقصود من أراد الجمعية والغلبة واتباع الناس إياه ، فعدت بالتفرد والتوحش والنفار عن الخلق { زرقا } إن الوجه أشرف أعضاء الإنسان والعين أشرف أعضاء الوجه ، وزرق العين دلالة على خروجها عن الاعتدال ، وإذا كان أشرف الأعضاء خارجاً عن الاعتدال فما ظنك بغيرها؟ وكذا بالأخلاق التابعة للأمزجة . { وعنت الوجوه } أي كل جهة بها يستند الممكن إلى الواجب . { يتبعون الداعي } لأن كل ناس تدعى بإمامهم فيتبعونه ألبتة وأهل الله لا يفرون إلا إلى الله في قوله : { والله يدعوا إلى دار السلام } [ يونس : 25 ] وعلى الله السمتعان .


وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

القراآت : { وإنك } بالكسر : أبو بكر وحماد والخراز ونافع . الباقون بالفتح عطفاً على { أن لا تجوع } ولا يلزم منه دخول « إن » المكسورة على المفتوحة للفصل بالخبر ، ولأنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه { أعمى } بالإمالة . حمزة وعلي وخلف { حشرتني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير . { ترضى } مبيناً للمفعول : علي وأبو بكر وحماد والمفضل { زهرة } بفتح الهاء : قتيبة وسهل ويعقوب . الآخرون بسكونها . وقرأ حمزة وعلي وخلف هذه السورة وكل سورة آياتها على الياء بالإمالة المفرطة وإن شاء بين الفتح والكسر .
الوقوف : { عزماً } 5 { إلا إبليس } ط { أبى } 5 { فتشقى } 5 { ولا تعرى } 5 ، لمن قرأ { وإنك } بالكسر { ولا تضحى } 5 { لا يبلى } 5 { الجنة } ز لنوع عدول عن ذكر حال اثنين إلى بيان فعل من هو المقصود { فغوى } 5 ص { وهدى } 5 { عدوّ } ج لابتداء الشرط مع الفاء { ولا يشقى } ، 5 { يوم القيامة أعمى } 5 { بصيراً } 5 { فنسيتها } ج لعطف المختلفين { تنسى } 5 { يآت ربه } ط { وأبقى } 5 { مساكنهم } ط { النهي } 5 { مسمى } 5 ط { غروبها } ج لعطف الجملتين مع اختلاف النظم { يرضى } 5 { لنفتنهم فيه } ط { وأبقى } 5 { عليها } ط { رزقاً } ط { نرزقك } ط { للتقوى } 5 { من ربه } ط { الأولى } 5 { ونخزى } 5 { فتربصوا } ج لسين التهديد مع الفاء { اهتدى } 5 .
التفسير : في تعلق قصة آدم بما قبلها وجوه منها : أنه لما قال : { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } ثم عظم شأن القرآن وبالغ فيه ذكر القصة إنجازاً للوعد . ومنها أنه لما قال : { وصرفنا فيه من الوعيد } أردفه بهذه القصة ليعلم أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وخلة موروثة ، وذلك أنه عهد إلى آدم من قبل هؤلاء الذين صرف لأجلهم الوعيد فنسي وترك العهد . ومنها أن قوله : { ولا تعجل بالقرآن } دليل على أنه صلى الله عليه وسلم زاد على قدر الواجب في رعاية أمر الدين وكان مفرطاً في أداء الرسالة وحفظ ما أمر به فناسب أن يعطف عليه قصة آدم لأنه كان موسوماً بالتفريط والإفراط والتفريط كلاهما من باب ترك الأولى ، وإذا كان أوّل الأنبياء وخاتمهم موصوفين بما فيه نوع تقصير فما ظنك بغيرهما! ومن هنا يعرف أفضلية الخاتم فإنه سعى في طلب الكمال إلى أن عوتب بالخروج عن حد الاعتدال ، وآدم توسط في حيز النقصان فلا جرم وسم بالظلم والعصيان . ومنها أن محمداً صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول { رب زدني علماً } ثم ذكر عقيبه قصة آدم تنبيهاً على أن بني آدم مفتقرون في جميع أحوالهم إلى التضرع واللجأ إلى الله حتى ينفتح عليهم أبواب التيسير في العلم والعمل .

ومعنى { عهدنا إلى آدم } أمرناه ووصيناه { من قبل } أي من قبل محمد والقرآن . وفي النسيان قولان : أحدهما أنه نقيض الذكر . عن الحسن : والله ما عصي قط إلا بنسيان . والثاني أن معناه الترك وعلى هذا يحتمل أن يقال : أقدم على الأكل من غير تأويل . وأن يقال : أقدم عليه بتأويل قد مر في « البقرة » . قال أهل الإشارة : عهد إليه أن لا يعلق نوره فانقاد للشيطان وهو النسيان . والعزم أيضاً فيه أقوال : أحدها عزماً على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد . وثانيها عزماً في العود إلى الذنب ثانياً . وثالثها رأياً وصبراً أي لم يكن من أهل العزيمة والثبات إذ كان من حقه أن يتصلب في المأمور به تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل . قال جار الله : قوله : { ولم نجد له } يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه { له عزماً } وأن يكون بمعنى نقيض العدم كأنه قال : وعد مثاله عزماً . قوله : { وإذ قلنا للملائكة } سلف في « البقرة » مستقصى قوله : { إن هذا عدوّ لك } ذكروا في سبب عداوته إياه أنه كان شاباً عالماً لقوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } وإبليس كان شيخاً جاهلاً لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله ، والشيخ الجاهل أبداً يكون عدوّاً للشاب العالم . وأيضاً الماء والتراب مضادان للنار { فلا يخرجنكما } فلا يكون سبباً لإخراجكما لأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه { فتشقى } فتتعب في طلب القوت وسائر ما يتعيش به الإنسان أسند الشقاء إليه وحده مع اشتراكهما في الخروج لأن الرجل أصل في باب الإنفاق والكسب والمرأة تابعة له .
ثم بين ذلك الشقاء بقوله : { إن لك أن تجوع فيها } إلى آخره . والظمأ العطش وتقول : ضحيت للشمس بالكسر أضحى ضحاء ممدوداً إذا برزت لها . والمراد به الكن مع أن الجنة ليس فيها شمس حتى يتصور فيها الضحاء ، نفى كون هذه الأمور في الجنة ليثبت حصولها في غيرها . ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي : الشبع والري الكسوة والكن . وأما المنكوح فمشترك إلا أن مؤن النكاح تختص بالدنيا وأنها أيضاً ترجع إلى المذكورات . يروى أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع . { فوسوس إليه الشيطان } أنهى إليه وسوسة كما مر في « الأعراف » . بيان الوسوسة أنه { قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } أضافها إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنه من باشر أثره حيي { وملك لا يبلى } أي لا ينقطع ولا يزول . قال القاضي : ليس في الظاهر أنه قيل ذلك منه لأنه لا بد أن يحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فصل بالموت ، والنبي يمتنع أن لا يعلم هذا القدر .

وأجيب بالمنع ولو سلم فلم لا يكفي الفصل بغشي أو نوح خفيف . ولو سلم أنه لا يكفي فلم استحال أن يجهل النبي ذلك كما جهل عدم جواز الرؤية زعمكم حين قال : { أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] ومما يدل على أن آدم قبل وسوسته قوله تعالى : { فأكلا } بالفاء مشعر بالعلية كقول الصحابي : « زنى ماعز فرجم » وما في الآية قد مر تفسيره في « الأعراف » إلا قوله : { وعصى آدم ربه فغوى } قال بعض الناس : إن آدم ذنبه كبيرة وإلا لم يوصف بالعصيان والغواية فإن العاصي والغاوي اسمان مذمومان عرفاً وشرعاً وقد ترتب الوعيد عليهما . وأجيب بأن المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون مندوباً . وزيف بالمنع من أن المندوب غير مأمور به . ثم أن مخالفة عاص وإلا كان الأنبياء كلهم عصاة لأنهم لا ينكفون عن ترك المندوب . قالوا : يقال أشرت إليه في أمر كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني . وأجيب بالمنع من أن هذا من مستعملات العرب العاربة ، ولو سلم فلعله إنما يقال ذلك إذا عرف أن المستشير لا بد له أن يفعل ذلك ، وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً وإن لم يكن وجوب شرعي لأن ذلك الإيجاب لم يصدر عن الشارع . ومنهم من زعم أنه ذنب صغير وهم عامة المعتزلة ورد بأن المعاصي إسم من يستحق العقاب وهذا لا يليق بالصغيرة . وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ولهذا قال سبحانه { فغوى } أي خاب من نعيم الجنة لأن الرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود والغي ضده ، وأنه سعى في طلب الخلود فنال ضد المقصود . وعن بعضهم { فغوى } أي بشم من كثرة الأكل وزيفه جار الله . ورد قول أبي مسلم بأن مصالح الدنيا تكون مباحة فلا يوصل تاركها بالعصيان .
قلت : في هذا نظر ، والأحوط في هذا الباب أن يعتقد كون هذه الواقعة قبل النبوة بدليل قوله : { ثم اجتباه ربه } أي اختاره للرسالة { وهدى } لحفظ أسباب العصمة . أصل الاجتباء هو الجمع كما مر في آخر « الأعراف » . يروى عن أبي أمامة : لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه . وقد قال الله تعالى : { ولم نجد له عزماً } قال العلماء : فيه دليل على أنه لا رادَّ لقضائه وما قدره كائن لا محالة ، وإذا جاء القضاء عمي البصر والدليل قد يكون غاية الظهور ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفي على آدم عداوة إبليس ، وأنه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع من سجوده فكيف قبل من وسوسة { لولا كتاب من الله سبق } [ الأنفال : 68 ] قال المحققون : الأولى أن لا يطلق لفظ العاصي والغاوي على آدم عليه السلام وإن ورد في القرآن { وعصى آدم ربه فغوى } لأنه لم تصدر عنه الزلة إلا مرة واحدة .

وصيغة اسم الفاعل تنبىْ عن المزاولة ، ولأن المسلم إذ تاب عن الشرب أو الزنا وحسنت توبته لا يقال له شارب وزان ، ولأن السيد يجوز له أن يشتم عبده بما شاء وليس لغيره ذلك . { قال اهبطا } قد مر تفسير مثله في « البقرة » خاطبهما بالهبوط لأنهما أصلا البشر ثم عم الخطاب لهما ولذريتهما في قوله { فإما يأتينكم } أما قوله : { بعضكم لبعض عدوّ } فقد قال القاضي : يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس والناس أعداء لهم ، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام . عن ابن عباس : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا قوله : { فمن ابتع هداي فلا يضل ولا يشقى } والسبب فيه أن العقاب في الآخرة لأجل أنه قد ضل عن الدين في مدة التكليف ، واتباع كتاب الله يستلزم عدم الضلال عن الدين المستتبع للنجاة من العقاب في الآخرة . وأما الشقاء الذي قد يلحق المؤمن في الدنيا فلا اعتداد به لقصر مدته على أن الرضا بالقضاء يهوّن عليه مصائب الدنيا وآفاتها . ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر ههنا هو الهدى المذكور لأن قوله : { ومن أعرض عن ذكري } في مقابلة قوله : { فمن اتبع هداي } . وقد مر في أول « البقرة » أن المراد به الشريعة والبيان . وقال كثير من المفسرين : إن الذكر هو القرآن وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص . والضنك الضيق مصدر وصف به . ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث . يقال : منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل : ذات ضنك . قالت الحكماء : عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه ، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة . وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة . أما لأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشاً رافغاً . والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا . عن ابن عباس : المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها ، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة . وسئل الشبلي عن قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية » فقال : أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الأنسان إلى نفسه . قلت : التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم ، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفاً فكثيراً ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضاً خوفاً من المآل .

وأما الثاني فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه : « عذاب القبر للكافر » وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه . وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق في الآخرة وفي جهنم ، وأ طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين ، فلا يموتون فيها ولا يحيون .
أما قوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى } كقوله : { ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً } [ طه : 102 ] فيمن فسر الزرق بالعمى { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } [ الإسراء : 97 ] { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } [ الإسراء : 72 ] قال الجبائي : أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيراً كالأعمى . وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال القاضي : هذا القول ضعيف لأنه لا بد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل ، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً باعتبار ما كان ، لكن قوله : { وقد كنت بصيراً } ينافيه . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا ، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا . قال : والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلة في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجهالة سبباً لأعظم الآلام الروحانية . وأقول على القاضي : يحتمل أن يكون مجازاً باعتبار الغاية . فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذا الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة ، ولا كونه بصيراً في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافراً معانداً ، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه : { كذلك } أي مثل ذلك فعلت أنت . ثم فسر ذلك بقوله : { أتتك آياتنا } أي دلائلنا وضاحة مستنيرة { فنسيتها } أي تركت العمل بها والقيام بموجبها { وكذلك اليوم تنسى } تترك بلا فائدة النظر والاعتبار . وعلى الإمام الرازي : إنه لا يلزم من كون المكلف غير متضرر بنسيان الدلائل في الدنيا كونه غير متضرر به في الآخرة . وأما قوله في الجواب المحقق بناء على قاعدة الحكيم إن جهل النفس يصير سبباً لتعذيبها فإن كان منعاً لقول المعتزلة إنه تعالى يعلم المكلف بطلان ما كان عليه في الدنيا فذاك لا يفتقر إلى العدول ، وإن كان تسليماً لقولهم فمن أين يتحمل الاعتراض هذا وقد رأيت في بعض الآثار أن أشد الناس عمى يوم القيامة هم الذين حفظوا القرآن ثم نسوه .

دليله قوله تعالى : { أتتك آياتنا فنسيتها } اللَّهم اجعلني ممن يواظب على تلاوة كتابك حتى لا أنساه يوم ألقاك . { وكذلك نجزي من أسرف } قيل : عصى ربه . والأظهر أنه أراد أشرك وكفر بدليل قوله : { ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة } وهو الحشر على العمى { أشد وأبقى } من ضيق المعيشة في العاجل أو أراد ، وتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا .
ثم وبخ المعرضين عن الدلائل بعدم الاعتبار بأحوال القرون الخالية فقال : { أفلم يهد لهم } بالفاء وفي السجدة بالواو ، لأن الكلام ههنا كالمتصل بقوله : { ومن أعرض عن ذكري } وهناك كالمنفصل عن الإعراض لأنه قال : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } [ السجدة : 22 ] . وبعد ذلك أورد قصة موسى فناسب الاستئناف بالواو ، وأما حذف من ههنا وإثباته هنالك فلما مر من أن « من » تفيد الاستيعاب وهنالك قد زاد في القرون بشرح قصة بني إسرائيل وما فيهم من الملوك والأنبياء . قال في الكشاف : فاعل : { لم يهد } الجملة بعده . وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجملة لا تقع فاعلاً فلهذا قال : يريد أو لم يهد لهم هذا المعنى أو مضمون هذا الكلام . قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم . وقال الزجاج : أراد أَوَ لَمْ نبين لهم ما يهدون به لو تدبروا وتأملوا . وقيل : فيه ضمير الله أو الرسول والجملة بعده تفسره يريد أن قريشاً يتقلبون في السورة . قال بعض أهل اللغة : إن للنبيه مزية على العقل فلا يقال إلا لمن له عقل ينتهي به عن القبائح فقوله : { أولي النهى } كقوله : { أولي العزم } [ الأحقاف : 35 ] والحزم ومن هذا فسره بعضهم بأهل الورع والتقوى .
ثم بين الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كذب من هذه الأمة فقال : { ولولا كلمة } هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة كتبها في اللوح المحفوظ وأخبر بها ملائكته ورسله لأن فيهم أو في نسلهم من يؤمن ، أو لمصلحة أخرى خفية . قال أهل السنة : إنه بحكم المالكية له أن يفعل ما يشاء من غير علة . واللزام مصدر لازم وصف به . وقيل : فعال لما يفعل به فهو بمعنى ملزم كأنه آلة اللزوم أي { لكان } الأخذ العاجل { لزاماً وأجل مسمى } وهو عذاب الآخرة . وقيل : يوم بدر معطوف على { كلمة } وجوز في الكشاف أن يكون معطوفاً على الضمير في كان . ولعله إنما جوز ذلك للفصل أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل .

وحين بين أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر على ما يقولون من التكذيب وسائر الأذيات . زعم الكلبي ومقاتل أنها منسوخة بآية القتال وليس بذاك فإن كلاً منهما معمول بها في موضعها { وسبح بحمد ربك } أي متلبساً بحمده على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه ، والأكثرون أنها بمعنى الصلاة ليكون كقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] ولأنه بين أوقاتها فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر ، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار { ومن آناء الليل فسبح } المغرب والعتمة . وقوله { وأطراف النهار } أي في طرفيه فجمع للمبالغة وأمن الإلباس ، أو لأن أقل الجمع اثنان . أو أراد طرفي كل نهار تكرار لصلاتي الفجر والعصر لا المغرب على ما ظن اعتناء بشأنهما كقوله { والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] وآناء جمع « أنى » وهو الساعة وقد مر في « آل عمران » . وإنما قدم آنا الليل وأدخل الفاء في { فسبح } المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها تنبيهاً على زيادة الاهتمام بشأن صلاة الليل ، لأن الليل وقت السكون والراحة وهدوّ الأصوات فالصلاة فيه أشق على النفس وأدخل في الإخلاص وأقرب من المحافظة على الخشوع والإخبات . وبعضهم أخرج من الآية صلاة الظهر لانه خصص قبل الغروب بصلاة العصر . ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الصلاة في الأوقات المذكورة تشملها والأمر قد يكون للندب لا أقل من التغليب . وقال أبو مسلم : الأقرب حمل التسبيح على التنزيه والإجلال كأنه لما أمره بالصبر على أذية القوم بعثه على الاشتغال بالتقديس والمواظبة عليه في كل الأوقات .
وقوله : { لعلك ترضى } كقوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [ الإسراء : 79 ] { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] ولا ريب أن الأطماع من الكريم واجب الوقوع اللَّهم ارزقنا شفاعته . ولما حث رسوله على الأمور الدينية نهاه عن الميل إلى الزخارف الدنيوية فقال : { ولا تمدّن عينيك } أي نظر عينيك . ومد النظر تطويله استحساناً للمنظور إليه ، وفيه أن النظر الغير الممدود معفوّ عنه كما لو نظر فغض . وقال أبو مسلم : المنهي عنه في الآية ليس هو التطويل وإنما هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوا من حظ الدنيا . قال أبو رافع : نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهوديّ يستقرضه فقال : لا أقرضه إلا برهن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض ، أحمل إليه درعي الحديد فنزلت . » والأزواج الأصناف . وقيل : أي أشكالاً وأشباهاً من الكفار لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب . وقد مر في آخر الحجر . ولقد شدد العلماء المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم لأنهم اتخذوها . قال جار الله : انتصب { زهرة } على الذم ، أو على تضمين متعنا بمعنى خولنا وأعطينا ، أو على إبداله من محل { به } أو على إبداله من { أزواجاً } والتقدير ذوي زهرة وهي الزينة والبهجة .

ومن قرأ بفتح الهاء فبمعناها أيضاً أو هي جمع زاهر كأنهم لصفاء ألوانهم وظهور آثار النعومة عليهم زاهر وهذه الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب . وقوله : { لنفتنهم } أي لنبلوهم كقوله : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم } [ الكهف : 7 ] وقيل : لعذبهم كقوله : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم } [ التوبة : 55 ] . وقال الكلبي ومقاتل : لنشدد عليهم في التكليف لأن الاجتناب عن المعاصي مع القدرة يكون أشق على النفس . { ورزق ربك } هو ثواب الآخرة أو ما رزقت من الإسلام والنبوّة { خير وأبقى } وقيل : أراد به الحلال الطيب الذي يحق أن ينسب إلى ربك خير من أموالهم التي غلب عليها الغصب والسرقة وسائر وجوه الخيانة ، وأبقى بركة ونماء وحسن عاقبة . { وأمر أهلك } في سورة مريم { وكان يأمر أهله بالصلاة } [ الآية : 55 ] أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله . ومن السلف من كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله ثم يتلو هذه الآية . وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ { ولا تمدنّ عينيك } الآية . ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ كل صباح ويقول : « الصلاة وكان يفعل ذلك شهراً » وقوله : { واصطبر عليها } أراد أنك كما تأمرهم بها فحافظ عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أثم منه بلسان القول { لا نسألك رزقاً } كما يريد الملوك خراجاً من رعيتهم والسادة خرجاً من عبيدهم { بل نحن نرزقك } كقوله : { وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات : 57 - 58 ] والحاصل أنا إنما أمرناك بالصلاة فذلك لأجل انتفاعك بثوابها لا لأنا ننتفع بها . وقيل : لا نسألك رزقاً لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك وإياهم فلا تهتم بأمر الرزق والمعيشة وفرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قولهم « من كان في عمل الله كان الله في عمله » . وقال أهل الإشارة { ورزق ربك } رمز إلى قوله : « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » قال عبد الله بن سلام : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة . { والعاقبة } أي الجميلة { للتقوى } .
ثم عاد إلى قوله : { فاصبر على ما يقولون } فحكى واحدة من شبهاتهم هي قولهم : { لولا يأتينا بآية من ربه } كأنهم لم يتعدّوا بالقرآن الذي أخرس شقاشقهم فرد الله عليهم بقوله : { أولم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى } لأن القرآن برهان سائر الكتب المنزلة لأنه معجز دونها فهو شاهد لها بالصحة وأنها من عند الله .

وقيل : أراد بالبينة ما فيها من بشارة مقدم محمد صلى الله عليه وسلم . وعن ابن جرير أنه ما رأوا فيها من قصص الأمم المكذبة وبيان إهلاكهم بعد اقتراح الآيات وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه { بينة ما في الصحف الأولى } ثم بين الحكمة في نزول القرآن فقال : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله } أي من قبل البرهان المذكور الدال عليه البينة { لقالوا } أي في القيامة لأن الهالك لا قول له في الدنيا . وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك » وتلا قوله : « { لولا أرسلت إلينا رسولاً } والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلاً أنتفع به . ويقول الصبي : كنت صغيراً أعقل . فيرفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في عالم الله أنه سعيد ويتلكأ من كان في علمه أنه شقى . فيقول الله تعالى : عسيتم اليوم فكيف برسولي لو أتاكم؟! » وطعن المعتزلة في هذا الخبر قالوا : لا يحسن العقاب على ما لم يفعل . وقال الجبائي : في الآية دلالة على وجوب فعل اللطف والمراد أنه يجيب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده وإلا كان لهم أن يقولوا : هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن . وقال الكعبي : فيها أوضح دليل على أنه تعال يقبل الاحتجاج من عباده . وليس معنى قوله : { لا يسأل عما يفعل } [ الأنبياء : 23 ] أن الجور منه يكون عدلاً بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل . وإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة . واستدل أهل السنة بها على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع وإلا لكان العقاب حاصلاً قبل مجيئه . ثم ختم السورة بوعيد إجمالي فقال : { قل كل } أي كل منا ومنكم { متربص } عاقبة أمره وهذا الانتظار إما قبل الموت بسبب الأمر بالجهاد أو ظهور الدولة والغلبة ، أو بالموت فإن كان واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه ، وإما بعد الموت وهو ظهور أثر الثواب والعقاب وتمييز المحق المبطل ويؤديه قوله : { فستعلمون } إلى آخره وهذا من كلام المنصف وبالله المستعان . ( تم ) .


اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)

القراآت { قال ربي } بالألف : حمزة وعلي وحفص . الباقون { قل } على الأمر { نوحي } بالنون مبنياً للفاعل : حفص غير الخراز . الباقون : بالياء مجهولاً .
الوقوف : { معرضون } ج للآية مع احتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً . { يلعبون } لا لأن { لاهية } حال أخرى مترادفة أو متداخلة من ضمير { يلعبون } وهي لقلوبهم في المعنى . { قلوبهم } ط { مثلكم } ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول { تبصرون } 5 { والأرض } ز لاتفاق الجملتين مع استغناء الثانية عن الأولى { العليم } 5 { شاعر } ج لاختلاف النظم مع اتحاد المقول { الأولون } 5 { أهلكناها } ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول { يؤمنون } 5 { لا تعلمون } 5 { خالدين } 5 { المسرفين } 5 { ذكركم } 5 { تعقلون } 5 { آخرين } 5 { يركضون } 5 ط لتقدير القول { تسألون } 5 { ظالمين } 5 { خامدين } 5 { لاعبين } 5 { من لدنا } 5 على جعل « إن » نافية والأصح أنها للشرط { فاعلين } 5 { زاهق } لا { تصفون } 5 { والأرض } ط لأن ما بعده مبتدأ { يستحسرون } 5 ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً ، { لا يفترون } 5 .
التفسير : قال جار الله : اللام في قوله { للناس } إما صلة لاقترب أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم كقولك في أزف رحيل الحي أزف للحي الرحيل ، فيه تأكيد إن من جهة تقديم الحي ومن جهة إظهار اللام ، ثم تزيد تأكيداً آخر من جهة وضع ضمير الحي مضافاً إليه الرحيل ، موضع لام التعريف فيه فتقول : أزف للحي رحيلهم . والمراد اقترب للناس وقت حسابهم وهو القيامة كقوله { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] فإذا اقتربت الساعة فقد إقترب ما يكون فيها من الحساب وغيره ، كأنه لما هدد في خاتمة السورة المتقدمة بقوله { فستعلمون } بين في أول هذه السورة أن وقت ذلك العلم قريب . فإن قيل : كيف وصف بالاقتراب وقد مضى دون هذا القول أكثر من سبعمائة عام فالجواب أن كل ما هو آتٍ قريب ، وإنما البعيد الذي دخل في خبر كان قال القائل : شعر
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ... ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
على أنه لم يمض بعد يوم من ايام الله { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] ومما يدل على أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي قوله صلى الله عليه وسلم « بعثت أنا والساعة كهاتين » وقد وعد بعث خاتم النبيين في آخر الزمان ، وفي ذكر هذا الاقتراب تنبيه للغافلين وزجر للمذنبين . فالمراد بالناس كل من له مدخل في الحساب وهم جميع المكلفين . وما روي عن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون فمن باب إطلاق اسم الجنس على بعضه بالدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين من الغفلة والإعراض وغيرهما .

والذكر الطائفة النازلة من القرآن ، وقرئ { محدث } بالرفع صفة على المحل ، واحتجت المعتزلة بالآية على أن القرآن محدث ، وأجاب الأشاعرة بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول ، وإنما النزاع في الكلام النفسي الذي لا يصح عليه الإتيان والنزول . وزعم الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه أن حاصل قول المعتزلة في هذا المقام يؤل إلى قولنا القرآن ذكر ، وبعض الذكر محدث لأن قوله { من ذكر من ربهم محدث } لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً بل على أن ذكراً ما محدث ، كما أن قول القائل : لا يدخل هذا البلد رجل فاضل إلا يبغضونه ، لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً ، وإذا كان كذلك فيصير صورة القياس كقولنا « الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس » وإنه لا ينتج شيئاً لأن كلية الكبرى شرط في إنتاج الشكل الأول كما عرف في علم الميزان . قلت : إن المعتزلة لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى تركيب مثل هذا القياس لأن مدعاهم يثبت بتسنيم إحدى مقدمتي القياس الذي ركبه وهي قوله « بعض الذكر محدث » لأنه نقيض ما يدعيه الأشاعرة وهو لا شيء من القرآن بمحدث . وإذا صدق أحد النقيضين كذب بالضرورة ، فظهر أن الإمام غلطهم في هذا القياس الذي ركبه ، ثم لقائل أن يقول تتميماً لقول المعتزلة : إذا ثبت أن بعض القرآن محدث لزم أن يكون كله محدثا لأن القائل قائلان : أحدهما ذهب إلى قدم كله ، والثاني إلى حدوث كله ، ولم يذهب أحد إلى قدم بعضه وحدوث بعضه . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة { من ربهم محدث } لموافقة قوله بعد هذا { قل ربي يعلم } وقال في الشعراء { من ذكر من الرحمن محدث } [ الآية : 5 ] لكثرة الرحيم فيها . فكان « الرحمن بالرحيم » أنسب .
قوله تعالى { يلعبون } اللعب الاشتغال بما لا يعني قوله { لاهية } هي من لهى عنه بالكسر إذا ذهل وغفل . وفيه إن هم كالأنعام بل هم لا يحصلون من الاستماع والتذكير إلا على مثل ما تحصل هي عليه آذانهم تسمع وقلوبهم لا تعي ولا تفقه .
ومعنى { وأسروا النجوى } بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لها ولا يعلم أنهم متناجون وفي « واو » اسروا وجهان : أحدهما أن على لغة من يجوز إلحاق علامة التثنية والجمع بالفعل إذا كان مقدماً على فاعله ، وثانيهما وهو الأقوى أن الواو ضمير راجع إلى الناس المقدم ذكرهم و { الذين ظلموا } بدل منهم . أو هو منصوب المحل على الذم ، أو هو مبتدأ خبره { أسروا النجوى } مقدماً عليه . وعلى التقادير أراد وأسروا النجوى هؤلاء فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم ثم أبدل من النجوى قوله { هل هذا إلاّ بشر } إلى قوله { وأنتم تبصرون } أي أتقبلون سحره وتحضرون هناك وأنتم ترون أنه رجل مثلكم ، أو تلعمون أنه سحر وأنتم من أهل البصر والعقل؟ وجوز بعضهم أن يكون قوله { هل هذا } إلى آخره مفعولاً لقالوا مضمراً ، وإنما أسروا نجوى هذا الحديث لأنهم أرادوا شبه التشاور فيما بينهم تحرياً لهدم أمر النبي كما جاء في كلام الحكماء .

ويرفع أيضاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم « استعينوا على حوائجكم بالكتمان » ويجوز أن يسروا بذلك ثم يقولوا للرسول والمؤمنين : إن كان ما تدعون حقاً فأخبرونا بما اسررنا . من قرأ { قال ربي } فعلى حكاية الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه قال : إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك ، وإنه من وراء عقابه يصف نفسه في بعض المواضع بأنه يعلم السر وذلك حين يريد تخصيصه بعلم الغيب ، ووصف نفسه ههنا بأنه يعلم القول . قال جار الله : هذا آكد لأنه عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة ، وأقول هذا إذا كان اللام في القول للاستغراق ، أما إذا كان للجنس فلا يلزم زيادة العلم إذ لا دلالة للعام على الخاص . بل نقول : العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بالطريق الأولى فلا مزية لإحدى العبارتين على الأخرى { وهو السميع العليم } خصص علمه بالمسموعات أولاً ثم عمم وقال الإمام قدم « السميع » على « العليم » لأنه لا بد من استماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه . قلت : هذا قياس للغائب على الحاضر قوله { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر } معنى هذه الإضطرابات مع ملاحظة ما قبلها أنهم أنكروا أولاً كون الرسول من جنس البشر ، ثم كأنهم قالوا : سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة ، وليس كل ما هو خارق للعادة معجزاً فقد يكون سحراً هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة ، لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام وهي الأحلام المختلطة التي لا أصل لها وقد مر في سورة يوسف . سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده؟ سلمنا أنه كلام فصيح ولكنه لا يتجاوز فصاحة الشعراء ، وإذا كان حال هذا المعجز هكذا . { فليأتنا بآية } لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات { كما أرسل الأولون } اي كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن لإتيانهم بالآيات . ومن تأمل في هذه الأقوال المحكية عن أولئك الكفرة علم أنها كلام مبطل متحير هائم في أودية الضلال وألا يكفي في إعجاز القرآن أنهم عدلوا حين تحدوا به عن المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف . ثم بين أن الآيات التي يقترحونها لا فائدة لهم فيها لأنهم أعتى من الأمم السالفة وأنهم ما آمنوا عند مجيء الايات المقترحة فأهلكوا لأجل ذلك { افهم يؤمنون } مع شدة شكيمتهم فيه معنى الإنكار أي لا يؤمنون ألبتة وحينئذ يجب إهلاكهم ، ولكن قد سبق القول من الله أن هذه الأمة أمنوا من عذاب الاستئصال .

ثم أجاب عن شبهتهم الأولى وهي قولهم { هل هذا إلاّ بشر مثلكم } بقوله { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً } وقد مر مثله في آخر سورة يوسف وفي النحل . وإنما جاز الأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب وإن كانوا من الكفرة ، لأن هذا الخبر قد تواتر عندهم وبلغ حد الضرورة على أن أهل الكتاب كانوا يتابعون المشركين في معادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان قولهم عندهم حجة . وقيل : أهل الذكر أهل القرآن . وضعف بأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف يؤمرون بالرجوع إلى قولهم؟ واستدل كثير من الفقهاء بالآية في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء ، وللمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر وأجيب بأنها خطاب مشافهة وارد في الواقعة المخصوصة ، وفي السؤال عن أهل الكتاب فلا يتعدى عن مورد النص وقد مر في آخر سورة يوسف الفرق بين قوله { وما ارسلنا من قبلك } وقوله { وما أرسلنا قبلك } بغير « من » وليس إلا ههنا وفي أوائل الفرقان { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم } [ الآية : 20 ] ثم أكد كون الرسل من جنس البشر بقوله { وما جعلناهم جسداً } الآية كأنهم قالوا : إنه بشر يأكل كما نأكل ويموت كما نموت ، فلعلهم اعتقدوا خلود الملائكة لا أقل من العمر الطويل ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف اي وما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي جسد غير طاعمين وإلا قيل : وما جعلنا لهم جسداً . ووحد الجسد لإرادة الجنس اي ذوي ضرب من الأجساد وأراد كل واحد منهم قوله : { صدقناهم الوعد } أصله في الوعد فنصب بنزع الخافض ، ثم فسر الوعد بقوله { فأنجيناهم ومن نشاء } وهم المؤمنون ، ثم نبههم على عظيم نعمه عليهم بقوله ، { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } أي شرفكم وصيتكم ، أو فيه بيان مكارم الآخلاق التي بها يبقى الذكر الجميل مع الثواب الجزيل ، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال { وكم قصمنا } والقصم القطع الكبير وهو الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، وإذا لم يبين فهو الفصم بالفاء ، وذلك أن القاف حرف شديد والفاء رخو لوحظ جانب المعنى في اللفظ ومعنى { من قرية } من أهل قرية لقوله { وأنشأنا بعدها قوماً آخرين } وللضمائر في قوله { فلما أحسوا } إلى آخر القصة . والمراد بالإحساس الإدراك بحاسة اللمس أو علم لا شك فيه كالمحسوس المشاهد . والركض ضرب الدابة بالرجل كأنهم ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم حين أدركتهم مقدمة العذاب ، قال الجوهري : الركض تحريك الرجل على الدابة استحثاثاً لها ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا ، فعلى هذا يجوز أن القوم كانوا يعدون على أرجهلم فقيل لهم لا تركضوا .

والقائل إما من الملائكة أو من المؤمنين أو يجعلون أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، أو أسمع رب العزة ملائكته هذا القول لينفعهم في دينهم ، أو ألهم الله الكفار ذلك فحدثوا به أنفسهم : { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } من العيش الهنيء والإتراف إبطار النعمة { لعلكم تسألون } غداً عما جرى عليكم وعلى أموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو أجلسوا في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم بما تأمرون وماذا ترسمون فينفذ فيهم أمركم ونهيكم ، أو يسألكم الناس مستعينين بتدابيركم بآرائكم ، أو يسألكم الوافدون وأرباب الطمع مستمطرين سحاب أكفكم إما لأنهم كانوا أسخياء ولكن سمعة ورياء ، إما لأنهم بخلاء وفي كل هذه الوجوه تهكم بهم وتوبيخ لهم { فما زالت تلك } الدعوى وهي قولهم { يا ويلنا } لأن المولول كأنه يدعو الويل { دعواهم } الأول اسم « ما زال » والثاني خبره أو بالعكس . والدعوى بمعنى الدعوة وقد مر في قوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] والحصيد المحصود كقوله { منها قائم وحصيد } شبهوا بالزرع المستأصل والنار التي تخمد فتصير رماداً أي جعلناهم مشبهين بالمحصود والخامد ، ووحد { حصيداً } لأن المراد زرعاً حصيداً ، ولأن « فعيلاً » قد يستوي فيه الواحد والجمع ، عن ابن عباس أن الآية نزلت في حضور وسحول قريتين باليمن تنسب إليهما الثياب . وفي الحديث كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين . وروى حضوريين بعث الله إليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم فكأن القوم حصدوا بالسيف وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء بالثارات الأنبياء .
قال أهل النظم : لما بين إهلاك كثير من القرى لأجل ظلمهم وتكذيبهم منها اللتان رواهما ابن عباس ، أتبعه ما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً ومجازاة لا عبثاً ولا مجازفة فقال : { وما خلقنا السماء والأرض } الاية أي وما سوينا هذا السقف المرفوع والمهاد الموضوع { وما بينهما } من الأركان والمواليد كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو أو اللعب ، وإنما سويناهما لغايات صحيحة ومنافع للخلق دينية ودنيوية كما مر طرف منها في أول « البقرة » ويمكن أن يقال : المقصود من سياق الآية تقرير نبوة محمد والرد على منكريه لأنه ظهر المعجز عليه ، فإن كان صادقاً فهو المطلوب ، وإن كان كاذباً كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب وهو منفي عنه سبحانه . قال القاضي عبد الجبار : فيه دليل على أنه لا يخلق اللعب وكل قبيح وإلا كان لاعباً وعورض بمسألتي العلم والداعي .

ثم بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو اللعب ليس هو العجز والضعف ولكن لأن الحكمة تنافيه ، معنى { من لدنا } من جهة قدرتنا وقيل : اللهو الولد بلغة اليمن أو المرأة ، وقيل : من لدنا اي من الملائكة لا من الإنس رداً على من قال : عزير ابن الله والمسيح ابن الله . ويحتمل أن يقال من لدنا أي من عندنا على سبيل الخفية فلا تعرفونه ولا ستمعون اسمه فيكون الرد شاملاً لكل من ادعى الله ولداً ولو من الملائكة . ثم اضرب عن اتخاذ اللهو واللعب فوصف نفسه بما يضاد فعل العبث قائلاً { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو } يعني الباطل { زاهق } اي ففاجأ الدمغ زهوق الباطل ، قال علماء المعاني : هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي : فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام لأن القذف الرمي بنحو الحجارة ، والدمغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل ، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق ، ثم وبخهم ونعى عليهم بما وصفوه بالولد وغير ذلك مما لا يجوز عليه وينافي وجوب الوجود بما وصفوا رسوله به من السحر والشعر وغير ذلك من الأوصاف المضادة للرسالة فقال { ولكم الويل مما تصفون } اي تصفونه به . ثم بين كمال قدرته ونهاية حلمه وحكمته فقال { وله من في السموات والأرض } والمراد بمن عنده الملائكة المقربون والمقصود عندية الشرف والرتبة . فأما عندية المكان ففيها بحث طويل . قال الزجاج : { لا يستحسرون } أي لا يتعبون ولا يمسهم الإعياء . قال جار الله : كان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور ولكنه ذكر بلفظ المبالغة وهو « استفعل » لبيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور ، وأنهم أحقاء بتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا ومع ذلك لا يعدُّونها تعباً عليهم . ثم أكد ذلك بقوله { يسبحون الليل والنهار } منصوبان على الظرفية { لا يفترون } لا يلحقهم الفتور والكلال . وحاصل الآية أؤن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله ، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته؟ وقد مر في أول سورة البقرة استدلال مفضلي الملائكة على الأنبياء بهذه الآية وبغيرها فلا حاجة إلى إعادته عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب الأحبار : أرايت قول الله عز وجل { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } ثم قال : { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة } [ البقرة : 161 ] أليس الرسالة واللعن ما نعين لهم عن التسبيح؟ أجاب كعب بأن التسبيح لهم كالنفس لنا لا يمنعهم عن الاشتغال بشيء آخر . واعترض بأن آلة التنفس فينا مغايرة للسان فلهذا صح اجتماع التنفس والتكلم . وأجيب بأنه لا استبعاد في أن يكون لهم ألسن كثيرة ، أو يكون المراد بعدم الفتور أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللائقة به .

التأويل : اقترب لأهل النسيان أن يحاسبوا أنفسهم { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } [ الحديد : 16 ] { وما يأتيهم من ذكر } وعظ وتذكير من عالم رباني { محدث } إلهامه إلا أنكروه عليه ونسبوه إلى التخليط ونحوه { وما جعلناهم جسداً } فيه أن الله قادر على أن لا يجعل النبي الولي ذا جسد ولكن اقتضت حكمته كونهم ذوي أجساد آكلين للطعام فإن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج ، وبالقوى الحيوانية تتم الكمالات النفسانية وتدرك المحسوسات وتستفاد العلوم المستندة إلى الإحساس والتجربة وتفصيله أكثر من أن يحصى . قال بعض المشايخ ، لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله { وما كانوا خالدين } والسر فيه أن يعلموا من الموت حقيقة اسم المميت كما علموا من الحياة حقيقة اسم المحيي .
{ ثم صدقناهم الوعد } الذي وعدناهم حين أهبطوا إلى الأرض { فأنجيناهم ومن نشاء } من متابعيهم من هاوية الهوان وعالم الطبيعة { وأهلكناهم المسرفين } الذين اسرفوا على أنفسهم بالكون إلى أسفل سافلين الطبائع . { وكم قصمنا من } أهل { قرية } قالت { فلما أحسوا بأسنا } وهي شدة قطع التعلق عن الكونين فإن الفطام عن المألوف شديد { لا تركضوا } منا بل ففروا إلينا { وارجعوا } إلى التنعمات الروحاينة { ومساكنكم } الصلية { لعلكم تسألون } عزة وكرامة { وما خلقنا } سموات الأرواح وأرض الأجساد ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار من غير غاية ، وإنما خلقناها لتكون لطفنا وقهرنا { بل نقذف بالحق على الباطل } للحق ثلاث مراتب : مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق ، ففي كل مرتبة يتجلى الحق فيها للعبد ، ارهق باطل تلك المرتبة عن العبد حتى إذا تجلى له بأفعاله ذهب عنه باطل الأفعال ، وإذا تجلى له بصفاته ذهب باطل صفاته ، وإذا تجلى له بذاته في ذاته فيقول : أنا الحق وسبحاني والويل لمن لم يذهب باطله بإحدى هذه المراتب فيبقى متصفاً بالوجود المجازي .


أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

القراآت : { إلا نوحي إليه } بالنون : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { إني إله } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ابن ذكوان . { ألم ير } بغير واو : ابن كثير الآخرون بواو متوسطة بين همزة الاستفهام والفعل ونظائرها كثيرة { ترجعون } بفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان . { ولا تسمع } من الاسماع خطأ بالنبي صلى الله عليه وسلم الصم بالنصب : ابن عامر . الآخرون على الغيبة من السماع . { الصم } بالرفع { مثقال حبة } بالرفع على « كان » التامة وكذلك في سورة لقمان : أبو جعفر ونافع . الباقون بالنصب .
الوقوف : { ينشرون } 5 { لفسدتا } ج للابتداء { بسبحان } للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلاً للتنزيه { يصفون } 5 { يسالون } 5 { آلهة } ط { برهانكم } ج لاتحاد المقول من غير عاطف { قبلي } ط { لا يعلمون } 5 لا لأن ما بعده مفعول { معرضون } 5 { فاعبدون } 5 { سبحانه } ط { مكرمون } 5ط لأن ما بعده صفة بعد صفة { يعملون } 5 { ولا يشفعون } 5 لا للاستثناء { مشفقون } 5 { جهنم } ط { الظالمين } 5 { ففتقناهما } ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار { حي } ط { يؤمنون } 5 { يهتدون } 5 { محفوظاً } ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال { معرضون } 5 { والقمر } ط { يسبحون } 5 { الخلد } ط { الخالدون } 5 { الموت } ط { فتنة } ط { ترجعون } 5 { هزوا } ط { آلهتكم } ج لاحتمال الواو الإستئناف والحال { كافرون } 5 { من عجل } ط { فلا تستعجلون } 5 { صادقين } 5 { ينصرون } 5 { ينظرون } 5 { يستهزئون } 5ط { من الرحمن } ط { معرضون } 5 { من دوننا } ط فصلاً بين الاستفهام والإخبار { يصبحون } 5 { العمر } ط { من أطرافها } ط { الغالبون } 5 { بالوحي } ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول ، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول { ينذرون } 5 { ظالمين } 5 { شيئاً } ط { أتينا بها } ط { حاسبين } 5 { للمتقين } 5 لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل . { مشفقون } 5 { أنزلناه } ط { منكرون } .
التفسير : إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالاً وجواباً فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة « أم » المنقطعة { أم اتخذوا آلهة من الأرض } نسبت إلى الأرض كما يقال « فلان من مكة » لأنها اصنام تعبد من الأرض ، لأن الالهة على ضربين أرضية وسماوية . أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي . ويقال : أنشر الله الموتى ونشرها اي أحياها . ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأنهم بإدعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلاً عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور .

والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده ، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية . ومعنى { هم } افادت الخصوصية كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم ، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده . ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال : { لو كان فيهما } أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما { آلهة إلا الله } اي غير الله . قال النحويون : إلا ههنا بمعنى لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور ، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلاً في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال : إن « إلا » في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد . وللمفسرين في تفسير الآية طريقان : أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما { لفسدتا } وفيه دلالة على أمرين : الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحداً ، والثاني أن لاي كون ذلك الواحد إلا إياه لقوله { غير الله } وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف . وثانيهما طريق التمانع بأن يقال : لو فرضنا إلهين وأراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه ، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد ، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما ، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح لإلهية . والاعتراض على هذا التقدير من وجهين : الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع .
والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان : أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول ، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية ، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك . الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان ، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلاً منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة ، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو اراد كل واحد منهما أن يوجده هو فهذا أيضاً اختلاف .

ولو قيل : إنه يريد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير ، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر ، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو إله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب ، بل العاجز لا يصلح للإيجاد اصلاً فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي . ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها : أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا؟ فإن قلت : يقدر . كان كل منهما مقهوراً للآخر ، وإن قلت : لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد منهما . ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا؟ فإِن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز . ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزاً ولهذا لا يمكن أن يقال : إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئاً نفذت قدرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز . ومن الطاعنين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلاً عن غيرها . ولقائل أن يقول : إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد . أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة للإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد . واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله { وإلهكم إله واحد } [ الآية : 163 ] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق : إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين ، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر . وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعاً لقلة جهات الافتقار وكثرتها ، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد ، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحداً كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد . وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و « لو » هذه بمعنى « أن » والمراد أن هذا النقص والفساد لازم لوجود آلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا ، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلهاً غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله { فسبحان الله رب العرش عما يصفون } من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيره قوله

{ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً } [ الزمر : 29 ] وفيه قول زيد بن عمرو بن انفيل حين فارق قومه :
أرباً واحداً أم الف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الرجل البصير
ثم أكد تفرده بالإِلهية بقوله { لا يسأل عما يفعل } وفيه رد على الثنوية والمجوس الذين أثبتوا لله شريكاً فاعلاً للشرور والآلام ، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا : لو كان مدبر العالم واحداً لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر ، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله ، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت ، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر . أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض ولم بحكم المالكية أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات . وكما أن ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله ، وإنه غير محتاج إلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد . وأما المعتزلة فقد قالوا : إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح . وإذا عرف المكلف إجمالاً أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن « لم » وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم ، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسال عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة . ثم زاد الإلهية تأكيداً بقوله { وهم يسألون } وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا : إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال ، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثاً .

وأيضاً التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق ، وأيضاً سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث ، وإن كان فيه فائدة فإِن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً مستكملاً ، وإن عادت إلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف ، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم ، وجوابهم أن الأسباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب ، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال : إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم مالا يطيقون وهو يناقص القاعدة الممهدة أنه لا يسال عما يفعل . ثم كرر { أم اتخذوا من دونه آلهة } استفظاعاً لكفرهم وليرتب عليه قوله { قل هاتوا برهانكم } على ذلك عقلاً أو نقلاً . أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذراً من الفساد ، وأما النقل فقوله { هذا ذكر من معي } هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي . عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه اراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء . وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله { وذكر من قبلي } صفة للقرآن ايضاً لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة . ثم ختم الآية بقوله ربل أكثرهم } تنبيهاً على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل ، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه ، وفي لفظ الأكثر إشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند ، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع .
ثم قرر آي التوحيد خصوصاً قوله { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } على أحد التفسيرين بقوله { وما أرسلناك } الآية . ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله { سبحانه } ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله { مكرمون } مقربون { لا يسبقونه بالقول } أي بقولهم اي يتبعون قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله { وهم بأمره يعملون } فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وافعالهم { يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم } وقد مر تفسيره في « طه » وفي آية الكرسي { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } كقوله في طه

{ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً } [ طه : 109 ] وقد مر البحث فيه . قال في الكشاف { وهم من خشيته مشفقون } أي متوقعون من أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك إلا من أمارة قوية . ويحتمل أن يقال : إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله عز وجل . ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله { ومن يقل منهم إني إله من دونه } فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله { ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] وفي قوله { فذلك } دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الجاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك ، وأراد بالظلم ههنا الشرك ، والمعتزلة عمموه والأول أظهر . ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق والأنفس قائلاً { أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض } أي جماعة السموات وجماعة الأرض { كانتا تقاً ففتقناهما } الرتق بالسكون السد . رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك ، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين . عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن ، وقتادة أن المراد كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض . ومثله قول كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما فحصل الفتق ، وقال أبو صالح ومجاهد : كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعاً وكذلك الأرضون . وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين ، أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر . ويشبه أن يراد بالسموات على هذا التفسير السحب نظيره قوله { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } [ الطارق : 1112 ] ويؤيده قوله عقيبه { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وقيل : إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن ، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم « ثوب أخلاق » « وبرمة أعشار » وقريب من هذا قول من قال : المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } [ يس : 37 ] وقال أبو مسلم الاصفهاني : الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه ، والفتق الإِيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله

{ فاطر السموات والأرض } [ الأنعام : 14 ] والفطر الشق . وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة ، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد . وههنا سؤال : وهو أن الكفار متى رأوهما رتقاً حتى صح هذا الاستفهام للتقرير؟ كيف وقد قال الله تعالى { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } ؟ [ الكهف : 51 ] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة ، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم . وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال صاحب الكشاف في الجواب : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه . قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } قال السكاكي صاحب المفتاح : اي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء . واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساماً مائية؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه . وقال صاحب الكشاف : إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله { خلق الإنسان من علق } وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعدياً إلى مفعولين ، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه . وقال في التفسير الكبير : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك : قلت : فعلى هذا يكون قوله { وجعلنا } داخلاً في حيز الاستفهام كأنه قيل : ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان . ومن المفسرين من جعل الحي شاملاً للنبات أيضاً كقوله { فأحيا به الأرض بعد موتها } [ الجاثية : 5 ] قوله { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } قد مر تفسيره في أول « النحل » وباقي الآية كقوله في طه { وسلك لكم فيها سبلاً } [ الاية : 53 ] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة { سبلاً } قدمت عليه فصارت حالاً عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله :

{ لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } [ نوح : 20 ] والاهتداء إما حسي أي تهتدون إلى البلاد ، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى . ومنهم من زعم أن الضمير في قوله { وجعلنا } فيها عائد إلى الجبال وهذا قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وروي عن ابن عمر أنه قال : كانت الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً . قال علماء الإسلام : ليس في قوله { وجعلنا السماء سقفاً } إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله ، ولكنه أطلق عليها اسم السيقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة إلى سكان كل بقعة . وفي المحفوظ وجهان : أي { محفوظاً } بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين . { وهم عن آياتها معرضون } فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها . قوله { كل في فلك } من مقلوب الكل . والفلك في اللغة كل شيء دائر وجمعه أفلاك . وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم . والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه . ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي : ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله { يسبحون } والسباحة لا تكون إلا في الماء . ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري . وقالت الحكماء : هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والاتئام والنمو والذبول ، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكناً ، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأنها في النظر كذلك .
قال صاحب الكشاف : التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان : أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما؟ وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والقمار لذلك . ويمكن أن يقال : أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعاً لذكرهما . الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة ، وأجاب بأنه اراد جنس الفلك كقولك « كسانا الأمير حلة » ، أو اراد كل واحد . قلت : لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله { يسبحون } مجموعاً . قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة . وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم . قلت : قد يسبح كثير من الحيوانات ، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة . وههنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية ، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات .

قال : وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط وهو الأرض ، ولئلا يلزم بسبب حركة ما دون الفك الأعظم بحركته وبحركتها الخاصة تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين إلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين . قلت : أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز اسرع حركة فإقناعي ، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين ، وهذا مشاهد من حركة النملة إلى خلاف جهة حركة الرحى ، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها . وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الأظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة ، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك ، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية ايضاً . وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله { وما جعلنا البشر من قبل الخلد } على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما خلقت للابتداء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود . وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال : { وما جعلنا } الآية ، عن مقاتل أن ناساً كانوا يقولون إن محمداً لا يموت فنزلت وقيل : لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء ، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا . والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل :
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا .
قوله { كل نفس ذائقة الموت } قد تقدم في آخر آل عمران تفسيره .
قوله { ونبلوكم } أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم . وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر . و { فتنة } مصدر مؤكد { لنبلوكم } من غير لفظه . وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله { وإلينا ترجعون } أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي ألبتة بعد المفارقة . استدلت المجسمة بقوله { وإلينا } أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو ، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه ، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له ، وجواب الآخرين التسليم لكنه لا يفيد مطلوبهم لأن الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا ، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك { ثم إلينا } ولم يذكر قوله { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في « ثم » قال السدي ومقاتل : مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل وأبي سفيان فقال ابو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف .

فقال أبو سفيان : وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف! فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قولهما فقال لأبي جهل : ما اراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة ، وأما أنت يا أيا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك } اي ما يتخذونك { إلا هزوا } ثم فسر ذلك بقوله { أهذا الذي يذكر آلهتكم } والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء ، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتهم من كونها شفعاء وشهداء ، ولو ذكرها بخلاف ذلك ساءهم . وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال ، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزواً . ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي ، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد . وقيل { بذكر الرحمن } أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله { ويقولون متى هذا الوعد } فقدم لذلك أولاً مقدمة هي قوله { خلق الإنسان } أي هذا الجنس { من عجل } أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله { وكان الإنسان عجولاً } [ الإسراء : 11 ] وعن ابن عباس أنه آدم اراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره ، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال : يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس . وعن ابن عباس أيضاً أنه النضر بن الحرث والأول أظهر . وقيل : العجل الطين بلغة حمير ، وقال الأخفش : اي من العجل في الأمر وهو قوله { كن } وقيل : هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان { سأريكم آياتي } وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة { فلا تستعجلون } فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل : هي أدلة التوحيد وصدق الرسول . وقيل : آثار القرون الخالية بالشام واليمن .
سؤال : { خلق الإنسان من عجل } فيه أن الآدمي معذور على الستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه ، فلم رتب عليه النهي بقوله { فلا تستعجلون } ؟ وأجيب بأن فيه تنبيهاً على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة .

وقال جار الله : هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها .
آخر : القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب ، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً في الحقيقة؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم { لو يعلم } جواب « لو » محذوف و { حين } مفعول به { ليعلم } والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم ، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال . ويجوز أن يكون { يعلم } متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين ، وعلى هذا يكون { حين } منصوباً بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل ، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين اشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما . ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب إلى تلاقي الذنوب فقال { بل تأتيهم بغتة فتبهتهم } قال جار الله : أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم . قلت : فائدة « بل » في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى ، ويحتمل أن تكون « لو » لظاهر التمني والضمير للنار . وقيل : للساعة . وفي قوله { ولا هم ينظرون } تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال . ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله { ولقد استهزئ } الآية . وقد مرت في أول الأنعام . ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا ايضاً مفترقون إلى حراسة الله وكلاءته فقال { قل من يكلؤكم بالليل } إذا نمتم { والنهار } إذا تقلبتم في وجوه المصالح { من الرحمن } أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما . قيل : إنما خص الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره { ما غرك بربك الكريم } [ الإنفطار : 6 ] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلاً { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } لا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم . أما قوله { أم لهم آلهة تمنعهم } فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في « أم » من معنى « بل » . وقال غيره : الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم آلهة تمنعهم من دوننا من العذاب ، ومعنى { من دوننا } أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال { لا يستطيعون } ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف اي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها .

وقوله { ولا هم منا يصبحون } قال المازني : هو من أصحبت الرجل إذا منعته . والأكثرون على أنه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم « صبحك الله » . والحاصل أن من لا يكون قادراً على دفع الآفات ولا يكون مصحوباً من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع! ولما ابطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله . وفي قوله { حتى طال عليهم العمر } إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي السملمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد . والاستفهام في قوله { أفهم الغالبون } للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون .
ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي ، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر . واللام في { الصم } للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع { الصم } في موضع اسم الإشارة إيذاناً بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق ، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا . ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال : { ولئن مستهم نفحة } وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة . منه قولهم « نفحه بعطية » اي رضخة ، « ونفحته الدابة » وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله . قوله { ونضع الموازين القسط } المراد من الوضع الإحضار والقسط اي العدل صفة الموازين وإن كان موحداً كقولهم للقوم « إنهم عدل » قاله الفراء . وعن الزجاج أراد ذوات القسط . واللام في { ليوم القيامة } بمعنى الوقت كما يقال « جئت لتاريخ كذا » . وقيل : أراد لأجل الحساب يوم القيامة . وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف . يروي أن داود عليه السلام سال ربه أن يريه الميزان ، فلما رآه غشي عليه ثم افاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة .

وفي قوله { فلا تظلم نفس شيئاً } بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مراراً { وإن كان } أي الوزن والعمل { مثقال حبة من خردل أتينا بها } أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة . قيل : الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال : حبة من خردل؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار ، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة . وقوله { من خردل } بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر ، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدسه في الشرع ، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق ، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة ، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه . والحاصل أن شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه . رؤي الشبلي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال :
حاسبوني فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا
قال في التفسير الكبير : زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان . والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة . قلت : للجبائي أن يقول : الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو . { وكفى بنا حاسبين } كقوله { وكفى بالله حسيباً } [ النساء : 6 ] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتاً وعظة لأمته وتذكيراً ، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها ههنا والموجز تقدمه الفصحاء غالباً ، ولأن موسى أقوى حالاً ومعجزة ، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله { قل إنما أنذركم بالوحي } وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل ، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة { وضياء } كقوله { فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] { وذكراً للمتقين } اي شرفاً وموعظة ، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله { بالغيب } إما حال من الرب أي حال كونه غائباً عن حسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم « فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها ، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات . ثم عظم شأن القرآن بقوله { وهذا ذكر مبارك } أي كثير البركة { أنزلناه أفأنتم له منكرون } أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار .

ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم . التأويل : { أم اتخذوا آلهة } من ارض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية { آلهة إلا الله } كالعقل والهوى { لفسدتا } كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين اثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به ، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة { لا يسأل عما يفعل } لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة { وهم يسألون } لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية { لا يسبقونه بالقول } لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل ، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] ففي التكريم تكثير ليس في الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب { يعلم ما بين أيديهم } من خجالة قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] { وما خلفهم } من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض { أو لم ير الذين كفروا } يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام ، وفي رواية بأربعة ألاف سنة { كانتا رتقاً } أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب { ففتقناهما } بالمفارقة وقطع التعلق { وجعلنا من } ماء حياة العلم { كل شيء حي } بالحياة الأبدية { وجعلنا في الأرض } أرض القالب { رواسي } هي هموم العلائق البدنية { أن تميد بهم } فلولاها لمالت كل نفس إلى عمالها وبطل الغرض من التكليف ، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس { فجاجاً سبلاً } هي طرق الإرشاد والتسليك { وجعلنا } سماء القلب { سقفاً محفوظاً } من وساوس شياطين الإنس والجن { وهو الذي خلق } ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام { كل في فلك يسبحون } فأهل الإسلام في فلك الشريعة ، وأهل الإيمان في فلك الطريقة ، وأهل الولاية في فلك اطوار الحقيقة { كل نفس ذائقة الموت } أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها ، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعملية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه { ونبلوكم } بالمكروهات التي تسمونها شراً بالمحبوبات التي تحسبونها خيراً { فتنة } فربما كان الأمر عكس ما تصورتم { وإلينا ترجعون } اختياراً وقهراً { وإذا رآك الذين كفروا } فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار { خلق الإنسان من عجل } بالنسبة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحاً مع أن فيها أنموذجاً من الكل واستعداداً لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار إلى هذه المعاني بقوله { سأريكم آياتي } اي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور { فلا تستعجلون } فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت .

ويمكن أيضاً أن يقال : إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة { قل من يكلؤكم } فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم { بالليل والنهار } من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظونهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال ، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل ، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية ، والمنع من الحجب الظلمانية والجهل البسيط أسرع من إزالة الجهل المركب { بل متعنا هؤلاء } الجهال { وآباءهم } الذين علموهم تلك المعقولات التي صارت حجباً نورية لهم حتى اغتروا بظاهر الحال وأنكروا المعاد والشريعة . ثم بين أن الحق يغلب على الباطل ألبتة فقال { أو لم يروا أنا نأتي الأرض } البشرية { ونضع الموازين } ميزان الفضل قد نصب في الأزل { نحن قسمنا } { تلك الرسل فضلنا } وميزان العدل ينصب في الأبد { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } فالأول كالبزرة والثاني كالثمرة .


وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)

القراآت { جذاذاً } بكسر الجيم : علي . الآخرون بضمها { اف } بفتح الفاء : ابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب { أف } بالكسر والتنوين : ابو جعفر ونافع وحفص . الباقون بالكسر من غير تنوين { لنحصنكم } بالنون : أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعاً : ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح وزيد . الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد والرياح على الجمع : يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد . { مسني الضر } و { عبادي الصالحون } في آخر السورة مرسلة الياء : حمزة . الباقون بفتحها { وأن لن } يقدر بالياء مجهولاً : يعقوب { ننجي } بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء : ابن عامر وعباس وأبو بكر وحماد . الآخرون من الإنجاء مخففاً .
الوقوف : { عالمين } ج5 لأن « إذ » يصلح ظرفاً لآتينا أو { لرشده } أو للعلم به مفعولاً لأذكر محذوفاً { عاكفون } 5 { عابدين } 5 { مبين } 5 { اللاعبين } 5 { فطرهن } . ز لواو الابتداء والحال أولى { الشاهدين } 5 { يرجعون } 5 { الظالمين } 5 { إبراهيم } 5 { يشهدون } 5 { يا إبراهيم } 5ط { فعله } . وفيه بعد ويجيء في التفسير { ينطقون } 5 { الظالمون } 5 لا للعطف { على رؤوسهم } ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول { ينطقون } 5 { ولا يضركم } ط لاستئناف الدعاء عليهم { من دون الله } ط { تعقلون } 5 { فاعلين } 5 { على إبراهيم } 5 لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا { الأخسرين } ج5 للعطف والآية { للعالمين } 5 { إسحق } ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه نافلة { نافلة } ط { صالحين } 5 { الزكاة } ج لاحتمال الاستئناف والحال { عابدين } 5 وكان ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها { الخبائث } ط { فاسقين } 5 لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه { رحمتنا } ط { الصالحين } 5 { العظيم } 5 ج للعطف مع الآية { بآياتنا } ط { أجميعن } 5 { غنم القوم } ج لاحتمال الواو بعده الاستئناف والحال { شاهدين } 5 لا للعطف بالفاء { سليمان } ج لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام { وعلماً } ز لعطف المتفقين مع نوع عدول { والطير } ط { فاعلين } 5 { من بأسكم } ج للاستفهام مع الفاء { شاكرون } 5 { فيها } ط { عالمين } 5 { دون ذلك } ج لاحتمال الاستئناف والحال { حافظين } 5 { الراحمين } 5 ط للفاء وللآية { للعابدين } 5 { وذا الكفل } ط { الصابرين } 5 وقد يوصل لعطف { وأدخلناهم } على { نجينا } للقدرة { في رحمتنا } ط الصالحين 5 { سبحانك } قد يوقف لأجل « أن » ولكنه داخل في حكم النداء { الظالمين } ج5 على ما ذكر في الوجهين { فاستجبنا له } لا لاتفاق الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة { من الغم } ط { المؤمنين } 5 { الوارثين } 5 { فاستجبنا له } 5 لا مكان الفصل بين الإستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على المهلة { زوجه } ط { ورهباً } ط { خاشعين } ط { للعالمين } 5 .

التفسير : الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص ههنا بالنبوة لقوله { رشده } ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأناً ولقوله { وكنا به عالمين } وفيه أنه علم منه أسراراً عجيبة وأحوالاً بديعة حتى اتخذه خليلاً واصطفاه نبياً نظيره { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] وعلى هذا فمعنى قوله { من قبل } اي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس : وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل . وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم . قالت الأشاعرة : أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار . أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد ، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفاً فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال : أغنى فلان ابنه فيمن ثمر المال ، ولا يقال مثله فيمن ضيع . واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءاً من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح إستناد إيتاء الرشد إلى الله وحده ، وهذا بخلاف نص القرآن . والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به ، وإسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم . وفي قوله { أنتم لها عاكفون } دون أن يقول عليها كقوله { يعكفون على أصنام لهم } [ الأعراف : 138 ] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصاً بها دون خالقها وخالق كل شيء { قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين } لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طيقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال : { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالاً أو في حكم ذلك . ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا { أجئتنا بالحق } أي بما ليس بهزل ودعابة { أم أنت من اللاعبين } فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولاً باللسان قائلاً { بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل : كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم . وقوله { وأنا على ذلكم من الشهداء } فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه « أشهد إنه كريم أو لئيم » لأن الشهادة خبر قاطع . وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤوا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهاداً بالفعل من غير تقية وخوف قال { وتالله لأكيدن أصنامكم } قال جار الله : في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصاً في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه .

قلت : لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن ايده الله ونصره كما قال علي رضي الله عنه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية . سؤال : الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها ، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم . قال السدي : كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا؟ فخرج معهم . فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي ، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم . وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً ، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه : إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } [ الصافات : 88 ، 89 ] وأصبح من الغد معصوباً رأسه ، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سراً : أما والله لأكيدن أصنامكم ، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر . وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد { قالوا سمعنا فتى يذكرهم } وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا : إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا ، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه { فجعلهم جذاذاً } قال الجوهري : جذذت الشيء جذاً قطعته وكسرته ، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره . قلت : فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع { إلا كبيراً لهم } أي في الخلقة كما روينا . وقيل : في التعظيم . ويحتمل أن يكون جامعاً للأمرين . أما الضمير الواحد في قوله { لعلهم إليه يرجعون } فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذاً واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون إلى دينه أو غلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم } ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي .

والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك ، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب ، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلاً على فساد مذهبهم لأن الآلهة يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون : إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم ، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه . فلما انكشفت لهم جلية الحال و { قالوا من فعل هذا } الكسر والحطم والاستخفاف { بآلهتنا إنه لمن الظالمين } المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم { قالوا سمعنا } احتمل أن يكون القائل واحداً ، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم ، واحتمل أن يكون جمعاً على الوجهين اللذين رويناهما ، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء { ما هذه التماثيل } والفعلان بعد { فتى } صفتان له إلا أن ، الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول « سمعت زيداً » وتسكت حتى تذكر شيئاً مما تسمع ، والثاني ليس كذلك . والأصح أن قوله { إبراهيم } فاعل { يقال } لأن المراد الاسم لا المسمى وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى . { قالوا } اي فيما بينهم { فأتوا به على أعين الناس } الجار والمجرور في محل الحال اي بمرأى منهم ومنظر أو معايناً ومشاهداً قال . في الكشاف : معنى الاستعلاء في « على » أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه { لعلهم يشهدون } عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس . وقال محمد بن إسحق : معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله . وههنا إضمار أي فأتوا به ثم { قالوا أأنت فعلت هذا } الظلم والاستخفاف { بآلهتنا يا إبراهيم } طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه { فقال بل فعله كبيرهم } وقوله { هذا } صفة كبيرهم .
زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما جاء في الحديث « إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات » وللعلماء في جوابهم طريقان : أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة . وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه ، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع ، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع . الطيق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه : الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط في غاية الحسن ، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له : بل كتبته أنت .

كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي . الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة ، وكأن غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها . الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأنه قال : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلهاً أن يقدر على أمثال هذه الأفعال ، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال { فعله كبيرهم هذا } غضب أن تعبد معه هذه الصغار ، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله { بل فعله } ثم يبتدئ { كبيرهم هذا } أي فعله من فعله . الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله { كبيرهم هذا فاسئلوهم } وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم . السادس أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والتقدير « بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم » . فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً بكونهم ناطقين ، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين ، السابع قراءة محمد بن السميفع { فعله كبيرهم } بالتشديد أي فلعل الفاعل { كبيرهم } وفيه تعسف . وأما قول إبراهيم عليه السلام { إني سقيم } فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه . وأما قوله لسارة « إنها أختي » فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما { فرجعوا إلى أنفسهم } حين نبههم على قبح طريقتهم { فقالوا إنكم أنتم الظالمون } لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة . وقال مقاتل : معناه فلاموا أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير . وقيل : أنتم الظالمون لأنفسكم إذا سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب . يقال : نكسته اي قلبته فجعلت أسفله أعلاه ، وانتكس انقلب ، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال { ثم نكسوا على رؤوسهم } والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } وفيه أنهم رضوا بإلاهتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق . وقال ابن جرير : المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } فإن هذه حجة عليهم لا لهم . وقيل : المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلاً وانكساراً .

ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلاً { أفتعبدون } الآية وقد مر في سورة سبحان أن « أف » صوت يدل على التضجر ، والام لبيان المتأفف به ، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم . { قالوا حرقوه } المشهور أن الذي اشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح . وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد . وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله { ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } [ الصافات : 97 ] ثم جمعوا له الحطب الكثير اربعين يوماً حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم . فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة : أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك ، فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه . فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح وقال : إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليك . ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل . وروي أنه قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك . ثم أتاه جبرائيل في الهواء فقال : يا إبراهيم هل لك حاجة؟ قال : أما إليك فلا . قال : فسل ربك . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي : فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه . وأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي . قال المنهال بن عمرو : أخبرت أن إبراهيم مكث في النار أربعين يوماً أو خمسين . وقال : ما كنت أياماً أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها قلت : وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى . ثم نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق حواليه فناداه يا إبراهيم : هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم .

فقام يمشي حتى خرج . فقال نمرود : إني مقرب إلى ربك قرباناً فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم ، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة . قال العلماء : اختاروا العقاب بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا جاء في الحديث « لا يعذب في النار إلا خالقها » ومن ثم قالوا { وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين } أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً قوياً فاختاروا له أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها { قلنا } عن السدي أن القائل هو جبرائيل عليه السلام والأكثرون على أنه سبحانه . وذهب ابو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه . ويمكن أن يجاب بأن الله قادر على أن يخلق لها فهماً يصح به التخاطب ، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة للملائكة . والظاهر أن قوله { يا نار } خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق ، فلا يحسن من الكريم إبطالها . وقيل : المذكور اسم الماهية فلا بد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت ، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت . واختلفوا في أن النار كيف بردت؟ فقيل : إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير . وقيل : خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل بخزنة جهنم ، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة ، والسمندل ولا يؤذيه المقام في النار . وقيل : جعل بينه وبين النار حائلاً منع وصول اثر النار إليه . والمحققون على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة ، وليست الحرارة جزءاً من مسمى النار حتى يمتنع كونها ناراً وهي باردة ، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله { وسلاماً } أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك حتى كأن ذاتها برد وسلام . والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم ، أو ابردي برداً غير ضار ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها . وقوله { على إبراهيم } حال من فاعل الكون أو متعلق بالبرد والسلام ، ولولا هذا القيد لكانت النار برداً على كافة الخلق ، قوله { فجعلناهم الأخسرين } وفي الصافات { فجعلناهم الأسفلين } [ الآية : 98 ] لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله { لأكيدن أصنامكم } وكادوه لقوله { وارادوا به كيداً } فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين . وفي الصافات { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم }

[ الصافات : 97 ] فأججوا ناراً عظيمة وبنوا بناء عالياً ورفعوه إليه ورموا به إلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي العقبة في السافلين .
ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنياناً وألقوه فيه ، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه ، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقاً . فقال لهم حارث أبو لوط : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ، فجعلوا فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما يجيء في العنكبوت ، وهاجر إلى ارض الشام فذلك قوله { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها } اي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها . وقيل : ما من أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس . يروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة . وقيل : الأرض مكة { ووهبنا له } أي لإبراهيم { إسحق ويعقوب نافلة } هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط ، وقيل : النافلة العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة . ونوفل للرجل الكثير العطاء ، وعلى هذا احتمل أن يكون حالاً من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلاً من غير سؤال . واحتمل أن يكون حالاً من كليهما أي وهبناهما له عطية منا ، والأول قول مجاهد وعطاء ، والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج { وكلا } من إبراهيم وإسحق ويعقوب { جعلنا صالحين } قال الضحاك : اي مرسلين وقال غيره : عالمين عاملين . وفي قوله { جعلنا صالحين } وكذا قوله { وجعلناهم أئمة } دلالة الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه اراد تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال : إن الحاكم عدل فلاناً وجرحه إذا حكم بالعدالة والجرح ، وضعف بأنه خلاف الظاهر . وقوله { يهدون بأمرنا } اي يدعون الناس إلى دين الله بأمرنا وإرادتنا . قال أهل السنة : فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى . وقالت المعتزلة : فيه أن من صلح لأن يقتدى به في الدين فالهداية واجبة عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها . ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتدياً بنفسه كان الإنتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء به أميل فلذلك قال { وأوحينا إليهم فعل الخيرات } اي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من انفسهم ونفس الفعل الخير لا يمكن إيحاؤه فرد إلى فعل الخيرات تخفيفاً ، فإن المقصود معلوم ، ثم أضيف المصدر إلى المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك { إقام الصلاة وإيتاء الزكاة } أي أوحينا إليهم أن يقيموا ويؤتوا ، قال الزجاج ، حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها .

وقال غيره : الإقام والإقامة مصدران . ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله ، والثانية أصل الشفقة على خلق الله . { وكانوا لنا عابدين } فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم ايضاً وفوا بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين .
قوله { ولوطاً } عن الزجاج أنه معطوف على { أوحينا } وعن أبي مسلم أنه معطوف على قوله { ولقد آتينا إبراهيم } والحكم الحكمة ، وقيل الفصل بين الخصوم ، وقيل النبوة والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في « الأعراف » وفي « هود » . و { قوم سوء } نقيض رجل صدق { وأدخلناه في رحمتنا } أي أهل رحمتنا أو في الجنة والثواب . عن ابن عباس والضحاك . وقال مقاتل : هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين آتيناه النبوة كي يقوم بحقها . وقال أهل التحقيق : حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي الرحمة في الحقيقة . قوله { ونوحاً } وكذا نظائره معطوف على قوله { ولقد آتينا } أو المراد واذكر نوحاً . و { إذ نادى } بدل منه اي اذكر وقت ندائه { من قبل } هؤلاء المذكورين والنداء هو دعاؤه على قومه بنحو قوله { رب إني مغلوب فانتصر } [ القمر : 10 ] . وقوله { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] بدليل قوله { فاستجبنا له فنجيناه وأهله } أي أهل دينه وهم من معه في الفلك { من الكرب العظيم } وهو الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه وإيذائهم . وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس ، ثم وصفه بالعظم إشعار بأنه عليه السلام لقي من قومه أذى شديداً لا يكتنه كنهه . ثم زاده بياناً بقوله { ونصرناه } الاية . تقول : نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصراً منه أي منتقماً . { وداود وسليمان إذ يحكمان في } شأن { الحرث إذ نفشت } ظرف { ليحكمان } وهو حكاية حال ماضية . قال ابن السكيت . النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور المفسرين . وعن الحسن : إنه يكون ليلاً ونهاراً . وليس في قوله { وكنا لحكمهم } دلالة على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أنه أرادهما والمتحاكمين إليهما . والضمير في { ففهمناها } للحكومة أو الفتوى . ويروى أنه دخل رجلن على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث . اي زرع . وقيل كرم- والآخر صاحب غنم . فقال صاحب الحرث : إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئاً . فقال داود : اذهب فإن الغنم لك . فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال : كيف قضى بينكما؟ فأخبراه . فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا . فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال : كيف كنت تقضي بينهما؟ قال : أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم غلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه .

قال أبو بكر الأصم : الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول . والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله { وكنا لحكمهم } ولقوله : { ففهمناها } والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكماً خلاف الأول . وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد ، فيه خلاف بين العلماء ، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلاً كالجبائي لقوله : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] { أن أتبع إلا ما يوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص ، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر ، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقف في بعض الأحكام انتظاراً للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف ، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل ايضاً وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل . وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } [ النجم : 3-4 ] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللاً بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه . سلمنا جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم ، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم . وكان الرسول أوكد ، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل . ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعاً بين النقيضين ، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين ، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح . قال الجبائي : ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار ، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك؟ وأيضاً إن اجتهاد داود إن كان صواباً فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً } وايضاً لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علماً ، وأيضاً قوله { ففهمناها } يدل على أنه من الله لا من سليمان . وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفواً عنها كما في حكم المصراة ، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر ، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله .

أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقاً أو في هذه المسألة ، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان ، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ . قال الفقهاء : مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث . ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبداً فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد ، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة . هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار ، لأن جرح العجماء جبار . إلا أن يكون معها راع . والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية ، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار . وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدته ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل . قال بعض الأصوليين : كل مجتهد مصيب لقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً } وقال بعضهم : المصيب واحد لقوله { ففهمناها سليمان } ولو كان كلاهما مصيباً لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة . وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتاً في شرعنا .
ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلاً : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل : كيف سخرهن؟ فقال : { يسبحن } { والطير } وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل : كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه . وقال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال . وقال سليمان بن حيان : كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً . وعلى الثاني قيل : كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى ، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة ، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم ، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلاً للكلام ، ولهذا يقال : إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة . وإنما قدم التسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفاً كالأطفال والمجانين : { وكنا فاعلين } اي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم .

واللبوس اللباس يقال : البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع . عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال { فهل أنتم شاكرون } قال علماء المعاني : هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا « فهل أنتم تشكرون » إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف اي هل تشكرون تشكرون . ومن قولنا « أفأنتم شاكرون » لأنه وإن كان ينبئ عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن « هل » ادعى للفعل من الهمزة ، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلوم عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة .
ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال { ولسليمان } أي وسخرنا له { الريح } حال كونها { عاصفة } ولا ينافي هذا قوله في { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } [ ص : 36 ] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها عاصفة تحمل كرسيه من اصطخر إلى الشام ، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفاً لهبوبها على حسب إرادته وأمره . وفي قوله { وكنا بكل شيء عالمين } إشارة أنه فعل كل ما فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحوالهم وعلم باستئهالهم . قوله { ومن الشياطين } أي سخرنا من الشياطين { من يغوصون له } ويجوز أن يكون الكلام خبر أو مبتدأ و « من » موصولة أو موصوفة . كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون الجواهر { ويعملون عملاً دون ذلك } أي متجاوزاً ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر الصنائع العجيبة . قالت العلماء : الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق الشياطين ولقوله : { وكنا لهم حافظين } أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار . والحفظ إما بسبب الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم ، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته . قال ابن عباس في تفسيره : يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء . قبل الجبائي : كيف تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط ، فلعل الله تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى . إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على الناس ، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها .

واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بأنك لم قلت : إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست متحيزة ولا حالة في المتحيز . ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلاً عن اللوازم السلبية . سلمنا أن الجن أجسام لكن لم قلت : إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف؟ سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم فمن اين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى؟ فإن قال : لئلا يفضي إلى التلبيس . قلنا : إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد ، وقد سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد ، وفي ذلك دلالة باهرة على أنه تعالى قادر على إحياء العظام الرميمة . ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم بالغوص في الماء ، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين .
ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلاً . عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبياً ، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل . وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين اخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع . قال : فسمع غبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال : يا رب إنك أنعمت على عبدك ايوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء ، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك . فقال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله . فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال ايوب . فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس : فأت الإبل ورعاتها . فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض ، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق ، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها . فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائماً يصلي ، فلما فرغ من الصلاة قال : يا ايوب هل تدري ما الذي صنع ربك؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها . فقال أيوب : إنها ماله إذا شاء نزعه .

فقال إبليس : إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه . ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني ، خرجت من بطن أمي عرياناً وأضجع في التراب عرياناً وأحشر إلى الله عرياناً ، ولو علم الله عرياناً ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الرواح وصرت شهيداً وأوجر فيك . فرجع غبليس إلى أصحابه خاسئاً فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه . فقال إبليس : فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها ، فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول ، ورد عليه أيوب الرد الأول ، فرجع إبليس صاغراً فقال له عفريت آخر : عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال : فاذهب إلى الحرث والثيران ، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به ايوب فرد عليه مثل الرد الأوّل ، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها . فلما رأى إبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال : إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة . فقال الله : انطلق فقد سلطتك ، فأتى أولاد ايوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال : لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك! فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأه ، فاغتنم ذلك إبليس ، ثم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال : إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك . فقال تعالى : انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه . فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل ، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره ، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة ، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره . ثم إن وهباً طول في الحكاية إلى أن قال : إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه قائلاً : يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ، يا ليتني كنت عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني .

ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيماً . إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي . جعلتني للبلاء غرضاً وسلطت عليّ ما لو سطته على جبل لضعف عن حمله . إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسال اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك أولادي . قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام : ليتك لو كرهتني لم تخلقني . ثم قال : ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين . قلت : إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان غرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة : من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء . الم تسمع قول يعقوب عليه السلام : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] .
ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله { إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } الضر بالفتح الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال . قال جار الله : ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب ، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب . يحكى أن عجوزاً تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا . فقال لها : ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها حباً . وفي قوله : { وأنت أرحم الراحمين } رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه ، ولا لمضرة يدفعها عنه ، ولا يطلب شيئاً ، ولا يجلب مدحاً وكل رحيم سواه . فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضاً تتوقف على داعية يخلقها الله فيه ، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو ، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور . واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله ايوب؛ فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب ولابعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحاً فقالا : لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة .

قال : فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما . فقال : اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجداً . وقال : اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به . وقال الحسن : مكث ايوب بعدما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام . وكان أيوب مواظباً على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض قالوا له : ما خبرك؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سالت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلاّ صبراً وحمداً لله تعالى . فقالوا له : أي مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ من اين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال : من قبل امرأته . قالوا : فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإِنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها . قال : أصبتم فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال : أين بعلك يا أمة الله؟ قالت : هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده . فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه . قال الحسن : فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال : لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ . قال : فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين اللون؟ أين الحسن؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح ، فقال أيوب : أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة؟ قالت : الله . قال : كم متعنا به؟ قالت : ثمانين سنة . قال : فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر . قال : ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة! والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها . فلما نظر ايوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجداً وقال { إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } فقال : ارفع رأسك فقد استجبت لك { اركض برجلك } [ ص : 42 ] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة . إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحاً ، وعاد غلى شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب فجعل يضكه بيده فأوحي إليه : يا أيوب ألم أغنك؟ قال : بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها .

قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف . ثم إن امرأته قالت : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع لأرجعن إليه . فلما رجعت ما رأته في تلك الكناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي فدعاها أيوب وقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة . فقال : تعرفينه إذا رايته؟ قالت : وهل يخفى علي أحد يراه . فتبسم قائلاً : أنا هو . فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال : إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك . الرواية الثالثة : قال الضحاك ومقاتل : بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما غلب أيوب إبليس ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والحجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها : أنت صاحبة أيوب؟ قالت : نعم . قال : فهل تعرفيني؟ قالت : لا . قال : أنا إله الأرض ، أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي . قال وهب : وسمعت أنه قال : لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء . وايضاً قال لها : لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى ارد عليك المال والولد وأعافي زوجك . فرجعت إلى أيوب فأخبرته فقال : أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقال عند ذلك { مسني الضر } يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له . الرواية الرابعة قال إسماعيل السدي : إن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال : تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة ، فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم : إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته ، فحينئذ لم يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت غلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً فقال أيوب : من أين هذا؟ قالت : كل فإنه حلال . فلما كان من الغد لم تجد شيئاً فباعت الثانية ، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت : كل فإنه حلال . فقال : لا آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال : { رب إني مسني الضر } . والرواية الخامسة قيل : سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها غلى موضعها وقال : قد جعلني الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال : { مسني الضر } فأوحى الله إليه : لولا أني جعلت في كل شعرة منك صبراً لما صبرت .

واعلم أن مس الضر ههنا مطلق إلا أنه ورد في « ص » مقيداً وذلك قوله { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ ص : 41 ] فصح أن يكون سنداً لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض والاسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلهاً . وأيضاً إن هذه التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم } [ إبراهيم : 22 ] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا فلا محذور ولا تنافي . وقال ومن البعيد أنه لم يسأل الله إلا عند أمور مخصوصة والجواب أن الأمور مرهونة بأوقاتها . وقال انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز . والجواب المنع ولا سيما بشرط العافية في العاقبة . قوله سبحانه { فكشفنا ما به من ضر } مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله . وقوله : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان : الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي : إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم . والثاني قال الليث : ارسل مجاهد إلى عكرمة وسئل عن الآية فقال : أراد أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا . فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابناً له . ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله { رحمة من عندنا } لأيوب { وذكرى } لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما { للعابدين } لكي يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يثابوا في الدارين كما أثيب . وإنما خص الرحمة والتذكرة بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة { رحمة من عندنا } وقال في « ص » { رحمة منا } [ ص : 43 ] لأنه بالغ ههنا في الدعاء بزيادة قوله : { وأنت أرحم الراحمين } فبالغ في الاستجابة لأن لفظ « عند » يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة .
وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم إسماعيل عليه السلام ، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بوادٍ لا زرع فيه ولا ضرع ، وصبر على بناء البيت ورفع قواعده ، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين ، ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم . قال ابن عمر : بعث إلى قومه داعياً لهم إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء . ومنهم ذو الكفل قيل : هو زكريا وعلى هذا فقد تقدمت قصته أيضاً .

وفي هذا القول نظر ، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار . وقيل : هو إلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين : إسرائيل ويعقوب ، وإلياس وذو الكفل ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذو النون ، ومحمد وأحمد . وقيل : يوشع بن نون سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله ديناً ودنيا ، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم . وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد : إنه لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً ، وقال الحسن والأكثرون : إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم . يروى عن ابن عباس أن اليسع أو نبياً آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلاً على الناس فقال : من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس فلا يغضب؟ فقام رجل وقال : أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن ، فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال : إني لي غريماً قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به ، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح ، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم الثالث . وقيل : إنه في اليوم الثالث قال للبواب : قد غلب عليّ النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل ، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال : أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت فقال له : أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال : إبليس؟ قال : نعم . أعييتني في كل شيء فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة . ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو المسكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقباً محضاً وبين أن يكون مقيداً فحمله على المقيد أولى . واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد .
أما القول الأوّل فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فقال له الملك : من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء؟ فقال : يونس بن متى . فإنه قويّ أمين . فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس : هل أمرك الله بإخراجي؟ قال : لا . قال : فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضباً للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوماً هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون : ههنا رجل عاصٍ أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح ، إلا وفيها رجل عاصٍ ، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة .

فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس . فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت ، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً لك . ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد ، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له . أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم؟ . فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم : إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل . فقالوا : ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم ، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم . فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم : إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب . فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه . فقال علماؤهم : اطلبوه فإِن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء ، وإن كان قد خرج فهو كما قال . فطلبوه فلم يجدوه ، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل .
القول الثاني وعليه أكثر المفسرين : أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس . واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه : الأوّل أنه ذهب مغاضباً لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب . ولئن سلم أنه كان مغاضباً لقومه فذلك ايضاً محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم . الثاني قوله { فظن أن لن نقدر عليه } وهو شك في قدرة الله . الثالث اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم . الرابع : إخبار الله تعالى في موضع آخر بقوله { فالتقمه الحوت وهو مليم } [ الصافات : 142 ] والمليم ذو الملامة . الخامس : قوله للنبي صلى الله عليه وسلم

{ ولا تكن كصاحب الحوت } [ القلم : 48 ] وقال في موضع آخر { فاصبر كما صبر ألوا العزم } [ الأحقاف : 35 ] والجواب أنه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله ، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها . فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد ادائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة . وعن الثاني أن معنى . { لن نقدر عليه } لن نضيق كقوله { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] { ومن قدر عليه رزقه } [ الطلاق : 7 ] فهو من القدر لا من القدرة ، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء . قال الزجاج : يقال قدر الله الشيء قدراً وقدره تقديراً . والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج . يقال : قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال : قدر القاضي على فلان أوله . ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا ، فالقدرة غير وإعمالها غير ، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله ، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه : عن ابن زيد . سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان ، ولكن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان . وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلاً على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم .
أما قوله { فنادى في الظلمات } فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } [ البقرة : 257 ] وقيل : ظلمات بطن الحوت والبحر والليل . وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر . وقيل : إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة . ومعنى { أن لا إله إلا أنت } أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت { سبحانك } تنزيه له عن كل النقائص . منها الظن المذكور على أي وجه فرض ، ومنها العجز عن تخليصه ، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة . { إني كنت من الظالمين } بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال { فاستجبنا له } ثم بين الاستجابة بقوله { ونجيناه من الغم } أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته { و } كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا { كذلك ننجي المؤمنين } من كل كرب إذا استغاثوا بنا .

عن النبي صلى الله عليه وسلم « ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له » وعن الحسن : ما نجاه الله إلا إقراره على نفسه بالظلم . وقد بقي في الآية بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصماً في قراءته { نجي } بالتشديد والنون لا تدغم في الجيم . واستخرج بعضهم له وجهاً وهو أن يكون { نجي } فعلاً ماضياً مجهولاً من التنجية لكنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى المصدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر أي نجى نجاء المؤمنين كقولك « ضرب الضرب زيداً » ثم ضرب زيداً على إضمار المصدر ، وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة :
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
وقال أبو علي الفارسي وغيره من الأئمة المحققين : إن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء ، فلعل الراوي التبس عليه فظنه إدغاماً . ثم بين انقطاع زكريا وتبتله غليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة . وفي قوله { وأنت خير الوارثين } وجهان : أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه فيكون مؤكداً لما فوض إليه أمر الولد . والثاني أنه اراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث . وفي إصلاح زوجه وجوه : منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها . ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق ، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة عظيمة . ومنها أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعاً . ويرد على الوجه الأول إن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد ، والجواب أن الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة . أما الضمير في قوله { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } فقد قيل : إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله . وقال جار الله : إنه للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل الخيرات ، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة . { ويدعوننا رغباً } في ثوابنا { ورهباً } عن عقابنا . ومعنى { خاشعين } قال الحسن : ذللاً لأمر الله . وقيل : متواضعين . وعن مجاهد : الخشوع الخوف الدائم في القلب . وفي تقديم الجار والمجرور على { خاشعين } إشارة إلى أنهم لا يخشون أحداً إلا الله . وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا ارخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيراً ليس هو الذي يأكل خشباً اي علقاً ويبلس خشناً ويطأطئ رأسه .

ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته . والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر « فنفخت في بيت فلان » أي نفخت في المزمار في بيته ، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا -وهو جبرائيل- لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ غلى جوفها . وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال { فنفخنا فيه } [ التحريم : 12 ] أراد فرج الجيب أو غيره . وإنما قال { وجعلناها وابنها آية للعالمين } لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب .
التأويل : الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام . منها قوله { بل فعله كبيرهم } أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من طبيعتها أن تنحتها ، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده . فقوله { هذا } بدل الكلِ من الضمير في فعله : { قالوا حرقوه } إذا أراد الله أن يكمل عبداً من عباده المخلصين فداه خلقاً عظيماً كما اراد استكمال حوت في البحر فداه كثيراً من الحيتان الصغار ، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور . وذلك العذاب له روح وريحان ، لأن نار العشق قد احرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف فيه فوقع قوله : { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } تمثيلاً لهذا المعنى .
بالنار خوفني قومي فقلت لهم ... النار ترحم من في قلبه نار
ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة المشرفة المشرقة لتجلي الذات واصلفات . { ونجيناه } من قرية القالب . { التي كانت تعمل الخبائث } بالأوصاف البهيمية والسبعية { وداود } الروح { وسليمان } القلب { إذ يحكمان في } شأن حرث الدنيا { إذ نفشت } اي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية { غنم القوم } أي الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف . فحكم الروح بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن التصرف فيها مطلقاً . { ففهمناها سليمان } القلب لكونه متقلباً في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعاً بين المصلحتين ورعاية للجانبين . { وسخرنا مع داود الجبال } وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة { يسبحن } بتسبيحه { والطير } وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين قضاء القلب والقالب .

هذا في الباطن ، وأما في الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن بعض الصحابة أنه قال : كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه { وعلمنا صنعة لبوس لكم } إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس والهوى والشيطان . وسخرنا لسليمان } القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه { ومن الشياطين } وهم الأوصاف النفسية { من يغوصون له } في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية { ويعملون عملاً دون ذلك } من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل : { وكنا لهم حافظين } من أن يزيغوا عن سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة . قال أهل التحقيق : إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت أجل صلاته ، وسخر لنبينا جميع السفليات والعلويات حتى قال « زويت لي الأرض » وقال « أوتيت مفاتيح خزائن الأرض » وكان الماء ينبع من بين أصابعه . وقال « نصرت بالصبا » وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع ، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته . وقال « أسلم شيطاني على يدي » وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق وجبرائيل ، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى . { وأيوب } القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحميدة وأخلاقه الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية { فكشفنا ما به من ضر } بأن قلنا له { إركض برجلك } [ ص : 42 ] نظيره { وألق ما في يمينك } [ طه : 69 ] لينبع ماء حياة العلم والمعرفة فتسلم من تعلقات الكونين المؤذية للقلب والروح { إذ ذهب } من عالمه { مغاضباً } لغيره من المجردات فألقي في بحر الدنيا فالتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء ، وابتلع حوت النفس حوت القالب { فنادى } في ظلمات حجب النفس والقالب والدنيا { وزكريا } الروح { وهبنا له يحيى } القلب { واصلحنا له } زوج القالب { ويدعوننا رغباً } في الفناء فينا { ورهباً } من البقاء بأنانيتهم { وكانوا لنا خاشعين } أما القالب فبأعمال الشريعة ، وأما النفس فبتهذيب الأخلاق ، وأما القلب فبالاطمئنان بذكر الله ، وأما السر فباجتهاده في كشف السرار ، وأما الروح فببذل الوجود في طلب المعبود ، وأما الخفي فبإفنائه في الله وبقائه بالله . { ومريم } النفس { التي أحصنت } قلبها عن تصرفات الكونين فأحييناها بالحياة الأبدية .


إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

القراآت : { وحرم } بكسر الحاء : حمزة وعلي وعاصم غير حفص وأبي زيد عن المفضل { فتحت } بالتشديد : ابن عامر ويزيد ويعقوب . { لا يحزنهم } بضم الياء وكسر الزاء يزيد { نطوي } بضم التاء الفوقانية وفتح الواو { والسماء } بالرفع : يزيد . { للكتب } على الجمع : حمزة وعلي وخلف وحفص { بدأنا } مثل { أنشأنا } { قال } بالألف على حكاية قول الرسول { رب } بحذف الياء اكتفاء بالكسرة : حفص غير الخراز { رب } بضم الباء على أنه مبتدأ { احكم } على صيغة التفضيل . يزيد عن يعقوب الباقون { رب احكم } { يصفون } على الغيبة : المفضل وابن ذكوان في رواية .
الوقوف : { واحدة } ز لأن المقصود من قوله { أنا ربكم } قوله { فاعبدون } وكان الكلام متصلاً { فاعبدون } 5 { وبينهم } ط { راجعون } 5 { لسعيه } ج لاختلاف الجملتين { كاتبون } 5 { لا يرجعون } 5 { ينسلون } 5 { كفروا } ط لإضمار القول { ظالمين } 5 { جهنم } ط { واردون } 5 { ما وردوها } ط { خالدون } 5 { فيها } ط { لا يسمعون } 5 { الحسنى } لا لأن ما بعد خبر « إن » { مبعدون } 5 لا لأن ما بعده خبر بعد خبر { حسيسها } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { خالدون } 5 ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون صفة أو استئنافاً { الملائكة } ط لأن التقدير قائلين هذا يومكم { توعدون } 5 { للكتب } ط لأن الجار يتعلق بما بعده { نعيده } ط لحق المضمر اي وعدنا وحقاً { علينا } ط { فاعلين } 5 { الصالحون } 5 { عابدين } 5 ط لاختلاف الجملتين { للعالمين } 5 واحد ج للاستفهام مع الفاء { مسلمون } 5 { على سواء } ط لابتداء النفي { توعدون } 5 { تكتمون } 5 { حين } 5 { بالحق } ط لأن ما بعده مبتدأ خارج عن المقول ، ومن قرأ { ربي احكم } فوقفه مجوز لنوع عدول من الواحد إلى الجمع { تصفون } 5 .
التفسير : لما فرغ من قصص الأنبياء أراد أن يذكر ما استقر عليه أمر الشرائع في آخر الزمان فقال { إن هذه أمتكم } وسيرتكم ، فالأمة الدين والطريقة لأنه أصل وقانون يرجع إليه . وللتركيب دلالة على ذلك وهذا إشارة إلى ملة الإسلام أي إن هذه الملة هي طريقتكم وسيرتكم التي يجب أن تكونوا عليها حال كونها طريقة واحدة غير مختلفة . { وأنا ربكم } لا غيري { فاعبدون } والخطاب للناس كافة ، وكان الظاهر أن يقال بعده وتقطعتم أمركم ينكم أي جعلتم أمر دينكم بينكم قطعاً كما يقسم الشيء بين الجماعة فيصير لهذا نصيب ولهذا نصيب فصرتم فرقاً مختلفة وأحزاناً شتى ، إلا أنه عدل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه يقبح أمرهم إلى غيرهم فيقول : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء؟ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا : يا رسول الله ومن الفرقة الناجية؟ قال : الجماعة الجماعة »

فهذا الحديث مفسر للآية من حيث إن هذه الأمة يجب أن يكونوا على كلمة واحدة ، طعن بعضهم في الحديث أنه أراد بالاثنتين والسبعين فرقة اصول الأديان فإنها لا تبلغ هذا العدد ، وإن أراد الفروع فإنها أضعاف هذا العدد . وأجيب بأنه أراد ستفترق أمتي هذا العدد في حال ما ، وهذا لا ينافي كون العدد في بعض الأحوال أنقص أو أزيد . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة { فاعبدون وتقطعوا } بالواو وفي « المؤمنين » { فاتقون فتقطعوا } [ الأية : 5253 ] بالفاء لأن الخطاب ههنا أعم والعبادة أعم من التقوى . وأيضاً الخطاب يتناول الكفار وقد وجد منهم التقطع قبل هذا القول ، وفي سورة المؤمنين الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بدليل قوله { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } [ الآية : 51 ] ثم قال { فتقطعوا } [ الآية : 53 ] اي ظهر منهم أي من أمتهم التقطع بعد هذا القول ولأن التقطع منهم أغرب أكده هناك بقوله { زبراً } وفي قوله { كل إلينا راجعون } وعيد عظيم للفرق المختلفة . ثم فصل مآل لهم بقوله { فمن يعمل } الآية والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه في قوله { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] وإنما لم يقل « فلا يكفر سعيه » لأن نفي الجنس أبلغ فإن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها . وفي قوله { وأنا له } اي لذلك السعي { كاتبون } مبالغة أخرى فإن المثبت في الصحيفة أبعد من النسيان والغلط كما قيل : قيدوا العلم بالكتابة . ولا سيما إذا كان الكاتب ممن لا يجوز عليه السهو والنسيان . قال المفسرون : معناه حافظون لنجازي عليه . وقيل : مثبتون في أم الكتاب أو في صحف الأعمال . هذا حال السعداء وأما أحوال أضدادهم فذلك قوله { وحرام } ومن قرأ { حرم } فإنه فعل بمعنى مفعول . والتركيب يدور على المنع اي ممتنع أو ممنوع وهذا خبر لا بد له من مبتدأ وذلك قوله { أنهم لا يرجعون } أو غير ذلك . والرجوع إما الرجوع عن الشرك إلى الإسلام أو الرجوع إلى الدنيا أو إلى الآخرة . وعلى الأول إما أن تكون « لا » زائدة أقحمت للتأكيد ومعنى الآية ممتنع على أهل قرية عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها أن يرجعوا أو يتوبوا إلى أن تقوم الساعة والمراد تصميمهم على الكفر . وإما أن تكون معيدة ولكن الحرام بمعنى الواجب تسمية لأحد الضدين باسم الآخر باشتراكهما في المنع إلا أن الوجوب منع عن الترك والحرمة منع عن الفعل ، وقد ورد في الاستعمال مثل ذلك قال سبحانه { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا } [ الأنعام : 151 ] وترك الشرك واجب وليس بمحرم ، وقالت الخنساء :

وإن حراماً لا ارى الدهر باكياً ... على شجوه إلا بكيت على عمرو
وعلى الثاني فالإهلاك على أصله ، والمعنى أن رجوعهم إلى الدنيا ممتنع أو عدم رجوعهم واجب إلى قيام الساعة نظيره قوله { فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون } [ يس : 50 ] وعلى الثالث فقوله « حتى » غاية لقوله { لا يرجعون } اي ممتنع عدم رجوع المهلكين إلى عذاب الآخرة حتى الساعة ، وذلك أن رجوعهم إلى عذاب النار قبل الساعة واجب بقوله { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [ غافر : 46 ] وقال أبو مسلم : أراد أن رجوعهم إلى الآخرة واجب إلى هذه الغاية أي أنهم يكونون أول الناس حضوراً في محفل القيامة . وعلى الرابع فالمعنى وحرام عليهم ذلك وهو المذكور من السعي المشكور غير المكفور لأنهم لا يرجعون عن الكفر إلى أن تقوم الساعة .
قوله تعالى { حتى إذا فتحت } « حتى » هي التي يقع بعدها الجملة وهي ههنا مجموع الشرط والجزاء و « إذا » المفاجأة تسد مسد فاء الجزاء ، وقد يجمع بينهما للتعاون على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأن الشرط يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل يوم القيامة ، ولعل بينهما فاصلة بالزمان إلا أن التفاوت القليل كالمعدوم والمضاف محذوف أي سد يأجوج ومأجوج وتأنيث الفعل لأنهما قبيلتان وهما ومن جنس الأنس كما مر في آخر الكهف . يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج . وفي الحديث « إن منكم واحداً ومن يأجوج ومأجوج ألف » قوله { وهم من كل حدب ينسلون } قال أكثر المفسرين : الضمير ليأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد . وعن مجاهد أنه لجميع المكلفين الذين يساقون إلى المحشر . والحدب ما إرتفع من الأرض والنسل الإسراع . { واقترب } عطف على { فتحت } وهو داخل في الشرط . و { الوعد الحق } القيامة وقوله { فإذا هي شاخصة } كقوله في سورة إبراهيم { ليوم تشخص فيه الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] وقال في الكشاف : { هي } ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره . قلت : فعلى هذا { هي } مبتدأ { وشاخصة } خبره { وأبصار } بدل { هي } ولو قيل : { هي } ضمير القصة مبتدأ والجملة التي هي أبصار الذين كفروا شاخصة خبره جاز وهو قول سيبويه . ثم ههنا إضمار اي يقولون { يا ويلنا } وهو في موضع الحال من الذين كفروا والعامل شاخصة { قد كنا في غفلة من هذا } الوعد أو الأمر { بل كنا ظالمين } أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب الرسل وعبادة الأوثان . ثم بين حال معبوديهم يوم القيامة فقال : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } اي محصوبها بمعنى محصوب فيها ، والحصب الرمي ومنه الحصباء لأنه يرمى بها الشيء وقرئ حطب . واللام في قوله { أنتم لها واردون } كاللام في قوله « هو لزيد ضارب » وذلك لضعف عمل اسم فيما تقدم عليه . والمعنى لا بد لكم أن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها .

ثم ألزمهم الحجة بقوله { لو كان هؤلاء } المعبودون { آلهة } في الحقيقة { ما وردوها } لكنهم واردوها للخبر الصادق الذي يتنبه لصدقه من يتأمل في إعجازه فينتج أن هؤلاء ليسوا بآلهة وأنها لا تستحق تعظيماً أصلاً . ثم أخبر أنهم بعد ورودهم النار لا يخلصون منها أبداً فقال { وكل } اي من العابدين والمعبودين { فيها خالدون لهم فيها زفير } قد سبق معانيه في آخر سورة هود { وهم فيها لا يسمعون } شيئاً إما لأنهم يجعلون في توابيت من نار عن ابن مسعود ، وإما لأنه تعالى يصمهم كما يعميهم . والصمم في بعض الأوقات لا ينافي كونهم سامعين أقوال أهل الجنة في غير ذلك الوقت ، أو المراد أنهم لا يسمعون ما يسرهم ، أو الضمير للمعبودين والسماع سماع إجابة ، وعلى هذا فالضمير في { لهم فيها زفير } للعابدين وجاز اعتماداً على فهم السامع حيث يرد كلاً من الضميرين غلى ما يناسبهما كأنه قيل : العابد يدعو والمعبود لا يجيب ، ويجوز أن يكون للمعبودين أيضاً لأن فيهم من يتأتى منه الزفير كالشياطين فغلب ، أو لأن الجماد ينطقه الله وقتئذ والزفير بمعنى اللهيب والله أعلم . يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث وكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليهم { إنكم وما تعبدون من دون الله } الاية . فأقبل عبد الله بن الزبعري فأخبره الوليد بن المغيرة بنا جرى فقال معترضاً : اليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال عليه السلام : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك وأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت } الآية . فخرج من الحديث . الآية جواب ابن الزبعري على أتم وجه وأكمله كأنه قيل أولاً إن الاية باقية على عمومها لأن الذين عبدوا عزيراً والمسيح والملائكة لم يعبدونهم في الحقيقة ، وإنما عبدوا الشياطين التي دعتهم إلى ذلك ، ولئن سلم أنهم عبدوهم في الحقيقة لكنهم مخصوصون بما سبقت لهم منا الخصلة الحسنى وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو بتوفيق الطاعة وكل ميسر لما خلق له . ومن المفسرين من أجاب عن اعتراض ابن الزبعري بوجوه آخر منها : أن قوله { إنكم } خطاب لمشركي قريش وإنهم لم يعبدوا سوى الأصنام . ولقائل أن يقول : حمل الآية على العموم أتم فائدة . ومنها أن قوله { وما تعبدون } لا يتناول العقلاء فيسقط الاعتراض . ولقائل أن يقول : ما أعم لا مباين فيشمل ذوي العقول وغيرهم ولهذا جاء { والسماء وما بناها } [ الشمس : 5 ] سبحان ما سخركن لنا . ومنها أنه تعالى يصور لهم في النار ملكاً على صورة من عبدوه ، وضعف بأن القوم لم يعبدوا تلك الصورة ، وبأن الملك لا يتعذب بالنار كخزنة جهنم .

واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقوله { إن الذين } لا يبعد أن يكون عاماً لكل المؤمنين ويؤيده ما روي أن علياً قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف . وزعم مثبتوا لعفو أن الحسنى في الاية هي الوعد بالعفو لأنه قال { أولئك عنها مبعدون } بأزاء قوله { أنتم لها واردون } والورود الدخول فالإبعاد الإخراج من النار بعد أن كانوا فيها . وأيضاً إبعاد البعيد محال . وقوله { لا يسمعون حسيسها } إذ الصوت الذي يحس به مخصوص بما بعد الإخراج . وايضاً قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } يفهم منه أنه يحزنهم الفزع الأصغر ، فالأكبر عذاب الكفار والأصغر عذاب صاحب الكبيرة ، والأكثرون على أن المراد من قوله { مبعدون } أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة لأن ما جعل بعيداً عن شيء ابتداء يحسن أن يقال : إنه أبعد عنه ، وهؤلاء لم يفسروا الورود في قوله { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] بالدخول كما مر في سورة مريم . وفي قوله { لا يسمعون حسيسها } تأكيد للإِبعاد فقد لا يدخل النار ويسمع حسيسها . ثم بين أنهم مع العبد عن المنافي منتفعون بالقرب من الملائم ملتذون به على سبيل التأبيد فقال { وهم فيما إشتهته } { أنفسهم } أي فيما تطلبه للالتذاذ به { خالدون } هذا نصيب أهل الجنة ، وأما أهل الله فهم فيما اشتهت قلوبهم وارواحهم وأسرارهم خالدون . والفزع الأكبر قيل : النفخة الأخيرة لقوله { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض } [ النمل : 87 ] وعن الحسن هو الانصراف إلى النار فإنه لا فزع أكبر مما إذا شاهدوا النار ، وهذا أمر يشترك فيه أهل النار جيمعاً ، ثم مراتب التعذيب بعد ذلك متفاوتة . وعن الضحاك وسعيد بن جبير هو حين تطبق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة ، وقيل : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح فعند ذلك يستقر أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وتستقبلهم الملائكة مهنئين قائلين { هذا يومكم } اي وقت ثوابكم { الذي كنتم توعدون } ذلك قال الضحاك : هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم . والعامل في { يوم نطوي السماء } : { لا يحزنهم } أو { تتلقاهم } . والسجل اسم للطومار الذي يكتب فيه . وعن ابن عباس أنه ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي ايضاً عن علي رضي الله عنه . وروى أيضاً أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمعروف . قال الزجاج : هو الرجل بلغة الحيش . فعلى هذه الوجوه فالطي وهو المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الوجه الأول هو مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف كطي الطاوي للسجل وهو قول الأكثرين وإشتقاقه من السجل الدلو العظيم وقد قرئ به والتركيب يدل على الامتلاء والاجتماع ولهذا لا يسمى الدلو سجلاً إلا إذا كان فيه ماء ومنه « أسجلت الحوض ملأته » .

وقوله { للكتاب } أي للكتابة ومعناه ليكتب فيه أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب . ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي ما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، وكيفية هذا الطي لا يعلمها إلا من أخبر عن ذلك أما قوله { كما بدأنا } فمن المفسرين من قال : إنه ابتداء كلام ومنهم من قال : إنه وصف قوله { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } بقوله { يوم نطوي } ثم عقبه بوصف آخر فقال { كما بدأنا أول خلق } وهو مفعول نعيد الذي يفسره { نعيده } و « ما » كافة أي نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء . فكما أوجده أولاً عن عدم يعيده ثانياً عن عدم . ومنهم من قال : الإعادة إنما تتعلق بالضم والتركيب بعد تفريق الأجزاء الاصلية والآية لا تطابقه كل المطابقة . وأول خلق كقولك « هو أول رجل » اي إذا فضلت رجلاً رجلاً فهو أولهم ، وإنما خص أول الخلائق بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم ودفعاً للاعتراض . وجوز جار الله أن تنتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده و « ما » موصولة اي نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و { أول خلق } ظرف { لبدأنا } أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ وقوله { وعداً } مصدر مؤكد لأن قوله نعيد عدة للإعادة وقيل : أراد حتماً { علينا } لسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه فإن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم حقق ذلك بقوله { إنا كنا فاعلين } اي سنفعل ذلك لا محالة فإنا قادرون عليه . عن سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد أن الزبور جنس للكتب المنزلة كلها ، والذكر أم الكتاب يعني اللوح ففيه كتابة كل ما سيكون اعتباراً للملائكة ، وكتب الأنبياء كلهم منتسخة منه ، وعن قتادة أن الزبور هو القرآن ، والذكر هو التوراة . وعن الشعبي أن الزبور هو كتاب داود عليه السلام والذكر التوراة . وجوز الإمام فخر الدين أن يراد بالذكر العلم أي كتبنا فيه بعد أن كنا عالمين غير ساهين . والمراد تحقيق وقوع المكتوب فيه ، والأرض أرض الجنة ، والعباد الصالحون هم المؤمنون العالمون بما يجب عليهم نظيره قوله { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين } [ الزمر : 74 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والسدي وأبو العالية . وإنما ذهبوا إلى هذا القول لأن أرض الدنيا تعم الصالح وغير الصالح ، ولأن الآية وردت بعد ذكر الإعادة . وعن ابن عباس أيضاً في رواية الكلبي أنها أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار نظيره { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفكم في الأرض }

[ النور : 55 ] وقيل : الأرض المقدسة يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند نزول عيسى ابن مريم { إن في هذا } الذي ذكر في السورة من الأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك { لبلاغاً } لكفاية { لقوم عابدين } عاملين بما ينبغي عمله من الخيرات بعدما عملوا من كيفية أدائها . والبلاغ ما يبلغ به المرء مطلوبه من الوسائط والوسائل ، ولا مطلوب أجل من سعادة الدارين فكل من كان وسيلة إلى نيل هذا المطلوب على الوجه الأتم الأكمل كان وجوده رحمة من الله للطالب المتحير وما ذاك إلا خاتم النبيين فلهذا قال { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } وكونه رحمة للكل لا ينافي قتله بعض الكفرة والتعرض لأموالهم وأولادهم كما أن كي بعض أعضاء المريض بل قطعه لا ينافي حذق الطبيب وإشفاقه على المريض ومن هنا قيل : آخر الدواء الكي . والعاقل لا ينسب التقصير إلى الفاعل لقصور في القابل . قالت المعتزلة : لو كان الكفر الكافر بخلق الله لم يكن إرسال الرسول رحمة له لأنه لا يحصل له حينئذ إلا لزوم الحجة عليه . وأجيب بأنه كونه رحمة للفجار هو أنهم أمنوا بسببه عذاب الاستئصال ، ولا يلزم أن يكون الرسول رحمة للمؤمنين من جهة كونه رحمة للكافرين ، والجواب المحقق أن كونه رحمة عامة بالنسبة غلى أمة الدعوة لا ينافي كونه رحمة خاصة بالنسبة إلى أمة الإجابة وهو قريب مما ذكرناه أولاً ، والحجة وتبعتها لازمة على الكافر وإن لم يبعث النبي غايته أنها بعد البعثة ألزم . وفي الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة لأنه رحمة لهم فإنهم من العالمين وعورض بقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } [ الشورى : 5 ] والاستغفار رحمة . والجواب أن الرحمة بمعنى كونه في نفسه مكملاً في الغاية غير الرحمة بمعنى الدعاء ، فلا يلزم من كون الأول سبباً للأفضلية كون الثاني كذلك ، ثم بين أن أصل تلك الرحمة وأسها هو دعاؤه إلى التوحيد والبراءة عن الشرك فقال { قال إنما يوحى إلي } إن كانت « ما » موصولة فمعناه أن الذي يوحي إليَّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزه إلى ما يناقضها أو يضادها بأي قسمة فرضت وإن كانت كافة المعنى أن الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدة ، وذلك أن القصر يكون أبداً لما يلي إنما وفي قوله { فهل أنتم مسلمون } بعث لهم على قبول هذا الوحي الذي هو أصل التكاليف كلها ، وفيه نوع من التهديد فلذلك صرح به قائلاً { فإن تولوا فقل آذنتكم } اي أعلمتكم والمراد ههنا أخص من ذلك وهو الإنذار { على سواء } هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله { فأنبذ عليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] إلى وقت اي حال كونكم مستوين في ذلك لا فرق بين القريب والأجنبي والقاصي والداني والشريف والوضيع ولهذا قال أبو مسلم : الإيذان على سواء هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله

{ فأنبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] وقيل : أراد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من أصول التكاليف ولا سيما التوحيد على السوية من غير فرق في الإبلاغ بين مكلف ومكلف . ولست { أدري أقريب ما توعدون } أم بعيد والموعود قيل : هو عذاب الآخرة . واعترض بأنه ينافي قوله { واقترب الوعد الحق } وقيل : هو الأمر بالقتال لأن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة . وقيل : هو إعلاء شأن الإسلام وغلبة ذويه فإنه لا بد أن يلحق للكفار حينئذ ذلة وصغار . ولما أمره أن ينفي عن نفسه علم الغيب أمره أن يقول لهم إن الله سبحانه هو العالم بالسر والعلن فيعلم ما تجاهرون به من المطاعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والضغائن فيجازيكم على القبيلين { وإن أدري لعله } اي ما أدري لعل تأخير هذا الوعد أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بالجهاد امتحان لكم لينظر كيف تعملون وتمنيع لكم { إلى حين } حضور وقت الموعد . وقال الحسن : لعل ما أنتم عليه من الدنيا ونعيمها بلية لكم . وقيل : اراد لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت ابتلاء لكم لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه اشد . ومعنى { رب احكم بالحق } أقضى بيني وبين من يكذبني بالعذاب . قال قتادة : امره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } [ الأعراف : 89 ] فاستجيب له فعذبوا ببدر ، وقال جار الله : بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم كما قال « أشدد وطأتك على مضر » وقيل : معناه وافعل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع تنصرني عليهم كأنه سبحانه قال له : قل داعياً إليَّ رب احكم بالحق وقل متوعد للكفار { وربنا الرحمن المستعان } الذي يستعان به { على ما تصفون } من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل ، وكانوا يطمعون أن يكون لهم الغلبة والدولة فقلب الله الأمر عليهم . وفي هذا الأمر تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ورفع عن مقداره حيث أمر بالانقطاع إلى الرب في دفع أذية القوم ليحصل له مع الخلاص من أذيتهم شرف الاستجابة وهذه غاية العناية .
التأويل : { إن هذه أمتكم } فيه إشارة إلى أن السالك إذا عبر المقامات التي ذكرنا تصير متفرقات شمله مجتمعة في الفناء بالله والبقاء به ، فيكون أمة واحدة في ذاته كما أن إبراهيم كان أمة فيعرفه الله نفسه ويقول { أنا ربكم } الذي بلغتكم هذه الرتبة { فاعبدون } أي فاعرفون { وتقطعوا أمرهم } فمنهم من سكن إلى الدنيا ، ومنهم من سكن إلى الجنة ، ومنهم من فر إلى الله { كل إلينا راجعون } أما طالب الدنيا فيرجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم ، وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة ، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع إلينا بالحقيقة { وإنا له كاتبون } في الأزل من أهل السعادة { حتى إذا فتح } سد { يأجوج } النفس و { مأجوج } الهوى ، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة { ينسلون } فيفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح { واقترب الوعد } إهلاك القلوب الغافلة { فإذا هي شاخصة ابصار } بصائرها بالنهماك في الأهواء { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } العناية الأزلية { لا يسمعون حسيسها } أعني مقالات أهل البدع والأهواء { وهم فيما اشتهت أنفسهم } المطمئنة المجذوبة بجذبة { ارجعي } في مقامات السير في الله { خالدون } الفزع الأكبر قوله في الأزل « هؤلاء في النار ولا أبالي » { يوم نطوي } سماء وجود الإنسان بتجلي صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله { كما بدأنا أول خلق نعيده } يعني أن الرجوع يكون بالتدريح كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاماً ثم كسا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر .

ففي الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { ولقد كتبنا في الزبور } أي في أم الكتاب { من بعد الذكر } أي بعد أن قلنا للقلم أكتب نظيره { كن فيكون } [ يس : 82 ] أن أرض جنة الوجود الحقيقي { يرثها عبادي الصالحون } وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي . فالوجود المجازي لكونه غير ثابت ولا مستقر كالسماء ، ولوجود الحقيقي لكونه ثابتاً ومستقراً على حالة واحدة كالأرض { لقوم عابدين } عارفين . { وما أرسلناك } من كتم العدم { إلا رحمة للعالمين } فلولاك لما خلقت الأفلاك « أول ما خلق الله روحي » ولولا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)

القراآت : { سكرى } في الحرفين على تأويل الجماعة : حمزة وعلي وخلف { ونقر } { ثم نخرجكم } بالنصب فيهما : المفضل { وربأت } بالهمزة حيث كان . يزيد { ليضن } بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { خاسر الدنيا } اسم فاعل منصوباً على الحالية . روح وزيد { ثم ليقطع } { ثم ليقضوا } بكسر اللام فيهما : ابو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وورش وافق القواس في { ليقضوا } وزاد ابن عامر { وليوفوا } { وليطوفوا } وقرأ الأعشى { وليوفوا } بالتشديد ، وقرأ أبو بكر وحماد { وليوفوا } بالتشديد وسكون اللام . الباقون بالتخفيف والسكون { هذان } بتشديد النون : ابن كثير .
الوقوف : { ربكم } ج على تقدير فإِن { عظيم } 5 { شديد } 5 { مريد } 5 لا لأن ما بعده صفة { السعير } 5 { لنبين لكم } ط لأن التقدير ونحن نقر ومن قرأ بالنصب لم يقف { اشدكم } ج لانقطاع النظم في اتحاد المعنى { شيئاً } ط { بهيج } 5 { قدير } 5 لا للعطف { فيها } لا { القبور } 5 { منير } 5 لا لأن ما بعده حال { عن سبيل الله } ط { الحريق } 5 { للعبيد } 5 { حرف } ج للشرط مع الفاء { به } لا للعطف مع الفاء مع الاستقلال { على وجهه } ق إلا لمن قرأ { خاسر الدنيا } ط { والآخرة } ط { المبين } 5 { من ينفعه } ط { البعيد } 5 { من ينفعه } ط { العشير } 5 { الأنهار } ط { ما يريد } 5 { ما يغيظ } 5 { بينات } ط { من يريد } 5 { يوم القيامة } ط { شهيد } 5 { من الناس } ط وقيل : { يوصل } ويوقف على { العذاب } ط { مكرم } ط { ما يشاء } 5 { في ربهم } ز لعطف الجملتين المتفقتين مع أن ما بعده ابتداء بيان حال الفريقين أحدهما { فالذين كفروا } والثاني { أن الله يدخل } { من نار } ج5 { الحميم } ج5 لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً أو وصفاً على أن اللام للجنس كما في قوله : ولقد أمر على اللئيم يسبني . { والجلود } 5ط { حديد } 5 { الحريق } 5 .
التفسير : إنه قد أنجر الكلام من خاتمة السورة المتقدمة إلى حديث الإعادة وما قبلها أو بعدها كوراثة المؤمنين الأرض وما معها كطي السماء ، فلا جرم بدأ الله سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثاً على التثوى التي هي خير زاد إلى المعاد ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المنكرات ، ولا يكاد يدخل فيها النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب . ويمكن أن يقال : إن ترك النوافل قد يفضي إلى إخلال بالواجب فلهذا لا يكاد المتقي يتركها . يروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما اصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ، ولم يطبخوا قدراً وكانوا من بين حزين وباك ومتفكر وهذه الزلزلة وهي المذكورة في قوله

{ إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] ومعناها شدة التحريك ، وتضعيف الحروف دليل على تضعيف المعنى كأنه ضوعف زلل الاشياء عن مقارها ومراكزها . والإضافة إضافة المصدر إلى الفاعل على المجاز الحكمي العائد إلى الإسناد في قولك « زلزلت الساعة الأرض » أو إلى المفعول فيه على الاتساع فلا مجاز في الحكم لأن المراد حينئذ هو أن فاعلها الله في القيامة قاله الحسن . وعن الشعبي هي طلوع الشمس من مغربها فتكون الإضافة بمعنى اللام كقولك « اشراط الساعة » قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن المعدوم شيء لأن الله تعالى سمى زلزلة الساعة شيئاً مع أنها معدومة . أجابت الأشاعرة بأن المراد هو أنها إذا وجدت كانت شيئاً عظيماً . وانتصب { يوم ترونها } أي الزلزلة بقوله { تذهل } أي تغفل عن دهشة { كل مرضعة } وهي التي ترضع بالفعل مباشرة لإرضاع وإنما يقال لها المرضع من غيرها إذا أريد معنى أعم وهو أنه من شأنها الإرضاع بالقوة أو بالفعل كحائط وطالق . وفي هذا تصوير لهول الزلزلة كأنه بلغ مبلغاً لو القمت المرضعة الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الخوف . و « ما » في { عما ارضعت } مصدرية أو موصولة أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل . عن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام . وإنما قال { كل ذات حمل } دون كل حامل ليكون نصاً في موضع الجنين فإن الحمل بالفتح هو ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، والثاني خارج بدليل العقل فبقي الأول . قال القفال : ذهول المرضعة ووضع ذات الحمل حملها يحتمل أن يكون على جهة التمثيل كقوله { يوماً يجعل الولدان شيباً } [ المزمل : 17 ] { وترى الناس } أفرد بعد أن جمع لأن الزلزلة تراها الناس جميعاً ، وأما السكر الشامل للناس فإنه يراه من له أهلية الخطاب بالرؤية وقتئذ ولعله ليس إلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله { سكارى وما هم بسكارى } أثبت السكر أولاً على وجه التشبيه فإن الخوف مدهش كالمسكر ، ونفاه ثانياً على التحقيق إذ لم يشربوا خمراً وهذه أمارة كل مجاز . روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك . فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار . قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد . فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقالوا : يا رسول الله اينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور البيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود »

واختلفوا في أن شدة ذلك اليوم تحصل لكل واحد أو لأهل النار خاصة فقيل : إن الفزع الأكبر يعم وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون . وقيل : تحصل للكل ولا اعتراض لأحد على الله .
ثم اراد أن يحتج على منكري البعث فقدم لذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال { ومن الناس من يجادل } نظيره { ومن الناس من يقول } [ البقرة : 8 ] وقد مر إعرابه في أول البقرة . ومعنى { في الله } في شأن الله وفيما يجوز عليه ومالا يجوز من الصفات والأفعال ويفهم من قوله { بغير علم } أن المعارف كلها ليست ضرورية وأن المذموم من الجدال هو هذا القسم ، وأما الجدال الصادر عن العلم والتحقيق فمحمود مأمور به في قوله { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] والشيطان المريد العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير وقد مر في قوله { مردوا على النفاق } [ التوبة : 101 ] والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر . عن ابن عباس نزلت في النضر بن الحرث وكان مجادلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي وصار تراباً . ومعنى { كتب عليه } قضي على ذلك الشيطان أو علم من حاله وظهر وتبين ، والأول يليق بأصول الأشاعرة ، والثاني بأصول الاعتزال . وقيل : المراد كتب على من يتبع الشيطان ، ولا يخلو عن تعسف أنه من تولى الشيطان اي جعله ولياً له اضله عن طريق الجنة وهداه إلى النار ، قال صاحب الكشاف إن الأول فاعل { كتب } والثاني عطف عليه . وفيه نظر لأن « من » يبقى بلا جواب إن جعلت شرطية وبلا خبر إن جعلت موصولة . والصحيح أن قوله { فأنه } مبتدأ أو خبر محذوف صاحبه والتقدير من تولاه فشأنه أن يضله أو أنه يضله ثابت اللهم إلا إذا جعلت « من » موصوفة تقديره كتب على من يتبع الشيطان أنه شخص تولى الشيطان فأنه كذا أي كتب عليه ذلك ، وحين نبه عموماً على فساد طريقه المجادلين بغير علم خصص المقصود من ذلك ، والمعنى إن ارتبتم في البعث فمعكم ما يزيل ريبكم وهو أن تنظروا في بدء خلقكم ، فبين التراب والنطفة والماء الصافي كماء الفحل لأنه ينطف نطفاناً أي يسيل سيلاً تاماً مباينة ، وكذا بين النطفة والعلقة وهي قطعة الدم الجامد لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم ، وكذا بين العلقة والمضغة وهي قدر ما يمضغ من اللحم ، ولا ريب أن القادر على تقليب الإنسان في هذه الأطوار المتباينة ابتداء قادر على إعادته إلى أحد هذه الأطوار بل هذه أدخل في القدرة وأهون في القياس .

قال الجوهري : المخلقة التامة الخلق . وقال قتادة والضحاك : أراد إنه يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك فلذلك يتفاوت الناسفي خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصهم . وقال مجاهد : المخلقة الولد يخرج حياً ، غير المخلقة السقط لأنه لم يتوارد عليها خلق بعد خلق وقيل : المخلقة المصورة وغير المخلقة ضدها وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وشكل ، ويناسبه ما روى علقمة عن عبد الله قال : إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال : يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دماً ، وإن قال مخلقة قال : يا رب فما صفتها أذكر أو أنثى ما رزقها وأجلها أشقي أم سعيد؟ فيقول سبحانه : انطلق إلى الكتاب فاستنسخ منه هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي آخر صفتها . وقوله { لنبين لكم } غاية لقوله { خلقناكم } أي إنما نقلناكم من حال إلى حال ومن طور غلى طور لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا . وفي ورود الفعل غير معدي إلى المبين إشعار بأن ذلك المبين مما لا يكتنه كنهه ولا يحيط به الوصف ، وقيل : اراد إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبيِّن لكم ما يزيل ريبكم في أمر بعثكم ، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يعجز عن الإعادة؟ ولما بين كيفية خلق الإنسان بالتدريج إلى أن تتكامل أعضاؤه أراد أن يبين أن من الأبدان ما تمجه الأرحام ، ومنها ما تنطوي هي عليه إلى كمال النضج والتربية ، فاسقط القسم الأول اكتفاء بالثاني فاستأنف قائلاً { ونقر في الأرحام ما نشاء } أن نقره من ذلك { إلى أجل مسمى } هو كمال ستة اشهر إلى أربع سنين غايتها عرفت بالاستقراء { ثم نخرجكم } أي كل واحد منكم طفلاً ، أو الغرض الدلالة على الجنس فاكتفي بالواحد ، { ثم } نربيكم شيئاً بعد شئ { لتبلغوا اشدكم } ومن قرأ { ونقر } بالنصب فمعناه خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغايتين : إحداهما أن نبين قدرتنا ، والثانية أن نقر في الأرحام من نقر حتى تولدوا وتنسلوا وتبلغوا أحد التكليف . والأشد كمال القوة والتمييز كأنه شدة في غير شيء واحد فلذلك بني على لفظ الجمع قوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وقد مر في « النحل » شبيهه فليرجع إليه .
ثم أكد أمر البعث بالاستدلال من حال النبات أيضاً فقال { وترى } أي تشاهد أيها المستحق للخطأ { الأرض } حال كونها { هامدة } ميتة يابسة لا نبات بها ، والتركيب يدل على ذهاب ما به قوام الشيء ورواؤه من ذلك . همدت النار هموداً طفئت وذهبت بكليتها وهمد الثوب هموداً بلي { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت ولا يكاد يستعمل الاهتزاز إلا في حركة تصدر عن سرور ونشاط { وربت } انتفخت وزادت كما مر في قوله

{ زبداً رابياً } [ الرعد : 17 ] وذلك في « الرعد » والمراد كمال تهيؤ الرض لظهور النبات منها . ومن قرأ بالهمزة فمعناه ارتفعت من قولهم « ربأ القوم » إذا كان لهم طليعة فوق شرف . ثم اشار إلى كمال حاله في الظهور بقوله { وأنبتت من كل زوج } أي بعضاً من كل صنف . { بهيج } والبهجة النضارة وحسن الحال ولهذا قال المبرد : هو الشيء المشرق الجميل . وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز لأن المنبت بالحقيقة هو الله { ذلك } الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من عجائب الصنع وغرائب الإبداع حاصل ( ب ) أمور خمسة : الأول { أن الله هو الحق } الثابت الذي لا يزول ملكه وملكه لاحق في الحقيقة إلا هو فما سواه يكون مستنداً إلى خلقه وتكوينه لا محالة . الثاني أنه من شأنه إحياء الموتى . الثالث { أنه على كل شيء قدير } وهذا كالبيان لما تقدمه فإن القادر على كل شيء ممكن قادر لا محالة على إحياء الموتى لأنه من جملة الممكنات وبيان إمكانه ظاهر . فإن كل ما جاز على شيء في وقت ما جاز عليه في سائر الأوقات إذ لو امتنع فإما لغيره فالأصل عدمه ، وإما لذاته وهذا يقتضي أن لا يتصف به أولاً فإن ما بالذات لا يزول بالغير . الرابع والخامس قوله { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } قال في الكشاف : معناه أنه حكيم لا يخلف ميعاده ، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد . قلت : إن هذا التفسير غير وافٍ فلقائل أن يقول : فحاصل الآيات يرجع إلى قولنا { إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم } بالتدريج وأحيينا الأرض بسبب أنا وعدنا الساعة ووعدنا صادق . وهذا كلام غير منتظم في الظاهر كما ترى ، ولو صح هذا لاستغنى عن التطويل بأن يقال مثلاً : لا تشكوا في أمر البعث فإنه كائن لا محالة . والذي يسنح لي في تفسيره أنه سبحانه أزال الشك في أمر البعث بقوله { إن كنتم في ريب من البعث } فمزيل ريبكم هذان الاستدلالان ، ثم لما كان لسائل أن يسال لم خلق الإنسان وما يترتب عليه معاشه؟ فأجيب بأن لهذا الشأن وهو خلق الإنسان أسباباً فاعلية وأسباباً غائية ، أما الأولى فهي أنه تعالى واجب الوجود الحق وأنه قادر على كل مقدور لا سيما إحياء الموتى الذي استدللنا عليه لأنه أهون ، وأن قدرته لا تظهر إلا إذا تعلقت بالمقدور ، فكمال القدرة بالفعل هو أن يتعلق بكل مقدور يصح في القسمة العقلية ، وهذا النوع من المقدور كان ثابتاً في القسمة لأنه واسطة بين العالم العلوي والعالم السفلي وله تعلق بالطرفين وانجذاب إلى القبيلين فوجب في الحكمة والقدرة إيجاده ما يتوقف عليه بقاؤه واستكماله .

وأما علته الغائية فهي أن داره الأولى كانت دار تكليف وقد هيأنا له داراً أخرى لأجل الجزاء وذلك لا يحصل إلا بالبعث والنشور . ولعل هذا الموضع مما لم يفسره على هذا الوجه غيري أرجو أن يكون صواباً والله تعالى أعلم بمراده .
قوله { ومن الناس من يجادل } عن ابن عباس أنه أبو جهل . وقيل : هو النضر أيضاً وكرر للتأكيد كما كرر سائر الأقاصيص ، وقال أبو مسلم : الأول في المقلدين فإنهم قد يجادلون تصويباً لتقليدهم . وهذا في المقلدين المتبوعين بدليل قوله { ليضل عن سبيل الله } قال العلماء : أراد بالعلم العلم الضروري وبالهدي النظري من العلم لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير العلم السمعي المتعلق بالوحي . قال بعض أهل اللغة : العطف المنكب . وقال الجوهري : عطفا الرجل جانباه من لدن راسه إلى وركه ويقال : « فلان ثنى عطفه عني » اي أعرض . وقيل : هو عبارة عن الكبر والخيلاء كلي الجيد . قال جار الله : لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه ، ولما كان الهدى معرضاً له فتركه وأعرض عنه بالباطل جعل كالخارج بالجدال ، وفسر الخزي ههنا بما اصابه يوم بدر . { ذلك } الذي مني به شيء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة { بما قدمت يداك } وباقي مباحث الآية قد سلف في آخر « آل عمران » . ثم أخبر عن شقاق أهل النفاق بقوله { ومن الناس من يعبد الله على حرف } أي على طرف من الدين لا في وسطه فهذا مثل لكونه مضطرباً في أمر الدين غير ثابت القدم كالذي يكون على طرف العسكر ينهزم بأدنى سبب ، وباقي الآية تفصيل لهذا الإجمال . قال الكلبي : نزلت في أعاريب قدموا المدنية فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سرياً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن به وقر . وإن كان الأمر بخلافه قال : ما اصبت إلا شراً وانقلب عن دينه الذي أظهره بلسانه وفر . وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة . وقيل : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس . وعن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من اليهود اسلم فأصابته مصائب كذهاب البصر والمال والولد فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني . فقال : إن الإسلام يسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة والإسلام لا يقال ونزلت الاية . والفتنة ههنا مخصوصة بالابتداء بالشرور والآلام لوقوعها في مقابلة الخير وهذا على الاستعمال الغالب وإلا فالخير ايضاً قد يكون سبباً للابتلاء كقوله

{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] ثم حكى حاله في الدارين بقوله { خسر الدنيا والآخرة } أما خسران الدنيا بعد أن أصابه ما أصاب ففقدان العزة والكرامة والغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ، وكون عرضه وماله ودمه مصونة ، وأما الآخرة فحرمان الثواب وحصول العقاب ابد الآباد ، ولا خسران أبين من هذا نعوذ بالله منه . وفي قوله { يدعو من دون الله } الآية . دلالة على أن المذكور قبلها إنما نزلت في أهل النفاق من المشركين لا من اليهود فإنهم لا يعبدون الصنام نعم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . قوله { يدعو لمن ضره } الآية . فيه بحث لفظي وبحث معنوي . أما الأول فهو أن { يدعو } بمعنى « يقول » والجملة بعده محكية ، و « من » موصولة أو موصوفة وعلى التقديرين هو مع تمامه مبتدأ ما بعده وهو { لبئس المولى } خبره واللام الثانية في الخبر لتأكيد اللام الأولى ، وهذا حسن بخلاف قوله « أم الحليس لعجوز » فإنه أدخل لام الابتداء في الخبر على سبيل الاستقلال ويجوز أن يكون { يدعو } تكراراً للأول وما بعده جملة مستأنفة على الوجه المذكور . وفي حرف عبد الله { من ضره } بغير لام ووجهه ظاهر ، وعلى هذا يكون قوله { لبئس المولى } جملة مستقلة . والمولى الناصر ، والعشير المعاشر اي الصاحب . وأما البحث المعنوي فهو أنه نفى الضرر والنفع عن الأصنام أولاً ثم أثبتهما لها ثانياً حين قال { ضره أقرب من نفعه } فما وجه ذلك؟ والجواب أن المقصود في الاية الثانية رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم في الشدائد مستصوبين آراءهم ، لأن وصف المولى والعشير لا يليق إلا بالرؤساء . سلمنا أنه أراد في الموضعين الصنام إلا أنه أثبت الضر لها مجازاً لأنها سبب الضلال الذي هو سبب عذاب النار نظيره { رب أنهن اضللن كثيراً من الناس } [ إبراهيم : 36 ] وأثبت لها النفع بناء على معتقدهم أنها شفعاؤهم عند الله . والمراد يقول : هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى أثر الشفاعة { لمن ضره اقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير } ذلك ، أو أراد يدعو من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ، ثم قال : لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً لبئس المولى .
ثم لما بين حال المنافقين والمشركين أتبعها حال المؤمنين الذين معبودهم قادر على إيصال كل المنافع فقال { إن الله يدخل } الآية . قالت الأشاعرة : في قوله { إن الله يفعل ما يريد } دليل على أنه خالق الإيمان وفاعله لأنه يريد الإيمان من العبد بالاتفاق . أجاب الكعبي بأنه يفعل ما يريده لا ما يريد أن يفعله غيره ، ورد بأن ما يريد أعم من قولنا ما يريده من فعله وما يريد من فعل غيره . قوله سبحانه { من كان يظن أن لن ينصره الله } في هذا الضمير وجهان : الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم للعلم به لأن ذكر الإيمان يدل على الإيمان بالله ورسوله ، وعلى هذا فالظان من هو؟ قيل : كذا قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستبطئون النصر فنزلت .

وعندي في هذا القول بعد . وعن مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أن الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود والأولى العموم . وكان حساده وأعداؤه يتوقعون أن لا ينصره الله وأن الله لا يغلبه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله ينصره غاظهم ذلك ، والسبب الحبل ، والسماء سماء البيت ، والقطع الاختناق لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، والمراد من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى يفعل خلاف النصر والظفر وكان يغيظه نصرة الله إياه فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه ، وليس ذلك غلا بأن يمد حبلاً إلى سماء بيته ثم يشده في عنقه ويختنق في عنقه وليصور في نفسه أنه إن يفعل ذلك هل يذهبن كيده ما يغيظه ، سمى فعله كيداً حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه . والحاصل ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ ، ومنهم من قال : السماء هي المظلة لأن الاختناق حينئذ أبعد عن الإمكان فيكون أصعب فيصرف الحاسد عن الغيظ إلى طاعة الله ورسوله . ومنهم من قال : مع ذلك أن القطع هو قطع المسافة أي فليصعد على الحبل إلى السماء ، والغرض تصوير مشقة من غير فائدة ، أو القطع قطع الوحي أو النصر أي فليصعد وليقطع الوحي أن ينزل عليه أو النصر أن يأتيه . الوجه الثاني أن الضمير عائد إلى « من » والنصر الرزق . قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله . ووجه النظم من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد وينقلب على وجهه كما مر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق أو غير ذلك مما عددنا ، فإن الله لا يقلبه مرزقاً . وحين بين الأحوال وضرب الأمثال أشار إلى هذا المذكور بلفظ البعيد إما للتعظيم وإما لأن كل ما دخل في حيز الذكر وحصل في حيز كان فهو في حكم البعيد فقال { وكذلك أنزلناه } أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله { آيات بينات وأن الله } حرف التعليل وكذا معلله محذوف للعلم به اي ولأن الله { يهدي من يريد } أنزله كذلك مبيناً . قالت الأشاعرة : المراد بالهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز ، لأن الله تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ، ولأن قوله { يهدي من يريد } يدل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته ، ووضع الأدلة واجب فتعين أن المراد خلق المعرفة .

أجاب القاضي عبد الجبار بأنه اراد تكليف من يريد لأن التكليف لا يخلو من وصف ما كلف به ومن بيانه ، أو أراد يهدي إلى الجنة ، والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً ، أو يهدي به الذين يعلم منهم الإيمان أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى ، وإلى هذين الوجهين أشار الحسن بقوله { إن الله يهدي } من قبل لا من لم يقبل . واعترض بأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الكلام بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف ، وأما الوجوه الأخر فخلاف الظاهر مع أن ما ذكرتموه واجب عندكم على الله وقوله { من يريد } ينافي الوجوب .
ثم أراد أن يميز بين المهدي من الفرق وبين الضال منهم فقال { إن الذين آمنوا } الآية قال مقاتل : الأديان ستة : واحد لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان قلت : فالمؤمنون واليهود والنصارى تشترك في القول بالإله والنبي وتفترق بالاعتراف بعموم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعدم الاعتراف به ، والصابئون قد تجعل من جنس النصارى وقد تجعل من غيرهم ، والمجوس قولهم في البابين مضطرب لأن الإله عندهم اثنان وبنبيهم ليس بنبي في الحقيقة وإنما هو متنبئ ، والمشركون لا نبي لهم ولا كتاب . قال أهل البرهان : قدم النصارى على الصابئين في أوائل البقرة لأنهم أهل كتاب وعكس ههنا لأن الصابئين مقدمة عليهم بالزمان ، وفي المائدة يحتمل الأمران اي والصابئون كذلك أو هم والنصارى { إن الله يفصل بينهم } أي يقضي بين المؤمنين وغيرهم وتكرير إن في الخبر لزيادة التأكيد والفصل مطلق يحتمل الفصل في الأحوال وفي المواطن أيضاً { إن الله على كل شيء شهيد } فلا يجري في قضائه ظلم ولا حيف { الم تر } أي تعلم بإخبار الله والمراد أن هذه الأجسام غير ممتنعة عما يريد الله إحداثه فيها من أنواع تصرفاته وتدبيراته وهذا بين ، قال العلماء : قوله { وكثير من الناس } ليس بمعطوف على ما قبله من المفردات لأن السجود بالمعنى المذكور يتناول كل الناس ولا يختص ببعضهم لدليل العقل ، ولأن قوله { ومن في الأرض } يتناول الثقلين جميعاً والعطف يوهم التخصيص بالبعض . ولا يمكن أن يكون السجود بالنسبة إلى كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة وبالنسبة إلى غيرهم بمعنى نفوذ مشيئة الله فيها لأن اللفظ المشرتك لا يصح استعماله في مفهوميه معاً ، فهو إذن مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة أيضا . وهو مبتدأ محذوف الخبر وهو مثاب لأن الخبر دليل عليه وهو قوله { حق عليه العذاب } أو هو مبتدأ وخبر أي وكثير من المكلفين من الناس الذي هم الناس على الحقيقة فكأنه أخرج الذين وجب عليهم العذاب من جملة الناس لأنهم أشبه بالنسناس

{ أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] أو قوله ثانياً { وكثير } تكرار للأول لأجل المبالغة كأنه قيل : وكثير من الناس حق عليهم العذاب ، وباقي الآية دليل على أن الكل بقضائه وقدره والإكرام والإهانة من عنده وبسابق علمه وسابق مشيئته ، فمن أهانه في الأزل لم يكرمه أحد إلى الأبد . عن ابن عباس أن قوله { هذان خصمان } راجع أهل الأديان الستة أي هما فوجان أو فريقان خصمان والخصم صفة وصفة بها المحذوف . وإنما قيل { اختصموا } نظراً إلى المعنى . وقيل : إن أقل الجمع اثنان . ومعنى { في ربهم } أي في دينه وصفاته فقال المؤمنون في شأنه قولاً وقال الكافرون قولاً . وروي أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم آمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبنبيكم وبجميع الكتب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تتركونه حسداً فنزلت . وعن قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري أنه كان يحلف بالله أنها نزل في ستة نفر من المسلمين : علي وحمزة وعبيدة بن الحرث ، ومن المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة . فقال علي رضي الله عنه : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة . وعن عكرمة هما الجنة والنار . قالت النار : خلقني الله لعقوبته . وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله من خبرهما على محمد صلى الله عليه وسلم والأقرب هو الأول . وقوله { فالذين كفروا } فصل الخصومة المعني بقوله { إن الله يفصل بينهم } وقوله { قطعت لهم ثياب } فيه أنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، أو المراد أن تلك النيران مظاهرة عليهم كالثياب المظاهرة على الملابس بعضها فوق بعض . وعن سعد بن جبير أن قوله { من نار } أي من نحاس أذيب بالنار كقوله { سرابيلهم من قطران } [ إبراهيم : 50 ] والحميم الماء الحار . عن ابن عباس : لو سقطت منه نقطة على الجبال الدنيا لأذابتها . ومعنى { يصهر } يذاب جلودهم وهو أبلغ من قوله { وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم } [ محمد : 15 ] لأن تأثير الشيء من الظاهر في الباطن أبلغ من تأثيره في الباطن . قال في الكشاف : المقامع السياط وقال الجوهري : المقمعة واحدة المقامع { من حديد } كالمحجن يضرب على رأس الفيل . وفي الحديث « لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها » والإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ففي الآية إضمار أي { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم } فخرجوا { أعيدوا فيها } أو المراد بالإرادة المداناة والمشارفة كقوله

{ يريد أن ينقض } [ الكهف : 77 ] وهذا أقرب كقوله { لا يخفف عنهم العذاب } [ البقرة : 162 ] ويؤيده ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفاً . وإنما اختصت هذه السورة بقوله { من غم } وهو الأخذ بالنفس حتى لا يجد صاحبه مخلصاً لأنه بولغ ههنا في أهوال النار بخلاف ما في السجدة وإنما أضمر ههنا قبل قوله { وذوقوا } بخلاف « السجدة » . وقيل لهم ذوقوا لأنه وقع الاختصار ههنا على { عذاب الحريق } وهناك أطنب فقيل { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } [ السجدة : 20 ] وايضاً قد تقدم ذكر القول في تلك السورة كثيراً بخلافه هنا والله تعالى أعلم .
التأويل : { إن زلزلة الساعة } هلاك الاستعداد الفطري { شيء عظيم } { وتذهب كل مرضعة } هي مواد الشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه { وتضع كل ذات حمل } وهي الهيوليات { حملها } وهو الصور الكمالية التي خلقت الهوليات لأجلها { وترى الناس سكارى } الغفلة والعصيان وحب الدنيا والجاه والرياسة وغيرها { وما هم بسكارى } العشق والمحبة والمعرفة { فإنا خلقناكم من تراب } أي كنتم تراباً ميتاً فبعثنا التراب بأن خلقنا منه آدم ، ثم أمتنا منه النطفة ، ثم بعثناها بأن جعلناها علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر لنبين لكم أمر البعث والنشور { ونقر في الأرحام } أمهات العدم { ما نشاء إلى أجل مسمى } وهو وقت إيجاده بحسب تعلق الإرادة به ، وفيه دليل على أنه لا يبعد أن يكون الفاعل كاملاً في فاعليته ولكن لا تتعلق إرادته بالمقدور فيبقى في حيز العدم إلى حين تعلق الإرادة به ، ومنه يظهر حدوث العالم { ثم نخرجكم طفلاً } من أطفال المكونات خارجاً من رحم العدم مستعداً للتربية والكمال . { ومنكم من يتوفى } عن الشهوات فيحيا بحصول الكمالات { ومنكم من يرد } إلى أسفل سافلين الطبيعة { وترى } أرض القالب { هامدة فإذا أنزلنا عليها } ماء حياة المعرفة والعلم { اهتزت } { ذلك بأن الله هو الحق } في الإلهية { وإنه يحيي } القلوب الميتة { وأن الساعة } قيامة العشق والخدمة للطالبين الصادقين { آتية وأن الله يبعث } القلوب المحبوسة في قبور الصدور { عذاب الحريق } بنار الشهوات لكنه لا يحس بها في الدنيا لأنه نائم بنوم الغفلة فإذا مات انتبه { من كان يظن } فيه أن العبد يجب أن يكون حسن الظن بالله { ثم ليقطع } مادة تقدريري في الأزل ونزول أحكامي في القدور { فلينظر هل } ينقطع أم لا { هذان خصمان } يعني النفس الكافرة والروح المؤمنة { قطعت لهم ثياب } بتقطيع خياط القضاء على قدرهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع . { يصب من فوق رؤسهم } حميم الشهوات النفسانية . وفي لفظ الفوق دلالة على أنهم مغلوبون تحتها ، وفيه أن الخيالات الفاسدة تنصب من الدماغ إلى القلب . { يصهر به ما في بطونهم } من الأخلاق الحميدة الروحانية { والجلود } أي يفسد أحوالهم الباطنة والظاهرة بفساد تخيلاتهم ، ولا مخلص لهم عن دركات تلك الملكات لغاية رسوخها والله أعلم بالصواب .


إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

القراآت : { ولؤلؤاً } بهمزتين منصوباً : نافع وحفص . مثله ولكن بتخفيف الأولى واواً ساكنة . أبو بكر وحماد وزيد وكذلك في سورة فاطر . وقرأ سهل ويعقوب والمفضل ههنا بالهمزة والنصب . وفي « فاطر » بالهمز والخفضض . الباقون بالهمز والخفض في السورتين { سواء } بالنصب : حفص وروح وزيد . الآخرون بالرفع . { والبادي } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل . { بوأنا } مثل { أنشأنا } { بيتي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وحفص وهشام . { فتخطفه } بتشديد الطاء : أبو جعفر ونافع { الرياح } يزيد طريق المفضل { والمقيمي الصلاة } بالنصب على تقدير النون : عباس { منسكاً } ونحو بكسر السين : حمزة وعلي وخلف { لن تنال الله } بتاء التأنيث : يعقوب { ولكن تناله } بالتأنيث أيضاً زيد { يدفع } من الدفع : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب الباقون { يدافع } من المدافعة { أذن } مبنياً للمفعول : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم { يقاتلون } مبنياً للمفعول أيضاً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص الآخرون مبنياً للفاعل فيهما . { دفاع } بألف : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب { لهدمت } مخففاً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وسهل وحمزة وعلي وخلق مشدداً مدغماً الباقون مشدداً .
الوقوف : { ولؤلؤاً } ط { من القول } ج للعطف مع تكرار { وهدوا } { الحميد } 5 { والباد } 5 ط { أليم } 5 { السجود } 5 { عميق } 5 لا لتعلق اللام { الأنعام } ج للابتداء بالأمر مع الفاء { الفقير } 5 للعطف مع العدول { العتيق } 5 { ذلك } ق قد قيل : لأن المراد ذلك على ما ذكر أو الأمر والشأن ذلك ثم يبتدأ بالشرط { عند ربه } ط { الزور } 5 لا { مشركين به } ط { سحيق } 5 { ذلك } ق { القلوب } 5 { العتيق } 5 { الأنعام } ط { اسلموا } ط { المخبتين } 5 لا لاتصال الوصف { الصلاة } 5 { ينفقون } ج5 { خير } ق والوصل أحسن للفاء { صواف } ج للشرط مع الفاء { والمعتر } ط { تشكرون } 5 { منكم } ط { هداكم } ط { المحسنين } 5 { آمنوا } ط { كفور } 5 { ظلموا } ط { لقدير } 5 لا بناء على أن { الذين } بدل من الضمير في { نصرهم } { ربنا الله } ط { كثيراً } 5 { ينصره } ط { عزيز } 5 { المنكر } ط { الأمور } 5 .
التفسير : لما ذكر حال أحد الخصمين في الآخرة أراد أن يذكر حال الآخر وهو المؤمن ولهذا ألزم التكرار ، إلا أنه يفطن بهذه الآية فائدة أخرى هي بيان أهل الجنة يحلون فيها وقد مر مثله في أوائل الكهف . ومن قرأ { لؤلؤاً } بالنصب فعلى تقدير ويؤتون لؤلؤاً لأن السوار من اللؤلؤ غريب إلا أن يكون شيئاً منظوماً منه . { وهدوا إلى الطيب من القول } عن ابن عباس هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده يلهمهم الله ذلك { وهدوا إلى صراط الحميد } أي إلى طريق المقام المحمود وهو الجنة أو إلى صراط الله كقوله

{ إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } [ إبراهيم : 12 ] وقال السدي : الطيب من القول هو القرآن . وقيل : شهادة أن لا إله إلا الله وقال حكماء الإسلام : هو كشف الغطاء عن الحقائق الروحانية والمعارف الربانية ، ثم كرر وعيد أهل الكفر ومن دناهم فقال { إن الذين كفروا ويصدون } إنما حسن عطف المستقبل على الماضي لأنه أراد به الاستمرار وأنه من شأنهم الصد وكأنه قيل : كفروا واستمروا على الصد . وقال ابو علي الفارسي . كفروا في الماضي وهم الآن يصدون . عن ابن عباس أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عام الحديبية عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي . ومن قرأ { سواء } بالنصب فعلى أنه مفعول ثانٍ لجعلنا أي جعلناه مستوياً { العاكف فيه والباد } ومن قرأ بالرفع فعلى أن { العاكف } مبتدأ و { سواء } خبر مقدم والجملة مفعول ثان ويجوز أن يكون { للناس } مفعولاً ثانياً اي جعلناه متعبداً لكل من وقع عليه اسم الناس ، وقوله { سواء } إلى آخره الجملة بيان لذلك الجعل أي لا فرق بين الحاضر المقيم به وبين الطارئ من البدو ، واختلفوا في أن المكي والآفاقي يستويان في أي شيء فعن ابن عباس في بعض الروايات أنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها للآية بناء على أن المراد بالمسجد الحرام مكة ، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « مكة مباحة سبق إليها » وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وهو قول قتادة وسعيد بن جبير أيضاً ، ولأجل ذلك زعموا أن كراء دور مكة حرام . والأكثرون على أنهما مستويان في العبادة في المسجد ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار » وعلى هذا فلا منع من بيع دور مكة وإجارتها وهو مذهب الشافعي وقد جرت المناظرة بينه وبين إسحق الحنظلي وكان إسحق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } [ الحج : 40 ] بأن عمر اشترى دار السجن فسكت إسحق وإنما ذهب الأولون إلى أن المراد بالمسجد الحرام ههنا مكة كلها لأنه جعل العاكف فيه بإزاء البادي . أجاب الأكثرون بأنه اراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه . والإلحاد العدول عن القصد كما مر في قوله { وذر الذين يلحدون في أسمائه } [ الأعراف : 180 ] وقوله { بالحاد بظلم } حالان ومفعول { يرد } متروك ليفيد العموم أي ومن يرد فيه مراداً ما جائراً ظالماً .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...