Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج1و2.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 


ج1و2.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري 
 

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

القراآت : « مالك » : بالألف سهل ويعقوب وعاصم وعلي وخلف ، والباقون ملك : { الرحيم مالك } مدغماً : أبو عمرو ، كذلك يدغم كل حرفين التقيا من كلمتين إذا كانا من جنس واحد مثل { قال لهم } [ البقرة : 249 ] أو مخرج واحد مثل { ولتأت طائفة } [ النساء : 102 ] أو قريبي المخرج مثل { خلقكم } [ لقمان : 28 ] و { لقد جاءكم } [ البقرة : 92 ] سواء كان الحرف المدغم ساكناً مثل { أنبتت سبع سنابل } [ البقرة : 261 ] ويسمى بالإدغام الصغير ، أو متحركاً فأسكن للإدغام مثل { قيل لهم } [ البقرة : 11 ] و { لذهب بسمعهم } [ البقرة : 20 ] ويسمى بالإدغام الكبير إلا أن يكون مضاعفاً نحو { أحل لكم } [ البقرة : 187 ] و { مس سقر } [ القمر : 48 ] أو منقوصاً مثل { وما كنت ترجو } [ القصص : 86 ] و { كنت تراباً } [ النبأ : 40 ] ونعني بالمنقوص الأجوف المحذوف العين أو مفتوحاً قبله ساكن مثل { البحر لتأكلوا } [ النحل : 14 ] و { الحمير لتركبوها } [ النحل : 8 ] إلا في مواضع أربعة { كاد تزيغ } [ التوبة : 117 ] و { قال رب } [ المؤمنون : 26 ] في كل القرآن و { الصلاة طرفي النهار } [ هود : 114 ] و { بعد توكيدها } [ النحل : 91 ] أو يكون الإظهار أخف من الإدغام نحو { أفأنت تهدي } [ يونس : 43 ] { أفأنت تسمع } [ الزخرف : 40 ] وعن يعقوب إدغام الجنسين في جميع القرآن إذا التقيا من كلمتين . « الصراط » بإشمام الراء ههنا وفي جميع القرآن : حمزة . وعن يعقوب بالسين في كل القرآن ، وعن الكسائي بإشمام السين كل القرآن ، والباقون بالصاد . « عليهم » : وإليهم ولديهم بضم الهاآت كل القرآن : حمزة وسهل ويعقوب . ضم كل ميم جمع يزيد وابن كثير غير ورش ، بضم الميم عند ألف القطع فقط نحو { أأنذرتهم أم } [ يس : 10 ] .
الوقوف : العالمين ( لا ) لاتصال الصفة بالموصوف . الرحيم ( لا ) لذلك . الدين ( ط ) للعدول عن الغائب إلى المخاطب . نستعين ( ط ) لابتداء الدعاء . المستقيم ( لا ) لاتصال البدل بالمبدل . أنعمت عليهم ( لا ) لاتصال البدل أو الصفة . الضالين ( 5 ) .
التفسير : روي عن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ » وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار » فذكر العلماء أن النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط ، أو المراد به أمر آخر ، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في تفسير القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه . وليس كل ما قالوه سمعوه ، كيف وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك؟! وإنما النهي يحمل على وجهين :
أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوّل القرآن على وفق هواه ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى .

وهذا قد يكون مع العلم بأن المراد من الآية ليس ذلك ، ولكن يلبس على خصمه . وقد يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه . وقد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول : المراد بفرعون في قوله تعالى { اذهب إلى فرعون إنه طغى } [ النازعات : 17 ] هو النفس .
الوجه الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير . فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أوّلاً ليتقي به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع للتفهم والاستنباط . والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة كقوله تعالى { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها } [ الإسراء : 59 ] معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها . فالناظر إلى ظاهر العربية يظن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء ، وما يدري بما ظلموا وإنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم . وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه ما دام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية . واعلم أن مقتضى الديانة أن لا يؤوّل المسلم شيئاً من القرآن والحديث بالمعاني بحيث تبطل الأعيان التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ، والسلف الصالح مثل : الجنة والنار والصراط والميزان والحور والقصور والأنهار والأشجار والثمار وغيرها ، ولكنه يجب أن يثبت تلك الأعيان كما جاءت . ثم إن فهم منها حقائق أخرى ورموزاً ولطائف بحسب ما كوشف فلا بأس ، فإن الله تعالى ما خلق شيئاً في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى ، وما خلق شيئاً في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب ، وما خلق في العالمين شيئاً إلا وله أنموذج في عالم الإنسان والله تعالى أعلم .
والتفسير أصله الكشف والإظهار وكذلك سائر تقاليبه . من ذلك : سفرت المرأة كشفت عن وجهها ، والسفر لأنه يكشف به عن وجوه الحوائج ، ومنه السرف لأنه يكشف به عن ماله حينئذ . والرفس لأنه يكشف عن عضوه وانكشاف حال المقيد في رسفانه واضح . فمن التفسير ما يتعلق باللغة ومنه ما يتعلق بالصرف أو النحو أو المعاني أو البيان إلى غير ذلك من العلوم كما أشرنا إلى ذلك في آخر المقدمة العاشرة ، ومنه أسباب النزول وذكر القصص والأخبار وغير ذلك . ونحن على أن نورد بعد القرآن مع الترجمة القراءة ثم الوقوف ثم أسباب النزول ثم التفسير الشامل لجميع ذلك ، ثم التأويل إن كان ، ولم نذكره في التفسير ونذكر منه ما هو أقرب إلى الإمكان والله المستعان .

فلنشتغل بتفسير الفاتحة فنقول : في البسملة مسائل :
الأولى : الجار والمجرور لا بد له من متعلق وليس بمذكور فيكون مقدراً وأنه يكون فعلاً أو اسماً فيه رائحة الفعل . وعلى التقديرين فإما أن يقدر مقدماً أو مؤخراً نحو : ابدأ بسم الله ، أو ابتدائي بسم الله ، أو بسم الله أبتدئ ، أو بسم الله ابتدائي أو الابتداء ، وتقدير الفعل أولى من تقدير الاسم لأن كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله يكون مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له ، فيكون المراد أن إنشاء ذلك الفعل إنما هو على اسم الله فيقدر ههنا بسم الله أقرأ أو أتلو أو أبدأ ، لأن الذي يتلو التسمية مقروء ومبدوء به كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال : بسم الله متبركاً ، كان المعنى بسم الله أحل أو ارتحل وكذلك الذابح . ونظيره في حذف متعلق الجار قولهم في الدعاء للمعرس : بالرفاء والبنين ، أي بالرفاء أعرست ، وتقدير المحذوف متأخر أولي على نحو قوله تعالى { بسم الله مجريها ومرساها } [ هود : 41 ] لأن تقديم ذكر الله أدخل في التعظيم ، ولأن ما هو السابق في الوجود يستحق السبق في الذكر ، ولهذا قال المحققون : ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله تعالى قبله . ولأنهم كانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقول : باسم اللات باسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما في { إياك نعبد } صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص . قال في الكشاف : وإنما قدم الفعل في { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] لأن تقديم الفعل هناك أوقع لأنهما أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم . وقال صاحب المفتاح : الصواب أن يقال : معنى إقرأ أوجد القراءة ، ثم يكون باسم ربك متعلقاً باقرأ الثاني . وذكر في معنى تعلق اسم الله بالقراءة وجهان : إما تعلق القلم بالكتبة في قولك « كتبت بالقلم » كان فعله لا يجيء معتداً به شرعاً إلا بعد تصديره بذكر الله قال صلى الله عليه وسلم : « كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر » وإما تعلق الدهن بالإنبات في قوله تعالى { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي متبركاً باسم الله أقرأ كما في قوله « بالرفاء والبنين » أي أعرست متلبساً بالرفاء وهذا أعرب وأحسن . أما كونه أدخل في العربية فلأنه لا يعرفه إلا من له دربة بفنون الاستعمالات بخلاف الأول فإنه مبتذل . وأما كونه أحسن فلأن جعل اسم الله كالآلة خروج عن الأدب ، لأن الآلة من حيث إنها آلة غير مقصود بالذات ، واسم الله تعالى عند الموحد أهم شيء وأنه مقول على ألسنة العباد تعليماً لهم كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه ، وكذلك الحمد لله رب العالمين إلى آخره .

الثانية : أنهم استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من لفظ « الله » بعد الفتحة والضمة دون الكسرة أما الأول فللفرق بينه وبين لفظ اللات في الذكر ، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم ، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر ، فيكون أدخل في الثواب وهذا كما جاء في التوراة : أحبب ربك بكل قلبك . وأما الثاني فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار . وإنما لم يعدّوا اللام الغليظة حرفاً والرقيقة حرفاً آخر كما عدوا الدال حرفاً والطاء حرفاً آخر مع أن نسبة الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء ، فإن الدال بطرف اللسان والطاء بكل اللسان ، لإطراد استعمال الغليظة مكان كل دقيقة ما لم يعق عائق الكسرة وعدم إطراد الطاء مكان كل دال .
الثالثة : طولوا الباء من بسم الله إما للدلالة على همزة الوصل المحذوفة ، وإما لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم . وكان يقول عمر بن عبد العزيز لكتابه : طولوا الباء وأظهروا السين ودوّروا الميم تعظيماً لكتاب الله . وقال أهل الإشارة : الباء حرف منخفض في الصورة ، فلما اتصل بكتابة لفظ « الله » ارتفعت واستعملت . فلا يبعد أن القلب إذا اتصل بحضرة الله يرتفع حاله ويعلو شأنه .
الرابعة : إبقاء لام التعريف في الخط على أصله في لفظ الله كما في سائر الأسماء المعرفة ، وأما حذف الألف قبل الهاء فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة ولأنه يشبه اللات في الكتابة . قال أهل الإشارة : الأصل في قولنا « الله » الإله وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ : ألف ولامان وهاء ، فالهمزة من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان ، والهاء من أقصى الحلق ، وهذه حال العبد يبتدئ من النكرة والجهالة ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار ، أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل : النهاية رجوع إلى البداية . وأما حذف الألف قبل النون من لفظ « الرحمن » فهو جائز في الخط ولو كتب كان أحسن .
الخامسة : الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون ، وهو عند البصريين في الأصل سمو بدليل تكسيره على أسماء وتصغيره على سميّ وتصريفه على سميت ونحوه ، فاشتقاقه من السمو وهو العلو مناسب لأن التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره . وقيل : لأن اللفظ معرف للمعنى ، والمعرف متقدم على المعرف في المعلومية فهو عالٍ عليه حذفوا عجزه كما في « يد » و « دم » فبقي حرفان أولهما متحرك والثاني ساكن ، فلما حرك الساكن للإعراب أسكن المتحرك للاعتدال فاحتيج إلى همزة الوصل إذ كان دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك ويقفوا على الساكن حذراً من اللكنة والبشاعة .

ومنهم من لم يزد الهمزة وأبقى السين بحاله فيقول : سم كما قال : باسم الذي في كل سورة سمه . وقد يضم السين فيقال : « سم » كأن الأصل عنده « سمو » . وعند الكوفيين اشتقاق الاسم من الوسم والسمة ، لأن الاسم كالعلامة المعرّفة . وزيف بأنه لو كان كذلك لكان تصغيره وسيماً وحجمه أوساماً .
السادسة : قال بعض المتكلمين ومنهم الأشعري : إن الاسم غير المسمى وغير التسمية وهو حق ، لأن الاسم قد يكون موجوداً والمسمى معدوماً كلفظ المعدوم والمنفي ونحو ذلك ، وقد يكون بالعكس كالحقائق التي لم توضع لها أسماء ، ولأنّ الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحداً كالأسماء المترادفة وكأسماء الله التسعة والتسعين ، أو بالعكس كالأسماء المشتركة ، ولأن كون الاسم اسماً للمسمى وكونه المسمى مسمى له من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية ، والمضافان متغايران لا محالة . ولا يشكل ذلك بكون الشخص عالماً بنفسه لأنهما متغايران اعتباراً ، ولأن الاسم أصوات وحروف هي أعراض غير باقية والمسمى قد يكون باقياً بل واجب الوجود لذاته ، ولأنه لا يلزم من التلفظ بالعسل وجود الحلاوة في اللسان ، ومن التلفظ بالنار وجود الحرارة . وقال المعتزلة : الاسم نفس المسمى لقوله تعالى { تبارك اسم ربك } [ الرحمن : 78 ] مكان « تبارك ربك » : والجواب أنه كما يجب علينا تنزيه ذات الله تعالى من النقائص يجب تنزيه اسمه مما لا ينبغي . وأيضاً قد يزاد لفظ الاسم مجازاً كقوله : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما . قالوا : إذا قال الرجل : زينب طالق . وكان له زوجة مسماة بزينب طلقت شرعاً . قلنا : المراد الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا وقع الطلاق عليها ، والتسمية أيضاً مغايرة للمسمى وللاسم لأنها عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة ، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته ، والاسم عبارة عن ذلك اللفظ المعين فافترقا .
السابعة : وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف ، لأن الحروف رابطة بينهما . والظاهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال لأن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية لشيء من الأشياء في زمان معين ، فكأن الاسم مفرد والفعل مركب والمفرد سابق على المركب طبعاً فيكون سابقاً عليه وضعاً . وأيضاً الفعل مفتقر إلى الفاعل ، والفاعل لا يفتقر إلى الفعل . وأيضاً الاسم مستغن في الإفادة عن الفعل دون العكس ، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقات ، لأن الأولى مفردة والثانية مركبة ، ويشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بتوسط الصفات القائمة بها والمعروف معلوم قبل المعرّف فيناسب السبق في الذكر .

الثامنة : أقسام الأسماء الواقعة على المسميات تسعة : أولها : لاسم الواقع على الذات . ثانيها : الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزائه كاليحوان على الإنسان ثالثها : الواقع عليه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحارّ . رابعها : الوقع عليه بحسب صفة إضافية كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومالك ومملوك . خامسها : الواقع عليه بحسب صفة سلبية كالأعمى والفقير . سادسها : الواقع عليه بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كالعالم والقادر عند القائل بأن العلم صفة حقيقية ، ولها إضافة إلى المعلومات وكذا القدرة . سابعها : صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً . ثامنها : صفة إضافية مع صفة سلبية كالأول ، فإن معناه سابق غير مسبوق . تاسعها صفة حقيقية مع صفة إضافية وصفة سلبية ، فهذه أقسام الأسماء لا تكاد تجد اسماً خارجاً عنها ، سواء كان لله تعالى أو لمخلوقاته .
التاسعة : هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ ذكر بعضهم أن حقيقته تعالى لما كانت غير مدركة للبشر فكيف يوضع له اسم مخصوص بذاته؟ وما الفائدة في ذلك؟ أقول : لا ريب أن الإدراك التام عبارة عن الإحاطة التامة ، والمحاط لا يمكن أن يحيط بمحيطه أبداً ، وأنه تعالى بكل شيء محيط فلا يدركه شيء مما دونه كما ينبغي ، إلا أن وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إدراكه كما ينبغي ، وإنما ينافي عدم إدراكه مطلقاً . فيجوز أن يقال الشيء الذي تدرك منه هذه الآثار واللوازم مسمى بهذا اللفظ ، وأيضاً إذا كان الواضع هو الله تعالى وأنه يدرك ذاته لا محالة على ما هو عليه ، فله أن يضع لذاته اسماً مخصوصاً لا يشاركه فيه غيره حقيقة ، وإذا كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً فينبغي أن يكون ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار ، لأن شرف العلم والذكر بشرف المعلوم والمذكور . فلو اتفق لعبد من عبيده المقربين الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه ، لم يبعد أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات . ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه . منهم من قال : هو ذو الجلال والإكرام ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام » ورد بأن الجلال من الصفات السلبية والإكرام من الإضافية ، ومن البين أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات . ومنهم من يقول : إنه الحي القيوم لقوله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب حين قال له : ما أعظم آية في كتاب الله؟ فقال : الله لا إله إلا هو الحي القيوم . فقال صلى الله عليه وسلم : « ليهنك العلم يا أبا المنذر » . وزيف بأن الحي هو الدرّاك الفعال وهذا ليس فيه عظمة ولأنه صفة ، وأما القيوم فمعناه كونه قائماً بنفسه مقوّماً لغيره ، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره ، والثاني إضافي .

ومنهم من قال : إن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا ينبغي أن يفاوت بينها ، ورد بما مرّ من أن اسم الذات أشرف من اسم الصفة ، ومنهم من قال : إن الإسم الأعظم هو الله وهذا أقرب ، لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه ، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة ، ويؤيد ذلك ما روت أسماء بنت زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } [ البقرة : 163 ] وفاتحه سورة آل عمران { ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ آل عمران : 1 - 2 ] » وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . فقال : « » والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي بهن أجاب وإذا سئل به أعطى . « ولا شك أن اسم الله في الآية والحديث أصل والصفات مرتبة عليه هذا ، وأما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزائه فمحال في حق الله تعالى ، لأن ذاته تعالى مبرأ عن شائبة التركيب بوجه من الوجوه . وأما الاسم الدال بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة ، فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود ، وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود ، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود ، فهذه ثلاثة أقسام : القسم الأول : الأسماء الدالة على الوجود منها الشيء ويجوز إطلاقه على الله تعالى عند الأكثرين لقوله تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام : 19 ] { كل شيء هالك إلا وجهه } أي ذاته . وفي الخبر » كان الله ولم يكن شيء غيره « ولأن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذاته تعالى كذلك . حجة المخالف قوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الرعد : 16 ] فلو كان الله تعالى شيئاً لزم أن يكون خالق نفسه . ومثله { وهو على كل شيء قدير } [ التغابن : 1 ] قلنا : خص بالدليل العقلي . قالوا : ليس من صفات المدح . قلنا : نعم هو خير من لا شيء ، وإن كان سائر الأشياء مشتركة معه في ذلك كالموجود والكريم والحليم ، فإن كلاً منها مدح بالنسبة إلى من لا وجود له ولا كرم ولا حلم ، بل الشيء بالحقيقة هو وباقي الأشياء شيئيتها مستعارة كوجودها ومنها الموجود . وأطبق المسلمون على جواز إطلاقه عليه تعالى وكيف لا؟ ومعنى قول الموحد لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله .

ومنها الذات ولا شك في جواز إطلاقه عليه إذ يصدق على كل حقيقة أنها ذات الصفات أي صاحبة الصفات القائمة بها ، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن إبراهيم لم يكذّب إلا في ثلاث : ثنتين في ذات الله » - أي في طلب مرضاته ومنها النفس قال تعالى : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } [ المائدة : 116 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « أنت كما أثنيت على نفسك » أي على ذاتك وحقيقتك . ومنها الشخص قال : « لا شخص أغير من الله تعالى ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » « ولا شخص أحب إليه العذْر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين » « ولا شخص أحب إليه المدحة من الله » والمراد بالشخص الحقيقة المتعينة الممتازة عما عداها . ومنها النور قال عز من قائل : { الله نور السماوات والأرض } [ النور : 35 ] وليس المراد به ما يشبه الكيفية المبصرة وإنما المراد أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره . وإذ لا ظهور ولا إظهار فوق ظهوره وإظهاره فإنه واجب الوجود لذاته أزلاً وأبداً ، ومخرج جميع الممكنات من العدم إلى الوجود . فإذن هو نور الأنوار تعالى وتقدس ، وسوف يأتيك تمام التحقيق إذا وصلنا إلى سورة النور وهو أعلم بحقائق الأمور . ومنها الصورة وقد ورد في الخبر « أن الله خلق آدم على صورته » فقيل : معناه خلق آدم على صورته التي كان عليها يعني ما تولد من نطفة ودم وما كان جنيناً ، ورضيعاً بل خلقه الله تعالى رجلاً كاملاً دفعة واحدة . وقيل في حديث آخر « لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن » المراد من الصورة الصفة كما يقال : صورة هذه المسألة كذا أي خلقه على صفته في كونه خليفة في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم . ويمكن أن يقال : الصورة إشارة إلى وجه المناسبة التي ينبغي أن تكون بين كل علة ومعلولها ، فإن الظلمة لا تصدر عن النور وبالعكس ، وكنا قد كتبنا في هذا رسالة . ومنها الجوهر وأنه لا يطلق عليه بمعنى موجود لا في موضوع ، أي إذا وجد كان وجودهن بحيث لا يحتاج إلى محل يقوم به ويستغني المحل عنه ، لأن ذلك ينبئ عن كون وجوده زائداً على ماهيته . وإنما يمكن أن يطلق عليه بمعنى آخر وهو كونه قائماً بذاته غير مفتقر إلى شيء في شيء أصلاً لكن الإذن الشرعي حيث لم يرد بذلك وجب الامتناع عنه . ومنها الجسم ولا يطلقه عليه إلا المجسمة ، فإن أرادوا الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة فمحال للزوم التركيب والتجزي ، وإن أرادوا معنى يليق بذاته من كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل فالإذن الشرعي لم يرد به فلزم الامتناع .

ومنها الماهية والآنية أي الحقيقة التي يسأل عنها بما هي وثبوته الدال عليه لفظ « ان » ، ولا بأس بإطلاقهما عليه إذا أريد بهما الحقيقة والذات المخصوصة إلا من حيث الشرع . ومنها الحق فإنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم ، إما بحسب ذاته فلأنه الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله ، والحق يقال بإزاء الباطل والباطل يقال للمعدوم قال لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل . وإما بحسب ما يقال إن هذا الخبر حق وصدق فهذا الخبر أحق وأصدق ، وإما بحسب ما يقال إن هذا الاعتقاد حق فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه أصوب الاعتقادات المطابقة .
القسم الثاني في الأسماء الدالة على كيفية الوجود منها القديم وهو في اللغة يفيد طول المدة ، وفي الشرع يرادفه الأزلي ، ويراد بهما ما لا أول له في الطرف الماضي كالأبدي في الطرف المستقبل . وكذا السرمدي واشتقاقه من السرد التوالي والتعاقب ، زيدت الميم للمبالغة . ونعني بالنسبة في هذه الألفاظ أنه تعالى منسوب إلى عدم البداية والنهاية في كلا طرفي الامتداد الوهمي المسمى بالزمان . ومنها الممتد والمستمر ونعني بهما تلاحق الأجزاء وتعاقب الأبعاض ، ولا يخفى أن أمثال هذه الألفاظ إنما يصح إطلاقها بالحقيقة على الزمان والزمانيات ، وأما في حق الله جل ذكره فلا يصح إلا بالمجاز بعد التوقيف . ومنها الباقي قال تعالى : { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 26 ، 27 ] وأنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم . ومنها الدائم وهو كالباقي . ومنها واجب الوجود لذاته أي ذاته اقتضى وجوده ، وما بالذات لا ينفك عنه أبداً فهو ممتنع الفناء والعدم أزلاً وأبداً ولهذا قيل : خداي معناه خوداي أي أنه جاء بنفسه . ومنها الكائن قال تعالى : { وكان الله عليماً حكيماً } [ الفتح : 4 ] وفي بعض الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم « يا كائناً قبل كل كون ، ويا حاضراً مع كل كون ، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون » واعلم : أن لفظة « كان » تفيد الحصول والثبوت والوجود ، إلا أن هذا قسمان : منه ما يفيد حصول الشيء في نفسه ، ومنه ما يفيد حصول موصوفية شيء بشيء . والأول يتم باستناده إلى ذلك الشيء وهي التامة ، والثاني لا يتم إلا بذكر شيئين وهي الناقصة نحو : كان زيد عالماً أي حصل موصوفية زيد بالعلم وكلا القسمين يجوز إطلاقه عليه تعالى .
القسم الثالث في الصفات الحقيقية المغايرة للوجود ولكيفيات الوجود . الفلاسفة والمعتزلة أنكروا قيام مثل هذه الصفات بذات الله تعالى أشد إنكار لأن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحداً من جميع جهاته ، ولأن تلك الصفة لو كانت واجبة الوجود لزم شريك للباري مع أن الجمع بين الوجود الذاتي وبين كونه صفة للغير ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف محال ، وإن كانت ممكنة الوجود فلها علة موجدة ، ومحال أن يكون هو الله تعالى لأنه قابل لها فلا يكون فاعلاً لها ، ولأن ذاته لو كانت كافية في تحصيل تلك الصفة فتكون ذاته بدون تلك الصفة كاملة في العلية وهو المطلوب ، وإن لم تكن كافية لزم النقص المنافي لوجوب الوجود .

حجة المثبتين أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً ، ثم إنا ندرك التفرقة بين قولنا : « ذات الله تعالى ذات » وبين قولنا : « ذاته عالم قادر » وذلك يدل على المغايرة بين الذات وهذه الصفات . وإذا قلنا بإثبات الصفة الحقيقية فنقول : العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم ، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور . والصفة الحقيقية العارية عن النسب والإضافات في حقه تعالى ليست إلا صفة الحياة إن لم نقل إنها عبارة عن الدرّاكية والفعالية ، بل يقال : إنها صفة باعتبارها يصح أن عالماً وقادراً ، والتحقيق أن الحياة عبارة عن كون الشيء بحيث يصدر عنه ما من شأنه أن يصدر عنه كما ينبغي أن يصدر عنه ، ولا ريب أن واجب الوجود تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم ، لأن وجوب الوجود يقتضي اتصافه بجميع الصفات الكمالية وصدور الأشياء الممكنة عنه على النحو الأفضل ، ولهذا مدح الله تعالى به نفسه قائلاً { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] { وعنت الوجوه للحي القيوم } [ طه : 111 ] وأما الأسماء الدالة على الصفات الإضافية ، فمنها التكوين وهو عند المعتزلة والأشعري نفس المكوّن . وقال غيرهم : إنه غيره . حجة الأولين أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة وهي القدرة لا غير ، أو على سبيل الوجوب . ويلزم كونه موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار . وأيضاً إن كانت قديمة لزم قدم الآثار ، وإن كانت حادثة افتقرت إلى تكوين آخر وتسلسل الآخرون . قالوا : كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط ، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية ، لأن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً ، فإن القادر على الفعل قد يوجد وقد لا يوجد . ومنها كونه تعالى معلوماً ومذكوراً مسبحاً ممجداً فيقال : يا أيها المسبح بكل لسان ، ويا أيها الممدوح عند كل إنسان ، ويا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان . ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية . ومنها ألفاظ متقاربة تدل على مجرد كونه موجداً مثل الموجد ومعناه المؤثر في الموجود ، والمحدث وهو أخص لأنه الذي جعله موجوداً بعد العدم ، والمكوّن وهو كالموجد والمنشئ ومعناه ينشئ على التدريج والمبدع والمخترع ويفهم منهما الإيجاد الدفعي ، وكذا الفاطر مثل الصانع ويفهم منه تكلف ، وأما الخلق فهو التقدير وأنه في حق الله تعالى يرجع إلى العلم ، وأما الباري فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة .

يقال : برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين . ومنها ألفاظ تدل على إيجاد شيء بعينه وأنها تكاد تكون غير متناهية . ومنها ألفاظ تدل على إيجاد النوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية ، فإذا خلق المنافع سمي نافعاً ، وإذا خلق الألم سمي ضاراً ، وإذا خلق الحياة سمي محيياً ، وإذا خلق الموت سمي مميتاً ، وإذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً ، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً ، وإذا أقلّ العطاء سمي قابضاً ، وإذا أكثر سمي باسطاً ، وإذا جازى الذنوب بالعقاب سمي منتقماً ، وإذا ترك ذلك الجزاء سمي عفوّاً غفوراً رحماناً رحيماً ، وإذا حصل المنع والإعطاء في المال سمي قابضاً باسطاً ، وإذا حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً .
وأما الصفات السلبية فمنها ما يعود إلى الذات كقولنا إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا مكانياً ولا زمانياً ولا حالاً ولا محلاً ولا مفتقراً إلى شيء غيره ، تعالى في ذاته وفي صفاته ، وإنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . ومنها ما يعود إلى الصفات ، ولا يخفى أن كل صفة من صفات النقص يجب تنزيه الله عنها ، وذلك إما راجع إلى أضداد العلم كنفي النوم { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] وكنفي النسيان { وما كان ربك نسياً } [ مريم : 64 ] وكنفي الجهل { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبأ : 3 ] وكأن لا يمنعه العلم ببعض المعلومات عن العلم بغيره لا يشغله شأن عن شأن . وإما راجع إلى أضداد القدرة ككونه منزهاً في أفعاله عن التعب والنصب { وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ] وإنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات وتقديم المادة والمدّة { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] وأنه لا يتفاوت في قدرته القليل والكثير { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } [ النحل : 77 ] وأنه لا تنتهي قدرته { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز } [ إبراهيم : 19 ] وإما راجع إلى صفة الوحدة كنفي الأنداد والأضداد { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } [ المؤمنون : 91 ] أو إلى صفة الاستغناء { وهو يطعم ولا يُطْعَم وهو يجير ولا يجار عليه } [ الأنعام : 14 ] ومنها ما يعود إلا الأفعال لا يخلق الباطل { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } [ ص : 27 ] لا يخلق اللعب { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الأنبياء : 17 ] لا يخلق العبث { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } [ المؤمنون : 115 ] لا يرضى بالكفر ، لا يريد الظلم ، لا يحب الفساد لا يؤذي من غير سابقة جرم { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } [ النساء : 146 ] لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين

{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } [ الإسراء : 7 ] ليس لأحد أن يعترض عليه في أفعاله وأحكامه { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون } [ الأنبياء : 23 ] { لا يخلف الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ومن أسماء السلوب القدوس والسلام لأنه منزه وسالم من نقائص الإمكان . ومنها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير أو لا يغلبه شيء ، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة ولا يمنع من إيصال الرحمة ، والصبور الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه ، وربما يفرق بينهما بأن المكلف يأمن العقوبة في صفة الحليم دون صفة الصبور . وأما الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية فمنها : القادر والقدير والمقتدر والمالك والملك ومالك الملك والمليك والقوي وذو القوة ومعانيها ترجع إلى القدرة ومنها ما يرجع إلى العلم { ولا يحيطون بشيء من علمه } [ البقرة : 255 ] { عالم الغيب والشهادة } [ التغابن : 18 ] { وهو بكل شيء عليم } [ البقرة : 29 ] { علام الغيوب } [ المائدة : 109 ] { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] { علم الله أنكم كنتم تختانون } [ البقرة : 187 ] { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } [ النحل : 19 ] { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] ولم يرد علامة وإن كان يفيد المبالغة لأن ذلك بتأويل أمة أو جماعة . والخبير يقرب من العليم وكذا الشهيد إذا فسر بكونه مشاهداً لها ، وإذ أخذ من الشهادة كان من وصف الكلام . والحكمة تشارك العلم من حيث إنه إدراك حقائق الأشياء كما هي وتباينه بأنها أيضاً صدور الأشياء عنه كما ينبغي . واللطيف قد يراد به إيصال المنافع إلى الغير بطرق خفية عجيبة ، والتحقيق أنه الذي ينفذ تصرفه في جميع الأشياء . ومنها ما يرجع إلى الكلام { وكلم الله موسى تكليماً } [ النساء : 164 ] { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } [ الشورى : 51 ] { وإذ قال ربك } [ البقرة : 30 ] { ما يبدل القول لديَّ } [ ق : 30 ] { ومن أصدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ] { إنما أمره } [ يس : 81 ] { إن الله يأمركم } [ النساء : 58 ] { وعد الله حقاً } [ النساء : 122 ] { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 9 ] { وكان الله شاكراً عليماً } [ النساء : 147 ] { كان سعيكم مشكوراً } [ الدهر : 22 ] وذلك أنه أثنى على عبده بمثل قوله { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون } [ الذاريات : 18 ، 19 ] وهذا صورة الشكر . ومنها ما يرجع إلى الإرادات { يريد الله بكم اليسر } [ البقرة : 185 ] رضي الله عنهم أي صار مريداً لأفعالهم { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] { والله يحب المطهرين } [ التوبة : 108 ] يريد إيصال الخير إليهم { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً } [ الإسراء : 38 ] . الأشعرية : الكراهية عبارة عن إرادة عدم الفعل . المعتزلة : له صفة أخرى غير الإرادة . ومنها ما يرجع إلى السمع والبصر { إنني معكما أسمع وأرى } [ طه : 46 ] { إنه هو السميع البصير } [ الإسراء : 1 ] { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] وأما الصفات الإضافية مع السلبية فكالأول لأنه مركب من معنيين : أحدهما أنه سابق على غيره ، والثاني لا يسبق عليه غيرهن وكالآخر فإنه الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعد غيرهن ، وكالقيوم فإنه الذي يفتقر إليه غيره ولا يفتقر إلى غيره ، والظاهر إضافة محضة وكذا الباطن ، أي أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب الماهية .

وأما الاسم الدال على مجموع الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية فالإله ، ولا يجوز إطلاق هذا اللفظ في الإسلام على غير الله وأما الله ، فسيأتي أنه اسم علم . وقد بقي ههنا أسماء يطلقها عليه تعالى أهل التشبيه ككونه متحيزاً أو حالاً في المتحيز استبعاداً منهم أنه كيف يكون موجود خالياً عن كلا الوصفين وهو عند أهل التقديس محال للزوم الافتقار ، اللهم إلا أن يقال استصحاب المكان لا يستلزم الافتقار إلى المكان ومنها العظيم والكبير وهما متقاربان لقوله تعالى في موضع { وهو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] وفي آخر { وهو العلي الكبير } [ سبأ : 23 ] وقد يفرق بينهما بأنه ورد « الكبرياء ردائي و العظمة إزاري » والرداء أرفع من الإزار . وأيضاً اختص تحريم الصلاة بالله أكبر دون الله أعظم . ولا ريب أن إطلاق العظمة والكبر على الله تعالى بحسب الحجمية والمقدار كما للأجسام محال للزوم التبعيض والتجزئة . ومنها العلي والمتعالي ، فإن العلو بالمعنى المستلزم للتمكن محال على الله فإما أن يراد بمثل هذه الألفاظ مزيد الرتبة والشرف على الممكنات ، وإما أن يقال : إنا نطلق هذه الأسماء للإذن الشرعي فنكل معانيها إلى مراد الله تعالى ، وإما أن نستمد في إدراكها بضرب من الكشف والعيان . ( العاشر في الأسماء المضمرة ) قال عز من قائل : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } [ طه : 14 ] ولا يصح لغيره هذا الذكر إلا حكاية . وما جاء من قول بعض أهل الكمال : أنا من أهوى ومن أهوى أنا . إشارة إلى كمال المحبة وغاية إرادة الاتصاف بصفة المحبوب وفناء إرادته في إرادته ، وقال : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ولا يصح هذا إلا من العبد بشرط الحضور والمشاهدة . وقال { لا إله إلا هو } [ البقرة : 255 ] وإنما يصح هذا من الغائبين . واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه ، فكل حاضر غائب بالنسبة إلى ما فوق تلك الدرجة ، ورب غائب حاضر كما قيل :
أيا غائباً حاضراً في الفؤاد ... سلام على الغائب الحاضر
وفي لفظة « هو » أسرار عجيبة منها : أن العبد إذا قال : يا هو فكأنه يقول : ما للتراب ورب الأرباب؟ وما المناسبة بين المتولد من النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم؟ فلهذا ينادي نداء الغائبين ويقول : يا هو . ومنها أنه إذا قال : يا هو فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه نفي محض ، لأنه لو حصل في الوجود شيئان لكان قوله « هو » صالحاً لهما جميعاً فلا يتعين النداء . ومنها إذا قال : يا رحمن فكأنه يتذكر رحمته أو يطلب رحمته ، وكذا إذا قال : يا كريم وغيره من الصفات .

فأما إذا قال : « يا هو » فكأنه استغرق في بحر العرفان وفني عما سوى الذات . ومنها إذا قال : « يا هو » فكأنه يقول : أجلّ حضرتك أن أمدحك ، وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك وهي صفات الجلال نحو : لا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا في المحل ، أو بإسناد كمالات الممكنات إليك وهي صفات الإكرام ككونه مرتباً للموجودات على النحو الأكمل ، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي . ومنها أن هذا الذكر يفيد أن المنادي بسيط محض لا طريق إلى تصوره إلا بالإشارة العقلية . ومنها أن العبد كأنه دهش حتى ذهل عن كل ما يوصف به مالكه إلا عن هذه الإشارة . ولاختصاص هذا الذكر بهذه الأسرار ذكر الغزالي لا إله إلا الله توحيد العوام ، ولا إله إلا هو توحيد الخواص . وذلك أن قوله « لا هو » معناه كل شيء هالك ، وقوله « إلا هو » معناه إلا وجهه . ومن جملة الأذكار الشريفة : يا هو يا من لا هو إلا هو ، يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت . ولقد لقنني بعض المشايخ من الذكر : يا هو يا من هو هو يا من لا هو إلا هو يا من لا هو بلا هو إلا هو . فالأول فناء عما سوى الله ، والثاني فناء في الله ، والثالث فناء عما سوى الذات ، والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات .
الحادي عشر في بقية مباحث الأسماء
اختلفوا في أسماء الله تعالى توقيفية أم لا . فمال بعضهم إلى التوقيف لأنا نصف الله تعالى بكونه عالماً ولا نصفه بكونه طبيباً وفقيهاً ومستيقناً ، فلولا أن أسماءه توقيفية لوصف بمثلها وإن كان على سبيل التجوز . القائلون بعدم التوقيف احتجوا بأن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية وأن شيئاً منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار ، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها . والجواب أن عدم التوقيف في غير اللغة العربية لا يوجب عدمه في العربية ، وبأن الله تعالى قال : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180 ] وكل اسم دل على صفات الكمال ونعوت الجلال كان حسناً ويجوز إطلاقه . والجواب أنه يجوز ولكن بعد التوقيف لم قلتم إنه ليس كذلك؟ والغزالي فرق بين اسم الذات وبين أسماء الصفات فمنع الأول وجوّز الثاني . واعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على معانٍ لا يمكن إثباتها بالحقيقة في حق الله تعالى منها : الاستهزاء { الله يستهزئ بهم } [ البقرة : 15 ] والاستهزاء مذموم لكونه جهلاً { قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] . ومنها المكر { ومكروا ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] ومنها الغضب { وغضب الله عليهم } [ الفتح : 6 ] ومنها التعجب { بل عجبت ويسخرون }

[ الصافات : 12 ] فيمن قرأ بضم التاء . والتعجب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشيء ومنها التكبر { الجبار المتكبر } [ الحشر : 23 ] ومنها الحياء { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً } [ البقرة : 26 ] والحياء تغير يعرض للقلب والوجه عند فعل شيء قبيح . والقانون في تصحيح هذه الألفاظ أن يقال لكل واحدة من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية وآثار تصدر منها في النهاية مثاله : الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دمه وسخونة مزاجه ، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه . فالغضب في حقه تعالى محمول على الأثر الحاصل في النهاية لا الأمر الكائن في البداية ، وقس على هذا . قيل : إن لله تعالى أربعة آلاف اسم ، ألف منها في القرآن والأخبار ، وألف في التوراة ، وألف في الإنجيل ، وألف في الزبور . وقد يقال : ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك إلى البشر وهذا غير مستبعد ، فإن أقسام صفات الله تعالى بحسب السلوب والإضافات لا تكاد تنحصر ، وكل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم العلوي والعالم السفلي أكثر كان اطلاعه على أسماء الله أكثر . وإن قلنا : إن له بكل مخلوق اسماً وكذا بكل خاصية ومنفعة فيه كمنافع الأعضاء والحيوان والنبات والأحجار ، خرجت الأسماء عن حيز العد والإحصاء كما قال عز من قائل : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] فإن قلت : إنا نرى في كتب العزائم أذكاراً غير معلومة ورقى غير مفهومة وقد تكون كتابتها أيضاً غير معلومة ، فما بال تلك الأذكار والرقى؟ قلت : لا نشك أن تلك الكلمات إن لم تدل على شيء أصلاً لم تفد ، وإن دلت فأحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون شيئاً من هذه الأدعية . ولا ريب أن الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات ، إلا أن أكثر الناس إذا قرأوا هذه الأذكار المعلومة ولم يكن لهم نفوس مشرقة تجذب بهم إلى عالم القدس ويلوح عليهم أثر الإلهيات ، لم يكد يظهر عليهم شروق أنوارها ولهذا قد ورد « رب تال للقرآن والقرآن يلعنه » نعوذ بالله من هذه الحالة . أما إذا قرأوا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئاً وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية ، استولى الفزع والرعب على قلوبهم فيحصل لهم بهذا السبب نوع تجرد عن الجسمانيات وتوجه إلى الروحانيات فتتأثر نفوسهم وتؤثر ، وهذا وجه مناسب في قراءة الرقى المجهولة . واعلم أن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة ، والنفوس مختلفة والجنسية علة الضم ، فكل اسم يغلب معناه على بعض النفوس فإذا واظب صاحبه على ذلك الاسم كان انتفاعه به أسرع والله الموفق . حكي أن الشيخ أبا النجيب البغدادي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يرى مصلحته فيه ، ثم يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين .

وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له : اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق ، وإن رآه تأثر مزيد تأثر عند سماع اسم خاص أمره بالمواظبة على ذلك الذكر وقال : إن أبواب المكاشفات تنفتح عليك من هذا الطريق . وذلك أن الرياضة والمجاهدة لا تغلب النفوس عن أحوالها الفطرية ، ولكنها تضعف بحيث لا تستولي على الإنسان ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة » « الأرواح جنود مجندة » « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » فهذا تمام البحث عن مطلق الأسماء . ( الثاني عشر في الأبحاث المختصة باسم الله ) المختار عند الخليل ومتابعيه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن هذا اللفظ ليس بمشتق ألبتة ، وأنه اسم علم له سبحانه وتعالى . لأنه لو كان مشتقاً لكان معناه معنى كلياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه ، وحينئذ لا يكون قولنا « إلا الله » موجباً للتوحيد المحض . فلا يدخل الكافر بقوله : « أشهد أن لا إله إلا الله » في الإسلام كما لو قال : « أشهد أن لا إله إلا الرحمن » أو « إلا الملك » لا يدخل بذلك في الإسلام بالاتفاق . وأيضاً الترتيب العقلي ذكر الذات ثم تعقيبه بالصفات نحو : زيد الفقيه الأصولي النحوي . ثم إنا نقول : الله الرحمن الرحيم العالم القادر ولا نقول بالعكس ، فدل ذلك على أن « الله » اسم علم . وقراءة من قرأ { إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } [ إبراهيم : 1 ، 2 ] بخفض اسم الله ليست لأجل أن جعله وصفاً وإنما هو للبيان ، فوازنه وزان قولك : « مررت بالعالم الفاضل الكامل زيد » . وأيضاً قال تعالى : { هل تعلم له سمياً } [ مريم : 65 ] وليس المراد به الصفة والإلزام خلاف الواقع ، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلا الله . حجة القائلين باشتقاقه قوله عز من قائل { وهو الله في السموات وفي الأرض } [ الأنعام : 3 ] فإنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وإنما يقال هو العالم في البلد . قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك جارياً مجرى قولك « هو زيد الذي لا نظير له في البلد »؟ قالوا : لما كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى ، كان اسم العلم له ممتنعاً . وأيضاً العلم للتمييز ولا مشاركة فلا حاجة إلى التمييز . قلنا : وضع العلم لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى الإشارة الحسية ، ولا يتوقف على حصول الشركة ، وكأن النزاع بين الفريقين لفظي ، لأن القائلين بالاشتقاق متفقون على أن الإله مشتق من أله بالفتح إلاهة أي عبد عبادة ، وأنه اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، وكذلك السنة على عام القحط والبيت على الكعبة والكتاب على كتاب سيبويه .

وأما « الله » بحذف الهمزة فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره . وينبغي أن يكون المراد من كون الله تعالى معبوداً كونه مستحقاً ومستأهلاً لأن يعبده كل من سواه كما يليق بحال العابد ، فإن اللائق بحال المعبود لا يقدر عليه أحد من المخلوقات . ولا يخفى أن الاستحقاق والاستئهال حاصل له أزلاً وأبداً ، فيكون إلهاً أزلاً وأبداً وإن كل من سواه عابد له بقدر استعداده وعلى حسب حاله ، حتى النبات والجماد والكافر والفاسق { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] { إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا } [ مريم : 93 ] والعبد الصالح من يعبد الله تعالى لذاته لا لغرض رغبة في الثواب ورهبة من العقاب ، حتى لو فرض حصول المرغوب أو فقد المرهوب لم يكن عابداً ، ومع ذلك فينبغي أن يقطع النظر عن عبادته أيضاً .
وقيل : اشتقاقه من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه . فالنفوس لا تسكن إلا إليه تعالى ، والعقول لا تقف إلا لديه ، لأن الكمال محبوب لذاته { ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا } [ الرعد : 28-29 ] وقيل : من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان . وقيل : من لاه ارتفع لأنه تعالى ارتفع عن مشابهة الممكانات ومناسبة المحدثات .
وقيل : من أله في الشيء إذا تحير فيه ، لأن العقل وقف بين إقدام على إثبات ذاته نظراً إلى وجود مصنوعاته ، وبين تكذيب لنفسه لتعاليه عن ضبط وهمه وحسه ، فلم يبق إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه الجلال والجمال ، وههنا العجز عن درك الإدراك إدراك .
وقيل : من لاه يلوه إذا احتجب ، لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول . فإنا إنما نستدلّ على كون الشعاع مستفاداً من الشمس بدورانه معها وجوداً وعدماً وشروقاً وأفولاً ، ولو كانت الشمس ثابتة في كبد السماء لما حصل اطمئنان يكون الشعاع مستفاداً منها ، ولما كان ذاته تعالى باقياً على حاله وكذا الممكنات التابعة له ، فربما يخطر ببال الضعفاء أن هذه الأشياء موجودة بذواتها فلا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال ظهوره ، فالحق محتجب والخلق محجوب .
وقيل : من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، لأن العباد مولعون بالتضرع إليه في البليات { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } [ الروم : 33 ] هذا شأن الناقصين ، وأما الكاملون فهو جليسهم وأنيسهم أبداً . شكا بعض المريدين كثرة الوسواس فقال الشيخ : كنت حدّاداً عشر سنين وقصاراً عشراً وبواباً عشراً .

فقيل : وكيف وما رأينا منك؟ قال : القلب كالحديد ألينه بنار الخوف عشراً ، ثم شرعت في غسله عن الأوضار والأوزار عشراً ، ثم وقفت على باب القلب عشراً أسل سيف « لا إله إلا الله » فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله ويدخل فيه حب الله ، فلما خلت عرصة القلب من غيره وقويت فيه محبته سقطت من بحر عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر « لا إله إلا الله » .
وقيل : من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره . والمجير للخلائق من كره المضارّ هو الله { وهو يجير ولا يجار عليه } [ المؤمنون : 88 ] ومن لطائف اسم الله أنك إذا لم تتلفظ بالهمزة بقي « الله » { ولله جنود السموات والأرض } [ الفتح : 4 ] فإن تركت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة « له » { له ما في السموات وما في الأرض } [ البقرة : 255 ] وإن تركت اللام الباقية أيضاً بقي الهاء المضمومة من « هو » { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع هما هم . هذا بحسب اللفظ ، وأما بحسب المعنى فإذا دعوت الله به فكأنك دعوته بجميع الصفات بخلاف سائر الأسماء ولهذا صحت كلمة الشهادة به فقط والله تعالى أعلم .
( الثالث عشر فيما يتعلق بالرحمن الرحيم ) الرحمن فعلان من رحم ، والرحيم فعيل منه واشتقاقه من الرحمة وهي ترك عقوبة من يستحقها أو إرادة الخير لأهله . وأصله الرقة والتعطف ومنه الرحم لرقتها وانعطافها على ما فيها . واختلف في منع صرف رحمن إذ ليس له مؤنث على فعلى كعطشى ، ولا على فعلانة كندمانة ، فمن شرط في منع صرف فعلان صفة وجود فعلي صرفه ، ومن شرط فيه انتفاء فعلانة لم يصرفه ، وإذا تساقط الدليلان للتعارض فللصرف وجه ، وهو أن الأصل في الأسماء الصرف ولمنع الصرف وجه وهو القياس على أخوته من بابه نحو : عطشان وغرثان . وزعم قوم أنهما بمعنى واحد كندمان ونديم ، وجمع بينهما للتأكيد والاتساع كقولهم جاد مجدّ قال طرفة .
متى أدن منه ينأ عني ويبعد ... وقال قوم : الرحمن أشد مبالغة استدلالاً بالزيادة في اللفظ على الزيادة في المعنى . قالوا : ولهذا جاء رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ، وربما يقال رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ، لأن رحمته في الدنيا عمت المؤمن والكافر والبر والفاجر ، وفي الآخرة اختصت بالمؤمنين . فالرحمن خاص اللفظ عام المعنى والرحيم بالعكس . أما خصوص الرحمن فمن حيث لا يسمى به إلا الله تعالى لأنه من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق ، وأما عمومه فمن حيث إنه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع . وأما عموم الرحيم فاشتراك تسمية الخلق به ، وأما خصوصه فرجوعه إلى اللطف بالمؤمنين والتوفيق .

الضحاك : الرحمن بأهل السماء حيث أسكنهم السموات وطوقهم الطاعات وأنطق ألسنتهم بأنواع التسبيحات وجنبهم الآفات وقطع عنهم المطامع واللذات ، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب . فقال عكرمة : الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن لله تعالى مائة رحمة وإنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة » قال ابن المبارك : الرحمن الذي إذا سئل أعطى ، والرحيم الذي إذا لم يسأل غضب . قال صلى الله عليه وسلم : « من لم يسأل الله يغضب عليه » الرحمن بالنعماء وهي ما أعطى وحبا ، والرحيم باللأواء وهي ما صرف وزوى . الرحمن بالإنقاذ من النار { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 103 ] والرحيم بإدخالهم الجنان { ادخلوها بسلام آمنين } [ الحجر : 46 ] الرحمن الراحم القادر على كشف الضر ، والرحيم الراحم وإن لم يقدر على كشف الضر . وتسمية مسيلمة الكذاب بالرحمن تعنت منهم واقتطاع من أسماء الله تعالى . قال عطاء : ولذلك قرنه الله تعالى بالرحيم لأن هذا المجموع لم يسم غيره . وإنما قدم الرحمن وهو الأعلى على الرحيم ، والعادة التدرج من الأدنى إلى الأعلى ، لأن الرحمن يتناول عظائم النعم وأصولها ، فإردافه بالرحيم كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف . واعلم أن الأشياء التي أنعم الله تعالى بها على الخلق أربعة أقسام :
الأول : ما يكون نافعاً وضرورياً معاً وذلك في الدنيا التنفس ، فإنه لو انقطع لحظة واحدة مات ، وفي الآخرة معرفة الله فإنها إذا زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد .
الثاني : أن يكون نافعاً لا ضرورياً كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة .
الثالث : أن يكون ضرورياً لا نافعاً كالآفات والعلل ولا نظير لهذا القسم في الآخرة
الرابع : أن لا يكون نافعاً ولا ضرورياً كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة . وبالجملة فكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أخروية فإنما تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمة الله تعالى وفضله من غير شائبة غرض ولا ضميمة علة ، لأنه الجواد المطلق والغني الذي لا يفتقر ، فينبغي أن لا يرجى إلا رحمته ولا يخشى إلا عقابه . ( الرابع عشر في نكت شريفة ) . الأولى : كل العلوم تندرج في الكتب الأربعة ، وعلومها في القرآن ، وعلوم القرآن في الفاتحة ، وعلوم الفاتحة في « بسم الله الرحمن الرحيم » ، وعلومها في الباء ، من بسم الله ، وذلك أن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب ، وهذه الباء للإلصاق ، فهو يوصل العبد إلى الرب وهو نهاية المطلب وأقصى الأمد . وقيل : إنما وقع ابتداء كتاب الله تعالى بالباء دون الألف ، لأن الألف تطاول وترفع والباء انكسر وتساقط ومن تواضع لله رفعه الله .

الثانية : مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه ، فشكا إلى الله فدله على عشب في المفازة فأكله فعوفي بإذن الله ، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه ، فقال : يا رب أكلته أوّلاً فاشتفيت به وأكلته ثانياً فضرني . فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء . وفي الثانية : ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض . أما علمت أن الدنيا كلها سم وترياقها اسمي .
الثالثة : باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة ، فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها ، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب ، وفعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان .
الرابعة : كان بعض العارفين يرعى غنماً فحضر في غنمه الذئب ولا يضر أغنامه ، فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الغنم والذئب؟ قال الراعي : من حين اصطلح الراعي مع الله .
الخامسة : روي أن فرعون قبل أن ادعى الإلهية قصد أو أمر أن يكتب باسم الله على بابه الخارج ، فلما ادعى الإلهية وأرسل الله إليه موسى ودعا فلم ير به أثر الرشد قال : إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً ، فقال تعالى : يا موسى لعلك تريد إهلاكه ، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه . والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً ، فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله!؟
السادسة : سمى نفسه رحماناً ورحيماً فكيف لا يرحم؟ روي أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً فجاء بفأس وأخذ يخرب الباب ، فقيل له : لم تفعل؟ قال : إما أن تجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب . إلهي كما أثبت في أول كتابك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين من فضلك .
السابعة : إذا اشترى العبيد شيئاً من الدواب أو المتاع وضعوا عليه سمة الملك لئلا يطمع فيه العدوّ ، فالله تعالى يقول : عبدي عدوّك الشيطان فإذا شرعت في عمل وطاعة فاجعل عليها سمتي وقل : { بسم الله الرحمن الرحيم } .
الثامنة : اجعل ذكر الله قرينك حتى لا تبعد عنه في أحوالك . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خاتماً إلى أبي بكر وقال : اكتب فيه « لا إله إلا الله » فدفعه إلى النقاش وقال : اكتب فيه « لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم » فكتب النقاش ذلك ، فأتى أبو بكر بذلك الخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه « لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق » فقال : يا أبا بكر ما هذه الزوائد؟ فقال : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك من اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمي عن اسمك .

التاسعة : أن نوحاً صلى الله عليه وسلم لما ركب السفينة قال : { بسم الله مجريها ومرساها } [ هود : 41 ] فنجا بنصف هذه الكلمة ، فما ظنك بمن واظب على الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً عن النجاة؟ العاشرة : الناس ثلاثة : سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه . فقال : الله للسابقين ، الرحمن للمقتصدين ، الرحيم للظالمين . الله معطي العطاء ، الرحمن المتجاوز عن زلات الأولياء ، الرحيم الساتر لعيوب الأغنياء . يعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ، ولو علمت المرأة لجفتك ، ولو علمت الأمة لأقدمت على الفرار ، ولو علم الجار لسعى في تخريب الدار . الله يوجب ولايته { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] الرحمن يستدعي محبته { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } [ مريم : 96 ] الرحيم يفيض رحمته { وكان بالمؤمنين رحيماً } [ الأحزاب : 43 ] هو رحيم بهم في ستة مواضع : في القبر وحسراته ، والقيامة وظلماته ، وقراءة الكتب وفزعاته ، والصراط ومخافاته ، والنار ودركاته والجنة ودرجاته .
الحادية عشرة : مر عيسى عليه السلام بقبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً ، فلما انصرف من حاجته مر بالقبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور . فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله فأوحى الله تعالى إليه : يا عيسى ، كان هذا العبد عاصياً وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت وربت ولده حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم « بسم الله الرحمن الرحيم » فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على ظهر الأرض .
الثانية عشرة : كتب عارف « بسم الله الرحمن الرحيم » وأوصى أن تجعل في كفنه . فقيل له في ذلك؟ فقال : أقول يوم القيامة : إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه « بسم الله الرحمن الرحيم » فعاملني بعنوان كتابك .
الثالثة عشرة : « بسم الله الرحمن الرحيم » تسعة عشر حرفاً والزبانية تسعة عشر ، فالله تعالى يدفع بليتهم بهذه الحروف التسعة عشر .
الرابعة عشرة : اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة ، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فبقي التسعة عشرة ساعة لا تستغرق بذكر الله تعالى ، وهذه التسعة عشر حرفاً تقع كفارات للذنوب الواقعة في تلك التسع عشرة .
الخامسة عشرة : لما كانت سورة التوبة مشتملة على القتال والبراءة لم يكتب في أولها « بسم الله الرحمن الرحيم » وأيضاً السنة أن يقال عند الذبح : « بسم الله والله أكبر » ولا يقال : « بسم الله الرحمن الرحيم » فلما وفقك الله لذكر هذه الكلمات كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والثواب .

السادسة عشرة : قال صلى الله عليه وسلم : « من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً لله تعالى كتب عند الله من الصدّيقين وخفف عن والديه وإن كانا من المشركين » وعن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت « بسم الله الرحمن الرحيم » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول ما نزلت هذه الآية على آدم قال : أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها ، ثم رفعت فأنزلت على إبراهيم عليه السلام فتلاها وهو في كفة المنجنيق فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً ، ثم رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت الملائكة : الآن تم والله ملكك ، ثم رفعت فأنزلها الله تعالى عليّ ، ثم يأتي أمتي يوم القيامة وهم يقولون : « بسم الله الرحمن الرحيم » فإذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجحت حسناتهم . وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال « يا أبا هريرة إذا توضأت فقل : » بسم الله الرحمن الرحيم « فإن حفظتك لا يستريحون أن يكتبوا لك الحسنات حتى تفرغ ، وإذا غشيت أهلك فقل : » بسم الله الرحمن الرحيم « فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة ، فإن حصل من تلك المواقعة ولد كتبت له من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد . يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل : » باسم الله والحمد لله « يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة ، وإذا ركبت سفينة فقال : » باسم الله والحمد لله « يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها » وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم » والإشارة فيه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك وبين الزبانية في العقبى؟
كانت لنفسي أهواء مفرّقة ... فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده ... وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي
تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي
هذا تمام الكلام في تفسير البسملة .
وأما تفسير الفاتحة ففيه أيضاً مسائل : الأولى : في أسماء هذه السورة وهي كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى .
فالأول : فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة ، ولأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن . وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .
الثاني : سورة الحمد لأن أولها الحمد .
الثالث : أم الكتاب وأم القرآن لأنها أصل القرآن وأصل كل كتاب منزل لاشتمالها على الإلهيات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والنبوات ، أو لأن فيها حاصل جميع الكتب السماوية وذلك هو الثناء على الله والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات ، أو لأن المقصود من جميع العلوم معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية ، أو لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة وهي أم القرى أشرف البلدان ، أو أصل لجميع البلدان حيث دحيت من تحتها ، وكما أن الحمى سميت أم ملدم لأنهم جعلوها معظم الأوجاع واللدم الضرب .

الرابع : السبع المثاني لأنها سبع آيات ولأنها تثنى في كل صلاة ، أو لأن نصفها ثناء العبد للرب والنصف الآخر إعطاء الرب العبد ، أو لأنها مستثناة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة والإنجيل ولا في الزبور مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم » أو لأنها نزلت مرتين ، أو لأنها أثنية ومدائح لله تعالى .
الخامس : الوافية لأنها تجب قراءة كلها ولا يجزئ بعضها في الصلاة .
السادس : الكافية قال صلى الله عليه وسلم : « أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً عنها »
السابع : الشفاء والشافية لقوله صلى الله عليه وسلم « فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم »
الثامن : الأساس لأنها أول سورة القرآن فهي كالأساس ، أو لأنها تشتمل على أساس العبادات والمطالب . قال الشعبي : سمعت عبد الله بن عباس يقول : أساس الكتب القرآن ، وأساس القرآن فاتحة الكتاب ، وأساس الفاتحة « بسم الله الرحمن الرحيم » فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس تشف بإذن الله تعالى .
التاسع : الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى : « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين » يعني الفاتحة وهو من باب تسمية الشيء بمعظم أركانه . ومنه يعلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة .
العاشر : سورة تعليم المسألة لأن الله تعالى علم عباده فيها آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم بالإخلاص ثم بالدعاء .
الحادي عشر : سورة الكنز لما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ولهذا قال أكثر العلماء : إنها مكية وخطؤا مجاهداً في قوله : إنها مدنية ، وكيف لا؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها من أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني ، وسورة الحجر مكية بلا خلاف وفيها قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب . وقد جمع طائفة من العلماء بين القولين فقالوا إنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى ، وعلى هذا فإنها لم تثبت في المصحف مرتين لأنه لم يقع التواتر على نزولها مرتين .

ومن فضائل هذه السورة أنه لم يوجد فيها الثاء وهو الثبور { لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً } [ الفرقان : 14 ] والجيم وهو جهنم { وإن جهنم لموعدهم أجمعين } [ الحجر : 43 ] والخاء وهو الخزي { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } [ التحريم : 8 ] والزاء وهو الزفير والزقوم . والشين وهو الشهيق { لهم فيها زفير وشهيق } [ هود : 106 ] والظاء وهو لظى { كلا إنها لظى } [ المعارج : 15 ] والفاء وهو الفراق { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } [ الروم : 14 ] فلما أسقط الله تعالى من الفاتحة هذه الحروف الدالة على العذاب وهي بعدد أبواب جهنم لقوله تعالى : { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر : 44 ] غلب على الظن أن من قرأ الفاتحة نجا من جهنم ودخول أبوابها وتخلص من دركات النار وعذابها .
الثانية : في المباحث اللفظية .
الحمد مبتدأ والله خبره أي الحمد ثابت لله . وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله كقولهم شكراً وعجباً وسبحانك ومعاذ الله ، فعدل إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره نحو قوله تعالى { قالوا سلاماً قال سلام } [ الذاريات : 25 ] ولهذا كان تحية إبراهيم عليه السلام أحسن من تحيتهم كما جاء { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } [ النساء : 86 ] ومما يدل على أن أصله النصب أن قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } بيان لحمدهم فكأنه قيل : كيف يحمدون؟ فقيل : إياك نعبد . والأصل توافق الجملتين . واللام في « الحمد » لتعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والاستغراق وهم لأنه لو سلم كونه اللام للاستغراق فحمد أبويه مثلاً لا يدخل فيه . وأيضاً نحو نحمد الله لا يفهم منه إلا حقيقة الحمد من حيث هي فكذا ما ناب منابه وهو الحمد لله . وقرأ بعضهم بكسر الدال إتباعاً ، وبعضهم بضم اللام .
الرب المالك ، ربه يربه فهو رب ، أو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل . وهو مطلقاً مختص بالله تعالى ، ومضافاً يجوز إطلاقه على غيره نحو : رب الدار { ارجع إلى ربك } [ يوسف : 50 ] وقرئ بالنصب على المدح أو بتقدير نحمد . والعالم اسم موضوع للجمع كالأنام والرهط ، وهو ما يعقل من الملائكة والثقلين قاله ابن عباس والأكثرون . وقيل : كل ما علم به الخالق من الجواهر والأعراض كقوله تعالى { قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما } [ الشعراء : 23 ، 24 ] فعلى الأول مشتق من العلم وخصوا بالذكر للتغليب ، وعلى الثاني من العلامة وجمع ليشمل كل جنس مما سمي به ، وجمع بالواو والنون تغليباً لما فيه من صفات العقلاء . { مالك يوم الدين } صفة أخرى . واليوم هو المدة من طلوع نصف جرم الشمس إلى غروب نصف جرمها ، أو من ابتداء طلوعها إلى غروب كلها ، أو من طلوع الفجر الثاني إلى غروبها ، وهذا في عرف الشرع . ويراد به في الآية الوقت لعدم الشمس ثمة .

والدين الجزاء بالخير والشر « كما تدين تدان » وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف اتساع وإجراء للظرف مجرى المفعول به مثل : يا سارق الليلة أهل الدار . وإنما أفادت التعريف حتى جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه إما بمعنى الماضي نحو { ونادى أصحاب الأعراف } [ الأعراف : 48 ] { وسيق الذين اتقوا ربهم } [ الزمر : 73 ] أو بمعنى الاستمرار نحو : زيد مالك العبيد . فيكون بمعنى من يملك المفيد للاستمرار نحو : فلان يعطي ويمنع . وحينئذ لا تعمل ، فتكون الإضافة حقيقية ، وقرئ بنصب الكاف ورفعها مدحاً ، وبسكون اللام مخفف ملك مكسور اللام وبجعله فعلاً ماضياً ونصب يوم و مليك رفعاً ونصباً وجراً . « إيا » ضمير منصوب منفصل ولا محل لكاف الخطاب نحو « أرأيتك » وهو مذهب الأخفش والمحققين وحكاية الخليل « إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب » شاذ . والأصل نعبدك ونستعينك ، فلما قدم الضمير المتصل للاختصاص صار منفصلاً . وقرئ إياك بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء ، قال طفيل :
فهياك والأمر الذي إن تراحبت ... موارده ضاقت عليك مصادره
فإن قيل : لم عدل عن الغيبة إلى الخطاب؟ قلنا : هذا يسمى الالتفات في علم البيان وذلك على عادة افتنانهم في الكلام والتنقل من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع . وقد يختص مواقعه بفوائد وسننظم لك في سلك التقرير فائدته في هذا الموضع . والعبادة أقصى غاية الخضوع . طريق معبد أي مذلل ، وثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة وقوة النسج هدى يتعدى باللام أو بإلى { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى : 52 ] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] والأصل فيه الإمالة ومنه { إنا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] أي ملنا والهدية لأنها تمال من ملك إلى ملك والهدي للذي يساق إلى الحرم أي أمل قلوبنا إلى الحق . والصراط الجادة ، وأصله السين من سرط الشيء ابتلعه لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه كما سمي لقماً لأنه يلتقمهم ، ومثله مسيطر ومصيطر . والصراط يذكر ويؤنث كالطريق والسبيل و { صراط الذين أنعمت عليهم } بدل الكل من { الصراط المستقيم } وفائدته التوكيد كقولك : هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان؟ ويكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك : هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل ، لأنك بينت ذكره مجملاً أوّلاً ومفصلاً ثانياً . وقراءة ابن مسعود { صراط من أنعمت عليهم وغير المغضوب } بدل من « الذين » أو صفة . وإنما جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه تعريف الذين كلاً تعريف كقوله : « ولقد أمر على اللئيم يسبني » . أو لأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم فهو كقولك : عليك بالحركة غير السكون ويجوز أن يكون بدلاً وإن كان نكرة من معرفة ولا نعت للإفادة . والفرق بين عليهم الأولى والثانية ، أن الأولى محلها النصب على المفعولية ، والثانية محلها الرفع على أنها مفعول أقيم مقام الفاعل .

وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال : دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه . وكل ما في القرآن من ذكر النعمة بكسر النون فهي المنة والعطية . والنعمة بفتح النون التنعم وسعة العيش { ونعمة كانوا فيها فاكهين } [ الدخان : 27 ] والغضب في اللغة الشدة وقد عرفت معناه بحسب إطلاقه على الخلق وعلى الخالق . وأصل الضلال الغيبوبة ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه ، وضل الكافر غاب عن الحق . قال تعالى : { أئذا ضللنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] و « غير » ههنا بمعنى « لا » و « لا » بمعنى « غير » ولذلك جاز عطف أحدهما على الآخر . تقول : أنا زيداً غير ضارب كما تقول : أنا زيداً لا ضارب . ويعضده ما قرئ وغير الضالين وقرأ أيوب السختياني ولا الضألين بالهمزة كما قرأ عمرو بن عبيد { ولا جأنّ } وآمين مداً وقصراً معناه استجب ، كما أن رويد معناه أمهل . وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معناه إفعل .
( الثالث في المباحث الفقهية ) . البحث الأول : أجمع الأكثرون ومنهم الشافعي على أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وإن ترك منها حرفا واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته . وعند أبي حنيفة قراءتها غير واجبة لنا أنه صلى الله عليه وسلم واظب طول عمره على قراءتها في الصلاة فتجب علينا لقوله تعالى { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وأيضاً أقيموا الصلاة معناه الصلاة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكنه كان يقرأ الفاتحة فيها فتجب . وأيضاً روي في ذلك أخبار كثيرة مثل « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » « كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج » وروى رفاعة بن مالك أن رجلاً دخل المسجد وصلى ، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل : علمني الصلاة يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : « إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب » وظاهر الأمر للوجوب ولا سيما في معرض التعليم . وأيضاً الخلفاء الراشدون واظبوا على قراءتها طول العمر وقال صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين » وأيضاً المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز إن لم تكن واجبة فثبت أنها واجبة . حجة أبي حنيفة { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] قلنا : الفاتحة هي المتيسرة المحفوظة على جميع الألسنة . ثم قال : إذا قرأ آية واحدة كفت مثل { الم } أو { حم } [ الدخان : 1 ] { والطور } [ الطور : 1 ] و { مدهامتان } [ الرحمن : 64 ] . أبو يوسف ومحمد : لا بد من قراءة ثلاث آيات أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين .
البحث الثاني : قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وإنما كتبت للفصل والتبرك وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه ، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة .

وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية ، { الحمد لله رب العالمين } آية ، { الرحمن الرحيم } آية ، { مالك يوم الدين } آية ، { إياك نعبد وإياك نستعين } آية ، { اهدنا الصراط المستقيم } آية { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آية . وعن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن » بسم الله الرحمن الرحيم « وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ فقلت : بلى فقال : بأي شيء تفتتح القرآن إذ افتتحت الصلاة؟ قلت : ببسم الله الرحمن الرحيم . قال : هي هي . وبإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ قال : أقول » الحمد لله « قال : قل » بسم الله الرحمن الرحيم « وبإسناده عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ » بسم الله الرحمن الرحيم « وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص في صلاته وبإسناده عن ابن عباس في قوله { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] قال : فاتحة الكتاب . فقيل لابن عباس : فأين السابع؟ فقال : » بسم الله الرحمن الرحيم « . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله سبحانه » قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . فإذا قال العبد « بسم الله الرحمن الرحيم » قال الله : مجدني عبدي وإذا قال : « الحمد لله رب العالمين » قال الله : حمدني عبدي وإذا قال : « الرحمن الرحيم » قال الله : أثنى عليّ عبدي وإذا قال : « مالك يوم الدين » قال الله : فوّض إلي عبدي وإذا قال : « إياك نعبد وإياك نستعين » قال الله : هذا بيني وبين عبدي وإذا قال : « اهدنا الصراط المستقيم » قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل « إلى غير ذلك من الأخبار . وأيضاً التسمية مكتوبة بخط القرآن في مصاحف السلف مع توصيتهم بتجريد القرآن عما ليس منه ولذلك لم يثبتوا » آمين « . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : ما أعظم آية في كتاب الله؟ قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم .

ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } [ النمل : 30 ] فتكون آية في غير هذا الموضع . وأيضاً إن أكثر الأنبياء أوجبوا على أنفسهم الابتداء بذكر الله قال نوح عند ركوب السفينة : { باسم الله مجريها ومرساها } [ هود : 41 ] وكتب سليمان إلى بلقيس « بسم الله الرحمن الرحيم » وقوله { إنه من سليمان } من قول بلقيس قبل فتح الكتاب ، فلما فتحت الكتاب قرأت التسمية فقالت : وإنه { بسم الله الرحمن الرحيم } ولما ثبت الابتداء بالتسمية في حقهم ثبت في حق نبينا أيضاً { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] وعن عبد الله بن مسعود قال : كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل « بسم الله الرحمن الرحيم » . وعن ابن عمر قال : نزلت « بسم الله الرحمن الرحيم » في كل سورة . وأيضاً البسملة من القرآن في النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن فوجب أن نعتقد كونه من القرآن مثل { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] { ويل يومئذ للمكذبين } [ المرسلات : 15 ] حجة المخالف خبر أبي هريرة أيضاً في رواية أخرى قال : « يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد » الحمد لله رب العالمين « يقول الله حمدني عبدي » إلى آخره . قال : لم يذكر التسمية ، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها . قلنا : إذا تعارضت الروايتان فالترجيح للمثبت لا للنافي . قالوا : التنصيف إنما يحصل إذا لم تعد التسمية آية حتى يحصل للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد ثلاث ونصف من « إياك نستعين » إلى آخر السورة . أما إذا قلنا التسمية آية صار القسم الأول أربع آيات ونصفاً فينخرم التنصيف . قلنا : نحن نعد التسمية آية ولا نعد « أنعمت عليهم » وهذا أولى رعاية لتشابه المقاطع ، ولأن غير صفة أو بدل ويختل الكلام بجعله منقطعاً عما قبله لأن طلب الاهتداء بصراط المنعم عليهم لا يجوز إلا بشرط كون المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالاً بدليل قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } [ إبراهيم : 28 ] فهذا المجموع كلام واحد ، وهذا بخلاف { الرحمن الرحيم } فإنا لو قطعنا النظر عن الصفة كان الكلام مع الموصوف غير مختل النظام . قالوا : روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين . قلنا : قال الشافعي : لعل عائشة جعلت { الحمد لله رب العالمين } اسماً لهذه السورة كما يقال قرأ فلان « الحمد لله الذي خلق السموات والأرض » . قالوا : لو كانت من الفاتحة لزم التكرار في { الرحمن الرحيم } قلنا : التكرار للتأكيد غير عزيز في القرآن .

فإن قيل : إذا عد التسمية آية من كل سورة على ما يروى عن ابن عباس ، فمن تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله . فما وجه ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك : إنها ثلاثون آية وفي الكوثر إنها ثلاث آيات مع أن العدد حاصل بدون التسمية؟ قلنا : إما أن تعد التسمية مع ما بعدها آية وذلك غير بعيد ، ألا ترى أن قوله « الحمد لله رب العالمين » آية تامة ، وفي قوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] بعض آية؟ وإما أن يراد ما هو خاصة الكوثر ثلاث آيات ، فإن التسمية كالشيء المشترك فيه بين السور .
البحث الثالث : عن أحمد بن حنبل أن التسمية آية من الفاتحة ، ويسرّ بها في كل ركعة . أبو حنيفة : ليست بآية ويسر بها . مالك : لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً . الشافعي : آية ويجهر بها لأنها بعد ما ثبت كونها من الفاتحة والقرآن لا يعقل فرق بينها وبين باقي الفاتحة حتى يسر بهذه ويجهر بذلك . وأيضاً إنه ثناء على الله وذكر له فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله عز من قائل { فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً } [ البقرة : 200 ] وأيضاً الإخفاء والسر إنما يليق بما فيه نقيصة ومثلبة لا بما فيه مفخرة وفضيلة . قال صلى الله عليه وسلم : « طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله » وكان علي بن أبي طالب يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين . وكان مذهبه الجهر بها في جميع الصلوات ، وقد ثبت هذا منه تواتراً ومن اقتدى به لن يضل . قال صلى الله عليه وسلم : « اللهم أدر الحق معه حيث دار » وروى البيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم . وروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير مثل ذلك ، وروى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود ، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية سرقت من الصلاة أين « بسم الله الرحمن الرحيم » أين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير . قال : وكان معاوية شديد الشكيمة ذا شوكة ، فلولا أن الجهر بالتسمية كان مقرراً عند كل الصحابة لم يجسروا على ذلك حجة المخالف ما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين . وفي رواية ولم أسمع أحداً منهم قال : { بسم الله الرحمن الرحيم } وفي رواية ولم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم .

وعن عبد الله بن المغفل أنه قال : سمعني أبي وأنا أقول { بسم الله الرحمن الرحيم } فقال : أي بني ، إياك والحدث في الإسلام! وقد صليت خلف أبي بكر فقال : { الحمد لله رب العالمين } وصليت خلف عمر فقال : { الحمد لله رب العالمين } وصليت خلف عثمان فقال : { الحمد لله رب العالمين } فإذا صليت فقل « { الحمد لله رب العالمين } . والجواب أن حديث أنس معارض بما يروى عنه أيضاً أن معاوية لما ترك التسمية في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار . وروى أيضاً أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم . ويروى أيضاً أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال : لا أدري هذه المسألة ، وإذا اضطربت الروايات عنه وجب الرجوع إلى سائر الدلائل . وأيضاً ففيها تهمة أخرى وهي أن علياً رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي بن أبي طالب ، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا اضطربت أقواله . وأيضاً من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم أولى الأحلام والنهي والأكابر والعلماء على غيرهم ، ولا شك أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً من أنس وابن المغفل وأقرب موقفاً ، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يبالغ في الجهر لقوله تعالى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً } [ الإسراء : 110 ] فلهذا لم يسمعا . ورواية المثبت أولى من رواية النافي ، والدلائل العقلية معنا ويؤيدها عمل علي بن أبي طالب كما مر .
البحث الرابع : تقديم التسمية على الوضوء سنة عند عامة العلماء وليست بواجبة خلافاً لبعض أهل الظاهر حيث قالوا : لو تركها عمداً أو سهواً لم تصح صلاته لنا قوله صلى الله عليه وسلم » توضأ كما أمرك الله « والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء . والصحيح عندنا أن الجنب والحائض لا يقولها بقصد القراءة ، والتسمية عند الذبح وعند الرمي إلى الصيد وعند إرسال الكلب مستحبة ، فلو تركها عامداً أو ناسياً ، لم تحرم الذبيحة عند الشافعي ولكن تركها عمداً مكروه ، وعند أبي حنيفة إن ترك التسمية عمداً لم يحل ، وإن نسي حل . والعلماء أجمعوا على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال إلا أن يقول : باسم الله ، فإذا نام قال باسم الله ، وإذا انتبه قال : باسم الله ، وإذا قام من المقام قال : باسم الله ، وإذا أكل أو شرب قال : باسم الله ، وإذا أعطى أو أخذ قال : باسم الله ، ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول باسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل باسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا ، وإذا قام من القبر قال : باسم الله ، وإذا حضر الموقف قال : باسم الله ، فلا جرم يدخل الجنة ببركة اسم الله .

البحث الخامس : قال الشافعي : ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها . وقال أبو حنيفة : إنها كافية في حق القادر والعاجز . وقال أبو يوسف ومحمد : كافية في حق العاجز لا القادر لنا أنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرأوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم ، وكيف يجوّز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر؟ وقالوا : وروي عن عبدالله بن مسعود أنه كان يعلم رجلاً أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه . فقال : قل طعام الفاجر ، ثم قال عبدالله : ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع آية الرحمة مكان آية العذاب . قلنا : الظن بابن مسعود غير ذلك . قالوا { وإنه لفي زبر الأولين } [ الشعراء : 196 ] { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 18 ، 19 ] ولا ريب أن القرآن بهذا اللفظ ما كان في زبر الأولين لكن بالعبرية والسريانية . قلنا إن القصص والمواعظ موجودة لا باللفظ بل بالمعنى ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآناً ، فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل .
البحث السادس : الشافعي في القول الجديد قال : تجب قراءة الفاتحة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها . وفي القديم : تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وأحمد أبو حنيفة : تكره القراءة خلف الإمام بكل حال لنا قوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] وقوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » يشمل المنفرد والمقتدي ، وأيضاً روى الترمذي في جامعه بإسناده عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال : إني أراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا : أي والله ، قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها . قال : وهذا حديث حسن . وأيضاً قراءتها لا تبطل الصلاة عندهم ولكن يجوّزون تركها ويبطلها عدم القراءة عندنا ، فالأحوط قراءتها . احتج المخالف بقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } [ الأعراف : 204 ] وبأخبار بين ضعفها البيهقي في كتابه ، ونحن نقول : أما القرآن فمخصوص بغير الفاتحة لما مر ، وأما الأخبار فهب أنها صحيحة إلا أن الترجيح معنا لأن الاشتغال بقراءة القرآن من أعظم الطاعات ولأنه أحوط .

البحث السابع : مذهب الشافعي أن الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطت صلاته ، وبه قال أبو بكر وعمر وعلي عليهم السلام وابن مسعود ومعظم الصحابة ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأوها في كل ركعة ، ولأنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة وكذلك فأفعل في كل ركعة . وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة . وأيضاً القراءة في كل ركعة أحوط فيجب المصير إليها . وقيل : غير واجبة أصلاً ، وقيل : تجب في كل صلاة في ركعة واحدة فقط وبه يحصل امتثال قوله « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » وعند أبي حنيفة القراءة تجب في الركعتين الأوليين لقول عائشة : فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر . فهما أصل والزائد تبع . قلنا : ما ذكرنا أحوط ، وقيل : تجب الفاتحة في الأوليين وتكره في الآخرتين . وعند مالك تجب في أكثر الركعات ، ففي الثنائية فيهما وفي الثلاثية في اثنتين وفي الرباعية في ثلاث .
البحث الثامن : إذا ثبت أن القراءة شرط في الصلاة فلو تركها أو حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته وكذا سهواً على الجديد . وما روي أن عمر بن الخطاب صلى المغرب فترك القراءة فقيل له : تركت القراءة . قال : كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا : حسناً . قال : فلا بأس ، معارض بما روى الشعبي عنه أنه أعاد الصلاة . وأيضاً لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة .
البحث التاسع : يجب رعاية الترتيب في أجزاء الفاتحة وما وقع غير مرتب فغير محسوب .
البحث العاشر : إن لم يحفظ شيئاً من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن ، ثم من ذكر من الأذكار ، ثم عليه مثل وقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه .
البحث الحادي عشر : نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر أن تكون الفاتحة والمعوذتان من جملة القرآن والظن به أن هذا النقل عنه كذب وإلا فجحد المتواتر كيف يليق بحاله؟ الرابع فيما يختص بتفسير الحمد لله من الفوائد . الفائدة الأولى في الفرق بين الحمد والمدح والشكر . المدح للحي ولغير الحي كاللؤلؤة والياقوتة الثمينة ، والحمد للحي فقط . والمدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده ، والحمد إنما يكون بعد الإحسان . والمدح قد يكون منهياً عنه قال صلى الله عليه وسلم : « احثوا التراب في وجوه المداحين » والحمد مأمور به مطلقاً قال صلى الله عليه وسلم : « من لم يحمد الناس لم يحمد الله » والمدح عبارة عن القول الدال على أنه مختص بنوع من أنواع الفضائل باختياره وبغير اختياره ، والحمد قول دال على أنه مختص بفضيلة اختيارية معينة وهي فضيلة الإنعام إليك وإلى غيرك ، ولا بد أن يكون على جهة التفضيل لا على سبيل التهكم والاستهزاء ، والشكر على النعمة الواصلة إليك خاصة وهو باللسان ، وقد يكون بالقلب والجوارح قال الشاعر :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
والحمد باللسان وحده فهو إحدى شعب الشكر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده » وإنما جعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها من الاعتقاد وأداء الجوارح لخفاء عمل القلب ، وما في عمل الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كل خفي . والحمد نقيضه الذم ولهذا قيل : الشعير يؤكل ويذم . والمدح نقيضه الهجاء ، والشكر نقيضه الكفران ، إذا عرفت ذلك فنقول : إذا قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلاً مختاراً لما مر أن المدح قد يكون لغير المختار . ولو قال : الشكر لله كان ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل . وإذا قال : الحمد لله فكأنه يقول سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم ، ولا ريب أن هذا أولى . وقيل : الحمد لله على ما دفع من البلاء ، فكأنه يقول : أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف بأعلاهما؟ ويمكن أن يقال : إن المنع غير متناه والإعطاء متناه ، والابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى ، وأيضاً دفع الضرر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى .
الثانية : لو قال : أحمد الله أفاد كون ذلك القائل على حمده ، وإذا قال : الحمد لله أفاد أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين . وأيضاً الحمد لله معناه أن مطلق الحمد والثناء حق لله وملكه كما ينبئ عنه اللام الجنسية واللام الجارة وذلك بسبب كثرة إيلائه أنواع آلائه على عبيده وإمائه . ولا يخفى أن هذا أولى من أن يحمده شخص واحد فقط ، ولهذا لو سئلت هل حصل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمداً ضعيفاً ، ولو قلت في الجواب بل نعمه على كل الخلائق كان أكمل . فإن قيل : أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه؟ فالأستاذ يستحق الحمد من التلميذ ، والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من لم يحمد الناس لم يحمد الله » قلنا : المنعم في الحقيقة هو الله لأنه خلق تلك الداعية في ذلك المنعم بعد أن خلق تلك النعمة وسلط المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع وأمنه من فوات الانقطاع ، ولهذا قال عز من قائل { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] وأيضاً كل مخلوق ينعم على غيره فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضاً إما ثواباً أو ثناء ، أو تحصيل خلق أو تخلصاً من رذيلة البخل .

وطالب العوض لا يكون منعماً ولا مستحقاً للحمد في الحقيقة ، أما الله سبحانه فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال ، لأن تحصيل الحاصل محال فكان عطاؤه جوداً محضاً ، فثبت أن لا مستحق للحمد إلا الله تعالى .
الثالثة : إنما لم يقل « احمدوا الله » لأن الإنسان عاجز عن الإتيان بحمد الله وشكره فلم يحسن أن يكلف فوق ما يستطيعه ، وذلك أن نعم الله على العباد غير محصورة { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وإذا امتنع الوقوف عليها امتنع اقتداره على الشكر والثناء اللائق بها . وأيضاً إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله على ذلك الحمد والشكر وخلق في قلبه داعية ذلك وأزال عنه العوائق والصوارف ، وكل ذلك إنعام من الله فيتسلسل . وأيضاً الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل إنعام المنعم بشكر نفسه ، ومن اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعمة الله فقد أشرك ، وهذا معنى قول الواسطي « الشكر شرك » أما إذا قال : « الحمد لله » فالمعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا . ونقل أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال : يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك .
الرابعة : عن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا أنعم الله على عبد فقال : » الحمد لله « يقول الله تعالى : انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له » ومعناه أن ما أنعم الله على العبد شيء واحد ، وإذا قال : الحمد لك فمعناه المحامد التي أتى بها الأولون والآخرون من الملائكة والثقلين لله تعالى ، وكذا المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى { دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] وإلى أبد الآبدين ودهر الداهرين فالمنعم به متناه والحمد غير متناه ، وإذا أسقط المتناهي من غير المتناهي بقي غير المتناهي . فالذي بقي للعبد طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعم غير متناهية ، فلهذا يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي .
الخامسة : لا شك أن الوجود خير من العدم ، وأن وجود كل ما سوى الله فإنه حصل بإيجاد الله وجوده ، فإنعام الله تعالى واصل إلى كل من سواه ، فإذا قال العبد : « الحمد لله » فكأنه قال : الحمد لله على كل مخلوق خلقه ، وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض من أزل الآزال إلى أبد الآباد ، وأنا أشهد أنها بأسرها لك لا شركة لأحد فيها معك .

السادسة : التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال : سبحان الله والحمد لله . فما السبب في وقع البداءة بالتحميد؟ والجواب أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس ، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص ، والتحميد يدل على كونه محسناً إلى العباد ، ولا يكون محسناً إليهم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ليعلم مواقع الحاجات وإلا إذا كان قادراً على المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ، وإلا إذا كان غنياً في نفسه وإلا شغله حاجة نفسه عن حاجة غيره ، فثبت أن كونه محسناً لا يتم إلا بعد كونه منزهاً عن النقائص والآفات .
السابعة : الحمد له تعلق بالماضي وهو وقوعه شكراً على النعم السابقة ، وتعلق بالمستقبل وهو اقتضاء تجدد النعم لقوله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] فبالأول يغلق عنك أبواب النيران ، وبالثاني يفتح لك أبواب الجنان ، فإن الحمد لله ثمانية أحرف بعدد أبواب الجنة .
الثامنة : الحمد لله كلمة جليلة لكنه يجب أن تذكر في موضعها ليحصل المقصود . قال السري : منذ ثلاثين سنة أستغفر الله لقولي مرة واحدة الحمد لله . وذلك أنه وقع الحريق في بغداد وأحرقت دكاكين الناس فأخبروني واحد أن دكاني لم يحترق فقلت : الحمد لله . وكان من حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك ، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة . فالحمد على نعم الدين أفضل من الحمد على نعم الدنيا ، والحمد على أعمال القلوب أولى من الحمد على أعمال الجوارح ، والحمد على النعم من حيث إنها عطية المنعم أولى من الحمد عليها من حيث هي نعم ، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يقع الحمد في موضعه اللائق به .
التاسعة : أول ما بلغ الروح إلى سرة آدم عطس فقال : { الحمد لله رب العالمين } وآخر دعوى أهل الجنة { الحمد لله رب العالمين } . ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد ، فاجتهد أن يكون أول أعمالك وآخرك مقروناً بكلمة الحمد .
العاشرة : لا يحسن عندنا أن يقدّر قولوا : « الحمد لله » لأن الإضمار خلاف القياس ، ولأن الولد إذا قال لولده : أعمل كذا وكذا فلم يمتثل كان عاقاً ، فالأولى أن يقول الأمر الفلاني ينبغي أن يفعل . ثم إن كان الولد باراً فإنه يجيبه ويطيعه وإن كان عاقاً كان إثمه أقل ، فكذلك إذا قال : الحمد لله فمن كان مطيعاً حمده ومن كان عاصياً كان إثمه أقل ، بخلاف ما لو قدر « قولوا الحمد لله » .
الحادية عشرة : شنعت الجبرية على المعتزلة ومن يجري مجراهم بأنكم تثبتون للعبد فعلاً واختياراً ، واستحقاق الحمد إنما يكون على أشرف النعم وهو الإيمان ، فلو كان الإيمان بفعل العبد لكان المستحق للحمد هو العبد . والجواب أن الإيمان باختيار العبد لكن الاختيار أيضاً مستند إلى الله تعالى فاستحق الحمد لذلك .

وشنعت المعتزلة على الجبرية بأن قوله « الحمد لله » لا يتم إلا على مذهبنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبح في فعله ولا جور في قضيته ، وعندكم لا قبح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو حكمه . والجواب أن القبح والجور إنما يثبتان لو أمكن تصور الفعل المخصوص في القابل المخصوص أحسن وأتم مما صدر لكنه محال ، فإنه تعالى حكيم وكل ما يصدر عن الحكيم كان على أفضل ما يمكن بالنسبة إلى المحل المخصوص .
الثانية عشرة : اختلفوا في أن شكر المنعم واجب عقلاً أو شرعاً . فمنهم من قال عقلاً ومن جملة أدلتهم قوله « الحمد لله » فإنه يدل على ثبوت الاستحقاق على الإطلاق . وأيضاً عقبه بقوله « رب العالمين » وترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فدل ذلك على أن استحقاقه للحمد ثابت بكونه رباً للعالمين قبل مجيء الشرع وبعده . والجواب أن استحقاقه لمثل هذا الحمد عرفناه من قبل الشرع . واعلم أن الحمد سبيله سبيل سائر الأذكار والعبادات في أنها إنما يؤتى بها لا لأن الله تعالى مستكمل بها ولا لأنه تعالى مجازي بها ، ولكنها لتحقيق نسبة العبودية وإضافة الإمكان الله حسبي
الخامس في فوائد قوله رب العالمين .
الأولى : الموجود إما واجب لذاته وهو الله سبحانه وتعالى فقط ، وإما ممكن لذاته وهو كل ما سواه ويسمى العالم كما مر ، وذلك إما متحيز أو صفة للمتحيز أو لا هذا ولا ذاك .
القسم الأوّل : إن كان قابلاً للقسمة فهو الجسم وإلا فالجوهر الفرد . فالجسم إما علوي أو سفلي ، والعلوي كالسماويات ويندرج فيها العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة والكواكب ، والسفلي إما بسيط وهو العناصر الأربعة : الأرض بما عليها وفيها والماء وهو البحر المحيط وما يتشعب منه في القدر المكشوف من الأرض ، والهواء ومنه كرة البخار وكرة النسيم ومنه الهواء الصافي والنار . وإما مركب وهو المعادن والنبات والحيوان على تباين أنواعها وأصنافها . القسم الثاني : الأعراض بأجناسها وأنواعها . القسم الثالث : الأرواح وهي إما سفلية خيرة كالجن ، أو شريرة كالشياطين . وإما علوية متعلقة بالأجسام كملائكة السموات قال صلى الله عليه وسلم : « ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد » أو غير متعلقة وهي الملائكة المقربون { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر : 31 ] ولأن كل موجود سوى الواجب يحتاج إلى الواجب في الوجود . وفي البقاء أيضاً فهو إله العالمين من حيث إنه أخرجها من العدم إلى الوجود ، ورب العالمين من حيث إنه يبقيها حال استقرارها . فكل من كان أكثر إحاطة بأحوال الموجودات وتفاصيلها كان أكثر وقوفاً على تفسير قوله { رب العالمين } .

الثانية : المربي قسمان : أحدهما أن يربي ليربح عليهم ، والثاني أن يربي ليربحوا عليه . والأول شأن المخلوقين الذين غرضهم من التربية إما ثواب أو ثناء أو تعصب أو غير ذلك ، والثاني دأب الحق سبحانه وتعالى كما قال : « خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم » وكيف لا يربحون عليه وأنه متعال عن الاستكمال منزه عن أن يحدث في خزائنه بسبب التربية والإفادة والإفاضة اختلال يحب الملحين في الدعاء { ويزيد في الخلق ما يشاء } [ فاطر : 1 ] يكفي علمه من المقال ويغني كرمه عن السؤال { وسع كل شيء علماً } [ طه : 98 ] ويربي كل حي كرماً وحلماً { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 12 ، 13 ، 14 ] { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم } [ عبس : 24 - 32 ] { ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجناتٍ ألفافاً } [ النبأ : 6-16 ] .
الثالثة : لما كان الله أحسن الأسماء عقبه بأكمل الصفات وهو { رب العالمين } إذ معناه أن وجود ما سواه فائض عن تربيته ، وإحسانه وجوده وامتنانه ، فالأول يدل على التمام والثاني على أنه فوق التمام .
الرابعة : رب العالمين ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وهو الله الواحد الأحد الصمد ، وأنت تخدمه كأنّ لك أرباباً غيره فما إنصافك أيها الإنسان؟ { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } [ الأنبياء : 42 ] خلقت لعبادة الرب فلا تهدم حقيقتك بمعصية الرب ، الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب .
السادس : في فوائد قوله { الرحمن الرحيم } .
الأولى : الرحمن بما لا يتصور صدوره من العباد ، والرحيم بما يقدر عليه العباد . أنا الرحمن لأنك تسلم إليّ نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة ، أنا الرحيم لأنك تسلم إليّ طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة .
الثانية : ذهب بعضهم إلى ملك فقال : جئتك لمهم يسير . فقال : أطلب المهم اليسير من الرجل اليسير . فكأن الله تعالى يقول : لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت مني ولتعذر عليك سؤالي الأمور اليسيرة ، فأنا الرحمن لتطلب مني الأمور العظيمة ، وأنا الرحيم لتطلب مني شراك نعلك وملح قدرك .
الثالثة : الولد إذا أهمل حال ولده ولم يؤدبه ظن أن ذلك رحمة وهو في الحقيقة عذاب . من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان ، وعكسه حال من تقطع يده لأكلة فيها ، أو يضرب لتعليم حرفة ، أو لتأدب بخصلة شريفة . فكل ما في العالم من محنة وبلية فهو في الحقيقة رحمة ونعمة

{ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216 ] وقصة موسى مع الخضر كما تجيء في موضعها تؤيد ما ذكرناه ، والحكيم المحقق هو الذي يبني الأمور على الحقائق لا على الظواهر ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير .
الرابعة : أعطى مريم عليها السلام رحمة { ولنجعله آية للناس ورحمة منه } [ مريم : 21 ] فصارت سبباً لنجاتها من توبيخ الكفار والفجار ، وأعطانا رحمة { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] فكيف لا ننجو بسببه من عذاب النار .
الخامسة : وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة فكان من حاله أنه لما كسرت أسنانه قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون ، وأنه يوم القيامة يقول : أمتي أمتي . فلما وصف نفسه بكونه رحماناً رحيماً أيضاً فكأنه يقول : الرحمة الواحدة لا تكفي لصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي فإني أنا الرحمن الرحيم ، رحمتي غير متناهية ومعصيتهم متناهية والمتناهي لا يدرك غير المتناهي فستغرق معصيتهم في بحار رحمتي { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] .
السادسة : حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : كنت ضيفاً لبعض القوم ، فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفاً فاتبعته تعجباً ، فنزل في بعض التلال فإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين ، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه . وعن ذي النون أنه قال : كنت في البيت إذ وقعت في قلبي داعية أن أخرج من البيت ، فانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقرباً قوياً يعدو ، فلما وصل إلى النيل فإذا هو بضفدع على طرف النهر ، فقفز العقرب عليه وأخذ الضفدع يسبح ، فركبت السفينة فاتبعته حتى إذا وصل الضفدع إلى الطرف الآخر نزل العقرب عن ظهره وأخذ يعدو ، فتبعته فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة وعنده أفعى يقصده ، فلما قرب الأفعى من ذلك الشاب وصلت العقرب إلى الأفعى ولدغتها والأفعى أيضاً لدغتها وماتتا معاً . وفي أدعية العرب : يا رازق النعاب في عشه . وحكايته أن ولد الغراب لما يخرج من البيض يكون كأنه قطعة لحم فتهجره أمه تنفراً منه ، حتى إذا خرج ريشه عادت إليه ، فيبعث الله تعالى إليه في تلك المدة ذباباً يغتذي به . وروي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه ، فقام فدخل عليه وكان يعرض عليه الشهادة ولا يعمل لسانه فقال صلى الله عليه وسلم : أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم؟ فقالوا : بلى . فقال : فهل عق والدته؟ قالوا : نعم . فقال : هاتوا أمه . فأتي بعجوز عوراء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلا عفوت عنه؟ فقالت : لا أعفو عنه لأنه لطمني ففقأ عيني . فقال صلى الله عليه وسلم : هاتوا بالحطب والنار فقالت : وما تصنع بالنار؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أحرقه بالنار بين يديك جزاء بما عمل .

فقالت : عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه وذكر « أشهد أن لا إله إلا الله » والنكتة أنها كانت رحيمة فقط ولم تجوّز الإحراق ، فالرحمن الرحيم كيف يجوز إحراق عبد واظب على ذكر الرحمن الرحيم سبعين سنة؟ قال صلى الله عليه وسلم : « إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون ويتراحمون ، وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة » ولعل هذا على سبيل التفهيم والتمثيل وإلا فكرمه بلا غاية ورحمته بلا نهاية .
السابع : في فوائد قوله { مالك يوم الدين } .
الأولى : من قضية العدالة الفرق بين المحسن والمسيء ، والمطبع والعاصي ، والموافق والمخالف ، ولا يظهر ذلك إلا في يوم الجزاء { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى } [ طه : 15 ] { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 6-8 ] روي أنه يجاء برجل يوم القيامة وينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة ، فأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك . فيقول : إلهي ماذا عملت؟ فيقول الله : ألست لما كنت نائماً تقلب من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك « الله » ، ثم غلبك النوم ف يالحال فنسيت؟ أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم ، فما نسيت ذلك . ويجاء برجل وتوزن حسناته بسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة « أن لا إله إلا الله » فلا يثقل مع ذكر الله غيره . واعلم أن حقوق الله تعالى على المسامحة لأنه غني عن العالمين ، وأما حقوق العباد فهي أولى بالاحتراز عنها . روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتدرون ما المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال : إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار »
الثانية : من قرأ « مالك » احتج بوجوه : الأول أن فيه حرفاً زائداً فيكون ثوابه أكثر . الثاني : في القيامة ملوك ولا مالك إلا الله . الثالث : المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك . الرابع : العبد أدون حالاً من الرعية فيكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية . الخامس : الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك .

السادس : الملك يجب عليه رعاية حال الرعية « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » ولا يجب على الرعية خدمة الملك ، أما المملوك فيجب عليه خدمة مالكه وأن لا يستقل في الأمر إلا بإذنه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة ، ويصير مسافراً إذا نوى مولاه السفر ، ومقيماً إذا نوى الإقامة . حجة من قرأ « ملك » أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً ، والملك لا يكون إلا أعلاهم شأناً . وأيضاً { قل أعوذ برب الناس ملك الناس } [ الناس : 1 ، 2 ] لم يقرأ فيه غير « ملك » فتعين . وأيضاً الملك أقصر ومالك يلزم منه تطويل الأمل فإنه يمكن أن يدركه الموت قبل تمام التلفظ به . وأجيب بأن العزم يقوم مقام الفعل لو مات قبل الإتمام ، كما لو نوى بعد غروب الشمس صوم يوم يجب صومه بخلاف ما لو نوى في النهار عن الغد . ثم يتفرع على كل من القراءتين أحكام ، أما المتفرعة على الأول فقراءة « مالك » أرجى من قراءة « ملك » لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس ، والمالك يطلب العبد منه الكسوة والطعام والتربية والإنعام « يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم » والملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، والملك لا يختار من العسكر إلا كل قوي سويّ ويترك من كان مريضاً عاجزاً ، والمالك إن مرض عبده عالجه ، وإن ضعف أعانه . الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة . وأما المتفرعة على الثانية فإنه في الدنيا ملك الملوك { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران : 26 ] وفي الآخرة لا ملك إلا هو { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وملكه لا يشبه ملك المخلوقين لأنهم إذ بذلوا قلَّت خزائنهم ونفدت ذخائرهم ، وأنه سبحانه كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً . فإن أعطاك عشرة أولاد زاد في ملكه عشرة أعبد . ومن لوازم ملكه كمال الرحمة فلهذا قرن بقوله « ملك يوم الدين » قوله « رب العالمين الرحمن الرحيم » ومثله { الملك يومئذ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] { قل أعوذ برب الناس ملك الناس } [ الناس : 1 ، 2 ] فمن اتصف بهذه الصفة من ملوك الدنيا صدق عليه أنه ظل الله في الأرض . الكفر سبب لخراب العالم { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا . أن دعوا للرحمن ولداً } [ مريم : 90-91 ] والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }

[ النحل : 97 ] فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم ، وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه « ملك يوم الدين » أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة { وما ربك بظلام للعبيد } [ ق : 29 ] وبثبوت العدل أخرى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] فلا خلة للملك أعم نفعاً وأتم وقعاً من أن يكون عادلاً . ومن هنا تظهر البركة في العالم أو ترتفع إن كان السلطان عادلاً أو جائراً . يحكى أن أنوشروان خرج يوماً إلى الصيد وانقطع عن عسكره واستولى عليه العطش ، فرأى بستاناً فيه رمان . فلما دخله قال لصبي فيه : أعطني رمانة ، فأعطاه فعصرها وأخرج منها ماء كثيراً ، فشربه وأعجبه ذلك ، فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه . ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً . فقال : أيها الصبي ، لم صار الرمان هكذا؟ فقال الصبي : فلعل ملك البلد عزم على الظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا ، فتاب أنوشروان في قلبه وأناب ، وقال للصبي : أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة؟ فقال : لعل الملك تاب عن ظلمه . فلما وجد أنوشروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية ، فكان من ميامن عدله أن ورد في حقه قول نبينا صلى الله عليه وسلم « ولدت في زمن الملك العادل » .
الثالثة : كونه مالكاً وملكاً معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها ، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع . وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضاً ، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره ، فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات ، فلا مالك ليوم الدين إلا الله . فإن قيل : لا يكون مالكاً إلا إذا كان المملوك موجوداً لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال « مالك يوم الدين » بالتنوين بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد كان إقراراً ، ولو قال : أنا قاتل زيداً كان تهديداً . قلنا : لما كان قيام القيامة أمراً حقاً لا يجوز الإخلال به في الحكمة ، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال . ولو قيل : من مات فقد قامت قيامته زال السؤال .
الرابعة : قالت القدرية : إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم ، فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين . قلنا : خلق الجنة وخلق اهلاً لها ، وخلق النار وخلق أهلاً لها ، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك .

فخلق لكل صفة مظهراً ولا يسأل عما يفعل ، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل .
الخامسة : في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة : الله ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، المالك . كأنه يقول : خلقتك أولاً فأنا الله ، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم ، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمن الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف ، ومع ذلك عقبها بقوله « مالك يوم الدين » كيلا يغتروا بها . ونظيره { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } [ غافر : 3 ] .
السادسة : الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملاً في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك ، وإما لكونه محسناً إليك ، وإما رجاء وطمعاً في المستقبل ، وإما خوفاً ورهبة ، فكأنه سبحانه يقول : إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله ، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم ، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين .
الثامن : في فوائد قوله « إياك نعبد » .
الأولى : لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحداً سواك والحاكم فيه الذوق السليم . واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر ، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى . وذلك أن للعبد أحوالاً ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل . أما الماضي فقد كان معدوماً فأوجده { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } [ مريم : 9 ] { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] وكان جاهلاً فعلمه { أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } [ النحل : 78 ] ثم أسمعه وأبصره وأعقله { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } [ الملك : 23 ] فهو إله بهذه المعاني . وأما الحاضر فحاجاته كثيرة ، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة ، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه . وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية ، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه ، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو . وأيضاً ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالماً قادراً جواداً غنياً حكيماً إلى غير ذلك من الصفات الكمالية ، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين ، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه ، وأيضاً العبودية ذلة ومهانة ، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ . ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى ، فعبوديته أولى ، وأيضاً كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير ، والفقير مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه إفادة غيره .

فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] .
الثانية : تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يميناً وشمالاً بخلاف العكس . ( يحكى ) أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه ، فصرع الأستاذ مراراً فقيل له : فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه . وأيضاً ذكره تعالى أوّلاً مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه ، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك ، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه . وأيضاً { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق « إياك نعبد » فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية . وأيضاً إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس ، أما إذا غير هذا الترتيب وقال : « إياك نعبد » كان بعيداً عن احتمال الشرك . وأيضاً الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدماً في الذكر . وأيضاً المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة ، وعلى المنعم لا على النعمة ، ولهذا قيل لبني إسرائيل { اذكروا نعمتي } [ البقرة : 40 ] ولأمة محمد { اذكروني } [ البقرة : 152 ] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة .
الثالثة : النون في قوله « نعبد » فيه وجوه من الحكمة منها : أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظاً ينبئ عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه { نحن نقص عليك أحسن القصص } [ يوسف : 2 ] كأنه قال : لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبداً ليّ جعلناك أمة { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] ومنها أنه لو قال : إياك أعبد كان إخباراً عن كونه عبداً فقط ، ولما قال : « إياك نعبد » صار معناه إني واحد من عبيدك ، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع . ومنها أن يكون تنبيهاً على أن الصلاة بالجماعة أولى قال صلى الله عليه وسلم : « التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها » وههنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره ، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين .

ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال : لما أثنيت عليّ بقولك { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } ارتفعت منزلتك عندنا ، فلا تقتصر على إصلاح حالك بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل : { إياك نعبد وإياك نستعين } . ومنها أن العبد يقول : إلهي عبادتي مخلوطة بالتقصير وإني أخلطها بعبادة جميع العابدين ، فلا يليق بكرمك أن تميز بين العبادات ، ولا أن ترد الكل وفيها عبادة الأنبياء والأولياء بل الملائكة المقربين . وهذا كما أن الرجل إذا باع من غيره عشرة أعبد ، فالمشتري إما أن يقبل الكل أو يرد الكل وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة .
الرابعة : من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه ، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد ورد « من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار » وأيضاً التكاليف أمانة { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } [ الأحزاب : 72 ] وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] وأداء الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر . قال بعض الصحابة : أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا ، فلما خرج لم يجد الناقة فقال : إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الرواي : فزدنا تعجباً ، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه . وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس : « يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات » وأيضاً الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور ، وركون من الخلق إلى حضرة الحق ، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة . ( يحكى ) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر به . ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزاً كأزيز المرجل . ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى { فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن } [ يوسف : 31 ] فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد؟! وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين؟! واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات ، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعاً فيما هو أشرف منها وأدوم ، وهذه مرتية نازلة عند المحققين .

وإما أن يعبد الله تشرفاً بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه ، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية . وإما أن يعبد الله لكونه إلهاً ولكونه عبداً له ، والإلهية توجب العزة والهيبة ، والعبودية تقتضي الخضوع والذلة ، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودية وإليها الإشارة بقول المصلي : أصلي لله فإنه لو قال : أصلي لثواب الله أو هرباً من عقابه فسدت صلاته . ( يحكى ) أن عابداً في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة ، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً فقال : إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد ، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود . فرجع الملك فقال الله : بم أجاب العابد؟ فقال : أنت أعلم يا رب ، إنه قال كذا وكذا . فقال الله تعالى : ارجع إليه وقل له : قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك . والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين . وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين . قال عز من قائل { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون . فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 97-99 ] ولأن العبودية أشرف المقامات . مدح الله تعالى نبيه في قوله { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال : { إني عبد الله } [ مريم : 30 ] وكان عليّ يقول : كفاني فخراً أن أكون لك عبداً وكفاني شرفاً أن تكون لي رباً . اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت ، فاجعلني عبداً كما أردت . ومنهم من قال : العبودية أشرف من الرسالة ، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق ، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق ، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات ، وبالرسالة يقبل على التصرفات ، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله » { لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] .
التاسع : في فوائد قوله { وإياك نستعين } .
الأولى : لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك ، وإنما يحصل الرجحان بمرجح . ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم ، فلا بد أن ينتهي إلى الله تعالى . وأيضاً كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ، ولا يفوز به إلا بعضهم ، فليس ذلك إلا بإعانة الحق . وأيضاً قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته ، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله ، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله .

وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه ، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم . الثانية : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده ، فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة؟ والجواب كأنه يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف ، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن . وأيضاً إن قيل : الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب .
الثالثة : لا أريد بالإعانة غيرك إقتداء بالخليل صلى الله عليه وسلم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال : هل لك حاجة؟ فقال له : أما إليك فلا . قال : فاسأل الله . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . وهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي ، ويداه عن البطش ، ولسانه إلا عن القراءة والذكر ، فكما أن الله قال { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } [ الأنبياء : 69 ] فكذلك تقول له نار جهنم : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي .
الرابعة : لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته ، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك .
الخامسة : « إياك نعبد » تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله « وإياك نستعين » لإزالة ذلك .
السادسة : ههنا مقامان : معرفة الربوبية ومعرفة العبودية ، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله { أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً ، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً ، وأحوال معادة تدل على أنه مالك يوم الدين ، وأما معرفة العبودية فمبدؤها « إياك نعبد » وكمالها « إياك نستعين » في جميع المطالب ، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله : « اهدنا » إلى آخره . وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه .
السابعة : في الالتفات الوارد في السورة وجوه : منها أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة ، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله : { مالك يوم الدين } . ثم الله تعالى كأنه يقول : حمدتني وأقررت بأني إله ، رب العالمين ، رحمن رحيم ، مالك يوم الدين ، فنعم العبد أنت يا عبد . رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل « إياك نعبد » . ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه رباً لا يخرج شيء من ملكوته منعماً على الخلق بأنواع النعم - جلائلها ودقائقها - مالكاً للأمر كله في العاقبة ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل « إياك » يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به .

ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى ، وهكذا فعل الأنبياء عليهم السلام { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] { رب هب لي حكماً } [ الشعراء : 83 ] { رب زدني علماً } [ طه : 114 ] { ربي أرني } [ الأعراف : 143 ] { رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين } [ الأنبياء : 89 ] ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله ، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة .
الثامنة : اعلم أن المشركين طوائف ، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس ، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين ، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير ، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة ، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس ، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب . ومنهم من قال : مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية ، ومنهم من قال : الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم ، فيتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة . ومنهم من قال : للعالم إلهان ، أحدهما خير وهو الله ، والآخر شرير وهو إبليس . إذا عرفت ذلك فنقول : قد مر أن « الحمد لله » يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع « الحمد لله » « وإياك نعبد » يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله ، وأن الله أكبر من جميع المعبودين ، فيقوم مقام قوله « لا إله إلا الله والله أكبر » « وإياك نستعين » يدل على قوله « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور « سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » .
العاشر في فوائد قوله { اهدنا الصراط المستقيم } .
الأولى : سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل . وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق ، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى . يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون . أيضاً إن في كل خلق من الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان ، والحق هو الوسط والصواب .

فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتدياً ، لكنه لا بد مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين . ففي القوة الشهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان ، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة ، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو الشجاعة محمود ، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود . وبالجملة فإنه يحصل من توسيط استعمال القوة الشهوية الحياء والرفق والصبر والقناعة والورع والحرية والسخاء ، ومن توابع السخاء الكرم والإيثاء والعفو والمروءة والمسامحة ، ويلزم من توسط استعمال القوة الغضبية كبر النفس وعلو الهمة والثبات والحلم والسكون والتحمل والتواضع والحمية والرقة ، ومن توسط استعمال القوة النطقية الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر ، ويحصل من كمال التوسط في القوى الثلاث كمال العدالة ويتبعها الصداقة والألفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة والتسليم والتوكل وتعظيم المعبود الحق وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر والانقياد لأوامرهم ونواهيهم . والتقوى تكمل هذه المعاني وتتممها ، ولأن القوة النطقية ذاتية للإنسان ، والشهوية والغضبية حصلتا له بواسطة التعلقِ البدني ، فكمال التوسط في النطقية أن يستعملها بحيث لا يمكن أزيد منها . وكمال التوسط في الأخريين أن يستعملهما بحيث لا يمكن أقل من ذلك ليفضي غلى تحصيل سعادة الدارين . وأيضاً العلم النظري يقبل الزيادة بمعنى تواصل أوقاته وقلة الفترات ، وبمعنى زيادة الأدلة فليس من علم بدليل كمن علم بأدلة ، فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وعلمه وقدرته ، وجوده ورحمته وحكمته . وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل فكأنه يقول : عرفنا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وعلمك وقدرتك . وأيضاً قد يراد بالصراط المستقيم الاقتداء بالأنبياء ، وهو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله ، حتى لو أمر بذبح ولده لأطاع كالخليل ، ولو أمر أن يذبح لانقاد كإسماعيل ، ولو أمر بإلقاء نفسه في البحر امتثل كيونس ، ولو أمر بتلمذة من هو أعلم منه بعد بلوغه أعلى منصب ائتمر كموسى مع الخضر . وعن خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه . وأيضاً كأن العبد يقول : الأحباب يدعونني إلى طريق ، والأعداء إلى طريق ثانٍ ، والشيطان إلى ثالث .

وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء ، والعقل ضعيف ، والعمر قصير ، والقضاء عسير ، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به . حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله ، فإذا أعرابي على ناقة له . فقال : يا شيخ إلى أين؟ فقال : إلى بيت الله . قال : كأنك مجنون ، لا أرى لك مركباً ولا زاداً والسفر طويل! فقال إبراهيم : إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها . قال : وما هي؟ قال : إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر ، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر ، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا ، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى . فقال الأعرابي : سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل . وقيل : الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء ، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين ، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام ، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] . وعن علي كرم الله وجهه : ثبتنا على الهداية كقوله { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [ آل عمران : 8 ] فكم من عالم يزل ومهتد يضل . وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل ، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم ، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده .
الثانية : إنما قبل « اهدنا » بلفظ الجمع لأن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب ، ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه : إذا قلت قبل القراءة « رضي الله عنك ، وعن جماعة المسلمين » فإياك وأن تنساني في قولك « وعن جماعة المسلمين » فإن ذلك أوقع عندي من قولك « رضي الله عنك » ، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل ، وأما قولك « وعن المسلمين » فإنه أرجى لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة ، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي . ومن هنا ورد في السنة أن يصلي على النبي صلى الله علبه وسلم قبل كل دعاء وبعده ، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب ألبتة لأنه في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم : « ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها » . قالوا : يا رسول الله ، ومن لنا بتلك الألسنة؟ قال : « يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك » وأيضاً « الحمد لله » شامل لحمد جميع الحامدين ، و « إياك نعبد » لعبادة الجميع ، « وإياك نستعين » لاستعانة الكل ، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعاً في قوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } والفرار من الطالحين جميعاً في قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .

وإذاكان كذلك في الدنيا يرجى أن يكون كذلك في الآخرة { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً } [ النساء : 69 ] .
الثالثة : الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين ، والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم . وأيضاً المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضاً في الاعوجاج ، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص . وأيضاً ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم .
الحادي عشر في فوائد قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } .
الأولى : حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولاً على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر . ثم نقول : كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضاً لأنه الخالق لتلك النعمة ، وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه . والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضاً من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار . وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] ثم عقب ذلك بقوله { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] .
الثانية : هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها : قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى . والجواب أن قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يدفع ذلك ، ومنها قوله { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيراً ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة ، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها ، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك . على أن نفس الإملاء أيضاً تمتيع حالي { قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار } [ البقرة : 126 ] وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن ، وإنما هو كمن ناول شخصاً حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضاً وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « نعم المال الصالح للرجل الصالح »

وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء } [ البقرة : 21 ، 22 ] وقال : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم . وقال : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [ الأعراف : 17 ] والشكر لا يكون إلا بعد النعمة .
الثالثة : ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله « أنعمت عليهم »؟ قلنا : يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية . ثم إنه يخرج بقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع ، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات . وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] { وما أنت بمسمع من في القبور } [ فاطر : 22 ] وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه . وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر إلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب . والمؤمن لا يبقى مخلداً في النار ، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام ، فما الإنعام إلا بالإتمام . قيل : لو كان رعاية الأصلح على الله واجباً لم يكن ذلك إنعاماً لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاماً . قلت : النزاع لفظي لأن الأصلح لا بد أن يصدر عنه ، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه .
الثاني عشر في فوائد قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } الأولى : من المغضوب عليهم ومن الضالون؟ قلت : المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود ، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى . وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد ، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك . وأما المفرط فقد أقبل عليه وجاوز حد الاعتدال ، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران } [ الأنعام : 71 ] فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم { يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] ولهذا قال عز من قائل { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } [ الأحزاب : 69 ] والنصارى أفرطوا وقالوا { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] { إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى »

وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود { وباءوا بغضب من الله } [ آل عمران : 112 ] وفي النصارى { وضلوا عن سواء السبيل } [ المائدة : 77 ] هذا شأن الفريقين . وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وخير الأمور أوسطها .
الثانية : الآية تدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالاً لقوله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه .
الثالثة : ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل؟ قلت : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال صلى الله عليه وسلم : « لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا » فقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } يدل على الرجاء ، وباقي الآية يدل على الخوف ، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه .
الثالث عشر : في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج :
المنهج الأول نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ونسبة الأصل إلى الفرع ، والنور إلى الظلمة ، فكل شاهد . فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل ، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل ، وكل شريف فهو بالنسبة إلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل { ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } [ التكوير : 20 ، 21 ] والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات ، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر ، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر . ولا بد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة . وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة ، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية { وقالوا سمعنا وأطعنا } [ البقرة : 285 ] والثاني كمال العبودية وهو الالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه { غفرانك ربنا } [ البقرة : 285 ] وواحد يتعلق بالمعاد وهو الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب { وإليك المصير } [ البقرة : 285 ] ويتفرع على هذه المراتب سبع مراتب في الدعاء والتضرع أولها { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] فضد النسيان هو الذكر { واذكر ربك إذا نسيت } [ الكهف : 24 ] وهذا الذكر إنما يحصل بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } . وثانيها { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } [ البقرة : 286 ] ودفع الإصر والثقل يوجب { الحمد لله رب العالمين } . وثالثها : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } [ البقرة : 286 ] . ذلك إشارة إلى كمال رحمته « الرحمن الرحيم » ورابعها

{ واعف عنا } [ البقرة : 286 ] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين { مالك يوم الدين } . وخامسها { واغفر لنا } [ البقرة : 286 ] لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك { إياك نعبد وإياك نستعين } . وسادسها { وارحمنا } [ البقرة : 286 ] لأنا طلبنا الهداية منك { اهدنا الصراط المستقيم } وسابعها { أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } . فهذه المراتب ذكرها محمد صلى الله عليه وسلم في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج ، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة ، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من المصدر إلى المظهر ، فلهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم : « الصلاة معراج المؤمن » .
المنهج الثاني : المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة والغضب والهوى . الشهوة بهيمية ، والغضب سبعية ، والهوى شيطانية أرضية ، ولهذا قال : فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها ، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه . قال تعالى { وينهي عن الفحشاء } [ النحل : 9 ] أي الشهوة ، والمنكر الغضب ، والبغي الهوى ، فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه ، وبالغضب ظالماً لغيره ، وبالهوى لربه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه ، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله ، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً ، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه » ونتيجة الشهوة الحرص والبخل ، ونتيجة الغضب العجب والكبر ، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة . ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة ، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } [ الفلق : 5 ] كما ختم جوامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة في قوله { يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس } [ الناس : 5 ، 6 ] روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون : من هذا؟ قال : إبليس ولو كنت إلهاً ما جهلت . فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شراً مني ومنك؟ قال : نعم ، الحاسد ، وبالحسد وقعت فيما وقعت . ثم نقول : الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية ، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة ، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا هواك . ومن عرف أنه رحمن لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن

{ الملك يومئذ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية . وأما الفاتحة فإذا قال « الحمد لله » فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد ، ومن عرف أنه { مالك يوم الدين } بعد أن عرف إنه { الرحمن الرحيم } زال غضبه ، ومن قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } زال كبره بالأول وعجبه بالثاني ، وإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم } اندفع عنه شيطان الهوى ، وإذا قال { صراط الذين أنعمت عليهم } زال عنه كفره ، وإذا قال { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } اندفعت بدعته ، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد ، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة ، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة . وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها ، كأنه قال : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس ، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس ، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس .
المنهج الثالث : في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد « الحمد لله » إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم . « رب العالمين » يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيراً { قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 285 ] { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء : 78 ] { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] { ربكم ورب آبائكم الأولين } [ الشعراء : 26 ] { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق } [ العلق : 1 ، 2 ] وهذه الحالة كما أنها في نفسها دليل على وجود الرب فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم ، وذلك أن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع ، وكل منها مطابق للمطلوب وموافق للغرض كما يشهد به علم تشريح الأبدان . فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم الرحمن الرحيم الذي شمل إحسانه قبل الموت وعند الموت وبعد الموت . { مالك يوم الدين } يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يقدر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء والمظلوم من الظالم ، وههنا تمت معرفة الربوبية . ثم إن قوله « إياك نعبد » إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان : الأعمال والآثار المتفرعة على الأعمال أما الأعمال فلها ركنان : أحدهما الإتيان بالعبادة وهو قوله « إياك نعبد » والثاني علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله وهو قوله « وإياك نستعين » .

وأما الآثار المتفرعة على الأعمال فهي حصول الهداية والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخره وفي قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال خلة محمودة وسنة مرضية « هم القوم لا يشقى بهم جليسهم » { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] وفي قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } إشارة إلى أن التجنب عن مرافقة أصحاب البدع والأهواء واجب .
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
والجمر يوضع في الرماد فيخمد ... المنهج الرابع : قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد { بسم الله الرحمن الرحيم } يقول الله : ذكرني عبدي . وإذا قال : { الحمد لله رب العالمين } يقول الله : حمدني عبدي وإذا قال : « الرحمن الرحيم » يقول الله : عظمني عبدي . وإذا قال : { مالك يوم الدين } يقول الله : مجدني عبدي - وفي رواية فوض إلي عبدي - وإذا قال : « إياك نعبد » يقول الله : عبدني عبدي وإذا قال : « وإياك نستعين » يقول الله : توكّل عليّ عبدي - وفي رواية وإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } يقول الله : هذا لعبدي ما سأل فقوله « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي » إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية ، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] فلا جرم أنزل الله تعالى هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه العبد في الوفاء بذلك العهد وقوله « إذا قال العبد : بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي » مناسب لقوله تعالى { فاذكروني أذكركم } « أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » والذكر مقام عالٍ شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } [ الأحزاب : 41 ] { واذكر ربك في نفسك } [ الأعراف : 205 ] { تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } [ آل عمران : 191 ] ولهذا وقع الإبتداء به . وقوله « ذكرني عبدي » دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } وهذا يدل على أن الله اسم علم . وقوله « إذا قال : الله رب العالمين يقول الله : حمدني عبدي » يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أو كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة :

{ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] وآخر كلام في الجنة { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن « تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله » وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر ، فقوله « حمدني عبدي » شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين ، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه . قوله « وإذا قال : الرحمن الرحيم » « يقول الله : عظمني عبدي » يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد ، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده . ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله . وقوله « وإذا قال : مالك يوم الدين يقول الله : مجدني عبدي » أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معاداً يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف .
أيحسب الظالم في ظلمه ... أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملوه بل لهم موعد ... لن يجدوا من دونه موئلا
وقوله « وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي » معناه أن « إياك نعبد » يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض ، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله « وإياك نستعين » وقوله « وإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم يقول الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها ، وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر . فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] وقال إبراهيم عليه السلام { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } [ الأنعام : 77 ] وقال موسى { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } [ طه : 25 ، 26 ] .
المنهج الخامس : آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضاً سبعة : القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة . فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح ، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد ، فقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } بإزاء القيام ، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائماً مرتفعاً .

وأيضاً التسمية لبداية الأمور « كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر » والقيام أيضاً أول الأعمال . وقوله { الحمد لله رب العالمين } بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحق وإلى الخلق والمنعم والنعمة ، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد ، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق ، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود ، وأيضاً ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله « الرحمن الرحيم » مناسب للانتصاب ، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « إذا قال العبد : سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة » وقوله { مالك يوم الدين } مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع . وقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و « إياك نستعين » استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية ، وقوله { اهدنا الصراط المستقيم } سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع . وقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } إلخ . مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ « التحيات لله » كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن .
المنهج السادس : آيات الفاتحة سبع وأعمال الصلاة المحسومة سبعة كما تقدم ، ومراتب خلق الإنسان سبع { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 12-14 ] فنور آيات الفاتحة يسري إلى الأعمال السبعة ، ونور الأعمال السبعة يسري إلى هذه المراتب فيحصل في القلب نور على نور ، ثم ينعكس إلى وجه المؤمن « من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار » .
المنهج السابع : إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت . هذا في عالم الحس ، وأما في عالم الأرواح ، فمن الشهادة إلى الغيب ، ثم من الغيب إلى غيب الغيب ، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين ، فتخطاهما محمد صلى الله عليه وسلم فكان قاب قوسين . وقوله « أو أدنى » إشارة إلى فنائه في نفسه . والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات ، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأرواح السفلية ، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش ، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته

{ لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 19 ، 20 ] وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه ، والمقصود أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة : المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار . فليكن المصلي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً لأنه بالوادي المقدس طوى . وأيضاً عنده ملك وشيطان ، ودين ودنيا ، وعقل وهوى ، وخير وشر ، وصدق وكذب ، وحق وباطل ، وحلم وطيش ، وقناعة وحرص ، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية ، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ، اختار الصديق صحبة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة ، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 119 ] ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل « الله أكبر » أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه ، ثم ليقل « سبحانك اللهم وبحمدك » وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال ، ثم ليقل « تبارك اسمك » إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأزل في القدم وحقيقة الأبد في البقاء ، فيتجلى له نور الأزل والأبد ، ثم ليقل « وتعالى جدك » إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ، ثم ليقل « ولا إله غيرك » إشارة إلى أن صفات الجلال وسمات الكمال له تعالى لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ، وههنا بكل اللسان وتدهش الألباب ، ثم عد أيها المصلي إلى نفسك وحالك وقل « وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض » فقولك « سبحانك اللهم وبحمدك » معراج الملائكة المقربين حيث قالوا { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] وهو أيضاً معراج محمد صلى الله عليه وسلم لأن معراجه مفتتح بقوله « سبحانك اللهم وبحمدك » وقوله « وجهت وجهي » معراج الخليل صلى الله عليه وسلم ، وقولك « إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي » معراج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم . فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل « أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » لتدفع العجب عن نفسك ، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة ، وبقولك { بسم الله الرحمن الرحيم } يفتح باب الذكر ، وبقولك { الحمد لله رب العالمين } يفتح باب الشكر ، وبقولك « الرحمن الرحيم » يفتح باب الرجاء ، وبقولك { مالك يوم الدين } يفتح باب الخوف ، وبقولك { إياك نعبد وإياك نستعين } يفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك { اهدنا الصراط المستقيم } يفتح باب الدعاء والتضرع

{ ادعوني اسبتجب لكم } [ غافر : 60 ] وبقولك : { صراط الذين أنعمت عليهم } الخ . يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم ، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية ، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة ، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف { إذا قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض } [ الكهف : 14 ] بل قيام أهل القيامة { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 6 ] ثم اقرأ « سبحانك اللهم وبحمدك » ثم « وجهت وجهي » ثم « الفاتحة » وبعدها « ما تيسر لك من القرآن » واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها ، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشية عرضتها على نار خوف الجلال فلانت ، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى ، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك « فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى » فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل : « سبحان ربي الأعلى » فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة . . . ركوع واحد وسجدتان ، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات ، وبالسجود الأول من عقبة العضب الذي هو رئيس المؤذيات ، وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات . فإذا تجاوزت هذه الصفات وتخلصت عن هذه الدركات ، وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات ، وانتهيت إلى عقبة جلال مدبر الأرض والسموات ، فقل عند ذلك « التحيات المباركات » باللسان ، و « الصلوات » بالأركان و « الطيبات » بالجنان وقوة الإيمان بالله ، فيصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والريحان فقل « السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته » فعند ذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم « السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » فكأنه قيل لك : بم نلت هذه الكرامات؟ فقل : بقولي : « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً رسول الله » فقيل : إن محمداً الذي هداك أي شيء هديتك له صلى الله عليه وسلم ؟ فقل « اللهم صل على محمد وآل محمد » ، فقيل لك : إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال

{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] فما جزاؤك له صلى الله عليه وسلم ؟ فقل « كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين » فيقال لك : هذه الخيرات من محمد وإبراهيم أو من الله؟ فقل : بل من الحميد المجيد « إنك حميد مجيد » . ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة « إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه » فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى : إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاؤوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين ، فقل عن اليمين وعن الشمال « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته » فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار .
المنهج الثامن : أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان ، فالمكان فضاء لا نهاية له ، وخلاء لا غاية له ، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد ، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل . فالأول والآخر صفة الزمان ، والظاهر والباطن صفة المكان ، وكمال هذه الأربعة « الرحمن الرحيم » فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً ، ووسع الزمان أولاً وآخراً ، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان ، فإنه كان ولا مكان ولا زمان ، فعقد المكان بالكرسي { وسع كرسيه السموات والأرض } [ البقرة : 255 ] وعقد الزمان بالعرش { وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] لأن جري الزمان يشبه جري الماء ، فالعلو صفة الكرسي { وسع كرسيه } [ البقرة : 255 ] والعظمة صفة العرش { رب العرش العظيم } [ التوبة : 129 ] وكمال العلو والعظمة لله { ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] والعلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري » ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام » وفي التنزيل { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] فالمصلي يبتغي وجه الله ، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس ، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب { توبوا إلى الله توبة نصوحاً } [ التحريم : 8 ] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد ، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة ، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص ، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين ، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين ، ثم قم قائماً

{ فأقم وجهك للدين حنيفاً } [ الروم : 30 ] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل « الله أكبر » أي من الكل كما مر ، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت « الله أكبر » فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل « سبحانك اللهم وبحمدك » ثم قل « وجهت وجهي » ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة ، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلىلحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين ، فإذا قلت { بسم الله الرحمن الرحيم } أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون ، وإذا قلت { الحمد لله رب العالمين } أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] وإذا قلت { الرحمن الرحيم } أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال ، وإذا قلت { مالك يوم الدين } أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال ، وإذا قلت « إياك نعبد » أبصرت به عالم الشريعة ، وإذا قلت « وإياك نستعين » أبصرت به عالم الطريقة ، وإذا قلت { اهدنا الصراط المستقيم } أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت { صراط الذين أنعمت عليهم } أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات ، وإذا قلت { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل « الله أكبر » ثم انزل من صفة الكبرياء غلى العظمة وقل « سبحان ربي العظيم » ثم انتصب ثانياً وادع لمن وقف موفقك وحمد حمدك وقل « سمع الله لمن حمده » فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم . ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة ، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل « سبحان ربي الأعلى » لأن السجود أكثر تواضعاً . روي أن لله ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل . فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة ، ثم ثلاثين ألف سنة ، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش .

فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى . أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد ، والقعدة بينهما هي الدنيا ، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له ، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانياً . وأيضاً الأولى فناء الدنيا في الآخرة ، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى ، وأيضاً الأولى فناء الكل في أنفسها ، والثانية بقاؤها ببقائه ، وأيضاً الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته ، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] وأيضاً الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته ، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه . وأيضاً صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد ، وأيضاً ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة ، وأيضاً ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة غلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية ، وأيضاً الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات . ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة ، وفي السجود بمرتبتين ، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا .
المنهج التاسع في اللطائف : عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل ربه فقال : ما جزاء من حمدك؟ فقال تعالى : الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته . فقال أهل التحقيق : من ههنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون ، ثم قال له : تكلم فقال : الحمد لله فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك . ونقل عن آدم عليه السلام لما عطس قال : الحمد لله فأول كلام لفاتحة المحدثات الحمد ، وأول كلام لخاتمة المحدثات الحمد ، فلا جرم جعلها الله تعالى فاتحة كتابه . وأيضاً أول كلام الله « الحمد لله » وآخر أنبيائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأول والآخر مناسبة ، فجعل « الحمد لله » أول آية من كتاب محمد رسول الله ، ولما كان كذلك وضع لمحمد رسول الله من كلمة الحمد اسمان : محمد وأحمد . وعند هذا قال صلى الله عليه وسلم « أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد » فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم ، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] ورسول الله محمدهم .
أخرى : الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة ، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا قال « سبقت رحمتي غضبي » .
أخرى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمداً فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين .

أخرى : إن من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات ، وكلها تدل على الرحمة ، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } [ الحجر : 49 ] فقوله « نبئ » إشارة إلى محمد وهو مذكور قل العباد ، والياء في قوله « عبادي » ضمير الله سبحانه . وكذا في « أني » و « أنا » و « الغفور » و « الرحيم » صفتان لله ، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى الله عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة ، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة ، ورحمة الرسول كثيرة { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ورحمة الله تعالى غير متناهية { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة؟! .
أخرى : في الفاتحة عشرة أشياء ، خمسة من صفات الربوبية : الله الرب الرحمن الرحيم المالك ، وخمسة من صفات العبودية : العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله « أنعمت عليهم » وكأنه قيل « إياك نعبد » لأنك أنت الله « وإياك نستعين » يا رب اهدنا يا رحمن ، وارزقنا الاستقامة يا رحيم ، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك .
أخرى : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي . فتجلى اسم الله للجوهر الملكي فاطمأن إليه { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] وتجلى للنفس الشيطانية باسم الرب فلان وانقاد لطاعة الديان { رب أعوذ بك من همزات الشياطين } [ المؤمنون : 97 ] وتجلى للنفس السبعية باسم الرحمن وهو مركب من القهر واللطف { الملك يومئذ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] فترك الخصومة والعدوان . وتجلى للنفس البهيمية باسم الرحيم { أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4 ] فترك العصيان ، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] فدان . فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء ، فلطاعة الأبدان قال : « إياك نعبد » ولطاعة النفس البهيمية قال : « وإياك نستعين » على ترك اللذات وارتكاب المنكرات ، ولطاعة النفس السبعية قال : « اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا » ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال : لآ { اهدنا الصراط المستقيم } ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال : { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
أخرى : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله ، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية ، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة ، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء ، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم ( يحكى ) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك؟ فقال : أخاف أن أشبع فأنسى الجياع .

وأيضاً الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات ، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها . ووجوب الحج من تجلي اسم « مالك يوم الدين » لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة . وأيضاً الحاج يكون عارياً حافياً حاسراً وهو يشبه أحوال القيامة .
أخرى : الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] وأدب السمع { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 18 ] وأدب الذوق { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } [ المؤمنون : 51 ] وأدب الشم { وإني لأجد ريح يوسف } [ يوسف : 94 ] وأدب المس { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة : الله الرب الرحمن الرحيم المالك ، على تأديب هذه الحواس الخمس .
أخرى : الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار ، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته ، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير ، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة ، فهذه أربعة ، وههنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة ، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئاً سوى الله ، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة ، وإن طالعت نور الرحمن طلبت منه خيرات الدنيا ، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة ، وإن طالعت نور « مالك يوم الدين » طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها .
أخرى : للتجلي ثلاث مراتب : تجلي الذات { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } [ الأنعام : 91 ] وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله ، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب { الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً } [ آل عمران : 191 ] ويدل عليه اسم الرحمن . وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد { الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي }

[ طه : 53-54 ] ويدل علي لفظ الرحيم { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } [ غافر : 7 ] .
أخرى : في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله « بسم الله » و « الحمد لله » بسم الله لبداية الأمور والحمد لله لخواتيم الأمور ، « بسم الله » ذكر « والحمد لله » شكر بسم الله أستحق الرحمة رحمن الدنيا ، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة . كلمتان أضيف إليهما اسمان لله « رب العالمين » « مالك يوم الدين » فالربوبية لبداية حالهم { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] والملك لنهاية حالهم { لمن الملك لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم « الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء » .
المنهج العاشر : للخلق خمس أحوال : أولها : الإيجاد والتكوين والإبداع ويدل عليه اسم الله . وثانيها : التربية في مصالح الدنيا ويدل عليه اسم الرب . وثالثها : التربية في معرفة المبدأ ويدل عليها اسم الرحمن . ورابعها : في معرفة المعاد ويدل عليها اسم الرحيم كي يقدم على ما ينبغي ويحجم عما لا ينبغي . وخامسها : نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى المعاد ويدل عليه اسم « مالك يوم الدين » ثم إن العبد إذا انتفع بهذه الأسماء صار من أهل المشاهدة فقال : « إياك نعبد » لأنك أنت الله الخالق « وإياك نستعين » لأنك أنت الرب الرازق « إياك نعبد » لأنك الرحمن « وإياك نستعين » لأنك الرحيم « إياك نعبد » لأنك الملك « وإياك نستعين » لأنك المالك ، « إياك نعبد » لأنا ننتقل من دار الشرور إلى دار السرور ولا بد من زاد وخير الزاد العبادة ، « وإياك نستعين » لأن الذي نكتسب بقوتنا وقدرتنا لا يكفينا فإن السفر طويل والزاد قليل . ثم إذا حصل الزاد بإعانتك فالشقة شاسعة والطرق كثيرة ، فلا طريق إلا أن يطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق { اهدنا الصراط المستقيم } . ثم إنه لا بد لسالك الطريق الطويل من رفيق ودليل { صراط الذين أنعمت عليهم } فالأنبياء أدلاء والصديقون والشهداء والصالحون رفقاء ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن الحجب قسمان : نارية وهي الدنيا بما فيها ، ونورية وهي ما سواها . اللهم ادفع عنا كل ما يحجب بينك وبيننا إنك رب العالمين ومالك يوم الدين .
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

القراآت : « لا ريب » بالمد خلف والعجلي عن حمزة وخلف لنفسه ، وكذلك قوله تعالى { لا خير } و { لا جرم } وذلك لاجتماع الفتحة مع الألف أو لتأكيد معنى النفي للجنس « فيهى » ابن كثير ، وكذلك يشبع كل هاء كناية في جميع القرآن . « هدى للمتقين » مدغماً من غير غنة : حمزة وعلي وخلف ويزيد وورش من طريق النجاري ، والهاشمي عن ابن كثير . وكذلك يدغمون النون الساكنة والتنوين في الراء حيث وقعت . أبو عمرو بالوجهين : إدغام الغنة وإظهارها ، والباقون بإظهار الغنة . ولا خلاف بين القراء في إدغام أصل النون والتنوين في اللام والواو والراء والياء والميم ، وإنما الخلاف بينهم في إظهار الغنة وإسقاطها وهي صوت الخيشوم « يؤمنون » غير مهموز : أبو عمرو ويزيد وورش والأعشى وحمزة في الوقف ، وكذلك ما أشبههما من الأفعال إلا في أحرف يسيرة تذكر في مواضعها . الباقون : بالهمز . ( باب في المد ) ( بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) بالمد : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان ، فلا يفرقون بين مدّ الكلمة والكلمتين . وكذلك روى ورش عن نافع . والباقون يفرقون فيمدون الكلمة ولا يمدون بين الكلمتين . فأطول الناس مداً ورش عن نافع ، وحمزة وخلف في اختياره والأعشى ، ومدهم بمنزلة أربع ألفات . وأوسطهم مداً علي وابن ذكوان وعاصم غير الأعشى ، وأقصرهم مداً ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وأبو عمرو وسهل ويعقوب وهشام . وأصل المد ألف ساكنة على قدر فتحة فيك فتحاً تاماً ، وبالآخرة بترك الهمزة ونقلها إلى الساكن الذي قبلها حيث كان ورش ، وكذلك حمزة في الوقف فإن مذهبه أن يقف على كل كلمة مهموزة بغير همزة ( باب السكتة ) روي عن حمزة وحماد والشموني أنهم يسكتون على كل حرف ساكن بعده همزة سكتة لطيفة نحو : الأرض ، والأنهار ، وقالوا : آمنا ، وأشباه ذلك . والسبب فيه التمكين والمبالغة في تحقيقها ، لأن الهمزة بعد السكتة كالمبتدأ بها . والاختيار في الكلمة الواحدة أن لا تسكت على ساكن غير لام التعريف احترازاً عن قطع الكلمة .
الوقوف : « ألّم » ( ج ) للاختلاف « لا ريب » ج على حذف خبر « لا تقديره لا ريب فيه ، ثم يستأنف » فيه هدى « ومن وصل جعل فيه خبر » لا « أو وصف ريب وحذف خبر » لا « تقديره » لا ريب فيه عند المؤمنين « . والوقف على التقديرين على » فيه « و » هدى « خبر مبتدأ محذوف أي هو هدى ، ومن جعل » هدى « حالاً للكتاب بإعمال معنى الإشارة في » ذلك على تقدير : أشير إلى الكتاب هادياً لم يقف قبل « هدى للمتقين » ( لا ) لأن الذين صفتهم « ينفقون » لا للعطف ، ليدخل عبد الله بن سلام وأصحابه في المتقين ، فإن القرآن لهم هدى ، وليدخل الصحابة المؤمنون بالغيب في ثناء الهدى ووعد الفلاح .

ولو ابتدأ « والذين » كان « أولئك على هدى » خبرهم مختصاً بهم . واختص هدى القرآن واسم التقوى بالذين يؤمنون بالغيب . « من قبلك » ج لاختلاف النظم بتقديم المفعول . « يوقنون » ( ط ) لأن أولئك مبتدأ وليس بخبر عما قبله ، وكذلك على كل آية وقف بها إلا ما أعلم بعلامة ( لا ) المفلحون .
التفسير وفيه أبحاث : البحث الأول في « ألم » اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها في قولهم ( ألف ، با ، تا ، ثا ) أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، لأن الضاد مثلاً لفظ مفرد دال بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه غير مقترن بأحد الأزمنة ، وذلك المعنى هو الحرف الأول من ضرب مثلاً ، فيكون لفظ الضاد اسماً ، ولهذا قد يتصرف في بعضها بالإمالة نحو ( با ، تا ) وبالتفخيم نحو ( با ، تا ) وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد إليه والإضافة . وقولهم ( با ، تا ، ثا ) متهجاة ومقصورة نحو ( لا ) ثم قولهم كتبت باء بالمد نحو كتبت ( لا ) لا يدل على أنها حروف مثل ( لا ) : فإنهم إنما قالوا كذلك في التهجي لكثرة الاستعمال واستدعائها التخفيف ، والذي رواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف » وأيضاً ما وقع في عبارات المتقدمين أنها حروف التهجي خليق بأن يصرف إلى التسامح والتجوز لأنه اسم للحرف وهما متلازمان ، أو لأن الحرف قد يطلق على الكلمة تسمية للجنس باسم النوع . ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه : كيف تنطقون بالباء التي في ضرب ، والكاف التي في ذلك؟ فقالوا : نقول باء ، كاف . فقال : إنما جئتم بالاسم لا الحرف . وقال : أقول : ب ، ك . ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة ، وهي أنهم جعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها ، لأنه لا يكون إلا ساكناً . ومما يضاهيها في إبداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحيعلة والتهليل ونحوها . وحكم هذه الأسماء سكون الإعجاز ما لم تلها العوامل فيقال : ألف ، لام ، ميم موقوفاً عليها لفقد مقتضى الإعراب نحو . واحد ، اثنان ، ثلاثة ، دار ، ثوب ، جارية . فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب نحو : هذه ألف ، وكتبت ألفاً ، ونظرت إلى ألف . والدليل على أن سكونها وقف وليس ببناء أنها لو بنيت لحذي بها حذر « كيف » و « أين » و « هؤلاء » ولم يقل صاد ، قاف ، نون .

مجموعاً فيها بين الساكنين .
وللناس في « الم » وما يجري مجراه من فواتح السور قولان : أحدهما أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله به ، والتخاطب بالحروف المفردة سنة الأحباب في سنن المحاب ، فهو سر الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطلع عليه الرقيب :
بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه
عن أبي بكر ، في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور . وعن علي كرم الله وجهه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ، وقال بعض العارفين : العلم كبحر أجري منه واد ، ثم أجري من الوادي نهر ، ثم أجري من النهر جدول ، ثم أجري من الجدول ساقية . فالوادي لا يحتمل البحر ، والنهر لا يحتمل الوادي ، ولهذا قال عز من قائل : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } [ الرعد : 17 ] فبحور العلم عند الله تعالى فأعطى الرسل منها أودية ، ثم أعطى الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء ، ثم أعطى العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم ، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم ، وهذا مأخوذ مما ورد في الخبر « للعلماء سر وللخلفاء سر وللأنبياء سر وللملائكة سر ولله من بعد ذلك كله سر . فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم ، ولو اطلع الملائكة على سر الله لطاحوا حائرين وبادوا بائدين » والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش . وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه . وعن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وقيل : هو من المتشابه . وزيف هذا القول بنحو قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } [ النساء : 82 ] { تبياناً لكل شيء } [ النحل : 89 ] { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وإنما يمكن التدبر ويكون تبياناً وهدى إذا كان مفهوماً ، وبقول صلى الله عليه وسلم : « إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي » فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وأيضاً لا يخاطب المكلف بما لا يفهم كما لا يخاطب العربي بالعجمي ، ولا يجوز التحدي بما لا يكون معلوماً ، وعورض بقوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } [ آل عمران : 7 ] والوقف هنا لأن الراسخين لو كانوا عالمين بتأويله كان الإيمان به كالإيمان بالمحكم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح ، ولا يكون في قوله { كل من عند ربنا } [ آل عمران : 7 ] فائدة على ما لا يخفى ، وبقوله صلى الله عليه وسلم « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديم » وقد روينا عن أكابر الصحابة ما روينا . وأيضاً الأفعال التي كلفنا بها منها ما يظهر وجه الحكمة فيه كالصلاة فإن فيها تواضعاً للمعبود والصوم ففيه كسر الشهوة والزكاة ففيها سد خلة المساكين ، ومنها ما لا يظهر فيه الحكمة ككثير من أفعال الحج ، ويحسن من الله تعالى الأمر بالنوعين لظهور الامتثال بهما ، بل كمال الانقياد في النوع الثاني أظهر وأكثر لأنه تعبد محض .

فلم لا يجوز أن يكون في الأقوال أيضاً مثل ذلك ، مع أن فيه فائدة أخرى هي اشتغال السر بذكر الله والتفكير في كلامه؟
القول الثاني : إن المراد من هذه الفواتح معلوم ، ثم اختلفوا على وجوه : الأول : أنها أسماء وهو قول أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه ، كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي ، وكقولهم للنحاس صاد ، وللسحاب عين ، وللجبل قاف ، وللحوت نون ، وسعود تمام الكلام في هذا القول . الثاني : أنها أسماء الله تعالى . روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول : يا كَهيعَصَ ، يا حمَ عَسَقَ ، ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنها أبعاض أسماء الله تعالى ، فإن « الر ، حم ، ن » مجموعها اسم « الرحمن » لكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في الجميع . الثالث : أنها أسماء القرآن وهو قول الكلبي والسدي وقتادة . الرابع : كل واحد من الحروف دال على اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته ، فالألف إشارة إلى أنه أحد أول آخر أزلي أبدي ، واللام إشارة إلى أنه لطيف ، والميم إلى أنه مجيد ملك منان ، وفي « كَهيعَصَ » الكاف كاف لعباده ، والهاء هاد ، والياء من الحكيم والعين عالم ، والصاد صادق . أو الكاف محمول على الكبير والكريم . والياء على أنه مجير ، والعين على العزيز والعدل ، ويروى هذا عن ابن عباس . وعنه أيضاً في « ألم » أنا الله أعلم ، وفي « المص » أنا الله أعلم وأفصل ، وفي « المر » أنا الله أرى . الخامس : أنها صفات الأفعال . الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم مجده ، قاله محمد بن كعب القرظي . السادس : الألف من الله ، واللام من جبرائيل ، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم . أي أنزل الله الكتاب بواسطة جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم . السابع : الألف أنا ، واللام لي ، والميم مني قاله بعض الصوفية . الثامن : أن ورودها مسرودة هكذا على نمط التعديد ليكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن ، أي إن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ، فلولا أنه كلام خالق القدر لم يعجز معشر البشر عن الإتيان بمثل الكوثر قاله المبرد وجم غفير . والتاسع : كأنه تعالى يقول اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، وهذا على طريقة تعليم الصبيان قاله عبد العزيز بن يحيى . العاشر : إن الكفار لما قالوا { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه }

[ فصلت : 26 ] أنزل الله تعالى هذه الأحرف رغبة في إصغائهم ليهجم عليهم القرآن من حيث لا يشعرون قاله أبو روق وقطرب . الحادي عشر : قول أبي العالية إنه حساب على ما روى ابن عباس أنه مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو سورة البقرة « الم ذلك الكتاب » ثم أتى أخوة حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن الم وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو ، أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم ، كذلك نزلت فقال حيي : إن كنت صادقاً إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى مدته إحدى وسبعون سنة؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال حيي : فهل غير ذلك؟ فقال : نعم { المص } فقال حيي : مائة وإحدى وستون فهل غير هذه؟ فقال : نعم { الر } قال حيي : نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة فهل غير هذا؟ قال : نعم { المر } قال حيي : ندري بأي أقوالك نأخذ! فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد أن أنبياءنا قد أخبروا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً فيما يقوله إني لأراه يستجمع له هذا كله ، فقام اليهود وقالوا : اشتبه علينا أمرك فأنزل الله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] . الثاني عشر : تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر . الثالث عشر : قول الأخفش إن الله تعالى أقسم بهذه الجروف المعجمة لشرفها من حيث إنها أصول اللغات ، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ، واقتصر على البعض والمراد الكل كما تقول : قرأت الحمد وتريد السورة كلها ، أقسم الله بها أن هذا الكتاب هو المثبت في اللوح المحفوظ . الرابع عشر : أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام ، الأميون وأهل الخط ، والكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ ، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بها من غير تعلم خط وقراءة كان ذلك دليلاً على أنه استفاد ذلك من قبل الوحي . الخامس عشر : قال القاضي الماوردي : معناه ألم بكم ذلك الكتاب أي نزل ، وهذا لا يتأتى في كل فاتحة . السادس عشر : الألف إشارة إلى ما لا بد منه من الاستقامة على الشريعة في أول الأمر { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 30 ] واللام إشارة إلى الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة { والذين جاهدوا فينا } [ العنكبوت : 69 ] والميم إشارة إلى صيرورة العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله بالكلية وهو الحقيقة

{ قل الله ثم ذرهم } [ الأنعام : 91 ] . السابع عشر : الألف من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج ، والميم من الشفة وهو آخر المخارج ، أي أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله . الثامن عشر : سمعت بعض الشيعة يقول : هذه الفواتح إذا حذف منها المكررات يبقى ما يمكن أن تركب منه على صراط حق نمسكه ، وهذا غريب مع أنه متكلف فلهذا أوردته . واعلم أن الباقي من الفواتح بعد حذف المكرر أربعة عشر ، نصف عدد حروف المعجم بعد الكسر . وقد أورد الله الفواتح في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، وهذه الباقية تشتمل على أصناف أجناس الحروف . من المهموسة نصفها ، الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ، ومن الشديد نصفها ا ك ط ق ، ومن الرخوة نصفها لمر صعهسحين ، ومن المطبقة نصفها ص ط ، ومن المنفتحة نصفها الر كهوس ج ق ي ن ، ومن المستعلية نصفها ق ص ط . ومن المنخفضة نصفها الم ر ك ه ي ع س ح ن ، ومن حروف القلقة نصفها ق ط . وأكثر ألفاظ القرآن من هذه الحروف ، وهذا دليل على أن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم تبكيتاً لهم وإظهاراً لعجزهم كما مر في الوجه الثامن ، ويؤيد ذلك أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين والله أعلم . التاسع عشر : قيل : معناه ألست بربكم . الألف واللام من أوله والميم من آخره أي أخذت منكم كتاب العهد في يوم الميثاق . والمختار من هذه الأقوال عند الأكثرين القول بأنها أسماء السور ، ثم إنه عورض بوجوه : الأول : أنا نجد سوراً كثيرة اتفقت في التسمية بالم وحم والمقصود من العلم رفع الاشتباه . الثاني : لو كانت أسماء لاشتهرت وتواترت . الثالث : العرب لم يتجاوزوا بما سموا به مجموع اسمين نحو : معد يكرب وبعلبك ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم . الرابع : لو كانت أسماء لاشتهرت السور بها ، لكنها اشتهرت بغيرها نحو سورة البقرة وآل عمران . الخامس : هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة ، واسم الشيء متأخر عن الشيء ، فلزم أن يكون متقدماً متأخراً معاً وهو محال . وليس هذا لتسميتهم صاد للحرف الأول منه ، فإن هذا كتسمية المفرد بالمؤلف فلا يلزم إلا تأخر المركب عن المفرد بوجهين ، وهذا تسمية المؤلف بالمفرد ويلزم المحال المذكور . وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد ، مع أنه لا يبعد أن تجعل مشتركاً حتى يتميز كل واحد من الآخر بعلامة أخرى لحكمة خفية . و عن الثاني بأن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام التي تتوفر الدواعي على نقلها .

وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب ، ولكن إذا جعلت اسماً واحداً فأما منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية نحو برق نحره ، وكما لو سمي ببيت شعر أو بطائفة من أسماء حروف المعجم . وعن الرابع أنه لا يبعد أن يصير اللقب أشهر من الاسم . وعن الخامس أن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل ، وفي لسان الصوفية أن هيئة الصلاة ثلاث : القيام والركوع والسجود . فالألف إشارة إلى القيام ، واللام إلى الركوع ، والميم إلى السجود أي من قرأ فاتحة الكتاب في الصلاة التي هي معراج المؤمن شرفه الله بالهداية في قوله { هدى للمتقين } وعلى هذا فيكون ذلك الكتاب إشارة إلى الفاتحة لأنها أم الكتاب . ثم إن هذه الأسماء ضربان : أحدهما ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو { كَهيعَصَ } { المر } وثانيهما ما يتأتى فيه الإعراب لكونه اسماً فرداً كصاد وقاف ونون ، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحمَ وطسَ ويسَ فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وكقولك طسم إذا فتح نونها صار كدرابجرد . فالنوع الأول محكي ليس إلا ، والثاني فيه أمران الإعراب والحكاية ، فإذا أعرب منع الصرف للعملية والتأنيث قال الشاعر :
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم؟
والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته نحو قولك « بدأت بالحمد لله » قال ذو الرمة :
سمعت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
وأما من قرأ صاد وقاف ونون مفتوحات فبفعل مضمر نحو « اذكر » أو حركت لالتقاء الساكنين . واستكره جعلها مقسماً بها على طريق قولهم « نعم الله لأفعلن » على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم ، لأن القرآن والقلم بعدها محلوف بهما . واستكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد ولهذا قال الخليل : الواو الثانية في قوله عز من قائل { والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى } [ الليل : 1 ، 2 ] واو العطف لا القسم نحو « وحياتي ثم حياتك لأفعلن » ولو كان انقضى قسمه بالأول على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر نحو « بالله لأفعلن تالله لأخرجن » ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى جعل « الواو » للعطف لمخالفة الثاني الأول في الإعراب ، اللهم إلا أن تقدر مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها فقد جاء عنهم « الله لأفعلن » مجروراً غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، وأما من قرأ صاد وقاف بالكسر فلالتقاء الساكنين . وهذه الفواتح جاءت في المصحف مكتوبة على صور الحروف أنفسها لا على صور أساميها ، لأن المألوف أنه إذا قيل للكاتب اكتب « صاد » مثلاً فإنه يكتب مسماها ص .

وأيضاً اشتهار أمرها بأن المراد بها هنا الأسامي لا المسميات أمن وقوع اللبس فيها ، وأيضاً خطان لا يقاسان ، خط المصحف لأنه سنة ، وخط العروض لأن المعتبر هناك الملفوظ . ومن لم يجعل هذه الفواتح أسماء السور فلا محل لها عنده كما لا محل للجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ، ومن جعلها أسماء للسور فسنخبرك عن تأليفها مع ما بعدها الله حسبي .
البحث الثاني في قوله . « ذلك الكتاب » وفيه مسائل : الأولى : إنما صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد لأنه وقعت الإشارة بذلك إلى « الم » بعد ما سبق التكلم به ، والمنقضي في حكم المتباعد ولهذا يحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا ، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك ، أو لأنه وإن كان حاضراً نظراً إلى ألفاظه لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ، أو لأنه على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي ، أو لأنه إشارة إلى ما نزل بمكة قبل سورة البقرة . وقد يسمى بعض القرآن قرآناً ، أو لأنه إشارة إلى ما وعد به الرسول عند مبعثه { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] أو لأنه إشارة إلى ما أخبر به الأنبياء أن الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ، أو المراد أن هذا المنزل هو ذلك المثبت في اللوح المحفوظ كقوله { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } [ الزخرف : 4 ] . الثانية : إنما ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة في بعض الوجوه نظراً إلى صفته وهو الكتاب كقولك « هند ذلك الإنسان » قال الذبياني :
نبئت نعمي على الهجران عاتبة ... سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري
وإن جعلت الكتاب خبراً فنظراً إلى أن ذلك في معناه ومسماه فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم : « من كان أمك » . الثالثة : للقرآن أسماء كثيرة منها : الكتاب - وقد تقدم- ومنها الفرقان { تبارك الذي نزل الفرقان } [ الفرقان : 1 ] لأنه نزل متفرقاً في نيف وعشرين سنة ، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل . ومنها التذكرة والذكرى والذكر { وإنه لتذكرة للمتقين } [ الحاقة : 48 ] { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } [ الذاريات : 55 ] { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] أي ذكر من الله تعالى به ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه أو شرف وفخر . ومنها التنزيل { وإنه لتنزيل رب العالمين } [ الشعراء : 192 ] ومنها الحديث { الله نزل أحسن الحديث } [ الزمر : 23 ] شبهه بما يتحدث به فإن الله تعالى خاطب به المكلفين . ومنها الموعظة { قد جاءتكم موعظة من ربكم } [ يونس : 57 ] ومنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } [ الرعد : 37 ] { حكمة بالغة } [ القمر : 5 ] { يسَ والقرآن الحكيم } [ يس : 1 ، 2 ] { كتاب أحكمت أياته } [ فصلت : 2 ] ومنها الشفاء والرحمة { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }

[ الإسراء : 82 ] ومنها الهدى والهادي { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] ومنها الصراط المستقيم { وأن هذا صراطي مستقيماً } [ الأنعام : 153 ] ومنها حبل الله { واعتصموا بحبل الله جميعاً } [ آل عمران : 103 ] ومنها الروح { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] لأنه سبب لحياة الأرواح . ومنها القصص { إن هذا لهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] ومنها البيان والتبيان والمبين { هذا بيان للناس } [ آل عمران : 138 ] { تبياناً لكل شيء } [ النحل : 89 ] { تلك آيات الكتاب المبين } [ يوسف : 1 ] ومنها البصائر { هذا بصائر من ربكم } [ الأعراف : 203 ] ومنها الفصل { إنه لقول فصل } [ الطارق : 13 ] ومنها النجوم { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] لأنه نزل نجماً نجماً . ومنها المثاني { مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } [ الزمر : 23 ] لأنه يثنى فيه القصص والأخبار . ومنها النعمة { وأما بنعمة ربك فحدث } [ الضحى : 11 ] قال ابن عباس : أي القرآن . ومنها البرهان { قد جاءكم برهان من ربكم } [ النساء : 174 ] ومنها البشير والنذير { قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً } [ فصلت : 3 ، 4 ] ومنها القيم { قيماً لينذر بأساً شديداً } [ الكهف : 2 ] ومنها المهيمن { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] ومنها النور { واتبعوا النور الذي أنزل معه } [ الأعراف : 157 ] ومنها الحق { وإنه لحق اليقين } [ الحاقة : 51 ] ومنها العزيز { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] ومنها الكريم { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] ومنها العظيم { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] ومنها المبارك { كتاب أنزلناه إليك مبارك } [ ص : 29 ] فهذه جملة الأسماء وسيجيء تفاسيرها في مواضعها . الرابعة : في تأليف ذلك الكتاب مع « الم » اسماً للسورة ففي التأليف وجوه : أن يكون « الم » مبتدأ أو « ذلك » مبتدأ ثانياً « والكتاب » خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول أي هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً كما تقول : هو الرجل أي الكامل في الرجولية وكقوله : هم القوم كل القوم يا أم خالد . وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون « الم » خبر مبتدأ محذوف أي هذه « الم » ، ويكون « ذلك » خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة ، وأن يكون هذه « الم » جملة ، « ذلك الكتاب » جملة أخرى ، وفقد العاطف لأن الثانية بيان للأولى . وإن جعلت « الم » بمنزلة الصوت كان « ذلك » مبتدأ خبره « الكتاب » أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، أو « الكتاب » صفة والخبر ما بعده ، أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف « ذلك الكتاب » . وفي قراءة عبد الله بن مسعود « الم تنزيل الكتاب » . البحث الثالث في قوله « لا ريب فيه » الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس . روى الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له .

ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف أي معوج مضطجع وهم محرومون فقال : لا يريبه أحد بشيء أي لا يزعجه . والحاصل أن الريب شك وزيادة ظن سوء ، فإن قلت : كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق ، وكم من شقي مرتاب فيه؟ قلت : ما نفي أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه ومثله { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] لم يقل « وإذا كنتم » مع وقوع الشك منهم في الواقع دلالة على أن الشك فيه مما لا ينبغي أن يوجد إلا على سبيل الفرض والتقدير ، ولو فرض فوجه إزالته أن يجردوا أنفسهم ويبرزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أن تتضاءل دونها . فإن قلت : فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى { لا فيها غَوْل } [ الصافات : 47 ] قلنا : لأن المقصود منها ليس إلا نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق ، ولو عكس لأفاد ذلك مع ما ليس بمراد ولا هو بصادق في نفس الأمر وهو التعريض بأن ريباً في غيره من الكتب كما أن في قوله : { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] تعريضاً بأن خمور الدنيا تغتال العقول . وقرأ أبو الشعثاء « لا ريب » فيه بالرفع . قيل : والفرق بينها وبين المشهورة ، أن المشهورة توجب الاستغراق ، وهذه تجوزه . ويمكن أن يقال : كلاهما يوجب الاستغراق إلا أن الأول بطريق نفي الماهية ، والثاني لأن قوله « لا ريب » جواب قول القائل هل ريب فيه ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد فنقيضه يكون سلب جميع الأفراد .
البحث الرابع في قوله « هدى للمتقين » وفيه مسائل :
الأولى : في حقيقة الهدى هو مصدر على فعل كالسرى وهو على الأصح عبارة عن الدلالة . وقيل : بشرط كونها موصلة إلى البغية بدليل وقوعه في مقابل الضلالة { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ولأنه يقال مهدي في معرض المدح . فلو احتمل أن يقال هدى فلم يهتد لم يكن مدحاً ، ولأن مطاوعه « اهتدى » فيلزمه . وأجيب بأن مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى . وبأن قولنا « مهدي » إنما أفاد المدح لأنه من المعلوم أن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت كالعدم ، وبالمنع من أن اهتدى لازم هدى لزوماً كلياً إذ يصح في العرف أن يقال : هديته فلم يهتد ، قال عز من قائل : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] وقال بعضهم : الهدى الاهتداء ، فإن زعم مطلقاً فخطأ لوقوع صفة للقرآن ، وإن زعم حيناً فصحيح لوقوعه في مقابلة الضلالة .

الثانية : المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى . والوقاية فرط الصيانة ، وهذه الدابة تقي من وجئها إذا أصابها طلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء . وهو في الشرع المؤتمر للمأمورات المجتنب عن المحظورات . واختلف في الصغائر أنه إذا لم يتقها فهل يستحق هذا الاسم؟ روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس » فحقيقة التقوى الخشية { يا أيها الناس اتقوا ربكم } [ لقمان : 33 ] وقد يراد بها الإيمان { وألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح : 26 ] أي التوحيد . وقد يراد التوبة { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } [ الأعراف : 96 ] أي تابوا . وقد يراد الطاعة { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } [ النحل : 2 ] وقد يراد ترك المعصية { وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله } [ البقرة : 189 ] وقد يراد الإخلاص { فإنها من تقوى القلوب } [ الحج : 32 ] أي من إخلاصها والتقوى مقام شريف { إن الله مع الذين اتقوا } [ النحل : 128 ] { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } [ البقرة : 197 ] { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده » وقال علي عليه السلام : التقوى ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة . وعن إبراهيم بن أدهم : أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً ، ولا الملائكة المقربون في أفعالك عيباً ، ولا ملك العرش في سرك عيباً . الواقدي : أن تزين سرك للحق كما زينت ظهرك للخلق . ويقال : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك . ولله در القائل : خل الذنوب صغيرها . وكبيرها فهو التقي .
كن مثل ماش في طري ... ق الشوق يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى
وفي قوله « هدى للمتقين » ثم في موضع آخر { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس } [ البقرة : 185 ] دليل على أن الناس محصورون في المتقين ، والباقون { كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] .
الثالثة : لم اختص كون القرآن هدى للمتقين ، وأيضاً المتقي مهتد فكيف يهتدي ثانياً؟ والجواب أن المتقين لما كانوا هم المنتفعين بالهداية خصوا بالذكر مدحاً لهم كقوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] { إنما تنذر من اتبع الذكر } [ يس : 11 ] مع أنه صلى الله عليه وسلم منذر كل الناس . وأيضاً قوله « هدى للمتقين » كقولك للعزيز المكرم « أعزك الله وأكرمك » تريد طلب الزيادة واستدامة ما هو ثابت فيه . وبوجه آخر سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين نحو « من قتل قتيلاً فله سلبه » فهذا مجاز من باب تسمية الشيء بما هو آيل إليه واللطف فيه أنه لو قال هدى للصائرين إلى التقوى بعد الضلال كان إطناباً في غير موضعه ، فإن تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده هو اللائق بالمقام ، فاختص الكلام فإجرائه على الطريقة التي ذكرنا .

فإن قلت : كيف وصفت القرآن بأنه كله هدى وفيه مجمل ومتشابه لا يهتدي فيه إلى المقصود إلا بحكم العقل ، فيكون الهدى في ذلك للعقل لا للقرآن؟ ومما يؤكد ما قلنا ، ما نقل عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه خصم ذو وجهين . ولهذا كان فرق الإسلام المحق منهم والمبطل يحتجون به ، قلنا : المتشابه لما لم ينفك عما يبين المراد معه على التعيين عقلاً كان أو سمعاً صار كله هدى . فإن قيل : كل ما يتوقف صحة كون القرآن هدى على صحته كمعرفة الله تعالى وصفاته وكمعرفة النبوة ، فالقرآن ليس هدى فيه فكيف جعل هدى على الإطلاق؟ قلنا : المراد كونه هدى في تعريف الشرائع والمطلق لا يقتضي العموم ، أو كونه هدى في تأكيد ما في العقول أيضاً فيعم .
الرابعة : محل « هدى للمتقين » الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع « لا ريب فيه » لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبراً عنه ، ويجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أنه يقال : « الم » جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و « ذلك الكتاب » جملة ثانية ، و « لا ريب فيه » ثالثة ، و « هدى للمتقين » رابعة . وفقد العاطف بينها لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بحجرة بعض ، لأنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان تسجيلاً بكماله ، فلا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، ثم في كل من الجمل نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه كما مر في الوجه الثامن ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة أي الكتاب الذي يستأهل أن يقال له الكتاب ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع هاد وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين .
البحث الخامس في قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } . الآية وفيه مسائل :
الأولى : « الذين يؤمنون » إما موصول بالمتقين صفة ، أو نصب على المدح ، أو رفع كذلك بتقدير أعني الذين ، أو هم الذين ، أو مرفوع بالابتداء مخبر عنه « بأولئك على هدى » .

الثانية : « الذين يؤمنون » على تقدير كونه صفة يكون إما وارداً بياناً وكشفاً وذلك إذا فسر المتقي بأنه الذي يفعل الحسنات ويجتنب السيئات ، لأن الإيمان أساس الحسنات والصلاة أم العبادات البدنية قال صلى الله عليه وسلم : « الصلاة عمادة الدين » « وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة » والزكاة أفضل العبادات المالية قال صلى الله عليه وسلم : « الزكاة قنطرة الإسلام » فاختصر الكلام اختصاراً بذكر ما هو كالعنوان لسائر الطاعات وكالأصول لبواقي الحسنات ويندرج فيها اجتناب الفواحش والمنكرات لقوله عز من قائل { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وإما مسرودة مع المتقين مفيدة غير فائدتها وذلك إذا فسر المتقي بالمجتنب عن المعاصي فقط . ثم إنه يكون قد وصف بالإيمان وهو فعل القلب وبأداء الصلاة والزكاة وهما من أفعال الجوارح ، وهذا ترتيب مناسب لأن لوح القلب يجب تخليته عن النقوش الفاسدة أولاً ، ثم تحليته بالعقائد الحقة والأخلاق الحميدة ، وإما معدودة عداً على سبيل المدح والثناء وذلك إذا فرض المتقي موسوماً بهذه السمات ، مشهوراً بهذه الصفات ، غير محتاج لذلك إلى البيان والإيضاح كصفات الله الجارية عليه تعالى تمجيداً وتعظيماً .
الثالثة : الأيمان إفعال من الأمن . يقال : أمنته وآمنته غيري . ثم يقال : أمنه إذا صدقه . وحقيقته أمنه التكذيب . والمخالفة والتعدية بالباء لتضمينه معنى أقر واعتبر ووثق به . قال في التفسير الكبير : اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان على أربعة أقوال : الأول : قول المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث أنه اسم لأفعال القلوب واللسان والجوارح ، لكن المعتزلة قالوا : الإيمان إذا عدي بالباء فمعناه التصديق على تضمين الإقرار أو الوثوق كما مر من حيث اللغة وأما إذا ذكر مطلقاً فمنقول إلى معنى آخر وهو أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله . فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ، ومن أخل بالشهادة فهو كافر ، ومن أخل بالعمل فهو فاسق . ثم اختلفوا فبعضهم - كواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار - قالوا : الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات . وبعضهم - كأبي علي وأبي هاشم - إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وبعضهم - كالنظام - إنه عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد . ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد ، فالمؤمن عند الله من اجتنب كل الكبائر ، والمؤمن عندنا من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد . والخوارج قالوا : الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً .

فمجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك خصلة من هذه الخصال كفر ، وأهل الحديث ذكروا وجهين : الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة . وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة . وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعده كفر على حدة ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار . الثاني : أن الإيمان اسم للطاعات كلها فريضة أو نافلة إلا أنه إذا ترك فريضة انتقض إيمانه ، وإن ترك نافلة لم ينتقض . ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل . ( القول الثاني ) : قول من قال الإيمان بالقلب واللسان معاً . ثم اختلفوا على مذاهب : الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالجنان وهو مذهب أبي حنيفة وعامة الفقهاء ، ثم اختلفوا في موضعين : أحدهما في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من قال : هي الاعتقاد الجازم سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو علماً صادراً عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال . وثانيهما في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال بعض المتكلمين : هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى فلا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف ، والإنصاف أن المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو بذاته أو مرئياً وغير مرئي لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان . والمذهب الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً وهو مذهب أبي الحسن الأشعري وبشر المريسي ، والمراد من التصديق الكلام القائم بالنفس . المذهب الثالث : كلام بعض الصوفية الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب . ( القول الثالث ) : قول من قال الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، فمن هؤلاء من قال : الإيمان معرفة الله بالقلب حتى إن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان ، وزعم أن معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر غير داخلة في حقيقة الإيمان . وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم . ومنهم من قال : الإيمان مجرد التصديق بالقلب . ( القول الرابع ) . قول من قال الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، ثم منهم من قال : شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب . ومنهم من قال : لا حاجة بنا إلى هذا الشرط أيضاً بل المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة يثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة وهذا قول الكرامية ، ثم قال الإمام رحمه الله تعالى : عندي أن الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد فههنا قيود : الأول أن الإيمان عبارة عن التصديق ، وذلك أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين ، فلو صار منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على نقل هذا النقل وتواتر وليس كذلك .

وأيضاً الإيمان المعدّى بالباء على أصله اتفاقاً ، فغير المعدى أيضاً يكون كذلك كلما ذكر الله تعالى الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب { وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] { كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] وأيضاً قرن الإيمان بالعمل الصالح ، ولو كان العمل داخلاً في الإيمان لزم التكرار . وأيضاً قرن الإيمان بالمعاصي { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [ الأنعام : 83 ] { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] { والذين آمنوا ولم يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] ومع عظيم الوعيد في ترك الهجرة . قال ابن عباس في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] إنما يجب القصاص على القاتل المتعمد ، ومع ذلك يدخل في الخطاب . ثم قال : { فمن عفى له من أخيه شيء } [ البقرة : 178 ] وهذه الأخوة ليست إلا أخوة الإيمان { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] ثم قال : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } [ البقرة : 178 ] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن . القيد الثاني : أن الإيمان ليس عبارة عن تصديق اللسان لقوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 108 ] . القيد الثالث : ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً . القيد الرابع : لا يشترط التصديق بجميع صفات الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم « اعتقها فإنها مؤمنة » بعد قوله عليه الصلاة والسلام لها أين الله؟ قالت : في السماء . ويعلم مما ذكرنا أن من عرف الله بالدليل ، ولما تم العرفان مات ووجد من الوقت ما أمكنه التلفظ بكلمة الشهادة لكنه لم يتلفظ بها كان مؤمناً ، وكان الامتناع عن النطق جارياً مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان ، وبهذا حكم الغزالي رضي الله عنه قلت : - وبالله التوفيق - : التحقيق في المقام أن للإيمان وجوداً في الأعيان ووجوداً في الأذهان ووجوداً في العبارة . ولا ريب أن الوجود العيني لكل شيء هو الأصل ، وباقي الوجودات فرع وتابع . فالوجود العيني للإيمان هو النور الحاصل للقلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الحق جل ذكره { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] وهذا النور قابل للقوة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الأنوار { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } [ الأنفال : 2 ] كلما ارتفع حجاب ازداد نوراً فيتقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح الصدر ويطلع على حقائق الأشياء وتتجلى له الغيوب وغيوب الغيوب فيعرف كل شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم السلام ولا سيما محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين في جميع ما أخبروا عنه إجمالاً أو تفصيلاً على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكل مأمور والاجتناب عن كل محظور ، فينضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة

{ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } [ التحريم : 8 ] { نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] وأما الوجود الذهني فبملاحظة المؤمن لهذا النور ومطالعته له ولمواقعه ، وأما الوجود اللفظي فخلاصته ما اصطلح عليه الشارع بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا يخفى أن مجرد التلفظ بقولنا « لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم » من غير النور المذكور لا يفيد إلا كما يفيد للعطشان التلفظ بالماء الزلال دون التروي به ، إلا أن التعبير عما في الضمير لما لم يتيسر إلا بواسطة النطق المفصح عن كل خفي والمعرب عن كل مشتبه ، كان للتلفظ بكلمة الشهادة ولعدم التلفظ بها مدخل عظيم في الحكم بإيمان المرء وكفره ، فصح جعل ذلك وما ينخرط في سلكه من العلامات ، كعدم لبس الغيار وشد الزنار دليلاً عليهما ، وتفويض أمر الباطن إلى عالم الخفيات المطلع على السرائر والنيات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله » . الرابعة : يجوز أن يكون بالغيب صلة للإيمان أي يعترفون أو يثقون به ، وعلى هذا يكون الغيب بمعنى الغائب ما تسمية بالمصدر كما سمى الشاهد بالشهادة قال الله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } [ الرعد : 9؛ المؤمنون : 92؛ التغابن : 18 ] والعرب تسمي المطئمن من الأرض غيباً ، وإما أن يكون مخفف فيعل والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير ، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه أو نصب لنا دليل عليه ، ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال : فلان يعلم الغيب ، وذلك نحو الصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد وغير ذلك . ويجوز أن يكون بالغيب حالاً ، والغيب بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيب نحو { الذين يخشون ربهم بالغيب } [ الأنبياء : 49 ] { ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف : 52 ] وفيه تعريض بالمنافقين حيث إن باطنهم يخالف ظاهرهم وغيبتهم تباين حضورهم { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } [ البقرة : 14 ] وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله في القرآن . وورد في الخبر { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض }

[ النور : 55 ] « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أمتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً » الخامسة : معنى إقامة الصلاة أحد ثلاثة اشياء : إما تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه ، وإما الدوام عليها والمحافظة { والذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون } [ المعارج : 23 ، 24 ] من قامت السوق إذا نفقت وأقامها . قال الأسدي : أقامت غزالة سوق الضراب . لأهل العراقين حولاً قميطاً . غزالة اسم امرأة شبيب الخارجي ، قتله الحجاج فحاربته سنة تامة . والضراب القتال ، والعراقان الكوفة والبصرة ، وقميطاً أي كاملاً لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ، وإما التجلد والتشمر لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور عنها ولا توان من قولهم : قام في الأمر خلاف تقاعد عنه ، فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت ، والقنوت القيام - وبالركوع والسجود والتسبيح { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي } [ آل عمران : 43 ] { فلولا أنه كان من المسبحين } [ الصافات : 143 ] ولا يخفى أن إقامة الصلاة بجميع هذه المعاني تستحق المدح والثناء . السادسة : الصلاة في عرف الشرع عبارة عن إلهيات والأقوال المخصوصة التي مفتتحها التحريم ومختتمها التسليم فرضاً كانت أو نفلاً ، إلا أنه يحتمل أن يقال المراد بها في الآية الفرض لأن الفلاح قد نيط بها في قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي أفلح والله إن صدق بعد قول الأعرابي « والله لا أزيد على هذه ولا أنقص » أي على الصلوات المفروضة . واشتقاقها لغة إما من الصلاة بمعنى الدعاء قال الأعشى :
وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم
أي وضع عليها الرسم وهو الخاتم وإما من قولهم « صليت العصا بالنار » إذا لينتها وقومتها قال :
فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلي عصاك كمستديم
والمصلي يسعى في تعديل ظاهره وتقويم باطنه كالخشب الذي يعرض على النار . وإما من قولهم « صلى الفرس » إذا جاء مصلياً أي ملازماً للسابق ، لأن رأسه عند صلاة ، والصلا ما عن يمين الذنب وشماله ، والمصلي ملازم لفعله من حين شروعه إلى أوان فراغه . والصلاة اسم وضع موضع المصدر يقال : صليت صلاة ولا يقال تصلية . قال في الكشاف : الصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى . وكتبها بالواو على لفظ المفخم . وحقيقة صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده ، ولا يخفى ما فيه من التعسف . السابعة : الرزق لغة هو ما ينتفع به ، فيشمل الحلال والحرام والمأكول وغيره والمملوك وغيره ، والمعتزلة ومن يجري مجراهم زادوا قيداً آخر وهو أن لا يكون ممنوعاً عن الانتفاع به ، وعلى هذا لا يكون الحرام عندهم رزقاً .

قال في الكشاف : إسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله تعالى ويسمى رزقاً منه . وأدخل « من » التبعيضية صيانة لهم وكفاً عن الإسراف والتبذير المنهي عنه ، وقدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم كأنه قال : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به ، والحق أن التمكين من الانتفاع بالمرزوق مسند إلى الله تعالى على الإطلاق ، إذ كل بقدرته إلا أن مذهب المعتزلة إلى الأدب أقرب ، ولا سيما في هذا المقام ليستحقوا المدح بالإنفاق منه . الثامنة : أنفق الشيء وأنفده أخوان ، وكل ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب ، وما يقرب منه ويدخل في هذا الإنفاق الواجب من الزكاة التي هي أخت الصلاة وشقيقتها ، ومن الإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته ، ومن الإنفاق في الجهاد . ويمكن أن يتناول كل منفق في سبيل الخير للإطلاق قال تعالى { وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت } [ المنافقون : 10 ] والمراد به الصدقة لقوله { فأصدّق وأكن من الصالحين } [ المنافقون : 10 ] .
البحث السادس : في قوله تعالى و « الذين يؤمنون » الآية . وفيه مسائل :
الأولى : يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند الله ، سالف أو مترقب سبيله سبيل السالف لكونه معقوداً بعضه ببعض ومربوطاً آتيه بماضيه ، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات ، وأن أهل الجنة لا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ونحو ذلك . فيكون المعطوف غير المعطوف عليه إما مغايرة المباينة وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن ابتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم من غير إيمان قبل ذلك بموسى وعيسى عليهما السلام ، وإما مغايرة الخاص للعام وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام أو لم يكن . ويكون السبب في ذكر هذا الخاص بعد العام إثبات شرف لهم وترغيباً لأمثالهم في الدين ، ويحتمل أن يراد بهؤلاء الأولون ، ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
يا لهف زيابة للحارث ال ... صابح فالغانم فالآئب
الثانية : قال في التفسير الكبير : المراد من إنزال الوحي أن جبريل سمع في السماء كلاماً لله تعالى فنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القصر . والرسالة لا تنزل لكن المستمع يستمع الرسالة في علو فينزل فيؤدي في سفل .

وقول الأمير لا يفارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه . قال : فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله وكلامه ليس حرفاً ولا صوتاً عندكم؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم . ويجوز أن يكون خلق الله في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص فقرأه جبرائيل فحفظه ، ويجوز أن يخلق أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبرائيل ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام . وأقول : إنك إذا تأملت ما أشرت إليه في المقدمة العاشرة من مقدمات الكتاب انكشف لك الغطاء عن هذه المسالة .
الثالثة : الإيمان بجميع الكتب السماوية أعني التصديق بها واجب ، لأن الفلاح منوط بذلك . فيجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم التفصيل ليقوم بواجبه علماً وعملاً ، لكنه فرض كفاية لقوله تعالى { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } [ التوبة : 122 ] الآية . وأما المنزل على الأنبياء المتقدمين فالإيمان به واجب على الجملة لن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفتها مفصلة ، لكنها إن عرفنا شيئاً من تفاصيلها فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل .
الرابعة : الآخرة صفة الدار تلك الدار الآخرة وهي من الصفات الغالبة تأنيث الآخر نقيض الأول وكذلك الدنيا تأنيث الأدنى لأنها أقرب ، واليقين هو العلم بالشيء ضرورة أو استدلالاً بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه ، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن ولا يقال تيقنت أن السماء فوقي أو أني موجود . وفي تقديم الآخرة وبناء « يوقنون » على « هم » تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ومن غير إيقان ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل على محمد وعلى غيره من الأنبياء ، وهذا في معرض المدح ومعلوم أنه لا يمدح بتيقن وجود الآخرة فقط ، بل به وبما يتبعه من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار . عن النبي صلى الله عليه وسلم « يا عجباً كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه ، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة ، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور ، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة » .
البحث السابع : في قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } الآية وفيه مسائل :
الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها نوى الابتداء « بالذين يؤمنون بالغيب » على سبيل الاستئناف و « أولئك على هدى » الجملة خبره ، كأنه لما قيل « هدى للمتقين » فخص المتقون بأن الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل فيقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح .

وهذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث نحو : قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان ، وتارة بإعادة صفته مثل : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك . فيكون الاستئناف بإعادة صفته مثل : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك . فيكون الاستئناف بإعادة الصفة كما في الآية أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه . وثانيها : أن يجعل « الذين » و « الذين » تابعاً للمتقين ، ويقع الاستئناف على « أولئك » كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فقيل : أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً . وثالثها : أن يجعل الموصول الأول صفة للمتقين ويرفع الثاني على الابتداء ، و « أولئك » خبره ، ويكون اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون في أنهم سيفلحون عند الله تعالى والفضل من هذه الوجوه لأولها لأن الكلام المبني على السؤال والجواب أكثر فائدة ، ولأن الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ ولأن السؤال على الوجه الأخير كالضائع ، لأن موجبات اختصاصهم بالهدى قد علمت . وأيضاً إنه يجعل الموصولين تابعاً والوجه الأول يجعل الموصول الأول ركناً من الكلام .
الثانية : الاستعلاء في قوله « على هدى » مثل لتمكنهم من الهدى كقولهم « هو على الحق وفلان على الباطل » وقد يصرح بذلك فيقال : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الحق ، واقتعد غارب الهوى . ومعنى « هدى من ربهم أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو إما اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي من الأفضل لأفضل ، وإما الإرشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه والدوام على ما عملوه . ونكر » هدى « ليفيد ضرباً من المبالغة أي هدى لا يبلغ كنهه . قال الهذلي :
فلا وأبي الطير المربة بالضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم
أي لحم وأي لحم . وأربّ بالمكان إذا أقام به ، والأب مقحم للاستعظام إذ الكنى إنما تكون للأشراف كما أن الإقسام بالطير أيضاً لاستعظامهن لوقوعهن على لحم عظيم ، وعن بعضهم الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء؟
الثالثة : في تكرير » أولئك « تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح فتميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين .

ووسط العاطف بينهما لاختلاف خبريهما بخلاف قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } [ الأعراف : 179 ] فإن التسجيل عليهم بالغفلة وعدّهم من جملة الأنعام شيء واحد .
الرابعة : « هم » فصل وفائدته بعد الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة التوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره . ويحتمل أن يكون « هم » مبتدأ و « المفلحون » خبره ، والجملة خبر « أولئك » .
الخامسة : المفلح الفائز بالبغية ، والمفلج بالجيم مثله كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر . وكذلك أخواته في الفاء والعين تدل على معنى الشق والفتح نحو : فلق ، وفلذ ، ومنه سمي الزارع فلاحاً . ومعنى التعريف في « المفلحون » إما العهد أي المتقون هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة ، أو الجنس على معنى أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيداً هو هو . فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة ، فإن في ذكره أيذاناً بأن ما يرد عقيبه . فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم ، وتكرير اسم الإشارة وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل ، اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدّرت بذكرهم أولى الزهراوين . قد ورد في الخبر « يحشر الناس يوم القيامة » ثم يقول الله عز وجل لهم : « طالما كنتم تتكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم ، إني رفعت نسباً وأبيتم إلا أنسابكم قلت : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم : لا بل فلان ابن فلان ، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي ، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، فسيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتقون » فليأخذ العاقل بحكمة الله تعالى وهو نوط الثواب وتعليق العقاب بالعمل الصالح والسيء إلا بما هو غير مضبوط من عفوه عن بعض المذنبين وردّة طاعة بعض المطيعين ، كما أن حكمته لما اقتضت ترتب الشبع والري على الأكل والشرب لم يعهد الاتكال على ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى قدرته من إشباع شخص أو إروائه من غير تناول الطعام والشراب أو بالعكس ، وهذه نكتة شريفة ينتفع بها من وفق لها إن شاء الله .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

القراآت : « أأنذرتهم » بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان . وروى الحلواني عن هشام « آءنذرتهم » بهمزتين بينهما مدة ، والباقون يهمزون الأولى ويلينون الثانية . والتليين جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركة الهمزة . « وعلى أبصارهم » ممالة : أبو عمرو وعلي غير ليث وابن حمدون وحمدويه وحمزة ، وفي رواية ابن سعدان وأبي عمرو . كذلك قوله عز وجل { بقنطار } و { بالأسحار } و { كالفخار } و { الغار } و { من أنصار } و { أشعارها } وأشباه ذلك حيث كان يعني إذا كان قبل الألف حرف مانع وبعدها راء مكسورة في موضع اللام ، لأن الراء المكسورة تغلب الحروف المستعلية . « غشاوة » بالفصل . وقرأ حمزة في رواية خلف وابن سعدان وخلف لنفسه . وأبو إسحق إبراهيم بن أحمد عن أبي الحرث عن علي وورش من طريق البخاري مدغمة النون والتنوين في الواو في جميع القرآن . « عظيم » بالإشمام في الوقف ، وكذلك إذا كانت الكلمة مكسورة : حمزة وعلي وخلف وهو الاختيار عندنا .
الوقوف : « لا يؤمنون » ( 5 ) « على سمعهم » ( ط ) لأن الواو للاستئناف . « غشاوة » ( ز ) لأن الجملتين وإن اتفقتا نظماً فالأولى بيان وصف موجود ، والثانية إثبات عذاب موعود . « عظيم » ( 5 ) التفسير : وفيه مسائل :
الأولى : فيما يتعلق بأن أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو . وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم « عبد الله قائم » إخبار عن قيامه ، وقولهم : « إن عبد الله قائم » جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : « إن عبد الله لقائم » جواب عن إنكار منكر لقيامه . وقد يضاف إليه القسم أيضاً نحو « والله إن عبد الله لقائم . قال أبو نواس :
عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في اليأس
حسن موقع » إن « لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن ، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك » إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء « وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم { قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } [ آل عمران : 36 ] وكذلك قول نوح { رب إن قومي كذبون } [ الشعراء : 117 ] .
الثانية : لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها ، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه . وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم }

[ الانفطار : 13 ، 14 ] لتباين الجملتين ههنا في الغرض والأسلوب ، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين ، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ، وذلك إذا جعلت « الذين يؤمنون » مبتدأ و « أولئك » خبره ، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال ، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعاً له في المعنى ، فحكمه حكم الأول . وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و « أولئك » خبره ، لأن الجملة برأسها من مستتبعات « هدى للمتقين » لارتباط بينهما من حيث المعنى . الثالثة : التعريف في « الذين » إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وإما أن يراد به الجنس متناولاً كل من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم .
الرابعة : الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان ، وقد تقدم . وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده ، والزارع كافر لأنه يستر الحب ، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء ، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه . قال في التفسير الكبير : « كفروا » إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الإخبار . فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث ، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير . قلت : التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين ، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي ، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو { لتدخلن المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب . ومن هذا يعلم أن قوله { سنلقي } ليس كونه مستقبلاً بالنظر إلى الأزل مقصوداً بالنسبة إلى المخاطبين ، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم .
الخامسة : « سواء » اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [ آل عمران : 64 ] { في أربعة أيام سواء للسائلين } [ فصلت : 10 ] يعني مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر « إن » و « أأنذرتهم أم لم تنذرهم » في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو : إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه . ويحتمل أن يكون أأنذرتهم أم لم تنذرهم « في موضع الابتداء ، و » سواء « خبر مقدم ، والجملة خبر » إن « . و إنما صح وقوع الفعل مخبراً عنه مع أنه أبداً خبر نظراً إلى المعنى كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن .

معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل ، فإن « أن » مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي ، وقد جردت الهمزة . و « أم » لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً . قال سيبويه : هذا مثل قولهم « اللهم اغفر لنا أيتها العصابة » يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام ، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء . ومعنى الاستواء في الداخل عليهما « الهمزة » و « أم » استواؤهما في علم المستفهم ، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين . والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان : أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم ، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب . وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجواً منهم الإيمان ، لا في علم الله تعالى بل في علمنا ، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير . أو نقول : فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغاً يصح أن يستفهم عنه لكونه خالياً عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه ، فإن قول القائل « الإنذار وعدمه مستويان عليهم » يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق ، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم . والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي ، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة ، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع . وقوله « لا يؤمنون » إما جملة مؤكدة للتي قبلها ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض .
السادسة : الختم والكتم أخوان ، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه . والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة . والقلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين ، ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بمواجب التكاليف { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } [ ق : 37 ] . وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده له { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }

[ النحل : 40 ] . كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق الذي هو نقيض ذلك { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] . وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 7 ، 8 ] وبالروح { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] والسمع قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطاً بعنف يحدث منه تموّج فاعل للصوت ، فيتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموّجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة تلك العصبة فتسمع قاله ابن سينا . ولعل هذا في الشاهد فقط ، وأما البصر فقال ابن سينا : هي قوة مرتبة في العصبة ا لمجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصيقلية . وزعم غيره أن البصر يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون من ذلك إبصار . وفي الأكثر يسمون ذلك الخارج شعاعاً . والحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة غلى القلب ، ولكل من العين والقلب نور . أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق ، فهو نور جزئي ومدركه جزئي ، وأما نور القلب فمفارق لأنه من عالم الأمر ، وهو نور كلي ومدركه كلي . وإدراك كل منهما عبارة عن وقوع مدركه في ذلك النور ، ولكل منهما بل لكل فرد من كل منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه . ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه ، أو يدركه أصغر مما هو عليه . ولا يلزم من قولنا « إن للبصر نوراً يقع في المرئي » أن يشتد النور إذا اجتمع بصراء كثيرة في موضع واحد قياساً على أنوار الكواكب والسرج ، فإن ذلك الانضمام من خواص الأنوار المحسوسات ، والملزومات المختلفة لا تستدعي الاشتراك في اللوازم . وهذا القدر من التحقيق في تفسير القلب والسمع والبصر كافٍ بحسب المقام . ثم اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية ، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } [ الجاثية : 23 ] ولهذا يوقف على « سمعهم » دون « قلوبهم » . وفي تكرير الجار إيذان باستقلال الختم على كل من القلب والسمع ، وإنما وحد السمع لوجوه منها : أمن اللبس كما في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . فإن زمانكم زمن خميص . إذ لا يلتبس أن لكل واحد بطناً ، ولهذا إذا لم يؤمن نحو فرسهم وثوبهم والمراد الجمع رفضوه . ومنها أن السمع في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فلمح الأصل ، ولهذا جمع الأذن في قوله { وفي آذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] .

ومنها أن يقدر مضاف محذوف أي على حواس سمعهم ، ومنها الاستدلال بما قبله وبما بعده على أن المراد به الجمع مثل { عن اليمين والشمائل } [ النحل : 48 ] { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] .
السابعة : من الناس من قال : السمع أفضل من البصر ، لتقديمه في اللفظ ولأنه شرط النبوة . فما بعث رسول أصم بخلاف البصر فمن الأنبياء من كان مبتلى بالعمى ، ولأن السمع سبب وصول المعارف ونتائج العقول إلى الفهم ، والبصر سبب وصول المحسوسات إلى المبصر . ولأن السمع يتصرف في الجهات الست دون البصر ، ولأن فاقد السمع في الأصل فاقد النطق ، بخلاف فاقد البصر . ومنهم من فضل البصر لأن متعلق الأبصار النور ، ومتعلق الأسماع الريح . والبصر يرى من بعيد دون السمع ، ولأن عجائب الله تعالى في تخليق العين أكثر منها في تخليق السمع . وقد أسمع الله كلامه موسى من غير سبق سؤال ونوقش في الرؤية وفي المثل « ليس وراء العيان بيان » . وفي العين جمال الوجه دون السمع . والحق أن من فقد حساً فقد فقد علماً وهو المتوقف على ذلك الحس . ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد ، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع . فكل من الحواس في موضعه ضروري ، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل ، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه .
الثامنة : الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون ، والإنذار وعدمه عليهم سيان . والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية ، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق ، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق ، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل . وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون : كيف ينشئ فيهم الكفر ثم يقول : لم تكفرون؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته . فتأولوا الآية على انها جارية مجرى قولهم « فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه » يريدون أنه بليغ في الثبات عليه ، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئاً ولا تفقه كقولهم « سال به الوادي » إذا هلك ، و « طارت به العنقاء » إذا أطال الغيبة . وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته ، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء ، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر .

إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم « بنى الأمير المدينة » أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف ، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم . أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً بهم من قولهم { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال : لا ، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة . وسئل عن أهل الجبر فقال : لا ، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد . وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد على الفعل فأيّ فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب؟ أو نقول : لما رجعنا إلى الفطرة السليمة وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه يترجح أحدهما على الآخر إلا المرجح ، وهذا يقتضي الجبر . ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان الاختيارية وبين حركات الجمادات والحركات الاضطرارية ، وذلك يقتضي مذهب الاعتزال فلذلك بقيت هذه المسألة في حيز الإشكال . قلت - وبالله تعالى التوفيق - : عندي أن المسألة في غاية الاستنارة والسطوع إذا لوحظت المبادئ ورتبت المقدمات ، فإن مبدأ الكل لو لم يكن قادراً على كل الممكنات وخرج شيء من الأشياء عن علمه وقدرته وتأثيره وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل . فالهداية والضلالة ، والإيمان والكفر ، والخير والشر ، والنفع والضر ، وسائر المتقابلات ، كلها مستندة ومنتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإردته . والآيات الناطقة بصحة هذه القضية كقوله تعالى { ولو شاء لهداكم أجمعين } [ النحل : 9 ] { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } [ السجدة : 13 ] { قل كل من عند الله } [ النساء : 78 ] كثيرة . وكذا الأحاديث « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » « كل شيء بقدر حتى العحز والكيس » « احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى » الحديث . فهذه القضية مطابقة للعقل والنقل ، وبقي الجواب عن اعتراضات المخالف . أما حكاية التنزيه عن الظلم والقبائح فأقول : لا ريب أنه تعالى منزه عن جميع القبائح ، ولكن لا بالوجه الذي يذكره المخالف إذ يلزم منه النقص من جهة أخرى وهو الخلل في مبدئيته للكل وفي كونه مالك الملك . بل الوجه أن يقال : إن لله تعالى صفتي لطف وقهر ، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك . ولا سيما ملك الملوك ، كذلك ، إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ، ومن منع ذلك كابر وعاند .

ولا بد لكل من الوصفين من مظهر ، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم من الأشرار مظاهر القهر ، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها ، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها . وههنا سر وهو أن اللطف والقهر والجنة والنار إنما يصح وجود كل من كل منهما بوجود الآخر ، فلولا القهر لم يتحقق اللطف ، ولولا النار لم تثبت الجنة ، كما أنه لولا الألم لم تتبين اللذة ، ولولا الجوع والعطش لم يظهر الشبع والري . ولله در القائل : « وبضدها تتبين الأشياء » . فخلق الله تعالى للجنة خلقاً يعملون بعمل أهل الجنة ، وللنار خلقاً يعملون بعمل أهل النار . ولا اعتراض لأحد عليها في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله . وههنا تظهر حقيقة الشقاوة والسعادة { فمنهم شقي وسعيد } [ هود : 105 ] الآية : وقال صلى الله عليه وسلم : « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات ، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد » الحديث . وإذا تؤمل فيما قلت ، ظهر أن لا وجه بعد ذلك لإسناد الظلم والقبائح إليه تعالى ، لأن هذا الترتيب والتمييز من لوازم الوجود والإيجاد كما يشهد به العقل الصريح ، ولا سيما عند المخالف القائل بالتحسين والتقبيح العقليين . وليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرفه وزيراً قريباً وبعضهم كناساً بعيداً لأن كلاً منهما من ضرورات المملكة ، وينسب الظلم إليه تعالى في تخصيص كل من عبيده بما خصص به ، مع أن كلاً منهم ضروري في مقامه؟! فهذا القائل بهدم بناء حكمته ، تعالى ، ويدعي أنه يحفظه فأفسد حين أصلح . وأما قوله « أي فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب » ففي غاية السخافة ، لأنا لما بينا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فكيف يبقى للمعترض أن يقول : لما جعل الله تعالى الشيء الفلاني سبباً وواسطة للشيء الفلاني؟ كما أنه ليس له أن يقول مثلاً لم جعل الشمس سبباً لإنارة الأرض؟ غاية ما في الباب أن يقول إذا علم الله تعالى أن الكافر لا يؤمن فلم يأمره بالإيمان ويبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأقول : فائدة بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سبباً وواسطة لاهتدائهم { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح . وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه

{ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة : 125 ] غاية ذلك إلزام الحجة وإقامة البنية عليهم ظاهراً { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً } [ القصص : 47 ] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء . وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضاً لغاية نقصانهم كما أن الأكمة ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه ، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار . وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلاً فأقول : لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي ، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة إلى الله تعالى ، فكأنه لا اختيار له . والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية ، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل ، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذراً من التطويل . ومن لم يستضئ بمصباح لا يستفيد بإصباح { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] .
التاسعة : العذاب مثل النكال؛ بناء ومعنى ، لأنك تقول : أعزب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول : نكل عنه . ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده . ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة . والفرق بين العظيم والكبير ، أن العظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعاً . تقول : رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره . ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله . ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه .
العاشرة : اتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار . وقال بعضهم : لا يحسن ، وفسروا قوله « ولهم عذاب عظيم » وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك ، لكن كرمه يوجب عليه العفو . وذكروا أيضاً دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم : التعذيب ضرر خالٍ عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به ، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب ، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة . وكقولهم : علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان ، فتكليفه أمراً متى لم يفعل ترتب عليه العذاب ، وما كان مستعقباً للضرر من غير نفع كان قبيحاً ، فلم يبق إلا أن يقال : لم يوجد هذا التكليف ، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب .

وكقولهم : إنه سبحانه هو الخالق لداعية المعصية ، فيقبح أن يعاقب عليها . وكقولهم : إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه . أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة ، أو سلبت عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون عن معاصيهم ، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله منهم توبتهم؟ ولم كان في الدنيا بحيث قال : { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وفي الآخرة بحيث لا يجيب دعاءهم إلا بقوله { اخسئوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] وأجيب بأن تعذيبهم نقل إلينا بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مصير إلى إنكاره ، والشبه التي تمسكتم بها تنهدم بانهدام قاعدة الحسن والقبح . وأقول : قد بينت بالبرهان النير في المسألة الثامنة أن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى ، وكل ما تقتضيه حكمته وكماله كان حسناً . ومن ظن أنه قبيح كان الخلل في عقله وقصور في فهمه ، فلا قبيح في النظر إلا وهو حسن من جهات أخرى لا يعلمها إلا منشئها وموجدها . وهل يستقبح أحد وقوع بعض الأحجار للملوك تيجاناً وبعضها للحشوش جدراناً ، أو وقوع بعض من الحديد سيفاً يتقلده الناس وبعضه نعلاً يطؤها الأفراس ، حيث يرى كلاً منهما في مصالح الوجود ضرورياً؟ ثم العذاب وهو بالحقيقة البعد من الله تعالى لازم للكفر والعصيان ، والملزوم لا ينفك من اللازم . وأما سبب عدم انتفاع الكافر والعاصي بالإيمان والتوبة بعد المفارقة ، فذلك أن محل الكسب هو الدنيا ، والتكليف بامتثال الأوامر والنواهي إنما وقع فيها . فليس لأحد أن يؤخر الامتثال إلى الآخرة . ألا ترى أنه لو قال طبيب حاذق لمريض : اشرب الدواء الفلاني في اليوم الفلاني فقصر وأخر حتى إذا مضى وقته وأشرف على الهلاك قال : إني أشرب الآن ، لم ينفعه ذلك الدواء ولا يسعه إلا الهلاك؟ وكذا لو قال ملك لواحد : افعل الأمر الفلاني في هذا الوقت ففعله في وقت آخر لم يعد ممتثلاً ولا ينفعه الائتمار به لأن غرض الامتثال قد فات ، ولا سيما إذا فعل بعد أن يرى أمارات الغضب وعلامات العذاب { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده ، وخسر هنالك الكافرون } [ غافر : 85 ] . صدق الله العظيم .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

القراآت : و « من الناس » ممالة . قرأ قتيبة ونصير في القرآن ما كان مكسوراً . « من يقول » مدغمة النون والتنوين في الياء حيث وقعت : حمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري . « بمؤمنين » غير مهموز : أبو عمرو وغير شجاع ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها من الأسماء . « وما يخادعون » : أبو عمرو وابن كثير ونافع . « فزادهم الله » وبابه مما كان ماضياً بالإمالة : حمزة ونصير وابن ذكوان من طريق مجاهد والنقاش بن الأخرم ههنا بالإمالة فقط . « يكذبون » خفيفاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف . قيل { وغيض } { وجيء } بالإشمام : علي وهشام ورويس . « السفهاء ألا » بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . « السفهاء ولا » بقلب الثانية واواً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع . « السفهاء وألا » بقلب الأولى واواً . روى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة : وكذلك ما أشبهها مما اختلف الهمزتان فيها إلا أن تكون الأولى منهما مفتوحة مثل { شهداء إذ } { وجاء إخوة } وأشباه ذلك . « مستهزءون » بترك الهمزة في الحالين : يزيد وافق حمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها ، وعن حمزة في الوقف وجهان : الحذف والتليين شبه الياء والواو . « طغيانهم » حيث كان بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو . « بالهدى » وما أشبهها من الأسماء والأفعال من ذوات الياء بالإمالة : حمزة وعلي وخلف . وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ، وكذلك كل كلمة تجوز الإمالة فيها وذلك طبعهم وعادتهم .
الوقوف : « بمؤمنين » ( م ) لما مر في المقدمة الثامنة : « آمنوا » ( ج ) لعطف الجملتين المتفقتين مع ابتداء النفي . « يشعرون » ( ط ) للآية وانقطاع النظم والمعنى ، فإن تعلق الجار بما بعده . « مرض » ( لا ) لأن الفاء للجزاء وكان تأكيداً لما في قلوبهم . « مرضاً » ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين . « يكذبون » ( 5 ) في « الأرض » ( لا ) لأن « قالوا » جواب « إذا » وعامله . « مصلحون » ( 5 ) « لا يشعرون » ( 5 ) « كما آمن السفهاء » ( ط ) للابتداء بكلمة التنبيه ، ومن وصل فليعجل رد السفه عليهم « لا يعلمون » ( 5 ) « آمنا » ( ج ) لتبدل وجه الكلام معنى مع أن الوصل أولى لبيان حالتيهم المتناقضتين وهو المقصود « شياطينهم » ( لا ) لأن « قالوا » جواب « إذاً » « معكم » ( لا ) تحرزاً عن قول ما لا يقوله مسلم ، وإن جاز الابتداء بإنما . « مستهزءون » ( 5 ) « يعمهون » ( 5 ) « بالهدى » ( ص ) لانقطاع النفس ولا يلزم العود لأن ما بعده بدون ما قبله مفهوم « مهتدين » التفسير : وفيه مباحث :
المبحث الأول : في قوله تعالى { ومن الناس من يقول } الآية .

وفيه مسائل :
الأولى : عن مجاهد قال : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين ، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين . فأقول : أحوال القلب أربع : الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم ، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق ، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل ، وخلو القلب عن كل ذلك . وأحوال اللسان ثلاث : الإقرار والإنكار والسكوت . كل منها بالاختيار أو بالاضطرار ، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسماً فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعاً لها في الذكر . ( النوع الأول ) : العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختياراً فصاحبه مؤمن حقاً بالاتفاق ، أو اضطراراً فهو منافق ، لأنه لولا الخوف لما أقرّ ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار . وإن انضم إليه الإنكار اضطراراً فهو مسلم لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] أو اختياراً فهو كافر معاند . وإن انضم إليه السكوت اضطراراً فمسلم حقاً لأنه خاف ، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذوراً أو اختياراً فمسلم أيضاً عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم « يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان » ( النوع الثاني ) الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختياراً فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا ، والأكثرون على إيمانه . أو اضطراراً فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول . وإن وجد معه الإنكار اختياراً فلا شك في كفره ، أو اضطراراً فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد . وإن وجد معه السكوت اضطراراً فمسلم بناء على إسلام المقلد ، أو ا اختياراً فكافر معاند . ( النوع الثالث ) : الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطراراً نفاق ، وكذا اختياراً لأنه أظهر خلاف ما أضمر . ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان ، وكذا مع السكوت . ( النوع الرابع ) : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختياراً ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا . وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر ، أما إذا كان اضطرارياً فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً . والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق ، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا نفاق . فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره ، ومنه « النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها » فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج .

الثانية : زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق ، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان . وقال الآخرون : المنافق أيضاً كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه . قال عز من قائل : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وأيضاً إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك . وأيضاً الكافر الأصلي على طبع الرجال ، والمنافق على طبيعة الخنائي . وأيضاً الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ، والمنافق رضي بالكذب . وأيضاً المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي ، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً وضرب لهم الأمثال الشنيعة .
الثالثة : قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة « الذين كفروا » كما تعطف الجملة على الجملة . وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي . حذفت الهمزة تخفيفاً ، مع لام التعريف كاللازم . وقوله « إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا » قليل . ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان . سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم . ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن . وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء . « ومن » في « من يقول » موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله { من المؤمنين رجال } [ الأحزاب : 23 ] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت ، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف . وإن لم يكن مفيداً من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس ، ولا يجوز أن تكون « من » موصولة حينئذ ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف ، فيبقى الكلام غير مفيد رأساً . وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو { ومنهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم ، ولا يجوز أن تكون « من » موصوفة إذ ذاك ، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضاً ، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين .

ومن البين أن مدلول قوله « وما هم بمؤمنين » معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعاً ، والضمير العائد إلى « من » يكون موحداً تارة باعتبار اللفظ نحو { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الأنعام : 25 ] ومجموعاً أخرى باعتبار المعنى مثل { ومنهم من يستمعون إليك } [ يونس : 42 ] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في « يقول » و « آمنا » . وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان ، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره . وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام . فإن قلت : إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك؟ قلت : إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم « عزير ابن الله » وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته . فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان . فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلاً للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر . والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية ، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده . فإن قلت : كيف طابق قوله « وما هم بمؤمنين » قولهم « آمنا » والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني بالعكس؟ قلت : لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة ، جيء بالجملة الأسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين ، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال : إنهم لم يؤمنوا . ونظير الآية قوله تعالى { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } [ البقرة : 167 ] . ثم إن قوله « وما هم بمؤمنين » يحتمل أن يكون مقيداً وترك لدلالة التقييد في « آمنا » . ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما .
البحث الثاني : في قوله { يخادعون الله } إلى { يكذبون } .
أعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء : أحدها المخادعة وأصلها الإخفاء ، ومنه سميت الخزانة المخدع . والأخدعان عرفان في العنق خفيان . وخدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً . والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه ، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية .

فإن قيل : مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة :
تلك الفتاة التي علقتها عرضاً ... إن الحليم ذا الإسلام يختلب
لم يجز أن يخدعوا . قلنا : كانت صورة صنعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون - صورة صنع الخادعين ، وصورة صنع الله معهم - حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم - حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم . ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه ، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته ، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي ، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم . ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] . ويحتمل أن يكون من قولهم « أعجبني زيد وكرمه » فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله ، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص . ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [ الأحزاب : 57 ] وقولهم « علمت زيداً فاضلاً » الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد ، لأن زيداً كان معلوماً له قديماً كأنه قيل : علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيداً . ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال : عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة « فاعلت » لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه . « ويخادعون » بيان ليقول ، ويجوز أن يكون مستأنفاً كأن قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين؟ فقيل : يخادعون . وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم واطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم . والسؤال الذي يذكر ههنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين ، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولا سيما في تفسير قوله تعالى { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] وقراءة من قرأ { وما يخادعون إلا أنفسهم } [ البقرة : 9 ] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن مكرهاً يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله

{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ، وأنفسهم أيضاً تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب . وأن يراد « وما يخدعون » فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة . والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه . والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له . والمرض حالة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن موضوعها ، واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة بأن يراد الألم كما تقول : في جوفه مرض . ومجازاً بأن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي ، فإن صدورهم كانت تغلي على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلاً وحنقاً { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [ آل عمران : 119 ] وناهيك بما كان من ابن أبي ، وقول سعد بن عبادة لرسول له صلى الله عليه وسلم اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة - وذلك شيء منظوم بالجواهر شبه التاج - أي يجعلوه ملكاً ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك . أو يراد ما يداخل قلوبهم من الضعف والخور لأنهم كانوا يطمعون أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تركد ، فكانت تقوى قلوبهم بذلك الطمع . فلما شاهدوا شوكة المسلمين وإعلاء كلمة الحق وما قذف الله في قلوبهم من الرعب ضعفت جبناً وخوراً . ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فكفروا به ازدادوا كفراً إلى كفرهم ، فأسند الفعل إلى المسبب له كما أسند إلى السورة في قوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وهذا كما قال الحكيم : البدن الغير النقي كلما فدوته زدته شراً . وكلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً ازدادوا حسداً وبغضاً . ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع ، ويحتمل أن يقال : الغل والحسد قد يفضي إلى تغير مزاج القلب ويؤدي إلى تلف صاحبه كقوله :
اصبر على مضض الحسو ... د فإن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
فإفضاء صاحبه إلى الهلاك هو المعني بالزيادة . والأليم الوجيع . ووصف العذاب به على طريقة قولهم « جد جده » والألم بالحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد . والمراد بكذبهم قولهم { آمنا بالله وباليوم الآخر } . وفي ترتب الوعيد على الكذب دليل على قبح الكذب وسماجته . وما يروى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه كذب ثلاث كذبات أحدها قوله

{ إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وثانيها قوله لسارة حين أراد أن يغصبها ظالم « إنها أختي » وثالثها قوله { بل فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : 63 ] فالمراد التعريض « إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب » ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به . والكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به ، وقد يعتبر فيه علم المخبر بكون المخبر عنه مخالفاً للخبر ، والصدق نقيضه . وقراءة من قرأ « يكذبون » بالتشديد إما من كذبه الذي هو نقيض صدقه ، وإما من كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل « صدق » نحو : بان الشيء وبين الشيء ومنه قوله :
قد بين الصبح لذي عينين ... أو بمعنى الكثرة نحو « موتت البهائم » ، أو من قولهم « كذب الوحشي إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظر ما وراءه » لأن المنافق متوقف متردد في أمره مذبذب بين ذلك . وقال صلى الله عليه وسلم : « مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة » وما في قوله « بما كانوا » مصدرية أي بكذبهم ، وكان مقحمة لتفيد الثبوت والدوام أي بسبب أن هذا شأنهم وهجيراهم .
البحث الثالث : في قوله تعالى { وإذا قيل لهم لا تفسدو في الأرض } إلى قوله } ولكن لا يشعرون } .
هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين . فقوله « وإذا قيل » إما معطوف على « كانوا يكذبون » أي ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وبما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا ، وإما على « يقول » أي ومن الناس من إذا قيل له . ويحتمل أن يقال الواو للاستئناف ، وإسناد « قيل » إلى « لا تفسدوا » و « آمنوا » ليس من إسناد الفعل إلى الفعل فإنه لا يصح ، ولكنه إسناد إلى لفظ الفعل . أي وإذا قيل لهم هذا القول نحو : زعموا مطية الكذب . والقائل لهم إما النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك نصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح ، وإما بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبل منهم ويعظمهم ، وإما بعض المؤمنين ، ولا يجوز أن يكون القائل ممن لا يختص بالدين . والفساد خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة . عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالإفساد المنهي عنه إظهار معصية الله تعالى ، فإن الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه ، فحقنت الدماء وضبطت الأموال وحفظت الفروج وكان ذلك صلاح الأرض وأهلها . وأما إذا أهملت الشريعة وأقدم كل واحد على ما يهواه ، اشتعلت نوائر الفتن من كل جانب ، وحدثت المفاسد .

وقيل : هو مداراة المنافقين الكافرين ومخالطتهم إياهم لأنهم إذا مالوا إلى الكفار مع أنهم في الظاهر مؤمنون ، أوْهَمَ ذلك ضعف أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيصير سبباً لطمع الكفار في المؤمنين ، فتهيج الفتن والحروب . وقيل : كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ويلقون الشبه ويفشون أسرار المؤمنين ، ولما نهوا عن الإفساد في الأرض كان قولهم « إنما نحن مصلحون » كالمقابل له . فههنا احتمالات : أحدها : أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين ، فزعموا أنهم مصلحون . وثانيها : إذا فسر الإفساد بموالاتهم الكافرين أن يكون مرادهم أن الغرض من تلك الموالاة هو الإصلاح بين المسلمين كقولهم فيما حكى الله سبحانه { إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } [ النساء : 62 ] وثالثها : أن يكون المراد إنكار إذاعة أسرار المسلمين ونسبة أنفسهم إلى الاستقامة والسداد ، وجيء بأداة القصر دلالة على أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت ، أي حالنا مقصورة على الإصلاح لا تتعداه إلى غيره . « وألا » مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ، فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها كقوله تعالى { أليس ذلك بقادر } [ القيامة : 40 ] ولإفادتها التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم . وأختها التي هي « أما » من مقدمات اليمين وطلائعها . قال :
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
رد الله ما ادعوه من الانضمام في زمرة المصلحين أبلغ رد من جهة الاستئناف ، فإن ادعاءهم ذلك مع توغلهم في الفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكمهم ، فرد الله عليهم . وكان وروده بدون الواو هو المطابق ، ومن جهة ما في « ألا » وفي « أن » من التأكيد ، ومن قبيل تعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله « لا يشعرون » .
البحث الرابع : في قوله { وإذا قيل لهم آمنوا } الآية .
هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين ، وذلك أن المؤمنين أتوهم في النصيحة من وجهين : أحدهما : تقبيح ما كانوا عليه مما يجرّ إلى الفساد والفتنة ، والثاني : دعوتهم إلى الطريقة المثلى من اتباع ذوي الأحلام . وبعبارة أخرى أمرهم أولاً بالتخلية عما لا ينبغي ، وثانياً بالتحلية بما ينبغي لأن كمال حال الإنسان في هاتين . وكان من جوابهم فيما بينهم أو للقائل أن سفهوهم لتمادي سفههم ، وفي هذا تسلية للعالم إذا لم يعرف حقه الجاهل .
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وما في « كما » يجوز أن تكون كافة تصحح دخول الجار على الفعل وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة كقولك : يكتب زيد كما يكتب عمرو ، أو زيد صديقي كما عمرو أخي . ويجوز أن تكون مصدرية مثلها في { بما رحبت } [ التوبة : 25 ، 118 ] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون أي ليكن إيمانكم ثابتاً كما أن إيمان هؤلاء ثابت ، أو ليحصل إيمانكم كحصول إيمان هؤلاء ، أو آمنوا كما آمن عبد الله بن سلام وأتباعه لأنهم من جلدتهم أي كما آمن أصحابكم .

ويحتمل أن تكون للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية من الإقرار اللساني الناشئ عن الاعتقاد القلبي ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس ومن عداهم كالنسناس في عدم التمييز بين الحق والباطل . والاستفهام في « أنؤمن » في معنى الإنكار ، واللام في « السفهاء » مشار بها إلى الناس كقولك لصاحبك : إن زيداً قد سعى بك . فتقول : أوقد فعل السفيه؟ أو للجنس وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه وهو ضد الحلم ، وأصله الخفة والحركة يقال : تسفهت الريح الشجر إذا مالت به ، قال ذو الرمة :
جرين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
وإنما سفهو المؤمنين مع رجحان عقول أهل الإيمان ، لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر الصحيح اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، ولأنهم كانوا في رياسة وثروة وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موالٍ كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم كما قال قوم نوح { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ] أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه لما غاظهم من إسلامهم وفتَّ في أعضائهم . عن أنس أنه سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض مخترف ، فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي . فما أوّل أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال صلى الله عليه وسلم : « أخبرني بهن جبريل آنفاً . أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الوالد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت » . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني . فجاءت اليهود فقال : أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا . قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام . قالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا فانتقصوه . قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله . ثم إن الله تعالى ألقى عليهم هذا اللقب مقروناً بالمؤكدات التي بيناها في قوله « ألا إنهم هم المفسدون » وذلك أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفه فهو السفيه ، وكذا من باع آخرته بدنياه .

قال صلى الله عليه وسلم : « الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » وأيضاً من السفه معاداة المحمديين { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] .
كالطود يحقر نطحة الأوعال ... إنما فصلت هذه الآية « بلا يعلمون » والتي قبلها « بلا يشعرون » لأن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري ، وأما النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات ، وخصوصاً عند العرب في جاهليتهم . وما كان قائماً بينهم من التحارب والتجاذب فهو كالمحسوس المشاهد ، ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له .
البحث الخامس : في قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا } الآيات .
هذا هو النوع الرابع من قبائح أفعالهم ، والفرق بين هذه الآية وبين قوله « ومن الناس من يقول آمنا » أن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان معاملتهم مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم . عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن أبي : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم . فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحباً بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، الباذل نفسه وماله ، ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحباً بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال : مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله . ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت ، فأثنوا عليه خيراً . فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت . ويقال : لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه . وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، ويجوز أن يكون من خلال بمعنى مضى ، وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ، ومنه القرون الخالية ، أو من خلوت به إذا سخرت منه وهو من قولك « خلا فلان بعرض فلان » عبث به ، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول : أحمد إليك فلاناً أو أذمه إليك أي أنهي إليك حمدي لفلان أو ذمي . وعن ابن عباس : إني أحمد إليك عسل الإحليل أي أعلمكم أنه أمر محمود . وشياطينهم رؤساؤهم وأكابرهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم . وهم إما أكابر المنافقين فالقائلون . إنا معكم أي مصاحبوكم وموافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم ، وإما أكابر الكافرين فالقائلون يحتمل أن يكون جميع المنافقين .

وإنما فسرنا الشياطين بالرؤساء لأنهم هم القادرون على الإفساد في الأرض ، وإنما خاطبوا المؤمنين بأضعف الجملتين وهي الفعلية ، وشياطينهم بأقواهما أعني الاسمية المحققة بان لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان الناشئ عن صميم القلب منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان كاملون ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه وهكذا كل قول لم يصدر عن صدق رغبة وباعث داخلي ، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على وجه التوكيد وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار القائلين « ربنا إننا آمنا » وإما مخاطبة إخوانهم فعن وفور نشاط ورغبة وفي حيز القبول والرواج فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد ، وإنما فقد العاطف بين قوله « إنا معكم » وبين قوله « إنما نحن مستهزءون » الأوّل معناه الثبات على الكفر ، والثاني ردّ للإسلام . لأن المستهزئ بالشيء منكر له دافع ، ودفع نقيض الشيء إثبات وتأكيد للشيء . أو لأن الثاني بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو لأنه استئناف كأنه قيل : ما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا : إنما نحن مستهزءون . والاستهزاء السخرية والاستخفاف ، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع . ثم إن الله تعالى أجابهم بأشياء : أحدها قول الله « يستهزئ بهم » وهو استئناف في غاية الجزالة والفخامة ، كأنه سئل ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟ فقيل : الله يستهزئ بهم . وفي الالتفات من الحكاية إلى المظهر ، أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي استهزاؤهم بالنسبة إلى ذلك كالعدم . وفي تخصيص الله بالذكر مع قرينة أن المؤمنين هم الذين استهزئ بهم دلالة على أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله . فإن قيل : الاستهزاء جهالة { قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] فما معنى استهزاء الله بهم؟ قلنا : معناه إنزال الهوان والحقارة بهم وهو المقصد الأقصى للمستهزئ ، أو سمي جزاء الاستهزاء استهزاء مثل { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] أو عاملهم الله معاملة المستهزئ في الدنيا لأنه كان يطلع الرسول على أسرارهم مع كونهم مبالغين في إخفائها ، وفي الآخرة على ما روي عن ابن عباس : إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار ، فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين ، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة - وأهل الجنة ينظرون إليهم - فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذلك قوله تعالى { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون } [ المطففين : 34 ] فهذا هو الاستهزاء ، وإنما لم يقل الله مستهزئ ليكون طبقاً لقوله « إنما نحن مستهزءُون » لأن المراد تجدد الاستهزاء بهم وقتاً بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ونزول الآيات في شأنهم

{ أو لايرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } [ التوبة : 26 ] { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون } [ التوبة : 64 ] وثانيها قوله و « ويمدهم في طغيانهم » هو من مد الجيش أمده إذا زاده وألحق به ما يقوّيه ، وكذلك مد الدواة والسراج زادهما ما يصلحهما . وإنما قلنا : إنه من المدد لا من المد في العمر والإمهال لقراءة نافع في موضع آخر { وإخوانهم يمدونهم في الغي } [ الأعراف : 202 ] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كأملى له قاله في الكشاف ، وهو مخالف لنقل الجوهري مده في غيه أي أمهله . والطغيان الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ ، ومعنى مدد الله تعالى إياهم في الطغيان يعرف من تفسير { ختم الله على قلوبهم } وقد يوجه بأنه لما منعهم ألطافه التي منحها المؤمنين بقيت قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في صدور المؤمنين ، فسمي ذلك التزايد مدداً . أو بأنه لم يقسرهم ، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره ، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف ، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب . ومن هذا القبيل ما قيل : إن النكتة في إضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم ، وأن الله بريء منه ، فإن الانتهاء إلى الله تعالى لما كان ضرورياً فكيف يتبرأ من ذلك؟ « ويعمهون » في موضع الحال . والعمه كالعمى ، إلا أن العمى في البصر وفي الرأي ، والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه . وثالثها : قوله { أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى } أي اختاروها عليه واستبدلوها به ، وهذه استعارة لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم :
أخذت بالجمة رأساً أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمراً جيدراً ... كما اشترى الملم إذ تنصرا
وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل : تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة . جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم ، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء . وفي المثل « ضل دريص نفقة » أي جحره ، والدرص ولد الفأرة ونحوها ، يضرب لمن يعيا بأمره . فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين . والربح الفضل على رأس المال ، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسناداً مجازياً لملابسة التجارة بالمشترين . وقد يقال : ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازاً إذا دلت الحال .

ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله :
ولما رأيت النسر عز ابن دأية ... وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر . « وما كانوا مهتدين » لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان : سلامة رأس المال والربح . وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة ، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض ، فلا ربح ولا رأس المال . وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين ، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وإذا أقبل الليل من ههنا أدبر النهار من ههنا نعوذ بالله من الغواية ، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

القراآت : « آذانهم » وبابه بالإمالة : نصير وأبو عمر . « بالكافرين » وما أشبهها مما كان في محل الخفض بالإمالة : أبو عمر وقتيبة ونصير وأبو عمرو ويعقوب غير روح . « شاء الله » حيث كان بالإمالة : حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان .
الوقوف : « ناراً » ( لا ) لأن جواب « لما » منتظر لما فيها من معنى الشرط مع دخول فاء التعقيب فيها . « لا يبصرون » ( 5 ) « لا يرجعون » ( 5 ) للعطف بأو وهو للتخيير ، ومعنى التخيير لا يبقى مع الفصل . ومن جعل « أو » بمعنى الواو جاز وقفه لعطفه الجملتين مع أنها رأس آية . وقد اعترضت بينهما آية على تقدير ومثلهم كصيب . « وبرق » ( ج ) لأن قوله « يجعلون » يحتمل أن يكون خبر المحذوف ، أي هم يجعلون ، أو حالاً عامله معنى التشبيه في الكاف ، وذو الحال محذوف أي كأصحاب صيب . « الموت » ( ط ) « بالكافرين » ( 5 ) « أبصارهم » ( ط ) لأن كلما استئناف . « فيه » ( لا ) لأن تمام المقصود بيان الحال المضاد للحال الأول « قاموا » ( ط ) و « أبصارهم » ( ط ) « قدير » ( 5 ) .
التفسير : لما جاء بحقيقة صفة المنافقين عقبها بضرب المثل تتميماً للبيان . ولضرب الأمثال شأن ليس بالخفي في رفع الأستار عن الحقائق حتى يبرز المتخيل في معرض اليقين ، والغائب كأنه شاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد . ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتبه أمثاله { وتلك الأمثال نضربها للناس } [ الحشر : 21 ] وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم « مثل الدنيا مثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع » « مثل الجليس الصالح كمثل الداري » وأمثال العرب أكثر من أن تحصى ، حتى صنف فيها ككتب مشهورة . والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثيل وهو النظير ، ثم قيل للقول السائر المشبه مضربه بمورده مثل . ولا يخلو من غرابة ، ومن ثم حوفظ عليه من التغيير . وأما ههنا فاستعير المثل للحال أو الصفة أو القصة التي فيها غرابة ولها شأن ، شبهت حالهم العجيبة الشأن من حيث إنهم أوتوا ضرباً من الهدى بحسب الفطرة ، ولما نطقت به ألسنتهم من كلمة الإسلام فحقنوا دماءهم وأموالهم عاجلاً ، ثم لم يتوصلوا بذلك إلى نعيم الأبد باستبطانهم الكفر فيؤل حالهم إلى أنواع الحسرات وأصناف العقوبات بحال الذي استوقد ناراً في توجه الطمع إلى تسني المطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب . والمراد بالذي استوقد إما جمع كقوله { وخضتم كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] وحذف النون لاستطالته بصلته ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً ، ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعاً في قوله « بنورهم وتركهم » لم يحتج إلى التكلفات المذكورة ، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو ،

{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار } [ الجمعة : 5 ] ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها ، وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضاً . والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق ، والنور ضوءها وضوء كل نير واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ، لأن فيها حركة واضطراباً والإضاءة فرط الإنارة { جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } [ يونس : 5 ] وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية ، مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ، أو يستتر في الفعل اللازم ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن « ما » مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة ، و « حوله » نصب على الظرف ، وتأليفه للدوران والإطافة ، والعام حول لأنه يدور . وجواب « لما ذهب الله بنورهم » فالضمير يعود إلى الذي استوقد نظراً إلى المعنى ، كما أن الضمير في « حوله » راجع إليه من حيث اللفظ . وقيل : الأولى أن يقال : جوابه محذوف مثل { فلما ذهبوا به } لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من الذكر في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله كان ما كان من حصولهم خابطين في ظلام متحيرين خائبين فيها بعد الكدح في إحياء النار . ثم إن سائلاً كأنه يسأل : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم أي بنور المنافقين ، وعلى هذا يحتمل أن يكون الذي مفرداً ، ويمكن أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان أي مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، وكمثل الذي ذهب الله بنورهم . ومعنى إسناد الفعل إلى الله أنه إذا أطفئت النار بسبب سماوي كريح أو مطر فقد أطفأها الله وذهب بنور المستوقد ، أو يكون المستوقد مستوقد نار لا يرضاها الله . ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام ، وتلك النار ، متقاصرة مدة اشتعالها وإضاءتها ، فمنافعها الدنيوية قليلة البقاء ، وللباطل صولة ، ثم تضمحل ، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت . ونار العرفج مثل لثروة كل طماح { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } [ المائدة : 64 ] وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيش فأطفأها الله وخيب أمانيهم . وإنما لم يقل ذهب الله بضوئهم على سياق « فلما أضاءت » لأن ذكر النور أبلغ في الغرض وهو إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً ، فإن الضوء شدة النور وزيادته ، وذهاب الأصل يوجب زوال الزيادة عليه دون العكس .

والفرق بين « أذهبه » و « ذهب به » أن معنى « أذهبه » أزاله وجعله ذاهباً ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه . وذهب السلطان بماله أخذه وأمسكه . وما يمسك الله فلا مرسل له ، فهو أبلغ من الإذهاب ، وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، وإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة :
« فتركته جزر السباع ينشنه » ... ومنه قوله تعالى { وتركهم في ظلمات } والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير ، وقيل : عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم « ما ظلمك أن تفعل كذا » أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية . وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان ، وفي قوله « لا يبصرون » دلالة على أن الظلمة بلغت مبلغاً يبهت معها الواصفون . وكذا في إسقاط مفعول « لا يبصرون » وجعله من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً . ومحل « لا يبصرون » إما جر صفة لظلمات أي لا يبصرون فيها شيئاً ، وإما نصب مفعولاً ثانياً ، أو حالاً من هم مثل { ويذرهم في طغيانهم يعمهون } [ الأعراف : 186 ] أي حال كونهم ليسوا من أهل الأبصار . عن سعيد بن جبير : نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلما خرج كفروا به . وكان انتظارهم له كإيقاد النار ، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور ثم إنه كان من المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون ، لكنهم شبهوا بمن إيفت مشاعرهم فقيل لهم : صم بكم عمي ، حيث سدوا عن الإصاغة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن تنطق به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويستبصروا بعيونهم . وإنما قلنا : إن ما في الآية تشبيه لا استعارة مع أن المشبه مطوي ذكره كما هو حق الاستعارة ، لأن ذلك في حكم المنطوق به وإلا بقي الخبر بلا مبتدأ . ومعنى « لا يرجعون » لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها تسجيلاً عليهم بالطبع ، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدؤا منه كيف يرجعون .
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
ومثله حال مريد طريقة الذي له بداية ولازم خلوته وصحبته حتى شرقت له من صفات القلب شوارق الشوق ، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق ، فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس فيرجع القهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة ، فغابت شمسه وأظلمت نفسه وفضل عن يومه أمسه . ثم إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلاً آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف ، وإيضاحاً غب إيضاح ، لأن المقام مقام تفصيل وإشباع .

فيكون تقدير الكلام « مثل المنافقين كمثل المستوقدين أو كمثل ذوي صيب » على معنى أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين فإنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت أو بهما جميعاً نحو : جالس الحسن أو ابن سيرين . والتمثيلان جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفردة ، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به ، بل تراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام وهي أنهم في مقام الطمع في حصول المطالب . ونجح المآرب لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال وشدائد الأحوال ، ولا يخفى أن التمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ، ولذلك أخرج تدرجاً من الأهون إلى الأغلظ ، وإنما قدرنا المضاف المحذوف حيث قلنا : أو كمثل ذوي صيب مع أنه لا يلزم في التشبيه المركب أن يلي حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به . ألا ترى إلى قوله تعالى { إنما مثل الحياة الدنيا كماء } [ يونس : 24 ] كيف ولي الماء الكاف إذ التشبيه مركب ، لأن الضمير في « يجعلون » لا بد له من راجع هذا هو التحقيق . وقد يقال : شبه دين الإسلام بالصيب ، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يحوم حوله من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة من الإفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق . وعلى هذا يكون تقدير المضاف ضرورياً ليصبح تشبيه المنافقين بهم ، ويكون المعنى « مثلهم كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة ، فلقوا منها ما لقوا » ويكون ذكر المشبهات مطوياً على سنن الاستعارة . والصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع . ويقال للسحاب : صيب أيضاً . وتنكير صيب للدلالة على أنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول . والسماء هذه المظلة ، والفائدة في ذكره ، والصيب لا يكون إلا من السماء ، أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، ولكنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء . وكما جاء بصيب وفيه مبالغات من جهة التركيب من ص وب والبناء على « فيعل » والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقاً ، واعلم أنه إذا وقعت القوى الفلكية على العناصر بإذن الله تعالى فحركتها وخالطتها ، حصل من اختلاطها موجودات شتى . فإذا هيج الفلك بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية ، أو دخن من الأجسام الأرضية وأثار شيئاً بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية . أما الدخان فإنه قد يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل ، وربما سرى فيه الاشتعال فتراءى كأن كوكباً يقذف به ، وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرأيت العلامات الهائلة الحمرة والسواد .

وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً فيتراكم وتكثر مدته في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع ، فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً . ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً ، فينزل كما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم سحاباً وهذا هو الطل ، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب ، فنزل وكان ثلجاً ، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل ، فنزل وكان صقيعاً وهو ما يسقط بالليل من السماء شبيهاً بالثلج ، وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً . وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب ، وفي الربيع وهو داخل السحاب ، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة ، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً فاستحال مطراً . وأما الجواهر البخارية والدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة ، فمنها ما يتخلص من الأرض فتكون منها الرياح وإذا تصعدت فتميز البخار من الدخان انعقد البخار سحاباً فبرد فتغلغل فيه الدخان طلباً للنفوذ إلى العلو فحصل من تغلغله فيه ضرب من الرعد وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف ، وربما امتد ذلك التغلغل لكثرة وصول المواد ، ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد ، أو يكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فيندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة ناراً تبرق فتشق السحاب شعلة كجمر يطفأ فيسمع من ذلك ضرب من الرعد . وإن كان قوياً شديداً غليظ المادة كان صاعقة ، وربما وجد مندفعاً فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد واشتعال . فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه وتعالى . ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول : ارتفع « ظلمات » بالظرف على الاتفاق من سيبويه والأخفش لاعتماده على موصوف . والصيب إن كان سحاباً فظلماته سمجته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل ، وإن كان مطراً فظلماته تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال الغمام مع ظلمة الليل . ثم إن كان الصيب سحاباً فكونه مكاناً للرعد والبرق ظاهر ، وإن كان مطراً فكونهما متلبسين به في الجملة سوغ ذلك ، وإنما لم يجمع الرعد والبرق كما قال البحتري :
يا عارضاً متلفعاً ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده
وكما قيل ظلمات لأنهما في الأصل مصدران فروعي حكم الأصل ، ويمكن أن يراد بهما الحدث كأنه قيل : وإرعاد وإبراق . ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف . وجاز رجوع الضمير في « يجعلون » إلى أصحاب الصيب لأنه في حكم المذكور . قال حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل

ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردى وهي واد بدمشق . والبريص نهر من أنهارها . ويصفق أي يمزج والرحيق الخمر . ولا محل لقوله « يجعلون » لكونه مستأنفاً كأنه قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم . ثم سئل : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فاجيب « يكاد البرق يخطف أبصارهم » وإنما لم يقل أناملهم مع أنها هي التي تجعل في الآذان لأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل ، ولأن اسم الكل قد يطلق على البعض نحو { فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] والمراد إلى الرسغ . وليس بعض الأصابع - كالمسبحة مثلاً بجعلها في الأذن - أولى من بعض حتى يقال لم ذكر العام والمراد الخاص؟ وقوله « من الصواعق » أي من أجل الصواعق نحو : سقاه من العيمة . وقد تحصل مما ذكرنا أن الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود . يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ، ثم طفئت . ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته . فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق ، وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية ، أو مصدراً كالعافية والكاذبة . « وحذر الموت » مفعول له كقوله :
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً
والموت فساد بنية الحيوان . وقيل : عرض معاقب للحياة لا يصح معه إحساس . وإحاطة الله بالكافرين مجاز أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ، والجملة معترضة لا محل لها . « يكاد » من أفعال المقاربة . كاد يفعل كذا يكاد كوداً ومكاداً ومكادة وضعت لمقاربة الشيء ، فعل أو لم يفعل . فمجرده ينبئ عن نفي الفعل ، ومقرونه بالجحد ينبئ عن وقوع الفعل . وخبر كاد فعل مضارع بغير « أن » وهو ههنا « يخطف » والبرق اسمه والخطف الأخذ بسرعة ، « كلما أضاء لهم » استئناف ثالث كأنه قيل : كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وفتوره؟ وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه والمفعول محذوف ، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره . والمشي جنس الحركة المخصوصة وفوقها السعي وفوقه العدو . « وأظلم » إما لازم وهو الظاهر ، وإما متعد منقول من ظلم الليل أي أظلم البرق الطريق عليهم بأن فتر عن لمعانه ، ومعنى « قاموا » وقفوا وثبتوا في مكانهم من قام الماء جمد . وإنما قيل مع الإضاءة « كلما » ومع الإظلام « إذا » لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه ، وكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها فخطوا خطوات يسيرة ، وليس كذلك التوقف والتحبس ، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي الضوء البرق فأعماهم .

=========

ج1و2.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

ج2. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


ومفعول « شاء » محذوف ، لأن الجواب يدل عليه . والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، وهذا الحذف في « شاء » و « أراد » كثير لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله :
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وقال عز من قائل { لو أرذنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه } [ الأنبياء : 17 ] وكلمة « لو » تفيد انتفاء الثاني لانتفاء الأول . وقد تجيء للمبالغة كقوله « نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه » والمراد أن عدم العصيان ثابت على كل حال لأنه على تقدير عدم الخوف ثابت ، فعلى تقدير الخوف أولى . والشيء أعم العام كما أن الله أخص الخاص ، يجري على الجوهر والعرض والقديم والحادث بل على المعدوم والمحال . وهذا العام مخصوص بدليل العقل ، فمن الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل والواجب وجوده لذاته ، وأما الممكن فإبقاؤه على العدم وكذا إيجاده وإبقاؤه على وجوده ، لأن جميع ذلك بقدرة القادر فلا يستغنى آناً من الآنات ولحظة من اللحظات عن تأثير القادر فيه . وقدرة كل قادر على مقدار قوته واستطاعته ، ونقضيها العجز . فلا قادر بالحق إلا هو سبحانه وتعالى .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

القراآت : « خلقكم » مدغماً : أبو عمرو وكذلك كل ما كان قبلها متحرك . وازاد عباس كل ما كان قبلها ساكن مثل { ما خلقكم } { وصديقكم } و { بورقكم } و { ميثاقكم } وأشباه ذلك . قال ابن مجاهد : يدغمها بإظهار صوت القاف . وقال غيره - وهو ابن مهران - لا يظهر ذلك وكل صواب .
الوقوف : « تتقون » ( 5 ) لأن « الذي » صفة الرب تعالى . « بناء » ( ص ) لعطف الجملتين المتفقتين « لكم » ( ج ) لانقطاع النظم مع فاء التعيب . « تعلمون » ( 5 ) .
التفسير : لما قدم الله تعالى أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم ومجاري أمورهم عاجلاً وآجلاً ، أقبل عليهم بالخطاب وهو من جملة الالتفات الذي يورث الكلام رونقاً وبهاء ويزيد السامع هزة ونشاطاً . ومن لطائف المقام أنه تعالى كأنه يقول : جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة . وفيه إشعار بأن العبد مهما اشتغل بالعبودية زاد قرباً وحضوراً . وأيضاً الآيات المتقدمة حكايات أحوالهم وهذه أمر وتكليف وفيه كلفة ومشقة ، فلا بد من راحة وهي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته ، فيستطاب التكليف بالتكليم حينئذ ويستلذ هذا . وقد صح الإسناد عن علقمة أن كل شيء نزل فيه « يا أيها الناس » فهو مكي و « يا أيها الذين آمنوا » فهو مدني فقوله { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } خطاب لمشركي مكة بحسب هذا النقل ، وإن كان من الجائز أن يخاطب المؤمنون باسم جنسهم ويؤمروا بالاستمرار على العبادة والازدياد منها . « ويا » حرف وضع لأجل التخفيف مقام أنادي الإنشائية لا الإخبارية . وههنا نكتة وهي أن أقوى المراتب الاسم ، وأضعفها الحرف ، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف ، فكذا أقوى الموجودات هو الحق سبحانه وأضعفها البشر { وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] فقالت الملائكة : ما للتراب ورب الأرباب { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] فقيل لهم : قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء ، فكذا البشر يصلح لحضرة الرب حال التضرع والدعاء { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ البقرة : 186 ] { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] و « يا » وضع في أصله لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديراً لكونه ساهياً أو غافلاً أو نائماً ، أو لتبعيد المنادي نفسه عن ساحة عزة المنادى هضماً واستقصاراً كقول الداعي في جؤاره : يا رب يا الله . مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد ، ليتحقق الإجابة بمقتضى قوله « أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي » وقد ينادي القريب .

( 3 ) المقاطن في غير هذه الصورة بيا ويكون المراد به أن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جداً نحو { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 183 ] { يا عبادي } [ الزمر : 53 ] { يا أيها النبي } [ الأحزاب : 45 ] لأن ما يعقبها أمور عظام وخطوب جسام من الأوامر والنواهي والعظات ، عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها . وأي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، وهو اسم مبهم يوصف باسم جنس ليصح المقصود بالنداء مع ضرب من التأكيد المستفاد من الإبهام ثم التوضيح . وفي حرف التنبيه المقحم فائدتان : معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه ووقوعها عوضاً مما يستحقه أي من الإضافة . ثم إن قلنا : إن الخطاب عام لجميع المكلفين لأن الجمع المعرف باللام يفيد العموم بدليل صحة تأكيده « بكل » و « أجمعون » في مثل قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [ ص : 73 ] ، بدليل صحة الاستثناء ، فالأقرب أنه لا يتناول إلا الموجودين في ذلك العصر ، وإنما يتناول الذين سيوجدون بدليل منفصل هو ما عرف بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، أن حكم الموجودين في عصره حكم من سيوجد إلى قيام الساعة . وإن قلنا : إن الخطاب لمشركي مكة فيدخل سائر الناس بالتبعية على قياس ما قلنا .
والمراد من قوله « اعبدوا » صححوا نسبة العبادة ، وذلك بأن يعرف نفسه بالإمكان ليعرف ربه بالوجوب ، ويعرف نفسه بالمملوكية ليعرف ربه بالمالكية ، ويعرف نفسه بالمقهورية والمقدورية ليعرف ربه بالقاهرية والقادرية ، ويعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة ، فلا يتجاوز حده ولا يعكس هذه القضايا فلا يرى لنفسه تصرفاً بوجه من الوجوه ولا قدرة بنوع من الأنواع ، وإنما يكون عبداً ذليلاً ماثلاً بين يدي مولاه ، طائعاً له بكل ما يأمره وينهاه ، لأنه إذا تصور كونه عبداً فلا بد أن يطلب لنفسه سيداً ، وإذا وجد السيد فلا محالة يوطن نفسه لطاعته وانقياده ، ولا يرى مخالفته في شيء أصلاً { إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وإلا لم تصح نسبة عبوديته . عن الأصمعي أنه أتى بغلام ليشتريه فقال له : ما اسمك؟ قال : ما تسميني قال : أي شيء تأكل؟ قال : ما تطعمني . قال : ما تشرب؟ قال : ما تسقيني قال : تريد أن أشتريك؟ قال : العبد لا يكون له إرادة والأمر بالعبادة بهذا المعنى يشمل الكافر والمؤمن وكل من فيه أهلية الخطاب ، ويندرج فيه المبادي والنهايات والأصول والفروع . ثم إنه تعالى لما علم القصور البشري وضعف قواهم الفطرية والفكرية أرشدهم إليه ونبههم عليه بقوله { ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } واعلم أن الطريق إلى معرفة الواجب سبحانه وتعالى بعد ما قلنا من الرجوع إلى النفس والتنبه لسمة العبودية ، إما الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما ، وكل منهما في الجواهر أو في الأعراض أما الاستدلال بإمكان الذوات فإليه الإشارة بقوله تعالى

{ والله الغني وأنتم الفقراء } [ محمد : 38 ] { وأن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] وأما الاستدلال بإمكان الصفات فإليه الإشارة بقوله { خلق الله السموات والأرض } [ العنكبوت : 44 ] { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } وبحدوث الأجسام قول إبراهيم عليه السلام { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] وبحدوث الأعراض دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه كان معدوماً قبل ذلك ، والموجود بعد العدم له موجد وليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لعجز الكل ، ولا طبائع الفصول والأفلاك الآفلات في أفق الإمكان فهو شيء غير متسم بسمة الحدوث والنقصان ، وهذا الطريق هو أقرب الطرق إلى الأفهام ، فلهذا أورده الله تعالى في فاتحة كتابه لينتفع به الخاص والعام مع أن فيه تذكيراً لنعمه السابقة وعطيته السابغة عليهم وعلى آبائهم ، وتذكير النعم مما يوجب المحبة والميل إلى الإنصاف وترك الجدال .
وأما قوله « لعلكم تتقون » ففيه بحثان : الأول : كلمة « لعل » للترجي أو الإشفاق ولا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وهو على الله محال والجواب أن الترجي راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى كقوله { لعله يتذكر أو يخشى } أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره . وأيضاً فمن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم لإنجازها على أن يقولوا « عسى » و « لعل » ، وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب ، أو جاء على طريق الأطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد مثل { توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيآتكم } [ التحريم : 8 ] وقع « لعل » موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات وأزاح العلة في إقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المترجي بين أن يفعل وبين أن لا يفعل ، ونظيره { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } [ الملك : 2 ] وهذا الجواب مبني على أن قوله « لعلكم » متعلق « بخلفكم » مثل { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لا ب « اعبدوا » وقيل : « لعل » بمعنى « كي » ووجه بأنها للأطماع والكريم الرحيم إذا أطمع فعل ، فجرى إطماعه مجرى وعده المحتوم فلهذا قيل : إنها بمعنى « كي » قال القفال : في « لعل » معنى التكرير والتأكيد إذ اللام للإبتداء نحو « لقد » ، ولقولهم علك أن تفعل كذا و « عل » يفيد التكرير ومنه العلل بعد النهل . فقول القاتل « افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك » معناه افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه .

( البحث الثاني ) : إذا كانت العبادة تقوى فقوله « لعلكم تتقون » جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون واتقوا ربكم لعلكم تتقون . والجواب المنع من اتحاد مفهوميهما وخصوصاً على ما فسرنا إذ المعنى يعود إلى قولنا صححوا نسبة العبودية لتتصفوا بصفة التقوى وهي الاجتناب عن المعاصي فقط ، أو هو مع الإتيان بالأوامر ، وأما قوله : { هو الذي جعل لكم الأرض فراشاً } الآية . فنقول : فيه لفظ « الذي » مع صلته ، إما أن يكون في محل النصب بدلاً من « الذي خلقكم » أو على المدح والتعظيم ، وإما أن يكون رفعاً على المدح أيضاً أي « هو الذي » ، وكلمة « الذي » موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة . فقوله « جعل لكم الأرض فراشاً » قضية معلومة فأدخل عليها « الذي » كي ينتبهوا للجاعل ويعترفوا به . والحاصل أنه تعالى عدد في هذا المقام عليهم خمسة دلائل : اثنين من الأنفس وهما خلقهم وخلق أصولهم ، وثلاثة من الآفاق جعل الأرض فراشاً والسماء بناء والأمور الحاصلة من مجموعهما وهي إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات بسببه ، وسبب هذا الترتيب ظاهر لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه ، ثم ما منه منشؤه وأصله ، ثم الأرض التي هي مكانة ومستقره ، يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه ، ثم السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المبنيّة على هذا القرار ، ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلة والمظلة من إنزال الماء عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الحيوان من ألوان الغذاء وأنواع الثمار رزقاً لبني آدم . وأيضاً خلق المكلفين أحياء قادرين ، أصل لجميع النعم . وأما خلق الأرض والسماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة ، وذكر الأصول مقدم على ذكر الفروع . وأيضاً كل ما في السماء والأرض من الدلائل على وجود الصانع فهو حاصل في الإنسان بزيادة الحياة والقدرة والشهوة والعقل ، ولما كانت وجوه الدلالة فيه أتم كان تقديمه في الذكر أهم .
( وههنا مسائل ) :
الأولى في منافع الأرض : الفراش اسم لما يفرش كالمهاد لما يمهد والبساط لما يبسط ، وليس من ضرورات الافتراش أن يكون سطحها مستوياً كالفراش على ما ظن ، فسواء كانت كذلك أو على شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع لعظم جرمها وتباعد أطرافها . ولكنه لا يتم الافتراش عليها ما لم تكن ساكنة في حيزها الطبيعي وهو وسط الأفلاك ، لأن الثقال بالطبع تميل إلى تحت كما أن الخفاف بالطبع تميل إلى فوق ، والفوق من جميع الجوانب ما يلي السماء ، والتحت ما يلي المركز ، فكما أنه يستبعد صعود الأرض فيما يلينا إلى جهة السماء ، فليستبعد هبوطها في مقابلة ذلك ، لأن ذلك الهبوط سعود أيضاً إلى السماء ، فإذن لا حاجة في سكون الأرض وقرارها في حيزها إلى علاقة من فوقها ، ولا إلى دعامة من تحتها ، بل يكفي في ذلك ما أعطاها خالقها وركز فيها من الميل الطبيعي إلى الوسط الحقيقي بقدرته واختياره

{ إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } [ فاطر : 41 ] ومما منَّ الله تعالى به على عباده في خلق الأرض أنها لم تجعل في غاية الصلابة كالحجر ، ولا في غاية اللين والانغمار كالماء ، ليسهل النوم والمشي عليها ، وأمكنت الزراعة واتخاذ الأبنية منها ويتأتى حفر الآبار وإجراء الأنهار . ومنها أنها لم تخلق في نهاية اللطافة والشفيف لتستقر الأنوار عليها وتسخن منها فيمكن جوارها . ومنها أن جعلت بارزة بعضها من الماء مع أن طبعها الغوص فيه لتصلح لتعيش الحيوانات البرية عليها ، وسبب انكشاف ما برز منها وهو قريب من ربعها أنها لم تخلق صحيحة الاستدارة بل خلقت هي والماء بحيث إذا انجذب الماء بطبعه إلى المواضع الغائرة والمنخفضة منها بقي شيء منها مكشوفاً ، وصار مجموع الأرض والماء بمنزلة كرة واحدة يدل على ذلك فيما بين الخافقين . تقدم طلوع الكواكب وغروبها للمشرقين على طلوعها وغروبها للمغربين ، وفيما بين الشمال والجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظاهر وانحطاط الخفي للواغلين في الشمال ، وبالعكس للواغلين في الجنوب ، وتركب الاختلافين لمن يسير على سمت بين السمتين إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة يستوي في ذلك راكب البر وراكب البحر . ونتوء الجبال وإن شمخت لا يخرجها عن أصل الاستدارة لأنها بمنزلة الخشونة القادحة في ملاسة الكرة لا في استدارتها . ومنها الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية ، ولا يعلم تفاصيلها إلا موجدها . ومنها أن يتخمر الرطب به فيحصل التماسك في أبدان المركبات . ومنها اختلاف بقاعها في الرخاوة والصلابة والدماثة والوعورة بحسب اختلاف الأعراض والحاجات { وفي الأرض قطع متجاورات } [ الرعد : 4 ] ومنها اختلاف ألوانها { ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود } [ فاطر : 27 ] ومنها انصداعها بالنبات { والأرض ذات الصدع } [ الطارق : 12 ] ومنها جذبها للماء المنزل من السماء { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } [ المؤمنون : 18 ] ومنها العيون والأنهار العظام التي فيها { والأرض مددناها } [ ق : 7 ] ومنها أن لها طبع الكرم والسماحة تأخذ واحدة وترد سبعمائة { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } [ البقرة : 261 ] ومنها حياتها وموتها { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } [ يس : 33 ] ومنها الدواب المختلفة { وبث فيها من كل دابة } [ البقرة : 164 ] ومنها النباتات المتنوعة { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } [ ق : 7 ] فاختلاف ألوانها دلالة ، واختلاف طعومها دلالة ، واختلاف روائحها دلالة ، فمنها قوت البشر ، ومنها قوت البهائم { كلوا وارعوا أنعامكم } [ طه : 54 ] ومنها الطعام ، ومنها الإدام ، ومنها الدواء ، ومنها الفواكه ، ومنها كسوة البشر نباتية كالقطن والكتان ، وحيوانية كالشعر والصوف والإبريسم والجلود .

ومنها الأحجار المختلفة بعضها للزينة وبعضها للأبنية ، فانظر إلى الحجر الذي يستخرج منه النار مع كثرته ، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته ، وانظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير وقلة النفع بهذا الخطير . ومنها ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة ، ثم تأمل أن البشر استنبطوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمك من قعر البحر ، واستنزلوا الطير من أوج الهواء ، لكن عجزوا عن اتخاذ الذهب والفضة . والسبب فيه أن معظم فائدتهما ترجع إلى الثمنية ، وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة والقدرة على اتخاذهما تبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب الله دونهما باباً مسدوداً ، ومن ههنا اشتهر في الألسنة « من طلب المال بالكيمياء أفلس » . ومنها ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار الصالحة للبناء والسقف ثم الحطب ، وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ . ولعل ما تركنا من المنافع أكثر مما عددنا ، فإذا تأمل العاقل في هذه الغرائب والعجائب اعترف بمدبر حكيم ومقدر عليم إن كان ممن يسمع ويعي ويبصر ويعتبر .
الثانية في منافع السماء : البناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ، وأبنية العرب أخبيتهم ، ومنه بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديداً . ثم إن الله تعالى زين السماء الدنيا بالمصابيح { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] وبالقمر { وجعل القمر فيهن نوراً } [ نوح : 16 ] وبالشمس { وجعل الشمس سراجاً } [ نوح : 16 ] وبالعرش { رب العرش العظيم } [ التوبة : 129 ] وبالكرسي { وسع كرسيه السموات والأرض } [ البقرة : 255 ] وباللوح { في لوح محفوظ } [ البروج : 22 ] وبالقلم { ن والقلم } [ القلم : 1 ] وسماها سقفاً محفوظاً وسبعاً طباقاً وسبعاً شداداً . وذكر أن خلقها مشتمل على حكم بليغة وغايات صحيحة { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } [ آل عمران : 191 ] { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا } [ ص : 27 ] وجعلها مصعد الأعمال ومهبط الأنوار وقبلة الدعاء ومحل الضياء والصفاء ، وجعل لونها أنفع الألوان وهو المستنير ، وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ، ونجومها رجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وقيض للشمس طلوعاً يسهل معه التقلب لقضاء الأوطار في الأطراف ، وغروباً يصلح معه الهدوء والقرار في الأكنان لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ، وأيضاً لولا الطلوع لانجمدت المياه وغلبت البرودة والكثافة وأفضت غلى خمود الحرارة الغريزية وانكسار سورتها ، ولولا الغروب لحميت الأرض حتى يحترق كل من عليها من حيوان ونبات ، فهي بمنزلة سراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا . فصار النور والظلمة على تضادّهما متظاهرين على ما فيه صلاح قطان الأرض ، وههنا نكتة ، كأن الله تعالى يقول : لو وقفت الشمس في جانب من السماء فالغني قد يرفع بناءه على كوة الفقير الجار فلا يصل النور إلى الفقير ، لكني أدير الفلك وأسيرها حتى يجد الفقير نصيبه كما وجد الغني نصيبه .

أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله سبباً لإقامة الفصول الأربعة . ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ، ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر وتقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن . وفي الربيع تتحرك الطباع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء ، وينوّر الشجر ويهيج الحيوان للفساد . وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض ويتهيأ للعمارة والزراعة . وفي الخريف يظهر البرد واليبس فتدرك الثمار وتستعد الأبدان قليلاً قليلاً للشتاء . وأما القمر فهو تلو الشمس وخليفتها وبه يعلم عدد السنين والحساب ويضبط المواقيت الشرعية ، ومنه تحصيل النماء والرواء ، وقد جعل الله تعالى في طلوعه مصلحة وفي غيبته مصلحة . يحكى أن أعرابياً نام عن جمله ليلاً ففقده ، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر فقال : إن الله صوّرك ونوّرك وعلى البروج دوّرك ، فإذا شاء نورك وإذا شاء كوّرك ، فلا أعلم مزيداً أساله لك ، ولئن أهديت إليّ سروراً لقد أهدى الله إليك نوراً ثم أنشأ يقول :
ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعاً فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
وقد كان في العرب من يذم القمر ويقول : القمر يدرك الهارب ، ويهتك العاشق ، ويبلي الكتاب ، ويهرم الشاب ، وينسي ذكر الأحباب ، ويقرب الدين ، ويدني الحين . وكيفية ارتباط القمر وسائر الكواكب بالشمس وكمية حركتها وبيان اختلافات أوضاعها وعلل كل منها ، فن برأسه لا يحتمل إيراده ههنا . قال الجاحظ : إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعدّ فيه كل ما يحتاج إليه . فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه ، وضروب النبات مهيآت لمنافعه ، وصنوف الحيوان متصرفة في مصالحه ، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية .
الثالثة في أن السماء أفضل أم الأرض : قال بعضهم : السماء أفضل لأنها متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصي الله فيها ، ولما أتى آدم عليه السلام بتلك المعصية أهبط من الجنة وقال الله تعالى : لا يسكن في جواري من عصاني . وقال تعالى : { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } [ الأنبياء : 32 ] وقال : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } [ الفرقان : 61 ] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدماً على ذكر الأرض . والسماويات مؤثرة والأرضيات متأثرة ، والمؤثر أشرف من المتأثر . وقال آخرون : بل الأرض أفضل لأنه تعالى وصف بقاعاً من الأرض بالبركة { إن أوّل بيت وضع للناس الذي ببكة مباركاً } [ آل عمران : 96 ] { في البقعة المباركة } [ القصص : 3 ] { إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } [ الإسراء : 1 ] { مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } [ الأعراف : 137 ] يعني أرض الشام . ووصف جملة الأرض بالبركة

{ وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام } [ فصلت : 10 ] فإن قيل : وأيّ بركة في المفاوز المهلكة؟ قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها ، ومساكن الناس إذا احتاجوا إليها ، ومساكن خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى ، فلهذه البركات قال تعالى : { وفي الأرض آيات للموقنين } [ الذاريات : 20 ] تشريفاً لهم لأنهم هم المنتفعون بها كما قال : { هدى للمتقين } وخلق الأنبياء من الأرض { منها خلقناكم } [ طه : 55 ] وأودعهم فيها { وفيها نعيدكم } [ طه : 55 ] وأكرم نبيه المصطفى فجعل الأرض كلها له مسجداً وطهوراً . ولما خلق الله الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم عليه السلام وأولاده ، ثم علم الله أصناف حاجاتهم قال : يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال : { أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً } [ عبس : 25 ، 26 ] { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم } [ إبراهيم : 32 ] ياعبدي إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منها هذه المنافع؟ ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك ، فكيف الحال في الجنة؟ فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم ، لأن الأم تسقيك نوعاً واحداً من اللبن ، والأرض تطعمك ألواناً من الأطعمة . ثم قال : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } [ طه : 55 ] معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد ، لأن المرء لا يتوعد بأمه وذلك لأن مقامك من الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى؟ ولكن الشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى ، ما كانت لك زلة فضلاً من أن يكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعاً لله ، فحيث دعاك مرة بالخروج إلى الدنيا خرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك .
الرابعة : معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرة الله ومشيئته أنه جعل الماء سبباً في خروجها ومادة لها كالنطفة في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الأشياء بلا أسباب ومواد كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في هذا التدريج والتسبب حكماً يتبصر بها من يستبصر ، ويتفطن بها من يعتبر و « من » في « من الثمرات » للتبعيض . كما أنه قصد بتنكير « ماء » و « رزقاً » معنى البعضية لأنه مفرد في سياق الإثبات ، فكأنه قيل : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهذا معنى صحيح ، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ، ولا جعل الرزق كله في الثمرات فيكون كل الثمرات بعض الرزق فضلاً عن بعضها . ويجوز أن تكون للبيان كقولك « أنفقت من الدراهم ألفاً » .

ثم إن كانت « من » للتبعيض كان انتصاب « رزقا » بأنه مفعول له ، وإن كانت للبيان كان مفعولاً لا « خرج » و « لكم » صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل مصدراً فهو مفعول به ، كأنه قيل : رزقاً إياكم . وإنما قيل : « الثمرات » على لفظ القلة وإن كان الثمر المخرج بماء السماء جماً كثيراً لأنه قصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك « فلان أدركت ثمرة بستانه » تريد ثماره كقولهم للقصيدة « كلمة » وللقرية « مدرة » ، أو لأن القلة وضعت موضع الكثرة نحو { ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] أو تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا في جنب ثمار الآخرة .
الخامسة : قوله « فلا تجعلوا » إما أن يتعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً ، لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل لله ند ولا شريك ، أو ب « لعل » فتنصب « تجعلوا » بعده مثل { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع } [ غافر : 37 ] في رواية حفص عن عاصم . أو « بالذي جعل لكم » إذا رفعته على الابتداء ، أي هو الذي نصب لكم هذه الأدلة القاطعة والآيات الناطقة بالوحدانية فلا تتخذوا له تعالى شركاء . والند المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المنادّ من ناددت الرجل خالفته ونافرته ، وندّ ندوداً إذا نفر . ومعنى قول الموحد « ليس لله ند ولا ضد » نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه . وقوله « وأنتم تعلمون » بترك المفعول معناه وأنتم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال . وهكذا كانت العرب خصوصاً قطان الحرم من قريش وكنانة ، لا يشق غبارهم في الدهاء والفطنة . والتوبيخ فيه آكد أي أنتم العرافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل . ويجوز أن يقدر : وأنتم تعلمون أنه لا يماثل ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } [ الروم : 4 ] واعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجوب والعلم والقدرة والحكمة ، ولكن الثنوية يثبتون إلهين : حكيم يفعل الخير ، وسفيه يفعل الشر . أما اتخاذ معبود سوى الله ففي الذاهبين إليه كثرة : الفريق الأول : عبدة الكواكب وهم الصابئة فإنهم يقولون : إن الله تعالى خلق هذه الكواكب وهي المدبرات في هذا العلم ، فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله تعالى . والفريق الثاني : عبدة المسيح عليه السلام . والفريق الثالث : عبدة الأوثان . فنقول : لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام ، وهو إنما جاء بالرد عليهم

{ وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسراً } [ نوح : 23 ] ودينهم باقٍ إلى الآن . والدين الذي هذا شأنه يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة ، ولكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري ، فيمتنع إطباق الجمع العظيم عليه ، فوجب أن يكون لهم غرض آخر سوى ذلك . و العلماء ذكروا فيه وجوهاً : أحدها : ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي أن كثيراً من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ، ويعتقدون أنه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وكذا الملائكة ، وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء ، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته ، فعلى هذا السبب في عبادة الأوثان هو اعتقاد الشبه . وثانيها : ما ذكره أكثر العلماء ، وهو أن الناس لما رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب ، واعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس ، بالغوا في تعظيمها . فمنهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم ، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة لله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم ، وأنها الوسائط بين الله والبشر ، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها . ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار ، اتخذوا لها أصناماً وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادة تلك الأجرام العالية ، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة . ولما طالت المدة تركوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل ، فهؤلاء بالحقيقة عبدة الكواكب . وثالثها : أن أصحاب الأحكام كانوا يرتقبون أوقاتاً في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ، ويزعمون أن من اتخذ طلسماً في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات ، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به ، فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ، ثم نسوا مبدأ الأمر بتطاول المدة واشتغلوا بعبادتها . ورابعها : أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مستجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى ، اتخذوا صنماً على صورته وعبدوها على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله تعالى { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وخامسها : لعلهم اتخذوها قبلة لصلاتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ، ولما استمرت هذه الحالة ظن جهال القوم أنه يجب عبادتها . وسادسها : لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل .

فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل مذهبهم عليها حتى لا يصير بحيث يعلم بطلانه بالضرورة . فإن قيل : لما رجع حاصل مذاهب عبدة الأوثان إلى الوجوه التي ذكرت ، فما وجه المنع عنها؟ قلنا : لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم ، وكما تهكم بهم بلفظ الند ، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط ، ولا يفيد في طريق عبادته إلا الحنيفية والإخلاص ورفع الوسائط من البين . واعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة ، واتخذوها معبودة لهم على حدة . وقد كان هيكل العلة الأولى وهي عندهم الأمر الإلهي ، وهيكل العقل الصريح ، وهيكل السياسة المطلقة ، وهيكل النفس والصور مدورات كلها ، وكان هيكل زحل مسدساً ، وهيكل المشتري مثلثاً ، وهيكل المريخ مستطيلاً ، وهيكل الشمس مربعاً ، وهيكل الزهرة مثلثاً في جوفه مربع ، وهيكل عطارد مثلثاً في جوفه مستطيل ، وهيكل القمر مثمناً . وزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحيّ لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام ، اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا : هذه أوثان نستنصر بها فننصر ، ونستسقي بها فنسقي ، فالتمس منهم أن يأتوا بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل ، فصار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ، ودعا الناس إلى تعظيمه ، وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف . ومن بيوت الأصنام المشهورة ( غمدان ) الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان . ومنها ( نوبهار ) الذي بناه منوجهير الملك على اسم القمر . ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل ( ود ) بدومة الجندل لكلب ، و ( سواع ) لبني هذيل ، و ( يغوث ) لمذحج ، و ( يعوق ) لهمدان ، و ( نسر ) بأرض حمير لذي الكلاع ، و ( اللات ) بالطائف لثقيف ، و ( منات ) بيثرب للخزرج ، و ( العزى ) لكنانة بنواحي مكة ، و ( أساف ) و ( نائلة ) على الصفا والمروة . وكان قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه وهو الذي يقول :
أرباً واحداً أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الرجل البصير


وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

القراآت : ما يتعلق بها من ضم ميم الجمع ومن إمالة الناس يعرف مما مر .
الوقوف : « من مثله » ( ص ) « صادقين » « والحجارة » ( ج ) على تقدير هي أعدت للكافرين ، والوصل أجود لأن قوله « أعدت » بدل الجملة الأولى في كونها صلة للتي « للكافرين » ( 5 ) .
التفسير : لما نبه بالآيتين السابقتين على طريق الاعتراف بوجود الصانع ووحدانيته ، أعقبهما بما يدل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحقية ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر في كون القرآن معجزاً طريقان :
الأول : أنه إما أن يكون مساوياً لكلام سائر الفصحاء أو زائداً عليه بما لا ينقض العادة أو بما ينقضها . والأولان باطلان لأنهم - وهم زعماء وملوك الكلام - تحدّوا بسورة منه مجتمعين أو منفردين ثم لم يأتوا بها مع أنهم كانوا متهالكين في إبطال أمره حتى بذلوا النفوس والأموال ، وارتكبوا المخاوف والمحن ، وكانوا في الحمية والأنفة إلى حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل؟ فتعين القسم الثالث .
الطريق الثاني : أن يقال : إن بلغت السورة المتحدى بها في الفصاحة إلى حد الإعجاز فقد حصل المقصود وإلا فامتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجز ، فعلى التقديرين يحصل الإعجاز . فإن قيل : وما يدريك أنه لن يعارض في مستأنف الزمان وإن لم يعارض إلى الآن؟ قلت : لأنه لا احتياج إلى المعارضة أشد مما في وقت التحدي ، وإلا لزم تقرير المبطل المشبه للحق . وحيث لم تقع المعارضة وقتئذ علم أن لا معارضة ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله « ولن تفعلوا » كما يجيء .
واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة فمدرك الإعجاز هو الذوق . ومن فسر الإعجاز بأنه صرف الله تعالى البشر عن معارضته ، أو بأنه هو كون أسلوبه مخالفاً لأساليب الكلام ، أو بأنه هو كونه مبرأ عن التناقض ، أو بكونه مشتملاً على الأخبار بالغيوب وبما ينخرط في سلك هذه الآراء ، فقد كذب ابن أخت خالته . فإنا نقطع أن الاستغراب من سماع القرآن إنما هو من أسلوبه ، ونظمه المؤثر في القلوب تأثيراً لا يمكن إنكاره لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، لا من صرف الله تعالى البشر عن الإتيان بمثله ، كما لو قال أحد : معجزتي أن أضع الساعة يدي على رأسي ويتعذر ذلك عليكم . وكان كما قال ، جاء الاستغراب من التعذر لا من نفس الفعل . وأيضاً تسمية كل أسلوب غريب معجزاً باطل ، وكذا تسمية كل كلام مبرإ عن التناقض أو مشتملاً على الغيب ككلام الكهان ونحوهم . فإن قيل : كيف نعتقد إعجاز القرآن بحيث يعجز عنه الثقلان فقط والزائد غير معلوم الحال ، أو بحيث يعجز عنه المخلوقات بأسرها؟ قلنا : لا ريب أن الحق هو القسم الثاني ، إلا أن التحدي لم يقع إلا بالقدر الأول وبه يثبت صحة النبوة .

لكن النبي صادق وقد أخبر بأنه كلام الله تعالى ، ونحن نعلم أن كلام صفته وصفته يجب أن تكون في غاية الكمال ونهاية الجلال . فالقرآن إذاً في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة . والبلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها ، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها ، وهي فينا كأنها هيئة اجتماعية حاصلة من معرفة قوانين علمي المعاني والبيان . والفصاحة إما معنوية وهي خلوص الكلام عن التعقيد ، والتعقيد أن يعثر صاحبه فكرك في متصرفه ويشيك طريقك إلى المعنى ويوعر مذهبك نحوه ، حتى يقسم فكرك ويشعب ظنك فلا تدري من أين تتوصل وبأي طريق معناه يتحصل . وإما لفظية وهي أن تكون الكلمة عربية أصلية ، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدرب ، واستعمالهم لها أكثر ، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة العربية ، وأن تكون سليمة عن التنافر ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات . والحاكم في ذلك هو الذوق السليم والطبع المستقيم ، فقلما ينجع هنالك إلا ذلك . ثم إنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان الفصاحة ، ومع ذلك فإنه بلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية وراءها ، فدل ذلك على كونه معجزاً . منها أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات كبعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة ، وليس في القرآن من هذه الأشياء مقدار كثير . ومنها أنه تعالى راعى طريق الصدق وتبرأ عن الكذب ، وقد قيل : أحسن الشعر أكذبه . ولهذا كان لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما وتركا سلوك سبيل الكذب والتخيل ترك شعرهما . ومنها أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في بيت أو في بيتين من قصيدة ، والقرآن كله فصيح ككل جزء منه . ومنها أن الشاعر الفصيح إذا كرر كلامه لم يكن الثاني في الفصاحة بمنزلة الأول ، وكل مكرر في القرآن فهو في نهاية الفصاحة وغاية الملاحة .
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوّع
ومنها أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم المنكرات والحث على مكارم الأخلاق والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة ، ولا يخفى ضيق عطن البلاغة في هذه المواد . ومنها أنهم قالوا : إن شعر امرئ القيس يحسن في النساء وصفة الخيل ، وشعر النابغة عند الخوف ، وشعر الأعشى عند الطرب ووصف الخمر ، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء والقرآن جاء فصيحاً في كل فن من فنون الكلام .

فانظر في الترغيب إلى قوله : { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين } [ السجدة : 17 ] وفي الترهيب { وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } [ إبراهيم : 15-17 ] وفي الزجر { فكلاًّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا } [ العنكبوت : 40 ] وفي الوعظ { أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [ الشعراء : 205 ] وفي الإلهيات { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال } [ الرعد : 8 ، 9 ] . ومنها أن القرآن أصل العلوم كلها كعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه واللغة والنحو والصرف والنجوم والمعاني والبيان وعلم الأحوال وعلم الأخلاق وما شئت ، ومن يطيق وصف القرآن وبلاغته فإنه كما أن الإتيان بأقصر سورة منه فوق حد البشر فوصفه كما هو فوق طاقة البشر .
« فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح » ... وإنما قيل : « وإن كنتم » دون إذ كنتم لما عرفت في تفسير { لا ريب فيه } . وإنما اختير « نزلنا » على لفظ التنزيل دون الإنزال ، لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي ، وذلك أنهم كانوا يقولون : لو أنزله الله لأنزله جملة واحدة { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] أي على خلاف ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً شيئاً فشيئاً وحيناً فحيناً حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة ، فقيل لهم : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج ، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلموا نجماً من نجومه أصغر سورة وهي الكوثر ، ومعنى السورة مذكور في المقدمة الرابعة . وإنما قيل : « على عبدنا » دون أن يقال على محمد كقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } [ محمد : 2 ] تشريفاً له صلى الله عليه وسلم وإعلاماً بأنه صلى الله عليه وسلم ممن صحح نسبة العبودية المأمور بها في قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا } وإضافة العبد إلى الضمير أيضاً تؤيد ذلك كقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الإسراء : 65 ] . وفيه أن السعادة كل السعادة في نسبة العبدية ، فهي التي توصل إلى العندية { في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر } [ القمر : 55 ] « وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » وكمال العندية في كمال الحرية عما سوى الله . وأما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً ، فمن ذلك أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتملت الأنواع على الأصناف ، كان إفراز كل من صاحبه أحسن ، ولهذا وضع المصنفون كتبهم على الأبواب والفصول ونحوها .

ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر ، كان أنشط له كالمسافر إذا قطع ميلاً أو طوى فرسخاً ، ومن ثم جزأوا القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً ، ومنها أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيحل في نفسه ، ومنه حديث أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا . ولهذا كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل . و « من مثله » متعلق بمحذوف أي بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا . ويجوز أن يتعلق بقوله « فأتوا » والضمير للعبد معناه ، فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب والنظم الأنيق ، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يقصد إلى مثل ونظير معين ، ولكنه كقول من قال للحجاج وقد توعده بقوله « لأحملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب » أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد ، ولم يقصد أحداً يجعله مثل الحجاج . وردّ الضمير على المنزل أوجه وعليه المحققون . ويروى عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن ، ولأن ذلك يطابق الآيات الأخر { فأتو بسورة مثله } [ البقرة : 23 ] { فأتوا بعشر سور مثله } [ هود : 13 ] ، ولأن البحث إنما وقع في المنزل لا في المنزل عليه ، إذ المعنى وإن ارتبتم أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله . ولو كان الضمير مردوداً إلى الرسول اقتضى الترتيب أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمداً صلى الله عليه وسلم منزل عليه ، فأتوا بسورة ممن يماثله . وأيضاً لو كان عائداً إلى القرآن اقتضى أن يكونوا عاجزين عن الإتيان بمثله ، مجتمعين أو متفرقين ، أميين أو قارئين . ولو عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى أن يكون الشخص الواحد الأمي الذي هو مثله عاجزاً ، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى ، ولا سيما فإنه يلزم من الوجه الثاني تقرير نقص للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإيهام أنّ الإتيان بالقرآن ممن يكون قارئاً ممكن . وأيضاً الأول هو الملائم لقوله « وادعوا شهداءكم » إذ لو كان المراد فليأت واحد آخر أمي بنحو ما أتى به هذا الواحد ، لم يحتج أن يستظهر بالشهداء وهي جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادات . والمراد بها إما آلهتهم كأنه قيل : إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد إلى فاقة شديدة فتعجلوا الاستعانة بها ، وإلا فاعلموا أنكم مبطلون فيكون في الكلام محاجة من جهتين : من جهة إبطال كونها آلهة ، ومن جهة إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن .

وإما أكابرهم ورؤساؤهم أي ادعوهم ليعينوكم على المعارضة ، أو ليحكموا لكم وعليكم . ومعنى « دون » أدنى مكان من الشيء ، ومنه الشيء الدون وهو الحقير ، ودوّن الكتب إذا جمعها بتقليل المسافة بينها . ويقال هذا دون ذلك إذا كان أحط منه قليلاً ، ودونك هذا أي خذه من دونك أي من أدنى مكان منك ، فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب . وقيل : زيد دون عمرو في الشرف والعلم ، ومنه قول من قال لعدوّه وقد كان يثني عليه رياء : أنا دون هذا وفوق ما في نفسك . واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم . قال الله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين .
و « من دون الله » متعلق ب « شهداءكم » أو ب « ادعوا » وعلى الأول يحتمل ثلاثة معان : ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، أو ادعوا الذين زعمتم أنهم يشهدون لكم بين يدي الله من قول الأعشى :
تريك القذى من دونها وهي دونه ... أي تريك القذى قدام الزجاجة والحال أن الخمر قدام القذى لرقتها وصفائها ، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم ، أو ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله ، وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأن شهداءهم - وهم فرسان البلاغة - تأبى بهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد . وعلى الثاني يحتمل معنيين : ادعوا من دون الله شهداءكم يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه ، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم ظاهرة تصحح بها الدعاوى عند الحكام ، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخزالهم ، وأن الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثاً غير قولهم « الله يشهد إنا لصادقون » . سئل بعض العرب عن نسبه فقال : قرشي والحمد لله ، فقيل له : قولك : « الحمد لله » في هذا المقام ريبة . أو المراد بالشهداء ، الله تعالى ، وكل من له أهلية الحضور من الجن والإنس . فكأنه قيل لهم ادعوا غير الله من الجن والإنس من أردتم كقوله { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] الآية وإنما استثنى الله لأنه القادر وحده على أن يأتي بمثله دون كل شاهد . واعلم أن التحقيق في التحدي هو أن النبي يقول : إني مخصوص من الله تعالى بمزيد الكرامة والنور ، وجعلني واسطة بينكم وبين هدايتكم فاتبعون أهدكم سبيل الخير والرشاد ، وإن كنتم في ريب مما أقول ، فانظروا إلى هذا الذي أقدر عليه بإظهار الله تعالى إياه على يدي وأنتم لا تقدرون عليه لعدم إقداره ، لتعرفوا أني خصصت بمزيد فضل من عنده وأني صادق فيما أقول ، فإن أنصفوا من أنفسهم بمشيئة الله تعالى ونور هدايته اتبعوه واهتدوا ، وإلا بقوا في الضلالة خائبين .

وكل هذا من عالم الأسباب التي ربط الله تعالى بها الوقائع والحوادث حسب ما أراد ، ولا يلزم من هذا أن يكون للعبد قدرة مستقلة يقع التحدي عليها ، بل الله يهدي من يشاء وكل بقدر . وقوله « إن كنتم صادقين » قيد لقوله « فأتوا » ولقوله « وادعوا » المعطوف عليه . ويجوز أن يكون قيداً لقوله « وادعوا » لأن قوله « فأتوا » مقيد بقوله و « إن كنتم » وجواب الشرط الثاني محذوف لدلالة ما قبله وهو مثله عليه التقدير : وإن كنتم في ريب فأتوا ، وإن كنتم صادقين في أن أصنامكم تعينكم ، أو في أن القرآن غير معجز ، فادعوا شهداءكم . وإنما قلنا : الجواب محذوف ، لأن الجزاء لا يتقدم على الشرط ، فإن للشرط صدر الكلام كالاستفهام ، ولهذا لم يلزم الفاء في قولك « أنت مكرم إن جئتني » وإنما تقدم ما يدل عليه ومثله في القرآن كثير فاعتبره في كل موضع . وأما قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } الآية . فأقول أولاً : إنها تدل على إعجاز القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه :
أحدها : أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا يعادونه صلى الله عليه وسلم أشد المعاداة ، ويتهالكون في إبطال أمره وفراق الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج منهم من أقوى ما يدل على ذلك . فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فلو أمكنهم الإتيان بمثله لأتوا به ، وحيث لم يأتوا به ظهر كونه معجزاً . وثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم إن كان متهماً عندهم فيما يتعلق بالنبوة ، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل . فلو خاف صلى الله عليه وسلم عاقبة أمره لتهمة فيه صلى الله عليه وسلم - حاشاه عن ذلك - لم يبالغ في التحدي إلى هذه الغاية . وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن قاطعاً بنبوته لكان يجوز خلافه ، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه ، فالمبطل المزوّر لا يقطع في الكلام قطعاً ، وحيث جزم دل على صدقه . ورابعها : أن قوله « ولن تفعلوا » وفي « لن » ، تأكيد بليغ في نفي المستقبل إلى يوم الدين ، إخبار بالغيب . وقد وقع كما قال صلى الله عليه وسلم ، لأن أحداً لو عارضه صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه عادة ، لا سيما والطاعنون فيه صلى الله عليه وسلم أكثف عدداً من الذابين عنه صلى الله عليه وسلم .

وإذا لم تقع المعارضة إلى الآن غلب على الظن ، بل حصل الجزم أنها لا تقع أبداً لاستقرار الإسلام وقلة شوكة الطاعنين . وإنما جيء ب « إن » الذي للشك دون « إذا » الذي للوجوب والقطع ، مع أن انتفاء إتيانهم بالسورة واجب بناء على حسبانهم وطمعهم ، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على بلاغتهم . وأيضاً فيه تهكم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه : إن غلبتك لم أبق عليك . وإنما اختير قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } على قوله { فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله } ، طلباً للوجازة ، فإن الإتيان فعل من الأفعال ، وحذف مفعول فعل كثير دون مفعول أتى فهو جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً يغنيك عن طول المكنى عنه ، كما لو قلت : أتيت فلاناً وأعطيته درهماً . فيقال لك : نعم ما فعلت . وقوله « ولن تفعلوا » جملة معترضة لا محل لها . وليس الواو للحال وإنما هو للاستئناف . والمعترضة تجيء بالواو وبدون الواو ، وقد اجتمعتا في قوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } [ الواقعة : 76 ] وإنما لم يقل فإن لم تفعلوا فاتركوا العناد كما هو الظاهر ، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، فوضع موضعه من حيث إنه من نتائجه ، لأن من اتقى النار ترك المعاندة ، ونظيره قول الملك لجيشه : إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي . يريد فاتبعون وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط ، فهو من باب الكناية . وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد بأنه الموجب للنار ، ولهذا شنع يتفظيع أمرها . والوقود ما ترفع به النار ، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح . فإن قلت : صلة « الذي » و « التي » يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلنا : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله ، أو يكون إشارة إلى ما نزلت بمكة قبل نزول هذه بالمدينة وذلك في سورة التحريم { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] ولهذا عرّفت ههنا مشاراً بها إلى ما عرفوه ثمة أوّلاً ، والمعنى : اتقوا ناراً ممتازة عن غيرها من النيران بأنها لا تتقّد إلا بالناس والحجارة ، أو بأنها توقد بنفس ما يراد إحراقه وإحماؤه ، أو بأنها لإفراط حرها إذا اتصلت بما لا يشتعل به نار اشتعلت وارتفع لهبها . ولعل لكفار الجن وشياطينهم ناراً وقودها الشياطين جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب . والحجارة قيل : هي حجارة الكبريت . وقيل : هي ما نحتوها أصناماً

{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] لأنهم لما اعتقدوا فيها أنها شفعاؤهم عند الله ، وأنهم ينتفعون بها ويدفعون المضارّ عن أنفسهم ، جعلها الله عذابهم إبلاغاً في إيلامهم وتوريثاً لنقيض مطلوبهم ، ونحوه ما يفعله بالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، أي يمنعون حقوقها حيث { يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } [ التوبة : 35 ] والتاء في الحجارة لتأكيد التأنيث في الجماعة نحو : صقورة . وقد يدور في الخلد من هذه الآية ، ومن قوله { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة } [ البقرة : 74 ] ومن قوله { نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة } [ الهمزة : 6 ، 7 ] أن المراد بالحجارة هي الأفئدة أي وقودها الناس وقلوبهم . وتخصيص القلب بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وأولى بالإحراق إن كان مقصراً في درك ما خلق الإنسان لأجله . ومعنى أعدت هيئت وجعلت عدّة لعذابهم ، وإنما فقد العاطف لأنها بدل من الصلة أو استئناف ، كأنه قيل لمن أعدّت هذه النار؟ فقيل أعدت للكافرين .


وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

الوقوف : « الأنهار » ( ط ) « رزقاً » ( لا ) لأن « قالوا » جواب « كلما » . « متشابهاً » ( ط ) « مطهرة » ( ج ) « خالدون » ( 5 ) .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة وانجر الكلام إلى ذكر عقاب الكافرين ، شفع ذلك بذكر ثواب المؤمنين جرياً على سننه المعهود من ذكر الترغيب مع الترهيب ، وضم البشارة إلى الإنذار والجمع بين الوعد والوعيد والجنة والنار . وهل هما الآن مخلوقتان أم لا؟ ظاهر الآية من نحو قوله { أعدت للمتقين } { أعدت للكافرين } والأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صلاة الخسوف « إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط يدل على وجودهما » وكذا سكنى آدم وحواء الجنة ، وقد جمع الله في الآية جوامع اللذات من المسكن وهو الجنات ، ومن المطعم وهو الثمرات ، ومن المنكح وهو الأزواج المطهرات ، ثم زال عنهم نقص الزوال بقوله { وهم فيها خالدون } إتماماً للنعمة والحبور وتكميلاً للبهجة والسرور . والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ، ولهذا قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى ، عتق أوّلهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره ولو قال : مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعاً لأنهم جميعاً أخبروه . ومنه البشرة لظاهر الجلد ، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه . فأما قوله { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] فمن باب التهكم والاستهزاء ، فإن قيل : علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلنا : ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي ، إنما المتعمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق ، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق ، ولك أن تقول معطوف على { فاتقوا } كقولك : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم . وقال بعض المحققين : إنه معطوف على قل مقدراً قبل { يا أيها الناس } فإن تقدير القول في القرآن مع وجود القرينة غير عزيز كقوله تعالى { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا } أي يقولان : ربنا . ثم المأمور في قوله { وبشر } إما الرسول ، وإما كل من له استئهال أن يبشر . والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم . قال الحطيئة :
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
واللام للجنس . والمراد بالصالحات جملة الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف . واستدل بهذه الآية من قال : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان ، وإلا لزم التكرار ، ولمن زعم أن الإيمان هو المجموع أن يقول عطف بعض الأجزاء على الكل جائز لغرض من الأغراض كقوله تعالى

{ وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل } [ البقرة : 98 ] ثم ههنا مذاهب : منهم من قال : إن العبد لا يستحق على الطاعة ثواباً ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجباً وهو قول أهل السنة ولا يرد عليه إشكال . ومنهم من زعم أنه يستحق الثواب بالإيمان والعمل الصالح بشرط أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ، وبالندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية بدليل قوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] . وإنما طوي ذكر هذا الشرط في الآية للعلم به فإنه قد ركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه ، وهذا قول المعتزلة ومن يجري مجراهم . ومنهم من أحال القول بالإحباط ، لأن من آمن وعمل صالحاً استحق الثواب الدائم فلو فرض إحباط بكفره لاستحق العقاب الدائم والجميع بينهما محال ، ولا يخفى ضعف هذا المذهب ، فإن الأمور بخواتيمها قال صلى الله عليه وسلم : « إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار » وإنما الأعمال بالخواتيم . والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر كأنها فعلة من جنة إذا ستره . وسميت دار الثواب كلها جنة فيها من الجنان على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ، فلهذا نكرت . والنهر : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر . يقال لبردى نهر دمشق ، وللنيل نهر مصر . واللغة العالية الغالبة النهر بفتح الهاء ومدار التركيب على السعة . وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازي ، لأن الجاري هو الماء وكذا من تحتها أي من تحت أشجارها . وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجارها مظللة والأنهار في خلالها مطردة ، ولولاها كانت كتماثيل لا أرواح فيها ، وصور لا حياة لها . وإنما عرفت الأنهار لأن المراد بها الجنس كما تقول لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة مثل { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله { فيها أنهار من ماء غير آسن } [ محمد : 15 ] الآية . و { كلما رزقوا } إما صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم كلما رزقوا ، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس ، فقيل : إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله .

و « من » في { منها } وفي { من ثمرة } لابتداء الغاية كما لو قلت : رزقني فلان فيقال : من أين؟ فتقول : من بستانه . فيقال : من أي ثمرة؟ فتقول : من الرمان . فالرزق قد ابتدئ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة والرمانة الفذة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار ، ووجه اخر وهو أن يكون { من ثمرة } بياناً على منهاج قولك « رأيت منك أسداً » تريد أنت أسد . وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار والجناة الواحدة ، لأن التفاحة الواحدة مثلاً يصدق عليها أنها رزق ، كما أن نوع التفاح يصدق عليه ذلك ، بخلاف ابتداء الرزق من الجنات فإن ذلك إنما يكون بنوع التفاح أولاً ، وبالذات وبشخصه ثانياً ، وبالعرص لأن التشخص أمر زائد على حقيقة الشيء فاعلم . وانتصاب { رزقاً } على أنه مفعول ثانٍ { رزقوا } ومعنى { هذا الذي } أي هذا مثل الذي رزقنا من قبل نحو « أبو يوسف أبو حنيفة » لأن ذات الذي رزقوه في الجنة لا تكون هي ذات الذي رزقوه في الدنيا . والضمير في قوله { وأتوا به } يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً ، لأن قوله { هذا الذي رزقنا من قبل } انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين . والغرض في تشابه ثمر الدنيا وثمر الآخرة أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ، ورأى فيه مزية ظاهرة أفرط ابتهاجه وطال استعجابه وتبين كنه النعمة فيه . فإذا أبصروا الرمانة والنبقة في الدنيا وحجمها ، ثم أبصروا رمانة الجنة تشبع السكن ، والنبقة كقلال هجر ، كما يرون الشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه ، كان ذلك أبين للفضل وأزيد في التعجب من أن يفاجؤا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما . وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها ، دليل على تناهي الأمر في ظهور المزية وكمال الاستغراب في كل أوان . عن مسروق : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وأنهارها تجري في غير أخدود ، والعنقود اثنا عشر ذراعاً . ويجوز أن يرجع الضمير في { أتوا به } إلى الرزق ، كما أن هذا إشارة إليه . ويكون المعنى : إن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه ، إما لتساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص ، وإما لأن الإنسان إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق نفسه إلا بمثله فإذا جاءوه بما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة . وعن الحسن أن الاشتباه في اللون فقط قال : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل .

فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها ، فإذا أبصروها والهيئة هيئتها الأولى قالوا ذلك » ويحتمل أن يقال : إن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات الأرواح وعالم السموات ، بحيث يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس ، ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ، ولكن لا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج لمكان العلائق البدنية ، وإذا زال العائق بعد الموت وشاهد تلك المعارف قال : هذه هي التي كانت حاصلة لي في الدنيا ، ووجد كمال اللذة والسرور . وقال أهل التحقيق : الجنة جنة الوصول ، وأشجارها هي الملكات الحميدة والأخلاق الفاضلة ، والثمرات ثمرات المكاشفات والمشاهدات والأسرار والإشارات والإلهامات وغيرها من المواهب ، وإنهم يشاهدون أحوالاً شتى في صورة واحدة من ثمرات مجاهداتهم ، فيقول بعض المتوسطين منهم : إن هذا المشهد هو الذي شاهدته قبل هذا ، فتكون الصورة تلك الصورة ولكن المعنى حقيقة أخرى ، كما أن موسى شاهد نور الهداية في صورة نار فتكون تارة تلك النار نار صفة غضبية كما كان لموسى ، إذا اشتد غضبه اشتعلت قلنسوته ناراً ، وتارة تكون نار المحبة تقع في محبوبات النفس فتحرقها ، وتارة تكون نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فتحرق عليهم بيت وجودهم فافهم . وأيضاً ، كل شيء له صورة في الدنيا فله في الآخرة معنى آخر غيبي كقوله صلى الله عليه وسلم في دماء الشهداء « اللون لون الدم والريح ريح المسك » فاعلم . وقوله { وأتوا به متشابهاً } جملة معترضة تفيد زيادة التقرير كقولك « فلان أحسن إلى فلان ونعم ما فعل » والمراد بتطهير الأزواج تطهيرهن من الأقذار والأدناس لا سيما التي تختص بالنساء ، وكذا من الأخلاق الذميمة وعادات السوء . وهما لغتان فصيحتان « النساء فعلن » و « هن فاعلات » و « النساء فعلت » و « هي فاعلة » والمعنى : ولهم جماعة أزواج مطهرة . وفي { مطهرة } فخامة لصفتهن ليست فيما لو قيل طاهرة وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهن وليس ذلك إلا الله عز وجل المريد لعباده أن يخولهم كل مزية فيما أعد لهم . وههنا نكتة وهي ، أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى يمنع من مباشرتها قال : { فاعتزلوا النساء في المحيض } [ البقرة : 222 ] مع أنها معذورة في تنجسها . فإذا كانت اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن ، إذا كانت نجساً بالمعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى . وأيضاً من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع من الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر ، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون؟ وكفى دليلاً على ذلك بإخراج آدم منها بسبب الزلة الصادرة عنه .

وأيضاً من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تجوز صلاته أو تستكره ، فكيف بمن صلى وعلى قلبه جبال من نجاسات الذنوب والمعاصي؟ والخلد عند المعتزلة الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع بدليل قوله تعالى { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } [ الأنبياء : 34 ] نفى الخلد عن البشر مع تعمير بعضهم { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } [ الحج : 5 ] وعند الأشاعرة : الخلد هو الثبات الطويل ، دام أو لم يدم . ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد كان قوله { خالدين فيها أبداً } تكراراً . ويقال في العرف : حبسه حبساً مخلداً ، أو وقف وقفاً مخلداً . والحق أن خوف الانقطاع ينغص النعمة وذلك لا يليق بأكرم الأكرمين .


إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

الوقوف : { فما فوقها } ( ط ) { من ربهم } ( ج ) لأن الجملتين وإن اتفقتا فكلمة « أما للتفصيل بين الجمل { مثلاً } ( م ) لأنه لو وصل صار ما بعده صفة له وليس بصفة إنما هو ابتداء إخبار من الله عز وجل جواباً لهم . { ويهدي به كثيراً } ( ط ) { الفاسقين } ( لا ) لأن { الذين } صفتهم { ميثاقه } ( ص ) لعطف المتفقتين { في الأرض } ( ص ) { الخاسرون } ( 5 ) .
التفسير : لما بين كون القرآن معجزاً أورد شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها . عن ابن عباس : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] وقوله { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية . وعن الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله فنزلت . والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض؟ وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا : » أجرأ من الذباب « و » أضعف من بعوضة « و » كلفتني مخ البعوض « . ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزوان حب يخالط البر ، وكحبة خردل ، والمنخل والحصاة والأرضة والدود والزنابير . قال : مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة ، فلما نبت الزرع واشتد غلب عليه الزوان . فقال عبيد الزارع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ فقال : بلى قالوا : فمن أين هذا الزوان؟ قال : لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه حنطة ، دعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد . فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين ، وأفسر لكم ، ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة وهو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هي أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله ، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس ، والزوان المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه ، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشر إلى الهاوية ، وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار فكذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم ، من كانت له أذن تسمع فليسمع . وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء ، رجل آخر أخذ حبة الخردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية ، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول ، وجاء طير السماء فعشش في فروعها ، فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله تعالى أجره وعظمه ورفع ذكره ونجا به من اهتدى .

وقال : لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الطيب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ، وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الرياح . وقال : لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسد ، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله . وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يغزلن ولا يشخصن ، ومنهن ما هو في جوف الحجر الأصم وفي جوف العود ، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون؟! وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم . هذا ونحن نرى أن الإنسان يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي ، فإذا ذكر المثال اتضح وانكشف . وذلك أن من طبع الخيال حب المحاكاة ، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شك أن الثاني يكون أكمل ، وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبياناً لكل شيء . ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الكبير والصغير ، وحكمته في كل ما خلق وبرأ عامة بالغة ، وليس الصغير أخف عليه من الكبير ، ولا الكبير أصعب عليه من الصغير . فالمعتبر إذن ما يليق بالقصة ، فإذا كان اللائق بها الذباب والعنكبوت لخسة مضرب المثل ووهنه ، فكيف يضرب بالفيل وبشيء مستحكم النسج والصفاقة؟ وهذا مما لا يخفى على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم ،
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ، ويذم واشتقاقه من الحياة ، يقال : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اشتكى النسا والحشا ، وكأن الحيي صار منتقص القوة منتكس الحياة وقد عرفت في الأسماء الحسنى ، أن أمثال هذه الصفات إنما يجوز أن تطلق على الله تعالى بعد الإذن الشرعي باعتبار النهايات لا باعتبار المبادئ . فحديث سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً » إنما جاء على سبيل التمثيل لأنه مثل تركه تخييب العبد بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه . ومعنى قوله { إن الله لا يستحيي } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها . ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة والطباق ، وهو فن بديع قال أبو تمام :

من مبلغ أفناء يعرب كلها ... أني بنيت الجار قبل المنزل
فلولا بناء الدار لم يصح بناء الجار ، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبت في إناء من الورد
فيصف كثرة مياه الأمطار في طريقه ، وأنه أينما ذهب رأى الماء وكأنه يعرض نفسه على النوق فتستحيي فتكرع فيه مشافر كأنها السبت وهو الجلد المدبوغ بالقرظ ، وشبه الأرض وفيها الماء وحواليه الأزهار بإناء من الورد . وفيه لغتان : استحييت منه واستحييته وهما محتملتان ههنا . وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم ، وفي الحديث : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب . و « ما » هذه إبهامية ، إذا اقترنت باسم نكرة زادته شياعاً وعموماً كقولك « أعطني كتاباً ما » تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله { فيما نقضهم } [ النساء : 155 ] أي مثلاً حقاً أو ألبتة . وانتصب { بعوضة } بأنها عطف بيان و { مثلاً } وذلك أن ما يضرب به المثل قد يسمى مثلاً كما يقال : حاتم مثل في الجود . أو مفعول ل { يضرب } و { مثلاً } حال عن النكرة مقدمة عليها ، أو انتصبا مفعولين فجرى « ضرب » مجرى « جعل » . والبعوض في أصله صفة على فعول من البعض القطع فغلبت ، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه وفي معناه البضع والعضب . ومن غرائب خلقه أنه مع صغره أعطي كل ما أعطي الفيل مع كبره ، ففيه إشارة إلى أن خلق أحدهما ليس أصعب من خلق الآخر ، وإشارة إلى حالة الإنسان وكمال استعداده كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله خلق آدم على صورته » أي على صفته فأعطاه على ضعفه من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجاً ليشاهد في مرآة نفسه جمال صفات ربه . ومن العجائب أن خرطومه في غاية الصغر ، ومع ذلك مجوف . ومع فرط صغره وكونه مجوفاً يغوص في جلد الجاموس والفيل على ثخانته كما يضرب الرجل أصبعه في الخبيص ، وذلك لما ركب الله تعالى في رأس خرطومه من السم .
وقوله { فما فوقها } أي فالذي هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب ، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء ، أو أراد فما فوقها في الصغر كجناح البعوضة حيث ضربه صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا ، وهذا أولى لأن الآية نزلت في بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير ، فيجب أن يكون المذكور ثانياً أحقر من الأول . والفاء ههنا تفيد الترتيب في الذكر لأنه يذكر في هذا المقام الأخس فالأخس كقوله :

« يا دار مية بالعلياء فالسند » ... لأنه يذكر في تعريف الأمكنة الأخص بعد الأعم ، فكأن العلياء موضع وسيع يشتمل على مواضيع منها السند . { وأما } حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء ، وفائدته التوكيد . تقول : زيد ذاهب . فإذا قصدت التوكيد وأن الذهاب منه عزيمة قلت : أما زيد فذاهب ولذلك قال سيبويه في تفسيره . « مهما يكن من شيء فزيد ذاهب » وليس مراده من هذا التفسير أن « أما » بمعنى « مهما » « كيف » - وهذه حرف ومهما اسم - بل قصده إلى المعنى البحث أي أن يكن في الدنيا شيء يوجد ذهاب زيد فهذا ، جزم بوقوع ذهابه لأنك جعلت حصول ذهابه لازماً لحصول أي شيء في الدنيا ، وما دامت الدنيا باقية فلا بد من حصول شيء فيها . ففي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين ورميهم بالكلمة الحمقاء . والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وحق الأمر ثبت ووجب . والضمير في { أنه الحق } للمثل ، أو ل { أن يضرب } و { ماذا } فيه وجهان : أن يكون « ذا » اسماً موصولاً بمعنى الذي ، فيكون كلمتين : « ما » مبتدأ وخبره « ذا » مع صلته ، وأن تكون « ذا » مركبة مع « ما » مجعولتين اسماً واحداً ، فيكون منصوب المحل في حكم « ما » وحده لو قلت : ما أراد الله ، وجوابه على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب . وقد يجيء على العكس كما تقول في جواب من قال : ما رأيت خير « أي المرئي خير » . وفي جواب : ما الذي رأيت خيراً « أي رأيت خيراً » . والإرادة نقيض الكراهة ، قال الإمام الرازي : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته . والمتكلمون أنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر ، لا في الوقوع بل في الإيقاع . واحترز بهذا القيد الأخير عن القدرة . واختلفوا في كونه تعالى مريداً مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى . فزعم النجار أنه معنى سلبي ومعناه أنه غير ساهٍ ولا مكره . ومنهم من قال : إنه أمر ثبوتي . ثم اختلفوا فالجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري : معناه علمه تعالى باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف . والأشاعرة وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم : أنه صفة زائدة على العلم . ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية وهو القول الآخر للنجار ، وإما أن تكون معنوية ، وذلك المعنى إما أن يكون قديماً وهو قول الأشعري ، أو محدثاً وذلك المحدث إما أن يكون قائماً بالله تعالى وهو قول الكرّامية ، أو قائماً بجسمٍ آخر ولم يقل به أحد ، أو موجوداً لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما .

وفي قوله { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } استرذال واستحقار كما قالت عائشة في عبد الله بن عمرو بن العاص حين أفتى بنقض ذوائب النساء في الاغتسال « يا عجباً لابن عمرو هذا » محقرة له . و { مثلاً } نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث « ماذا أردت بهذا جواباً » ولمن حمل سلاحاً رديئاً « كيف تنتفع بهذا سلاحاً » أو على الحال نحو { هذه ناقة الله لكم آية } [ هود : 64 ] وقوله { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب { أما } وأهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { وقليل ما هم } [ ص : 64 ] إنما يوصفون به بالقياس إلى أهل الضلال . وأيضاً فإن المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة .
إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب البعيد ، لأنه لما ضرب المثل ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم فتسبب لهديهم ، وازدادت الكفرة رجساً إلى رجسهم فتسبب لضلالهم عن الحق . والفسق الخروج عن القصد قال رؤبة :
فواسقاً عن قصدها جوائر ... يذهبن في نجد وغوراً غائراً
والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو عند أهل السنة من أهل الإيمان إلا أنه عاصٍ ، وعند الخوارج كافر ، وعند المعتزلة نازل بين المنزلتين ، لأن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة . ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزئ خلفه . ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ] يعني اللمز والتنابز { إن المنافقين هم الفاسقون } [ التوبة : 67 ] والنقض : افسخ وفك التركيب . وإنما ساغ استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا كقولك « عالم يغترف منه الناس » فتنبه بالاغتراف من العالم بأنه بحر ، وتسكت عن المستعار لأنك رمزت إليه بذكر شيء من لوازمه . والعهد : الموثق . عهد إليه في كذا إذا أوصاه به ووثقه عليه . والمراد بالناقضين إما كل من ضل وكفر لأنهم نقضوا عهداً أبرمه الله بإراءة آياته في الآفاق وفي أنفسهم وبما ركز في عقولهم من إقامة البينة على الصانع وعلى توحيده وعلى حقية شريعته بعد إزاحة العلات وإزالة الشبهات ، وإما قوم من أهل الكتاب وقد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته .

وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود : العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم { وإذ أخذ ربك } [ الأعراف : 172 ] الآية . وعهد خص به النبيين أن يبلغو الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } [ الأحزاب : 7 ] وعهد خص به العلماء { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [ آل عمران : 187 ] والضمير في { ميثاقه } للعهد . والميثاق إما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ، أو اسم لما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله اي من بعد توثقته عليهم ، أو من بعد ما وثق الله تعالى به عهده من آياته وكتبه ورسله . ومعنى قطعهم ما أمر الله به أن يوصل ، إما قطعهم ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرابة والرحم ، أو قطعهم موالاة المؤمنين إلى موالاة الكافرين ، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض . والأمر طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ، لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به . وللأمر حرف واحد وهو اللام الجازم نحو « ليفعل » وصيغ مخصوصة للمخاطب نحو « انزل » و « نزال » و « صه » . وقد يستعمل في الدعاء والالتماس بمعونة القرينة وظاهره للوجوب ، وغيره من الندب أو الإباحة يتوقف على القرينة . وقوله { أن يوصل } بدل الاشتمال من الضمير المجرور ، والجار الذي ينبغي أن يعاد مقدر تقديره بأن يوصل أي بوصله . والإفساد في الأرض إما إظهار المعاصي ، وإما التنازع وإثارة الفتن . { أولئك هم الخاسرون } لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقاب هذه الأمور بثوابها { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ العصر : 2 ، 3 ] الآية .


كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

القراآت : { فأحياكم } وبابه بالإمالة : علي . { ترجعون } بفتح التاء وكسر الجيم كل القرآن : يعقوب . وهو بابه بسكون الهاء : أبو جعفر ونافع غير ورش وعلي وأبو عمرو .
الوقوف : { فأحياكم } ( ج ) للعدول أي ثم هو يميتكم مع اتحاد مقصود الكلام { ترجعون } ( ط ) { سموات } ( ط ) { عليم } ( 5 ) .
التفسير : هذه الآية مسوقة لبيان التعجب من حال الكفرة ، وذلك أن الاستفهام من علام الغيوب يمتنع إجراؤه على أصله ، فيتولد بمعونة قرائن الأحوال ما ذكرنا . ووجهه هو أن الكفار حين صدور الكفر منهم لا بد من أن يكونوا على أحد الحالين : إما عالمين بالله وإما جاهلين به فلا ثالثة . فإذا قيل لهم : كيف تكفرون بالله؟ ومن المعلوم أن « كيف » للسؤال عن الحال وللكفر مزيد اختصاص من بين سائر أحوال الكافر بالعلم بالصانع أو الجهل به ، لأنه لا يمكن تصور كفر الكافر بالصانع مع الذهول عن كونه عالماً بالله أو جاهلاً به ، بخلاف سائر أحواله المتقابلة كالقعود والقيام والسكون والحركة ، فإنه يمكن تصور كفره مع الذهول عنها وإن كان لا ينفك الكافر في الوجود عنها كما لا ينفك من العلم بالصانع أو الجهل به في الوجود . وتوجه الاستفهام إلى ذلك الذي له مزيد اختصاص فأفاد الاستفهام ، أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به؟ لكن الجهل بعيد عن العاقل ، لأن الحال حال علم بهذه القصة وهي أن كانوا أمواتاً فصاروا أحياء ، وسيكون كذا والحال كذا من الإماتة ، ثم الإحياء ثم الرجع إليه ، فبقي أن يكون الحال حال العلم بالصانع الموجبة للصرف عن الكفر . فصدور الفعل عمن له صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب وإنكار وتوبيخ فكأنه قيل : ما أعجب كفركم والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي أن كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات ، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور ، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم . وهذه القضايا أيضاً مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة . والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله { بلدة ميتاً } [ ق : 11 ] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس . ويحتمل أن يقال : المراد به خمول الذكر كقوله { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } [ الدهر : 1 ] قال أبو نخيلة السعدي :
وأحييت لي ذكري وما كنت خاملاً ... ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض
ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة ، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات

{ فأماته الله مائة عام ثم بعثه } [ البقرة : 259 ] { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } [ البقرة : 242 ] { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } [ البقرة : 56 ] { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم } [ الكهف : 19 ] { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } [ الأنبياء : 84 ] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها : اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه . ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياة والإماتة إلا الله ، فيبطل قول الدهري { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه ، لأن الإعادة أهون من الإبداء . ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب ، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال : { فأحياكم } أي بعقب كونكم نطفاً من غير تخلل حالة أخرى بينهما ، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة ، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر ، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب . فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع ، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور . ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، ويبقى مدة مديدة في اللحد { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } [ المؤمنون : 100 ] ينادي فلا يجيب ، ويستنطق فلا يتكلم ، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون .
يمرّ أقاربي بحذاء قبري ... كأن أقاربي لم يعرفوني
الهي إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا شاحبة وجوهنا جائعة بطوننا مثقلة من حمل الأوزار ظهورنا بادية لأهل القيامة سوآتنا ، فلا تضغف مصائبنا بإعراضك عنا ، يا واسع المغفرة ، ويا باسط اليدين بالرحمة . ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى أصل جميع النعم وهو الإحياء الذي من حقه أن يشكر ولا يكفر ، أعقبها بذكر ما هو كالأصل لسائر النعم وهو خلق الأرض بما فيها ، وخلق السماء . ومعنى { لكم } لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم وذلك ظاهر ، وفي دينكم من النظر في عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم ، ومن التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الإنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية ، وعلى أسباب الوحشة والألم من النيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف . فظاهر الآية لا يدل إلا على خلق ما في الأرض لأجلهم دون الأرض . فإن أريد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما يذكر السماء ويراد به الجهات العلوية جاز أن يراد خلق لكم الأرض وما فيها . و { جميعاً } نصب على الحال من الموصول الثاني وهو « ما » أي مجموعة ، والمجموع الذي جمع من ههنا وههنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد ويندرج فيها جميع البسائط من الماء والهواء والنار وجميع المواليد من المعادن والنبات والحيوان وجميع الصنائع والحرف .

وبعضهم يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة عقلاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ويمكن أن يقال بل بهذه الآية وإلا كان تصرفاً في ملك الغير من غير إذنه . ولا يلزم من أنه تعالى خلق ما في الأرض لأجل المكلفين أن يكون فعله معللاً بغرض ، وإن كان لا يخلو من فائدة وغاية ، وإلا كان عبثاً لأنه لا يلزم من استتباع الفعل الغاية أن تكون تلك الغاية علة لعلية فاعلة ، لأن هذا فيما إذا كانت فاعليته ناقصة لتتكمل بتلك الغاية ، أما إذا كانت فاعليته تامة فإنه يوجد الشيء ذا الغاية من غير أن تكون تلك الغاية حاملة له على ذلك ، وهذا فرق دقيق يتنبه له من يسر عليه قيل : إنه تعالى خلق الكل للكل ، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً ، قلنا : قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد للفرد ، والتعيين يستفاد من دليل منفصل . والاستواء بمعنى الانتصاب ضد الاعوجاج من صفات الأجسام ، وإنه تعالى منزه عن ذلك . وأيضاً « ثم » تقتضي التراخي ، فلو كان المراد بهذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أزلاً ولم يكن متأخراً عن خلق ما في الأرض ، فيجب التأويل . وتقريره أن يقال : استوى العود إذا اعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه استعير قوله { ثم استوى إلى السماء } [ فصلت : 11 ] أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر . والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق ، أو هذا كقولك لآخر « اعمل هذا الثوب » وإنما معه غزل . على أنها كانت دخاناً ثم سواها سبع سموات . و « ثم » ههنا إما للتراخي في الوقت والمراد أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقاً آخر كما قلنا ، أو للتفاوت بين الخلقين . وفضل خلق السموات على خلق الأرض كقوله { فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر } [ المؤمنون : 14 ] وكقوله { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] وتفسير هذه الآية في قوله { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } [ فصلت : 9 ، 10 ] يعني تقدير الأرض في يومين ، وتقدير الأقوات في يومين ، كما يقول القائل : من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً ، وإلى مكة ثلاثون يوماً ، يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر .

ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ، ومجموع ذلك ستة أيام كما قال { خلق السموات والأرض في ستة أيام } [ يونس : 3 ] فإن قيل : أما يناقض هذا قوله { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] قلنا : أجاب في الكشاف لا ، لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء ، وأما دحوها فمتأخر . وعن الحسن : خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله { كانتا رتقاً } [ الأنبياء : 30 ] وهو الالتزاق ، وزيف بأن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية . وأيضاً قوله تعالى { خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } يدل على أن خلق الأرض وخلق ما فيها مقدم على خلق السماء ، لأن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوّة . وقال بعض العلماء في دفع التناقض قوله { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض ، وزيف أيضاً بأن قوله { أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 27-30 ] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدماً على تدحية الأرض ، بل على خلقها لأنهما متلازمان . وحينئذ يعود التناقض والمعتمد عند بعضهم في دفعه أن يقال « ثم » ليس للترتيب ههنا ، وإنما هو على جهة تعديد النعم . مثاله : أن تقول لغيرك : ألست قد أعطيتك نعماً عظيمة ، ثم رفعت قدرك ، ثم دفعت عنك الخصوم؟ ولعل بعض ما أخرته في الذكر مقدم في الوقوع . ( قلت ) : وهذا صحيح معقول من حيث ابتداء الوجود من الأشرف فالأشرف والألطف فالألطف إن ساعده النقل وإلا فلا إحالة في أنه تعالى خلق الأرض أولاً في غاية الصغر وجعل فيها أصول الجبال ووضع فيها البركة وقدر الأقوات ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً ثم دحا الأرض بأن جعلها أعظم مما كانت عليه كهيئتها الآن والله تعالى أعلم . والضمير في { سوّاهن } ضمير مبهم ، و { سبع سموات } تفسيره نحو : ربه رجلاً . وفائدة الإبهام أولاً ثم البيان ثانياً أن الكلام هكذا أوقع في النفس ، لأن المحصول بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب . وقيل : الضمير راجع إلى السماء ، والسماء في معنى الجنس . وقيل : جمع سماءة والوجه العربي هو الأول . ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وهو بكل شيء عليم ، فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب الحاجات وكفاء المصالح ، ومقتضى الحكمة والتدبير . وهذا عام لم يدخله التخصيص قط ، وبه يهدم بناء من زعم أنه غير عالم بالجزئيات ، لأنه تعالى لو لم يعرف تفاصيلها لم تكن مخلوقاته على غاية الإتقان والإحكام ، فسبحانه من خبير يعلم الذرة في الأجواف ، والدرة في الأصداف ، والقطرة في البحر ، والخطرة في النحر ، وعلى هذا يدور نظام العالم وبه يحصل قوام مناهج بني آدم .

ثم إن العقل قد يدل على وجود سبع سموات ، وتخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد ، فأثبت أهل الأرصاد تسعة أفلاك على ما استقر عليه رأيهم ، أولها من الجانب الأعلى للحركة اليومية ، لأن هذه الحركة تشمل جميع الأجرام ، فيجب أن يكون فلكها حاوياً للكل . وثانيها للثوابت جميعها تحديداً لأدنى الدرجات لاتحاد الحركات وإن كان كونها على أفلاك شتى جائزاً . والسبعة الباقية للسيارات السبعة جميع ذلك بوجود اختلاف المنظر وعدمه . وعلى ترتيب خسف بعضها بعضاً ، أولها مما يلينا للقمر وفوقه لعطارد ثم للزهرة ثم للشمس ثم للمريخ ثم للمشتري ثم لزحل . ونازعهم بعض الناس في زيادة الفلكين الثامن والتاسع فقال : من المحتمل أن تتصل نفس بمجموع السبعة فتحركها حركة الكل ، ثم يكون لكل فلك نفس على حدة تحركه حركته الخاصة به ، وتكون الثوابت على محدب ممثل زحل مثلاً . وبالجملة فلم يتبين لأحد من الأوائل والأواخر كمية أعداد السموات على ما هي عليه لا عقلاً ولا سمعاً { وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } [ المدثر : 31 ] .


وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

القراآت : { خليفة } وأشباهها بالإمالة عند الوقف : أبو عمرو وحمزة وعلي والأعشى والبرجمي إلا أن يكون قبلها من الحروف الموانع السبع وهي : الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والخاء والقاف نحو : خاصة ، وفريضة ، وحطة ، وغلظة ، وصبغة ، وصاخة ، وشقة . وأما العين والحاء والراء فعلى الاختلاف عند أهل المدينة ، فأشدهم إمالة حمزة وعلي ، فأما أبو عمرو والأعشى والبرجمي فإنهم يميلون بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب { إني أعلم } بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
الوقوف : { خليفة } ( ط ) بناء على أن عامل « إذ » محذوف أي اذكر . ومن جعل { قالوا } عامل « إذ » وصل . { الدماء } ( ج ) لأن انتهاء الاستفهام على قوله { ويسفك الدماء } يقتضي الفصل ، واحتمال الواو لمعنى الحال في قوله { ونحن نسبح بحمدك } يقتضي الوصل { ونقدس لك } ( ط ) { ما لا تعلمون } ( 5 ) .
التفسير : هذا ابتداء الإخبار عن كيفية خلق آدم عليه السلام وعن كيفية تعظيمه إياه ، فينخرط في سلك ما تقدمه من النعم ، فإن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء ، وإذ ههنا مجرد لمعنى الظرفية أي أذكر وقت قول ربك كقوله { واذكر أخا عاد إذ أنذر } [ الأحقاف : 21 ] أي وقت إنذاره على أنه بدل من أخا عاد لأن الذكر في ذلك الوقت ممتنع . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واحد من بني آدم ، ويجوز أن ينتصب ب { قالوا } فيكون للمجازاة . والملائكة جمع ملأك وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة هي الرسالة ، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل : ملأك ، وجمع على فعائل مثل شمأل وشمائل ، ثم تركت همزة المفرد لكثرة الاستعمال وألقيت حركتها على اللام . وإلحاق التاء لتأنيث الجمع نحو حجارة وقد لا تلحق . واعلم أن الملك قبل النبي صلى الله عليه وسلم بالشرف والعلية وإن كان بعده في عقولنا وأذهاننا ، وقد جعله الله واسطة بينه وبين رسله في تبليغ الوحي والشريعة . وقدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالأنبياء { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } [ البقرة : 285 ] ولا خلاف بين العقلاء في أن شرف العالم العلوي بالملائكة كما أن شرف العالم السفلي بوجود الأنبياء فيه . وللناس في حقيقة الملائكة مذاهب : منهم من زعم أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السموات وهو قول أكثر المسلمين ، ومنهم عبدة الأوثان القائلون إن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والإنحاس وأنها أحياء ناطقة ، فالمسعدات ملائكة الرحمة والمنحسات ملائكة العذاب . ومنهم معظم المجوس والثنوية القائلون بالنور والظلمة وإنهما عندهم جوهران حساسان مختاران قادران ، متضادا النفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير . فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر وينفع ولا يمنع ويحيى ولا يبلى ، وجوهر الظلمة ضد ذلك ، فالنور يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل كتولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة يولد الأعداء وهم الشياطين كتولد السفه من السفيه .

ومنهم القائلون بأنها جواهر غير متحيزة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم وهم طوائف من النصارى - إنها هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها ، فإن كانت صافية خيرة فالملائكة ، وإن كانت خبيثة كثيفة فالشياطين . وقال آخرون - وهم الفلاسفة - إنها مخالفة لنوع النفوس الناطقة البشرية ، وإنها أكمل قوة وأكثر علماً ، ونسبتها إلى النفوس البشرية كنسبة الشمس إلى الأضواء ، فمنها نفوس ناطقة فلكية ، ومنها عقول مجردة ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الأرضية المدبرة لأحوال العالم السفلي ، خيرها الملائكة وشريرها الشياطين ولكل من الفرق دلائل على ما ذهب إليه يطول ذكرها ههنا . وقد يستدل عليها أصحاب المجاهدات من جهة المكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات من جهة مشاهدة الآثار العجيبة والهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة الترياقات ، كما يحكى أنه كان لجالينوس وجع في الكبد فرأى في المنام كأن امرأ يأمره أن يفصد الشريان الذي على ظهر كفه اليمنى بين السبابة والإبهام ففعل فعوفي ، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة . ولا نزاع ألبتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة وذلك كالأمر المجمع عليه بينهم ، وأما شرح كثرتهم فقد قال صلى الله عليه وسلم « أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع » وروي « إن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور ، وهؤلاء عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية ، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيها ، فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً قليلاً ، وما مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعرف عددهم إلا الله ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل صلى الله عليه وسلم والملائكة الذين هم جنود جبريل وهم كلهم سامعون مطيعون لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون » وأما أصنافهم فمنهم حملة العرش { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ومنهم أكابر الملائكة جبرائيل صاحب الوحي والعلم ، وميكائيل صاحب الرزق والغذاء ، وإسرافيل صاحب الصور ، وعزرائيل ملك الموت ، ومنهم ملائكة الجنة

{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } [ الرعد : 23 ] ومنهم ملائكة النار { عليها تسعة عشر } [ المدثر : 30 ] ومنهم لموكلون ببني آدم عن اليمين وعن الشمال قعيد . ومنهم الموكلون بأحوال هذا العالم { والصافات صفا } [ الصافات : 1 ] وأما أوصافهم فكما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره . منهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار ركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر . ثم إنه روى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس ، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً ، بعث الله إبليس في جند من الملائكة فأخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر ، فقال تعالى لهم { إني جاعل في الأرض خليفة } وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين : إنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العموم والتخصيص خلاف الأصل .
و { جاعل } من جعل الذي له مفعولان ، معناه مصير في الأرض خليفة ، وإنما لم يقل إني خالق كما قال { إني خالق بشراً من طين } لأنه باعتبار الخلافة من عالم الأمر لا من عالم الخلق . والظاهر أن الأرض يراد بها ما بين الخافقين ، وقد يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض ههنا أرض مكة التي دحيت الأرض من تحتها . والخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه ، والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وجمعه خلائف مثل : كريمة وكرائم . وجاء خلفاء لأنهم جمعوه على إسقاط الهاء مثل : ظريف وظرفاء . والمراد به آدم صلى الله عليه وسلم إما لأنه صار خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وإما لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه كقوله { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } [ ص : 26 ] وهو المروي عن ابن مسعود والسدي . وعن الحسن ، أن المراد بالخليفة أبناء آدم لأنه يخلف بعضهم بعضاً ويؤيده قوله { هو الذي جعلكم خلائف الأرض } [ فاطر : 39 ] وإنما وحد بتأويل من يخلف أو خلفاً يخلف ، وبالحقيقة الإنسان يخلف جميع المكونات من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات ، ولا يخلفه شيء منها إذ لم يجتمع في شيء منها ما اجتمع فيه .

وليس للعالم مصباح يضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته خلافة عنه إلا مصباح الإنسان ، لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب ، والزجاجة في مشكاة الجسد ، وفي زجاجة القلب زيت الروح { يكاد زيتها يضيء } [ النور : 35 ] من صفاء العقل ولو لم تمسسه نار النور ، وفي مصباح السر فتيلة الخفاء ، فإذا استنار مصباحه بنار نور الله كان خليفة الله في أرضه ، فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة واللطف والقهر ، ولا تظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك فاعلم . والفائدة في إخبار الملائكة بذلك ، إما تعليم العباد المشاورة في أمورهم وإن كان هو بحكمته البالغة غنياً عن ذلك ، وإما ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا . واعلم أن الجمهور من علماء الدين على أن الملائكة كلهم معصومون عن جميع الذنوب لقوله تعالى { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } [ النحل : 50 ] فلا شيء من المأمورات بل ومن المنهيات - لأن المنهي مأمور بتركه - إلا ويدخل فيه بدليل صحة الاستثناء وأيضاً لقوله { بل عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 26 ، 27 ] { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وطعن فيهم بعض الحشوية بأنهم قالوا أتجعل ، والاعتراض على الله من أعظم الذنوب . وأيضاً نسبوا بني آدم إلى القتل والفساد وهذا غيبة وهي من أعظم الكبائر . وأيضاً مدحوا أنفسهم بقولهم { ونحن نسبح بحمدك } وهو عجب . وأيضاً قولهم { لا علم لنا إلا ما علمتنا } اعتذار والعذر دليل الذنب . وأيضاً قوله تعالى { إن كنتم صادقين } دل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه . وأيضاً قوله { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض } يدل على أنهم كانوا مرتابين في أنه تعالى عالم بكل المعلومات . وأيضاً علمهم بالإفساد وسفك الدماء إما بالوحي وهو بعيد وإلا لم يكن لإعادة الكلام فائدة ، وإما بالاستنباط والظن وهو منهي { ولا تقْفُ ما ليس لك به علم } [ الإسراء : 36 ] وأيضاً قصة هاروت وماروت وأن إبليس كان من الملائكة المقربين ثم عصى الله وكفر . والجواب عن اعتراضهم على الله أن غرضهم من ذلك السؤال لم يكن هو الإنكار ولا تنبيه الله على شيء لا يعلمه فإن هذا الاعتقاد كفر ، وإنما المقصود من ذلك أمور منها : أن الإنسان إذا كان قاطعاً بحكمة غيره ثم رآه يفعل فعلاً لا يهتدي ذلك الإنسان إلى وجه الحكمة فيه ، استفهم عن ذلك متعجباً . فكأنهم قالوا إعطاء هذه النعم العظام من يفسد ويسفك لا تفعله إلا لوجه دقيق وسر غامض فما أبلغ حكمتك ، ومنها أن إبداء الإشكال طلباً للجواب غير محذور ، فكأنه قيل : إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه ألبتة ، وتمكين السفيه من السفه قبيح من الحكيم ، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟ وهذا جواب المعتزلة ، واستدلوا به على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى فكانوا على مذهب أهل العدل قالوا : ومما يؤكد ذلك أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق .

وأيضاً قالوا { ونحن نسبح بحمدك } والتسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام { ونقدس لك } والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه ، ومنها أن الخيرات في هذا العالم غالبة على شرورها ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير . فالملائكة نظروا إلى الشرور فأجابهم الله تعالى بقوله { إني أعلم ما لا تعلمون } أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجل الشر القليل وهذا جواب الحكيم . ومنها أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى ، فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه . ومنها أن قولهم { أتجعل } مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحاً نحو قول موسى { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } [ الأعراف : 155 ] أي لا تهلك ، فقال تعالى { إني أعلم ما لا تعلمون } من صلاحكم وصلاح هؤلاء فبين أن الاختيار لهم السماء ولهؤلاء الأرض ، ليرضى كل فريق بما أختار الله له . ومنها أن هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير : ألستم خير من ركب المطايا؟ أي أنتم كذلك وإلا لم يكن مدحاً ، فكأنهم قالوا : إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فقال تعالى { إني أعلم ما لا تعلمون } فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل ، وأنا أعلم ظاهرهم وما في باطنهم من الأسرار الخفية التي تقتضي إيجادهم . وفيه أن استحقاق تلك الخلافة ليس بكثرة الطاعة ولكنه بسابق العناية ، وأنه تعالى غني عن طاعة المطيعين كما أنه لا تضره معصية المذنبين .
والجواب عن الغيبة أن من أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال ، فلذلك ذكروا الفساد والسفك لا للغيبة . وعن العجب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً { وأما بنعمة ربك فحدث } [ الضحى : 11 ] فكأنهم قالوا ما سألناك للقدح في حكمتك يا رب فإنا نعترف لك بالإلهية والحكمة ، بل لطلب وجه الحكمة . وعن الاعتذار ، إنه لم يكن للذنب بل لأن ترك السؤال كان أولى . وروي عن الحسن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقاً إلا كنا خلقاً أعظم منه وأكرم عليه ، فلما خلق آدم عليه السلام وفضله عليهم وعلمه الأسماء كلها قال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في أنه لا يخلق خلقاً إلا وأنتم أفضل منه ، ففزعوا إلى التوبة وقالوا { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } ثم إن العلماء ذكروا في إخبار الملائكة عن الفساد والسفك وجوهاً منها : أنهم قالوا ذلك ظناً إما لأنهم قاسوهم على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض وهو مروي عن ابن عباس والكلبي ، وإما لأنهم عرفوا خلقته وعلموا أنه مركب من الأركان المتخالفة والأخلاط المتنافية الموجبة للشهوة التي منها الفساد وللغضب الذي منه سفك الدماء .

ومنها أنهم قالوا ذلك عن اليقين ، ويروى عن ابن مسعود وناس من الصحابة ، وذلك أنه تعالى لما قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : ربنا وما يكون الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً . فعند ذلك قالوا : ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ أو أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، أو لأنه لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك ، أو لأن معنى الخليفة إذا كان النائب لله في الحكم والقضاء والاحتياج إلى الحاكم إنما يكون عند التنازع والتظالم ، كان الإخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام وقيل : لما خلق الله النار خافت الملائكة خوفاً شديداً فقالوا : لم خلقت هذه النار؟ قال : لمن عصاني من خلقي . ولم يكن يومئذ لله خلق إلا الملائكة ، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة . فلما قال : إني جاعل في الأرض خليفة ، عرفوا أن المعصية منهم تظهر . وأما قصة إبليس وهاروت وماروت فسيجيء الكلام فيها . واختلف الناس في أن الملائكة لهم قدرة على المعاصي والشرور أم لا . فالفلاسفة وكثير من أهل الجبر قالوا : إنهم خير محض ولا قدرة لهم على الشر . والمعتزلة أثبتوا لهم قدرة على الأمرين ، لأن قولهم { أتجعل } إما معصية أو ترك الأولى ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، وأيضاً قال تعالى { ومن يقل منهم إني إلّه من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] وهذا يقتضي كونهم مزجورين . وقال { لا يستكبرون عن عبادته } [ الأنبياء : 19 ] والمدح بترك الاستكبار إنما يحسن لو كان قدراً على الاستكبار . ويمكن إلزامهم بأن الثواب عندهم واجب على الله فيمتنع عليه تركه مع أنه يستحق المدح على الثواب . والواو في { ونحن نسبح } للحال كقولك « أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان » والتسبيح تبعيد الله من السوء وكذا التقديس ، من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها أو أبعد . والتبعيد عن السوء إما في الذات ويحصل بنفي الإمكان المستلزم لنفي الكثرة المستلزمة لنفي الجسمية والعرضية والضد والند ، وإما في الصفات بأن يكون مبرءاً عن العجز والجهل والتغيرات محيطاً بكل المعلومات قادراً على كل المقدورات ، وإما في الأفعال بأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار ، يقول الله تعالى : أنا المنزه عن النظير والشريك سبحانه هو الواحد القهار ، أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات والأرض ، أنا المدبر لكل العالمين ، سبحان الله رب العالمين أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، أنا الغني عن الكل سبحانه هو الغني ، أنا السلطان الذي كل شيء سواي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ، أنا المنزه عن الصاحبة والولد سبحانه أنى يكون له ولد ، أنا الذي أخلق الولد من غير أب سبحانه

{ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [ آل عمران : 47 ] ، أنا الذي سخرت الأنعام القوية للبشر الضعيف { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } [ الزخرف : 13 ] أنا الذي أعلم لا بعلم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] أنا الذي أغفر معصية سبعين سنة بتوبة ساعة { فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس } [ طه : 130 ] فإن أردت رضوان الله فسبح { ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى } [ طه : 130 ] وإن أردت الخلاص من النار فسبح { سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران : 191 ] وإن أردت الفرج من البلاء فسبح { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] أيها العبد ، واظب على تسبيحي { وسبحوه بكرة وأصيلاً } [ الأحزاب : 42 ] وإلا فالضرر يعود إليك { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون } [ فصلت : 38 ] يسبح لي الحجر والمجر والرمال والجبال والشجر والدواب والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام { سبح لله ما في السموات والأرض } [ الحديد : 1 ] { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] أيها العبد ، أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء ، وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا التسبيح ، ولا أضيع ثواب هذه التسبيحات ، فإن ذلك لا يليق بي { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } [ ص : 27 ] لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك لتعرف أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته « وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء » أيها العبد أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] فإنك إذا ذكرتني في الخلوات ذكرتك في الفلوات { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } [ الأحزاب : 35 ] أقرضني وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم } [ التغابن : 17 ] لا حاجة لي إلى العسكر { ولو يشاء الله لانتصر منهم } [ محمد : 4 ] ولكن إذا نصرتني نصرتك { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] اخدمني { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك { ولله ملك السموات والأرض } [ آل عمران : 189 ] ولكن أصرف في خدمتي عمراً قصيراً لتنال ملكاً كبيراً وخيراً كثيراً

{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } [ التوبة : 72 ] .
قوله { بحمدك } في موضع الحال أي نسبحك ملتبسين بحمدك ، فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل؟ فقال : ما اصطفاه الله لملائكته : سبحان الله وبحمده . ويروى أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحي الذي لا ينام ولا يموت . وعن ابن عباس وابن مسعود : نسبح أي نصلي ، والتسبيح الصلاة . وعن مجاهد : نقدس لك نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك . وقيل : ظهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك { إني أعلم ما لا تعلمون } معناه لا تعجبوا ولا تغتموا بأن فيهم من يفسد ويسفك فإني أعلم أن فيهم من لو أقسم على الله لأبرَّه ، وأعلم أن معكم إبليس وفي قلبه من الحسد والكبر والنفاق ما فيه ، أو أنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فأنتم في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي . اصبروا حتى أخلق البشر فيكون فيهم من يعبدونني ثم يخشونني ، يودون حق العبادات ثم لا يتكلمون على تلك الطاعات { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] { والذين هم من خشية ربهم مشفقون } [ المؤمنون : 57 ] { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } [ النمل : 19 ] أو أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم ، ولكم في هذا الإجمال ما يغنيكم عن التفصيل ، فإن أفعالي كلها حكمة ومصلحة ، وإن خفي عليكم وجه كل واحد على أنه قد بين لهم بعض ذلك في قوله : { وعلم ءدم الأسماء . . . . . . . . . }


وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

القراآت : { أنبؤني } وكذلك { خاطئون } و { خاسئين } و { فمالئون } و { نحن المنشئون } و { ليطفؤا } و { ليواطؤا } و { متكئين } و { قل استهزؤا } و { متكئاً } و { يستنبؤك } وبابه { بريأ } و { بريؤن } وبابه ، وكهيئة وأشباه ذلك ، ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو . { هؤلاء } ها بغير المد ، أولاء بالمد : يزيد ويعقوب وأوقية ومصعب عن قالون . قال أبو إسحق : هما كلمتان لا بمدها ويمد أولاء . { هؤلاءان } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . وقرأ أبو عمرو والبزي من طريق الهاشمي بترك الهمزة الأولى وإثبات الثانية ، وكذلك في المفتوحتين والمضمومتين . وقرأ يزيد وورش والقواص وسهل ويعقوب بإثبات الهمزة الأولى وتليين الثانية . وعن نافع : تليين الأولى وإثبات الثانية ، وكذلك في المضمومتين . وأما في المفتوحتين فكأبي عمرو . { أنبئهم } عن ابن عامر روايتان : مهموزة مكسورة الهاء ، وغير مهموزة مكسورة الهاء .
الوقوف : { صادقين } ( 5 ) { علمتنا } ( ط ) { الحكيم } ( 5 ) { أنبئهم } ( ج ) { بأسمائهم } ( ج ) لمكان فاء التعقيب . { بأسمائهم } ( لا ) لأن « قال » جواب « فلما » { تكتمون } .
التفسير : وفيه أبحاث :
الأول : الأشعري والجبائي والكعبي على أن اللغات كلها توقيفية بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني ، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني بدليل قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } { لا علم لنا إلا ما علمتنا } وهذا يدل على أن الملائكة وآدم لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى إياهم . وخالفهم أصحاب أبي هاشم الذاهبون إلى أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد أو جماعة . وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال فقالوا : المراد ألهمه وبعث داعيته على الوضع مثل { وعلمناه صنعة لبوس لكم } [ الأنبياء : 80 ] . أي ألهمناه ، أو المراد علمه ما سبق من اصطلاحات قوم كانوا قبل آدم . وأجيب بأن الأصل عدم العدول عن الظاهر : قالوا { ثم عرضهم } يدل على أن المراد بالأسماء المسميات ، فإن عرض الأسماء غير معقول . فإذن المراد أسماء المسميات فعوض الألف واللام عن المضاف إليه كما في قوله { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] أي علمه أسماء كل ما خلق من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولده اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها ، وكان ولد آدم يتكلمون بهذه اللغات ، فلما مات وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات ، فلما مات و تفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات ، فلما طالت المدة ومضت القرون نسوا سائر اللغات . ثم لا يبعد بل ينبغي أن يكون الله تعالى قد علمه مع ذلك صفات الأشياء ونعوتها وخواصها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ، لأن اشتقاق الاسم إما من السمة أو من السمو .

فإن كان من السمة فالاسم هو العلامة وصفات الأشياء وخواصها دالة على ماهياتها وعلامة عليها ، وإن كان من السمو فدليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء ، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول . وإنما قلنا ينبغي ذلك لأن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها . ثم من الحقائق ما يتوقف إدراكها على آلة تدرك بها كالمبصرات والمسموعات وغيرها ، فإذا كان لآدم تلك الآلات وقد عرفها بها ، ولم يكن للملائكة ذلك لزم عجزهم . وأيضاً العربي لا يحسن منه أن يقول لغيره تكلم بلغتي ، لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات ، بل إن حصل التعليم حصل العلم بها وإلا فلا . أما العلم بحقائق الأشياء ، فالعقل يتمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي به . وإنما قيل { ثم عرضهم } بلفظ الذكور ، لأن في جملة المسميات الملائكة والثقلين وهم العقلاء ، فغلب الكامل على الناقص ، والتذكير على التأنيث . ومن الناس من تمسك بقوله { أنبؤني بأسماء هؤلاء } على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف ، لأنه إنما استنبأهم مع علمه بعجزهم تبكيتاً لهم بدليل قوله { إن كنتم صادقين } أي في أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منهم . وقيل : أي في قولكم إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود . وقيل : أعلموني بأسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الإعلام . وقيل : أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً وصدقاً ، فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل ، لم يجترءوا على الجواب . ثم إن الذين اعتقدوا معصية الملائكة في قولهم { أتجعل } قالوا : إنهم لما عرفوا خطأهم تابوا واعتذروا بقولهم { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } والذين أنكروا معصيتهم قالوا : إنهم قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز التسليم كأنهم قالوا : لا نعلم إلا ما علمتنا ، فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه؟ أو أنهم إنما قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] لأن الله تعالى أعلمهم ذلك . فكأنهم قالوا : إنك علمتنا أنهم يفسدون في الأرض فقلنا لك : أتجعل . وأما هذه الأسماء فإنك ما علمتنا فكيف نعلمها؟ ومعنى سبحانك نسبحك تسبيحاً أي ننزهك تنزيهاً وهو مصدر غير متصرف أي لا يستعمل إلا محذوف الفعل منصوباً على المصدرية ، فإذا استعمل غير مضاف كان « سبحان » علماً للتسبيح ، فإن العلمية كما تجري في الأعيان تجري في المعاني . قالت المعتزلة ههنا : المراد أنه لا علم لنا إلا من جهتك إما بالتعليم وإما بنصب الأدلة . وقالت الأشاعرة : بل الجميع بالتعليم لأن المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل ، وأنه يستند إلى توفيق الله تعالى وتسهيله .

ثم احتج أهل الإسلام بالآية ، أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله ، وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة . وللمنجم أن يقول للمعتزلي : إذا فسرت التعليم بوضع الدليل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم ، فيكون من جملة ما علمه الله تعالى أنك أنت العليم بكل المعلومات ، فأمكنك تعليم آدم الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه . وعن ابن عباس : أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض . وقوله { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض } استحضار لقوله تعالى لهم { إني أعلم ما لا تعلمون } إلا أنه تعالى جاء به على وجه أبسط وأشرح ، فيندرج فيه علمه بأحوال آدم قبل أن خلقه . وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها ، فيبطل مذهب هشام ابن الحكم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها . وقد روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود أنه يريد بقوله { ما تبدون } قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } وبقوله { وما كنتم تكتمون } ما أسر إبليس في نفسه من الكفر والكبر وأن لا يسجد . وقيل : لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً فقالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه ، فهذا هو الذي كتموه . ويجوز أن يكون هذا القول منهم سراً أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم ، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان . والظاهر أنه عام كقوله { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } [ الأنبياء : 11 ] { إنه يعلم الجهر وما يخفى } [ الأعلى : 7 ] .
البحث الثاني : قالت المعتزلة : ما ظهر من آدم معجز دل على نبوته في ذلك الوقت فكان مبعوثاً إلى حواء أو إلى من توجه التحدي إليهم ، لأنهم كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسل كبعثة إبراهيم إلى لوط صلى الله عليه وسلم واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقض العادة ومنع بأن حصول العلم بالأسماء لمن علمه الله ، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقض للعادة . وأيضاً أهم علموا أن تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو لا؟ فإن علموا فقد قدروا على المعارضة وإلا فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر ، اللهم إلا أن يقال : إن لكل صنف منهم لغة من تلك اللغات ، ثم إن جميع الأصناف حضروا وإن آدم عرض عليهم جميع تلك اللغات فكان معجزاً ، أو يقال : إنه تعالى عرفهم قبل أن يسمعوا من آدم تلك الأسماء فاستدلوا به على صدق آدم . والظاهر أنهم قد عرفوا صدقه بتصديق الله تعالى إياه ، ولئن سلم أنه ظهر منه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان؟ القاطعون بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت قالوا : صدرت الكبيرة منه بعد ذلك ، والإقدام عليها يوجب الطرد والتحقير ، فوجب أن تكون النبوة متأخرة عنها ، كيف وقد قال عز من قائل

{ ثم اجتباه ربه } [ طه : 122 ] والرسالة هي الاجتباء ، فيكون بعد الزلة . وأيضاً لو كان رسولاً ، فإن لم يكن مبعوثاً إلى أحد فلا فائدة ، وإن كان مبعوثاً فإما إلى الملائكة - وهم أفضل من البشر عند المعتزلة - ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف ، وإن المرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] وإما إلى الأنس ، ولا إنسان إلا حواء ، وإنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل { ولا تقربا هذه الشجرة } [ البقرة : 35 ] وإما إلى الجن ، وما كان في السماء أحد من الجن .
البحث الثالث : في فضل العلم : لو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء ، ومما يدل على فضيلته الكتاب والسنة والمعقول . أما الكتاب فمن ذلك ما يروى عن مقاتل ، أن الحكمة في القرآن على أربعة أوجه : أحدها مواعظ القرآن { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [ البقرة : 231 ] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم { وآتيناه الحكم صبيا } [ مريم : 12 ] { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } [ النساء : 54 ] ورابعها القرآن { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثير } [ البقرة : 269 ] وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم . ومن ذلك أنه تعالى فرق بين سبعة نفر في كتابه { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] { قل لا يستوي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات } [ فاطر : 19-22 ] فإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذاً من الفرق بين العالم والجاهل . ومن ذلك قوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] أي العلماء في أصح الأقوال ، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء . ولا ينعكس { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] جعلهم في الآيتين في المرتبة الثالثة ، ثم زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الثانية { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [ آل عمران : 70 ] { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } [ الرعد : 43 ] ومن ذلك قوله تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] ومن ذلك وصفهم بالإيمان { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } [ آل عمران : 7 ] وبشهادة التوحيد { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] وبالبكاء والسجود والخشوع { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً }

[ الإسراء : 107-109 ] وبالخشية { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] . وأما الأخبار فمنها ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم « من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين ، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة ، وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ، ويمسي ويصبح مغفوراً له ، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار » وعن أنس أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله ، ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره والقائم ليله ، وإن باباً من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن يكون له أبو قبيس ذهباً فينفقه في سبيل الله » وعن الحسن مرفوعاً « من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة في الجنة » وعنه صلى الله عليه وسلم « رحمة الله على خلفائي فقيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله » وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً « يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم ، انطلقوا فقد غفرت لكم » وقال صلى الله عليه وسلم « معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحر » وعن أبي هريرة مرفوعاً « من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء » وعن ابن عمر مرفوعاً « فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة حضر الفرس سبعين عاماً » وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم ويزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه إليها ولا يتعرف لها . وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن : « لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب » وعن ابن مسعود مرفوعاً « من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه الله أجر سبعين نبياً » وعن عامر الجهني مرفوعاً « يؤتى بمداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر » وفي رواية « فيرجح مداد العلماء » وعن أبي واقد الليثي « أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر . فأما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فإنه رجع وفر . فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من كلامه قال : ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ فأما الأول فأوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه » .

وعنه صلى الله عليه وسلم « يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » قال الراوي : فأعظم بمرتبة هي الواسطة بين النبوة والشهادة . وعن أبي هريرة مرفوعاً « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له بالخير » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس . قيل : يا رسول الله ومن الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم : أهل القرآن . قيل : ثم من؟ قال : أهل العلم . قيل : ثم من؟ قال صلى الله عليه وسلم : صباح الوجوه » قال الراوي : والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه . وقال صلى الله عليه وسلم « كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك » قال الراوي : وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى « الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيه » أن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم ، وما أحسن قول بعض الأعراب لولده : كن سبعاً خالساً ، أو ذئباً خانساً ، أو كلباً حارساً ، وإياك أن تكون إنساناً ناقصاً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحدث إنساناً فأوحى الله تعالى إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة - وكان هذا وقت العصر - فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال : يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة . قال صلى الله عليه وسلم اشتغل بالتعلم . فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب قال الراوي : فلو كان شيء أفضل من العلم لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك الوقت . وأما الآثار ، فإن مصعب بن الزبير قال لابنه : تعلم العلم فإنه إن يك لك مال كان لك جمالاً ، وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالاً . وقال علي بن أبي طالب : لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل . وقيل : مثل العالم بالله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص . وهو الجالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات ، فهو تارة مع الله بالحب له ، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة ، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار كواحد منهم كأنه لم يعرف الله ، وإذا خلا بربه مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق ، فهذا سبيل المرسلين والصديقين .

ومثل العالم بالله فقط كمثل القمر يكمل تارة وينقص أخرى ، وهو المستغرق في المعارف الالهية غير متفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بد منه ، ومثل العالم بأمر الله فقط وهو العارف بالحلال والحرام دون أسرار جلال الله ، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره . وقال شقيق البلخي : الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف ، وذلك أني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول ، فمن لا يصدقني فهو كافر محض ، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض ، ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمناً محضاً . وقال أيضاً : ثلاثة من النوم يبغضها الله ، وثلاثة من الضحك : النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة ، والنوم في الصلاة ، والنوم عند مجلس الذكر . والضحك خلف الجنازة ، والضحك في المقابر ، والضحك في مجلس الذكر . وقيل : العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم ، لأن الآباء والأمهات يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها ، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها . وقيل لابن مسعود : بم وجدت هذا العلم؟ قال : بلسان سؤل وقلب عقول . وقال بعضهم : سل مسألة الحمقى و احفظ حفظ الأكياس . وقيل : الدنيا بستان تزينت بخمسة أشياء : علم العلماء ، وعدل الأمراء ، وعبادة العباد ، وأمانة التجار ، ونصيحة المحترفين . فجاء إبليس بخمسة أعلام وأقامها بجنب هذه الخمس . فجاء بالحسد فركزه في جنب العلم ، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل ، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة ، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة ، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : العلم أفضل من المال لسبعة أوجه : العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة ، العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص ، المال يحتاج إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه ، إذا مات الرجل خلف ماله والعلم يدخل معه قبره ، المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن ، جميع الناس محتاجون إلى العالم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال ، العلم يقوي الرجل عند المرور على الصراط والمال يمنعه منه . قال الفقيه أبو الليث : من جلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع كرامات : ينال فضل المتعلمين ، وكان محبوساً من الذنوب ما دام جالساً عنده ، وإذا خرج من منزله طلباً للعلم نزلت الرحمة عليه ، وإذا جلس في حلقة العلم فنزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب ، وما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة ، إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه وانكسر فيكون في زمرة « أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » ، إذا رأى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق نفر عن الفسق ومال إلى طلب العلم . وقيل : ثلاثة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميراً : قيامه من مجلسه لأبيه ، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه ، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه .

( واعلم ) أن الله تعالى علم سبعة نفر سبعة أشياء : علم آدم الأسماء كلها ، وعلم الخضر علم الفراسة { وعلمناه من لدنا علماً } [ الكهف : 65 ] وعلم يوسف علم التعبير { وعلمتني من تأويل الأحاديث } [ يوسف : 101 ] وعلم داود صنعة الدرع { وعلمناه صنعة لبوس لكم } وعلم سليمان منطق الطير { علمنا منطق الطير } [ النمل : 16 ] وعلم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } [ آل عمران : 48 ] وعلم محمداً صلى الله عليه وسلم الشرع والتوحيد { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ] فعلم آدم كان سبباً لحصول السجدة والتحية ، وعلم الخضر كان سبباً لوجود تلميذ مثل موسى ويوشع ، وعلم يوسف لوجود الأهل والمملكة ، وعلم سليمان لوجدان بلقيس والغلبة ، وعلم داود للرياسة والملك ، وعلم عيسى لزوال التهمة عن أمه ، وعلم محمد صلى الله عليه وسلم لوجدان الشفاعة . ثم نقول : من علم أسماء المخلوقات وجد تحية الملائكة ، فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة بل تحية ربه { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى ، فأمة محمد بعلم الحقيقة يجدون صحبة محمد صلى الله عليه وسلم { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } [ النساء : 69 ] ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا ، فمن كان عالماً بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشبهات { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ يونس : 25 ] وأيضاً فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال { وعلمتني من تأويل الأحاديث } [ يوسف : 101 ] فأنت يا عالم ، أما تذكر نعمة الله على نفسك حيث جعلك مفسراً لكلامه ، وسمياً لنفسه ووارثاً لنبيه وداعياً لخلقه وواعظاً لعباده وسراجاً لأهل بلاده وقائداً للخلق إلى جنته وثوابه ، وزاجراً لهم عن ناره وعقابه ، كما جاء في الحديث « العلماء سادة ، والفقهاء قادة ، ومجالستهم زيادة » وإن سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه بالماء . ( وروي ) عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس : كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء؟ قال : لأن الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها . فقال نافع : الفخ يغطى له بأصبع من التراب فلا يراه فيقع فيه! فقال ابن عباس : إذا جاء القضاء عمي البصر . وقال لولده : يا بني عليك بالأدب ، فإنه دليل على المروءة ، وأنس في الوحشة ، وصاحب في الغربة ، وقرين في الحضر ، وصدر في المجلس ، ووسيلة عند انقضاء الوسائل ، وغني عند العدم ، ورفعه للخسيس ، وكمال للشريف ، وجلال للملك . ( وقال ) سقراط : من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحد كما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ، ولا يقدر أحد على سلبه عنك . وقيل لبعض الحكماء : لا تنظر فغمض عينيه وقيل له : لا تسمع فسد أذنيه ، وقيل له : لا تتكلم فوضع يده على فيه ، وقيل له : لا تعلم فقال : لا أقدر عليه .

وعن بعض الحكماء : عظم العلم في ذاتك ، وصغر الدنيا في عينك ، وكن ضعيفاً عند الهزل ، قوياً عند الجد ، ولا تلم أحداً على فعل يمكن أن يعتذر منه ، ولا ترفع شكايتك إلا إلى من ترى نفعه عندك حتى تكون حكيماً فاضلاً . ولبعضهم : آفة الزعماء ضعف السياسة ، وآفة العلماء حب الرياسة . ( وأما النكت ) فالمعصية عند الجهل لا يرجى زوالها ، وعند السهو يرجى زوالها انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر ، والشيطان عصى وبقي في الغي أبداً ، لأن ذلك كان بسبب الجهل ، وإن يوسف عليه السلام لما صار ملكاً احتاج إلى وزير فسأل جبريل عن ذلك فقال : إن ربك يقول لا تختر إلا فلاناً ، فرآه في أسوأ الأحوال . فقال لجبريل : كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله؟ فقال له جبريل : إن ربه عينه لذلك لأنه ذب عنك بعلمه حين قال { وإن كان قميصه قُدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين } [ يوسف : 27 ] والنكتة أن من ذب عن يوسف استحق الشركة في مملكته ، فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم فكيف لا يستحق من الله الخير والإحسان؟ وقيل : أراد واحد خدمة ملك فقال الملك : اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم ، بعث الملك إليه وقال : اترك التعلم فقد صرت أهلاً لخدمتي . فقال كنت أهلاً لخدمتك حين لم ترني أهلاً لخدمتك ، وحين رأيتني أهلاً لخدمتك رأيت نفسي أهلاً لخدمة الله ، وذلك لأني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب . ( وقال الحكيم : ) القلب ميت وحياته بالعلم ، والعلم ميت وحياته بالطلب ، والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة ، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب ، وإظهاره بالمناظر وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ، ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكاً أبدياً لا آخر له . وإن نملة واحدة نالت الرياسة بمسألة واحدة علمتها وذلك قولها { وهم لا يشعرون } [ النمل : 18 ] كأنها إشارة إلى تنزيه الأنبياء عن المعصية وإيذاء البريء من غير جرم فقالت : لو حطمكم فإنما يصدر ذلك على سبيل السهو . فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات ، كيف لا يستحق الرياسة في الدين والدنيا؟ وإن الكلب المعلم يكون صيده ماهراً ببركة العلم مع أنه نجس في الأصل ، فالنفس الطاهرة في الفطرة إذا تلوثت بأوزار المعصية ، كيف لا تطهر ببركة العلم بالله وبصفاته؟ وإذا كان السارق عالماً لا تقطع يده لأنه يقول : كان المال وديعة لي ، وكذا الشارب يقول : حسبته حلالاً ، وكذا الزاني يقول : تزوجتها فإنه لا يحد . وأما الحكايات ، ( يحكى ) أن هارون الرشيد كان بحضرته فقهاء فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيتي مالاً بالليل ، ثم أقر الآخذ بذلك في المجلس ، فاتفق العلماء على أنه تقطع يده ، فقال أبو يوسف : لا قطع عليه لأنه أقر بالأخذ ، وإنه لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في ذلك ثم قالوا للآخذ : أسرقتها؟ فقال : نعم .

فأجمعوا على القطع لأنه أقر بالسرقة . فقال أبو يوسف : لا قطع عليه لأنه وإن أقر بالسرقة ، لكن بعدما أوجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ ، وإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل .
( وعن الشعبي ) كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر - فقيه خراسان - من بلخ مكبلاً في الحديد . فقال الحجاج : أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية الرسول؟ فقال : بلى . فقال الحجاج : لتأتيني ببينة واضحة من كتاب الله أو لأقطعنك عضواً عضواً . فقال : آتيك ببينة واضحة من كتاب الله يا حجاج؟ قال : فتعجب من جرأته بقوله يا حجاج فقال له : ولا تأتيني بهذه الآية { ندع أبناءنا وأبناءكم } [ آل عمران : 61 ] فقال : آتيك بها واضحة من كتاب الله . قال تعالى : { ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان } [ الأنعام : 84 ] إلى قوله { وزكريا ويحيى وعيسى } [ الأنعام : 85 ] فمن أبو عيسى فقد ألحق تعالى عيسى بذرية نوح قال : فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال : كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله ، حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا . ( ويحكى ) أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويسفهوا عليه ، فقال لهم : لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره ، فأشاروا إلى واحد فقال : هذا أعلمكم؟ قالوا : نعم قال : والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا : نعم . قال : والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟ قالوا : نعم . قال : وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد ألزمتكم الحجة؟ قالوا : نعم . قال : وكيف قالوا لأنا رضينا به إماماً فكان قوله قولاً لنا ، قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة فقراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالعلم . ويحكى أن المنصور دعا أبا حنيفة يوماً فقال الربيع وهو يعاديه : يا أمير المؤمنين ، هذا يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره ، فقال أبو حنيفة : هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس . فقال : كيف قال إنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم؟ فضحك المنصور وقال : إياك يا ربيع وأبا حنيفة ، فلما خرج الربيع قال : سعيت في دمي قال : كنت البادي . ويحكى أنه دخل اللصوص على رجل وأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يعلم أحداً . فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه ، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة ، فقال : أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأدخلهم جميعاً في دار واحدة وأخرج واحداً واحداً .

فقال للرجل : إن لم يكن لصك فقل : لا ، وإن كان فاسكت . فلما سكت قبض على اللص ورد الله تعالى عليه جميع ما سرق منه . ويحكى أنه كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة ، فقال يوماً له : إني أريد التزوج من آل فلان وقد خطبتها إليهم فطلبوا مني من المهر فوق طاقتي . قال : استقرض وادخل عليها فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك . فأقرضه أبو حنيفة ذلك القدر ثم قال له بعد الدخول : أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد ، وأنك تسافر بأهلك معك . فأظهر الرجل ذلك فاشتد على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه فقال لهم : له ذلك ، والطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه فأجابوا إليه ، فقال الزوج : إني أريد شيئاً آخر فوق ذلك . فقال له أبو حنيفة : ترضى بهذا وإلا أقرت لرجل بدين فلا يمكن المسافرة بها حتى تقضي ما عليها ، فقال الرجل : الله الله ، لا يسمعوا بهذا ، فرضي بذلك وحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين . وسئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته في نهار رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب . فقال : يسافر بامرأته فيطؤها نهاراً في رمضان . وقال بشر المريسي للشافعي : كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أهل المشرق والمغرب على شيء واحد - وكانت هذه المناظرة عند الرشيد - فقال الشافعي : هل تعرف إجماع الناس على خلاف هذا الجالس؟ فأقر به خوفاً وانقطع . ويحكى أن أعرابياً سأل الحسين بن علي رضي الله عنه حاجة وقال : « سمعت جدك يقول : إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة : إما عربياً شريفاً ، أو مولى كريماً ، أو حامل القرآن ، أو صاحب الوجه الصبيح » فأما العرب فشرفت بجدك ، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم ، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل ، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين » رضي الله عنهما . فقال الحسين رضي الله عنه : ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض . فقال الحسين رضي الله عنه : سمعت أبي علياً رضي الله عنه يقول : قيمة كل امرئ ما يحسنه . وسمعت جدي يقول : المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل ، إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي ، وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي ، وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي . وقد حمل إلى الحسين صرة مختومة من العراق فقال : سل ولا قوة إلا بالله . فقال رضي الله عنه : أي الأعمال أفضل؟ قال الأعرابي : الإيمان بالله . قال : فما نجاة العبد من الهلكة؟ قال : الثقة بالله ، قال : فما يزين المرء؟ قال : علم معه حلم .

قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك؟ قال : فمال معه كرم . قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك؟ قال : ففقر معه صبر . قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك؟ قال : فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه . فضحك الحسين رضي الله عنه ورمى بالصرة إليه .
وأما الوجوه العقلية فمنها أن الأمور أربعة أقسام : قسم يرضاه العقل دون الشهوة كمكاره الدنيا ، وقسم عكس ذلك كالمعاصي ، وقسم ترضاه الشهوة والعقل وهو العلم والجنة ، وقسم لا ترضاه الشهوة والعقل وهو الجهل والنار . فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة ، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة ، وكما يعيش يموت وكما يموت يبعث . ومنها أن اللذة إدراك المحبوب ، وكلما كان المدرك أكمل وأشرف كانت اللذة أكمل وأتم . ومدرك العقل هو الله تعالى وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والمواليد وجميع أحكامه وأوامره وأي معلوم أشرف من ذلك؟ فلا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذته ، ولا ألم ولا نقصان مثل ألم الجهل ونقصانه ، ولهذا قال عز من قائل { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 1-5 ] كأنه قال : كنت في أول حالك علقة هي الغاية في الخساسة ، ثم صرت في آخر حالك في غاية الشرف . وأيضاً ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، وهذا يدل على أنه إنما يستحق الأكرمية لأنه أعطى العلم ، فالعلم أشرف عطية وأعظم موهبة . ومنها أنه تعالى قال { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] فالعلماء من أهل الخشية ، وأهل الخشية أهل الجنة لقوله تعالى { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن } إلى قوله { ذلك لمن خشي ربه } [ البينة : 8 ] فالعلماء من أهل الجنة بل ليس أهل الجنة إلا العلماء وذلك لكلمة إنما المفيدة للحصر ولا جل لام الاختصاص في قوله { لمن خشي } والسبب في أن العلماء هم أهل الخشية ، أن من لم يكن عالماً بالشيء استحال أن يكون خائفاً منه . ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف بل لا بد معه من العلم بأمور ثلاثة : أحدها العلم بالقدرة لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعه ، وثانيها العلم بكونه عالماً لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته لكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه ، وثالثها العلم بكونه حكيماً فإن المسخرة عند السلطان عالم بكون السلطان قادراً على منعه عالماً بقبائح أفعاله لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، قادراً على كل المقدورات ، غير راضٍ بالمنكرات والمحرمات ، فإذن الخوف من لوازم العلم بالله ، وبهذا يعرف نباهة قدر العلم .

ومن هنا أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالازدياد منه حيث قال { وقل رب زدني علماً } [ طه : 114 ] . ولم يكتف نبي الله موسى عليه السلام بما علم بل قال للخضر { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً } [ الكهف : 66 ] ولم يفتخر سليمان بالمملكة العظيمة بل افتخر بالعلم { علمنا منطق الطير } [ النمل : 16 ] ولولا شرف العلم لم يكن للهدهد مع ضعفه أن يتكلم بحضرة سليمان بقوله { أحطت بما لم تحط به } [ النمل : 22 ] وهكذا الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول على السلاطين ، وما ذاك إلا ببركة العلم . ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال « تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة » وذلك أن التفكر يوصلك إلى الله ، والعبادة توصلك إلى ثواب الله . وأيضاً التفكر عمل القلب والعبادة عمل الجوارح . ومنها أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم ، أما التوراة فقال لموسى : عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له . فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة . وأما الزبور فقال سبحانه لداود : قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء ، فإن لم تجدوا فيهم تقياً فحادثوا العلماء ، فإن لم تجدوا عالماً فحادثوا العقلاء ، فإن التقي والعلم والعقل ثلاث مراتب ، ما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه ، وإنما قدم سبحانه التقى على العلم ، لأن التقى لا يوجد بدون العلم كما بينا من أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم ، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد ، ولهذا السر أيضاً قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلاً ، وأما العاقل فقد لا يكون عالماً ، فالعقل كالبذر والعلم كالشجر والتقوى كالثمر . وأما الإنجيل فقد قال عز من قائل في السورة السابعة عشرة منه : ويل لمن سمع العلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار؟ اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم ، وإن لم يرفعكم لم يضعكم ، وإن لم يغنكم لم يفقركم ، وإن لم ينفعكم لم يضركم . ولا تقولوا نخاف أن تعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجو أن نعلم فنعمل ، إذ العلم شفيع لصاحبه ، وحق على الله أن لا يخزيه ، وإن الله تعالى يقول يوم القيامة : يا معشر العلماء ، ما ظنكم بربكم؟ فيقولون : ظننا أن ترحمنا وتغفر لنا فيقول : وإني قد فعلت ، إني استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم ، فادخلوا في صالحي عبادي إلى جنتي برحمتي .
وبالجملة ، فكون العلم صفة شرف وكمال ، وكون الجهل صفة نقصان ، أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ، ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل تأذى بذلك وإن كان يعلم أنه كاذب ، ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك ، والعلم أينما وجد كان صاحبه محترماً معظماً حتى إن غير الإنسان من الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان .

والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم في العلم ، وأن كثيراً ممن كانوا يعاندون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون قتله كانوا إذا وقع بصرهم عليه ألقى الله في قلوبهم الرعب منه فهابوه وانقادوا له .
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تغنيك عن خبر
وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعداً لإدراك حقائق الأشياء والاشتغال بعبادة الله تعالى ، والجاهل كأنه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها ، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات ، فيطالع الموجودات والمعدوم والواجب والممكن والمحال ، ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض ، والجوهر إلى البسيط والمركب ، ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره ، والجزء الذي به يمتاز عن غيره ، ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليته وجزئيته ، فيصير كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها ، وأنه في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام كاملاً ومكملاً ، واسطة بين الله وعباده ، ولأمر ما لم يجعل الله سبحانه سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والحيز جواباً للملائكة وموجباً لسكوتهم ، وإنما جعل تعالى صفة العلم جواباً لهم ثم قال { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] وهكذا أظهر فضيلة آدم بالعلم بعد افتخارهم بالتسبيح والتقديس . وإن إبراهيم اشتغل في أول أمره بطلب العلم متنقلاً بفكره من الكوكب إلى القمر ، ومن القمر إلى الشمس ، إلى أن وصل إلى الدليل الباهر والبرهان الظاهر إلى المقصود وهو الملة الحنيفية . وإن الله تعالى سمى العلم تارة بالحياة { أوَ من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] وتارة بالروح { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وتارة بالنور { يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] وضرب المثل العلم بالماء { أنزل من السماء ماء } [ الرعد : 17 ] فعلم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر ، كذلك لا ينبغي طلب كيفية الله كيلا يفضي إلى الكفر ، وعلم الفقه كماء القناة يزداد بالاستنباط والحفر ، وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافياً ويتكدر بغبار الهواء ، وكذلك علم الزهد صافٍ ويتكدر بالطبع ، وعلم البدع كماء السيل يهلك الأحياء ويميت الخلق .
وأما الأخبار والآثار الدالة على وعيد من لم يعمل بعلمه أو طلب العلم لغير ذات الله فمنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال :

« لا تجالسوا العلماء إلا إن دعوكم من خمس إلى خمس : من الشك إلى اليقين ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن العداوة إلى النصيحة ، ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد » وقال صلى الله عليه وسلم « الناس كلهم هلكى إلا العالمون ، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون ، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم » عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنو منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها ، فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فتودوا ذاك أردت بكم ، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم ، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ، تراؤون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم . هبتم الناس ولم تهابوني ، أجللتم الناس ولم تجلوني ، تركتم المعاصي ولم تتركوها لي ، أكنت أهون الناظرين عليكم؟ فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من النعيم » وقيل : أطلب أربعة في أربعة : من الموضع السلامة ، ومن الصاحب الكرامة ، ومن المال الفراغة ، ومن العلم المنفعة ، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه ، وإذا لم تجد من الصاحب الكرامة فالكلب خير منه ، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه ، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه ، وقيل : لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء : لا يتم الدين إلا بالتقوى ، ولا يتم القول إلا بالفعل ، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع ، ولا يتم العلم إلا بالعمل ، فالدين بلا تقوى على الخطر ، والقول بلا فعل كالهذر ، والمروءة بلا تواضع كالشجر بلا ثمر ، والعلم بلا عمل كالغيم بلا مطر ، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لجابر بن عبد الله الأنصاري : قوام الدنيا بأربعة : بعالم يعمل بعلمه ، وجاهل لا يستنكف عن تعلمه ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه . فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه ، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه ، فالويل لهم والثبور سبعين مرة . وقيل : إذا وضعت على سواد عينك جزءاً من الدنيا لا ترى شيئاً ، فإذا وضعت على سويداء قلبك كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئاً؟ .
البحث الرابع : في حد العلم الأشعري : العلم ما يعلم به . وربما قال : ما يصير الذات به عالماً . القاضي : العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه . القفال : إثبات المعلوم على ما هو به والكل دائر .

المعتزلة : هو الاعتقاد المقتضي لسكون النفس . الفلاسفة : صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم ، ولا يخفى خروج علم الله تعالى عنهما فإنه لا يطلق هناك النفس ، وفيه مفاسد أخر يطول ذكرها ههنا ، وعند كثير من المحققين : هو بديهي . وقيل : أصح الحدود ، صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض . والحق في هذا المقام هو أن نسبة البصيرة إلى مدركاتها كنسبة البصر إلى مدركاته ، فكما أن للبصر نوراً كل ما يقع في ذلك النور فهو مدركه ، فكذا للبصيرة نور كل ما يقع فيه فهو مدركها . ولا يدرك حقيقة هذا النور ، إلا من له نور { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] وهكذا إدراكات جميع الأنوار حتى نور الأنوار ، وكلما ازدادت النفس نورية وشروقاً ازداد انبساطها فيقع فيها المعلومات أكثر ، وهكذا يكون الحال في كل مستكمل . أما إذا كان العالم بحيت تكون كمالاته الممكنة له موجودة معه بالفعل ، فلا تزداد نوريته ، ولا يتجاوز مرتبته في العلم { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] ثم إن كان التكمال والنور بحيث لا يمكن أكمل منه ولا أنور ، كان جميع الأشياء واقعة في نوره ، بل يكون نوره نافذاً في الكل متصرفاً فيها محيطاً بها أزلاً وأبداً { ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء } [ سبأ : 3 ] وههنا أسرار أخر لا يجوز التعبير عنها لعزتها يتفطن لبعضها من وفق لها من أهلها .
البحث الخامس في ألفاظ تقرب من العلم . الأول : الإدراك ، وهو الوصول لأن القوة العاقلة تصل إلى حقيقة المعقول . الثاني : وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعقول إلى القوة العاقلة ولهذا لا يوصف به الله تعالى . الثالث : التصور مشتق من الصورة ، فكأن حقيقة المعقول حلت في العاقلة حلول الشكل في المادة . الرابع : الحفظ وذلك إذا استحكمت الصورة في العاقلة بحيث لو زالت لتمكنت من استرجاعها . الخامس : التذكر وهو محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، وإنه بالحقيقة التفات النفس إلى عالمها . السادس : الذكر وهو وجدان الصورة بعد محاولة استرجاعها ، ولا محالة يكون مسبوقاً بالزوال : قال الشاعر :
الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف أذكره إذ لست أنساه
ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حضور المعنى في النفس قال عز من قائل { إنا نحن نزلنا الذكر } [ الحجر : 9 ] . السابع : المعرفة وقد اختلفوا في تفسيرها . فمن قائل إنها إدراك الجزئيات ، والعلم إدراك الكليات . ومن قائل إنها التصور والعلم هو التصديق ، وجعل العرفان أشرف من العلم لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة ، وأما تصور حقيقته فأمر وراء الطاقة البشرية ، وقال بعضهم : من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه ، ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي كان قد أدركه أولاً ، فهذا هو المعرفة .

والنفس قبل البدن كانت معترفة بالربوبية إلا أنها في ظلمة العلاقة البدنية قد نسيت مولاها ، فإذا تخلصت من قيد العلاقة عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة . الثامن : الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب ، والإفهام هو إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع . التاسع : الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه قال تعالى { لا يكادون يفقهون حديثاً } [ النساء : 78 ] أي لا يقفون على المقصود الأصلي من التكاليف . العاشر : العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها ونفعها وضرها حتى يصير مانعاً من الفعل مرة ، ومن الترك أخرى ، فيجري ذلك مجرى عقال الناقة . ومن هنا قيل : هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ، والعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه . الحادي عشر : الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيلة ، وهي ترتيب المقدمات فلا يصح إطلاقها عليه تعالى . الثاني عشر : الحكمة وهي اسم لكل علم حسن وعمل صالح ، وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري ، وفي العمل أكثر استعمالاً منه في العلم ، وقيل : هي الاقتداء بالخالق سبحانه بقدر القوة البشرية ، وذلك أن يجتهد أن ينزه علمه عن الجهل ، وعدله عن الجور ، وجوده عن البخل وحلمه عن السفه . الثالث عشر : علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين . فعلم اليقين ما كان من طريق النظر والاستدلال ، وعين اليقين ما كان من طريق الكشوف والنوال ، وحق اليقين ما كان متحقق الانفصال عن لوث الصلصال بوروده رائد الوصال . الرابع عشر : الذهن وهو قوة النفس على اكتساب الحدود والآراء . الخامس عشر : الفكر وهو انتقال النفس من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة . وقيل : إنه يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلم من عنده . السادس عشر : الحدس وهو قوة للنفس بها يهتدي بسرعة إلى الحد الأوسط في كل قياس . السابع عشر : الذكاء وهو شدة هذا الحدس وبلوغه الغاية القصوى ، من ذكت النار اشتعلت . الثامن عشر : الفطنة وهي التنبه لشيء قصد تعريضه كالأحاجي والرموز . التاسع عشر : الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل حق أو حظ . العشرون : الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال : إنه الحكم بأمور جزئية غير محسوسة لأشخاص جزئية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة الذئب . الحادي والعشرون : الظن وهو الاعتقاد الراجح فإن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال العالم ، وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم { إن بعض الظن إثم } [ الحجرات : 12 ] . الثاني والعشرون : الخيال وهو عبارة عن الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته ، وما كان من ذلك في النوم قد يخص باسم الطيف . الثالث والعشرون : البديهة وهي المعرفة الحاصلة للنفس ابتداء لا بتوسط الفكر مثل : الكل أعظم من الجزء ، وقد يقال لها الأوليات ، الرابع والعشرون : الروية وهي ما كان من المعارف بعد فكر كثير .

الخامس والعشرون : الكياسة وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » السادس والعشرون : الخبر وهو معرفة تحصل بطريق التجربة وجدت الناس اخبر تقله . السابع والعشرون : الرأي وهو إجالة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب ، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي ، والرأي للفكرة كالآلة للصانع ، ولهذا قيل : إياك والرأي الفطير . الثامن والعشرون : الفراسة وهي اختلاس المعارف من فرس السبع الشاة . فضرب منها يحصل للإنسان من باطنه ، ولا يعرف له سبب الإصغاء جوهر الروح وهو شبه الإلهام ، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « إن في أمتي لمحدثين وإن عمر منهم » وقد يسمى النفث في الروع ، وضرب يحصل بالاستدلال من الأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة . وقيل : { أفمن كان على بينة من ربه } [ هود : 17 ] إشارة إلى الأول { ويتلوه شاهد منه } [ هود : 17 ] إلى الثاني والله أعلم .
التأويل : عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله خلق آدم فتجلى فيه » فبالتجلي علمه التخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته وهذا هو سر الخلافة بالحقيقة ، لأن المرأة تكون خليفة المتجلي فيها { أنبئوني بأسماء هؤلاء } أي بأسماء هؤلاء المخلوقات دون أسماء الله وصفاته { إن كنتم صادقين } في دعوى الفضيلة ، فإن الفضيلة ليست بمجرد الطاعة ، فإن ذرات الموجودات مسبحات بحمدي ، وإنما الأفضلية بالعلم لأن الطاعة من صفات الخلق ، والعلم من صفات الخالق ، والفضل لمن له صفة الحق والخلق جميعاً فيخلف عن الحق بصفاته وعن الخلق بصفاتهم . وإنما قال { أنبئهم } ولم يقل علمهم كقوله تعالى { وعلم آدم } لأن الملائكة ليس لهم الترقي في الدرجات والملكوتيات ، لهم شهادة كالجسمانيات لنا ، ولا يتجاوزون ما فوق سدرة المنتهى كما قال جبريل : لو دنوت أنملة لاحترقت . والجسمانيات مرتبة دون مرتبتهم فيمكن إنباؤهم بها لأن الجسمانيات لهم كالحيوانيات بالنسبة إلينا . وأما الالهيات فليس لهم استعداد الترقي إليها ، فلهذا لم يقل أنبئهم بأسمائهم كلها كما قال { وعلم آدم الأسماء كلها } لئلا يكون تكليفاً بما لا يطاق ، وإنما كان آدم مخصوصاً بعلم الأسماء واحتاجت الملائكة إليه في إنباء أسمائهم وأسماء غيرهم ، لأنه كان خلاصة العالم ، ولهذا خلق شخصه بعد تمام العالم بما فيه كخلق الثمرة بعد تمام الشجرة . فكما أن الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلها حتى تظهر على أعلى الشجرة ، كذلك آدم عبر على أجزاء شجرة الوجود وكان في كل جزء من أجزائها له منفعة ومضرة ومصلحة ومفسدة ، فحصل له من كل من ذلك اسم يلائمه حتى إن أسماء الله تعالى جاءت على وفقه فضلاً عن أسماء غيره ، وذلك أنه لما كان مخلوقاً كان الله خالقاً ، ولما كان مرزوقاً كان الله رازقاً ، ولما كان عبداً كان الله معبوداً ، ولما كان معيوباً كان ستاراً ، ولما كان مذنباً كان غفاراً ، ولما كان تائباً كان تواباً ، ولما كان منتفعاً ومتضرراً كان نافعاً وضاراً ، ولما كان ظالماً كان عادلاً ، ولما كان عليه السلام مظلوماً كان منتقماً وعلى هذا فقس .


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

القراآت : { للملائكة اسجدوا } برفع الهاء للإتباع : يزيد وقتيبة . وروى ابن مهران عنهما أنهما يشمان الكاف الكسر ويرفعان الهاء . وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة : الملايكة بغير همز ، وكذلك كل كلمة في وسطها همزة مكسورة إلا قوله { السائلين } و { السائل } و { البائس } فإنهما بالهمز { شئتما } وبابه بغير همز : أبو عمر ويزيد والأعشى وورش ، ومن طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف { فأزالهما } حمزة { آدم } نصب { كلمات } رفع ابن كثير { فلا خوف عليهم } بالفتح حيث كان : يعقوب { هداي } و { محياي } و { مثواي } بالإمالة كل القرآن على غير ليث . { النار } بالإمالة كل القرآن ، وكذلك كل كلمة في آخرها راء مكسورة بعد الألف في موضع اللام من الكلمة قرأها على غير ليث وأبي حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وحمزة في رواية ابن سعدان وأبو عمرو إلا أنه لا يميل { الجار } و { الغار } في بعض الروايات . فروى إبراهيم بن حماد عن اليزيدي { الجار } بالإمالة . وروى ابن مجاهد عن اليزيدي { الغار } بالإمالة ، وسائر الروايات عنه بالتفخيم لقلة دورهما . واختلفوا في وقف أبي عمرو في مثل { النار } وأشباه ذلك . فروى ابن مجاهد والحسن بن عبد الله عن النقاش وكثير من أهل العراق أنه يقف كما يصل ، وروى سلمة بن عاصم أنه يقف بالتفخيم والأول أكثر .
الوقوف : { إبليس } ( ط ) لأنه معرف والجملة بعده لا تكون صفة له إلا بواسطة الذي ولا عامل فتجعل الجملة حالاً { الكافرين } ( 5 ) { شئتما } ( ص ) لاتفاق الجملتين { الظالمين } ( 5 ) { كانا فيه } ( ص ) لعطف الجملتين المتفقتين . { عدو } ( ج ) لاختلاف الجملتين { حين } ( 5 ) { فتاب عليه } ( ط ) { الرحيم } ( ج ) { جميعاً } ( ج ) لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { يحزنون } ( 5 ) { النار } ( ج ) لأن ما بعدها مبتدأ وخبر . وقيل : الجملة خبر بعد خبر لأولئك ، لأن تمام المقصود بوعيد هو الخلود مثل : الرمان حلو حامض { خالدون } ( 5 ) .
التفسير : لما خصص الله تعالى أبانا آدم بالخلافة ثم علمه من العلوم ما ظهر بذلك مزيته على جميع الملائكة ، اقتضت حكمته البالغة أن جعله مسجوداً لهم وهذا مقتضى النسق ههنا ظاهر إلا أن قوله تعالى في موضع آخر { فإذا سويته فيه من روحي فقعوا له ساجدين } [ ص : 72 ] يقتضي أن يكون الأمر بالسجود قبل تسوية خلقه ، وأنه كما صار حياً صار مسجوداً لهم . وتعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد سجدتهم . والله أعلم بذلك . ثم إن المسلمين أجمعوا على أن ذلك السجود لم يكن للعبادة لأنه تعالى لا يأمر بالكفر والعبادة لغيره كفر ، فزعم بعض أن السجود كان لله تعالى وآدم كالقبلة . فقوله { اسجدوا لآدم } مثل قولك « صل للقبلة » قال حسان بن ثابت :

ما كنت أعرف أن الأمر منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن؟
وهو ضعيف لأن المقصود من هذه القسة شرح تعظيم آدم ، وجعله مجرد القبلة لا يفيد كونه أعظم حالاً من الساجد . وزعم آخرون أن المراد بالسجود الانقياد والخضوع كما هو مقتضى أصل اللغة مثل { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمن : 6 ] وزيف بأنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض ، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك ، لأن الأصل عدم التغيير . وأصح الأقوال أن السجود كان بمعنى وضع الجبهة ولكن لا عبادة بل تكرمة وتحية كالسلام منهم عليه ، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم . قال قتادة في قوله { وخروا له سجداً } [ يوسف : 100 ] كان تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض ، ويجوز أن تختلف الرسوم والعادات باختلاف الأزمنة والأوقات . واختلف في أن إبليس من الملائكة أم لا . فقال أكثر المتكلمين لا سيما المعتزلة : إنه لم يكن منهم . وقال كثير من الفقهاء : إنه كان منهم حجة الأولين أنه من الجن لقوله تعالى في الكهف { إلا إبليس كان من الجن } [ الآية : 50 ] فلا يكون من الملائكة . وأيضاً قال { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } [ سبأ : 40 ] ورد الأول بأن الجن قد يطلق على الملك لاستتاره عن العيون ، وبأن كان يحتمل أن تكون بمعنى صار . والثاني بأنه لا يلزم من كون الجن في هذه الآية نوعاً مغايراً للملائكة أن يكون في الآية الأولى أيضاً مغايراً ، لاحتمال كونه على مقتضى أصل اللغة وهو الاستتار . وقالوا : إن إبليس له ذرية لقوله تعالى { أتتخذونه وذريته أولياء من دوني } [ الكهف : 50 ] والملائكة لا ذرية لها لأنها تحصل من الذكر والأنثى ولا إناث فيهم لقوله { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } [ الزخرف : 19 ] منكراً عليهم وأيضاً الملائكة معصومون لما سلف ، وإبليس لم يكن كذلك . وأيضاً إنه من النار { خلقتني من نار } [ ص : 76 ] وأنهم من نور لقوله صلى الله عليه وسلم « خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار » رواه الزهري عن عروة عن عائشة . ومن المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون ، فقيل سموا بذلك لأنهم من الريح أو من الروح . وأيضاً الملائكة رسل { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] ورسل الله معصومون { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] حجة الآخرين أنه استثناه من الملائكة ، وحمله على المتصل أولى ، لأن تخصيص العمومات في كتاب الله أكثر من الاستثناء المنقطع . قيل : إنه جني واحد مغمور بين ظهراني ألوف من الملائكة فغلبوا عليه ، وهذا لا ينافي كون الاستثناء متصلاً . وأجيب بأن التغليب إنما يصار إليه إذا كان المغلوب ساقطاً عن درجة الاعتبار ، أما إذا كان معظم الحديث فيه فلا يصار إلى التغليب .

وأيضاً لو لم يكن من الملائكة لم يتناوله الخطاب ب { اسجدوا } وحينئذ لم يستحق بترك السجود لوماً وتعنيفاً ، ولا يمكن أن يقال إنه نشأ معهم والتصق بهم فتناوله الأمر لما بين في أصول الفقه أن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين ، ولا أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر إلا أنه تعالى أمره بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] لأن قوله { أبى واستكبر } عقيب قوله { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا } مشعر بأن المخالفة بسبب هذا الأمر ، هذا ما قيل عن الجانبين . ومما يناسب تفسير الآية الكلام في أن الأنبياء أفضل من الملائكة أم بالعكس ، قال أكثر أهل السنة بالأول ، ومالت المعتزلة والشيعة إلى الثاني ، واختاره الباقلاني وأبو عبد الله الحليمي من فقهاء أهل السنة .
المعتزلة احتجوا بأمور : أحدها { ومن عنده لا يستكبرون } [ الأنبياء : 19 ] وليس المراد عندية المكان والجهة بل عندية القرب والشرف . وعورض بما حكى عنه سبحانه « أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي » بل هذا أبلغ لأن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عنده . قالوا : الآية تدل على أنه تعالى يقول الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض والآفات ، لا يتركون العبودية لحظة واحدة ، فالبشر مع غاية ضعفهم وقصورهم أولى بذلك . وأجيب بأنه لا نزاع في ذلك ، وإنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب .
الثانية : عباداتهم من عبادات البشر فيكون ثوابهم أكثر لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة « أجرك على قدر نصيبك » ولقوله « أفضل العبادات أجزها » أي أشقها . وأما بيان أن عباداتهم أشق فمن وجهين : أحدهما أنهم سكان السموات وهي جنان ومنتزهات وهم مع ذلك لا يلتفتون إلى نعيمها ويقبلون على طاعاتهم خائفين وجلين وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المتطاولة { إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] ويؤكده قصة آدم فإنه أطلق له في الجنة جميعها إلا شجرة واحدة ومع ذلك لم يملك نفسه ، والثاني أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من طعام إلى طعام ، والإقامة على نوع واحد تورث السآمة وهذا شأن الملائكة { وإنا لنحن الصافون . وإنا لنحن المسبحون } [ الصافات : 165 ، 166 ] ومنهم ركوع ومنهم سجود منذ خلقوا . وعورض الوجه الأول بأن أسباب البلاء مجتمعة على البشر ، ثم إنهم راضون بقضاء الله مواظبون على تكاليفهم ، ولذلك كان العبيد والخدم تطيب قلوبهم بالخدمة حال الرفاهية ، ولا يصبر أحد منهم على مشقة الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص .

والثاني بأن العادة طبيعية خامسة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً » الثالثة : عباداتهم أدوم { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وخير الأعمال أدومها ، مع أن أعمارهم أكثر . وعلى الآية سؤال . روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله عز وجل { لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] ثم قال { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ، أفلا تكون الرسالة واللعن مانعين عن التسبيح؟ فأجاب بأن التنفس لا يمنعنا من الاشتغال بشيء آخر ، فكذلك التسبيح لهم . وزيف بأن آلة النفس فينا غير آلة الكلام ، وأما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام ، فاجتماعهما في آلة واحدة محال . وأجيب باحتمال أن يكون لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداءه ببعض آخر ، وبأن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي ، أو المراد لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال : فلان يواظب على الجماعات . يعنون أنه عازم على أدائها في أوقاتها . ونوقضت الحجة بأن الطاعة القليلة من الإنسان قد تقع على وجه يستحق بها ثواباً من ثواب طاعاتهم .
الرابعة : أنهم أسبق السابقين في كل العبادات { والسابقون السابقون . أولئك المقربون } [ الواقعة : 10 ، 11 ] « من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها » .
الخامسة : الملائكة رسل إلى الأنبياء { علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] { نزل به الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] والرسول أفضل من الأمة قياساً على الشاهد . ومنع بأن هذا إذا كان الرسول حاكماً على المرسل إليهم ومتولياً لأمورهم كالأنبياء المبعوثين إلى أممهم ، أما في مطلق الرسول فلم قلتم إنه كذلك كما لو أرسل الملك عبداً من عبيده إلى وزيره أو إلى ملك آخر .
السادسة : أنهم أتقى من البشر لدوام خوفهم { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] مع وجود شهوة الترفع والرياسة فيهم ولهذا قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } وإن لم يكن لهم شهوة الأكل والوقاع ، فوجب أن يكونوا أفضل { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] ورد بأن تقوى الإنسان أكمل فإن لهم مع شهوة الرياسة شهوة البطن والفرج أيضاً .
السابعة : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] خرج الثاني مخرج التأكيد للأول . ومثل هذا إنما يكون بذكر الأفضل بعد الفاضل . كقولك : هذا العالم لا يستنكف عن خدمة الوزير ولا الملك . فيفيد أفضلية الملائكة المقربين في المعاني المصححة للعبودية من نهاية الخضوع والخشوع ما يتبعها مع شدة بطشهم وقوة حالهم . وعورض بأنه قد يقال هذا العالم لا يستنكف عن خدمة القاضي ولا السلطان ، ولا يفيد إلا أن السلطان أكل من القاضي في بعض الأمور كالقوة والقدرة ، ولا يدل على كونه أكمل من القاضي في سائر الدرجات كالعلم والزهد .

فلم قلتم : إنهم أفضل من البشر في كثرة الثواب؟ قلت : والحق أن جميع الدرجات مندرجة تحت العبودية كما أشرنا إليه فيما مر ، فيفيد أفضلية الملائكة . لكن المقربين منهم فقط دون غيرهم ومفضولية المسيح فقط دون غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم .
الثامنة : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] فهذا وإن كان حكاية قول إبليس ، إلا أن آدم وحواء لو لم يعتقدا أفضلية الملك لم يغترا بذلك واعتقادهما حجة . ورد بأن آدم لعله أخطأ في ذلك الاعتقاد ، إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء ، أو لأنه ما كان نبياً في ذلك الوقت ، وأيضاً هب أنه حجة لكنه قبل الزلة لم يكن نبياً فلا يلزم من مفضوليته وقتئذ مفضوليته وقت نبوته ، وإن سلم مفضوليته ونبوته وقتئذ فلا نسلم أن ذلك في باب الثواب بل في باب القدرة والقوة والحسن والجمال . ونحو ذلك فإنهم خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب ، فاغتر رغبة فيما لهم من هذه الأمور . وأيضاً يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فيصح استدلالكم ، وأن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة الخالدين دونكما كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلاناً . ويكون المعنى أن المنهي عنه هو فلان دونك ، فكان غرض إبليس إيهام أنهما لم ينهيا . وأيضاً غاية ما في الباب أن الآية تدل على مفضولية آدم ولا يلزم منه مفضولية جميع الأنبياء كمحمد صلى الله عليه وسلم .
التاسعة : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك } [ هود : 31 ] أي لا أدعي القدرة على كل المقدورات والعلم بكل المعلومات ، ولا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علماً مثل علمهم ، وذلك أنه لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض ، وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات الجسمية والقوى العظيمة . ورد بأنه لا يلزم من عدم الاستواء في كل الصفات حصول الاختلاف في جميعها .
العاشرة : { ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } [ يوسف : 31 ] ولا يخفى أن التشبيه في السيرة من غض البصر وقمع النفس عن المحرمات بدلالة وصفه بالكرم لا في الصورة . ورد بأن قولها { فذلكن الذي لمتني فيه } [ يوسف : 32 ] كالتصريح بأن مراد النساء تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال ، فذلك يظهر عذرها في عشقها . ولئن سلمنا أن التشبيه في الأخلاق المرضية فذلك لا يوجب مفضوليته من جميع الجهات ، على أن قول النساء لا يصلح لأن يكون حجة .
الحادية عشرة : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [ الإسراء : 70 ] وذلك أن المخلوقات إما غير المكلفين والإنسان أفضل منهم ، وإما المكلفون وهم الملائكة والإنس والجن والشياطين .

ولا ريب أن الإنس أفضل من الجن والشياطين ، فلو كانوا أفضل من الملك أيضاً لزم كون البشر أفضل من أكل المخلوقات ، فينبغي أن يقال : وفضلناهم على جميع من خلقنا . ورد بأن كونه أفضل من كثير لا يدل على أنه ليس بأفضل من الباقي إلا بدليل الخطاب وهو غير حجة . وأيضاً ثبت أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الآخر أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني . وأيضاً الكلام في التفضيل الحاصل بسبب الكرامة المذكورة في أول الآية { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] ولا يلزم من كون الملك أفضل من البشر في تلك الكرامات وهو حسن الصورة والطهارة واستخراج الأعمال العجيبة أن يكونوا أفضل منهم في الأشياء الموجبة للثواب .
الثانية عشرة : الأنبياء ما استغفروا إلا بدأوا بأنفسهم قال نوح { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً } وقال إبراهيم { رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين } [ الشعراء : 83 ] ثم قال { واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] وقال لمحمد { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } [ محمد : 19 ] والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ولكن طلبوا المغفرة للمؤمنين { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [ غافر : 7 ] ورد بأن هذا لا يدل إلا على صدور الزلة من البشر وعدم صدورها عنهم ، وهذا لا يوجب أفضليتهم في القرب والثواب على الإطلاق ومن الناس من قال : استغفارهم للبشر كالعذر عما طعنوا فيهم بقولهم { أتجعل فيها } [ البقرة : 30 ] .
الثالثة عشرة : { وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 10 ] ويدخل فيه الأنبياء وغيرهم ، والحافظ للمكلف عن المعصية أفضل من المحفوظ . وأيضاً جعل كتابتهم حجة للبشر وعليهم فيكونون أفضل . ورد بأن الحافظ والشاهد قد يكون أدود حالاً من المحفوظ والمشهود .
الرابعة عشرة : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [ النبأ : 38 ] والمقصود بيان عظمة الله وجلاله . ورد بأن هذا يفيد قوتهم وبطشهم فقط كما يقال : إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك الأطراف . وهذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده .
الخامسة عشرة : { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } [ البقرة : 285 ] والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ولهذا لما قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً ... قال عمر بن الخطاب : لو قدمت الإسلام لأجزتك . ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ، وقع التنازع في تقديم الاسم ، وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية . ومنع من أن الواو لا تفيد الترتيب ، وعورض بتقديم { تبت } على « الإخلاص » .
السادسة عشرة : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] جعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وعورض بقوله { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } [ الأحزاب : 56 ] ولا تشريف بل تتشرف الأمة بذلك .
السابعة عشرة : إن جبرائيل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى وصفه بست من صفات الكمال

{ إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين } [ التكوير : 19-21 ] ثم وصف محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله { وما صاحبكم بمجنون } [ التكوير : 22 ] وشتان بين الوصفين . ورد بأنه وإن وصفه ههنا بهذا القدر لاقتضاء المقام ذلك فقط ، فقد وصفه في مواضع أخر بما يليق به { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 45 ، 46 ] .
الثامنة عشرة : إن جبريل كان معلماً للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء ، لا في العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالعقل . كالعلم بذات الله تعالى ، بل في العلم بكيفية مخلوقاته وما فيها من العجائب ، والعلم بأحوال العرش والكرسي والجنة والنار وأطباق السموات وأصناف الموجودات وأحوال الأمم الخالية والقرون الماضية ، والمعلم أفضل { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] ومنع من كون الملائكة أعلم بدليل قصة آدم ، ولأن تعليم جبريل كان بالحقيقة تعليم الله تعالى ولم يكن جبريل إلا واسطة ، ولئن سلم مزيد علمهم منع كثرة ثوابهم .
التاسعة عشرة : { ومن يقل منهم إني له من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] وهذه تدل على أنهم بلغوا في الترفع إلى حد لو خالفوا أمر الله لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية . ورد بأن مزيد قدرتهم لا يوجب مزيد ثوابهم .
العشرون : قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الرب تعالى « إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه » وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف . ورد بعد قبول خبر الواحد أنه لا يلزم منه إلا أن الملأ الأعلى خير من ملأ عوام البشر ، ولا يلزم من ذلك كونهم أفضل من الأنبياء .
واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة عندهم أفضل من الأرواح الناطقة البشرية لوجوه :
الأول : الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة ، والبشر مركب من النفس والبدن ، ولكل منهما قوى وأجزاء ، والبسيط خير من المركب ، لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط . وعورض بأن المستجمع للروحاني والجسماني ينبغي أن يكون أفضل مما له طرف الروحاني فقط ، ولهذا جعل أبو البشر مسجوداً للملائكة ، وبأن الملائكة ليس لها إلا الاستغراق في مقاماتها النورية . والنفوس البشرية قواها وافية بكلا الطرفين ، ومحيطة بضبط أحوال العالمين فتكون أفضل .
الثاني : الجواهر الروحانية بريئة عن الشهوة والغضب المستلزمين للفساد وسفك الدماء بخلاف البشر . ورد بأن الخدمة مع كثرة العلائق أدل على الإخلاص . وأيضاً من البين أن درجتهم حين قالوا { لا علم لنا إلا ما علمتنا } أعلى منها حين قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة ، وهذا في البشر أكثر ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه

« أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين » .
الثالث : أنها بريئة من طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكناً لها بحسب أنواعها المنحصرة في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة » ولا خفاء أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة . ورد بأن بعض الأمور فيها لعلها بالقوة ، ولهذا قيل : إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعلقات من القوة إلى الفعل كالتحريكات العارضة لأرواحنا الحاملة لقوى الفكر والتخيل ، إلا أن هذا المنع لا يجري في الملائكة المقربين المسماة عندهم بالعقول المجردة ، وإنما يجري في النفوس الفلكية .
الرابع : الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن التغير والفناء ، والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك . ورد بأنه لا قديم في الوجود إلا الله . ولئن سلم أنها ممكنة الوجود لذاتها فهي واجبة الوجود بمباديها . وعورض بما عليه كثير من المحققين أن النفوس البشرية أيضاً أزلية بمباديها وكانت كالظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم ، إلا أن المبدئ الأول أمرها بالنزول إلى عالم الأجساد وشبكات المواد ، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها ، فبعث من تلك الظلال أشرفها وأكملها لتخليص تلك الأرواح عن تلك الشبكات ، وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة .
الخامس : الروحانيات نورانية علوية لطيفة ، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة . فأين أحدهما من الآخر؟ ورد بأن الشرف عندنا ليس بالمادة وإنما هو بالانقياد لرب العالمين .
السادس : الأرواح السماوية تفضل الأرضية بقوى العلم والعمل ، أما الأول فبالاتفاق على إحاطة الأرواح السماوية بالمغيبات ، ولأن علومهم فعلية فطرية كلية دائمة تامة ، وعلوم البشر بالضد من ذلك . وأما العمل فلقوله { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] واعترض بأن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع . فلا تكون لذة الملائكة من العلم والعمل كلذة البشر لعروض الفترات لهم في أكثر الأوقات بسبب العلائق الجسمانية والحجب الظلمانية ، فهذه المزية من اللذة مما يختص به البشر ، ولعل هذا هو المراد من قوله { إنا عرضنا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] الآية . ولذلك قالت الأطباء : إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب . لكن الحرارة في الدق لما دامت واستقرت بطل الشعور بها ، فهذه الحالة ليست للملائكة لأجل الاستمرار ولا لغير الانسان لعدم الاستعداد فكان الإنسان لها بالمرصاد .
السابع : الروحانيات لها قوة على تقليب الأجسام وتصريف الأجرام ، وقواهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب . وإنك ترى الخامة اللطيفة تشق الصخرة الصماء ، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من الجواهر العلوية ، فما ظنك بتلك الجواهر أنفسها والأرواح السفلية ليست كذلك؟ وما يحكى من قوة الشياطين على الأمور الصعاب ممنوع ، ولئن سلم فالأرواح العلوية أقدر على ذلك مع أنهم يصرفون قواها إلى منازل العالم السفلي لا فيما هو شر لهم .

واعترض بأنه لا مانع من أن تتفق نفس ناطقة بشرية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف .
الثامن : الملائكة لهم اختيارات فائضة من أنوار جلال الله متوجهة إلى الخيرات ، واختيارات البشر مترددة بين جهتي العلو والسفل والخير والشر ، وإنما يتوجه إلى الخير بإعانة الملك على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكاً يسدده ويهديه ، ويحتمل أن يقال فتكون إذن أعمالهم أشق فيكون ثوابهم أكثر .
التاسع : الأفلاك كالأبدان ، والكواكب كالقلوب ، والملائكة كالأرواح . فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان . وكما أن اختلافات أحوال الأفلاك مباد لحصول الاختلافات في هذا العالم ، فكل أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلي ، بل تكون عللاً ومبادي لها ، فهذه هي الآبار وهناك المنابع والمعادن ، فكيف يليق بالعقل ادعاء المساواة فضلاً عن الزيادة . وأجيب بأنه لا مؤثر عندنا إلا الله تعالى .
العاشر : الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها ، منها نزلت فتوسخت بأوضار الجسمانيات ، ثم تطهرت بالأخلاق الزكية وصعدت إلى عالمها ، ومصدر الشيء ومصعده أشرف ، منه المبدأ وإليه المنتهى . واعترض بأن هذا مبني على عدم حشر الأجساد ودون ذاك خرط القتاد .
الحادي عشر : أليس أن الأنبياء لا ينطقون إلا عن الوحي؟ أليس أن الملائكة يعينونهم في المضايق ويهدونهم إلى المصالح كما في قصة لوط وكيوم بدر وحنين ، وكما في قصة نوح في نجر السفينة؟ فمن أين لكم تفضيل الأنبياء مع افتقارهم إلى الملائكة في كل الأمور؟ وأجيب بأن أول الفكر آخر العمل ولا يلزم من كون الشيء واسطة أفضليته .
الثاني عشر : القسمة العقلية بأن الأحياء إما خيرة محضة وهم الملائكة ، أو شريرة محضة وهم الشياطين ، أو خيرة من وجه شريرة من وجه آخر وهم البشر ، تحكم بأفضلية الملك . وكذا التقسيم بالناطق المائت وهو الإنسان ، والناطق غير المائت وهو الملك ، والمائت غير الناطق وهي البهائم ، يرشد إلى أن الإنسان متوسط الرتبة بين الكمال والنقصان . فالقول : بأنه أفضل قلب للقسمة العقلية ونزاع في ترتيب الوجود . وأجيب بما مر غير مرة من أن النزاع في كثرة الثواب .
حجة القائلين بفضل الأنبياء على الملائكة؛ الأول : أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة ، وأمر الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح ، والجواب أن القبح العقلي غير ثابت .
الثاني : جعله خليفة له خلافة الولاية كما مر ، وخلق الدنيا متعة لبقائه ، والآخرة مملكة لجزائه ، ولعن إبليس لسبب التكبر عليه ، وجعل الملائكة حفظة أولاده ومنزلين لأرزاقهم ومستغفرين لزلاتهم ، ومع جميع هذه المناصب يقول « ولدينا مزيد » فإذن لا نهاية لهذا الشرف والكمال .

الثالث : أنه كان أعلم لقوله { أنبئهم بأسمائهم } والأعلم أفضل .
الرابع : { أن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } [ آل عمران : 33 ] والعالم كل ما سوى الله تعالى ، فيلزم اصطفاؤهم على الملائكة . ولا يشكل هذا بقوله { يا بني إسرائيل } إلى قوله { فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 47 ] لأن تلك الآية دخلها التخصيص لما يعلم أنهم غير مفضلين على محمد صلى الله عليه وسلم ، وههنا لا دليل فوجب إجراؤه على الظاهر من العموم .
الخامس : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] والملائكة من العالمين والتقرير ظاهر .
السادس : عبادة البشر أشق لأن الآدمي له شهوة تدعوه إلى المعصية بخلاف الملائكة ، ولأن الآدمي مأمور بالاستنباط والقياس { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] ولا يخفى ما فيه من المشقة ، والملائكة لا يعلمون إلا بالنص { لا علم لنا إلا ما علمتنا } ولما يعرض للآدمي من الشبهات ككون الأفلاك والأنجم أسباباً للحوادث اليومية فيحتاجون إلى دفعها ، والملائكة حيث إنهم يشاهدون عالم الملكوت آمنون من ذلك ، ولأن الشيطان مسلط على الآدمي دون الملك ، وإذا كانت طاعتهم أشق فيكون ثوابهم أكثر .
السابع : خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة ، وللبهائم شهوة بلا عقل ، وجمع الأمرين للآدمي . ثم إذا غلب هواه عقله صار أدون من البهيمة أولئك { كالأنعام بل هم أضل } [ الفرقان : 44 ] . فإذا غلب عقله هواه وجب أن يصير أشرف من الملك اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر .
الثامن : الملائكة حفظة بني آدم والمحفوظ أعز من الحافظ .
التاسع : روي أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق ليلة المعراج ، ولما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت .
العاشر : قوله صلى الله عليه وسلم « إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض . أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل ، وأما اللذان في الأرض فابو بكر وعمر » فدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كالملك وجبريل وميكائيل وزيران ، فهذا تمام الكلام في حجج الفريقين ، وعليك الاختيار بعقلك دون هواك . ثم إنه تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين وكان من الجائز أن يظن أن به عذراً بيَّن أنه غير ذي عذر بقوله { أبى } لأن الإباء هو الامتناع مع الاختيار ولهذا فقد العاطف نحو قولك « أبشر بما يسرك عيني تختلج » لا تقول « فعيني » لأنها بيان ، ثم إنه جاز أن لا يكون الإباء مع الكبر فعطف عليه { واستكبر } ليعرف أن الإباء منضم إلى الاستكبار ، وكان من الجائز أن يظن أن كبره لم يوجب الكفر فأزيل الظن بقوله { وكان من الكافرين } .

وللعقلاء ههنا قولان : أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً كافراً ، أما عند من يمنع الإحباط فلأن ختمه لما كان على الكفر علم أنه ما كان مؤمناً قط . وأما عند غيرهم فلما حكاه الشهرستاني في أول الملل والنحل عن شارح الأناجيل الأربعة على شبه منظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس لعنه الله : إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر حكيم ، إلا أن لي على مساق حكمه أسئلة؛ الأول : إنه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عني فلم خلقني؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟ الثاني : إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته ، فلم كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف مع أنه لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث : إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فأطعت وعرفت ، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي؟ والرابع : إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذا لم أسجد ، فلم لعنني وأخرجني من الجنة وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له في ذلك ولي فيه أعظم الضرر؟ والخامس : ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ومن وسوسة آدم بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم وبقي خالداً في الجنة؟ والسادس : إذ خلقني وكلفني عموماً وخصوصاً ولعنني ثم طرقني إلى الجنة ، وكانت الخصومة بيني وبين آدم ، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني ويؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر فيّ حولهم وقوتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة وأبقاهم على ذلك فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى بالحكمة؟ والسابع : سلمت هذا كله ، فلم إن استمهلته أمهلني ، وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني وما بقي شر في العالم؟ ليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشر؟
فقال شارح الإنجيل : فأوحى الله تعالى إلى الملائكة قولوا له : أما تسليمك الأول أني الهك وإله الخلق فغير صادق ولا مخلص ، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي وأنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل والخلق مسؤولون هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل ، وهذه الشبهات بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور وليس يعدوها عقائد فرق الزيغ والكفر وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق ، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالخلق ، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص ، ولا جواب عنها بالتحقيق إلا الذي ذكره الله تعالى .

فاللعين لما أن حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل ، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق ، أو حكم الخالق في الخالق . فالأول غلو كالحلولية وكالغلاة من الشيعة ، والثاني تقصير كالمشبهة وصفوا الخالق بصفات الأجسام ، وكالخوارج نفوا تحكيم الرجال وقالوا : لا حكم إلا لله كقوله { أأسجد لبشر خلقته من صلصال } [ الحجر : 33 ] لا أسجد إلا لك . فالشبهات كلها ناشئة من اللعين ، وتلك في الأول مصدرها ، وهذه في الأخير مظهرها ، ولهذا قال تعالى { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين } [ البقرة : 208 ] وشبه النبي صلى الله عليه وسلم كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة فقال « القدرية مجوس هذه الأمة والمشبهة يهود هذه الأمة ، والرافضة - يعني الغلاة - نصارها » وقال صلى الله عليه وسلم : « لتسلكن سبيل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » القول الثاني أن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك ثم اختلفوا . فمن قائل معناه « وكان من الكافرين في علم الله » أي كان الله عالماً في الأزل بأنه سيكفر . فصيغة « كان » متعلقة بالعلم لا بالمعلوم . ومن قائل إن « كان » بمعنى « صار » . وقيل : لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً فبعد لحظة يصدق عليه أنه كان من الكافرين . وإنما حكم بكفره على هذا القول الثاني لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد بدليل قوله { أنا خير منه } [ ص : 76 ] وإلا فمجرد المعصية لا يوجب الكفر عندنا وإن كانت كبيرة ، وكذا عند المعتزلة لأنه وإن خرج عن الإيمان لم يدخل في الكفر . نعم عند الخوارج الكبيرة موجبة للكفر على الإطلاق . ثم إن قوله { من الكافرين } هل يدل على وجود جمع من الكفرة قبله حتى يكون هو واحداً منهم؟ قال قوم : إنه يدل على ذلك لأن كلمة « من » للتبعيض . وإنما يذكر البعض الموجود بالإضافة إلى كل موجود لا إلى كل من سيوجد . ومما يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال : إنه تعالى خلق خلقاً من الملائكة ثم قال لهم { إني خالق بشراً من طين } [ ص : 71 ] قالوا : لا تفعل ذلك . فبعث الله ناراً فأحرقتهم . وكان إبليس من أولئك . وقال آخرون : معنى الآية إنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك ، لأن الكفر كان ظاهراً عند نزول الآية ، أو لأن الإفراد الذهنية تكفي في صحة الجمع . فإن الحيوان المخلوق أوّلاً يصح أن يقال إنه فرد من أفراد هذا الحيوان أي من أفراد هذه الماهية ، وعلى هذا يكون إبليس أول من سن الكفر وهو قول الأكثرين .

واعلم أن الملائكة المأمورين بالسجود هم كل الملائكة عند أكثر الأئمة ، لأن الجمع المعرف للعموم ويؤكده قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [ ص : 73 ] . وأيضاً استثناء الشخص الواحد يدل على أن ما عداه داخل في ذلك الحكم . ومن الناس أنكر ذلك وقال : هم ملائكة الأرض استعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك ، وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية ، واستحالوا انقياد الأرواح السماوية للنفوس الناطقة . وقالوا : المأمورون بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة . قوله تعالى { وقلنا يا آدم اسكن } الآية الأصح أن هذا الأمر يشتمل على ما هو إباحة لأنه كان مأذوناً في الانتفاع بجميع الجنة ، وعلى ما هو تكليف وتعبد ، فإن المنهي عنه كان حاضراً . روي عن قتادة أنه قال : إن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود ، وذلك لأنه كلفه أن يكون في الجنة يأكل منها حيث يشاء ، ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها ، فما زال به البلاء حتى وقع فيما نهي عنه . فإسكانه موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع منعه عن تناوله من أشد التكاليف . وإنما لم يقل وهبت منك الجنة لأنه خلق لخلافة الأرض وكان إسكان الجنة كالتقدمة لذلك . فلو قال رجل لغيره أسكنتك داري . لا تصير الدار ملكاً له . وأجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة . ففي سائر القرآن ما يدل على ذلك وإنها مخلوقة منه { خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] وقال صلى الله عليه وسلم « إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها » وذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة حل فيها وحده وما كان معه من يستأنس به ، فألقى الله تعالى عليه النوم ، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه ، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة . فسألها من أنت؟ قالت امرأة . قال : ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إليّ . فقالت له الملائكة امتحاناً لعلمه : ما اسمها؟ فقال : حواء . قالوا : ولم؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي . قيل : فلما أراد آدم مد يده إليها منعته الملائكة وقالوا : أمهرها . قال : فما صداقها؟ قالوا : أن تصلي على محمد وآله . قال : ومن محمد؟ قالوا : من أولادك خاتم النبيين ولولاه لما خلقت . وعن ابن عباس قال : بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور ، على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ ، وعلى آدم منطقة مكللة بالدرّ والياقوت حتى أدخل الجنة .

فهذا الخبر يدل على أ ن حواء خلقت قبل إدخاله الجنة ، والخبر الأول دل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بحقيقة الحال . ثم هذه الجنة كانت في الأرض أو في السماء؟ وعلى تقدير كونها في السماء هي دار الثواب أم جنة أخرى؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني : هي في الأرض وحملا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى { اهبطوا مصراً } [ البقرة : 61 ] قالا : لأن دار الثواب للخلد ولو كان في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [ طه : 12 ] ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى { وما هم منها بمخرجين } [ الحجر : 48 ] ولأن إبليس بعد أن غضب الله عليه كيف يقدر أن يصل إلى جنة الخلد ، ولأن دار الجزاء يدخل المكلف فيها بعد العمل ولا عمل لآدم وقتئذ ، ولأنه تعالى خلقه في الأرض ولم يذكر نقله إلى السماء ولو كان قد نقله لكان ذكره أولى ، لأن ذلك النقل من أعظم النعم . وقال الجبائي : هي في السماء السابعة ، اهبط منها إلى السماء الدنيا ، ثم منها إلى الأرض . وقال الجمهور : هي دار الثواب والدليل عليه أن اللام في الجنة ليست للعموم ، لأن السكنى في جميع الجنان محال فهي للعهد ، ولا معهود بين المسلمين إلا دار الثواب ، فوجب صرف اللفظ إليها . واسكن أمر من السكنى ، والسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار . و « أنت » تأكيد للمستكنّ في « اسكن » ليصح العطف عليه . و { رغداً } وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و { حيث } للمكان المبهم أي أيُّ مكان من الجنة شئتما ، أو أيّ زمان شئتما ، فإن « حيث » قد يعبر به عن زمان مجهول . وإنما قيل ههنا { وكلا } بالواو وفي الأعراف { فكلا } لأن كلّ فعل عطف عليه شيء وكان بينهما رابطة السببية يعطف الثاني على الأول بالفاء وإلا فبالواو كقوله تعالى في البقرة { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا } [ البقرة : 58 ] بالفاء ، لأن الدخول سبب الوصول إلى الأكل ، وكأنه قال : وإن دخلتموها أكلتم . وفي الأعراف { وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا } [ الأعراف : 161 ] بالواو لأن السكنى وهي طول اللبث لا يختص وجوده بوجود الأكل ، لأن المجتاز قد يأكل أيضاً ، فلهذا لم يعطف ههنا بالفاء إذ المراد اسكن من السكنى ، وأما في الأعراف فالمراد اسكن بمعنى الدخول ثم السكون فصح العطف بالفاء . والنهي في { لا تقربا } للتنزيه أو للتحريم ، الأصح الأول لأن الصيغة وردت في كليهما والأصل عدم الاشتراك فيجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح لجانب الترك على الفعل من غير دلالة على المنع من الفعل ، أو الجواز .

لكن الجواز ثابت بحكم الأصل ، فإن الأصل في الأشياء الإباحة ، فإذا ضممنا هذا الأصل إلى مدلول اللفظ صار المجموع دليلاً ع لى التنزيه وهذا أولى ، ليرجع حاصل معصيته إلى ترك الأولى فيكون أقرب إلى عصمة الأنبياء . وقيل : نهي تحريم قياساً على قوله { ولا تقربوهن حتى يطهرن } [ البقرة : 222 ] وقوله { ولا تقربوا مال اليتيم } [ الأنعام : 152 ] ولقوله { فتكونا من الظالمين } ولأنه استحق الإخراج من الجنة والرجوع إلى التوبة . والجواب أن التحريم في { ولا تقربوهن } [ البقرة : 2 ] بدليل منفصل ، والظلم قد يراد به ترك الأولى ، والإخراج لم يكن بهذا السبب بل لما سيأتي إن شاء الله تعالى . ثم النهي عن القرب يفيد النهي عن الإكل بطريق الكناية ، فإن القرب إليها من أسباب الأكل منها ، ومما يدل على النهي عن الأكل صريحاً قوله { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } [ الأعراف : 22 ] . وروي عن ابن عباس أن الشجرة هي البر والسنبلة ، وفي رواية عنه وعن ابن مسعود أنها الكرم ، وعن مجاهد وقتادة أنها التين ، وعن الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث . قال المبرد : وأحسب أن كل ما له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً ، وقد لا يختص بما له ساق قال تعالى { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } [ الصافات : 146 ] وأصل هذا أنه اسم لكل ما شجر أي أخذ يمنة ويسرة والتشاجر الاختلاف . واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين ، ولا حاجة أيضاً إلى بيانه . فليس المقصود تعريف الشجرة ، وما لم يكن مقصوداً فذكره لا يجب على الحكيم بل يكون عبثاً ، كما لو أراد أحدنا أن يقيم عذره في التخلف فقال : اشتغلت بضرب غلماني لإساءتهم الأدب . كان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين الغلام واسمه وصفاته ، فلا يظنن أحد أن ههنا تقصيراً في البيان . { فتكونا } جزم عطفاً على { تقربا } ونصب جواباً للنهي . { من الظالمين } من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله . قوله { فأزلهما الشيطان } الآية . تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنهما ولفظة { عن } في هذه الآية ك { هي } في قوله { وما فعلته عن أمري } [ الكهف : 482 ] فالضمير للشجرة . وقيل : أذهبهما وأبعدهما كما تقول : زل عن مرتبته وزلت قدمه . فالضمير للجنة ، ومن قرأ { أزالهما } فهو من الزوال عن المكارم مما كانا فيه أي من النعيم والكرامة ، أو من المكان الذي هو الجنة إن كان الضمير في { عنها } الشجرة .
واعلم أن الناس اختلفوا في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، والنزاع إما في باب الاعتقاد ، أو في باب التبليغ ، أو في باب الأحكام والفتيا ، أو في أفعالهم وسيرتهم . أما اعتقادهم الكفر والضلال فغير جائز عند أكثر الأئمة . وقالت الفضيلية : إنه قد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كفر وشرك ، فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم . وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية ، وأما ما يتعلق بالتبليغ فاجتمعت الأمة على عصمتهم عن الكذب والتحريف في ذلك لا عمداً ولا سهواً وإلا ارتفع الوثوق .

ومنهم من جوز ذلك سهواً لأن الاحتراز غير ممكن ، وأما المتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز الخطأ فيه عمداً ، وأما السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون . وأما المتعلق بأفعالهم فالحشوية جوّزوا الكبائر عنهم عمداً ، وأكثر المعتزلة جوّزوا الصغائر عنهم عمداً إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف ، والجبائي لا يجوّز صغيرة ولا كبيرة على جهة العمد بل على التأويل . وقيل : لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ، ولكنهم يؤاخذون به وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم ، لأن معرفتهم أقوى وهم على التحفظ أقدر . والشيعة لم يجوّزوا صغيرة ولا كبيرة منهم لا عمداً ولا سهواً ولا على سبيل التأويل والخطأ . وفي وقت عصمتهم ثلاثة أقوال : فمذهب الشيعة أنهم معصومون من وقت مولدهم ، والمعتزلة من وقت بلوغهم ولم يجوزوا الكفر والكبيرة منهم قبل النبوة ، وبعضهم وأكثر أصحابنا على تجويز ذلك قبل النبوة ، والمختار أنهم لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة لا الكبيرة ولا الصغيرة لوجوه :
الأول : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة مصداقه قوله عز وجل من قائل { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ]
وصغائر الرجل الكبير كبائر ... ولا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة بالإجماع .
والثاني : وبتقدير إقدامه على الفسق لا يكون مقبول الشهادة لقوله { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [ الحجرات : 6 ] لكنه شاهد عدل من الله بأنه شرع الدين وكذا يوم القيامة { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] .
الثالث : وبتقدير إقدامه على الكبيرة . يجب زجره وإيذاؤه ، لكنه محرّم { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [ الأحزاب : 57 ] .
الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم لو أتى بمعصية لوجب علينا الاقتداء به لقوله { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] والجمع بين الوجوب والحرمة محال .
الخامس : نعلم بالبديهة أنه قبيح لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وجعله خليفة في عباده وبلاده ، ثم إنه يقدم على ما نهاه عنه ترجيحا لهواه حتى يستحق اللعن والعذاب . السادس : { أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] يكون حينئذ منزلاً في شأنه ، { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } [ هود : 88 ] .
السابع : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } [ الأنبياء : 90 ] واللفظ للعموم فيشمل فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي .
الثامن : { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } [ ص : 47 ] { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } [ الحج : 75 ] والوصف بالاصطفاء ينافي الذنب .
التاسع : أنه تعالى حكى عن إبليس { لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين } [ ص : 82 ، 83 ] والأنبياء من المخلصين لقوله تعالى في حق يوسف { إنه من عبادنا المخلصين }

[ يوسف : 24 ] وفي حق موسى { إنه كان مخلصاً } [ مريم : 51 ] فكذا غيرهما .
العاشر : { ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } [ سبأ : 20 ] ولا يخفى وجوب كون الأنبياء منهم وإلا كان غير النبي أفضل من النبي .
الحادي عشر : الخلق قسمان : حزب الله { ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة : 22 ] وحزب الشيطان { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } [ المجادلة : 19 ] والعصاة حزب الشيطان ، فلا يجوز أن يكون النبي عاصياً .
الثاني عشر : النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملك كما مر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فالنبي أولى .
الثالث عشر : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] والإمام من يؤتم به والمذنب لا يجوز الاقتداء به في ذنبه .
الرابع عشر : { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] فإن كان عهد النبوة ثبت المطلوب ، وإن كان عهد الإمامة فالنبي أولى به ، « روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه فقال صلى الله عليه وسلم : كيف شهدت لي فقال : يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات ، أفلا أصدقك في هذا القدر؟ فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وسماه بذي الشهادتين » ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة .
المخالف تمسك في باب الاعتقاد بقوله { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } [ الأعراف : 189 ] إلى قوله { جعلا له شركاء } [ الأعراف : 190 ] وهذا يقتضي صدور الشرك عنهما . والجواب ما سيجيء في الأعراف إن شاء الله تعالى ، من أن الخطاب لقريش والمعنى : خلقكم من نفس قضى وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي . قالوا : إن إبراهيم لم يكن عالماً بالله ولا باليوم الآخر لقوله { هذا ربي } [ الأنعام : 77 ] { ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] والجواب : هذا ربي استفهام منه بطريق الإنكار وقوله { ليطمئن قلبي } أراد به أن يؤكد علم اليقين بعين اليقين فليس الخبر كالمعاينة . قالوا : { فإن كنت في شك } [ يونس : 94 ] { فلا تكونن من الممترين } [ البقرة : 147 ] يدل على أنه كان شاكاً في الوحي قلنا : الخطاب له والمراد الأمة مثل { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] . قالوا في باب التبليغ { سنقرئك فلا تنسى . إلاّ ما شاء الله } [ الأعلى : 6 ، 7 ] هذا الاستثناء يدل على النسيان . والجواب عنه أن هذا النسيان نوع من النسخ كما يجيء في تفسير قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها } [ البقرة : 106 ] . قالوا { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } [ الحج : 52 ] والجواب سوف يجيء في سورة الحج إن شاء الله تعالى : قالوا : { عالم الغيب فلا يظهر } إلى قوله { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } [ الجن : 26-28 ] ولولا الخوف من وقوع التخبيط في الوحي لم يستظهر بالرصد ، قلنا هذا عليكم لا لكم لدلالته على كونهم محفوظين عن التخبط .

قالوا في باب الفتيا { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } [ الأنبياء : 78 ] { وما كان لنبي أن يكون له أسرى } [ الأنفال : 67 ] { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] قلنا : الجميع محمول على ترك الأولى ، وسوف يجيء قصة كل في موضعها على أنا نقول شعراً :
يا سائلي عن رسول الله كيف سها ... والسهو من كل قلب غافل لا هي
قد غاب عن كل شيء سره فسها ... عما سوى الله فالتعظيم لله .
فشغل الأدبي عن الأرفع هو المذموم ، وأما الشغل بالأرفع عن الأدنى فمحمود . قالوا في الأفعال { وعصى آدم ربه فغوى } [ طه : 121 ] والعصيان يوجب الوعيد { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم } [ الجن : 23 ] والغي ضد الرشد { قد تبين الرشد من الغي } [ البقرة : 256 ] ، ثم إنه تاب والتوبة دليل الذنب ، وإنه ظالم لقوله { فتكونا من الظالمين } والظالم ملعون { ألا لعنة الله على الظالمين } [ هود : 18 ] وأنه أخرج من الجنة ، وكل هذه دليل ارتكاب الكبيرة . والجواب ، المنع من أن هذه الأمور كانت بعد النبوة . ثم لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم بعد النبوة ، فإقدامه عليه إما أن يكون في حال كونه ناسياً ، أو في حال كونه ذاكراً ، الذاهبون إلى الأول وهم طائفة من المتكلمين احتجوا بقوله { فنسي ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] ومثلوه بالصائم يغفل عن صومه فيأكل في أثناء ذلك السهو عن قصد . قيل عليه إن قوله { ما نهاكما وبكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] وقوله { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } [ الأعراف : 21 ] يدل على أنه ما نسي وروي عن ابن عباس أنهما لما أكلا منها وبدت لهما سوآتهما ، خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى : أفراراً مني؟ فقال : بل حياء منك . فقال له : أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة مما حرمت عليك؟ قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك بما كنت أرى أحداً يحلف بك كاذباً ، فقال : وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا نكداً . وأيضاً لو كان ناسياً لما عوتب عليه لأنه قادر على تركه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، رفع القلم عن ثلاث . وأجيب بالمنع من أن إقدامه على ذلك الفعل إنما وقع عقيب قول إبليس ، لأنه كان عالماً بتمرد إبليس عن سجوده وكونه عدواً له ولزوجه ، ولأنهما لو صدقاه لكانت المعصية في تصديقه أعظم من أكل الشجرة ، لأنه ألقى إليهما سوء الظن بالله وأنه ناصح والرب غاش . وما روي عن ابن عباس فهو من باب الآحاد ولا يلزم من رفع النسيان عن هذه الأمة رفعه عن غيرهم ، بل لا يلزم من رفعه عن الأمة رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم

« أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل » « إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم » وقيل : إن حواء سقته الخمر فسكر ثم أقدم على ذلك الفعل ، وهذا إنما يصح إذا حملت الشجرة على غير الكرمة حتى يكون مأذوناً في تناول غيرها ، إلا أنه يرد عليه أن خمر الجنة لا تسكر { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] .
الذاهبون إلى أنه فعله عامداً أربع فرق : منهم من قال : النهي نهي تنزيه لا تحريم وقد سبق . ومنهم من قال : كان عمداً من آدم وكان كبيرة مع أن آدم في ذلك الوقت كان نبياً ، وقد عرفت فساده . ومنهم من قال : فعله عمداً لكن كان معه من أعمال القلب من الإخلاص والوجل والإشفاق ما صيره صغيرة ، وزيف بأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمداً لا يعذر بدعوى الخوف ، فلا يصح وصف الأنبياء بذلك . ومنهم - وهو اختيار أكثر المعتزلة - من قال : إنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة ، بيان الاجتهاد أنه لما قيل له { ولا تقربا هذه الشجرة } فلفظ { هذه } قد يشار بها إلى الشخص ، وقد يشار بها إلى النوع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً وذهباً بيده وقال « هذان حرامان على ذكور أمتي » وتوضأ ثم قال « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به » وأراد نوع الحرير والذهب ، ونوع الوضوء . فمراد الله تعالى من كلمة { هذا } ذلك النوع لا الشخص . وكان آدم ظن أن النهي قد ورد على الشجرة المعينة فتركها ، وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع . واعترض بأن هذا في أصل اللغة للإشارة الشخصية ، وإذا حمل آدم اللفظ على موضوعه فكيف يعد مخطئاً؟ وأيضاً هب أن لفظ { هذا } متردد بين الشخص والنوع ، فإن كان مع قرينة الإشارة النوعية وقد قصر في معرفتها فيكون مذنباً ، وإن عرفها ومع ذلك أقدم على التناول فكذلك ، وإن لم يكن فيه قرينة فلا يعد مخطئاً . وأيضاً الأنبياء لا يجوز لهم الاجتهاد لأنهم قادرون على تحصيل اليقين بالوحي ، فالإقدام على الاجتهاد عين المعصية . وأيضاً هذه المسألة إن كانت قطعية فالخطأ فيها كبيرة ، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا : كل مجتهد مصيب . فلا خطأ ، وإن قلنا المصيب واحد فالمخطئ فيها معذور بالاتفاق . وأجيب بأن لفظ { هذا } يستعمل في الإشارة النوعية أيضاً كما مر ، وبأن آدم لعله قصر في معرفة القرينة أو عرفها ثم نسي لطول المدة ، فلهذا عوتب . وبأن المسألة القطعية لما نسيها صار النسيان عذراً حتى لا يصير الذنب كبيراً ، وقد تكون ظنية وترتب التشديدات على الخطأ فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به الأمة .

قيل : وقد يحمل الخطأ في الاجتهاد من جهة أن آدم ظن أن المنهي في قوله { لا تقربا } تناولهما معاً ، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله .
فإن قيل : كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم فيها؟ قلت : إما لأنه دخل فم الحية خافياً عن الخزنة ولهذا سقطت قوائم الحية عقوبة لها على ما يروى - وإن كان بعيداً - عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما سالمناهم منذ حاربناهم ، ومن ترك منهم شيئاً خيفة فليس منا . يعني الحيات . وإما لأنه دخل الجنة في صورة دابة ، وإما لأنهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس ، وإما لأنه كان يدنو من السماء فيكلمهما . وقيل وسوس لهما على لسان بعض أتباعه لأنهما كانا يعرفان ما عنده من الحسد والبغضاء فيستحيل أن يقبلا قوله عادة . وإسناد الإذلال والإخراج إلى الشيطان لأنه حصل بسبب منه ، وعن بعض العرفاء أن زلة آدم هب أنها كانت وسوسة إبليس ، فمعصية إبليس بوسوسة من؟ ولا بد من الانتهاء إلى الذي لا يسأل عما يفعل . فإن قيل : كيف كانت الوسوسة؟ قلنا : هي التي حكاها الله تعالى { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] فلما لم يفد عدل إلى اليمين { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } [ الأعراف : 21 ] ولكم من شياطين الإنس تراهم يوسوسون إليك على هذا الترتيب أعاذنا الله منهم . ثم بعد ذلك يحتمل أنهما لم يصدقاه فعدل إلى شغلهما باللذات المباحة حتى استغرقا فيها ونسيا النهي فوقعا فيما وقعا والله أعلم بحقائق الأمور .
{ اهبطوا } خطاب لآدم وحواء وإبليس إما في وقت واحد بناء على أن إبليس قد عاد إلى الجنة لأجل الوسوسة ، وإما لآدم وحواء في وقت وله في آخر قبل ذلك ، وقيل : خطاب لهما وللحية . وقيل : الصحيح أن الخطاب لهما وذريتهما مرادة أيضاً لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الناس كلهم ، والدليل عليه ما جاء في طه { اهبطا منها } [ طه : 123 ] وقوله { فإما يأتينكم } [ طه : 123 ] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم . و { اهبطوا } أمر أو إباحة . والأشبه الأول لأن مفارقة ما كانا فيه من النعيم إلى دار الهوان أشق التكاليف . وإنما قيل : إنه تكليف لا عقوبة لما ترتب عليه من الثواب العظيم . ويمكن أن يقال : نفس الإهباط عقوبة ولا ثواب عليه ، وإنما الثواب على حسب العمل بعد ذلك . ومعنى { بعضكم لبعض عدو } [ طه : 123 ] ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض . وليست هذه هي العداوة المأمور بها في قوله { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } [ فاطر : 6 ] فلا يدخل تحت الأمر ، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم كذا ، لأن عالم التضاد والتنافي ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع { مستقر } استقرار أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت .

{ ومتاع } تمتع بالعيش { إلى حين } هو يوم القيامة ، أو حين انقضاء آجالكم . والحين المدة طويلة أو قصيرة ، ولهذا لو قال : أنت طالق إلى حين . فمضت لحظة طلقت . وفي قصة آدم وما جرى عليه بسبب الزلة معتبر عجيب وموعظة بليغة بينة كافية في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم ، ولله در القائل :
يا ناظراً يرنو بعيني راقد ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان ودرك فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدماً ... منها إلى الدنيا بذنب واحد؟
وعن فتح الموصلي : كنا قوماً من أهل الجنة فساقنا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها .
تطلب الراحة في دار العنا ... خاب من يطلب شيئاً لا يكون
قوله { فتلقى } الآية . أصل التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع الاستقبال للشيء الجائي ، ثم يوضع موضع القبول ، والأخذ { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } [ النمل : 6 ] أي تلقنه ، ثم بعض الأفعال قد يشترك فاعله ومفعوله في صلاحية وصف كل منهما بالفعل فيتعاوضان عمله فيهما . تقول : بلغني ذاك وبلغته ، وأصابني خير أو نالني وأصبته أو نلته { وتلقى آدم من ربه كلمات } أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وتلقى آدم كلمات أي جاءته واتصلت به ، ولا يجوز أن يكون معنى التلقي من الرب ، أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد أن يعرف ماهية التوبة ، ويتمكن بعقله من تدارك الذنوب فضلاً عن الأنبياء فإذن المراد أنه نبهه على المعصية على وجه آل أمره إلى التوبة ، أو عرّفه وجوب التوبة وكونها مقبولة ، أو ذكره نعمته العظيمة عليه حتى صار من الدواعي القريبة إلى التوبة ، أو علمه كلمات لو حصلت التوبة معهن كمل حالها من قوله تعالى { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] الآية . وفي رواية ابن عباس أن آدم قال : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى . قال : ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى . قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم . وقال النخعي : أتيت ابن عباس فقلت : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال : علم الله آدم وحوّاء أمر الحج فحجا ، فهي الكلمات التي تقال في الحج ، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما إني قبلت توبتكما . وعن ابن مسعود : إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة « سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » .

وقالت عائشة : لما أراد تعالى أن يتوب على آدم عليه السلام طاف بالبيت سبعاً ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فلما صلى الركعتين استقبل البيت وقال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي . فأوحى الله تعالى إلى آدم : يا آدم ، قد غفرت لك ذنبك ، ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها . وفي كلام الغزالي : أن التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة : أولها علم ، وثانيها حال ، وثالثها عمل . فالعلم هو معرفة ما في الذنب من الضرر ، وكونه حجاباً بين العبد ورحمة الرب ، فإذا استحكمت هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات محبوبه ، وتأسف على الفعل الذي كان سبباً لذلك الفوات . ويسمى ذلك التأسف ندماً ، وهذه الحالة لها تعلق بالماضي وهو تلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر ، وتعلق بالحال وهو ترك الذنب الذي كان ملابساً له ، وتعلق بالمستقبل وهو العزم على أن لا يعود إليه أبداً . وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ، ويجعل العلم السابق كالمقدمة ، والترك اللاحق كالثمرة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « الندم توبة » وجميع هذه الأمور بتوفيق الله ولطفه إنه هو التوّاب الرحيم . والتوبة لغة الرجوع فيشترك فيه الرب والعبد ، فإذا وصف بها العبد فالمعنى راجع إلى ربه لأن العاصي هارب عن ربه ، وقد يفارق الرجل خدمة سيده فيقطع السيد معروفه عنه ، فإذا عاد إلى السيد عاد السيد عليه بإحسانه ومعروفه ، وهذا معنى قبول التوبة من الله وغفران ذنوب العباد « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » ومعنى المبالغة في الثواب أن واحداً من ملوك الدنيا إذا عصاه إنسان ثم تاب قبل توبته ، ثم إذا عاد إلى المعصية وإلى الاعتذار فربما لم يقبل عذره لأن طبعه يمنعه من قبول العذر ، والله تعالى بخلاف ذلك لأنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضر ، بل لمحض الإحسان واللطف والرحمة والجود ، فإن فيضه لا ينقطع ولا تقصير إلا من القابل ، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض إليه لا محالة . وأيضاً يستحق المبالغة من جهة أخرى وهي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة ووصفه بالرحمة . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر ، وإذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء »

ولذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم « إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة » فنحن أحق بالاستغفار ، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا ريناً ، وذلك أن الغين شيء يغين أي يغشى القلب ويغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس ، ولكن يمنع كمال ضوئها . والرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعاً بالكلية عن قبول الحق وذلك صفة الكفار { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين : 14 ] . قيل في تأويل الحديث : إن الله تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف والشقاق ، وكان إذا ذكر ذلك وجد غيناً في قلبه فاستغفر لأمته . قيل : كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان . وقيل : الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانياً عن نفسه بالكلية ، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو ، وهذا تأويل أرباب الحقيقة . وقال أهل الظاهر : إن القلب لا ينفك عن الخطرات والشهوات وأنواع الإرادات ، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر . وعن ثابت البناني : بلغنا أن إبليس قال : يا رب ، إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه . فقال سبحانه : جعلت صدورهم مساكن لك . فقال : رب زدني . فقال : لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة . قال : رب زدني . قال : تجري منه مجرى الدم . قال : رب زدني . قال : اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد . قال : فشكا آدم إلى ربه فقال : يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك . فقال الله تعالى : لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء . قال : رب زدني . قال : الحسنة بعشر أمثالها . قال : رب زدني . قال : لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ، والغرغرة تردد الروح في الحلق . وسئل ذو النون عن التوبة فقال : إنها اسم جامع لمعان ستة : أولها الندم على ما مضى ، وثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل ، وثالثها أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله ، والرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم ، والخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرام ، والسادس إذاقة البدن مرارة الطاعات كما ذاق حلاوة المعاصي . وكان أحمد ابن الحرث يقول : يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب ، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب ، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب ، يا صاحب الذنوب أنت غداً بالذنوب مطلوب .

وإنما اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعاً له كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك على أنها قد ذكرت في موضع آخر { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] الآية .
( قوله ) { قلنا اهبطوا } الآية . قيل : فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان : الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض . وضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله { ولكم في الأرض مستقر } عقيب الهبوط الثاني أولى . وأيضاً قوله { منها } يدل على أن الهبوط الثاني أيضاً من الجنة والأوجه أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة وتابا بعد الأمر بالهبوط ، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة ، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باقٍ تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله تعالى { إني جاعل في الأرض خليفة } ووجه ثالث وهو أن يكون التكرير للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قوله { فإما يأتينكم } روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند ، وحواء بجدة من أرض الحجاز ، وإبليس بالأيلة من نواحي البصرة ، والحية بأصفهان ، فلم يتلاقيا مائة سنة ، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة ، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفات يوم عرفة ، وتمنيا على الله تعالى المغفرة والتوبة بمنى ، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني . وما في { إما } مزيدة لتأكيد الشرط ويؤيده لحوق النون المؤكدة والشرط الثاني وجزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول . تبع واتبع بمعنى ، وإنما جاء في طه { فمن اتبع } [ طه : 123 ] موافقة لقوله فيها { يتبعون الداعي } [ طه : 108 ] وفي الهدى وجهان : أحدهما المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي ، وفيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال : وإذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى : إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع . عن الحسن : لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه : يا آدم ، أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك : واحدة لي ، وواحدة لولدك ، وواحدة بيني وبينك ، وواحدة بينك وبين الناس . أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فإذا عملت آجرتك ، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلى الإجابة ، وأما التي بينك وبين الناس فأن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به . وقيل : هو رسول وكتاب بدليل { والذين كفروا كذبوا بآياتنا } [ البقرة : 39 ] في مقابلة { فمن تبع هداي } في الإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها ولا حزن . وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني ، لأن قوله { فإما يأتينكم مني هدى } دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادة البيان ، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكين .

وجمع قوله { فمن تبع هداي } تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ، وجمع قوله { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه ، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه ، أو انتظار محذور ، وزواله يتضمن السلامة من جميع الآفات . والحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب ، ونفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات . وإنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي ، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف عند الموت ، ولا في القبر ، ولا عند البعث ، ولا عند حضور الموقف ، ولا عند تطاير الكتب ، ولا عند نصب الميزان ، ولا عند الصراط { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } [ فصلت : 30 ] وقال قوم من المتكلمين : إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار والفساق والمؤمنين بدليل قوله تعالى { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } [ الحج : 2 ] { فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً } [ المزمل : 17 ] { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ] { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وفي الحديث « تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه » وحديث الشفاعة وقول كل نبي « نفسي نفسي » إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه يقول : « أمتي أمتي » مشهور . قلت : لا ريب أن وعد الله حق ، فمن وعده الأمن يكون آمناً لا محالة ، إلا أن الإنسان خلق ضعيفاً لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل إلى الجنة ، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين ، وأيضاً إن جلال الله وعظمته يدهش الإنسان براً كان أو فاجراً . وأيضاً ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة ، فلا عمل إلا بالإخلاص ، ولا حكم بالإخلاص إلا لله تعالى ، لأنه من عمل القلب وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء . ولهذا جاء « والمخلصون على خطر عظيم » وكان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف ، والرغبة بالرهية ، { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] { ويدعوننا رغباً ورهباً } [ الأنبياء : 90 ] وقيل : { لا خوف عليهم } [ يونس : 62 ] أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فآمنهم الله تعالى ثم سلاهم فقال لهم

{ ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا . ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف والحزن بالآخرة ، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف والحزن . وقال صلى الله عليه وسلم « خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل » قلنا : المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يرى شيئاً من المكاره مكروهاً ، وإنما مراده مراد حبيبه { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } [ النساء : 65 ] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية ، وبالرضوان يحصل مفاتيح الجنان ، وتنكشف الهموم والأحزان ، ويتساوى الفقر والوجدان ، وتثبت حقيقة الإيمان { والذين كفروا } لجحدهم مولاهم { وكذبوا بآياتنا } لإثباتهم حكماً لهم بحسب مشتهاهم وهواهم { أولئك أصحاب النار } وملازموها دائماً سرمداً سواء كانوا من الإنس أو من الجن ، أعاذنا الله منها بعميم فضله وجسيم طوله .
التأويل : إنكم تسجدون لله بالطبيعة الملكية الروحانية { اسجدوا لآدم } بخلاف الطبيعة تعبداً ورقاً وانقياداً للأمر وامتثالاً للحكم ، اسجدوا له تعظيماً لشأن خلافته وتكريماً لفضيلته المخصوصة به ، فمن سجد له فقد سجد لله تعالى كما قال { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } اسجدوا لآدم لأجل آدم فإن عبادتكم وطاعتكم لا توجب ثواباً لكم ولا تزيد في درجاتكم ، ولكن فائدتها تعود إلى الإنسان لقوله { يسبحون بمحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } ولأن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة ويتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر والانزجار عن الإباء والاستكبار ، كيلا يلحقه من اللعن والبعد ما لحق إبليس { فسجدوا إلا إبليس } لأنهم خلقوا من نور ، والنور من شأنه الانقياد والإفاضة ، وأنه خلق من نار والنار من شأنها الاستعلاء طبعاً { وكان من الكافرين } لأنه ستر الحق على آدم كما سمي إبليس لأنه أبلس الحق . { ولا تقربا هذه الشجرة } أي أبحت لك نعيم الجنة بما فيها وما كان لك فيها حق لأنك ما عملت بعد عملاً تستحق به الجنة فأعطني هذه الشجرة الواحدة منها وهي كلها لي وأنا خلقتها ، فإن طمعت فيها أيضاً فاعلم أن الإنسان له همة عالية وحرص شديد لا يزال تقول جهنم حرصه « هل من مزيد » ولا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه أي سابقة رحمته وعنايته « سبقت رحمتي غضبي » ثم إنه أبيح له ولزوجه مشتهيات النفس كلها { فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين } وقيل لهما اقتنعا بها ولا توقدا نار الفتنة على أنفسكما ، ولا تصبا من قربة المحبة ماء المحنة على رأسكما ، ولا تقربا شجرة المحبة وقد غرست لأجله في الحقيقة { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] . ولكن سبب النهي هو الدلال الذي يقتضيه غاية الجمال . وأيضاً لو لم ينه عنها فلعله ما فرغ لها لكثرة أنواع المرادات النفسانية وكانت المحبة غذاء روحانياً فذكرها كان كالتحريض عليها فإن الإنسان حريص على ما منع وأيضاً إنه تعالى وسع أسباب الانبساط أولاً ثم ضيق عليه الأمر آخراً .

وأدنيتني حتى إذا ما فتنتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح .
تجافيت عني حين لالي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح .
خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة في جواره وزوجه حواء حتى شاهد جمال الحق في مرآة وجهه ، وأنبت شجرة المحبة بين يديه ثم منعه عنها وكان في ذلك المنع تذكير وتحريض . أيضاً كما مر ثم عاتبه بقوله { فتكونا من الظالمين } وهذا كما أسكر موسى بأقداح الكلام وأذاقه لذة شراب السماع وقربه نجياً حتى اشتاق إلى جماله وطمع في وصاله وقال { ربي أرني } [ الأعراف : 143 ] عاتبه بسطوة { لن تراني } [ الأعراف : 143 ] وذلك أن البلاء والولاء توأمان والمحبة والمحنة رضيعا لبان ، والمطلوب كلما كان أرفع كان أعز وأمنع والجمال لا بد له من الدلال ، وبه يتميز العاشق الصادق من المدعي المختال . { فلما ذاقا } شجرة الغرام خرجا من دار السلام فما لأهل الغرام ودار السلام؟ وأين الفارغ السالي من المحب الغالي؟
فبتنا على رغم الحسود وبيننا ... حديث كطيب المسك شيب به الخمر .
فلما أضاء الصبح فرق بيننا ... وأي نعيم لا يكدره الدهر؟ .
وبالجملة ، فلما جاء القضاء ضاق الفضاء ، فلم يمس بعد أن كان مسجود الملك مرفوع السماك إلى السماك مشمول الرعاية موفور العناية حتى نزع عنه لباس الأمن والفراغ ، وبدل باستئناسه الاستيحاش ، تدفعه الملائكة بعنف أن اخرج من غير مكث ولا بحث ، فأزلتهما يد التقدير بحسن التدبير ، وكان الشيطان المسكين كذئب يوسف لطخ خرطومه بدم نصح ، فلما وقعا من القربة في الغربة ، ومن الألفة في الكلفة لما ذاقا من شجرة المحبة المورثة للمحنة استوحشا من كل شيء ، واتخذا عدوّاً بعضكم لبعض عدو ، وهكذا شرط المحبة عداوة ما سوى المحبوب . فكما أن ذاته لا تقبل الشركة في التعبد ، كذلك لا تقبل الشركة في المحبة . فلما استقرت حبة المحبة في أرض قلب آدم جعل الأرض مستقر شخصه ليتمتع بتربية بذر المحبة بماء الطاعة والتكليف إلى حين إدراك ثمرة المعرفة { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] وقال صلى الله عليه وسلم « إن داود قال : يا رب لم خلقت الخلق؟ فقال : كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف » ثم إنه بعدما ابتلي بالهبوط بشره بأن وحيه لا ينقطع وهدايته لا ترتفع ، وإن من ربى بذر المحبة بماء الطاعة والطباعة { فلا خوف عليهم } في المستقبل { ولا هم يحزنون } على ما مضى من الهبوط إلى الأرض ، لأنهم يرجعون بجذبات العناية والهداية إلى ذرى حظائر القدس وبالله التوفيق .


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

القراآت : { إسرائيل } بغير همزة حيث كان : يزيد وحمزة في الوقف { نعمتي } وكذلك ما بعدها ساكنة الياء : أبو زيد عن المفضل { فارهبوني } { فاتقوني } بالياء في الحالين : يعقوب ، وكذلك كل ياء محذوفة في الخط عند رأس الآية . وروى مسبح بن حاتم وابن دريد عن سهل وعباس بالياء في الوصل . { أول كافر به } ممالة : قتيبة وأحمد بن فرج .
الوقوف : { فارهبون } ( 5 ) ربع الجزء . { كافر به } ( ص ) لاتفاق الجملتين وعلى { قليلاً } أجوز لاختلاف النظم بتقديم المفعول . { فاتقون } ( 5 ) { تعلمون } ( 5 ) { الراكعين } ( 5 ) { الكتاب } ( ط ) { تعقلون } ( 5 ) { الصلاة } ( ط ) { خاشعين } ( لا ) لأن « الذين » صفتهم . { راجعون } .
التفسير : أنه تعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، ثم ذكر الإنعامات العامة للبشر ومن جملتها خلق آدم إلى تمام قصته ، أردفها الإنعامات . الخاصة على أسلاف اليهود ، إلانة لشكيمتهم واستمالة لقلوبهم وتنبيهاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث كونه إخباراً بالغيب مدرجاً في مطاوي ذلك ما يرشدهم إلى أصول الأديان ومكارم الأخلاق ، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم غير منصرف للغلمية والعجمية المعتبرة لقب له ، ومعناه صفوة الله . وقيل : عبد الله ، لأن « إسر » بالعبرية هو العبد ، « وإيل » الله . وقوله { يا بني إسرائيل } خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب في أيام محمد صلى الله عليه وسلم . وحد النعمة وما يتعلق بها قد سبق في تفسير الفاتحة . والعائد من الصلة محذوف أي أنعمت بها عليكم . قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرة ، وعبيد المنعم قليلون ، فإن الله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم ، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم المنعم فقال { اذكرني أذكركم } [ البقرة : 152 ] عن ابن عباس أنه قال : من نعمه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون ، وظلل عليهم في التيه الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأعطاهم الحجر الذي كان يسقيهم ما شاءوا ، وأعطاهم عموداً من النور أضاء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعت وثيابهم لا تبلى ، وفي تذكير هذه النعم فوائد : منها أن فيها ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور . ومنها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم إياها ليحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . ومنها أن تذكر النعم الكثيرة يوجب الحياء من إظهار المخالفة . ومنها أن كثرة النعم تفيد أن المنعم خصهم بها من بين سائر الناس ، ومن خص أحداً بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم كما قيل : إتمام المعروف خير من ابتدائه . فتذكير النعم السالفة مطمع في النعم الآتية ، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة والمخاصمة .

والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء إذ لولاها لم يبق نسلهم ، ولأن الانتساب إلى آباء خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، ولأنهم إذا علموا أن آباءهم إنما خصوا بهذه النعم لمكان طاعتهم والإعراض عن الكفر والجحود ، رغبوا في هذه الطريقة لأن الابن مجبول على اتباع الأب « من أشبه أباه فما ظلم » . والعهد يضاف إلى المعاهد جميعاً . يقال : أوفيت بعهدي أي بما عاهدتك عليه ، وأوفيت بعهدك أي بما عاهدتك عليه . والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي أوف بعهدكم أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة حكاه الضحاك عن ابن عباس . وتحقيقه في قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله } [ التوبة : 111 ] وقيل : المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه ، وإليه الإشارة في قوله { ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً } [ المائدة : 12 ] إلى قوله { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } [ المائدة : 12 ] وفي الأعراف { فسأكتبها للذين يتقون } [ الأعراف : 156 ] الآية . وفي آل عمران { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم } [ آل عمران : 81 ] وفي الصف { وإذ قال عيسى بن مريم } [ الصف : 6 ] وعن ابن عباس : إن الله كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً ، فمن تبعه وصدق بالتوراة الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين ، أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل ، وأجراً باتباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في القرآن { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } [ الحديد : 28 ] . وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران ، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ، ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران » فإن قيل : لو كان الأمر كما قلتم ، فكيف يجوز من جماعتهم جحده صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : إما لأن هذا العلم به صلى الله عليه وسلم كان حاصلاً عند العلماء بكتبهم ولم يكن لهم عدد كثير فجاز منهم كتمانه صلى الله عليه وسلم ، وإما لأن ذلك النص كان نصاً خفياً لعدم تعيين الزمان والمكان بحيث يعرفه كل أحد ، فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه . جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة : أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك لله تعالى .

فقال لها : يا هاجر أين تريدين؟ قالت : أهرب من سيدتي سارة . فقال : ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك ، وستحبلين وتلدين ابناً تسميه إسماعيل ، من أجل أن الله سمع خشوعك ، وهو يكون عيناً بين الناس وتكون يده فوق الجميع ، ويد بجميع مبسوطة إليه بالخضوع . فقيل : هذا الكلام خرج مخرج البشارة لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف ، فلما جاء الإسلام استولوا على الخافقين بالإسلام ومازجوا الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة .
{ وإياي فارهبون } فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك : زيد أرهبته أي زيداً رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص . فتقديره : وإياي ارهبوا فارهبون . وهو أوكد في إفادة الاختصاص من { إياك نعبد } [ الفاتحة : 4 ] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها . أي إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون . ومن قبل التكرير ولأجل الإضمار والتفسير . والرهبة هي الخوف ، والخوف إما من العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وإما من الجلال وهو وظيفة أرباب القلوب ، والأول يزول ، والثاني لا يزول . ومن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس . يروى أنه ينادي مناد يوم القيامة : وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة . قوله { وآمنوا } معطوف على { اذكروا } والمراد { بما أنزلت } القرآن و { مصدقاً } حال مؤكدة من الراجع المحذوف وفيه تفسيران : أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق ، والتوراة والإنجيل حق ، والتوراة أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى ، فكان الإيمان بالقرآن مؤكداً للإيمان بالتوراة والانجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل ، والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تكذيباً لهما ، وفي هذا التفسير دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقاً ، ومن جهة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن كتبهم ولم يكن له صلى الله عليه وسلم معرفة بذلك الأمر قبل الوحي { ولا تكونوا أول كافر به } صلى الله عليه وسلم أي أوّل من كفر به صلى الله عليه وسلم ، أو أوّل فريق أو فوج كافر به صلى الله عليه وسلم ، أو ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقوله « كسانا حلة » أي كل واحد منا .
( وهنا سؤالان ) الأول : كيف جعلوا أوّل من كفر به صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الكفر به صلى الله عليه وسلم مشركو العرب؟ وفي الجواب وجوه : الأوّل : أنه تعريض وأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به صلى الله عليه وسلم لمعرفتهم به صلى الله عليه وسلم وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلى الله عليه وسلم والمستفتحين به على الذين كفروا ، وكانوا يعدّون أتباعه أولى الناس كلهم .

فلما بعث كان أمرهم على العكس { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] . والثاني : ولا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا - وأنتم تعرفونه صلى الله عليه وسلم موصوفاً في التوراة - مثل من لم يعرفه صلى الله عليه وسلم لأنه لا كتاب له . الثالث : { ولا تكونوا أول كافر به } من أهل الكتاب ، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به وبالقرآن من بني إسرائيل . الرابع { ولا تكونوا أوّل كافر به } يعني بكتابكم . يقول ذلك لعلمائهم ، لأن تكذيبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم . الخامس : المراد بيان تغليظ كفرهم ، وذلك أن السابق إلى الكفر كفره غليظ « من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها » والكافر عن دليل ومعرفة بما يوجب الإيمان كفره أغلظ ممن كفر ولا دليل له على الإيمان ، فاشتركا من هذا الوجه ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر . السادس : ولا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة . السابع : أوّل فريق كفر من اليهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبها قريظة والنضير ، فكفروا ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر . الثامن : ولا تكونوا أول الكافرين به صلى الله عليه وسلم عند سماعكم بذكره صلى الله عليه وسلم ، بل تثبتوا وراجعوا عقولكم فيه صلى الله عليه وسلم .
السؤال الثاني : كأنه يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّل الجواب ليس في ذكر الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه . وأيضاً في قوله { وآمنوا } دلالة على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور . وأيضاً قوله { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير . وقوله { رفع السموات بغير عمد ترونها } [ الرعد : 2 ] لا يدل على وجود عمد لا نراها فكذلك ههنا . قال المبرد : هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم ، فقيل لهم : لا تكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه سيكون بعدكم كفار ، فلا تكونوا أنتم أول الكفار فإنه يكون عليكم وزر من كفر إلى يوم القيامة . والاشتراء استعارة للاستبدال كما قلنا في { اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً ، وإلا فالثمن هو المشترى به ، والثمن القليل هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم . خافوا عليها لفوات لو تبعوا دين الإسلام . وقيل : الثمن هو الرشا التي يأخذها علماؤهم على تحريف الكلم عن مواضعه وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع { وإياي فاتقون } مثل { وإياي فارهبون } وقيل : الاتقاء إنما يكون عند الجزم بحصول ما يتقى عنه ، فكأنه أمرهم بالرهبة .

على أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى على أن يقين العقاب قائم .
قوله { ولا تلبسوا } أمر بترك الإغواء والإضلال كما أن قوله { وآمنوا } أمر بترك الكفر والضلال . ولإضلال الغير طريقان : لأنه إن سمع الدلائل فإضلاله بتشويشها عليه ، وإن لم يسمعها فإضلاله بكتمانها ومنعه من الوصول إليها . فقوله { ولا تلبسوا } إشارة إلى القسم الأول ، وقوله { وتكتموا } المجزوم بلا المقدرة للنهي عطفاً على المنهي قبله إشارة إلى القسم الثاني . والباء التي في { بالباطل } إما للوصل كما في قولك « لبست الشيء بالشيء » خلطته به ، فكان المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى لا يميز بينهما . وإما للاستعانة كما في « كتبت بالقلم » فالمعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبساً بباطلكم وهو الشبهات التي توردونها على السامعين . وذلك أن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد صلى الله عليه وسلم كانت نصوصاً خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوّشون وجه الدلالة على المتأملين كقوله { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ غافر : 5 ] قيل : ويجوز أن يكون { وتكتموا } منصوباً بإضمار « أن » ، والواو بمعنى الجمع أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق نحو « لا تأكل السمك وتشرب اللبن » . قلت : هذا التقدير يوهم أن يكون المحظور هو الجمع بين الأمرين كالجمع بين أكل السمك وشرب اللبن حتى لو أتى بكل منهما منفرداً عن الآخر جاز ، اللهم إلا أن يحال ذلك على القرينة كما في قوله { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الدهر : 24 ] إذ لا يجوز أن يريد أطع أحدهما لقرينة الإثم والكفر . { وأنتم تعلمون } ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة « من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها » والنهي عن اللبس والكتمان وإن قيد بالعلم لم يدل على جوازهما حال عدم العلم ، لأن السبب في ذكره أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضاراً أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضاراً ، والنهي وإن كان خاصاً لكنه عام ، فكل عالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه . ثم لما أمرهم بذكر نعمته وبالإيمان برسوله وكتابه ونهاهم عن اللبس والكتمان ، بين لهم ما لزمهم من أصول الشرائع فقال { وأقيموا الصلاة } أي التي عرفتموها بوصف النبي ، بناء على أنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب . وأما القائلون بجواز التأخير فقد جوزوا ورود الأمر بالصلاة وإن لم يعرف حقيقتها ، ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما لو قال السيد لعبده : إني آمرك غداً بشيء فلا بد أن تفعله .

ويكون الغرض أن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني . ومعنى الصلاة لغة وشرعاً قد تقدم في أول البقرة . وأما الزكاة فهي في اللغة ، الزيادة والنماء ، وفي الشرع القدر المخرج من النصاب لأنها تزيد في بركة المخرج عنه ، ويمكن أن يقال : مأخوذة من التطهير من زكى نفسه تزكية إذا مدحها وطهرها من العيوب . قال تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] فإن المخرج يطهر ما بقي من المال . قال صلى الله عليه وسلم « عليك بالصدقة فإن فيها ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة . فأما التي في الدنيا فتزيد في الرزق ، وتكثر المال ، وتعمر الدار . وأما التي في الآخرة فتستر العورة ، وتصير ظلاً فوق الرأس ، وتكون ستراً من النار » وفي هذا الخطاب مع اليهود دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع .
وفي قوله { واركعوا مع الراكعين } وجوه : أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم ، فخص الركوع بالذكر تحريضاً لهم على الإتيان بصلاة المسلمين . وثانيها صلوا مع المصلين فلا تكرار لأن الأول أمر بإقامتها ، والثاني أمر بالجماعة . وثالثها الركوع والخضوع لغة سواء ، فيكون نهياً عن الاستكبار المذموم وأمراً بالتذلل للمؤمنين ، ثم إنه سبحانه لما أمرهم بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم رغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر ، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول . والهمزة في { أتأمرون } للتقرير مع التقريع ، والتعجيب من حالهم . والبر اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وعمل مبرور مرضي . واختلف في البر ههنا . قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله ثم يتركونها وينهونهم عن معصية الله ويرتكبونها . وقال ابن جريج . تأمرون الناس بالصلاة والزكاة وتتركونهما . أبو مسلم : كانوا قبل مبعث النبي يخبرون مشركي العرب أن رسولاً سيظهر منكم ويدعو إلى الحق ويرغبونهم في أتباعه ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسدوه وأعرضوا عن دينه . الزجاج : يأمرون الناس بالصدقة ويشحون بها . وقيل : يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه . وقيل : يأمرون غيرهم باتباع التوراة وهم يخالفونها لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ثم ما آمنوا به . وقيل : لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباعه في الظاهر وينكرونه صلى الله عليه وسلم في الباطن ، فوبخهم الله على ذلك . والنسيان هو السهو الحادث بعد حصول العلم ، والناسي غير مكلف فكيف يتوجه الذم على ما صدر عنه؟ فإذن المراد وتغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع { وأنتم تتلون الكتاب } أي التوراة وتدرسونها وتعلمون ما فيها من أعمال البر ومن نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومن الوعيد على ترك البر ومخالفة القول العمل { أفلا تعقلون } ؟ وهو تعجيب للعقلاء من أفعالهم .

وكثيراً ما يحذف الفعل بعد همزة الاستفهام للعلم به والتقدير : أفعلتم ذلك فلا تعقلون . وقس على هذا نظائره في القرآن فإنها كثيرة . وللتعجيب وجوه : منها أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى المصالح وتحذيره عن المفاسد ، وإرشاد النفس إليها وتحذيرها منها أهم بشواهد العقل والنقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بما لا يقبله العقل الصحيح . ومنها أن مثل هذا الوعظ يصير سبباً للمعصية لأن الناس يقولون لولا أن هذا الواعظ مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي ، فيكون داعياً لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي ، وهذا مناف للغرض من الوعظ فلا يليق بالعقلاء . ومنها أن غرض الواعظ ترويج كلامه وتنفيذ مرامه ، فلا خالف إلى ما نهى عنه صار كلامه بمعزل عن القبول وهذا خلاف المعقول . قال بعضهم : ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالاً بهذه الآية ، وبقوله تعالى { لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 2 ] وبأن الزاني بامرأة يقبح منه أن ينكر عليها ، وأجيب بأن المكلف مأمور بشيئين : ترك المعصية ، ومنع الغير عنها ، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر . والذم في الآية مترتب على الشق الثاني وهو نسيان النفس لا على مجموع الأمرين ، قالوا : وحديث القبح ممنوع . قلت : والحق أنه مكابرة ، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار . فقلت : يا أخي يا جبريل من هؤلاء؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم » وقال صلى الله عليه وسلم « إن في النار رجلاً يتأذى أهل النار بريحه » فقيل : من هو يا رسول الله؟ قال : « عالم لا ينتفع بعلمه » وقال صلى الله عليه وسلم « مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه » وعن الشعبي : يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون : لم دخلتم النار فإنا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم؟ فقالوا : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله . وقيل : من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه . وقيل : عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل . روي أن يزيد بن هارون مات - وكان واعظاً زاهداً مات - فرؤي في المنام فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي ، وأوّل ما سألني منكر ونكير فقالا : من ربك؟ فقلت : أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك .

وقيل للشبلي عند النزع : قل لا إله إلا الله . فقال :
إن بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاج إلى سرج
ولما أمرهم الله تعالى بالإيمان وترك الإضلال وبالتزام الشرائع وموافقة القول للفعل وكان ذلك شاقاً عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه ، عالج الله تعالى هذا المرض بقوله { واستعينوا بالصبر والصلاة } فكأنه قيل : واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر أي حبس النفس عن اللذات ، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها . ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك كمل الأمر ، لأن المشتغل بالصلاة مشتغل بذكر لطفه وقهره ، فإذا تذكر لطفه مال إلى الطاعة ، وإذا تذكر قهره انتهى عن المعصية . وقيل : الصبر الصوم لأنه حبس النفس عن المفطرات ومنه يقال : شهر الصبر لشهر رمضان . ومن حبس نفسه عن قضاء شهوتي البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا ، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله . وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات . ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء أي استعينوا على البلاء بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال في دفعه إلى فاطر الأرض والسماء . وهذا الخطاب وإن كان خاصاً ببني إسرائيل وإلا لزم تفكك النظم ، لكن المعنى على العموم فعلى كل مكلف أن يستعين على حوائجه إلى الله بالصلاة والصبر على تكاليفها مراعياً في ذلك ما يجب من الإخلاص وحسن الأدب واستحضار العلم بأنها انتصاب بين يدي الجبار العالم بالطويات والأسرار ومنه قوله { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } [ طه : 132 ] . ومن خواص الصلاة اندفاع البلايا وانكشاف الغموم والرزايا . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . وإنها أي الصلاة أو الاستعانة أو جميع المأمورات والمنهيات في هذه الآيات لكبيرة لشاقة ثقيلة { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] { إلا على الخاشعين الذين يظنون } يعلمون أنهم ملاقو جزاء ربهم وأنهم إلى حكمه راجعون ، فتصدر عنهم الأعمال مع طيب نفس وانشراح صدر ، وهذا بخلاف حال المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً . فالملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة لا يواتيه طبعه في الاشتغال بها وإن كان زماناً يسيراً فتثقل عليه ، والموحد حيث اعتقد في فعلها أعظم المنافع وهو الفوز بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم يهون عليه تزجية الأوقات بوظائف العبادات . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تورّمت قدماه ، ومع ذلك يقول :

« يا بلال روّحنا » « وجعلت قرة عيني في الصلاة » والخشوع والخضوع أخوان وهما التطامن والتواضع ، ومنه الخشعة للأكمة المتواضعة . وفي الحديث « كانت الأرض خاشعة على الماء ثم دحيت » وللظن ههنا تفسيران : أحدهما أنه بمعنى العلم تجوّزاً لأن الظن هو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض ، وتجويز نقيض لقاء الرب أي البعث والنشور كفر فكيف يمدح به؟ وسبب هذا التجوز أنهما يشتركان في رجحان الاعتقاد ، وإن افترقا بتجويز النقيض وعدمه فصح إطلاق أحدهما على الآخر ، ولا سيما إذا كان الظن عن أمارة قوية تقرّبه من العلم . وثانيهما أن الظن بمعناه الحقيقي والمراد بملاقاة الرب ، إما لقاء ثوابه وذلك مظنون لا معلوم ، وإما الموت الذي هو سبب اللقاء ووقته غير معلوم إلا أنه متوقع كل لحظة وقوعاً راجحاً عند المؤمن ، لأنه قطع أمله أو لأنه يحب لقاء ربه { إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت } [ الجمعة : 6 ] . ويحتمل أن يقال : معناه على هذا التفسير الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم ، فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله بذنوبه ، فعند ذلك يتسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح .
وبقي ههنا بحثان : الأول : استدل أهل السنة بالآية على جواز رؤية الله تعالى ، وأنكرها المعتزلة قالوا : اللقاء لا يفيد الرؤية لقوله تعالى { فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه } [ التوبة : 77 ] والمنافق لا يرى ربه ، ولقوله { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] ويشمل الكافر والمؤمن . وقال صلى الله عليه وسلم « من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان » وأجيب بأن اللقاء في اللغة وصول أحد الجسمين إلى الآخر اتصال التماس ، وهذا اللقاء سبب الإدراك . فحيث يمتنع حمله على أصله وجب حمله على الإدراك ، لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز . فإن منع من ذلك أيضاً مانع أضمر بحسب ذلك ، فإن الإضمار خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لمانع . ففي قوله { إلى يوم يلقونه } [ التوبة : 77 ] دعت الضرورة إلى إضمار الجزاء ونحوه ، وفي الآية لا ضرورة ، فحمله على الإدراك أولى .
البحث الثاني : المراد من الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه حيث لا مالك لهم سواه { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] كما كانوا كذلك في أول الخلق بخلاف أيام حياتهم في الدنيا ، فإنه قد يملك الحكم عليهم ظاهراً غير الله تعالى . قال المجسمة : الرجوع إلى غير الجسم محال فدل ذلك على كونه تعالى جسماً . وقال أهل التناسخ : الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده فدلت الآية على كون الأرواح قديمة ولا يخفى جوابهما والله أعلم .


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

القراآت : { ولا تقبل } بالتاء الفوقانية ، ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الوقوف : { العالمين } ( 5 ) { ينصرون } ( 5 )
التفسير : إنما أعاد سبحانه هذا الكلام مرة أخرى توكيداً للحجة وتحذيراً من ترك اتباع صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل . والمراد بالعالمين ههنا الجم الغفير من الناس كقوله { باركنا فيها للعالمين } [ الأنبياء : 71 ] . ويقال : رأيت عالماً من الناس . يراد الكثرة بقرينة العلم بأنه لم ير كل الناس ، ويمكن أن يكون المراد فضلتكم على عالمي زمانكم ، لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك لا يكون من جملة العالمين . ويحتمل أن يكون لفظ { العالمين } عاماً للموجودين ولمن سيوجد لكنه مطلق في الفضل ، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة . فالآية تدل على أنهم فضلوا على كل العالمين في أمر ما ، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور ، فلعل غيرهم يكون أفضل منهم في أكثرها . وقيل : الخطاب لمؤمني بني إسرائيل لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير ، وفي جميع ما يخاطب الله تعالى بني إسرائيل تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم . وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] . روي عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : قد مضى والله بنو إسرائيل وما يعني بما تسمعون غيركم . واتقاء اليوم هو اتقاء ما يحصل في ذلك اليوم من الشدائد والأهوال ، لأن نفس اليوم لا يتقى . وقوله { لا تجزي } إلى آخر الآية . الجمل منصوبات المحل صفات متعاقبة لليوم ، والراجع منها إلى الموصوف محذوف تقديره : لا تجزي فيه . ومنهم من يقول : اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار وهو « في » فبقي لا تجزيه ، ثم حذف الضمير كما حذف في قوله « أم مال أصابوا » قال :
فما أدري أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا
أي أصابوه . ولا يخفى أن هذا التكلف لا يتمشى في سائر الجمل ، بل يتعين تقدير الجار والمجرور العائد . ومعنى لا تجزي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق ، ومنه الحديث في الجذعة ا لتي ضحاها ابن نيار قبل الوقت « تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك » و { شيئاً } مفعول به ، ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلاً من الجزاء مثل « ولا تظلمون شيئاً » . ومعنى تنكير النفس أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئاً من الأشياء وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع . وكذلك قوله { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } أي فدية لأنها معمادلة للمفدى .

وفي الحديث « ولا يقبل منه صرف ولا عدل » أي توبة ، لأنها تصرف من الحال الذميمة إلى الحال الحميدة ولا فداء . والضمير في { ولا يقبل منها } يرجع إلى النفس الثانية العاصية غير المجزي عنها وهي التي لا يؤخذ منها عدل . ومعنى لا تقبل منها شفاعة أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها ، ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها ، كما لا تجزي عنها شيئاً ولو أعطت عدلاً منها لم يؤخذ منها ولا هم ينصرون ، الضمير عائد إلى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة ، والتذكير بمعنى العباد أو الأناسي مثل ثلاثة أنفس . وفي وصف اليوم بهذه الصفات تهويل عظيم تنبيه على أن الخطب شديد ، لأنه إذا وقع أحد في كريهة وحاولت أعزته دفاع ذلك عنه ، بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية ، فتحمل عنه ما يلزمه وتذب عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوّته ونهاية بطشه . فإن رأى من لا طاقة له بممانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة وبذل المال والمنال ، فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة ، فإن لم تغن هذه الأمور تعلل بما أمكنه من نصر الإخوان ومدد الأخدان ، فأخبر الله تعالى أن شيئاً من هذه لا يدفع يومئذ عن عذابه . وفي هذا تحذير من المعاصي وترغيب في تلافي ما فات بالتوبة ، لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية ، علم أنه لا ينفعه إلا الطاعة وتلافي البوادر . فالآية وإن كانت في بني إسرائيل إلا أنها تعم كل من يحضر ذلك اليوم . فإن قيل : قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الدية ، وفي موضع آخر من هذه السورة عكست القضية ، فما الحكمة في ذلك؟ قلنا : من الناس من ميله إلى حب المال أشدّ من ميله إلى علو النفس فيتمسك أوّلاً بالشفيع ثم يستروح إلى بذل المال ، ومنهم من على العكس فيقدم الفدية على الشفاعة ، فتغيير الترتيب إشارة إلى الصنفين والله أعلم .
واعلم أن الشفاعة هي أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة من الشفع ضد الوتر ، كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار بالشفيع شفعاً . ثم إن الأمة أجمعت على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم رتبة الشفاعة في الآخرة ، وعليه يحمل قوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً } [ الإسراء : 79 ] { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] . وأجمعوا على أنه لا شفاعة للكفار . بقي الخلاف فيمن عداهم . فأهل السنة أثبتوا الشفاعة لغير الكفار ، والمعتزلة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب بقي خالداً في النار ولا شفاعة له وسائر الناس لهم الشفاعة . قالوا : إن هذه الآية تدل على نفي الشفاعة مطلقاً ، والآيات والأحاديث الدالة على وجود الشفاعة كثيرة ، فعرفنا أن الآية ليست على عمومها ، لكن الآيات الواردة في وعيد صاحب الكبيرة كثيرة كقوله تعالى

{ ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها } [ الجن : 23 ] فخرج غير صاحب الكبيرة وبقيت الآية حجة في الكفار وفي صاحب الكبيرة . وزعم أهل السنة أن اليهود كانوا يدعون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا من ذلك . وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وسوف يجيء سائر حجج الفريقين في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى . وقالت الفلاسفة في تحقيق الشفاعة : إن واجب الوجود عام الفيض والنقصان من القابل ، وجائز أن لا يكون الشيء مستعداً لقبول الفيض من واجب الوجود إلا أن يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود ، فيكون ذلك الشيء متوسطاً بين الواجب . وذلك الشيء مثاله في المحسوس الشمس ، فإنها لا تضيء إلا القابل المقابل ، والسقف لما لم يكن مقابلاً لم يكن مستعداً لقبول النور منها ، لكنه لو وضع طست مملوء من الماء الصافي انعكس منه الضوء إلى السقف . فأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق كالماء بين الشمس وبين السقف ، وهذا يدل على أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين عباده أشرف من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث إنه لا شفاعة إلا له .


وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

القراآت : { سوء العذاب } و { سوء الحساب } بغير همز حيث وقعتا مفتوحتين : الأصبهاني عن ورش . { وعدنا } حيث كان أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد . { موسى } بالإمالة المفرطة كل القرآن : حمزة وعلي وخلف وعن أبي عمرو وجهان : إن جعلته « فعلى » فبالإمالة بين الفتح والكسر ، وإن جعلته على « مفعل » فبالفتح لا غير { ثم اتخذتم } وبابه بالإظهار : ابن كثير وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي . { والفرقان لعلكم } مدغماً : عباس ، وكذلك يدغم إذا كان قبل النون حرف من حروف المد واللين وهي الواو والمضموم ما قبلها مثل { وتكون لكما الكبرياء } والياء المكسور ما قبلها مثل { ميثاق النبيين لما } والألف المفتوح ما قبلها مثل { وما كان لمؤمن } وما أشبه ذلك .
الوقوف : { نساءكم } ( ط ) { عظيم } ( 5 ) { تنظرون } ( 5 ) { ظالمون } ( 5 ) { تشكرون } ( 5 ) { تهتدون } ( 5 )
التفسير : إنه سبحانه لما قدّم ذكر النعمة على بني إسرائيل إجمالاً أخذ في تفصيلها واحدة فواحدة ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة كأنه قال : اذكروا نعمتي ، واذكروا إذ نجيناكم ، وإذ فرقنا ، وإذ كان كذا وكذا . « وإذ » في جميع هذه القصص بمعنى مجرد الوقت مفعول به ل « اذكروا » وأصل الإنجاء والتنجية التخليص ، ومنه النجوة للمكان العالي لأن من صار إليه نجا أي تخلص من أن يعلوه سيل ، أو لأن الموضع تخلص مما انحط عنه . وأصل آل أهل بدليل أهيل وأهال في تحقيره وتكسيره على الأعرف ، فأبدلت إلى « أءل » على خلاف القياس ، ثم إلى « آل » وجوباً فالألف فيه بدل عن همزة بدل عن هاء . ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر . يقال « آل النبي » « وآل الملك » ولا يقال : آل الحائك . وإنما يقال أهله ، وهكذا لا يقال : آل البلد وآل العلم ، وإنما يقال أهلهما . وعند الكسائي ، أصله أول بدليل تصغيره على أويل ، كأنهم يؤلون إلى أصل قلبت الواو ألفاً على القياس . و { فرعون } علم لمن ملك العمالقة أولاد عمليق ابن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح كقيصر لملك الروم ، وكسرى لملك الفرس ، وخاقان للترك ، وتبع لليمن . واختلف في اسمه . فابن جريج : أن اسمه مصعب بن ريان . وابن إسحق : أنه الوليد بن مصعب . ولم يكن من الفراعنة أغلظ وأقسى قلباً منه . وعن وهب بن منبه : أن أهل الكتابين قالوا : إن اسمه قابوس وكان من القبط . وقيل : إن فرعون يوسف هو فرعون موسى . وضعف إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين دخول موسى أكثر من أربعمائة سنة . وقال محمد بن إسحق : هو غير فرعون يوسف وإن اسم فرعون يوسف ا لريان بن الوليد . والمراد بآل فرعون أتباعه وأعوانه الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل بأمره .

ولعتوّ الفراعنة اشتقوا « تفرعن » فلان إذا عتا وتجبر . و { يسومونكم } من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً . قال عمرو بن كلثوم :
إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الخسف فينا
وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه . والسوء مصدر السيء يقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفجور يراد قبحهما . ومعنى سوء العذاب والعذاب كله سيئ أشده وأفظعه ، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره ، أو المراد عذاب من غير استحقاق ، لأن العذاب بالاستحقاق حسن واختلف في سوء العذاب فابن إسحق : إنه جعلهم خدماً وخولاً وصنفهم في أعماله ، فمن بان وحارث وزارع ومن لم يكن ذا عمل وضع عليه جزية يؤديها . السدي : كان يجعلهم في الأعمال القذرة ككنس الكنيف ونحوه ، ولا ريب أن كون الإنسان تحت تصرف الغير كيف شاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة القذرة من غير أن يأخذه بهم رأفة وإشفاق ، من أشدّ العذاب ، حتى إن من هذه حاله ربما يتمنى الموت . سئل حكيم : أي شيء أصعب من الموت؟ فقال : ما يتمنى فيه الموت . فبين تعالى عظيم نعمته عليهم بأن نجاهم من ذلك ، ثم أتبع نعمة أخرى فقال { يذبحون أبناءكم } ومعناه هم يقتلون الذكور من أولادكم دون الإناث . والذي دعاهم إلى ذلك أمور منها : أن ذبح الأبناء يقتضي إفناء الرجال وانقطاع النسل بالآخرة . ومنها أن هلاك الرجال يقتضي فساد معيشة النساء حتى يتمنين الموت من النكد والضر . ومنها أن قتل الولد عقيب الحمل والكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب . ومنها أن الأبناء أحب وأرغب من البنات ولهذا قيل :
سروران مالهما ثالث ... حياة البنين وموت البنات
لقول النبي صلى الله عليه وسلم « دفن البنات من المكرمات » ومنها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات للأعداء ، وذلك نهاية الذل والهوان . قال بعضهم : المراد بالأبناء الرجال ليطابق النساء ، إذ النساء اسم للبالغات وهو جمع المرأة من غير لفظها . قالوا : وإنما كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره . والأكثرون على أن المراد بالأبناء الأطفال لظاهر اللفظ ، ولأنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم ، ولأنهم كانوا محتاجين إليهم في الأعمال الشاقة ، ولأنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى في اليم معنى . وإنما لم يقل البنات في مقابلة الأبناء لأنهن لما لم يقتلن كن بصدد أن يبلغن ، فحسن إطلاق اسم النساء عليهن مثل { إني أراني أعصر خمراً } [ يوسف : 36 ] عن ابن عباس : أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على أعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ، فلما رأوا أن كبارهم يموتون ، والصغار يذبحون ، خافوا فناءهم وأن لا يجدوا من يباشر الأعمال الشاقة ، فصاروا يقتلون عاماً دون عام .

وعن السدي : أن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى استولت على بيوت مصر وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا : يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده . وقيل : إن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة ، فلهذا كان يقتل أبناءهم من تلك السنة . قيل : والأقرب هو الأول ، لأن المستفاد من علم النجوم والتعبير لا يكون أمراً مفصلاً ، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزاً ، بل يكون أمراً جميلاً ، والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على هذا الأمر العظيم بسببه ( قلت ) كون فرعون عاقلاً ممنوع ، فإن من شك في أجلى البديهيات وهو أنه ممكن الوجود ، فعدّه من العقلاء لا يكون من العقل . ثم قال ذلك القائل : لعل فرعون كان عارفاً بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافراً كفر الجحود والعناد ، أو يقال إنه كان شاكاً متحيراً في دينه وكان يجوّز صدق إبراهيم عليه السلام ، وأقدم على ذلك الفعل احتياطاً . ( قلت ) : إذا أخبر الله تعالى عنه بأنه قال { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] و { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] فلا ضرورة بنا إلى تجويز كونه عارفاً بالله وبصدق الأنبياء وجعل كفره كفر جحود { ومن أصدق من الله قيلا } [ النساء : 122 ] { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] فإن قلت : لم ذكر { يذبحون } ههنا بلا « واو » ، وفي سورة إبراهيم بواو؟ فالوجه فيه أنه إذا جعل { يسومونكم سوء العذاب } مفسراً بقوله { يذبحون } فلا حاجة إلى الواو ، وإذا جعل { يسومونكم } مفسراً بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح ، وجعل الذبح شيئاً آخر احتيج إلى الواو . وإنما جاء ههنا { يذبحون } وفي الأعراف { يقتلون } بغير واو لأنهما من كلام الله فلم يرد تعداد المحن عليهم . والذي في إبراهيم من كلام موسى فعدّ المحن عليهم وكان مأموراً بذلك في قوله { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] وقال بعضهم : إن معنى يستحيون يفتشون حياء المرأة أي فرجها ، هل بها حمل أم لا؟ وفيه تعسف . والبلاء المحنة إن أشير بذلك إلى صنيع فرعون ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، والحمل على النعمة أولى لأنها هي التي يحسن إضافتها إلى الرب تعالى ، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم حيث عاينوا إهلاك من حاول إهلاكهم وإذلال من بالغ في إذلالهم . وههنا نكتة ، وهي أنهم كانوا في نهاية الذل ، وخصمهم في غاية الاستيلاء والغلبة ، إلا أنهم كانوا محقين وخصومهم مبطلين ، فانقلب المحق غالباً والمبطل مغلوباً ، فكأنه قيل : لا تغتروا بفقر محمد صلى الله عليه وسلم وقلة أنصاره في الحال ، فإنه سينقلب العز إلى جانبه صلى الله عليه وسلم ، والذل إلى جانب أعدائه .

وفيه تنبيه على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء ، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا وينسى أمر الآخرة . قال أهل الإشارة : النفس الأمارة وصفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة تسوم الروح الشريف ذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في الأعمال القذرة الحيوانية ولا ينجيه من ذلك إلا الله تعالى .
قوله { وإذ فرقنا } نعمة أخرى في نعمة أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه سالك لكم على عدد الأسباط وكانوا اثني عشر . ومعنى بكم أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما ، أو يراد فرقناه بسبب إنجائكم ، أو يكون حالاً أي ملتبساً بكم . روي أنه تعالى لما أراد غرق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله تعالى أنه لا يؤمن أحد منهم ، أمر موسى بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ، إما ليخرجوا خلفهم لأجل المال ، وإما لتبقى أموالهم في أيديهم . ثم نزل جبريل وقال : أخرج ليلاً كما قال تعالى { وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } [ الشعراء : 52 ] وكانوا ستمائة ألف ، وكل سبط خمسون ألفاً . فلما خرجوا وبلغ الخبر فرعون قال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك . قال الراوي : فوالله ما صاح الليلة ديك . فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال : لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط . قال قتادة : فاجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف ، كل واحدٍ منهم على فرس حصان فتبعوهم نهاراً وهو قوله { فاتبعوهم مشرقين } [ الشعراء : 60 ] أي بعد طلوع الشمس . فلما سار بهم موسى إلى البحر قال له يوشع : أين أمرك ربك؟ فقال له موسى : إلى أمامك . وأشار إلى البحر - فأقحم يوشع فرسه في البحر وكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر ، فسبح الفرس وهو عليه ، ثم رجع وقال له يا موسى : أين أمرك ربك؟ فقال : البحر . فقال : والله ما كذبت وما كذب . ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر ، فانشق البحر اثني عشر طريقاً . فقال له : ادخل ، وكان فيه وحل فهب الصبا نحو البحر حتى صار طريقاً يبساً ، فاتخذ كل سبط منهم طريقاً ودخلوا فيه ، فقالوا لنبيهم : أين أصحابنا لا نراهم؟ فقال موسى : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم . قالوا : لا نرضى حتى نراهم . فقال : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة . فأوحى إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على حيطان المياه فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم . ثم اتبعهم فرعون فلما بلغ شاطئ البحر رأى إبليس واقفاً فنهاه عن الدخول فهمّ بأن لا يدخل البحر ، فجاء جبريل على مهرة فتقدم وهو كان على فحل ، فتبعه فرس فرعون ودخل البحر ، فصاح ميكائيل بهم ألحقوا آخركم بأوّلكم ، فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله تعالى الماء حتى نزل عليهم فذلك قوله تعالى { وأغرقنا آل فرعون } قيل : ذلك اليوم كان يوم عاشوراء ، فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكراً لله تعالى ، ومعنى قوله { وأنتم تنظرون } أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه .

وقيل : إن قوم موسى سألوا أن يريهم الله تعالى حالهم ، فسأل موسى ربه فلفظهم البحر ألف ألف ومائة ألف نفس فنظروا إليهم طافين . وقيل : المراد وأنتم بالقرب منهم . قال الفراء : وهو مثل قولك « لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك » تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم . قال أهل الإشارة : البحر هو الدنيا ، وماؤه شهواتها ولذاتها ، وموسى القلب ، وقومه صفات القلب ، وفرعون النفس الأمارة ، وقومه صفات النفس ، والعصا عصا الذكر ، فينفلق بحر الدنيا بتفليق لا إله إلا الله ، وينشبك ماء شهواته يميناً وشمالاً ، ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابساً من ماء الشهوات ، فيخوض موسى القلب وصفاته فيعبرونه وتنجيهم عناية الله إلى ساحل { وإن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] ويغرق فرعون النفس وقومه والله تعالى أعلم . ولما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله موسى .
ونسبه : موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليه السلام . أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وإنما قيل أربعين ليلة لأن الشهور غررها بالليالي . وقال أهل التحقيق : لأن الليلة وقت العبادة والخلوة فخصت بالذكر لشرفها . ولعدد الأربعين خاصية لن ينكرها أهل الذوق ، ولهذا جاء في الحديث « من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه » والجنين يتقلب في الأطوار في الأربعينات ، قال أبو العالية : وبلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور . ولا بد من تقدير مضاف أي انقضاء أربعين كقولك « اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان » أي تمام الأربعين . ومن قرأ { واعدنا } من المواعدة فمعناه أن الله تعالى وعده الوحي ووعد هو المجيء للميقات إلى الطور . وذكر الأربعين ههنا مجمل وتفصيله في الأعراف كقوله : { ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] فصل أولاً ثم أجمل . ومعنى « ثم » في قوله { ثم اتخذتم } استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له ، لأنه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين تنبيهاً للحاضرين وتعريفاً للغائبين وإظهاراً لدرجة موسى وسائر بني إسرائيل ، وأتوا عقيب ذلك بأشنع أنواع الجهل والكفر ، كان ذلك في محل التبعيد والتعجيب كما تقول : إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء .

والاتخاذ افتعال من الأخذ إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء ، ثم لما كثر استعماله على لفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه « فعل » « يفعل » وقالوا : يخذ يتخذ ، وقد أجرى اتخذ مجرى الأفعال القلبية في الدخول على المبتدأ والخبر نحو « جعل » و « صير » والتقدير : اتخذتم العجل إلهاً إلا أنه حذف الثاني للعلم به ولذكره في مواضع أخر منها في طه { فقالوا هذا الهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] وقوله من بعده من بعد مضيه إلى الطور . قال أهل السير : لما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي التي استعاروها من القبط ، قال لهم هارون : إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها ، فجمعوا ناراً وأحرقوها . وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل حين تقدّم في البحر ، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة . ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب وصوّر منه عجلاً وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت كأنه الخوار { فقالوا هذا الهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] فاتخذه إلهاً لأنفسهم ، ولهذا وصفهم الله تعالى بالظلم في قوله { وأنتم ظالمون } كما قال { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وذلك أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، والمشرك وضع أخس الأشياء مكان أشرف الموجودات . والواو في { وأنتم } إما للحال وإما للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الظلم ، وقال أهل التحقيق : إن لكل قوم عجلاً يعبدونه . قال صلى الله عليه وسلم « تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة » وقال « ما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى » وفيه تقريع لليهود الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه كأنه قال : هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد ، فكيف بهؤلاء الأخلاف؟ وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى من الخلاف والمشاقة { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وتحذير للعقلاء من الجهل والتقليد إلى هذه الغاية . ما أفظع شأن الجهلة المقلدة ، رضوا بأن يكون العجل إلهاً ، وما رضوا بأن يكون البشر نبياً وقد تمعل بعضهم لتصحيح واقعة عبدة العجل حيث استبعد وقوعها منهم مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة التي تكاد تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق النبي صلى الله عليه وسلم .

إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى صلى الله عليه وسلم إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية فقال للقوم : أنا أتخذ لكم طلسماً مثل طلسمه ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب ، وأطمعهم في صيرورتهم مثل موسى في إتيان الخوارق ، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في الأجسام فوقعوا في تلك الشبهة الركيكة ، وههنا يظهر التفاوت بين أ مة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم بعد مشاهدة الآيات العظام القريبة من الأفهام عبدوا الأصنام بل الأنعام ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن معجزتهم القرآن الذي لا يعرف إعجازه إلا بالنظر الدقيق والبحث العميق لم يخالفوا نبيهم طرفة عين { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [ النور : 37 ] لا يزيغون عن سواء السبيل ولا يميلون إلى معتقدات أهل الأباطيل { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } [ الفتح : 29 ] .
قوله : { ثم عفونا عنكم } أي حين تبتم بأن قتلتم أنفسكم { من بعد ذلك } الأمر العظيم الذي ارتكبتموه من اتخاذ العجل { لعلكم تشكرون } نعمة العفو . ومعنى الترجي في كلام الله تعالى قد مر في قوله { لعلكم تتقون } الكتاب والفرقان يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل يعني التوراة نحو : رأيت الغيث والليث ، يريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة . أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان العصا واليد وغيرهما من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : الفرقان انفراق البحر ، ولا يلزم التكرار لأنه لم يبين هناك أن ذلك لأجل موسى وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص . وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى { يوم الفرقان } [ الأنفال : 41 ] يعني يوم بدر . وقيل : آتينا موسى التوراة ومحمداً الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وفيه تعسف .


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

القراآت : { بارئكم } بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو من طريق أبي الزعراء ، وعبد الرحمن بن عبدوس . وقرأ أبو عمرو بالاختلاس { أنه هو } مدغماً : أبو عمرو غير عباس ، وكذلك كل ما كان بينهما ياء أو واو ملفوظة مثل { ومن دونه هو } { وأنه هو } وأشباه ذلك . { حتى } حيث كان بالإمالة : نصير والعجلي { نرى الله } مكسورة الراء : روى ابن رومي عن عباس وأبو شعيب عن اليزيدي ، وكذلك كل راء بعدها ياء استقبلها ألف ولام مثل { ولو يرى الذين } { والنصارى المسيح } { جهرة } مفتوحة الهاء : قتيبة { السلوى } بالإمالة الشديدة : حمزة وعلي وخلف . وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على مثال « فعلى » .
الوقوف : { فاقتلوا أنفسكم } ( ط ) { عند بارئكم } ( ط ) لأن التقدير ففعلتم { فتاب عليكم } ( ط ) { الرحيم } ( 5 ) { تنظرون } ( 5 ) { تشكرون } ( 5 ) { السلوى } ( ط ) { ما رزقناكم ( ط ) { يظلمون } 5
التفسير : إنه سبحان نبههم على عظم ذنبهم ثم على ما به يتخلصون منه ، وذلك من أعظم النعم في الدين وأيضاً لما أمرهم بالقتل ورفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية ، كان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي أعقابهم إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل ، ظهر أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لهم نعمة ورحمة لأنه لا يأمرهم بشيء من ذلك متى رجعوا عن كفرهم . وفيه ترغيب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة ، فإن أمة موسى لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب أحدنا في مجرد الندم كان أولى . هذا وقد مر أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه إلا أنه لا بد فيه من تعدي ضرر ، فبين ههنا أن الضرر إنما يعود على أنفسهم فبذلك استحقوا العذاب الأبدي . والفرق بين الفاءات الثلاثة في الآية ، أن الأولى للتسبيب لا غير لأن الظلم سبب التوبة . والثانية للتعقيب إما لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم على أن التوبة مفسرة بقتل النفس في شرعهم لا بالندم ، وإما لأن القتل تمام توبة المرتد في شرعهم ، والمعنى فتوبوا فاتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم كما أن القاتل عمداً لا تتم توبته في شرعنا إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلونه . ومعنى { إلى بارئكم } النهي عن الرياء في التوبة كأنه قيل : لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس . وقوله { ذلكم } أي القتل { خير لكم عند بارئكم } جملة معترضة تفيد التنبيه على أن ضرر الدنيا أهون من عذاب الآخرة إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي .

والموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقديم والتأخير . والثالثة هي الفاء الفصيحة أي المفصحة عن محذوف تقديره : فامتثلتم فتاب عليكم . وعلى هذا يكون الكلام خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، ويمكن أن يقال : المحذوف شرط منتظم في جملة قول موسى كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإنما اختص هذا الموضع بذكر البارئ لأن معناه كما مر في الأسماء الذين خلق الخلق على الوجوه الموافقة للمصالح والأغراض ، ففيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العليم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة برآء من التنافر مناسبة للحكم والمقاصد إلى عبادة العجل الذي هو مثل في البلادة والغباوة ، فلا جرم كان جزاؤهم تفكيك ما ركب من خلقهم وتبديل . من أشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها باتخاذ من لا يقدر على شيء منها . والمراد بقتل الأنفس إما ما يقتضيه ظاهر اللفظ وهو أن يقتل كل واحد نفسه ، والقتل اسم للفعل المؤدي إلى زهوق الروح في الحال أو في المآل . وإما قتل بعضهم بعضاً وعليه المفسرون لقوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ] { فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وذلك أن المؤمنين كنفس واحدة . ثم اختلفوا فقيل : إنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم . وقيل : لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة ، وأتاهم هارون بالاثني عشر ألفاً الذين ما عبدوا العجل وبأيديهم السيوف فقال : إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين للسيوف فاجلسوا بأفنية بيوتكم واتقوا الله واصبروا ، فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل ويقولون آمين . روي أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه فلم يمكنه المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء . وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان : هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية يا الهنا . فكشفت الضبابة والسحابة ، وأوحى الله تعالى إليه : قد غفرت لمن قتل ، وتبت على من لم يقتل . قالوا : وكانت القتلى سبعين ألفاً . وقيل : كانوا قسمين : منهم من عبد العجل ، ومنهم من لم يعبد . ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة . والقائلون بأن العجل عجل الهوى قالوا : معنى قتل الأنفس هو قمع الهوى لأن الهوى حياة النفس .
قوله : { وإذا قلتم يا موسى } ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الواقعة كانت قبل أن كلف الله عبدة العجل بالقتل . قال محمد بن إسحق : لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وأحرق العجل ونسفه في اليم ، اختار سبعين رجلاً من خيارهم .

فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : سل ربك حتى نسمع كلامه . فسأل موسى ذلك فأجابه الله إليه ، فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ، ودنا موسى عليه السلام من ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم : ادخلوا وعوا . وكان موسى متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل النظر إليه . وسمع القوم كلام الله مع موسى يقول له : افعل ولا تفعل . ومن جملة الكلام « إني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة ، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري » . فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك { لن نؤمن لك } أي لن نصدقك ولن نقر بنبوتك { حتى نرى الله جهرة } عياناً ، وهي مصدر قولك جهر بالقراءة والدعاء ، كأن الذي يرى بالعين يجاهر بالرؤية ، والذي يرى بالقلب يخافت بها . وانتصابها على نحو انتصاب « قعد القرفصاء » لأن هذه نوع من الرؤية كما أن تلك نوع من القعود ، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال بمعنى ذوي جهرة . ومن قرأ { جهرة } بفتح الهاء فإما لأنه مصدر كالغلبة ، وإما لأنه جمع جاهر . وإنما أكدوا بهذا لئلا يتوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ما يراه النائم { فأخذتكم الصاعقة } وهي ما صعقهم أي أماتهم . فقيل : نار وقعت من السماء فأحرقتهم ، وقيل : صيحة جاءت من السماء ، وقيل : أرسل الله جنوداً سمعوا بحسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة . وصعقة موسى في قوله { وخر موسى صعقاً } [ الأعراف : 143 ] لم تكن موتاً ولكن غشية بدليل { فلما أفاق } [ الأعراف : 143 ] والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله { وأنتم تنظرون } فرفع موسى يديه إلى السماء يدعو ويقول : إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي أحد ، فما الذي يقولون فيّ؟ فلم يزل يدعو حتى رد الله إليهم أرواحهم وذلك قولهم { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } نعمة البعث بعد الموت ، أو نعمة الله بعدما كفرتموها فطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . وقيل : إن هذه الواقعة كانت بعد القتل . قال السدي : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم ، أمر الله أن يأتيه موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل ، فاختار موسى سبعين رجلاً . فلما أتوا الطور قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا ، فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بينهم هؤلاء ، فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي أحد منهم فماذا أقول لهم؟ فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلهاً .

فقال موسى : إن هي إلا فتنتك . فأحياهم الله تعالى فقاموا ونظر كل واحد إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى . فقالوا : يا موسى إنك لا تسأل الله شيئاً ، إلا أعطاك ، فادعه يجعلنا أنبياء . فدعا بذلك فأجاب الله دعوته . هذا ما قاله المفسرون ، وليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر ، ولا على أن الذين سألوا الرؤية عبدة العجل أم لا ، والصحيح أن موسى لم يكن من جملة الصعقين في هذه الواقعة لأنه خطاب مشافهة ، ولأنه لو تناوله لوجب تخصيصه بقوله في حق موسى { فلما أفاق } [ الأعراف : 143 ] مع أن لفظة « الإفاقة » لا تستعمل في الموت .
ثم في الآية فوائد منها : التحذير لمن كان في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك . ومنها تشبيه جحودهم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بجحود أسلافهم نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات ليتنبهوا أنه إنما لا يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها ، ولو جحدوها لاستحقوا العقاب كما استحقه أسلافهم . ومنها التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده كي يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل .
ومنها إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب ، حيث إنهم عرفوا خبره ، وذلك أنه تعالى بيَّن أن أسلافهم بعد مشاهدة تلك الآيات كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ، فكيف يتعجب من مخالفتهم محمداً صلى الله عليه وسلم وإن وجدوا في كتبهم أخبار نبوته صلى الله عليه وسلم . و منها لما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه القصة مع كونه أمياً ، تبين أن ذلك من الوحي .
بقي ههنا بحث وهو أن المعتزلة استدلوا بالآية على امتناع رؤية الله تعالى لأنها لو كانت أمراً جائز الوقوع لم تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم حين التمسوا النقل من قوت إلى قوت في قولهم { لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 61 ] . وأجيب بأن امتناع رؤيته في الدنيا لا يستلزم امتناع رؤيته في الآخرة الذي هو محل النزاع ، فعل رؤيته تقتضي زوال التكليف عن العبد والدنيا مقام التكليف ، وأيضاً اقتراح دليل زائد على صدق المدعي بعد ثبوته تعنت . وأيضاً لا يمتنع أن الله تعالى علم أن فيه مفسدة كما علم في إنزال الكتاب من السماء { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة }

[ النساء : 153 ] فلهذا جاز الاستنكار لأن مطالبة الرؤية جهرة مطالعة الذات غفلة ، وفيه من سوء الأدب وترك الحرمة ما لا يستحسنه قضية العزة والحشمة .
قوله تعالى { وظللنا } أي جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه كما سيجيء في المائدة ، سخر الله لهم السحاب فيسير بسيرهم يظلهم من الشمس والظل ضوء ثان ، وينزل عليه ثوب كالظفر يطول بطوله كما كان لآدم قبل الزلة ، وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لكل إنسان صاع لا أزيد ، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني ، فيذبح الرجل منها ما يكفيه لا أزيد . مجاهد : المن صمغ حلو . وهب : هو الخبز السميذ . الزجاج : هو ما منّ الله تعالى به عليهم ، وهذا كما يروى مرفوعاً « الكمأة من المن وفيها شفاء للعين » وقيل : السلوى العسل . وقيل : طائر أحمر { كلوا } على إرادة القول أي وقلنا لهم كلوا { من طيبات } من حلالات { ما رزقناكم } وهذا للإباحة . { وما ظلمونا } يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم فجعلوا موضع الشكر كفراً ، وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } لأن وبال الظلم عائد عليهم لا إلى غيرهم ولا إلى الله تعالى . وإنما قال ههنا وفي الأعراف والتوبة والروم بزيادة لفظة « كانوا » لأنها إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا بخلاف قوله في آل عمران { ولكن أنفسهم يظلمون } [ آل عمران : 117 ] لأنه مثل ، والله أعلم .


وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

القراآت : { يغفر لكم } بضم الياء التحتانية وفتح الفاء : أبو جعفر ونافع وجبلة . { تغفر لكم } بضم التاء الفوقانية وفتح الفاء : ابن عامر وأبو زيد عن المفضل . الباقون { نغفر } بالنون وكسر الفاء { يغفر لكم } مدغماً كل القرآن : أبو عمرو . { خطاياكم } وبابه بالإمالة : علي { قولاً غير } بالإخفاء : يزيد وأبو نشيط عن قالون ، وكذلك يخفيان النون والتنوين عند الخاء والغين سواء وسط الكلمة أو أولها .
الوقوف : { خطاياكم } ( ط ) { المحسنين } ( 5 ) { يفسقون } ( 5 ) .
التفسير : القرية مجتمع الناس من قرأت الماء في الحوض أي جمعت . وبهذا الاعتبار كثيراً ما تطلق القرية على البلدة ، والجمع القرى على غير قياس . وإنما قياسه من المعتل اللام « فعال » نحو : ركوة وركاء ، وظبية وظباء ، والنسبة إليها قروي . وهو على القياس عند يونس حيث قال : ظبوي في النسبة إلى ظبية ، وعلى خلاف القياس عند الخليل وسيبويه حيث يقولان : ظبي على مثال الصحيح . والقرية بيت المقدس ، وقيل : أريحاء من قرى الشام . أمروا بدخولها بعد التيه . والباب باب القرية ، وقيل : باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى ، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب تواضعاً وشكراً لله تعالى . وقيل : السجود أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين ليكون دخولهم بإخبات وخشوع . وقيل : طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوا ودخلوا متزحفين على أوراكهم من الزحف وهو المشي على الأوراك . و { حطة } فعلة من الحط كالجلسة خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة ، أو أمرك وأصله النصب معناه : اللهم حط عنا ذنوبنا حطة ، فرفعت لإفادة الثبوت كقوله :
شكا إليّ جملي طول السرى ... يا جملي ليس إليّ المشتكى
صبر جميل فكلانا مبتلى ... الأصل صبراً أي أصبر صبراً . كان القوم أمروا أن يدخلوا الباب على وجه الخضوع ، وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان ، وذلك أن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ، لا لأن التوبة لا تتم إلا به إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام ، بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ولإزالة التهمة عن نفسه ، وكذا من عرف بمذهب خطأ ثم تبين له الحق ، فإنه يلزمه أن يعرّف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه لتزول التهمة عنه في الثبات على الباطل ، وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته ويحسنوا الظن به . وعن أبي مسلم الأصفهاني : أن معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها . وأصل الغفر الستر والتغطية . ومعنى القراآت في { نغفر لكم } واحد ، لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت ، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله .

والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث . والخطء الذنب قال تعالى { إن قتلهم كان خطأ كبيراً } [ الإسراء : 31 ] تقول منه خطئ يخطأ خطأً وخطأة على فعلة . والاسم الخطيئة على « فعيلة » وجمعها خطايا وأصله خطايء بياء ثم همز ، أبدلت الهمزة ألفاً فانفتحت الياء لأجلها .
{ وسنزيد المحسنين } المفعول الثاني محذوف للعلم به ولمكان الفاصلة أي سنزيدهم إحساناً أو ثواباً أو سعة ، وذلك أن المراد من المحسنين إما من هو محسن بالطاعة في هذا التكليف ، وإما من هو محسن بطاعات أخرى في سائر التكاليف . وعلى الأول فالزيادة الموجودة إما منفعة دنيوية ، فالمعنى أن المحسن بهذه الطاعة نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية ، وإما منفعة دينية أي المحسن بهذا نزيده على غفران الذنوب ثواباً جزيلاً . وعلى الثاني فالمعنى أنّا نجعل دخولكم الباب سجداً وقولكم { حطة } مؤثراً في غفران الذنوب ، ثم إن أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى زدناكم ثواباً . ويحتمل أن يكون المراد أنهم صنفان : فمن مخطئ تصير الكلمة سبباً لغفرانه ، ومن محسن تصير سبباً لزيادة ثوابه قوله تعالى { فبدل الذين ظلموا } قال أبو البقاء : التقدير فبدلوا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم . يتعدى إلى مفعولين : واحد بنفسه والآخر بالباء . والذي مع الباء يكون هو المتروك ، والذي بغير باء هو الموجود . ويجوز أن يكون « بدل » بمعنى « قال » ، لأن تبديل القول يكون بقول . والمعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله . وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ معين وهو لفظ حطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به لم يأخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف عنا ونحو ذلك . وقيل : قالوا مكان حطة حنطة . وقيل : قالوا بالنبطية والنبط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين حطاً سمقاثاً أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم ، وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة » وفي تكرير { الذين ظلموا } ووضع المظهر موضع المضمر ، زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم ، وهو أن وضعوا غير ما أمروا به مكان ما أمروا به . والرجز العذاب . عن ابن عباس : مات بالفجأة منهم أربعة وعشرون ألفاً في ساعة واحدة .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...