Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

 ج29وج30.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج29وج30.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)

القراآت : { والذين قتلوا } مبنياً للمفعول ثلاثياً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص . الباقون { قاتلوا } { ويثبت } من الإثبات : المفضل . الباقون : بالتشديد { أسن } بغير الألف كحذر : إبن كثير { أنفا } بدون الألف كما قلنا : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل .
الوقوف : { أعمالهم } ه { بالهم } ه { من ربهم } ط { أمثالهم } ه { الرقاب } ط { الوثاق } لا للفاء ولتعلق { بعد } بما قبلها أي بعد ما شددتم الوثاق { أوزارها } ج { ذلك } ط أي ذلك كذلك ، وقد يحسن اتصاله بما قبله لانقطاعه عن خبره أو عن المبتدأ أو الفعل أي الأمر ذلك ، أو فعلوا ذلك { ببعض } ط { أعمالهم } ه { بالهم } 5 ج للآية مع العطف واتحاد الكلام { لهم } 5 { أقدامهم } 5 { أعمالهم } 5 ج { من قبلهم } ط لتناهي الاستخبار { عليهم } ج للابتداء بالتهديد مع الواو { أمثالها } ه { لهم } ه { الأنهار } ط { لهم } ه { أخرجتك } ج لاحتمال أن ما بعده صفة { قرية } أو ابتداء إخبار { لهم } ه { أهواءهم } ه { المتقون } ط للحذف أي صفة الجنة فيما نقص عليكم ثم شرع في قصتها . { آسن } ج { طعمه } ج { للشاربين } ه ج لتفصيل أنواع النعم مع العطف { مصفى } ج { من ربهم } ط لحذف المبتدأ والتقدير أفمن هذا حاله كمن هو خالد { أمعاءهم } ه { إليك } ج لاحتمال أن يكون حتى للانتهاء وللابتداء { آنفاً } ط { أهواءهم } ه { تقواهم } ه { بغتة } ه لتناهي الاستفهام مع مجيء الفاء بعده في الإخبار { أشراطها } ج لعكس ما مر { ذكراهم } ه .
التفسير : قال أهل النظم : إن أول هذه السورة مناسب لآخر السورة كأنه قيل : كيف يهلك الفاسق إن كان له أعمال صالحة؟ فأجاب { الذين كفروا وصدوا } منعوا الناس عن الإيمان صداً أو امتنعوا عنه صدوداً { أضل } الله { أعمالهم } أي أبطل ثوابها وكانوا يصلون الأرحام ويطعمون الطعام ويعمرون المسجد الحرام . وعن ابن عباس أنها نزلت في المطعمين يوم بدر . وقيل : هم أهل الكتاب . والأظهر العموم . قال جار الله : حقيقة إضلال الأعمال جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يثيب عليها كالضالة من الإبل لا رب لها يحفظها ، أو أراد أنه يجعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم مغلوبة بها كما يضل الماء في اللبن . وقيل : أراد إبطال ما عملوه من الكيد للإسلام وذويه بأن نصر المسلمين عليهم وأظهر دينه على الدين كله . وحين بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين قائلاً { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } بالهجرة والنصرة وغير ذلك { وآمنوا بما نزل على محمد } يعني القرآن وهو تخصيص بعد تعميم ، ولم يقتصر على هذا التخصيص الموجب للتفضيل ولكنه أكده بجملة اعتراضية هي قوله { وهو الحق من ربهم } ولأن الحق الثابت ففيه دليل على أن دين محمد صلى الله عليه وسلم لا يرد عليه النسخ أبداَ .

وتكفير السيئات من الكريم سترها بما هي خير منها فهو في معنى قوم { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [ الفرقان : 7 ] والبال الحال والشأن لا يثنى ولا يجمع . وقيل : هو بمعنى القلب أي يصلح أمر دينهم . والحاصل أن قوله { وآمنوا بما نزل على محمد } بإزاء قوله { وصدّوا عن سبيل الله } فأولئك امتنعوا عن اتباع سبيل محمد صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء حثوا أنفسهم على إتباعه فلا جرم حصل لهؤلاء ضدّ ما حصل لأولئك فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء ، وقد أشير إلى هذا الحاصل بقوله { ذلك } الإضلال والتكفير بسبب اتباع أولئك الباطل الشيطان وحزبه وأولئك الحق محمداً والقرآن { كذلك } أي مثل ذلك الضرب { يضرب الله للناس } كلهم أمثال أنفسهم أو أمثال المذكورين من الفريقين على معنى إنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم . وضرب المثل في الآية هو أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين ، ولا ريب أن إخباره عن الفريقين بغير تصريح مثل لحالهما وهذا حقيقة ضرب المثل . وقيل : إن الإضلال مثل لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثل لفوز المؤمنين . وقيل : إن قوله { كذلك } لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب ، ولكنه لما بين حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته ، وبين السبب فيهما كان ذلك نهاية الإيضاح فقال { كذلك } أي مثل ذلك البيان يضرب الله للناس أمثالهم ويبين أحوالهم . قال أصحاب النظم : لما بيّن أن عمل الكفار ضلال والإنسان حرمته باعتبار عمله نتج من ذلك قوله { فإذا لقيتم الذين كفروا } أي في دار الحرب أو في القتال { فضرب الرقاب } وأصله فأضربوا الرقاب ضرباً إلا أنه اختصر للتوكيد لأنه بذكر المصدر المنصوب دل على الفعل وكان كالحكم البرهاني . وليس ضرب الرقبة مقصوداً بالذات ولكنه وقع التعبير عن القتل به لأنه أغلب أنواع القتل ، ولما في ذكره من التخويف والتغليظ . وفيه ردّ على من زعم أن القتل بل إيلام الحيوان قبيح مطلقاً لأنه تخريب البنيان ، فبين الشرع أن أهل الكفر والطغيان يجب قتلهم لأن فيه صلاح نوع الإنسان كما أن الطبيب الحاذق يأمر بقطع العضو الفاسد إبقاء على سائر البدن { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الشيء الثخين ، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى لا يمكنهم النهوض وقد مر في آخر « الأنفال » . { فشدّوا الوثاق } وهو بالفتح والكسر اسم ما يوثق به والمراد فأسروهم وشدّوهم بالحبال والسيور . فإما تمنون مناً وإما تفدون فداء ، وهذا مما يلزم فيه حذف فعل المفعول المطلق لأنه وقع المفعول تفصيلاَ لأثر مضمون جملة متقدمة . وقال الشافعي : للإمام أن يختار أحد أربعة أمور هي : القتل والاسترقاق والمنّ وهو الإطلاق من غير عوض والفداء بأسارى المسلمين أو بمال .

لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عروة الجهني وعلى ابن أثال الحنفي ، وفادى رجلاً برجلين من المشركين . وذهب بعض أصحاب الرأي أن الآية منسوخة . وأن المنّ والفداء إنما كان يوم بدر فقط وناسخها { اقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] وليس للإمام إلا القتل أو الاسترقاق . وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق . وقوله { حتى تضع } يتعلق بالضرب والشدّ أو بالمنّ والفداء . والمراد عند الشافعي أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وأوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي لا تقوم الحرب إلا بها . قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكوراً
فإذا أنقضت الحرب فكأنها وضعت أسبابها . وقيل : أوزارها آثامها والمضاف محذوف أي حتى يترك أهل الحرب . وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا . وعلى هذا جاز أن يكون الحرب جمع حارب كالصحب جمع صاحب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف . وفسر بعضهم وضع الحرب أوزارها بنزول عيسى عليه السلام . عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى عليه السلام إماماً هادياً وحكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير وتضع الحرب أوزارها حتى تدخل كلمة الإخلاص كل بيت من وبر ومدر » وعند أبي حنيفة : إذا علق بالضرب والشدّ فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك إذا لم تبق شوكة للمشركين . وإذا علق بالمنّ والفداء فالحرب معهودة وهي حرب بدر . ثم بين أنه منزه في الانتقام من الكفار عن الاستعانة بأحد فقال { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم } بغير قتال أو بتسليط الملائكة أو أضعف خلقه عليهم { ولكن } أمركم بقتالهم { ليبلو بعضكم ببعض } فيمتحن المؤمنين بالكافرين هل يجاهدون في سبيله حق الجهاد أم لا ، ويبتلي الكافرين بالمؤمنين هل يذعنون للحق أم لا إلزاماً للحجة وقطعاً للمعاذير . ومعنى الابتلاء من الله سبحانه قد مر مراراً أنه مجاز أي يعاملهم معاملة المختبر ، أو ليظهر الأمر لغيره من الملائكة أو الثقلين .
ثم وعد الشهداء والمجاهدين بقوله { والذين قتلوا } أو قاتلوا على القراءتين { فلن يضل أعمالهم } خلاف الكفرة { سيهديهم } إلى الثواب ويثبتهم على الهداية { ويصلح بالهم } أمر معاشهم في المعاد أو في الدنيا ، وكرر لأن الأوّل سبب النعيم ، والثاني نفس النعيم { ويدخلهم الجنة عرّفها لهم } جعل كل واحد بحيث يعرف ماله في الجنة كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا . وعن مقاتل : يعرفها لهم الحفظة وعسى أنه عرفها بوصفها في القرآن . وقيل : طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة . ثم حث على نصرة دين الله بقوله { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله } أي دينه أو رسوله { ينصركم } على عدوّكم ويفتح لكم { ويثبت أقدامكم } في مواقف الحرب أو على جادّة الشريعة { والذين كفروا } حالهم بالضد .

يقال : تعساً له في الدعاء عليه بالعثار والتردّي . عن ابن عباس : هو في الدنيا القتل ، وفي الآخرة الهويّ في جهنم . وهو من المصادر التي يجب حذف فعلها سماعاً والتقدير : أتعسهم الله فتعسوا تعساً ولهذا عطف عليه قوله { وأضل أعمالهم } ثم بين سبب بقائهم على الكفر والضلال بقوله { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله } من القرآن والتكاليف لألفهم بالإهمال وإطلاق العنان { فأحبط أعمالهم } التي لا استناد لها إلى القرآن أو السنة . ثم هدّدهم بحال الأقدمين وهو ظاهر . ودمر عليه ويقال دمره فالثاني الإهلاك مطلقاً ، والأوّل إهلاك ما يختص به من نفسه وماله وولده وغيره { وللكافرين أمثالها } الضمير للعاقبة أو العقوبة . والأوّل مذكور ، والثاني مفهوم بدلالة التدمير فإن كان المراد الدعاء عليهم فاللام للعهد وهم كفار قريش ومن ينخرط في سلكهم ، وإن كان المراد الإخبار جاز أن يراد هؤلاء . والقتل والأسر نوع من التدمير وجاز أن يراد الكفار الأقدمون { ذلك } النصر والتعس { بأن الله مولى الذين آمنوا } أي وليهم وناصرهم { وأن الكافرين لا مولى لهم } بمعنى النصرة والعناية ، وأما بمعنى الربوبية والمالكية فهو مولى الكل لقوله { وردّوا إلى الله مولاهم الحق } [ يونس : 30 ] ثم برهن على الحكم المذكور وهو أن ولايته مختصة بالمؤمنين فقال { إن الله يدخل } الآية . فشبه الكافرين بالأنعام من جهة أن الكافر غرضه من الحياة التنعم والأكل وسائر الملاذ لا التقوى والتوسل بالغذاء إلى الطاعة وعمل الآخرة ، ومن جهة أنه لا يستدل بالنعم على خالقها ، ومن جهة غفلتهم عن مآل حالهم وأن النار مثوى لهم . ثم زاد في تهديد قريش بقوله { وكأين من قرية } أي أهل قرية هم { أشدّ قوّة من } أهل { قريتك التي أخرجتك } تسببوا لخروجك . وقوله { فلا ناصر لهم } حكاية تلك الحال كقوله { وكلبهم باسط } [ الكهف : 18 ] ثم بين الفرق بين أهل الحق وحزب الشيطان بقوله على طريق الإنكار { أفمن كان على بينة } معجزة ظاهرة وحجة باهرة { من ربه } يريد محمداً وأمته قوله { وأتبعوا } محمول على معنى « من » وهو تأكيد للتزيين كما أن كون البينة من الرب تأكيد لها . وحين أثبت الفرق بين الفريقين أراد أن يبين الفرق بين جزائهما فقال { مثل الجنة } أي صفتها العجيبة الشأن . وفي إعرابه وجهان : أحدهما ما مر في الوقوف ، والثاني قول الزمخشري في الكشاف أنه على حذف حرف الاستفهام ، والتقدير : أمثل الجنة وأصحابها كمثل جزاء من هو خالد في النار ، أو كمثل من هو خالد؟ وفائدة التعرية عن حروف الاستفهام زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين الفريقين . وقوله { فيها أنهار } كالبدل من الصلة أو حال . والآسن المتغير اللون أو الريح أو الطعم ومصدره الأسون والنعت آسن مقصوراً ، واللذة صفة أو مصدر وصف به كما مر في « الصافات » ، والباقي ظاهر .

قال بعض علماء التأويل : لا شك أن الماء أعم نفعاً للخلائق من اللبن والخمر والعسل فهو بمنزلة العلوم الشرعية لعموم نفعها للمكلفين كلهم ، وأما اللبن فهو ضروري للناس كلهم ولكن في أوّل التربية والنماء فهو بمنزلة العلوم الغريزية الفطرية ، وأما الخمر والعسل فليسا من ضرورات التعيش فهما بمنزلة العلوم الحقيقية السببية إلا أن الخمر يمكن أن تخص بالعلوم الذوقية . والعسل بسائرها وقد يدور في الخلد أن هذه الأنهار الأربعة يمكن أن تحمل على المراتب الإنسانية الأربع . فالعقل الهيولاني بمنزلة الماء لشموله وقبوله الآثار ، والعقل بالملكة بمنزلة اللبن لكونه ضرورياً في أوّل النشوء والتربية ، والعقل بالفعل بمنزلة الخمر فإن حصوله ليس بضروري لجميع الإنسان إلا أنه إذا حصل وكان الشخص ذاهلاً عنه غير ملتفت إليه كان كالخمر الموجب للغفلة وعدم الحضور ، والعقل المستفاد بمنزلة العسل من جهة لذته ومن جهة شفائه لمرض الجهل ومن قبل ثباته في المذاق للزوجته ودسومته والتصاقه والله تعالى أعلم بمراده . وقوله { ومغفرة من ربهم } إن قدر ولهم مغفرة من الله قبل ذلك فلا إشكال ، وإن قدر لهم فيها مغفرة أمكن أن يقال : إنهم مغفورون قبل دخول الجنة فما معنى الغفران بعد ذلك؟ والجواب أن المراد رفع التكليف يأكلون من غير حساب ولا تبعة وآفة بخلاف الدنيا فإن حلالها حساب وحرامها عذاب . ثم ذكر نوعاً آخر من قبيح خصال الكافرين وقيل أراد المنافقين فقال { ومنهم من يستمع إليك } كانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم والجمعات ويسمعون كلامه ولا يعونه كما يعيه المسلم { حتى إذا خرجوا } انصرفوا وخرج المسلمون { من عندك } يا محمد قال المنافقون للعلماء وهم بعض الصحابة كابن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء : أيّ شيء قال محمد { آنفاً } أي في ساعتنا هذه . وأنف كل شيء ما تقدمه ومنه فولهم « استأنفت الأمر » ابتدأته . ولا يستعمل منه فعل ثلاثي بهذا المعنى . وإنما توجه الذم عليهم لأن سؤالهم سؤال استهزاء وإعلام أنهم لم يلتفتوا إلى قوله ، ولو كان سؤال بحث عما لم يفهموه لم يكن كذلك ، على أن عدم الفهم دليل قلة الاكتراث بقوله . ثم مدح أهل الحق بقوله { والذين اهتدوا } بالإيمان { زادهم } الله { هدى } بالتوفيق والتثبيت وشرح الصدر ونور اليقين { وآتاهم تقواهم } أعانهم عليها أو أعطاهم جزاء تقواهم . وعن السدي : بين لهم ما يتقون . وقيل : الضمير في { زادهم } للاستهزاء أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم . ثم خوف أهل الكفر والنفاق باقتراب القيامة . وقوله { أن تأتيهم } بدل اشتمال من { الساعة } وأشراط الساعة إماراتها من انشقاق القمر وغيره . ومنه مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه نبي آخر الزمان ولهذا قال « بعثت أنا والساعة كهاتين » وأشار بالسبابة والوسطى { فأنى لهم } من أين لهم { إذا جاءتهم } الساعة { ذكراهم } أي لا ينفعهم تذكرهم وإيمانهم حينئذ فالذكرى مبتدأ و { أنى لهم } الخبر . وقيل : فاعل { جاءتهم } ضمير يعود إلى « الذكرى » . وجوّز أن يرتفع « الذكرى » بالفعل والمبتدأ مقدر أي من أين لهم التذكر إذا جاءتهم الذكرى؟ والقول هو الأول ولله المرجع والمآب وإليه المصير .
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

القراآت : { وتقطعوا } بالتخفيف من القطع : سهل ويعقوب . والآخرون : بالتشديد من التقطيع { وأملى لهم } مبنياً للمفعول ماضياً : أبو عمرو ويعقوب { وأملى } مضارعاً مبنياً للفاعل : سهل ورويس . الباقون : ماضياً مبنياً للفاعل { إسرارهم } بكسر الهمز على المصدر : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { وليبلونكم حتى يعلم } { ويبلوا } بالياءات : أبو بكر وحماد . الآخرون : بالنون في الكل . وقرأ يعقوب { ونبلو } بالنون مرفوعاً { السلم } بكسر السين : حمزة وخلف وأبو بكر وحماد .
الوقوف : { والمؤمنات } ط { ومثواكم } ه { نزلت سورة } ج للشرط مع الفاء { القتال } لا { الموت } ط للابتداء بالدعاء عليهم { لهم } ه ج لاحتمال أن يكون الأولى بمعنى الأقرب كما يجيء { معروف } قف { الأمر } ز لاحتمال أن التقدير فإذا عزم الأمر كذبوا وخالفوا { خيراً لهم } ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء { أرحامكم } ه { أبصارهم } ه { أقفالها } ه { الهدى } لا لأن الجملة بعده خبر « إن » { سوّل لهم } ط لأن فاعل { وأملى } ضمير اسم الله ويجوز الوصل على جعله حالاً وقد أملى ، أو على أن فاعله ضمير الشيطان من حيث أنه يمنيهم ويعدهم ، والوقف أجوز واعزم . والحال على قراءة { وأملى } بفتح الياء أجوز والوقف به جائز ، ومن سكن الياء فالوقف به أليق لأن المستقبل لا ينعطف على الماضي . ومع ذلك لو جعل حالاً على تقدير وأنا أملي جاز { لهم } ه { الأمر } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً والوقف أجوز لأن الله يعلم الأسرار في الأحوال كلها { إسرارهم } ه { وأدبارهم } ه { أعمالهم } ه { أضغانهم } ه { بسيماهم } ط للابتداء بما هو جواب القسم { القول } ط { أعمالكم } ه { والصابرين } ط لمن قرأ { ونبلو } بسكون الواو أي ونحن نبلو { أخباركم } ه { الهدى } لا لأن ما بعده خبر « إن » { شيئاً } ط { أعمالهم } ه { أعمالكم } ه { لهم } ه { إلى السلم } قف قد قيل : على أن قوله { وأنتم } مبتدأ ، وجعله حالاً أولى { الأعلون } قف كذلك { أعمالكم } ه قف { ولهو } ط { أموالكم } ه { أضغانكم } ه { سبيل الله } ج لانقطاع النظم مع الفاء { من يبخل } ج لابتداء الشرط مع العطف { عن نفسه } ط { الفقراء } ه للشرط مع العطف { غيركم } لا للعطف { أمثالكم } ه .
التفسير : لما ذكر حال الفريقين المؤمن والكافر من السعادة والشقاوة قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ومن هضم النفس باستغفار ذنبك أو ذنبو أمتك . أو المراد فاعلم خبراً يقيناً على ما علمته نظراً واستدلالاً . أو أراد فاذكر لا إله إلا الله . والهاء في { أنه } لله أو للأمر والشأن ، أو الأول إشارة إلى أصول الحكمة النظرية ، والثاني إلى أصول الحكمة العملية ، أمره بالحكمة العملية بعد الحكمة النظرية .

عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فتلا هذه الآية . وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم . والفاءات في هذه الآية وما تقدّمها لعطف جملة على جملة بينهما اتصال . وفي الآية نكتة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له أحوال ثلاث : حال مع الله وهي توحيده ، وحال مع نفسه وهي طلب العصمة من الذنوب وأن يستر الله عليه جنس الآثام حتى لا يقع فيها ، وحال مع غيره وهي طلب ستر الذنوب عليهم بعد وقوعهم فيها أو أعم ويندرج فيها الشفاعة . ثم قال { والله يعلم متقلبكم ومثواكم } فقيل : التقلب في الأسفار والمثوى في الحضر . وقيل : أراد منتشركم في النهار ومستقركم بالليل . وقيل : الأوّل في الدنيا والثاني في الآخرة . وقيل : لكل متقلب مثوى فيتقلب من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الجنة أو النار . والمقصود بيان كمال علمه بحال الخلائق فعليهم أن لا يهملوا دقائق الطاعة والخشية ويواظبوا على طلب المغفرة خوفاً من التقصير في العبودية . ثم ذكر طرفاً آخر من نصائح أهل النفاق ومن ينخرط في سلكهم من ضعفة الإسلام ، وذلك أنهم كانوا يدّعون الحرص على الجهاد ويقولون بألسنتهم { لولا نزلت } سورة في باب القتال { فإذا أنزلت سورة محكمة } مبينة غير متشابهة لا تحتمل النسخ { وذكر فيها القتال } عن قتادة : كل سورة ذكر فيها القتال فهي محكمة وهي أشدّها على المنافقين . قال أهل البرهان : نزل بالتشديد أبلغ من أنزل فخص بهم ليكون أدل على حرصهم فيكون أبلغ في أبلغ في باب التوبيخ . قوله { فأولى لهم } كلمة تحذير أي وليك شر فاحذره . هذه عبارة كثير من المفسرين . وقال المبرد : يقال للإنسان إذا كاد يعطب ثم يفلت : أولى لك . أي قاربت العطب ثم نجوت . وهو في الفرقان على معنى التحذير . وقال جار الله : هو وعيد معناه فويل لهم والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه . وقيل : أراد طاعة وقول معروف أولى من الجزع عند الجهاد فلا يكون للوعيد ، وعلى هذا فلا وقف على { لهم } كما أشير إليه في الوقف . واعترض عليه بأن الأفصح أن يستعمل وقتئذ بالباء لا مع اللام كما قال { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] والأصح أنه فعل متعدٍ من الولي وهو القرب أي أولاه الله المكروه فاقتصر لكثرة الاستعمال . ويحتمل أن يكون « فعلى » من آل يؤل أي يؤل أمرك إلى شر فاحذره . ثم حثهم على الامتثال بقوله { طاعة وقول معروف } أي طاعة الله وقول حسن أو ما عرف صحته خير من الجزع عند فرض الجهاد فهو مبتدأ محذوف الخبر ، أو أمرنا طاعة فيكون خبر مبتدأ محذوف كما مر في سورة النور في قوله { طاعة معروفة } [ الآية : 53 ] ويجوز أن يكون أمراً للمنافقين أي قولوا طاعة وقول معروف .

{ فإذا عزم الأمر } أي جدّ وصار معزوماً عليه وهو إسناد مجازي لأن العزم لأصحاب أمر القتال . ثم التفت وخاطب كفار قريش بقوله { فهل عسيتم } هو من أفعال المقاربة وقد مر وجوه استعمالاته في « البقرة » في قوله { عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } [ الآية : 216 ] فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ ومعناه هل يتوقع منكم { إن توليتم } وأعرضتم عن الدين أو توليتم أمور الناس { أن تفسدوا في الأرض } بالمعاصي والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام { وتقطعوا أرحامكم } بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر ما كنتم عليه في الجاهلية من أنواع الإفساد ، وفي سلوك طريقة الاستخبار المسمى في غير القرآن بتجاهل العارف ، إمالة لهم إلى طريق الإنصاف وحث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال ، فقد كانوا يقولون كيف يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال والقتال إفناء لذوي أرحامنا وأقاربنا ، فعرض الله سبحانه بأنهم إن ولوا أمور الناس أو أعرضوا عن هذا الدين لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أبواب المفاسد كعادة أهل الجاهلية . ثم صرح بما فعل الله بهم واستقر عليه حالهم فقال { أولئك الذين لعنهم الله } بعدهم عن رحمته . ثم بين نتيجة اللعن قائلاً { فأصمهم } أي عن قبول الحق بعد استماعه وهذا في الدنيا { وأعمى أبصارهم } أي في الآخرة أو عن رؤية الحق والنظر إلى المصنوعات . قال بعض العلماء : إنما لم يقل فأصم آذانهم لأن الأذن عبارة عن الشحمة المعلقة ، والسمع لا يتفاوت بوجود وعدمها ، ولذلك يسمع مقطوع الأذن . وأما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه ، فالتأكيد هناك إنام يحصل بترك ذكر الأذن وههنا بذكر الأبصار والله أعلم . قال جار الله : يجوز أن يريد بالذين آمنوا المؤمنين الخلص الثابتين وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي . فإذا أبطأ عليهم التمسوه ، فإذا نزلت سورة في معنى الجهاد رأيت المنافقين يضجرون منها .
سؤال : لما أثبت لهم الصمم والعمى فكيف وبخهم بقوله { أفلا يتدبرون القرآن } ؟ وأجيب على مذهب أهل السنة بأن تكليف ما لا يطاق جائز . ويمكن أن يقال : لما أخبر عنهم بما أخبر حكى أنهم بين أمرين : إما أن لا يتدبروا القرآن لأن الله أبعدهم عن الخير ، وإما أن يدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة . قال جار الله : إنام نكرت القلوب لأنه أريد البعض وهو قلوب المنافقين أو أريد على قلوب قاسية مبهم أمرها . وإنما أضيفت الأقفال إلى ضمير القلوب لأنه أريد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر والعناد التي استغلقت فلا تنفخ . ثم أخبر عن حال المنافقين أو اليهود الذين غيروا حالهم من بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام أو نعت محمد في التوراة فقال { إن الذين ارتدوا } الآية . { ذلك } الإملاء أو الإضلال أو الارتداد بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا أي قال اليهود للمنافقين ، أو قال المنافقون ليهود قريضة والنضير ، أو قاله اليهود أو المنافقون للمشركين { سنطيعكم في بعض الأمر } الذي يهمكم كالتظافر على عداوة محمد والقعود عن الجهاد معه أو في بعض ما تأمرون به ، وهو ما يتعلق بتكذيب محمد لا في إظهار الشرك واتخاذ الأصنام وإنكار المعاد { والله يعلم أسرارهم } فلذلك أفشى الذي قالوه سراً فيما بينهم وسيجازيهم على حسب ذلك يدل عليه قوله { فكيف } يعملون وما حيلتهم حين توفتهم ملائكة الموت { يضربون وجوههم وأدبارهم } التي كانوا يتقون أن يصيبها آفة في القتال ، أو يضربون وجوههم عند الموت وأدبارهم عند السوق إلى النار .

وقيل : يضربون وجوههم عند الطلب وأدبارهم حين الهرب { ذلك } الإذلال والإهانة { بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } كأنهم ضربوا وجوههم لأنهم أقبلوا على مواجب السخط ، وضربوا أدبارهم لأنهم أعرضوا عما فيه رضا الله . وقد يخص السخط بكتمان نعت الرسول ومعاونة أهل الشرك والرضا بالإيمان به والنصرة للمؤمنين . وإنما قال { ما أسخط الله } ولم يقل « ما أرضى الله » لأن رحمته سبقت غضبه ، فالرضا كالأمر الحاصل والإسخاط كالأمر المترتب على شيء . ثم زاد في تعيير المنافقين بقوله { أم حسب } وهي منقطعة . والضغن إضمار سوء يتربص به إمكان الفرصة . وإخراج الإضغان إبرازها للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كما قال { ولو نشاء لأريناكهم } أي لو شئنا أريناك أماراتهم { فلعرفتهم } كررت لام جواب « لو » في المعطوف لأجل المبالغة { بسيماهم } بعلامتهم . عن أنس أنه ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصحبوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب « هذا منافق » . ومعنى لحن القول نحوه وأسلوبه وفحواه أي يقولون ما معناه النفاق كقولهم { لئن رجعنا إلى المدينة } [ المنافقون : 8 ] { إن بيوتنا عورة } [ الأحزاب : 13 ] أو لتعرفنهم في فحوى كلام الله حيث قال ما يعلم منه حال المنافقين كقوله { ومن الناس من يقول } [ البقرة : 8 ] { ومنهم من عاهد الله } [ التوبة : 75 ] وحقيقة اللحن ذهاب الكلام إلى خلاف جهته . وقيل : اللحن أن تميل كلامك إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال :
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يعرفه ذوو الألباب
ويقال للمخطىء لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب . وقال الكلبي : لحن القول كذبه . ولم يتكلم بعد نزولها منافق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عرفه . وعن ابن عباس هو قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب { والله يعلم أعمالكم } فيميز خيرها من شرها وإخلاصها من نفاقها { ولنبلونكم } أي لنأمرنكم بما لا يكون متعيناً للوقوع بل يحتمل الوقوع واللاوقوع كما يفعل المختبر حتى يظهر المجاهد والصابر من المنافق والمضطرب .

{ ونبلو أخباركم } التي تحكي عنكم كقولكم { آمنا بالله وباليوم الآخر } [ البقرة : 8 ] أو عهودكم كقوله { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار } [ الأحزاب : 15 ] أو أسراركم أو ما ستفعلونه أو أخباركم الأراجيف كقوله { والمرجفون في المدينة } [ الأحزاب : 60 ] عن الفضل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا . ثم أنزل في اليهود من قريظة والنضير أو في رؤساء قريش المطعمين يوم بدر { إن الذين كفروا } الآية . وأعمالهم طاعاتهم في زمن اليهودية ، ومكايدهم التي نصبوها في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إطعامهم . ثم أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله بالتوحيد والتصديق مع الإخلاص وأن لا يبطلوا إحسانهم بالمعاصي والرياء وبالمن والأذى . عن أبي العالية قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون إنه لا يضر مع « لا إله إلا الله » ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت الآية ، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم . وعن قتادة : رضي الله عن عبد لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء . ثم أراد أن يبين أن أعمال المكلف إذا بطلت فإن فضل الله باقٍ يغفر له إن شاء ما لم يمت على الكفر فقال { إن الذين كفروا } الآية . قال مقاتل : نزلت في رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن والده وقال : إنه كان محسناً في كفره . وعن الكلبي : نزلت في رؤساء أهل بدر . { فلا تهنوا } لا تضعفوا ولا تجبنوا { وتدعوا إلى السلم } أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح . ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار « أن » بعد الواو في جواب النهي { وأنتم الأعلون } الغالبون المستولون عليهم { والله معكم } بالنصرة والكلاءة { ولن يتركم أعمالكم } أي لن ينقصكم جزاء أعمالكم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو قريب أو سلبت ماله وأصله من الوتر وهو الفرد ، كأنك أفردته من قريبه أو ماله . وفي الحديث « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » وهو من فصيح الكلام . ثم زادهم حثاً على الجهاد بتحقير الدنيا في أعينهم وبأنه سبحانه إنما يحثهم على الإيمان والجهاد وسائر أبواب التقوى لتعود فائدتها عليهم كما قال « خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم » قوله { ولا يسألكم أموالكم } أي كل أموالكم ولكنه يقتصر منها على ربع العشر ، أو لا يسألكم أموالكم لنفسه ولكن لتكون زاداً لكم في المعاد . وقيل : لا يسألكم أموالكم رسولي لنفسه . وقيل : إنهم لا يملكون شيئاً وإن المال مال الله وهو المنعم بإعطائه . والقول هو الأوّل لقوله { إن يسألكموها فيحفكم } أي يجهد كم يبلغ الغاية فيها من أحفى شاربه استأصله كأنه جعله حافياً مما في ملكه أي عارياً { تبخلوا ويخرج } الإحفاء أو الله تعالى على طريق التسبب { أضغانكم } أي تضطغنون على الرسل وتظهرون كراهة هذا الدين .

ثم بين أنه كيف يأمركم بإخراج كل المال وقد دعاكم إلى إنفاق البعض { فمنكم من يبخل } و « ها » للتنبيه وكرر مع أولاء للتوكيد وأنتم أولاء جملة مستقلة أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون . ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا وما وصفنا فقيل { تدعون لتنفقوا في سبيل الله } وهو الزكاة أو الغزو ، فمنكم ناس يبخلون به . وقيل : { هؤلاء } موصول صلته { تدعون } وهو مذهب الكوفيين وقد سلف في « البقرة » و « آل عمران » . ثم قبح أمر البخل بقوله { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } أي وباله على نفسه أو عن داعي ربه . قال في الكشاف : يقال بخلت عليه وعنه . وفيه نظر لأن البخل عن النفس لا يصح بهذا التفسير . نعم لو قال عن ماله كان تفسيره مطابقاً . ثم مدح نفسه بالغنى المطلق وبين بقوله { وأنتم الفقراء } أنه لا يأمر بالإنفاق لحاجته ولكن لفقركم إلى الثواب . ثم هددهم بقوله { وإن تتولوا } وهو معطوف على { وإن تؤمنوا } ومعنى { يستبدل قوماً غيركم } يخلق قوماً سواكم راغبين فيما ترغبون عنه من الإيمان والتقوى كقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [ فاطر : 61 ] ومعنى « ثم » التراخي في الرتبة أي لا يكونون أشباهكم في حال توليكم . وقيل : في جميع الأحوال . وعن الكلبي : شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل قوماً وهم العرب أهل اليمن أو العجم . قاله الحسن وعكرمة لما روي أو رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس والله تعالى أعلم .
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

القراآت : { ليؤمنوا } { ويعزروه ويوقروه ويسبحوه } بياءات الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو . و { عليه الله } بضم الهاء : حفص { فسنؤتيه } بالنون : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر . الآخرون : بالياء التحتانية والضمير لله سبحانه { شغلتنا } بالتشديد : قتيبة { ضراً } بالضم { كلم الله } على الجمع : حمزة وعلي وخلف { بل ظننتم } بالإدغام : علي وهشام { بل تحسدوننا } مدغماً : حمزة وعلي وهشام . { ندخله } { ونعذبه } بالنون فيهما : أبو جعفر ونافع وإبن عامر { بما يعملون بصيراً } بياء الغيبة : أبو عمرو { الرؤيا } بالإمالة : ابن عامر وعلي وهشام { شطأه } بفتح الطاء من غير مد : ابن ذكوان والبزي والقواس . الباقون : ساكنة الطاء .
الوقوف : { مبيناً } ه لا { مستقيماً } ه لا على احتمال الجواز ههنا لتكرار إسم الله بالتصريح { عزيزاً } ه { إيمانهم } ط { والأرض } ط { حكيماً } ه لا لتعلق اللام { سيئاتهم } ط { عظيماً } ه لا للعطف { ظن السوء } ط { دائرة السوء } ج لعطف الجملتين المختلفين { جهنم } ط { مصيراً } ه { والأرض } ط { حكيماً } ه { ونذيراً } ه لا { وتوقروه } ط للفصل بين ضمير اسم الله وضمير الرسول في المعطوفين فيمن لم يجعل الضمائر كلها لله { وأصيلاً } ه { يبايعون الله } ط { أيديهم } ج ط للشرط مع الفاء { على نفسه } ج للعطف مع الشرط { عظيماً } ه { فاستغفر لنا } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { قلوبهم } ط { نفعاً } ط { خبيراً } ه { بوراً } ه { سعيراً } ه { الأرض } ط { من يشاء } ط { رحيماً } ه { نتبعكم } ج لأن ما بعده حال عامله { سيقول } أو مستأنف { كلام الله } ط { من قبل } ج للسين مع الفاء { تحسدوننا } ط { قليلاً } ه { يسلمون } ه { حسناً } ج { أليماً } ه { المريض حرج } ط لأن الواو للاستئناف { الأنهار } ج { اليماً } ه { قريباً } ه لا { يأخذونها } ط { حكيماً } ه { عنكم } ج لأن الواو مقحمة أو المعلل محذوف والواو داخلة في الكلام المعترض ، أو عاطفة على تقدير ليستيقنوا ولتكون { مستقيماً } ه لا للعطف { بها } ج { قديراً } ه { نصيراً } ه { تبديلاً } ه { عليهم } ط { بصيراً } ه { محله } ط { بغير علم } ج لحق المحذوف أي قدر ذلك ليدخل { من يشاء } ج لاحتمال أن جواب « لولا » محذوف وأن يكون هذه مع جوابها جواباً للأولى { أليماً } ه { وأهلها } ط { عليماً } ه { بالحق } ج لحق حذف القسم { آمنين } لا { مقصرين } لا لأنها أحوال متابعة { لا تخافون } ط لأن قوله { فعلم } بيان حكم الصدق كالأعذار فلا ينعطف على قوله { صدق الله } { قريباً } ه { كله } ط { شهيداً } ه { رسول الله } ج لأن ما بعده مستأنف { ورضواناً } ز لأن { سيماهم } مبتدأ غير أن الجمة من حد الأولى في كون الكل خبر والذين { السجود } ط { الإنجيل } ج لاحتمال أن التقدير هم كزرع { الكفار } ط { عظيماً } ه .

التفسير : الفتح في باب الجهاد هو الظفر بالبلد بصلح أو حرب لأنه منغلق ما لم يظفر به . والجمهور على أن المراد به ما جرى يوم الحديبية . عن أنس قال : لما رجعنا عن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة ، أنزل الله { إنا فتحنا } فقال صلى الله عليه وسلم : « لقد أنزل عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا كلها » والحديبية بئر سمي المكان بها وكان قد غاض ماؤها فتمضمض فيها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بالماء حتى عمهم . وعن ابن شهاب : لم يكن في الإسلام فتح أعظم من فتح الحديبية وضعت الحرب وأمن الناس . وقال الشعبي : أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غيرها ، بويع فيها بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد به فصح صدقه وأطعم نخل خيبر . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة أحب أن يزور بيت الله الحرام بمكة فخرج قاصداً نحوه في سنة ست من الهجرة ، وخرج معه أولو البصيرة وتخلف من كان في قلبه مرض ظناً منه أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً . واستصحب سبعين بدنة لينحرها بمكة ، ولما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم بالعمرة لتعلم قريش أنه لم يأت لقتال وكانوا ألفاً وثلثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة فبايعوه إلا جد بن قيس فإنه اختبأ تحت إبطي ناقته ، فجاءه عروة بن مسعود لإيقاع صلح . فلما رأية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله على أني أرى وجوهاً وأسراباً خليقاً أن يفروا ويدعوك؟ فشتمه أبو بكر فلما عاد إلى قريش قال : لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك وما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً . والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر إليه تفخيماً ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه . فلما اتفقوا على الصلح جاء سهيل بن عمرو والمخزومي وتصالحوا على أن لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة سنته بل يعود في القابل ويقيم ثلاثة أيام ثم ينصرف ، فلما كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه « بسم الله الرحمن الرحيم » . قال سهيل : ما نعرف « الرحمن الرحيم » اكتب في قضيتنا ما نعرف « باسمك اللهم » .

ولما كتب « هذا ما صالح محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم » . قال : لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك ، اكتب محمد بن عبد الله . فتنازع المسلمون وقريش في ذلك وكادوا يتواثبون ، فمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالإجابة فكتب « هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة مجتازاً إلى مصر والشام أو يبتغي من فضل الله فهو على دمه وأهله آمن ، وعلى أنه من جاء محمداً من قريش فهو إليهم ردّ ، ومن جاءهم من أصحاب محمد فهو لهم » فاشتدّ ذلك على المسلمين فقال النبي صلى الله عيله وسلم : من جاءهم منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فإن علم الله منه الإسلام جعل له مخرجاً . فلما فرغوا من الهدنة نحر النبي صلى الله عليه وسلم وحلق وفعل أصحابه ذلك فنزل عليه في طريقه في هذا الشأن { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } يريد ما كان من أمر الحديبية والفتح قد يكون بالصلح . وقيل : كان ذلك بلفظ الماضي على عادة إخبار الله . وقال ابن عيسى : الفتح الفرج المزيل للهم ومنه فتح المسألة إذا انفرجت عن بيان يؤدّي إلى الثقة . وقيل وهو قول قتادة : الفتح القضاء والحكم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة أي حكما لك بهذه المهادنة وأرشدناك إلى الإسلام ليغفر لك الله . قال أهل النظم : لأوّل هذه السورة مناسبة تامة مع آخر السورة المتقدّمة وذلك أنه قال { ما أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا } [ محمد : 38 ] إلى آخره فبين بعد ذلك أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاعت عنهم هذه الفوائد . وأيضاً لما قال { وأنتم الأعلون } [ محمد : 35 ] بين برهانه بصلح الحديبية أو بفتح مكة وكان في قوله { وتدعوا إلى السلم } [ محمد : 35 ] إشارة إلى ما جرى يوم الحديبية من أن المسلمين صبروا إلى أن طلب المشركون الصلح .
سؤال : ما المناسبة بين الفتح والمغفرة حتى جعلت غاية له؟ الجواب الغاية هي مجموع المغفرة وما ينعطف عليها كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة وغيره من الفتوح ليجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل . ويجوز أن تكون الفتوح من حيث إنها جهاد للعدّو سبباً للغفران والثواب . قال جار الله : وقيل : تقدير الكلام إنا فتحنا لك فاستغفره ليغفر لك كقوله { إذا جاء نصر الله والفتح } إلى قوله { واستغفروه } [ النصر : 1-3 ] وقيل : إن فتح مكة كان سبباً لتطهير البيت من رجس الأوثان ، وتطهير بيته سبب لتطهير عبده . وأيضاً بالفتح يحصل الحج وبالحج تحصل المغفرة كما ورد في الأخبار « خرج كيوم ولدته أمه »

وأيضاً إن الناس قد علموا عام الفيل أن مكة لا يتسلط عليها عدواً لله ، فلما فتحت للرسول صلى الله عليه وسلم عرف أنه حبيب الله المغفور له . أما الذنب فقيل : أراد به ذنب المؤمنين من أمته ، أو أريد به ترك الأفضل والصغائر سهواً أو عمداً . ومعنى { ما تأخر } أي عن الفتح أو ما تقدم عن النبوّة وتأخر عنها . وقيل { ما تقدم } ذنب أبويه آدم وحواء { وما تأخر } ذنب أمته . وقيل : أراد جميع الذنوب فحدّ أوّلها وآخرها ، أو هو على وجه المبالغة كما تقول : أعطى من رأى ومن لم يره . وقيل : ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب وهو قول سخيف لعدم التئام الكلام ظاهراً . والأولى أن يقال : ما تقدم النبوّة بالعفو وما تأخر عنها بالعصمة { ويتم نعمته عليك } بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك لقوله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] ومن إتمام النعمة تكليف الحج وقد تم يومئذ ولم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم عدوّ من قريش ، فإن كثيراً منهم وقد أهلكوا يوم بدر ، والباقين آمنوا واستأمنوا يوم الفتح . وقيل : إمام النعمة في الدنيا باستجابة الدعاء في طلب الفتح وفي الآخرة بقبول الشفاعة { ويهديك صراطاً مستقيماً } أي يثبتك ويهديك عليه فإن الفتح لا يكون إلا لمن هو على صراط الله ، ولعل المراد بهذا الخطاب هو أمته . والنصر العزيز ذو العزة وهو الذي لا ذل بعده ، أو هو بمعنى المعز أو الممتنع على الغير وهو النفيس الذي لا يناله كل أحد . وفي الآية تفخيم شأن الفتح والنصر من وجوه : أحدها لفظ ( إنا ) الدال على التعظيم . وثانيها لفظ ( لك ) الدال على الاختصاص . ثالثها إعادة اسم الله في الموضعين أوّلاً وآخراً . ثم بين سبب النصر بقوله { هو الذي أنزل السكينة } وهي السكون والوقار والطمأنينة والثقة بوعد الله كما مر في « البقرة » وفي « التوبة » { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } أي يقيناً مع يقينهم أو إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالله . وعن ابن عباس أو أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة ثم الزكاة ثم الجاد ثم الحج ، أو ازدادوا إيماناًَ استدلالياً مع إيمانهم الفطري . وعلى هذا ففائدة قوله { مع إيمانهم } أن الفطرة تشهد بالإيمان ، فلما عرفوا صحة الإيمان بالنظر والاستدلال انضم هذا الثاني إلى الأول . وجنود السموات والأرض ملائكتهما ، ويمكن أن يراد بمن في الأرض الثقلان والحيوان غير الإنسان . ويحتمل أن يراد بالجنود معنى أعم وهو الأسباب الأرضية والسماوية فيدخل فيهما الصيحة والرجفة . وظن السوء هو ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم ، أو أن الله تعالى لا ينصرهم على أعدائهم ، أو أن الله شريكاً ، أو أنه لا يقدر على إحياء الموتى .

ومعنى دائرة السوء أن ضرر ظنهم يعود إليهم ويدور عليهم وقد مر في سورة التوبة . قال بعض العلماء : ضم المؤمنات ههنا إلى المؤمنين بخلاف قوله { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] { وبشر المؤمنين } [ الأحزاب : 47 ] ونحو ذلك . والسر فيه أن كل موضع يوهم اختصاص الرجال به مع كون النساء مشاركات لهم ذكرهن صريحاً نفياً لهذا التوهم ، وكل موضع لا يوهم ذلك اكتفى فيه بذكر الرجال لأنهم الأصل في أكثر الأحكام والتكاليف . مثلاً من المعلوم أن البشارة والنذارة عامة للناس قاطبة فلم يحتج فيهما إلى ذكر النساء بخلاف هذه الآية فإن إدخال الجنة يوهم أنه لأجل الجهاد مع العدوّ والفتح على أيديهم والمرأة لا جهاد عليها ، فكان يظن أنهن لا يدخلن الجنات فنفى الله تعالى هذا الوهم ، وكذا الكلام في تعذيب المنافقات والمشركات . نكتة الجنود المذكورة أوّلاً هي جنود الرحمة فكانوا سبباً لإدخال المؤمنين الجنة بالإكرام والتعظيم ثم إلباسهم خلع الكرامة لقوله { ويكفر عنهم سيئاتهم } ثم تشريفهم بالفوز العظيم من الله كما قال { وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً } وأما الكافر فعكس منه الترتيب : أخبر بتعذيبهم أوّلاً على الإطلاق ، ثم فصل بأنه يغضب عليهم أوّلاً ثم يوبقهم في خبر اللعن والبعد عن الرحمة ، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب الذين هم جنوده كما قال { عليها ملائكة غلاظ شداد } [ التحريم : 6 ] ولا ريب أن كل ذلك على قانون الحكمة إلا أنه قرن العلم في الأول إلى الحكمة تنبيهاً على أن إنزال السكينة وازدياد إيمان المؤمنين وترتيب الفتح على ذلك كانت كلها ثابتة في علم الله ، جارية على وفق الحكمة . وقرن العز بالحكمة ثانياً لأن العذاب والغضب وسلب الأموال والغنائم يناسب ذكر العزة والغلبة والقهر زادنا الله إطلاعاً على أسرار قرآنه الكريم وفرقانه العظيم .
ثم مدح رسول صلى الله عيله وسلم وذكر فائدة بعثته ليرتب عليه ذكر البيعة فقال { إنا أرسلناك شاهداً } على أمتك { ومبشراً ونذيراً } وقد مر في سورة الأحزاب مثله إلا أن قوله { لتؤمنوا بالله ورسوله } قائم مقام قوله هناك { وداعياً إلى الله بإذنه } [ الآية : 46 ] من قرأ على الغيبة فظاهر ، وأما من قرأ على الخطاب فلتنزيل خطاب النبي منزلة خطاب المؤمنين . وقوله { وتعزروه وتوقروه } كلاهما بمعن التعظيم من العز والوقار ينوب منابه . قوله هناك { وسراجاً منيراً } وذلك أن النور متبع والتبجيل والتعظيم دليل المتبوعية . وقال جار الله : الضمائر كلها لله عز وجل وتعظيم الله تعظيم دينه روسوله . وقوله { وتسبحوه } من التسبيح أو من السبحة وهي صلاة التطوع . و { بكرة وأصيلاً } للدوام أو المراد صلاة الفجر والعصر وحدها أو مع الظهر قاله ابن عباس . { إن الذين يبايعونك } هي بيعة الرضوان تحت الشجرة كام يجيء في السورة . وقيل : ليلة العقبة وفيه بعد . وسماها مبايعة تشبيهاً بعقد البيع نظيره

{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } [ التوبة : 111 ] { إنما يبايعون الله } لأن طاعة الرسول هي طاعة الله في الحقيقة . ثم أكد هذا المعنى بقوله { يد الله فوق أيديهم } قال أهل المعاني : هذا تمثيل وتخييل ولا جارحة هناك . وقيل : اليد النعمة أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق إحسانهم إلى الله بإجابة البيعة كما قال { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم } [ الحجرات : 17 ] قال القفال : هو من قوله صلى الله عليه وسلم : « اليد العليا خير من اليد السفلى » يريد بالعليا المعطية أي الله يعطيهم ما يكون له به الفضل عليهم . وقيل : اليد القوة أي نصرته إياهم فوق نصرتهم لرسوله . وقيل : يد الله بمعنى الحفظ فإن المتوسط بين المتبايعين يضع يده فوق يدهما فلا يترك أن تتفارق أيديهما حتى يتم البيع ، والمراد أن الله تعالى يحفظهم على بيعتهم . ثم زجرهم من نقض العهد وحثهم على الوفاء بقوله { فمن نكث } إلى آخره . والنكث والنقض أخوان . وقوله { فإنما ينكث على نفسه } أي لا يعود ضرر نكثه إلا عليه . قال جابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، وكان منافقاً اختبأ تحت إبط ناقته ولم يثر مع القوم . ثم بين ما يعلم منه إعجاز القرآن لأنه أخبر عن الغيب وقد وقع مطابقاً وله في السورة نظائر فقال { سيقول لك المخلفون } هم أسلم ومزينة وجهينة وغفار . وقيل : سموا مخلفين لأن التوفيق خلفهم ولم يعتدّ بهم . والظاهر أنهم سموا بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر الأعراب وأهل البوادي حذراً من قريش أن يصدّوه عن البيت ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قصدوه في داره بالمدينة وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة فاعتلوا . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا { شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا } سل الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك وإن كان من عذر فكذبهم الله بقوله { يقولون بألسنتهم } وقوله شيئاً من الضر كقتل وهزيمة ولا يوصل إليهم نفعاً إلا ما شاء الله . وإنما قال ههنا بزيادة لفظة { لكم } لأنه في قوم بأعيانهم بخلاف « المائدة » فإنه عام لقوله { أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً } [ المائدة : 17 ] ثم ردّ قولهم اللساني فقال { بل كان الله بما تعملون خبيراً } ثم ردّ اعتذراهم الواهي بقوله { بل ظننتم } الآية . والبور جمع بائر أي هالك والباقي واضح إلى قوله { رحيماً } وفيه بيان كمال قدرته على تعذيب الكافرين مع أن مغفرته ذاتيه ورحمته سابقة .

وقوله { سيقول المخلفون } إنما لم يقل هنا لك لأن المخاطبين هم المؤمنون كلهم لا النبي وحده . وجمهور المفسرين على أن هؤلاء هم المخلفون المذكورون فيما تقدم .
وقوله { إلى مغانم } هي مغانم خيبر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد أهل الحديبية أن غنائم أهل خيبر لهم خصوصاً من غاب منهم زمن حضر بدل تعب السفر في العمرة التي صدّهم المشركون عنها . وزاد الزهري فقال : وإن حضرها من غيرهم من الناس . قالوا : ولم يغب منهم عنها أحد إلا جابر ابن عبد الله ، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر . وكان انصراف النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر وخرج معه من شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالاً كثيرة وجعلها لهم خاصة ، وكان قبل ذلك وعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه غنائم خيبر فسمع المنافقون ذلك فقالوا للمؤمنين { ذرونا نتبعكم } فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم لأن أمره أن لا يخرج إلى خيبر إلا أهل الحديبية وذلك قوله { يريدون أن يبدّلوا كلام الله } فقال الله لنبيه { قل لنا تتبعونا } أي في خيبر . وقيل : عامّ في غزواته { كذلكم قال الله من قبل } أي قبل انصرافهم إلى المدينة { فسيقولون } ردّاً على النبي والمؤمنين إن الله لم يأمركم به { بل تحسدوننا } أن نشارككم في الغنيمة فرد الله عليهم ردّهم بقوله { بل كانوا لا يفقهون إلا } فهماً { قليلاً } وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين ، أو هو فهمهم من قوله { قل لن تتبعونا } مجرد النهي فحملوه على الحسد ولم يعلموا أن المراد هو أن هذا الاتباع لا يقع أصلاً لأن الصادق قد أخبر بنفيه . وذهب جماعة من المفسرين منهم الزجاج إلى أن كلام الله ههنا هو قوله في سورة براءة { لن تخرجوا معي أبداً } [ الآية : 83 ] واعترض بأن هذا في قصة تبوك التي كانت بعد الحديبية بسنتين بإجماع من أهل المغازي . وأجاب بعضهم بأن هذ الآية أعني { سيقول المخلفون } نزلت في غزوة تبوك أيضاً . وعندي أن الاعتراض غير وارد ولا حاجة إلى الجواب المذكور . ثم إن الله سبحانه أخبر عن مخلفي الحديبية بأنهم سيدعون إلى قوم أولي قوة ونجدة في الحروب . وقيل : هم هوازن وغطفان . وقيل : هم الروم ، غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك . والأكثرون على أن القوم أولي البأس الشديد هم بنو حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصدّيق لأنه تعالى قال { تقاتلونهم أو يسلمون } ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية . هذا عند أبي حنيفة ، وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب ، والمجوس دون مشركي العجم والعرب .

وقد يستدل بهذا على إمامة أبي بكر فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعد وفاته ولا سيما فيمن يزعم أنه نزل فيهم { لن تخرجوا معي أبداً } [ التوبة : 83 ] اللهم إلا أن يقال : المراد لن تخرجوا معي ما دمتم على حالكم من مرض القلوب والاضطراب في الدين ، أو أنهم لا يتبعون الرسول إلا متطوّعين لا نصيب لهم في المغنم قاله مجاهد . وقوله { أو يسلمون } رفع على الاستئناف يعني أو هم يسلمون . ويجوز أن يراد إلى أن يسلموا ، فحين حذف « أن » رفع الفعل . وقيل : الإسلام ههنا الانقياد فيشمل إعطاء الجزية أيضاً . والأجر الحسن في الدنيا الغنيمة ، وفي الآخرة الجنة . وقيل : الغنيمة فقط بناء على أن الآية في المنافقين ، وعلى هذا لا يتم الاستدلال على إمامة الخلفاء . وقوله { من قبل } أي في الحديبية . قال ابن عباس : إن أهل الزمانة قالوا : يا رسول الله كيف بنا؟ فأنزل الله تعالى { ليس على الأعمى حرج } أي إثم في التخلف لأنه كالطائر الذي قص جناحه لا يمتنع على من قصده . وقدم الأعمى لأن عذره مستمر ولو حضر القتال ، والأعرج قد يمكنه الركوب والرمي وغير ذلك . نعم يتعسر عليه الحرب ماشياً وكذا جودة الكر والفر راكباً . وقد يقاس الأقطع على الأعرج ، ويمكن أن لا يكون الأقطع معذوراً لأنه نادر الوجود . والأعذار المانعة من الجهاد أكثر من هذا وقد ضبطها الفقهاء بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي . فمن الأول الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال لا كالصداع ووجع السن ، ومنه العرج البين وإن قدر على الركوب لأن الدابة قد تهلك . وعند أبي حنيفة لا أثر للعرج في رجل واحدة ، ومنه فقد البصر ولا يلحق به العور والعشي ، ومنه عدم وجدان السلاح وآلات القتال . ومن الثاني الرق والدين الحالّ بلا إذن رب الدين ومن أحد أبويه في الحياة ليس له الجهاد لا بإذنه إلا إذا كان كافراً . والباقي واضح إلى قوله { لقد رضى الله } . وبه سميت بيعة الرضوان ويبايعونك حكاية الحال الماضية والشجرة كانت سمرة . وقيل : سدرة روي أنها عميت عليهم من قابل فلم يدروا أين ذهبت . وعن جابر بن عبد الله : لو كنت أبصر لأريتكم مكانها { فعلم ما في قلوبهم } من خلوص النية { فأنزل السكينة } الطمأنينة والأمن عليهم { وأثابهم } جازاهم عن الإخلاص في البيعة { فتحاً قريباً } هو فتح خيبر غب انصرافه من الحديبية كما ذكرناه . وقيل : هو فتح مكة { ومغانم كثيرة يأخذونها } هي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال فقسمها عليهم { وعدكم الله مغانم كثيرة } هي التي أصابوها مع النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده إلى يوم { فعجل لكم هذه } يعني غنيمة خيبر { وكف أيدي الناس عنكم } يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان جاؤا لنصرتهم فقذف الله الرعب في قلوبهم وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح ، وقيل : أيدي اليهود حين خرجتم وخلفتم عيالكم بالمدينة وهمت اليهود بهم فمنعهم الله قوله { ولتكون آية } أي لتكون هذه الغنيمة المعجلة دلالة على ما وعدهم الله من الغنائم ، أو دلالة على صحة النبوة من حيث إنه أخبر بالفتح القريب وقد وقع مطابقاً .

وقيل : الضمير للكف والتأنيث لأجل التأنيث الخبر ، أو بتقدير الكفة ويهديكم ويثبتكم ويزيدكم بصيرة .
قوله { وأخرى } أي وعدكم الله مغانم أخرى . عن ابن عباس : هي فتوح فارس والروم . أو يقال : مغانم هوازن في غزوة حنين لم يظنوا أن يقدروا عليها لما فيها من الهزيمة ، ثم الرجوع مرة بعد أخرى قد أحاط الله بها علماً أنها ستصير لكم . قال جار الله : يجوز في { أخرى } النصب بفعل مضمر يفسره { قد أحاط } أي وقضى الله أخرى قد أحاط بها . ويجوز فيها الرفع على الابتداء لكونها موصوفة بالجملة و { قد أحاط } خبره . وجوز الجر بإضمار « رب » . ثم بين أن نصر الله إياهم في صلح الحديبية أو في فتح خيبر لم يكن اتفاقياً بل كان إلهياً سماوياً فقال { ولو قاتلكم } إلى آخره . والسر فيه أن الله كتب وأوجب غلبة حزبه ونصر رسله كما قال { سنة الله } إلى آخره . عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخذهم واستحياهم فأنزل الله تعالى { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } وهو الحديبية لأنها من أرض الحرم . وقيل : هو التنعيم . وقيل : إظفاره دخوله بلادهم بغير إذنهم . وعن عبد الله بن مغفل المزني قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي ذكرها الله في القرآن ، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله تعالى بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم صلى الله عليه وسلم : هل كنتم في عهد أحد وهل جعل لكم أحد أماناً فقالوا : اللهم لا ، فخلى سبيلهم فأنزل الله الآية . وإنما قدم كف أيدي الكفار عن المؤمنين لأنهم أهم . وقيل : كف أيديكم بأن أمركم أن لا تحاربوا ، وكف أيديهم بإلقاء الرعب أو بالصلح وقيل : إن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد : هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل . فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله ارم بي حيث شئت .

فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد فهزمه حتى أدخله جوف مكة . فأنزلت الآية . وسمي خالد يومئذ سيف الله . وروي أن كفار مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخولهم بيوت مكة . ثم ذم قريشاً بقوله { هم الذين كفروا وصدّوكم } يعني يوم الحديبية { عن المسجد الحرام } أن تطوفوا به للعمرة { و } صدّوا { الهدى } أو صدّوكم مع الهدى حال كونه { معكوفاً } أي محبوساً ممنوعاً موقوفاً عن { أن يبلغ محله } المعهود وهو مني وقد مر تفسير الهدي ومحله والبحث عنه في « البقرة » . ثم بين حكمة المصالحة بقوله { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } وقوله { لم تعلموهم } سفة الرجال والنساء جميعاً على جهة التغليب . و { أن تطؤهم } بدل الاشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في { تعلموهم } والوطء كالدّوس عبارة عن الإيقاع والإهلاك . وقوله { فتصيبكم } جواب النفي أو عطف على { أن تطؤهم } والمعرة « مفعلة » ممن العرالعيب كالجرب ونحوه . وقوله { بغير علم } متقدم في النية متعلق ب { أن تطؤهم } والفحوى أنه كان بمكة ناس من المسلمين فقال سبحانه : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً من المؤمنين فيما بين المشركين وأنتم غير عالمين بحالهم فتصيبكم بإهلاكهم تبعة في الدين لوجوب الدية والكفارة أو عيب بسوء قاله أهل الشرك ، إنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا ، أو أثم إذا جرى دينهم منكم بعض التقصير لما كف أيديكم عنهم ، والكلام يدل على هذا الجواب وفي حذفه فخامة وذهاب للوهم كل مذهب ، ويعلم منه أنه يفعل بهم إذ ذاك ما لا يدخل تحت الوصف . وجوّزوا أن يكون { لو تزيلوا } كالتكرير لقوله { ولولا رجال } لرجعهما إلى معنى واحد . والتنزيل التميز والتفرق ويكون { لعذبنا } هو الجواب . وقوله { ليدخل } تعليل لما دلت عليه الآية من كف الأيدي عن قريش صوناً لأهل الإيمان المختلطين بهم كأنه قيل : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله مؤمنيهم في حيز توفيق الخير والطاعة ، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من المشركين . وحكى القفال أن اللام متصل بالمؤمنين والمؤمنات أي آمنوا لكذا . وقوله { إذ جعل } يجوز أن ينتصب بإضمار « اذكر » أو يكون ظرفاً { لعذبنا } أو ل { صدّوكم } وفاعل { جعل } يجوز أن يكون { الله } وقوله { في قلوبهم } بيان لمكان الجعل كما مر في قوله { وأشربوا في قلوبهم العجل } [ البقرة : 93 ] ويجوز أن يكون { الذين كفروا } ومفعولاه الحمية والظرف فيكون جعلهم في قلبهم بإزاء أنزل الله . والحمية في مقابلة السكينة ، والحمية الأنفة والاستكبار الذي كان عليها أهل الجاهلية ، ومن ذلك عدم إقرارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومنه ما جرى في قصة الحديبية من إبائهم أن يكتب في كتاب العهد « بسم الله الرحمن الرحيم » وأن يكتب « محمد رسول الله » يقال : حميت أنفي حمية كأنها « فعلية » بمعنى « مفعول » من الحماية اسم أقيم مقام المصدر كالسكينة بمعنى السكون فأنزل الله على رسوله السكينة والوقار حتى أعطاهم ما أرادوا .

وكلمة التقوى التسمية والتوحيد والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، اختارها الله للمؤمنين . ومعنى الإضافة إنها سبب التقوى وأساسها ، أو المراد كلمة أهل التقوى الذين يتقون بها غضب الله . { وكانوا أحق بها وأهلها } لأنهم خيار الأمم . وقيل : أراد وكانوا يعني أهل مكة أحق بهذه الكلمة لتقدّم إنذارهم إلا أن بعضهم سلبوا التوفيق . وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد أن يقول « لا إله إلا الله » في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقول أكثر من ذلك . وكان قائلها يمدّ بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركاً بذكر الله ، وقد جعل الله لهذه الأمة أن يقولوها متى شاؤا وهو قوله { وألزمهم كلمة التقوى } أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا . ثم قص رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم بياناً لإعجازه فإن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .
وقصته أنه رأى في المنام أن ملكاً قال له { لتدخلن } إلى قوله { لا تخافون } فأخبر أصحابه بها ففرحوا وجزموا بأنهم داخلوها في عامهم ، فلما صدّوا عن البيت واستقر الأمر على الصلح قال بعض الضعفة : أليس كان يعدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نأتي البيت فنطوف به؟ فقال لهم أهل البصيرة : هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا : لا . قال : فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت فأنزل الله تصديقه . ومعنى { صدق الله رسوله الرؤيا } صدقه في رؤياه ولم يكذبه . وقوله { بالحق } إما أن يكون متعلقاً ب { صدق } أي صدقه فيما رأى صدقاً متلبساً بالحق وهو أن يكون ما أراه كما أراه ، وإما أن يكون حالاً من الرؤيا أي متلبسة بالحق يعني بالغرض الصحيح وهو الإبتلاء ، وتميز المؤمن المخلص من المنافق المرائي . وجوّز أن يكون { بالحق } قسماً لأنه إسم من أسماء الله سبحانه ، أو لأن المراد الحق الذي هو نقيض الباطل فتكون اللام في { لتدخلنّ } جواب القسم لا للابتداء فيحسن الوقف على { الرؤيا } . والبحث علن الحلق والتقصير وسائر أركان الحج والعمرة وشرائطهما استوفيناها في سورة البقرة فليتذكر . وفي ورود { إن شاء الله } في خبر الله عز وجل أقوال أحدها : أنه حكاية قول الملك كما روينا . والثاني أن ذلك خارج على عادة القرآن من ذكر المشيئة كقوله { يغفر لمن يشاء } { ويعذب المنافقين إن شاء } والمعنى إن الله يفعل بالعباد ما هو الصلاح فيكون استثناء تحقيق لا تعليق . والثالث أنه أراد لتدخلن جميعاً إن شاء ولم يمت أحد أو لم يغب .

والرابع أنه تأديب وإرشاد إلى استعمال الاستثناء في كل موضع لقوله صلى الله عليه وسلم وقد دخل البقيع « وأنا إن شاء الله بكم لاحقون » وليس في فروع الموت استثناء . الخامس أنه راجع إلى حالة الأمن وعدم الخوف . ثم رتب على الصدق وعلى سوء ظن القوم قوله { فعلم ما لم تعلموا } من الحكمة في تأخير الفتح إلى العام القابل { فجعل من دون ذلك } الفتح { فتحاً قريباً } وهو فتح خيبر . ثم أكد صدق الرؤيا بل صدق الرسول في كل شيء بقوله { هو الذي أرسل } الآية . وذلك أنه كذب رسوله كان مضلاً ولم يكن إرساله سبباً لظهور دينه وقوة ملته . وقد مر نظير الآية في سورة التوبة . ومن استعلاء هذا الدين أنه لا ترى أهل ملة إلا والمسلم غالب عليه إلا أن يشاء الله . وقد يقال : إن كمال العز والغلبة عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى على الأرض كافر { وكفى بالله شهيداً } على أن هذا الدين يعلو ولا يعلى .
ثم أكد الشهادة وأرغم أنف قريش الذين لمن يرضوا بهذا التعريف في كتاب العهد فقال { محمد رسول الله } فهو مبتدأ وخبر . وجوز أهل الإعراب أن يكون المبتدأ محذوفاً لتقدم ذكره في قوله { أرسل رسوله } أي هو محمد فيكون { رسول الله } صفة أو عطف بيان ، وجوزوا أن يكون { محمد } مبتدأ و { رسول الله } صفته أو بياناً . وقوله { والذين معه } وهم الصحابة عطفاً على { محمد } وخبر الجميع { أشداء على الكفار } جمع شديد كما قال { وأغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] { أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] عن الحسن : بلغ من تشدّدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم فكيف بأبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صحافه وعانقه . والمصافحة جائزة بالاتفاق ، وأما المعانقة والتقبيل فقد كرههما أبو حنيفة رضي الله عنه وإن كان التقبيل على اليد . ومن حق المؤمنين أن يراعوا هذه السنة أبداً فيتشدّدوا على مخالفيهم ويرحموا أهل دينهم { تراهم } يا محمد أو يا له أهلية الخطاب { ركعاً سجداً } راكعين ساجدين { يبتغون فضلاً من الله } بالعفو عن تقصيرهم { ورضواناً } منه عن أعمالهم الصالحة بأن يتقبلها الله منهم { سيماهم } علامتهم { في وجوههم من أثر السجود } فيجوز أن تكون العلامة أمراً محسوساً وأن السجود بمعنى حقيقة وضع الجبهة على ألأرض ، وكان كل من عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك يقال له ذو الثفنات ، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواضع السجود منهما أشباه ثفنات البعير . والذي جاء في الحديث « لا تعلبوا صوركم » أي لا تخدشوها . وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً أثر في وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك محمول على التعمد رياء وسمعة .

وعن سعيد بن المسيب هي ندى الطهور وتراب الأرض . ويجوز أن يكون أمراً معنوياً من البهاء والنور . وعن عطاء : استنارت وجوههم من التهجد كما قيل « من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار » وإن الذي يبيت شارباً يتميز عند أراب البصيرة من الذي يبيت مصلياً وفيه قال بعضهم :
عيناك قد حكتا مبي ... تك كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرت ... ك مبيت صاحبها عياناً
قال المحققون : إن من توجه إلى شمس الدنيا لا بد من أن يقع شعاعها على وجهه ، فالذي أقبل على شمس عالم الوجود وهو الله سبحانه كيف لا يستنير ظاهره وباطنه ولا سيما يوم تبلى السرائر ويكشف الغطاء { ذلك مثلهم } أي ذلك الوصف وصفهم العجيب الشأن في الكتابين : ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله { كزرع } إلى آخره . كقوله { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع } [ الحجر : 66 ] وقد يقال : تم الكلام عند قوله { ذلك مثلهم في التوراة } ثم ابتدأ { مثلهم في الإنجيل كزرع } لما روى أنه مكتوب في الإنجيل : سيرخج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر عرفوا إلى بني إسرائيل بهذا الوصف ليعرفوهم إذا أبصروهم . والشطء بالتسكين والتحريك فراخ الزرع التي تنبت إلى جانب الأصل ، ومنه شاطىء النهر . { فآزره } من المؤازره المعاونة . ويجوز أن يكون أفعل من الأزر القوة أي أعان الزرع الشطء أو بالعكس . { فاستغلظ } الزرع أو الشطء أي صار من الرقة إلى الغلظ { فاستوى على سوقه } فاستقام على قصبته أي تناهى وصار كالأصل بحيث يعجب الزارعين . والسوق جمع ساق وقد يخص الساق بالشجر فيكون ساق الزرع مجازاً مستعاراً . ووجه التشبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وحده ثم أتبعه من ههنا قليل ومن ههنا حتى كثروا وقوي أمرهم . وقوله { ليغيظ بهم الكفار } تعليل لوجه التشبيه أو للتشبيه أي ضرب الله ذلك المثل وقضى وحكم بذلك ليغيظ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه كفار مكة والعجم . وقيل : هذا الزرع بغيظ بكثرته الكفار أي سائر الزرّاع الذين ليس لهم مثل زرعهم وفيه بعد ، ولكن الكلام لا يخلو عن فصاحة لفيظة من قبل المناسبة بين الزراع والكفار لاشتراكهما بالجملة في معنى من المعاني وإن لم يكن مقصوداً ههنا . وذهب بعض المفسرين إلأى أن قوله { والذين معه } أبو بكر { أشداء على الكفار } عمر { رحماء بينهم } عثمان { نراهم ركعاً سجداً } علي عليه السلام { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } طلحة والزبير { سيماهم في وجوههم } سعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ابن الجراح . وعن عكرمة : أخرج شطأة بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ . وقوله { منهم } لبيان الجنس . ويجوز أن يكون قوله { ليغيظ } تعليلاً للوعد لان الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما حصل لهم في الدنيا من الغلبة والاستعلاء غاظهم ذلك والله أعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

« القراآت : { لا تقدّموا } بالفتحات من التقدّم : يعقوب { الحجرات } بفتح الجيم : يزيد . { إخوتكم } على الجمع : يعقوب وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { ولا تجسسوا } { ولا تنابزوا } و { لتعارفوا } بالتشديدات للإدغام : البزي وابن فليح { ميتاً } مشدّداً : أبو جعفر ونافع { يألتكم } بالهمز : أبو عمرو وسهل ويعقوب وقد لا يهمز في رواية . الآخرون : بالحذف { بما يعملون } على الغيبة : ابن كثير .
الوقوف : { واتقوا الله } ط { عليم } ه ج { لا تشعرون } ه { للتقوى } ط { عظيم } ه { لا يعقلون } ه { خيراً لهم } ط { رحيم } ه { نادمين } ه { رسول الله } ط { والعصيان } ط { الراشدون } ه لأن { فضلاً } مفعول له { ونعمة } ط { حكيم } ه { بينهما } ج للشرط مع الفاء { أمر الله } ج لذلك { وأقسطوا } ط { المقسطين } ه { ترحمون } ه { منهن } ج للعدول عن الغيبة إلى الخطاب { بالألقاب } ط { بعد الإيمان } ه ج لابتداء الشرط مع احتمال { ومن لم يتب } عما ذكر من اللمز والنبز { الظالمون } ه { من الظن } ز للابتداء بأن إلا إنه للتعليل أي لأن { بعضاً } ج { فكرهتموه } ط { واتقوا الله } ط { رحيم } ه { لتعارفوا } ط { أتقاكم } ط { خبير } ه { آمناً } ط { قلوبكم } ط { شيئاً } ط { رحيم } ه { في سبيل الله } ط { الصادقون } ه { في الأرض } ط { عليم } ه { أسلموا } ط { إسلامكم } ج لأن » بل « للإضراب عن الأول { صادقين } ه { والأرض } ط { تعلمون } ه .
التفسير : لما بين محل النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منصبه بقوله { هو الذي أرسل رسوله } إلى آخر السورة افتتح الآن بقوله { لا تقدموا } الآية . ففيه تأكيد لما ذكر هناك من وجوب إتباعه والإذعان له . والأظهر أن هذا إرشاد عام . وذكر المفسرون في أسباب النزول وجوهاً منها ماروي عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبر أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أمّر القعقاع بن معبد وقال عمر : بل أمر الأقرع بن جابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي . فقال عمر : ما أردت خلافك . فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله الآية . وقال الحسن والزجاج : نزلت في رجل ذبح الأضحية قبل الصلاة وقبل ذبح النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بإعادتها وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن تزول الشمس . وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة . وعن عائشة أنها نزلت في صوم يوم الشك . وروي أنها في القتال أي لا تحملوا على الكفار في الحرب قبل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم . وقدّم إما متعد وحذف المفعول للعموم حتى يتناول كل فعل وقول ، أو ترك مفعوله كما في قوله » فلان يعطي ويمنع « لأن النظر إلى الفعل لا إلى المفعول كأنه قيل : يجب أن لا يصدر منكم تقدم أصلاً في أيّ فعل كان .

وإما لازم نحو بين وتبين بمعنى يؤيده قراءة يعقوب . قال جار الله : حقيقة قولهم « جلست بين يدي فلان » أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله حتى ينظر إليك من غير تقليب حدقة وذكر الله للتعظيم . وفيه أن التقديم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كالتقديم بين يدي الله . قال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا . وقيل : معناه لا تخالفوا كتاب الله وسنة رسوله . وعن الحسن في رواية أخرى : لما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتدىء { واتقوا الله } في التقديم أو أمرهم بالتقوى ليحملهم على ترك التقدمة فإن المتقي حذر عن كل ما فيه تبعة وريب { إن الله سميع } لأقوالكم { عليم } بنياتكم وأفعالكم . ثم أعاد النداء عليهم مزيداً للتنبيه ، وفيه نوع تفصيل بعد إجمال وتتخصيص بعد تعميم . وعن ابن عباس أن ثابت ابن قيس بن شماس كان في أذنه وقر وكان جهوريّ الصوت وكان يتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته إذا كلمه ، فحين نزلت الآية فقد ثابت فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر بأنه رجل جهير الصوت يخاف أن تكون الآية نزلت فيه . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة . وعن الحسن : نزلت في المنافقين كانوا يرفعون بأصواتهم فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخفافاً واستهانة وليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهى المؤمنون عن ذلك . وعلى هذا فإما أن يكون الإيمان أعم من أن يكون باللسان أو به وبالقلب ، وإما أن يكون الإيمان حقيقة فيكون تأديباً للمؤمنين الخلص حتى يكون حالهم بخلاف حال أهل النفاق ، ويكون كلامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخفض من كلامه لهم رعاية لحشمته وصيانة على مهابته . قوله { ولا تجهروا له بالقول كجهر } أي جهراً مثل جهر { بعضكم لبعض } قيل : تكرار للمعنى الأوّل لأجل التأكيد فإن الجهر هو رفع الصوت والجمهور على أن بين النهيين فرقاً . ثم اختلفوا فقيل : الأول فيما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر . والثاني فيما إذا سكت ونطقوا فنهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوّة . وقيل : النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا ينادي وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضهم لبعض فلا يقال : يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم ولكن يا نبي الله يا رسول الله .

ثم علل كلاً من النهيين بقوله { أن تحبط } أي كراهة حبوط أعمالكم وذلك أن الرفع والجهر إذا كان عن استخفاف وإهانة كان كفراً محبطاً للأعمال السابقة . والمفعول له يتعلق بالفعل الأول في الظاهر عند الكوفيين وبالعكس عند البصريين . وجوز في الكشاف أن يقدر الفعل في الثاني مضموماً إليه المفعول له كأنهما شيء واحد ثم يصب عليهما الفعل جميعاً صباً واحداً ، والمعنى أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط لأنه كان بصدد الأداء إليه فجعل كأنه سبب في إيجاده كقوله { ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] وفي قوله { وأنتم لا تشعرون } إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به . ومثله قول الحكيم : إن كلاً من الأخلاق الفاضلة والرذيلة تكون أوّلاً حالاً ثم تصير ملكة راسخة وعادة مستمرة . ومنه قول أفلاطون : لا تصحب الشرير فإن طبعك يسرق وأنت لا تدري . فالعاقل من يجتهد في الفضائل أن تصير ملكات ، وفي الرذائل أن تزول عنه وهي أحوال .
قال ابن عباس : لما نزلت الآية قال أبو بكر : يا رسول الله والله ولا أكلمك إلا السرار أو كأخي السرار حتى ألقى الله فأنزل الله فيه وفي أمثاله { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله } هو افتعل من المحنة وهو اختبار بليغ يقال : امتحن فلان لأمر كذا أي جرب له فوجد قوياً عليه ، أو وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقق الشيء باختباره فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم كائنة للتقوى فاللام متعلقة بالمحذوف كقولك : أنت لهذا الأمر . أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف لأجل التقوى وحصولها فيها سابقة ولا حقة { لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر عظيم } لطاعتهم . وفي تنكير الوعد وغير ذلك من مؤكدات الجملة تعريض بعظم ما ارتكب غيرهم واستحقاقهم أضداد ما استحق هؤلاء . يروى أنه كان إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد أرسل إليهم أبو بكر من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار . قال العلماء : إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف كما مر في حديث ثابت بن قيس ، ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ . ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : أصرخ بالناس وكان العباس أجهر الناس صوتاً . وفيه قال نابغة بني جعدة :
زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم
وأبو عروة كنية العباس . زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيشق مرارة السبع في جوفه .

ويروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدّة صوته . ثم علمهم أدباً أخص فقال : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } أي من جانب البر والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض . والحجرة البقعة التي يحجرها المرء لنفسه كيلا يشاركه فيها غيره من الحجر وهو المنع « فعلة » بمعنى مفعولة ، وجمعت لأن كلاً من أمهات المؤمنين لها حجرة . روي أن وفداً من بني تميم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو سبعون رجلاً منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن . فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من خارج حجراته كأنهم تفرقوا على الحجرات أو أتوها حجرة فنادوه من ورائها أو نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالاً له صلى الله عليه وسلم . والفعل وإن كان مستنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم لأن رضا الباقين به كالتولي له . وحكى الأصم أن الذي ناداه عيينة والأقرع قالا : أخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين منا شين . فتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فخرج إليهم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين . فقال لهم : فيم جئتم؟ فقالوا : جئنا بخطيبنا وشاعرنا نفاخرك ونشاعرك . فقال : ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا . فقام خطيبهم فخطب وقام شاعرهم وأنشد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس فقام وخطب وأمر حساناً فقام وأنشد . فلما فرغوا قام الأقرع وقال : والله ما أدري ما هذا ، تكلم خطيبنا وكان خطيبهم أحسن قولاً ، وأنشد شاعرنا وكان شاعرهم أشعر . ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله . وعن زيد بن أرقم أنهم قالوا : نمتحنه فإن يكن ملكاً عشنا في جنابه ، وإن يكن نبياً كان أولى بأن نكون أسعد الناس به . وقيل : إنهم وفدوا شافعين في أسرى بني العنبر . أما إخبار الله تعالى عنهم بأن أكثرهم لا يعقلون فإما لأن الأكثر أقيم مقام الكل على عادة الفصحاء كيلا يكون الكلام بصدد المنع ، وإما لأن الحكم بقلة العقلاء فيهم عبارة عن العدم فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم ، وإما لأن فيهم من رجع وندم على صنيعه فاستثناه الله تعالى . وإنما حكم عليهم بعدم العقل لأنهم يعقلوا أن هذا النحو من النداء خارج عن قانون الأدب ومنبىء عن عدم الوقار والأناة لا سيما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن يحتجب عن الناس إلا عند الخلوة والاشتغال بمهامّ أهل البيت فلذلك قال { ولو أنهم صبروا حتى تخرج } وفائدة قوله { إليهم } أنه لو خرج لا لأجلهم لزمهم الصبر إلى أن يكون خروجه إليهم لأجلهم { لكان } الصبر { خيراً لهم } في دينهم وهو ظاهر وفي دنياهم بأن ينسبوا إلى وفور العقل وكمال الأدب .

وقيل : بإطلاق أسرائهم جميعاً فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق النصف وفادى النصف { والله غفور } مع ذلك لمن تاب { رحيم } في قبول التوبة . سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفد بني تميم فقال : إنهم جفاة بني تميم ولولا أنهم من أشد الناس قتلالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم . ويحكى عن أبي عبيدة وهو المشهور بالعلم والزهادة وثقة الرواية أنه قال : ما وقفت بباب عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه . ثم أرشدهم إلى أدب آخر فقال { يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } وقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقاً وكان بينهما إحنة ، فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع فقال : إن القوم هموا بقتلي ومنعوا صدقاتهم . فهم النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلاً هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله عنه فقالوا : نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله . وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع . قال جار الله : في تنكير الفاسق والنبأ عمومم كأنه قيل : أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ فتوقفوا فيه واطلبوا البيان لأن من لا يتجافى جنس الفسوق ولا يتجافى بعض أنواعه الذي هو الكذب . والفسوق الخروج عن الشيء والانسلاخ منه فسقت الرطبة عن قشرها ، ومن مقلوبه « فقست البيضة » إذا كسرتها وأخرجت ما فيها . ومن تقاليبه أيضاً « قفست الشيء » بتقديم القاف إذا أخرجته من يد مالكه غصباً . والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه . واختبر لفظة « إن » التي هي للشك دون « إذا » تنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم ومن معه بمنزلة لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب إلا على سبيل الفرض والندرة ، فعلى المؤمنين أن يكونوا بحيث لا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور . ثم علل التبين بقوله { أن تصيبوا } أي كراهة إصابتكم { قوماً } حال كونكم جاهلين بحقيقة الأمر . والندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك متمنياً أنه لم يقع ولا يخلو من دوام وإلزام . ومن مقلوباته « أدمن الأمر » إذا دام عليه . ومدن بالمكان أقام به . قال الأصوليون من الأشاعرة : إن خبر الواحد العدل يجب العمل به لأن الله تعالى أمر بالتبيين في خبر الفاسق ، ولو تبينا في خبر العدل لسوّينا بينهما .

وضعف بأنه من باب التمسك بالمفهوم . واتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لأن باب الشهادة أضيق من باب التمسك بمفهوم الخبر . وأكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فاسقاً بكذبه . وقيل : إن الوليد لم يقصد الكذب ولكنه ظن حين اجتمعوا لإكرامه أن يكونوا هموا بقتله . ولقائل أن يقول : لفظ القرآن وسبب النزول يدل على خلافه . نعم لو قيل : إنه تاب بعد ذلك لكان له وجه ثم أرشدهم إلى أمر آخر قائلاً { واعلموا أن فيكم رسول الله } وليس هذا الأمر مقصوداً بظاهره لأنه معلوم مشاهد فلا حاجة إلى التنبيه عليه ، وإنما المراد ما يستلزم كونه فيهم كما يقال من يغلط في مسألة أو يقول فيها برأيه : أعلم أن الشيخ حاضر . ثم قيل : المراد لا تقولوا الباطل والكذب فإن الله يخبره ويوحي إليه . وقيل : أراد أن الرأي رأيه فلا تعدوا رأيه وقد صرح بهذا المعنى في قوله { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } لوقعتم في العسر والمشقة والحرج لأنه أعلم منكم بالحنيفية السهلة السمحاء ، ومن جملة ذلك قصة الوليد فإنه لو أطاعه وقبل قوله لقتل وقتلتم وأخذ المال وأخذتم فاتهمتهم . قال جار الله : الجملة المصدّره بلو ليس كلاماً مستأنفاً لاختلال النظم حينئذ ولكنها حال من أحد الضميرين في { فيكم } وهو المستتر المرفوع أو البارز المجرور . والمعنى أن فيكم رسول الله على حالة يجب تغييرها وهي أنكم تطلبون منه اتباع آرائكم . قلت : قد ذكرنا في وجه النظم بياناً آخر . ثم قال : فائدة تقدير خبر « أن » هو أن يعلم أن التوبيخ ينصب إلى هذا الغرض . وفائدة قوله { يطيعكم } بلفظ الاستقبال الدلالة على ما أرادوه من استمرار طاعته لهم وأنه لا يخالفهم في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء . وفي قوله { في كثير من الأمر } مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ ، وفيه أيضاً تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب . ويمكن أن يكون إشارة إلى تصويب رأي بعضهم لا إلى تصويب بعض رأيهم فقد قيل : إن بعضهم زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وبعضهم كانوا يرون التحلم عنهم إلى أن يتبين أمرهم ، وقد أشار إلى هذا البعض بقوله { ولكن الله حبب إليكم الأيمان } أي إلى بعضكم وإلا لم يحسن الاستدراك يعني ب { لكن } فإن من شرطه مخالفة ما بعده لما قبله . فلو كان المخاطبون في الطرفين واحداً لم يكن للاستدراك معنى بل يؤدّي إلى التناقض لأنه يكون قد أثبت لهم في ثاني الحال محبة الإيمان وكراهة العصيان ، وذكر أوّلاً أنه توجب إجابتهم الوقوع في العنت .

قال أهل اللغة : الطاعة موافقة الداعي غير أن المستعمل في حق الأكابر الإجابة ، وفي حق الأصاغر الطاعة ، وقد ورد القرآن على أصل اللغة . استدلت الأشاعرة بقوله { حبب } و { كره } على مسألة خلق الأفعال . وحملها المعتزلة على نصب الأدلة أو اللطف والتوفيق أو الوعد والوعيد . والمعنى ولكن الله حبب إليكم الإيمان فأطعتموه فوقاكم العنت والكفر واضح . وأما الفسوق والعصيان فقيل : الأوّل الكبائر والثاني الصغائر . ويحتمل أن يكون الكفر مقابل التصديق بالجنان ، والفسوق مقابل الإقرار باللسان لأن الفسق ههنا أمر قولي بدليل قوله { إن جاءكم فسق بنبإ } سماه فاسقاً لكذبه والعصيان مقابل العمل بالأركان { أولئك } البعض المتبينون { هم الراشدون } وهذه جملة معترضة . وقوله { فضلاً من الله ونعمة } كل منهما مفعول له والعامل فيهما { حبب } و { كره } ويجوز أن يكونا منصوبين عن الراشدين لأن الرشد عبارة عن التحبيب والتكريه المستندين إلى الله ، فكأن الرشد أيضاً فعله فاتحد الفاعل في الفعل والمفعول له بهذا الاعتبار . ويجوم أن يكونا مصدرين من غير لفظ الفعل وهو الرشد فكأنه قيل : فأولئك هم الراشدون رشداً لأن رشدهم إفضال وإنعام منه . قال بعض العلماء : الفضل بالنظر إلى جانب الله الغنيّ ، والنعمة بالنظر إلى جانب العبد الفقير { والله عليم } بأحوال الخلق وما بينهم من التمايز والتفاضل { حكيم } في تدابيره وأفضاله وأنعامه .
ثم علمهم حكماً آخر . في الصحيحين عن أنس أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبيّ . فانطلق إليه على حمار وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فبال الحمار فقال : إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك . فقال عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله فيهم { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } جمع لأن الطائفتين في معنى القوم ، أو الناس ، أو لأن اقل الجمع اثنان فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم . وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا . وقال ابن بحر : القتال لا يكون بالنعام والأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان . والطائفة الجماعة وهي أقل من الفرقة لقوله { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } [ التوبة : 122 ] وارتفاعها بمضمر دل عليه ما بعده أي إن اقتتلت طائفتان واختير « أن » دون « إذا » مع كثرة وقوع القتال بين المؤمنين ليدل على أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادراً وعلى سبيل الفرض والتقدير ، ولهذه النكتة بعينها قال { طائفتان } ولم يقل « فريقان » تحقيقاً للتقليل كما قلنا . وفي تقديم الفاعل على الفعل إشارة أيضاً إلى هذا المعنى لأن كونهما طائفتين مؤمنين يقتضي أن لا يقع القتال بينهما ولهذا اختير المضيّ في الفعل ولم يقل يقتتلون لئلا ينبىء عن الاستمرار .

وفيه أيضاً من التقابل ما فيه . وإنما قدم الفعل في قوله { إن جاءكم فاسق بنبإ } ليعلم أن المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الجائي به فاسقاً سواء كان قبل ذلك فاسقاً أم لا ، ولو أخر الفعل لم تتناول الآية إلا مشهور الفسق قبل المجيء بالنبأ . قال بعض العلماء : إنما قال { اقتتلوا } على الجمع ولم يقل « فأصلحوا بينهم » لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه ، أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أقعد . والبغي الاستطالة وإباء الصلح ، والفيء الرجوع وبه سمي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس ، أو لأن الناس يرجعون إليه ، والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين . ومعنى قوله { إلى أمر الله } قيل : إلى طاعة الرسول أو من قام مقامه من ولاة الأمر بقوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] وقيل : إلى الصلح لقوله { وأصلحوا ذات بينكم } [ الأنفال : 1 ] وقيل : إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق خشيته لا تبقى له عداوة إلا مع الشيطان . وإنما قال { فإن بغت } ولم يقل « فإذا » بناء على أن بغي إجداهما مع صلاح الأخرى كالنادر ، وكذا قوله { فإن فاءت } لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر نظيره قول القائل لعبده : « إن مت فأنت حر » . مع أن الموت لا بد منه وذلك لأن موته بحيث يكون العبد حياً باقياً في ملكه غير معلوم .
واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلاناً بحسب الظن لا القطع ، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعاً ، وكذا الخوارج وهم صنف من المبتدعة يكفرون من أتى بكبيرة ويسبون بعض الأئمة . وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عناداً لأنه لا تأويل له . ولا بد أن يكون له شوكة وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفه ببذل مال أو إعداد رجال ، فإن كانوا أفراداً يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي . والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقه ولا كفرة لقوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } وعن عليّ رضي الله عنه : إخواننا بغوا علينا ولكنهم يخطؤن فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن عليّ رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم . وكما قال مانعو الزكاة لأبي بكر : أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا وصلاة غير النبي صلى الله عليه وسلم ليست بسكن لنا .

واتفقوا على أن معاوية ومن تابعه كانوا باغين للحديث المشهور « إن عماراً تقتله الفئة الباغية » وقد يقال : إن الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة وإنما سماهم المؤمنين باعتبار ما قبل البغي كقوله { يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه } [ المائدة : 54 ] والمرتد ليس بمؤمن بالاتفاق . أما الذي يتلفه العادل على الباغي وبالعكس في غير القتال فمضمون على القاعدة الممهدة في قصاص النفوس وغرامة الأموال ، وأما في القتال فلا يضمن العادل لأنه مأمور بالقتال ولا الباغي على الأصح ، لأن في الوقائع التي جرت في عصر الصحابة والتابعين لم يطلب بعضهم بعضاً بضمان نفس ومال ، ولأنه لو وجبت الغرامة لنفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة . والأموال المأخوذة في القتال تردّ بعد انقضاء الحرب إلى أربابها من الجانبين . والمراد من متلف القتال ما يتلف بسبب القتال ويتولد منه هلاكه حتى لو فرض إتلاف في القتال من غير ضرورة القتال كان كالإتلاف في غير القتال ، والذين لهم تأويل بلا شوكة لزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال وإن كان على صورة القتال ، وحكمهم حكم قطاع الطريق إذا قاتلوا ، ولو أسقطنا الضمان لأبدت كل شرذمة من أهل الفساد تأويلاً وفعلت ما شاءت وفي ذلك إبطال السياسات ، ولهذه النكتة قرن بالإصلاح . والثاني قوله { بالعدل } لأن تضمين الأنفس والأموال يحتاج فيه إلى سلوك سبيل العدل والنصفة لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة مرة أخرى . واحتج الشافعي لوجوب الضمان إذا لم يكن قتال بأن ابن ملجم قتل علياًَ رضي الله عنه زاعماً أن له شبهة وتأويلاً فأمر بحبسه وقال لهم : إن قتلتم فلا تمثلوا به فقتله الحسن بن علي رضي الله عنه وما أنكر عليه أحد . وأما الذين لهم شوكة ولا تأويل فالظاهر عند بعضهم نفي الضمان وعند آخرين الوجوب . وأما كيفية قتال الباغين فإن أمكن الأسر لم يقتلوا ، وإن أمكن الإثخان فلا يذفف عليه كدفع الصائل إلا إذا التحم القتال وتعسر الضبط . قوله { وأقسطوا } أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين ، قال أهل اللغة : القسط بالفتح والسكون الجور من القسط بفتحتين وهو اعوجاج في الرجلين . وعود قاسط يابس ، والقسط بالكسر العدل والهمزة في أقسط للسلب أي أزال القسط وهو الجور . وحين بين إصلاح الخلل الواقع بين الطائفتين أراد أن يبين الخلل الواقع بين اثنين بالتشاتم والسباب ونحو ذلك فقال { إنما المؤمنون إخوة } أي حالهم لا يعدوا الأخوة الدينية إلى ما يضادّها { فأصحلوا بين أخويكم } بإيصال المظلوم إلى حقه وبدفع إثم الظلم عن الظالم . والتثنية بحسب الأغلب ، ويحتمل أن يقال : إنه شامل لما دون الطائفتين . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلى قليل »

{ واتقوا الله } في سائر الأبواب راجين أن يرحمكم ربكم .
ثم شرع في تأديبات آخر . والقوم الرجال خاصة لقيامهم على الأمور . قال جمهور المفسرين : إن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر وكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول . فجاء يوماً وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا . فقال له رجل : أصبت مجلساً فاجلس . فجلس ثابت مغضباً ثم قال للرجل : يا فلان ابن فلانه يريد أمّاً كان يعير بها في الجاهلية فسكت الرجل استحياء فنزلت . وقيل : نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات واستهزؤا بالفقراء . وقيل : في كعب بن مالك قال لعبد الله : يا أعرابي . فقال له عبد الله : يا يهودي . وقيل : نزلت { ولا نساء من نساء } في عائشة وقد عابت أم سلمة بالقصر . ويروى أنها ربطت حقويها بثوب أبيض وأسدلت طرفها خلفها وكانت تجره فقالت عائشة لحفصة : انظري ماذات تجر خلفها كأنه لسان كلب . وعن عكرمة عن ابن عباس : أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد . وتنكير القوم والنساء للبعضية أو لإفادة الشياع . وإنما لم يقل « رجل من رجل ولا امرأة من امرأة » زيادة للتوبيخ وتنبيهاً على أن السخرية قلما تصدر عن واحد ولكن ليشاركه في ذلك جمع من الحاضرين لأن ميل الطباع لى التلهي والدعابة والازدراء بالضعفاء وأهل السآمة أكثريّ . وإنما لم يقل « رجل من امرأة » وبالعكس لأن سخرية الجنس من الجنس أكثر فاقتصر على ذلك والباقي فيه بالأولى . وقوله { عسى أن يكونوا } كلام مستأنف ينبىء عن سبب النهي . عن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً . قوله سبحانه { ولا تلمزوا } تأديب آخر واللمز الطعن باللسان . والمعنى حضوا أنفسكم بالانتهاء عن الطعن في أمثالكم من أهل هذا الدين ولا عليكم أن تعيبوا غير أهل دينكم . قيل : اللمز والسب خلف الإنسان ، والهمز العيب في وجهه الإنسان . وقيل : بل الأمر بالعكس لأن من تقاليب همز هزم ، وهو يدل على البعد ، ومن مقلوب اللمز اللزم وهو يدل على القرب فيشمل العيب بالإشارة أيضاً . قوله { ولا تنابزوا } تأديب آخر والنبز بالسكون القذف بالمكروه من الألقاب ، واللقب من الأعلام ما دل على مدح أو ذم ، والنبز بالفتح اللقب القبيح فهو أخص من اللقب كما أن اللقب أخص من العلم .

وإنما قال { ولا تنابزوا } ولم يقل ولا تنبزوا على منوال { ولا تلمزوا } لأن النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالباً فمن ينبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلاً ولا كذلك اللمز فإن الملموز كثيراً ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء فيقع اللمز من جانب واحد فقط . ثم أكد النهي عن التنابز بقوله { بئس الاسم } أي الذكر { الفسوق } وفي قوله { بعد الإيمان } وجوه أحدها : استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول « بئس الشأن الصبوة بعد الشيخوخة » أي معها . وثانيها بئس الذكر أن يذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه ، وكانوا يقولون لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه . وثالثها أن يجعل الفاسق غير مؤمن كما يقال للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة « بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة » فمعنى بعد الإيمان بدلاً عن الإيمان { ومن لم يتب } عما نهي عنه { فأولئك هم الظالمون } لأن الإصرار على المنهي كفر إذ جعل المنهي . كالمأمور فوضع الشيء في غير موضعه قوله { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } فيه تأديب آخر . ومعنى اجتنبوا كونوا منه في جانب . وإنما قال { كثيراً } ولم يقل الظن مطلقاً لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي « أنا عند ظن عبدي بي » قال النبي صلى الله عليه وسلم « لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله » وقال « إن حسن الظن من الإيمان » ومنه ما هو محظور وهو سوء الظن بالله وبأهل الصلاح . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء » وهو الذي أمر في الآية باجتنابه . ومنه ما هو مندوب إليه وهو إذا كان المظنون به ظاهر الفسق وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم « من الحزم سوء الظن » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « احترسوا من الناس بسوء الظن » ومنه المباح كالظن في المسائل الاجتهادية . قال أهل المعاني : إنما نكر { كثيراً } ليفيد معنى البعضية المصرح بها في قوله { إن بعض الظن إثم } ولو عرّف لأوهم أن المنهي عنه هو الظن الموصوف بالكثرة والذي يتصف بالقلة مرخص فيه . والهمزة في الإثم عوض عن الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه . تأديب آخر { ولا تجسسوا } وقد يخص الذي بالحاء المهملة بتطلب الخبر والبحث عنه كقوله { فتحسسوا من يوسف وأخيه } [ يوسف : 87 ] فبالجيم تفعل من الجس ، وبالحاء من الحس . قال مجاهد : معناه خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله .

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته « يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لاتتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع عورته حتى يفضحه ولو كان في جوف بيته » وهذا الأدب كالسبب لما قبله . فلما نهى عن ذلك نهى عن سببه أيضاً . تأديب آخر { ولا يغتب } يقال غابه واغتابه بمعنى ، والاسم الغيبة بالكسر وهي ذكر العيب بظهر الغيب ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال « أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقاً اغتبته وإن كانت كاذباً فقد بهته » ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على أفظع وجه فقال { أيحب } إلى آخره . وفيه أنواع من المبالغة منها الاسفتهام للتقرير ومحبة المكروه ، ومنها إسناد الفعل إلى { أحدكم } ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك ، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان ، ومنها تقييد الإنسان بالأخ ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتاً ففيه مزيد تنفير للطبع . وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلاناً ويمضغونه ، وفلان مضغة للماضغ . شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل . والميت لمزيد التنفير كما قلنا ، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه . أما الفاء في قوله { فكرهتموه } ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه . أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهتكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحق أيضاً أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة . وقال ابن عباس : هي إدام كلاب الناس . وعنه أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة « لبئر من آبار مكة » لغار ماؤها . فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا : ما تناولنا لحماً . فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت . قلت : قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر ، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما . واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق . ففي الحديث « اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس » وروي « من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم »
وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعاً من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال { يا أيها الناس } الآية .

قال بعض الرواة : « إن ثابت بن قيس حين قال » فلان ابن فلانة « قال النبي صلى الله عليه وسلم : من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال : أنا يا رسول الله . فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت؟ قال : رأيت أبيض وأسود وأحمر . قال : فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين » ، فأنزل الله هذه الآية . وعن مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم . وقال الحرث بن هشام : أما وجه محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناَ . وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء . فأتى جبريل عليه السلام فأخبره . وأقول : الآية تزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء . ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي في سوق المدينة غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف النبي صلى الله عليه وسلم : فاشتراه رجل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه فقال : محموم . فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل : هو في ذمائه . فجاءه وتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت . وقوله { من ذكر وأنثى } فيه وجهان : أحدهما من آدم وحوّاء فيدل على أنه لا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة ، والثاني كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم ، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين كالذباب والذئاب مثلاً ، لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين ، لأن الكافر كالأنعام بل أضل ، والمؤمن هو الناس وغيره كالنسناس . والحاصل أن الشيء إما أن يترجح على غيره بأمر يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده ، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله . وهذا القسم إما أن يرجع إلى القابل أو إلى الفاعل كما يقال « كان هذا من النحاس وهذا من الفضة وهذا عمل فلان » فذكر الله سبحانه أنه لا ترجح بحسب الأصل القابل لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا بحسب الفاعل فإن الله هو خالقكم . فإن كان تفاوت فبأمور لاحقة وأحقها بالتمييز هو التقوى لما قلنا ، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب قارونيّ النشب . ثم بين الحكمة التي من أجلها رتبهم على شعوب وقبائل وهي أن يعرف بعضهم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه فقال { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } أي ليقع بينكم التعارف بسبب ذلك لا أن تتفاخروا بالأنساب .

وقيل : الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب . وقال جار الله : الشعب بالفتح الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب . أوّلها شعب وهي أعم سمي بذلك لأن القبيلة تنشعب منها ، ثم قبيلة ، ثم عمارة ، ثم بطن ، ثم فخذ ، ثم فصيلة وهي الأخص مثال ذلك : خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة .
فائدة : لا ريب أن الخلق يستعمل في الأصول أكثر ، والجعل يستعمل فيما يتفرع عليه ، ولهذا قال { خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وقال في الآية { خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل } ولكنه قال في موضع آخر { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فبين أن الأصل في الخلق والغرض الأقدم هو العبادة ليعلم منه أن اعتبار النسب وغيره مؤخر عن اعتبار العبادة فلهذا قال { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفيه معنيان : أحدهما أن التقوى تفيد الإكرام عند الله . والثاني أن الإكرام في حكم الله يورث التقوى والأول أشهر كما يقال « ألذ الأطعمة أحلاها » أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة . عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال « الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها . يا أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية » وعنه صلى الله عليه وسلم « من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله » قال ابن عباس : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى . { إن الله عليم } بظواهركم { خبير } ببواطنكم وحق مثله أن يخشى ويتقى . وحين حث عموم الناس على تقواه وبخ من في إيمانه ضعف . قال ابن عباس : إن نفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر ، وأفسدوا طريق المدينة بالقذاة ، وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله هذه الآيات . أي قالوا آمنا بشرائطه فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم وقال : لن تؤمنوا إيماناً حقيقياً وهو الذي وافق القلب فيه اللسان . { ولكن قولوا أسلمنا } يعني إسلاماً لغوياً وهو الخضوع والانقياد خوفاً من القتل ودخولاً في زمرة أهل الإيمان والسلم . ثم أكد النفي المذكور بقوله { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وفيه فائدة زائدة هي أن يعلم أن الإيمان متوقع منهم لأن « لما » حرف فيه توقع وانتظار .

ثم حثهم على الطاعة بقوله { وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم } أي لا ينقصكم { من } ثواب { أعمالكم شيئاً } يعني الثواب المضاعف الموعود في نحو قوله { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] ألت يألت بالهمز إذا نقص وهي لغة غطفان . يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألت . ولغة أسد وأهل الحجاز لأته ليتاً . وقال قطرب : ولته يلته بمعنى صرفه عن وجهه . فيكون { يلتكم } على وزن « يعدكم » ، وعلى الوجه المتقدم على وزن « يبعكم » . { إن الله غفور رحيم } لمن تاب وأخلص نيته . ثم وصف المؤمنين المحقين بقوله { إنما المؤمنون } ومعنى « ثم » في قوله { ثم لم يرتابوا } كما في قوله { ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 30 ] وارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة أي ثم لم يقع في قلوبهم شك فيما آمنوا به ولا إتهام لمن صدّقوه وذلك بتشكيك بعض شياطين الجن والإنس . وقال جار الله : وجه آخر لما كان زوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مزيته وإشعاراً بأنهم مستقرون على ذلك في الأزمنة المتطاولة غضاً جديداً . وفي قوله { أولئك هم الصادقون } تعريض بأن المذكورين أولاً كاذبون ولهذا قال { قل لم تؤمنوا } إشارة إلى كذبهم في دعواهم ورب تعريض لا يقاومه التصريح . ثم أراد تجهيلهم بقوله { قل أتعلمون الله بدينكم } والباء قيل للسببية والأظهر أنه الذي في قولهم ما علمت بقدومك أي ما شعرت ولا أحطت به . وذكر في أسباب النزول أنه لما نزلت الآية الأولى جاءت هؤلاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية . والاستفهام للتوبيخ أي كيف تعلمونه بعقيدتكم وهو عالم بكل خافية والتعليم إفادة العلم على التدريج والمعالجة؟ وقيل : تعريض من لا يعلم بإفهام المعنى لأن يعلم قوله { يمنون عليك } نزلت في المذكورين وفي أمثالهم . يقال : منّ عليه صنعه إذا اعتدّه عليه منة وإنعاماً . قال أهل العربية : اشتقاق المنة من المن الذي هو القطع لأنه إنما يسدي النعمة إليه ليقطع بها حاجته لا غير من غير أن يعمل لطلب مثوبة وعوض . ثم قال { بل الله يمن عليكم } حيث هداكم للإيمان الذي ادّعيتموه . وفي إضافة الإسلام إليهم ازدراء بإسلامهم ، وفي إيراد الإيمان مطلقاً غير مضاف إشارة إلى الإيمان المعهود الذي يجب أن يكون المكلف عليه . وجواب الشرط محذوف أي { إن كنتم صادقين } في ادعاء الإيمان الحقيقي فلله المنة عليكم . ثم عرض بأنهم غير صادقين فقال { إن الله يعلم } الآية والمراد أنه لا يخفي عليه ضمائرهم والله أعلم بالصواب .
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

القراآت : { ميتاً } بالتشديد : يزيد { وعيدي } وما بعده مثل التي في « إبراهيم » { يوم يقول } بالياء : نافع وأبو بكر وحماد { امتلات } بإبدال الهمزة ألفاً : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف { يوعدون } على الغيبة : ابن كثير { وإدبار } بكسر الهمزة : أبو جعفر ونافع وابن كثير وحمزة وخلف وجبلة { المنادي } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وفي الوصل .
الوقوف : { ق } ط كوفي ولو جعل قسماً فلا يوقف للعطف { المجيد } ه ج لأن « بل » قد يجعل جواب القسم تشبيهاً بأن في التحقيق وفي توكيد مابعده ، وقد يجعل جوابه محذوفاً أي لتبعثن { تراباً } ج لأن ذلك مبتدأ إلا أن المقوم واحد { بعيد } ه { منهم } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { حفيظ } ه { مريح } ه { فروج } ه { بهيج } ه لا لأن { تبصرة } مفعول لأجله { منيب } ه { الحصيد } ه لا لأن النخل معطوف على الجنات والحب { نضيد } ه لا لأن المراد أنبتناها لأجل الرزق { للعباد } ط للعطف { ميتاً } ط { لخروج } ه { وثمود } ه { لوط } ه لا { تبع } ط { وعيد } ه { الأول } ط { جديد } ه { نفسه } ج وجعل ما بعدها حالاً أولى من الاستئناف فيوقف على الوريد و « إذا » يتعلق بمحذوف وهو « أذكر » أبو بقوله { ما يلفظ } فلا يوقف على { قعيد } . { عتيد } ه { بالحق } ط { تحيد } ه { الصور } ط { الوعيد } ه { وشهيد } ه { حديد } ه { عتيد } ه لتقدير القول { عنيد } ه لا { مريب } ه لا بناء على أن ما بعده صفة أخرى ولو جعل مبتدأ لتضمنها معنى الشرط أو نصباً على المدح فالوقف { الشديد } ه { بعيد } ه { بالوعيد } ه { للعبيد } ه { مزيد } ه { بعيد } ه { حفيظ } ه ج لاحتمال أن تكون « من » شرطية جوابها القول المقدر قبل أدخلوها أو موصولة بدلاً من لكل { منيب } ه { بسلام } ط { الخلود } ه ط { مزيد } ه { البلاد } ط للاستفهام . قال السجاوندي : وعندي أن عدم الوقف أولى لأن النقب وهو البحث والتفتيش وأقع على جملة الاستفهام . { محيص } ه { شهيد } ه { لغوب } ه { الغروب } ج لاحتمال تعلق الجار بما قبله وبما بعده { السجود } ه { قريب } ه لا لأن ما بعده بدل { بالحق } ط { الخروج } ه { المصير } ه لا لتعلق الظرف { سراعاً } ط { يسير } ه { وعيد } ه .
التفسير : قيل : إن قاف اسم جبل من زبرجد أخضر محيط بالأرض وخضرة السماء منه . وقيل : قادر أو قاهر ونحو ذلك من أسماء الله مما أوله قاف . وقيل : قضي الأمر . وقيل : قف يا محمد على أداء الرسالة . والأقوال المشتركة بين الفواتح مذكورة ، وإعراب فاتحة هذه السورة كإعراب أول « ص » ، وبينهما مناسبة أخرى من قبل وقوع الإضراب بعد القسم ووجهه ما مر .

ومن قبل أن أكثر مباحث تلك السورة في المبدأ والتوحيد . وفي أوّل خلق البشر ، وأكثر أبحاث هذه السورة في الحشر والخروج ولهذا سنت قراءتها في صلاة العيد لأنه يوم الاجتماع وخروج الناس إلى الفضاء . والمجيد ذو المجد حقيقة في القرآن لأنه أشرف من سائر الكتب أو مجاز باعتبار قارئه وعالمه والعامل به . ومعنى { منذر منهم } أي من جنسهم أو من بينهم فتوجه العجب إلى الإنذار بالبعث أوّلاً ثم إلى كون المنذر منهم ، ولعل الأول أدخل عندهم في استحقاق التعجب منه فلهذا أشاروا إليه بقولهم { هذا } الرجع أو البعث { شيء عجيب } أبهم الضمير أوّلاً في { عجبوا } ثم فسره ثانياً في قوله { فقال الكافرون } أو اقتصر على الضمير أوّلاً للتعليم بهم ثم وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً علهيم بالكفر . ثم زادوا في التعجب والتعجيب بقولهم { أئذا متنا } والتقدير انبعث وقت الموت والصيرورة تراباً { ذلك } الرجع أي البعث { رجع بعيد } أي يستبعد في العقول . وقيل : إنه من كلام الله عز وجل . والرجع بمعنى الجواب أي جواب هؤلاء الكفار في دعوى المنذر جواب بعيد عن حيز العقل لدلالة البراهين الساطعة على وجود الحشر والنشر منها شمول علم الله تعالى بأجزاء الميت على التفصيل ، وإلى هذا أشير بقوله { قد علمنا ما تنقص الأرض } من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم . عن النبي صلى الله عليه وسلم « كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب » وعن السدي : ما تنقص الأرض منهم بالموت ويدفن في الأرض منهم { وعندنا كتاب } هو اللوح المحفوظ من التغيير ومن الشياطين . ثم أتبع الإضراب الأول إضراباً آخر فقال { بل كذبوا } والمقصود أن تكذيبهم { بالحق } الذي هو محمد أو القرآن أو الأخبار بالبعث في أوّل وهلة من غير تدبر أفظع من تعجبهم . والمريج أمر دينهم المضطرب المخلوط بالشبهات والشكوك ولهذا نسبوا القرآن تارة إلى السحر وأخرى إلى الشعر أو الكهانة وقالوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك . ثم استدل على حقية المبدأ والمعاد بوجوه أخر : منها بناء السماء ورفعها بلا عمد ولا فروج أي شقوق وفتوق ولكنها صحيحة الاستدارة من جميع الجوانب . وليس في الآية دلالة على امتناع الخرق على السماء لأن الإخبار عن عدم الوقوع لا ينافي إمكانه . نعم إنه مناف لوجود نحو الأبواب فيها ظاهراً اللهم إلا أن تدعي المغايرة بين الفروج والأبواب . وفي قوله { فوقهم } مزيد توبيخ لهم ونداء عليهم بغاية الغباوة . ومنه مدّ الأرض أي دحوها . ومنها خلق الجبال الرواسخ . ومنها خلق أصناف النبات مما يبتهج به ويروق الناظر لخضرته ونضرته كل ذلك ليتبصر به ويتذكر من يرجع إلى ربه ويفكر في بدائع المخلوقات ويرتقي إلى الصانع من المصنوعات .

ومنها إنزال ماء المطر الكثير المنافع المنبت للجنات والحبات . والحصيد صفة موصوفة محذوفة أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة وغيرها من الأقوات ونحوها . والباسقات التي طالت في السماء ، والطلع أوّل ما يبدو من من ثمر النخيل ، والنضيد الذي نضد بعضه فوق بعض ، والمراد كثرة الطلع وتراكمه المستتبع لكثرة الثمر . ثم شبه بإحياء الأرض خروج الموتى كما قال في الروم { وكذلك تخرجون } [ الآية : 19 ] ثم هدّدهم بأحوال الأمم السالفة وقد مر قصصهم مراراً . وأما حديث أصحاب الرس فلم يذكر إلا في « الفرقان » وحديث تبع في « الدخان » . وأراد بفرعون قومه لأن المعطوف عليه أقوام { فحق وعيد } مثل { فحق عقاب } [ ص : 14 ] وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم . ثم دل على الحشر بضرب آخر من البيان وهو أن الذي لم يعي أي لم يعجز عن الخلق الأول بالنسبة إلى أيّ مخلوق فرض كيف يعجز عن الإعادة؟ واللبس الخلط والشبهة ، وتنكير اللبس والخلق الجديد للتعظيم أي لبس عظيم ، وخلق له شأن وحق عليه أن يهتم به ولا يغفل عنه .
ثم شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم الله سبحانه وعظيم قدرته على بدئه وإعادته . والوسوسة الصوت الخفي . والباء في { به } للتعدية و « ما » مصدرية أي نعلم جعل نفسه إياه موسوساً . والقرب مجاز عن العلم التام كقولهم « هو منى مقعد القابلة ومعقد الإزار » وما في الآية دل على الإفراط في القرب لأن الوريد جزء من بدن الإنسان يريد أن علمه ينفذ في بواطن الأشياء نفود الدم في العروق . والوريد العرق الحامل للدم سوى الشرايين ، سمي وريداً لأن الروح أو الدم يرده . والوريدان عرقان يكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها يتشعبان من الرأس يتصلان بالوتين . والحبل العرق أيضاً شبه بواحد الحبال والإضافة للبيان كإضافة العام إلى الخاص . قال جار الله : « إذ » منصوب ب { أقرب } والمراد أنه أقرب نم الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به . وفيه أن كتابة الملكين لا حاجة إليها لعلام الغيوب وإنما هي لأغراض أخر كإلزام العبد واستحيائه منهما . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن مقعد ملكيك على - ثنييك أي عطفيك - ولسانك قلهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منهما » ويجوز أن يكون تلقى الملكين بياناً للقرب فكأنه قيل : لا يخفى عليه شيء لأنه حفظته موكلون به . والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة ، والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس ، والتقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فاختصر المفاعلة . وإما بالنسبة إلى الملك الآخر وإما بالإضافة إلى الإنسان ، والعتيد الحاضر .

قال أكثر المفسيرين : إنهما يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقيل : لا يكتبان إلا الحسنات والسيئات . وقيل : إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه . وحين حكى إنكارهم البعث واحتج عليهم بالدلائل الباهرة أخبر عن قرب القيامتين الصغرة والكبرى بأن عبر عنهما بلفظ الماضي وهو قوله { وجاءت سكرة الموت } ونفخ في الصور وسكرات الموت حالاته الذاهبه بالعقل . والباء في { بالحق } للتعدية أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلبة الحال من تحقق وقوع الموت أو من سعادة الميت أو ضدّها كما نطق بها الكتاب والسنة ، أو المراد وجاءت ملتبسة بالغرض الصحيح الذي هو ترتب الجزاء على الأعمال { ذلك } المجيء { ما كنت منه تحيد } أي تميل وتهرب أيها الإنسان . ولا ريب أن هذا الهرب للفاجر يكون بالحقيقة وللبر يكون بسبب نفرة الطبع إلا أنه إذا فكر في أمر نفسه وما خلق هو لأجله علم أن الموت راحة وخلاص عن عالم الآفات والبليات . قوله { ذلك يوم الوعيد } إشارة إلى النفخ والمضاف محذوف أي وقت النفخ الثاني آن زمان الوعيد . والسائق والشاهد ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر أو إلى الجنة أو النار كما قال { وسيق } والآخر يشهد عله بأعماله ويجوز أن يكون ملكاً واحداً جامعاً بين الأمرين . ويجوز أن يكون الرقيب المذكور والجملة حال من كل لأنه لعمومه كالمعرفة . ثم يقال للإنسان . { لقد كنت } في الدنيا { في غفلة من هذا } الأمر { فكشفنا عنك } بقطع العلائق الحسية ومفارقة النفس الناطقة { غطاءك } وهو الاشتغال بعالم المحسوسات { فبصرك اليوم حديد } غير كليل متيقظ غير نائم . وقال ابن زيد : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] أي كنت قبل الوحي في غفلة من هذا العلم . ثم بين أن الشيطان الذي هو قرين كل فاجر لقوله { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطان } [ الزخرف : 36 ] يقول لأهل المحشر أو لسائر القرناء قد أعتدت قريني لجهنم وهيأته لها . إن جعلت « ما » موصوفة ف { عتيد } صفة لها وإن جعلتها موصولة ف { عتيد } بدل أو خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف . ويحتمل أن يقول الشيطان لقرينه هذا البلاء النازل بك مما أعددته لك { ألقيا } خطاب من الله للملكين السائق والشهيد أو للواحد على عادة قول العرب « خليلي » و « قفا » . وذلك أن أكثر الرفقاء يكون ثلاثة . وقال المبرد : التثنية للتأكيد كأنه قيل : ألق ألق . نزلت تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل لاتحادهما . وجوز أن يكون الألف بدلاً من نون التأكيد الخفيفة إجراء للوصل مجرى الوقف يؤيده قراءة الحسن { ألقين } . { عنيد } ذي عناد أو معاند { مناع للخير } كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله .

وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة كان يمنع بني أخيه من الإسلام وكان يقول : من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بخير ما عشت . { معتد } ظالم { مريب } مشكك أو شاك في دين الله . قوله { قال قرينه } جاء على طريقة الاستئناف بخلاف ما تقدّم فإنه جاء على طريق العطف كأن قرينه - وهو الفاجر - قال : يا رب إنه أطغاني فأجاب القرين وهو الشيطان { ربنا ما أطغيته } ما أوقعته في الطغيان { ولكن كان } في الأزل { في ضلال بعيد } وقالت المعتزلة : ولكنه اختار الضلالة على الهدى .
ثم ذكر كلاماً آخر مستأنفاً كأن سائلاً سأل فماذا قال الله؟ فقيل : { قال لا تختصموا } وهذا هو الذي دل على أن ثمة مقاولة من الكافر لكنها طويت لدلالة الاختصام عليها والمعنى لا تختصموا في موقف الحساب { و } الحال أني { قد قدمت إليكم } وفيه أن اختصامهم كان يجب أن يكون قبل ذلك في الدنيا كما قال { إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّاً } [ فاطر : 6 ] والباء في { بالوعيد } إما مزيدة أو للعتدية على أن قدّم بمعنى تقدّم أو هو حال والمفعول جملة . قوله { ما يبدّل } إلى آخره . أي قدّمت إليكم هذا الكلام مقروناً بالوعيد . قال في الكشاف : فإن قلت : إن قوله { وقد قدّمت } حال من ضمير { لا تختصموا } فاجتماعهما في زمان واحد واجب وليس كذلك لأن التقديم في الدنيا والاختصام في الآخرة . قلت : معناه لا تختصموا وقد صح عندكم أني قدّمت إليكم بالوعيد وصحة ذلك عندهم في الآخرة . وأقول : لا حاجة إلى هذا التكلف والسؤال ساقط بدونه لأن مضيّ الماضي ثابت في أيّ حال فرض بعده . وقوله { لدي } إما أن يتعلق بالقول أي ما يبدّل القول الذي هو لديّ يعني ألقيا في جهنم ، أو لأملأن جهنم ، أو الحكم الأزلي بالسعادة والشقاوة . وإما أن يتعلق بقوله { ما يبدّل } أي لا يقع التبديل عندي . والمعاني كما مرت . ويجوز أن يراد لا يكذب لديّ ولا يفتري بين يديّ فإني عالم بمن طغى وبمن أطغى . ويحتمل أن يراد لا تبديل للكفر بالإيمان فإن إيمان اليأس غير مقبول . فقولكم « ربنا وإلهنا » لا يفيدكم { يوم نقول } منصوب ب { ظلام } أو ب « أذكر » قال أهل المعاني : سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تقرير المعنى في النفس . وقوله { هل من مزيد } أي من زيادة ، أو هو اسم مفعول كالمبيع ليبان استكثار الداخلين كما أن من يضرب غيره ضرباً مبرحاً أو شتمه شتماً فاحشاً يقول له المضروب : هل بقي شيء آخر يدل عليه قوله سبحانه { لأملأن جهنم } فلا بدّ أن يحصل الامتلاء فكيف يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد؟ ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظاً على العصاة وتضيقاً للمكان عليهم ، أو لعل هذا الكلام يقع قبل إدخال الكل .

وفيه لطيفة وهي أن جهنم تغيظ على الكفار فتطلبهم ، ثم يبقى فيها موضع لعصاة المسلمين فتطلب الامتلاء من الكفار كيلا ينقص إيمان العاصي حرها ، فإذا أدخل العصاة النار سكن غيظها وسكن غضبها وعند هذا يصح ما ورد في الأخبار ، وإن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار فيها قدمه والمؤمن جبار يتكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله . وروي أنه لا يلقى فيها فوج إلا ذهب ولا يملؤها شيء فتقول : قد أقسمت لتملأني فيضع تعالى فيها قدمه أي ما قدّمه في قوله « سبقت رحمتي غضبي » أي يضع رحمته فتقول : قط قط ويزوي بعضها إلى بعض ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله خلقاً فيسكنون فضول الجنة . قلت : لا ريب أن جهنم الحرص والشهوة والغضب لا تقر ولا تسكن ولا تنتهي إلى حدّ معلوم ، بل تقول دائماً بلسان الحال هل من مزيد إلا أن يفيض الله سبحانه عليها من سجال هدايته ورحمته فيتنبه صاحبها وينتهي عن طلب الفضول ويقف في حدّ معين ويقنع بما تيسر ، وكذا الترقي في مدارج الكمالات ليس ينتهي إلى حدّ معلوم إلا إذا استغرق في بحر العرفان وكان هنالك ما كان كما قال { وأزلفت الجنة للمتقين } أي قربت للمتقين يحتمل أن تكون الواو للاسئناف وأن تكون للعطف على { نقول } والمضي لتحقيق الوقوع المستدعي لمزيد البشارة ولم يكن المنذرون مذكورين في الآية المتقدّمة فلم يحتج إلى تحقيق الإنذار . وقوله { غير بعيد } نصب على الظرف أي مكاناً غير بعيد عنهم ، أو على الحال . ووجه تذكيره مع تأنيث ذي الحال كما تقرر في قوله { إن رحمة الله قريب } [ الأعراف : 56 ] أنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل ، أو هو على حذف الموصوف أي شيئاً غير بعيد . قال جار الله : معناه التوكيد كما تقول هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل ، وذلك أنه يجوز أن يتناول العزيز ذلّ ما من بعض الوجوه إلا أن الغالب عليه العز فإذا قيل عزيز غير ذليل أزيل ذلك الوهم ، وهكذا في كل تأكيد . فمعنى الآية أن الجنة قريب منهم بكل الوجوه وجميع المقايسات . وقال آخرون : إنه صفة مصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد عن قدرتنا ، وذلك إن المكان لا يقرب وإنما يقرب منه فذكر الله سبحانه إن إزلاف المكان ليس ببعيد عن قدرتنا بطيّ المسافة وغير ذلك . ويحتمل أن يقال : الإزلاف بمعنى قرب الحصول كمن يطلب من الملك أمراً خطيراً فيقول الملك بعيد عن ذلك أو قريب منه ، ولا ريب أن الجنة بعيدة الحصول للمكلف لولا فضل الله ورحمته ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « ما من عبد يدخل الجنة إلا بفضل الله . فقيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته »

وقوله { غير بعيد } يراد به القرب المكاني كأنه تعالى ينقل الجنة من السماء إلى الأرض فيحصل فيها المؤمن . ومما سنح لهذا الضعيف وقت كتبه تفسير هذه الآية أن الشيء ربما يقرب من شخص ولكن لا يوهب منه ، وقد يملكه ولكن لا يكون قريباً منه فذكر الله سبحانه في الآية إن الجنة تقرب لأجل المتقين غير بعيد الحصول لهم بل كما قربت دخلوها وحصلوا فيها لا كما قيل :
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
وفي المثل البعيد القريب خير من القريب البعيد وذلك لأنهم حصلوا استعداد دخول الجنة وهو التقوى بخلاف الفاجر فإنه لا ينفعه القرب من الجنة لأن ملكاته الذميمة تحول بينه وبينها . ولك أن تشبه حالهما بحال الكبريت الجيد والحطب الرطب إذا قربا من الجمر ، وذلك أن تعتبر هذه الحالة في الدنيا فإن أهل الصلاح وأرباب النفوس المطمئنة يقبلون بل يستقبلون كل خير يعرض عليهم ، وأهل الشقاوة وأصحاب النفوس الأمارة يكون حالهم بالعكس يفرون من الخيرات والكمالات ويألفون الشرور واللذات الزائلات . ووجه آخر وهو أن الجنة قربت لهم حال كون كل واحد منهم غير بعيد عن لقاء الله ورضاه ، وفيه أن المتقين هم أهل الله وخاصته ليسوا بمن شغلوا بالجنة عن الاستغراق في لجة العرفان بل لهم مع النعيم المقيم لقاء الرب الكريم . قوله عز من قائل { هذا ما توعدون } قال جار الله : إنه جملة معترضة . وقوله { لكل أوّاب حفيظ } بدل من قوله { للمتقين } قلت : ولو جعل خبراً ثانياً لهذا لم يبعد . والمشار إليه الثواب أو الإزلاف . والأوّاب الرجاع إلى الله بالإعراض عما سواه ، والحفيظ الحافظ لحدود اللهأو لأوقات عمره أو لما يجده من المقامات والأحوال فلا ينكص على عقبيه فيصير حينئذ مريداً لطريقه . قوله { من خشي } قد مر وجوه إعرابه في الوقوف . وجوز أن يكون منادي كقولهم « من لا يزال محسناً أحسن إليّ » وحذف حرف النداء للتقريب والترحيب ، وقرن بالخشية اسمه الدال على وفور الرحمة للثناء على الخاشي من جهة الخشية أوّلاً ومن جهة خشيته مع علمه بسعة جوده ورحمته ومن جهة الخشية مع الغيب وقد مر مراراً ، وقد يقال : إنها الخشية في الخلوة حيث لا يراه أحد . قال أهل الاشتقاق : إن تركيب خ ش ى يلزمها الهيبة ومنه للسيد ولكبير السن وتركيب الخوف يدل على الضعف ومنه الخفاء ، وكل موضع ذكر فيه الخشية أريد بها معنى عظمة المخشي عنه ، وكل موضع ذكر فيه الخوف فإنه أريد ضعف الخائف كقوله { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] أو ضعف المخوف منه كقوله { لا تخف ولا تحزن } [ العنكبوت : 33 ] يريد أنه لا عظمة لهم وقال { إنا نخاف من ربنا يوماً }

[ الإنسان : 10 ] لأن عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله هينة . ووصف القلب بالمنيب باعتبار صاحبه أو لأن الإنابة المعتبرة هي الرجوع إلى الله بالقلب لا اللسان والجوارح { ادخلوها بسلام } أي سالمين من الآفات أو مع سلام من الله وملائكته { ذلك } إشارة إلى قوله { يوم نقول } أي ذلك اليوم { يوم } تقدير { الخلود } في النار أو في الجنة ويجوز أن يكون إشارة إلى وقت القول أي حين يقال لهم ادخلوها هو وقت تقدير الخلود في الجنة يؤيده قوله بعده { لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } مما لم يخطر بالقلوب . ويجوز أن يراد به الذي ذكر في قوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] ويروى أن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطر عليهم الحور فتقول الحور : نحن المزيد الذي قال الله تعالى { ولدينا مزيد } .
ثم عاد إلى التهديد بوجه أجمل وأشمل قائلاً { وكم أهلكنا } الآية . ومعنى الفاء في قوله { فنقبوا } للتسبيب عما قبله من الموت كقوله « هو أقوى من زيد فغلبه » أي شدّة بطشم أقدرتهم على التنقيب وأورثتهم ذلك وساروا في أقطار الأرض وسألوا { هل من محيص } أي مهرب من عذاب الله فعلموا أن لا مفر { إن في ذلك } الذي ذكر من أوّل السورة إلى ههنا أو من حديث النار والجنة أو من إهلاك الأمم الخالية { لذكرى لمن كان له قلب } واع فإن الغافل في حكم عديم القلب وإلقاء السمع الإصغاء إلى الكلام وفي قوله { وهو شهيد } إشارة إلى أن مجرد الإصغاء لا يفيد ما لم يكن المصغي حاضراً بفطنته وذهنه . وفي الآية ترتيب حسن لأنه إن كان ذا قلب ذكيّ يستخرج المعاني بتدبره وفكره فذاك وإلا فلا بد أن يكون مستمعاً مصغياً إلى كلام المنذر ليحصل له التذكير . قال المفسرون : زعمت اليهود إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش فردّ الله عيلهم بقوله { ولقد خلقنا } إلى قوله { وما مسنا من لغوب } أي إعياء . ثم سلى رسوله فأمره بالصبر على أذى الكفار . وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى مع كمال قدرته واستغنائه صبر على أذى الجهلة الذين نسبوه إلى اللغوب والاحتياج إلى الاستراحة ، فكيف لا يصبر رسوله على إيذاء أمته؟ بل كيف لا يصبر أحدنا على أذى أمثالنا وخاصة إن كانوا مسلطين علينا؟ اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا وادفع عنا بقدرتك شر كل ذي شر واغوثاه واغوثاه واغوثاه . وقد سبق نظير الآية في آخر « طه » ودلالتها على الصلوات الخمس ظاهرة { وأدبار السجود } أعقاب الصلوات فإن السجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة ، والأظهر أنه الأدعية والأذكار المشتملة على تنزيه الله تعالى وتقديسه . قيل : النوافل بعد المكتوبات .

وعن ابن عباس : هو الوتر بعد العشاء . ومن قرأ بكسر الهمزة أراد انقضاء الصلاة وإتمامها وهو مصدر وقع موقع الظرف أي وقت انقضاء السجود كقولك « آتيك خفوق النجم » . قال أهل النظم : إن النبي صلى الله عليه وسلم له شغلان : أحدهما عبادة الله ، والثاني هداية الخلق . فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له : اصبر واقبل على شغلك الآخر وهو العبادة . ثم بين غاية التسبيح بقوله { واستمع } يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] ومفعول { استمع } متروك أي كن مستمعاً لما أخبرك به من أهوال القيامة ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين . قال جار الله : وفي ترك المفعول وتقديم الأمر بالاستماع تعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل : يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك . وانتصب { يوم ينادي } بما دل عليه ذلك يوم الخروج أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . والمنادي قيل الله كقوله { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي } [ القصص : 32 ] { أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم } [ الصافات : 22 ] والأظهر أنه إسرافيل صاحب الصيحة ينفخ في الصور فينادي أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : إسرافيل ينفخ وجبرائيل ينادي بالحشر . والمكان القريب صخرة بيت المقدس . يقال إنها أقرب إلى السماء باثني عشر ميلاً . وقيل : من تحت أقدامهم . وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية وهذا يؤيد القول بأن المنادي هو الله لقوله { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } والصيحة النفخة الثانية كما قال { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع } [ يس : 53 ] وقوله { بالحق } متعلق بالصيحة والمراد به البعث للجزاء أي بسبب الحق الذي هو البعث . ويجوز أن يتعلق بالسماع أي أي يسمعونها باليقين . وقيل : الباء للقسم أي بالله الحق . قوله { سراعاً } حال من المجرور أي ينكشف عنهم مسرعين { ذلك } الشق أو الحشر { حشر علينا يسير } لا على غيرنا وهو ردّ على قولهم { ذلك رجع بعيد } . { نحن أعلم بما يقولون } أي من المطاعن والإنكار وفيه تهديد لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { وما أنت عليهم بجبار } أي بمسلط حتى تقسرهم على الإيمان وإنما أنت داع . ولعل في تقديم الظرف إشارة إلى أنه كالمسلط على المؤمنين ولهذا وقع إيمانهم وهذا مما يقوّي طرف المجبرة . وقيل : أراد إنك رؤوف رحيم بهم لست فظاً غليظاً . والأول أولى بدليل قوله { فذكر } إلى آخر أي اترك هؤلاء وأقبل على دعوة من ينتفع بتذكيرك والله أعلم .
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

القراآت : { والذاريات ذرواً } بإدغام التاء في الذال : حمزة وأبو عمرو { ومثل ما } بالضم : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص . الباقون : { مثل } بالفتح على البناء لإضافته إلى غير متمكن ، أو على أنه لحق حقاً مثل نطقكم { سلم } بكسر السين وسكون اللام : حمزة علي وخلف والمفضل { والصعقة } بسكون العين للمرة : علي { وقوم نوح } بالجر : أبو عمرو وعلي وخلف
الوقوف : { ذرواً } ط { وقراً } ه لا { يسراً } ه لا { أمراً } ه ط { لصادق } ه لا { لواقع } ه { الحبك } ه لا { مختلف } ه لا { أفك } ه ط { الخراصون } ه لا { ساهون } ه لا لأن { يسألون } صلة بعد صلة ، { الدين } ه ط بناء على أن عامل يوم منتظر أي يقال لهم ذوقوا { يفتنون } ه { فتنتكم } ط { تستعجلون } ه { وعيون } ه لا { ربهم } ط { محسنين } ه ط { يهجعون } ه { يستغفرون } ه { والمحروم } ه { للموقنين } ه ط للعطف { أنفسكم } ط { تبصرون } ه { توعدون } ه { تنطقون } ه { المكرمين } ه م لأن عامل « إذ » محذوف وهو « اذكر » ولو وصل لأوهم أنه ظرف للإتيان { سلاماً } ط { سلام } ج { لحق } المحذوف مع اتحاد القائل أي أنتم قوم { منكرون } ه { سمين } ه لا للعطف { تأكلون } ه للآية مع العطف { خيفة } ط { لا تخف } ه { عليم } ه { عقيم } ه { كذلك } لا للتعلق بما بعده { ربك } ط { العليم } ه { المرسلون } ه { مجرمين } ه { طين } ه { للمفسرين } ه { المؤمنين } ه ج للآية مع العطف بالفاء واتصال المعنى { المسلمين } ه ط كذلك { الأليم } ه لتناهي القصة وحكم العربية ولوصل للعطف على قوله { وفي الأرض آيات } { مبين } ه { مجنون } ه { مليم } ه كما مر { العقيم } ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي غير تاركته { كالرميم } ه { حين } ه { ينظرون } ه { منتصرين } ه لا على القراءتين فيما بعده للعطف أي وفي قوم نوح أو وأخذنا قوم نوح ولو قدر واذكر قوم نوح فالوقف { قبل } ج { فاسقين } ه { لموسعون } ه { الماهدون } ه { تذكرون } ه { إلى الله } ط { مبين } ه للآية مع العطف { آخر } ط { مبين } ه { أو مجنون } ه { أتواصوا به } ج لأن « بل » للإضراب معنى مع العطف لفظاً { طاغون } ه { بملوم } ه لا للآية مع اتفاق الجملتين { المؤمنين } ه { ليعبدون } ه { يطعمون } ه { المتين } ه { يستعجلون } ه { يوعدون } ه .
التفسير : لما بين في آخر السورة أنهم بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم مصرون على إنكار الحشر ، ولهذا سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار } [ ق : 45 ] لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان فلذلك افتتح بذلك . عن علي كرم الله وجهه أنه قال علىلمنبر : سلوني قبل أن تفقدوني وإن لا تسألوني لا تسألوا بعدي مثلي .

فقال ابن الكواء فقال : ما الذاريات؟ قال : الرياح . وقد مر في الكهف في قوله { تذروه الرياح } [ الآية : 45 ] قال : فالحاملات وقراً؟ قال رضي الله عنه : السحاب لأنها تحمل المطر . وإنما لم يقل أوقاراً باعتبار جنس المطر وهو واحد . قال : فالجاريات يسراً؟ قال رضي الله عنه : الفلك والمراد جريان اليسر . قال : فالمقسمات أمراً؟ قال رضي الله عنه : الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك فيكون مصدراً في موضع الحال . ومعنى الفاء فيها ظاهر لأنه تعالى أقسم بالرياح فبالسحاب الذي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوباتها كأن ماء البحر أو مدده من السحاب فلذلك أخر . ثم أقسم بالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر . وقيل : إن الأوصاف الأربعة كلها للرياح لأنها تذروا التراب وغيره أولاً ، ثم تنشىء السحاب وتحمله . ولا ريب أن السحاب حمل ثقيل ولا سيما إذا كان فيه مطر ثم تجري - أعني الرياح - في الجو جرياً سهلاً في نفسها أي لا يصعب عليها الجري أو بالنسبة إلينا بخلاف الصرصر والعاصف ونحوها فتبسط السحاب في السماء ثم تقسم الأمطار في الأقطار بتصريف السحاب وقد روعي في ذكر وهذه الأوصاف لطيفة فإن الحشر يتم إمكانه بها لأن أجزاء بدن المكلف إن كانت في الأرض فتميز الريح بينهما بالذرو ، وإن كانت في الهواء فتحملها بالنقل ، وإن كانت في البحر فتخرجها بإنشاء السحاب منها إذ الذي قدر على إجراء السفن في البحار يقدر على إخراج تلك الأجزاء منها إلى البر . وبعد ذلك تقسم الملائكة أرواح الخلائق على أجسادها بإذن الله تعالى . وقيل : المقسمات الكواكب السبعة . وجواب القسم { إن ما توعدون } و « ما » مصدرية أو موصولة { لصادق } في نفسه كما يقال « خبر صادق » أو « ذو صدق » كعيشة راضية . ثم صرح بالموعود قائلاً { وإن الدين } أي الجزاء { لواقع } أي حاصل . وحين أقسم على صدق موعوده أقسم على جهلهم وعنادهم ، والحبك الطرائق كطرائق الرمل ، والماء إذا ضربته الريح ويقال : إن خلقة السماء كذلك واحدها حباك ، وقال الحسن : حبكها نجومها لأنها تزينها كما تزين الموشيّ يكون بطرائق الوشي . وقيل : حبكها صفاقتها وإحكامها يقال للثوب الصفيق « ما أحسن حبكه » . وعلى القول الأول يكون بين القسم والمقسم عليه مناسبة لأن القول المختلف له أيضاً طرائق ، قال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً وإنما هو متناقض مختلف ولهذا قالوا للرسول شاعر مجنون ، وللقرآن مثل ذلك ، وعن قتادة : أراد منكم مصدّق ومكذب ومقر ومنكر . والضمير في { يؤفك عنه } للقرآن أو النبي أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف بعده لأنه غاية ونهاية .

ويمكن أن يقال : يصرف عنه من صرف في سابق علم الله ، ويجوز أن يكون الضمير للموعود أقسم بالذاريات وغيرها أن وقوعه حق ، ثم أقسم بالسماء أنهم مختلفون في وقوعه يؤفك عن الإقرار به من هو عديم الاستعداد ، مغمور في الجهل والعناد . وجوّز جار الله أن يرجع الضمير إلى { قول مختلف } ويكون « عن » كما قوله
ينهون عن أكل وعن شرب ... أي يتناهون في السمن من كثرة الأكل والشرب وحقيقته يصدر تناهيهم في السمن من الأكل والشرب وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف . ثم دعا عليهم بقوله { قتل الخرّاصون } أي الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم المعهودون وأعم فيشملهم شمولاً أولياً . ولا يراد بهذا الدعاء وقوع القتل بعينه بل اللعن وما يوجب الهلاك بأي وجه كان . وقد لا يراد إلا تقبيح حال المدعو كقوله { قتل الإنسان ما أكفره } والغمرة كل ما يغمر الإنسان أي إنهم في جهل يغمرهم غافلون عما أمروا به { أيان يوم الدين } أي متى وقوعه؟ ثم أجاب بقوله { يوم هم } أي يقع في ذلك اليوم . ومعنى { يفتنون } يحرقون ويعذبون . ثم وبخهم وتهكم بهم قائلاً { ذوقوا } إلى آخره . وحين حكى حال الفاجر الشقي أراد أن يبين حال المؤمن التقي فقال { إن المتقين في جنات وعيون } أي في جنات فيه عيون حال كونهم { آخذين ما آتاهم ربهم } قال جار الله : قابلين لكل ما أعطاهم راضين به لا كمن يأخذ شيئاً على سخط وكراهية . وقال غيره : أراد أنهم يأخذونه شيئاً فشيئاً ولا يستوفون ذلك بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له . وقيل : الأخذ بمعنى التملك يقال : بكم أخذت هذا كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم . قال : إن فيض الله تعالى لا ينقطع أصلاً وإنما يصل إلى كل مكلف بقدر ما استعد له ، فكلما ازداد قبولاً ازداد تأثراً من الفيض والأخذ في هذا المقام لعله إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية ، وذلك لما أسلفوا من حسن العبادة ووفور الطاعة ولهذا علله بقوله { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } أي في الدنيا وظهر عليهم بعد قطع التعلق آثار الإحسان ونتيجته . وقوله { ما آتاهم } على المضي لتحقق الإيتاء مثل { ونادى } [ الأعراف : 38 ] { وسيق } [ الزمر : 72 ] وقال أهل العرفان : ما آتاهم في الأزل يأخذون نتائجه في الأبد . ثم فسر إحسانهم بقوله { كانوا قليلاً من الليل يهجعون } « ما » صلة أي كانوا ينامون في طائفة قليلة من الليل أو يهجعون هجوعاً قليلاً . وجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة . وارتفع « ما » مع الفعل على أنه فاعل قليلاً من الليل هجوعهم أو الذي يهجعون فيه . وفيه أصناف ن المبالغة من جهة لفظ الهجوع وهو النوم اليسير ، ومن جهة لفظ القلة ، ومن جهة التقييد بالليل لأنه وقت الاستراحة فقلة النوم فيه أغرب منها في النهار ، ومن جهة ما المزيدة على قول .

ولا يجوز أن تكون « ما » نافية لان ما بعدها لا يعمل فيما قبلها . وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار وكأنهم باتوا في معصية الملك الجبار . وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم . ثم يستقله ويعتذر ، واللئيم بالعكس يأتي بأقل شيء ثم يمن به ويستكثر . ومثله المطيع يأتي بغاية مجهوده من الخدمة ثم ينسب نفسه إلى التقصير فيستغفر . ويمكن أن يقال : إنهم يستغفرون من الهجوع كأنهم أرادوا أن يقوموا على إحياء الليل كله . ويجوز أن يكون الاستغفار بمعنى الصلاة لقوله بعده { في أموالهم حق } فيكون كقوله { يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } [ البقرة : 3 ] ووجه أغرب وهو أن يكون السين في استغفر مثله في استحصد الزرع أي حان أن يحصد فكأن وقت السحر وهو الأولى بحصول المغفرة . قال جار الله : في قوله { هم يستغفرون } إشارة إلى أنهم هو المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين . وقيل : إبراز الضمير لدفع وهم من يظن أن التقدير وبالأسحار قليلاً يستغفرون على قياس الفعل السابق .
وحيث ذكر جدهم في التعظيم لأمر الله أردفه بذكر شفقتهم على خلق الله . والمشهور في الحق أنه القدر الذي علم إخراجه من المال شرعاً وهو الزكاة قيل : إنه على هذا لم يكن صفة مدح لأن كل مسلم كذلك بل كل كافر وذلك إذا قلنا إنه مخاطب بالفروع إلا أنه إذا علم سقط عنه . وأجيب بأن السائل من له الطلب شرعاً . والمحروم من الحرمة وهو الذي منع الطلب فكأنه قيل : في أموالهم حق للطالب - وهو الزكاة - ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها التي تتعلق بفرض صاحب المال وإقراره وليس عليه فيها مطالبة . ويمكن أن يقال : أراد في أموالهم حق في اعتقادهم وسيرتهم كأنهم أوجبوا على أنفسهم أن يعطوا من المال حقاً معلوماً وإن لم يوجبه الشرع . وفي السائل والمحروم وجوه أحدها ما مر . الثاني السائل هو الناطق والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوان كما قال صلى الله عليه وسلم « لكل كبد حرى أجر » الثالث وهو الأظهر أن السائل هو الذي يستجدي والمرحوم الذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه قال صلى الله عليه وسلم : « ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان قالوا : فما هو قال : الذي لا يجد ولا يتصدق عليه » وتقديم السائل على ترتيب الواقع لأنه يعرف حاله بمقاله فيسد خلته ، وأما المحروم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاستكشاف والبحث . وقيل : المحروم الذي لا يمنى له مال . وقيل : هو المنقوص الحظ الذي لا يكاد يكسب . ثم أكد وقوع الحشر والدلالة على قدرته بقوله { وفي الأرض آيات } كقوله { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة }

[ فصلت : 39 ] إلى قوله { إن الذي أحياها لمحي الموتى } [ فصلت : 39 ] ومن عجائب الأرض ما هي في جرمها من الاستدارة والألوان المختلفة وطبقاتها المتباينة ، ومنها ما عليها وفيها من الجبال والمواليد الثلاثة ، ومنها ما هي واردة عليها من فوقها كالمطر وغيره . وخص الآيات الأرضية بالذكر لقربها من الحواس ، وخص كونها آيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بذلك ، ومن لم يتأمل في المصنوعات لم يزد يقينه بالصانع . ثم استدل بالأنفس فقال { وفي أنفسكم } آيات . وذلك أن الإنسان عالم صغير فيه تشابه من العالم الكبير وقد مر تقرير ذلك مراراً . وقيل : هي الأرواح أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات . قال أهل النظم : هذه الآية مؤكدة لما قبلها فإن من وقف على هذه الآيات الباهرة تبين له جلال الله وعظمته فيتقيه ويعبده ويستغفره من تقصيره ولا يهجع إلا قليلاً ، وهكذا من عرف أن رزقه في السماء لم يبخل بماله ويعطيه السائل والمحروم . وعن الحسن أنه كان إذا رأة السحاب قال لأصحابه : فيه رزقكم يعني المطر ولكنكم تحرمونه . { وما توعدون } هي الجنة فوق السماء السابعة وتحت العرش . وقيل : إن أرزاقكم في الدنيا وما توعدون في العقبى كلها مقدرة مكتوبة في السماء . ثم أنتج من الأخبار السالفة من أول السورة إلى ههنا حقيقة القرآن أو النبي أو الموعود ، وأقسم عليه برب السماء الأرض ترقياً من الأدنى وهي المربوبات كالذاريات وغيرها إلى الرب تعالى . و « ما » مزيدة بنص الخليل حكاه جار الله يقال في الأمر الظاهر غاية الظهور أن هذا الحق أنك ترى وتسمع مثل ما أنك ههنا . قال الأصمعي : أقبلت خارجاً من البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : من الرجل؟ قلت : منت بني أصمع . قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن . فقال : اتل علي فتلوت { والذاريات } فلما بلغت قوله { وفي السماء رزقكم } فقال : حسبك . فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على الناس وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى . فلام حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ثم قال : فهل غير هذا؟ فقرأت { فورب السماء والأرض إنه لحق } فصاح فقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤه إلى اليمين قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقصة إبراهيم وغيرها قد مرت في « هود » و « الحجر » وفي قوله { هل أتاك } تفخيم لشأن الحديث . والضيف واحد . وجمع والمكرمون إما باعتبار إكرامه إياهم حتى خدمهم بنفسه وبامرأته ، أو لأنهم أهل الإكرام عند الله كقوله

{ بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] وجوز أن يكون نصب { إذا دخلوا } بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم أو بما في ضيف من معنى الفعل . قال المفسرون : أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام أو أراد تعرف حالهم لأنهم لم يكونوا من معارفه { فراغ إلى أهله } فذهب إليهم في خفية من ضيوفه وهو نوع أدب للمضيف كيلا يستحيوا منه ولا يبادروا بالاعتذار والمنع من الضيافة . وفي قوله { فقربه إليهم } دلالة على أن نقل الطعام إلى الضيف أولى من العكس لئلا يتشوش المكان عليهم . { قال ألا تأكلون } سلوك لطريقة الاستئناف ولهذا حذف الفاء خلاف ما في « الصافات » وقد مر . والاستفهام لإنكار ترك الأكل أو للحث عليه { فأوجس } فأضمر وقد تقدم سائر الأبحاث في « هود » وفي « الصافات » . واعلم أنه سبحانه ذكر في « هود » أنه لما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وقال ههنا { سلام قوم منكرون } ولا تنافي بين الحديثين لأنه أنكرهم أولاً بالسلام الذي لم يكن من عادة تلك الشريعة ، ثم زاد إنكاره حين رآهم لا يأكلون الطعام فذكر أحد الإنكارين في تلك السورة والآخر في هذه . قوله { فأقبلت امرأته في صرة } أي في صيحة ومنه صرير القلم . قال الحسن : كانت في زاوية تنظر إليهم فوجدت حرارة الدم فأقبلت إلى بيتها صارة فلطمت وجهها من الحياء والتعجب كعادة النسوان { وقالت } أنا { عجوز } فأجابت الملائكة { كذلك } أي مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به { قال ربك } فلا تستبعدي . وروي أن جبرائيل قال لها : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة فحينئذ أحس إبراهيم صلوات الرحمن عليه بأنهم ملائكة . { قال فما خطبكم } شأنكم وطلبكم؟ فأجابوا بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط ليرسلوا عليهم السجيل كما قصصنا في « هود » . والضمير في قوله { فيها } للقرية وإن لم يجر لها ذكر لأنه معلوم ، قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد . وقال غيرهم : المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص مما لا منع فيه ولا يدل على اتحادهما وهذا كقوله القائل من في البيت من الناس؟ فيقول له : ما في البيت من الحيوان أحد غير زيد . فيكون مخبراً له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد . وقوله { وتركنا فيها آية } كقوله في « العنكبوت » { ولقد تركنا منها آية بينة } [ الآية : 35 ] أي علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم وهي الحجارة المسومة أو ماء أسود . قوله { وفي موسى } قيل : الأقرب أن يكون معطوفاً على قوله { وتركنا فيها } أي وجعلنا في موسى آية . قال جار الله : هو كقوله من قال :
علفتها تبنا وماء بارداً ... ويمكن أن يقال : إن قصة موسى أيضاً آية متروكة باقية على وجه الدهر فلا حاجة إلى هذا التكلف .

قوله { فتولى بركنه } كقوله { ونأى بجانبه } [ الإسراء : 83 ] وقيل : الباء للمصاحبة . والركن القوم أي فازور وأعرض مع ما كان يتقوى به من جنوده وملكه . وقيل : ركنه هامان وزيره قال العلماء : وصفه فرعون بالمليم مع أنه وصف يونس النبي به صلى الله عليه وسلم كما مر في « الصافات » لا يوجب اشتراكهما في استحقاق الملامة ، لأن موجبات اللوم تختلف . فراكب الكبيرة ملوم على قدرها ، ومقترف الصغيرة ملوم بحسبها ، وبينهما بون ، العقيم ريح لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر . والرميم ما رم وتفتت . قال في الكشاف : { تمتعوا حتى حين } تفسيره في قوله { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } [ هود : 65 ] قلت : هذا سهو منه فإن قوله { فعتوا عن أمر ربهم } لا يطابقه إذ العتو لم يترتب على هذا الأمر لحصوله قبله . وإنما الصواب أن يكون التمتع المأمور به في هذه الآية هو الذي في قصة قوم يونس { فآمنوا فمتعناهم إلى حين } [ الصافات : 148 ] فكأن قوم ثمود أمروا أن يؤمنوا كي يمهلوا إلى انقضاء آجالهم الطبيعية والأمر أمر تكليف لا تكوين { فعتوا عن أمر ربهم } بالإصرار على كفرهم . فقيل : على سبيل التكوين تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وكان ذلك علامة العذاب والصاعقة النازلة نفسها { وهم ينظرون } أي كانت نهاراً يعاينونها أو كانوا منتظرين لها إذ قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام { فما استطاعوا من قيام } عبارة عن جثومهم كما مر مراراً { وما كانوا منتصرين } ممتنعين من العذاب وقصة نوح واضحة وقد مر إعرابه في الوقوف .
ثم عاد إلى دلائل القدرة فقال { والسماء بنيناها بأيد } وفي لفظ البناء إشارة إلى كونها محكمة البنيان . وفي قوله { بأيد } أي بقوة تأكيد لذلك . وفي قوله { وأنا لموسعون } مزيد تأكيد والمعنى لقادرون من الوسع الطاقة والموسع القوي على الإنفاق ومنه قال الحسن : أراد إنا لموسعون الرزق بالمطر . وقيل : جعلنا بين السماء وبين الأرض سعة . وإنما أطلق الفرش على الأرض ولم يطلق البناء لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى { ومن كل شيء } من الحيوان { خلقنا زوجين } ذكراً وأنثى . وعدد الحسن أشياء كالسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة . قال : كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له . وقد يدور في الخلد أن الآية إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى فإنه مركب نوع تركيب لا أقل من الوجود والإمكان أوالجنس والفصل أو المادة والصورة ولذلك قال { لعلكم تذكرون } له إرادة ترقيكم من المركب إلى البسيط ومن الممكن إلى الواجب ومن المصنوع . وإذا عرفتم الله { ففروا إلى الله } أي التجؤا إليه ولا تعبدوا غيره أمر بالإقبال عليه وبالإعراض عما سواه . وكرر قوله { إني لكم منه نذير مبين } للتأكيد . وبعد توضيح البيانات وذكر القصص وتقرير الدلائل سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله { كذلك } أي الأمر مثل الذي تقرر من تكذيب الرسل وإصرار الكفرة على الإنكار والسب .

ثم فسر ما أجمله بقوله { ما أتى } إلى آخره وقوله { أتواصوا به } استفهام على سبيل التعجب من تطابق آرائهم على تكذيب أنبيائهم . ثم أضرب عن ذلك لأن تطابق المتقدم والمتأخر على أمر واحد غير ممكن فنبه على جلية الحال قائلاً { بل هم قوم طاغون } يعني أن اشتراك علة التكذيب وهو الطغيان أشركهم في المعلول { فتول عنهم } فإن تكذيبهم لا يوجب ترك الدعوة العامة { فما أنت بملوم } على إعراضك عنهم بعد التبليغ لأنك قد بذلت مجهودك واستفرغت وسعك { وذكر } مع ذلك { فإن الذكرى تنفع المؤمنين } أراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم لا يوجب ترك البعض الآخر . ثم بين الغاية من خلق الثقلين وهي العبادة . وللمعتزلة فيه دليل ظاهر على أن أفعاله الله معللة بغرض . وقال أهل السنة : إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك فإن المعرفة أيضاً غاية صحيحة ، وإنما الخلاص عن الإشكال بما سلف مراراً أن استتباع الغاية لا يوجب كون الفعل معللاً بها ، وإذا لم يكن الفعل معللاً بذلك فقد يكون الفعل ، وتتخلف الغاية لمانع كعدم قابلية ونحوه . ثم ذكر أنه خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح هو عليهم . والمتين الشديد القوة . ثم هدد مشركي مكة وأضرابهم بقوله { فإن للذين ظلموا ذنوباً } أي نصيباً من العذاب { مثل ذنوب أصحابهم } المهلكين ، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة قال أهل البيان : وهذا تمثيل وأصله من تقسيم الماء يكون لهذا دلو ولهذا دلو . واليوم الموعود القيامة أو يوم بدر .
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

القراآت : { فكهين } مقصوراً : يزيد { وأتبعناهم } من باب الأفعال : أبو عمرو { وذريتهم } على التوحيد مرفوعاً { ذرياتهم } على الجمع : أبو جعفر ونافع . وقرأ أبو عمرو على الجمع فيهما منصوباً . وقرأ { ذريتهم } ابن عامر وسهل ويعقوب على الجمع أيضاً ولكن برفع الأول . الباقون : على التوحيد فيهما الأول مرفوعاً والثاني منصوباً { ألتناهم } بكسر اللام ثلاثياً . ابن كثير { لؤلؤ } بتليين الهمزة الأولى : شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد وحمزة في الوقف كما مر في الحج { أنه هو البر } بفتح الهمزة : أبو جعفر ونافع وعلي { أنا كنا ندعوه } { لأنه } { المسيطرون } بالسين : ابن كثير في رواية . وابن عامر والآخرون : بالصاد . وقرأ حمزة في رواية بإشمام الراء { يصعقون } مبنياً للمفعول : ابن عامر وعاصم { وإدبار النجوم } بالفتح : زيد عن يعقوب .
الوقوف : { والطور } ه لا { مسطور } ه لا { منشور } ه لا { المعمور } ه لا { المرفوع } ه لا { المسجور } ه لا { لواقع } ه لا { من دافع } ه لا { موراً } ه لا { سيراً } ط { للمكذبين } ه لا { يلعبون } ه م { دعا } ط لأن التقدير يقال لهم هذه النار { تكذبون } ه { لا تبصرون } ه { تصبروا } ه لاختلاف الجملتين مع اتفاق المعنى { عليكم } ط { تعملون } ه { ونعيم } ه لا { آتاهم ربهم } ج لاحتمال العطف واتضاح وجه الحال أي وقد وقاهم { الجحيم } ه { تعملون } ه لا { مصفوفة } ج { عين } ه { شيء } ه { رهين } ه { يشتهون } ه { ولا تأثيم } ه { مكنون } ه { يتساءلون } ه { مشفقين } ه { السموم } ه ط لمن قرأ { إنه } بالكسر { الرحيم } ه { مجنون } ه لأن « أم » ابتداء استفهام وتوبيخ { المنون } ه { المتربصين } ه ط لما قلنا { طاغون } ه ج لاحتمال ابتداء الاستفهام والجواب بقوله بل { لا يؤمنون } ه ج للآية مع الفاء { صادقين } ه ط { الخالقون } ه ط { والأرض } ج لأن « بل » للإضراب مع العطف { لا يوقنون } ه { المسيطرون } ه ط { فيه } ج لتناهي الاستفهام مع فاء التعقيب { مبين } ه ط { البنون } ه ط { مثقلون } ه { يكتبون } ط { كيداً } ط { المكيدون } ه ط والضابط فيما تقدم أن كلما وصل « أم » فهو للجواب وما قطع فهو بمعنى ألف الاستفهام { غير الله } ط { يشركون } ه { مركوم } ه { يصعقون } ه لا لأن { يوم } بدل ما تقدمه { ينصرون } ه ط { لا يعلمون } ه { تقوم } ه لا { النجوم } ه .
التفسير : لما ختم السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود أقسم على ذلك بالطور وهو الجبل الذي مر ذكره مراراً في قصة موسى . والكتاب المسطور التوراة ظاهراً لأنه هو المناسب للطور . وقيل : اللوح المحفوظ . وقيل : صحيفة الأعمال . والرق الصحيفة أو الجلد الذي يكتب عليه . والمنشور خلاف المطوي كقوله

{ ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً } [ الإسراء : 13 ] وقيل : هو القرآن ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب { والبيت المعمور } الكعبة أو الضراح في السماء السابعة سمي معموراً لكثرة زواره من الحجاج أو الملائكة { والسقف المرفوع } السماء { والبحر المسجور } المملوء أو الموقد من قوله { وإذا البحار سجرت } [ الأنفطار : 3 ] وقد سبق في « المؤمن » في قوله { ثم في النار يسجرون } [ الآية : 72 ] عن جبير بن مطعم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأساري فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة { والطور } فلما بلغ { إن عذاب ربك لواقع } أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب { يوم تمور } تضطرب وتجيء وتذهب وقد يقال : المور تحرك في تموج كحركة الزئبق ونحوه . قلت : لأهل التأويل أن يقولوا : الطور القوة العقلية ، وكتاب مسطور هي الجلايا القدسية والمعارف الإلهية الثابتة فيها كالحرف في الرق ، والبيت المعمور بيت القلب ، والسقف المرفوع الرأس ، والبحر المسجور الدماغ المملوء من الخيالات والأوهام . { إن عذاب ربك } بالحرمان عن الإكرام لازدحام ظلم الآثام لواقع يوم القيامة الصغرى إذ تمور سماء الأرواح حين قطع العلائق وحيلولة العوائق موراً ، وتسير جبال النفوس الحيوانية الأمارة التي أثقلت ظهر صاحبها لانتهاء سيرانها وانقضاء سلطانها سيراً . والدع الدفع العنيف . قال المفسرون : إن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم . والاستفهام في قوله { أفسحر } للتقريع والتهكم ، والفاء مؤكد له أي كنتم تقولون للوحي إنه سحر فهذا أيضاً سحر { أم أنتم لا تبصرون } هذا المخبر عنه في الآخرة كما كنتم لا تصدقون الخبر عنه في الدنيا . وقوله { فاصبروا أو لا تصبروا } كقوله { سواء علينا لا تصدقون الخبر عنه في الدنيا . وقوله { فاصبروا أو لا تصبروا } كقوله { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } [ إبراهيم : 21 ] ثم علل الاستواء بقوله { إنما تجزون } يعني أن الجزاء لا بد من حصوله فلا مزية للصبر على عدمه . قوله { ووقاهم } معطوف على متعلق قوله { في جنات } أي استقروا في جنات ونعيم ووقاهم العذاب . وجوز أن يعطف على { آتاهم } على أن « ما » مصدرية أي فاكهين بالإيتاء والوقاية { كلوا } على إرادة القول أي يقال لهم كلوا { واشربوا } أكلاً وشرباً { هنيئاً } أو طعاماً وشراباً هنيئاً لا تنغيص فيه . وقد مر في أول « النساء » . وجوز جار الله أن يكون صفة في معنى المصدر القائم مقام الفعل أي هنأكم الأكل والشرب بسبب ما عملتم ، أو الباء مزيدة أي هنأكم جماء ما عملتم . قوله { والذين آمنوا } ظاهره أنه مبتدأ خبره { ألحقنا } قال جار الله : هو معطوف على { حور عين } أي قرناهم بحور عين والذين آمنوا من رفقائهم وجلسائهم وأتبعناهم ذرياتهم كي يجتمع لهم أنواع السرور بملاعبة الحور وبمؤانسة الإخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم .

وقوله { بإيمان } أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء . { ألحقنا } بدرجاتهم { ذريتهم } ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل كما جاء في الحديث « إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية » { وما ألتناهم } أي وما نقصنا من ثوابهم شيئاً بعطية الأبناء ولا بسبب غيرها ولكن وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا تفضلاً وإحساناً . ثم بين أن الجزاء بمقدار العمل فقال { كل امرىء بما كسب رهين } أي مرهون . قال جار الله : كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه . فإن عمل صالحاً فكها وخلصها وإلا أوبقها . وقيل : هذا يعود إلى الكفار . والرهين المرهون المأخوذ المحبس على أمر يؤدي عنه . وقيل : بمعنى راهن وهو المقيم أي كل إنسان مقيم في جزاء ما يقدم . { وأمددناهم } وزدناهم وقتاً بعد وقت { يتنازعون } يتعاطون هم وقرناؤهم { لا لغو فيها } أي لا حديث باطل في أثناء شربها . ونفى اللغو لانتفاء الغول الذي هو من تعاكسيه { ولا تأثيم } أي لا يفعلون ما ينسب صاحبه إلى الإثم لو فعله في دار التكليف ، وإنما يتكلمون بالكلام الحسن المفيد وذلك أنهم حكماء علماء . والغلمان الخدام المختصمون بهم ، واللؤلؤ المكنون المستور في الصدف أو في الدرج وذلك أنه أصفى وأرطب وأثمن . وقيل لقتادة : هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفس بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » وعنه صلى الله عليه وسلم « إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيب ألف ببابه لبيك لبيك » { يتساءلون } يتحادثون { مشفقين } أرقاء القلوب من خشية الله وعذاب السموم عذاب النار لأنها تدخل المسام ومنه الريح السموم { من قبل } أي في الدنيا { فذكر } فأثبت على ما أنت عليه من التذكير والدعوة العامة { فما أنت بنعمة ربك } أي بسبب حمد الله وإنعامه عليك { بكاهن } كما يزعمون { ولا مجنون } فلعله كان لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوال ، فبعضهم ينسبونه إلى الكهانة نظراً إلى إخباره عن المغيبات ، وبعضهم يرمونه بالجنون حيث لا يسمعون منه ما يوافق هواهم ويطابق مغزاهم ، وبعضهم يرون أن تأثير كلامه فيهم من باب التخييل لا الإعجاز كما قال { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } وهو ما يقلق النفوس ويزعجها من حوادث الدهر ، وقيل : المنون الموت « فعول » من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع ولذلك سمي شعوب . وقد قالوا : ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك الشعراء قبله . والأحلام العقول وكانت قريش يدعون أنهم أهل النهي والأحلام .

وكون الأحلام أمرتهم مجاز لأدائها إلى تلك الأقوال الفاسدة ، وفيه تقريع وتوبيخ إذ لو كان لهم عقل لميزوا بين الحق والباطل والمعجز وغيره { تقوَّله } اختلقه من تلقاء نفسه { بل لا يؤمنون } جحوداً وعناداً وقد صح عندهم إعجاز القرآن وإلا { فليأتوا بحديث مثله } .
ثم وبخهم على إنكار الصانع بقوله { أم خلقوا من غير شيء } من غير خالق { أم هم الخالقون } أنفسهم . وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء وحساب . والأول أقوى لقوله { أم خلقوا السموات والأرض } ثم احتج عليهم بالأنفس ثم بالآفاق ثم قال { بل لا يوقنون } وذلك أنه حكى عنهم { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] فتبين أنهم في هذا الاعتراف شاكون إذ لو عرفوه حق معرفته لم يثبتوا له نداً ولم يحسدوا من اختاره للرسالة كما وبخهم عليه بقوله { أم عندهم خزائن ربك } حتى يختاروا للنبوة من أرادوه { أم هم المسيطرون } المسلطون الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم { أم لهم سلم يستمعون } الوحي صاعدين { فيه } إلى السماء عالمين بالمحق والمبطل ومن له العاقبة . والمغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه { أم عندهم الغيب } المحفوظ في اللوح { فهم يكتبون } ما فيه من أحوال المبدأ والنبوة والمعاد فيحكمون بحسبها { أم يريدون كيداً } وهو كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وفي غيرها { فالذين كفروا } اللام لهؤلاء أو للجنس فيشملهم { هم المكيدون } المغلوبون الذين يعود وبال الكيد عليهم فقتلوا ببدر وأظهر الله دين الإسلام . ثم صرح بالمقصود الكلي فوبخهم على إشراكهم ونزه نفسه عن ذلك بقوله { سبحان الله } ثم أجاب عن بعض مقترحهم وهو قولهم { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } والمراد أنهم لفرط عنادهم لا يفيد معهم شيء من الدلائل فلو أسقطنا عليهم قطعة من السماء لقالوا هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض . ومعنى يصعقون يموتون وذلك عند النفخة الأولى . قوله { عذاباً دون ذلك } أي قبل يوم القيامة وهو القتل ببدر القحط سبع سنين وعذاب القبر { فأصبر لحكم ربك } بإمهالهم وتبليغ الرسالة { فإنك } محفوظ { بأعيننا } وهو مجاز عن الكلاءة التامة والجمع للتعظيم والمبالغة و { حين تقوم } أي من أي مكان قمت أو من منامك . وإدبار النجوم بالكسر غروبها آخر الليل وهو بالحقيقة تلاشي نورها في ضوء الصبح ، وبالفتح أعقابها . والمعنى مثل ما قلنا . وقيل : التسبيح التنجد . ومن الليل صلاة العشاءين ، وإدبار النجوم صلاة الفجر . أمره بالإقبال على طاعته بعد الفراغ عن دعوة الأمة فليس له شأن إلا هذين .
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

القراآت : { هوى } وسائر آياته بالإمالة اللطيفة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة المفرطة كما سبق في « طه » { ما كذب } بالتشديد : يزيد وهشام { ما زاغ البصر } بالإمالة : حمزة ونصير { ومناة } بالمد : ابن كثير والشموني { أفتمرونه } ثلاثياً : يعقوب وحمزة وعلي وخلف { ضيزى } بالهمزة : ابن كثير في رواية { كبير الأثم } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف والمفضل { إبراهام } هشام { عاداً لولي } مدغماً غير مهموز : أبو عمرو ويزيد ويعقوب والنجاري عن ورش . وقرأ إسماعيل والأصبهاني عن ورش وأبو نشيط عن قالوا بإظهار الغنة غير مهموز . وكذلك روي عن أبي عمرو فعلى مذهبهم إذا وقف القارىء على { عاد } ابتدأ { بلولي } ولو شاء الولي بتخفيف الهمزة والأول أحسن . وقرأ قالون غير أبي نشيط بالهمزة وإظهار الغنة ، وإذا وقف على { عاد } ابتدأ { لولي } ولو شاء { الولي } والباقون { عاد الأولى } بالألف قبل اللام وبعد اللام في الحالين { وثمود } في الحالين بغير تنوين : حمزة وعاصم غير ابن غالب والبرجمي والمفضل وسهل ويعقوب { ربك تمارى } بتشديد التاء : رويس عن يعقوب .
الوقوف : { هوى } ه لا { غوى } ه ج للآية مع العطف على جواب القسم { الهوى } ه ط { يوحى } ه لا { القوى } ه لا لذلك { ذو مرة } ط لتمام الصفة { فاستوى } ه لا لأن الواو للحال { الأعلى } ه ط { فتدلى } ه لا لأن ما بعده من تمام المقصود { أو أدنى } ه ج وإن اتفقت الجملتان لأن ضمير { فأوحى } لله لا للنبي { ما أوحى } ه ج { ما رأى } ه { أخرى } ه لا { المنتهى } ه { المأوى } ه لأن عامل { إذ زاغ البصر } فلا وقف على { ما يغشى } { طغى } ه { الكبرى } ه { والعزى } ه لا { الأخرى } ه { الأنثى } ه { ضيزى } ه { سلطان } ط { الأنفس } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { الهدى } ه ط لأن أم ابتداء استفهام إنكار { ما تمنى } ه ز لتناهى الاستفهام والوصل أولى للفاء واتصال المعنى { والأولى } ه { ويرضى } ه { الأنثى } ه { علم } ط { إلا الظن } ه ج لاختلاف الجملتين { شيئاً } ط لذلك { الدنيا } ه ط { من العلم } ط { اهتدى } ه { وما في الأرض } ط { بالحسنى } ه ج لأن { الذين } يصلح خبر مبتدأ محذوف وبدلاً من { الذين أحسنوا } { اللمم } ط { المغفرة } ط { أمهاتكم } ج { أنفسكم } ه ط { اتقى } ه { تولى } ج { وأكدى } ه { يرى } ه { موسى } ه { وفى } ه لا { أخرى } ه لا { سعى } ه لا { يرى } ه ص لوقوع العارض بين المعطوف على أن { الأوفى } ه لا { المنتهى } ه لا { وأبكى } ه لا { وأحيا } ه لا { والأنثى } ه { تمنى } ه ص لما مر { الأخرى } ه لا { وأقنى } ه لا { الشعرى } ه ط { الأولى } ه لا { أبقى } ه لا { وأطفى } ه ط لأن { المؤتفكة } منصوب بما بعده { هوى } ه لا { ما غشى } ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء { تتمارى } ه { الأولى } ه لا { الآزقة } ه للاستئناف والحال { كاشفةْ } ه { تعجبون } ه لا { ولا تبكون } ه لا { سامدون } ه لا { واعبدوا } ه سجدة .

التفسير : لما ختم السورة المتقدمة بالنجوم خص الأقسام في أول هذه السورة بالنجم واللام فيه للعهد أو للجنس . والأول قول من قال : إنه الثريا وهو اسم غالب لها وصورتها في السماء كعنقود عنب . وأظهر كواكبها سبعة وهي المنزل الثالث من منازل القمر . قال : إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء . وذلك أن الشمس تكون في أول العقرب حينئذ في مقابلتها فتطلع بغروبها . وعلى الثاني فيه وجوه أحدها . نجوم السماء وهويها غروبها . وفائدة هذا القيد أن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر من الناظر إليه حينئذ يستدل بغروبها على أفوله في حيز الإمكان فيتم له اهتداء الدين مع اهتداء الدنيا . وقيل : هويها انتثارها يوم القيامة . وثانيها النجم هو الذي يرجم به الشياطين وهويها نقضاضها . وثالثها النجم النبات إذا هوى إذا سقط على الأرض وهو غاية نشوة . ورابعها النجم أحد نجوم القرآن وقد نزل منجماً في عشرين سنة فيكون كقوله { والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } [ يس : 2 ، 3 ] وعلى القول الآخر فالثريا أظهر النجوم عند الناظرين وأشهر المنازل للسائرين وأنها تطلع عشاء في وقت إدراك الثماء . والنبي صلى الله عليه وسلم تميز من سائر الأنبياء بالمعجزات الباهرات ولا سيما فإنه حين ظهر زال يبس الكوك وحرارة الحمية الجاهلية وأدرك الحكمة ورجم به شياطين الإنس المضلين لعباد الله في أرضه ، ونبت بوجوده أصناف الأغذية الروحانية تامة كاملة . قال جار الله : الضلال نقيض الهدى ، والغي نقيض الرشد ، والخطاب لقريش . قلت : هذا صادق من حيث الاستعمال لقوله { قد تبين الرشد من الغي } [ البقرة : 256 ] { من يضلل الله فلا هادي له } [ الأعراف : 186 ] إلا أنه ينبغي أن يتبين لافرق بين الضلال والغواية . والظاهر أن الضلال أعم وهو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً ، والغواية أن لا يكون له إلى المقصد طريق مستقيم ولهذا لا يقال للمؤمن من إنه ضال أو غير مهتد ويقال له إنه غوي غير رشيد . قال عز من قائل { فإن آنستم منهم رشداً } [ النساء : 6 ] فكأنه سبحانه نفى الأعم أولاً ثم نفى الأخص ليفيد أنه على الجادة غير منحرف عنها أصلاً . ويحتمل أن يكون قوله { ما ضل } نفياً لقولهم هو كاهن أو مجنون لأن الكهانة أيضاً من مسيس الجن .

وقوله { وما غوى } نفي لقولهم هو شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون . ويحتمل أن يكون الأول عبارة عند صلاحه في أمور المعاد ، والثاني إشارة إلى رشده في أمور المعاش ومنه يعلم أن أقواله كلها على سنن الصواب إلا أنه كان يمكن أن تكون مستنبطة من العقل أو العرف أو العادة ، فأسندها الله سبحانه إلى طريق أخص وأشرف وهو أن تكون مستندة إلى الوحي فقال بصيغة تفيد الاستمرار { وما ينطق عن الهوى } أي ليس كل ما ينطق به ولا بعضه بصادر عن الرأي والتشهي إنما وحي يوحى إليه من الله ، واستدل به بعض من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام ، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان لك من قبيل الوحي أيضاً . وأما من يخص النطق بالقرآن فلا اعتراض عليه . قال أهل اللغة : الهوى المحبة النفسانية ، والتركيب يدل على النزول والسقوط ومنه الهاوية . ومبة النفس الأمارة لا أصل لها ولا تصدر إلا عن خسة ودناءة ، وقوله { إن هو إلا وحي } أبلغ مما لو قيل هو « وحي » وهو ظاهر . وقوله { يوحى } لتحقيق الحقيقة كقوله { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] فإن الفرس الشديد العدو بما يقال إنه طائر ، فإذا قيل يطير بجناحيه زال جواز ذلك المجاز فكذلك ههنا ربما يقال للكلام الصادق الفصيح هو وحي أو سحر حلال . فلما قيل { يوحى } اندفع التجوز . ثم بين طريق الوحي بقوله { علمه } أي الموحي أو محمداً { شديد القوى } وهو جبرائيل عليه السلام أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة مدح المعلم ليلزم منه فضيلة المتعلم . ولو قال « علمه جبرائيل عليه السلام » لم يفهم منه فضل المتعلم ظاهراً . وفيه رد على من زعم أنه يعلمه بشر لأن الإنسان خلق ضعيفاً وما أوتي من العلم إلا قليلاً . وفيه أن جبرائيل عليه السلام أمين موثوق به من حيث قوته المدركة والحافظة ولو كان مختل الذهن أو الحفظ لم يوثق بروايته ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يضيق صدره حين علم بواسطة الملك فكأنه قيل له : ليس لك في ذلك نقص لأنه شديد القوى على أنه قال في موضع آخر { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال « أدبني ربي فأحسن تأديبي » والمرة القوة . والظاهر أنها القوة الجسمانية كقوله { وزاده بسطة في العلم والجسم } [ البقرة : 247 ] فمن قوته أنه قلع قريات قوم لوط وقلبها بجناحه ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان ينزل إلى الأنبياء ويصعد في لمحة . ويجوز أن يراد بقوله { شديد القوى } قواه الجسمانية وبقوله { ذو مرة } القوى العقلية . والتنكير للتعظيم . قوله { فاستوى } المشهور أن فاعله جبرائيل عليه السلام أي فاستقام على صورته الحقيقية دون صورة دحية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى أي الأشرف وهو الشرقي { ثم دنا } جبرائيل من الرسول صلى الله عليه وسلم على الصورة المعتادة { فتدلى } قيل : فيه تقديم وتأخير أي فتعلق عليه في الهواء ثم دنا منه .

وقيل : دنا أي قصد القرب من محمد أو تحرك من المكان الذي كان فيه ، فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم . يقال : تدلت اثمرة ودلى رجليه من السرير وقد يقال : الدنو والتدلي بمعنى واحد فلا يفيد إلا التأكيد . ثم زاد تأكيداً بقوله { فكان قاب قوسين } قال أهل العربية . هو من باب حذف المضافات أي فكان مقدار مسافة قرب جبرائيل عليه السلام مثل « قاب قوسين » . والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس كلها المقدار . والعرب تقدر الأشياء بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع وغيرها . وفي الحديث « لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين » وقال صلى الله عليه وسلم « لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها » والقد السوط . وقوله { أو أدنى } أي في تقديركم كقوله { مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] وقال بعضهم : الضمير في { فاستوى } لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن تعليم جبرائيل إياه كان قبل كماله واستوائه ، فحين تكاملت قواه النظرية والعلمية وصار بالأفق الأعلى أي بالرتبة العليا من المراتب الإنسانية دنا من الأمة فتدلى أي لان لهم ورفق بهم حتى قال { إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [ الكهف : 110 ] فكان الفرق بينه وبين جبرائيل قليلاً جداً . وعلى هذا يمكن أن يكون الرجحان في الكمال للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقول أكثر أهل السنة ، أو بالعكس كما تزعم طائفة منهم ومن غيرهم ، ويحتمل على هذا القول أن يكون الضمير في { دنا } لجبريل والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن زال عن الصفات البشرية من الشهوة والغضب والجهل وبلغ الأفق الأعلى الإنساني ، ولكن نوعيته لم تزل عنه وكذلك جبرائيل .
وإن ترك اللطافة المانعة من الرؤية ونزل إلى الأفق الأدنى من الآفاق الملكية ولكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبقى بينهما إلا اختلاف حقيقتهما نظيره { ولقد رآه بالأفق المبين } [ التكوير : 23 ] أي رأى جبرائيل وهو أي محمد بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك كقول القائل : « رأيت الهلال على السطح » أي وأنا على السطح . وقد يجعل ذكر القوس عبارة عن معنى آخر هو أن العرب كانوا إذا عاهدوا فيما بينهم طرحوا قوساً أو قوسين لتأكيد العهد بين الاثنين ، فأخبر الله سبحانه أنه كان بين جبرائيل ومحمد عليه الصلاة والسلام من المحبة وقرب المنزلة مثل ما تعرفونه فيما بينكم عند المعاقدة . وقيل : الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لله والمراد قرب المكان بينهما .

وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال : دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة . دنا دنو إكرام لا دنو أجسام ، دنا دنو أنس لا دنو نفس . والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم . أخبر بالقصة إكراماً وكتم الإسرار عظاماً .
قوله { فأوحى إلى عبده ما أوحى } الضمير في الفعلين إما لله أو لجبرائيل ، والمراد بالعبد إما محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام فيحصل تقديرات أحدها : فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى وفيه تفخيم لشأن الوحي . وقيل : أوحى إليه الصلاة . وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها . وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك . والظاهر أنها أسرار وحقائق ومعارف لا يعلمها إلا الله ورسوله . ثانيها فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى أولاً جبرائيل يعني أن الوحي كان ينزل عليه أولاً بواسطة جبرائيل وقد ارتفعت الآن تلك الواسطة . وعلى هذا يحتمل أن يقال « ما » مصدرية أي أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم الإيحاء أي العلم بالإيحاء كي يفرق بين الملك والجن . أو كلمة أنه وحي أو خلق فيه علماً ضرورياً . ثالثها فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى . رابعها فأوحى الله إلى جبرائيل ما أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء قبله . وفيه إشارة إلى أن جبريل عليه السلام أمين لم يجن قط في شيء مما أوحى إلى الأنبياء . خامسها فأوحى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه . سادسها فأوحى جبرائيل إلى عبد الله ما أوحى هو . وفي هذين الوجهين لا يمكن أن يراد بالعبد إلا محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } الأشهر أن اللام للعهد وهو فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك . ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه . ومن قرأ بالتشديد فظاهر أي صدق فؤاده ما عاينه ولم يشك في ذلك . وقيل : اللام للجنس والمراد أن جنس الفؤاد لا ينكر ذلك وإن كان الوهم والخيال ينكره . والمقصود نفي الجواز لا نفي الوقوع كقوله { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] { وما ربك بغافل } [ الأنعام : 132 ] بخلاف قوله { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ التوبة : 120 ] { لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 ] فإنه لنفس الوقوع . والظاهر أن فاعل رأى محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : الفؤاد أو البصر أي ما رآه الفؤاد ولم يقل له إنه جن أو شيطان أو لم يكذب الفؤاد ما رآه بصر محمد صلى الله عليه وسلم . وما المرئي فيه أقوال : أحدها ما مر وهو أنه رأى جبريل في صورته بالأفق الشرقي .

والثاني الآيات العجيبة الإلهية . والثالث الرب تعالى والمسألة مبنية على جواز الرؤية وقد تقدم البحث عن ذلك في قوله { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ثم على وقوع الرؤية وقد تقدم خلاف الصحابة فيه في حديث معراج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول « سبحان الذي » . ولعل القول الأول أصح . يروي أنه ما رأى جبريل أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ، وإليه إشارة بقوله { أفتمارونه } من المراء أي أتجادلونه { على ما يرى } ومن قرأ { أفتمرونه } فمعناه أتغلبونه في المراء يقال : ماريته فمريته . ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب « على » وقيل : معناه افتجحدونه . ولا بد من تضمين معنى الغلبة . { ولقد رآه نزلة أخرى } أي مرة أخرى فانتصبت على الظرف لأن الفعلة صيغة المرة فكانت النزلة في حكم المرة أي نزل عليه جبريل في صورته تارة أخرى في ليلة المعراج ووجه الاستفهام الإنكاري أنه لما رآه وهو على بسيط الأرض احتمل أن يقال : إنه كان من الجن احتمالاً بعيداً فلما رآه { عند سدرة المنتهى } لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فلم يبق للجدال مجال . أما القائل بالقول الثالث فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين . والنزلة إما لله بمعنى الحركة والانتقال عند من يجوز ذلك ، أبو بمعنى قرب الرحمة والإفضال ، وإما للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل عن متن الهوى ومركب النفس . وقيل : أراد بالنزلة ضدها وهي العرجة ، واختير هذه العبارة ليعلم أن هذه عرجة تتبعها النزلة ليست عرجة لا نزلة لها وهي عرجة الآخرة . وعلى القول الأول أيضاً يحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن جبرائيل تخلف عنه في مقام « لو دنوت أنملة لاحترقت » ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إليه . ومعنى أخرى أنه صلى الله عليه وسلم تردد في أمر الصلاة مراراً فلعله كان ينزل إلى جبرائيل كل مرة لا أقل من نزلتين . أما السدرة فالأكثرون على أنها شجرة في السماء السابعة : وقيل : في السادسة . « نبقها كقلال هجروورقها كآذان الفيلة ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها » وقد ورد الحديث بذلك . فعلى هذا { عند } ظرف مكان . ثم إن كان المرئي جبريل فلا إشكال ، إن كان هو الله تعالى فكقول القائل « رأيت الهلال على السطح » وقد مر . وقال بعضهم { عند } ظرف زمان كما يقال : صليت عند طلوع الفجر . والمعنى رآه عند الحيرة القصوى أي في وقت تحارعقول العقلاء فيه ولكنه ما حار ولم يعرض له سدر . وإضافة سدرة إلى المنتهى إما من إضافة الشيء إلى مكانه كما يقال « أشجار البلدة الفلانية كذا » وأشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار .

فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك ولا يعلم ما وراءه أحد وإليه ينتهي أرواح الشهداء . وإما من إضافة المحل إلى الحال كما يقال « ظرف المداد » أي سدرة هي محل انتهاء الجنة . وإما من إضافة الملك إلى مالكه كما يقال « دار زيد وأشجار عمرو » فيكون التقدير سدرة المنتهى إليه وهو الله سبحانه قال { وأن إلى ربك المنتهى } فالإضافة للتشريف « نحو بيت الله وناقة الله » . وقال الحسن : { جنة المأوى } هي التي يصير إليها المتقون . وقيل : يأوي إليها أرواح الشهداء والظاهر أن الضمير في { عندها } للسدرة . وقيل : للنزلة من ذهب إلى أن سدرة المنتهى معناها الحيرة القصوى . قال { إذ يغشى السدرة ما يغشى } معناه ورود حالة على حالة أي طرأ على محمد حين ما يحار العقل ما طرأ من فضل الله ومن رحمته . والأكثرون قالوا فيه تعظيم وتكثير لما يغشى الشجرة من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط بها الوصف . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله » وعنه عليه السلام « يغشاها رفرف من طير خضر » والرفرف كل ما يبسط من أعلى إلى أسفل . وعن ابن مسعود وغيره : يغشاها فراش أو جراد من ذهب . والمحققون على أنها أنوار الله تعالى تجلى للسدرة كما تجلى للجبل لكن السدرة كانت أقوى من الجبل ، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أثبت من موسى فلم تضطرب الشجرة ولم يصعق محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { ما زاغ البصر } فيه وجهان : أشهرهما أنه بصر محمد صلى الله عليه وسلم أي لم يلتفت إلى ما يغشاها . فإن كان الغاشي هو الفراش أو الجراد من ذهب فمعناه ظاهر ويكون ذلك ابتلاء وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلم بالأمور الدنيوية ، وإن كان الغاشي أنوار الله فالمراد أنه لم يلتفت إلى غير المقصود ولم يشتغل بالنور عن ذي النور . أو المراد ما زاغ البصر بالصعقة بخلاف موسى عليه السلام . وفي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الثاني بيان مزيته . وذهب بعضهم إلى أن اللام للجنس أي ما زاغ بصره أصلاً في ذلك الموضع هيبة وإجلالاً . والظاهر أن الضمير في قوله { وما طغى } للبصر أي ما جاوز حده المعين المأمور برؤيته . ويحتمل أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم أي ما زاغ بصره بالميل إلى غير المقصود ، وما طغى محمد بسبب الالتفات . قال بعض العلماء : فيه بيان لوصول محمد صلى الله عليه وسلم إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه إذ لم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف الناظر إلى عين الشمس فإنه إذا نظر إلى شيء آخر رآه أبيض أو أصفر أو أخضر .

قوله { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } الظاهر أن الكبرى صفة الآيات أي لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى . وذلك البعض إما جبرائيل على صورته ، وإما سائر عجائب الملكوت . ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف أي لقد رأى من آيات ربه آية هي الكبرى . وعلى هذا لا تكون تلك الآية رؤية جبريل لما ورد في الاخبار أن الله ملائكمة أعظم منه كالملك الذي يسمى روحاً . نعم لو قيل : إنها رؤية الله الأعظم كان له وجه عند من يقول بأنه صلى الله عليه وسلم رأي الله ليلة المعراج . وفيه خلاف تقديم .
قوله { أفرأيتم اللات والعزى } الخ . أي عقيب ما سمعتم من عظمة الله تعالى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى ، وأن الذي سد الأفق ببعض أجنحته تخلف عند سدره المنهتى ، هل تنظرون إلى هذه الأصنام مع قلتها وفقرها حتى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه؟ قال في الكشاف : اللات اسم صنم كان لثقيف بالطائف وأصله « فعلة » من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، أو يتلوون عليها أي يطوفون فكأنه حذفت الياء تخفيفاً وحركت الواو فانقلبت ألفاً . والوقف عليه بالتاء كيلا يشبه اسم الله : وقيل : أصله اللات بالتشديد وقد قرىء به . زعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج . وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف وكانوا يعكفون على قبره فجعلوه وثناً . والعزى تأنيث الأعز وكان لغطفان وهي شجرة سمرة بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس ناشرة الشعر تضرب رأسها وتدعو بالويل والثبور فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل . فقال : تلك العزى ولن تعبد أبداً . وأما مناة فهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة كأنها سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق . ومن قرأ بالمد فلعلها « مفعلة » من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها . و { الأخرى } لا يطلق إلأا إذا كان الأول مشاركاً كالثاني فلا يقال : رأيت رجلاً وامرأة أخرى . وإنما يقال رأيت رجلاً ورجلاً آخر . وههنا ليست عزى ثالثة فكيف قال { ومناة الثالثة الأخرى } ؟ وأجيب بأن الأخرى صفة ذم لها أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله { وقالت أخراهم لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي وضعاؤهم لرؤسائهم . ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى وذلك أن الأول كان على صورة آدمي ، والعزى كانت من النبات ومناة من الجماد . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي ومناة الأخرى .

الثالثة . وقيل : إن الأصنام فيها كثرة فإذا أخذنا اللات والعزى مقدمين كانت لهما ثوالت كثيرة هذه ثالثة أخرى . وقيل : فيه حذف والتقدير أفرأيتم اللات والعزى المعبودتين . بالباطل ومناة الثالثة المعبودة الأخرى . ثم إنه تعالى حين وبخهم على الشرك فكأنهم قالوا نحن لا نشك في أن شيئاً منها ليس مثلاً لله تعالى ولكنا صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء وقالوا : إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى ، ويرد عليهم الأمر والنهي ويصدر عنهم إلينا فوبخهم على قولهم إن هؤلاء الأصنام التي هي إناث أنداد الله تعالى ، أو على قولهم الملائكة بنات الله فاستفهم منكراً { ألكم الذكر } الذي ترغبون فيه { وله الأنثى } التي تستنكفون عنها { تلك } القسمة { إذا } أي إذا صح ما ذكرتم { قسمة ضيزى } أي جائزة غير عادلة من ضازه يضيزه إذا ضامه ، وهي « فعلى » بالضم ، وكان يمكن أن تقلب الياء واواً لتسلم الضمة إلا أنه فعل بالعكس أي قبلت الضمة كسرة لتسلم الياء فإن إبقاء الحرف أولى من إبقاء الحركة . ومن قرأ بالهمزة فمن ضأزه بالهمزة والمعنى واحد ولكنها « فعلى » بالكسر . قال بعضهم : إنهم ما قسموا ولم يقولوا لنا البنون وله البنات ولكنهم نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن ، فلزم من هذه النسبة قسمة جائرة ، فتقدير الكلام تلك النسبة قسمة غير عادلة إذ العدالة تقتضي أن يكون الشريف للشريف والوضيع للوضيع { إن هي } يعني ليس الأصنام أو أسماؤها المذكورات { إلا أسما سميتموها } وقد مر في « الأعراف » وفي « يوسف » . قال الإما فخر الالدين الرازي رحمه الله : الم يتم بقوله { ما أنزل الله بها من سلطان } فإن إطلاق اللاسم على المسمى إنما يجوز إذا لم يتبعه مفسدة دينية . وههنا يمكن أن يكون مرادهم من قولهم « الملائكة بنات الله » أنهم أولاد الله من حيث إنه لا واسطة بينهم وبينه في الإيجاد كما تقوله الفلاسفة . والعرب قد تستعمل البنت مكان الولد كما يقال « بنت الجبل وبنت الشفة » لما يظهر منهما بغير واسطة خصوصاً إذا كان في اللفظ تاء التأنيث كالملائكة إلا أنه لم يجز في الشرع إطلاق هذا اللفظ على الملائكة لأنه يوهم النقص في حقه تعالى ثم قال : وهذا بحث يدق عن إدراك اللغوي إن لم يكن عنده من العلوم حظ عظيم . قلت : هذا البحث الدقيق يوجب أن يكون الذم راجعاً إلى ترك الأدب فقط . وليس الأمر كذلك فإن الذم إنما توجه إلى المشرك لأنه ادعى الإلهية لما هو أبعد شيء منها . وما أمكن له على تصحيح دعواه حجة عقلية ولا سمعية . ومعنى { ما أنزل الله بها } أي بسببها وصحتها .

وقال الرازي : الباء للمصاحبه كقول القائل « ارتحل فلان بأهله ومتاعه » أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع . ومن قرأ { إن تبعون } على الخطاب فظاهر ، ومن قرأ على الغيبة فإما للالتفات ، وأما لأن الضمر للآباء وصيغة الاستقبال حكاية الحال الماضية ويحتمل أن يكون المراد عامة الكفار . قوله { وما تهوى الأنفس } يجوز أن تكون « ما » مصدرية ، وفائدة العدول عن صريح المصدر إلى العبارة الموجودة أن القاتل إذا قال : أعجبني صنعك . لم يعلم أن الإعجاب من أمر قد تتحقق أو من أمر هو فيه . وإذا قال : أعجبني ما تصنع . شمل الحال والاستقبال . ويجوز أن تكون « ما » موصولة والفرق أن المتبع في الأول الهوى وفي الثاني مقتضى الهوى . وقوله { الأنفس } من باب مقابلة الجمع بالجمع . والمعنى اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه كقولك : خرج الناس بأهلهم أي كل واحد بأهله ولعل الظن يختص بالاعتقاد وهوى النفس بالعمل . ويجوز أن يكون الظن مقصوداً به كل ماله محمل مرجوح والهوى يراد به ما لا وجه له أصلاً . ويحتمل أن يراد بالظن ماله محمل راجح أيضاً وهو إن كان واجب العمل به في المسائل الاجتهادية إلا أنه مذموم عند القدرة على اليقين وإلى هذا أشار بقوله { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } وهو القرآن أو الرسول أو المعجزة ، وفي هذه الحالة لا يجوز البناء على الظن بل يجب التعويل على اليقين .
قوله { أم للإنسان } أم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والمراد تمنيهم شفاعة الآلهة وأن لهم عند الله الحسنى على تقدير البعث إذ تمنى أشرافهم أن يكونوا أنبياء دون محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { فالله الآخرة والأولى } رد عليهم أي هو مالكها فهو المعطي والمانع ولا حكم لأحد عليه . ومعنى الفاء أنه إذا تقرر أن شيئاً من الأشياء ليس بتمني الإنسان فلا حكم إلا لله . ثم بين أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا برضاه . وفيه أصناف من المبالغة من جهة أن « كم » للتكثير والعرب تستعمل الكثير وتريد الكل كما قد تستعمل الكل وتريد به الكثير كقوله { تدمر كل شيء } [ الأحقاف : 25 ] ومن جهة لفظ الملك فإنهم أشرف المخلوقات سوى الأنبياء عند بعض ، ومن قبل أنهم في السموات فإن ذلك يدل على علو مرتبتهم ودنو منزلتهم ، ومن قبل اجتماعهم المدلول عليه بضمير الجمع في شفاعتهم وإذا كان حالهم هكذا فكيف يكون حال الجمادات؟ وقوله { لمن يشاء } أي لمن يريد الشفاعة له { ويرضى } أي ويراه أهلاً أن يشفع له فههنا أيضاً أنواع أخر من المبالغة . الأول توقيف الشفاعة على الإذن . والثاني تعليقها بالمشيئة فيهم منه أنه بعد أن يؤذن في مطلق الشفاعة يحتاج إلى الأذن في كل مرة معينة . والثالث رضا الله الشفاعة فقد يشاء ولكن لا يرضاه كقوله

{ ولا يرضى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] وهذا عند أهل السنة واضح . ثم صرح بالتوبيخ على قولهم الملائكة بنات الله فقال { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة } أي كل واحد منهم { تسمية الأنثى } لأنهم إذا جعلوا الكل بنات فقد جعلوا كل واحدة بنتاً وبالعكس . وههنا سؤالان : أحدهما : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعم من هؤلاء المسلمين فكان الأولى أن يقال : إن الذين يسمون لا يؤمنون . وثانيهما أنه كيف يلزم من عدم الإيمان بالآخرة هذه التسمية؟ والجواب عن الأول أن اللام للعهد وبه خرج الجواب عن الثاني أيضاً لأنه بخير عن جميع معهود أنهم يسمون . ولا يلزم من حمل شيء على شيء أن يكون بينهما ملازمة . ولو سلم أن اللام للعموم فالمراد بمثل هذا التركيب المبالغة والتوكيد كما تقول : الإنسان زيد . وعلى هذا فإن أريد بالحمل مجرد الإخبار فلا إشكال وإن أريد الملازمة فمعناه المبالغة أيضاً لأن غاية جهلهم بالآخرة وبالجزاء حملهم على ارتكاب مثل هذا الافتراء على الله ، وإلى هذا أشار بقوله { ما لهم به من علم أن يتبعون إلا الظن } واعلم أن الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بحث مع هؤلاء المشركين الذين سموا الملائكة إناثاً بحثاً طويلاً بناء على ظنه بهم أنهم رأوا في لفظ الملائكة تاء فلذلك جعلوه مؤنثاً . وحاصل ذلك البحث يرجع إلى أن التاء لا يلزم أن تكون للتأنيث فقد تكون لتأكيد الجمع كحجارة وصقورة ، أو لغير ذلك من المعاني ، ونحن قد أسقطنا تلك البحوث لعدم فائدتها كما نبهناك عليه . ثم بين الله سبحانه قاعدة كلية فقال : { وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } أي كل ما يجب أن يحصل منه المكلف على العلم واليقين فلا ينفع فيه الظن والتخمين ، ومن جملته مسائل المبدأ والمعاد التي ينبني البحث فيها على البراهين العقلية والدلائل السمعية ، ومن قنع في أمثالها بالوهم والظن لعدم الاستعداد أو لحفظ بعض المنافع الدنيوية وجب الإعراض عنه كما قال { فأعرض } أي إذا وقفت على قلة استعدادهم وعدم طلبهم للحق فأعرض يا محمد يا طالب الحق { عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } ويجوز أن يكون هذا الإعراض متضمناً للأمر . بالقتال أي أعرض عن المقال وأقبل على القتال . وقوله { ذلك } أي الذي ذكر من التسمية أو من اعتقاد كون الأصنام شفعاء { مبلغهم من العلم } جملة معترضة . ثم بين علة الإعراض قائلاً { إن ربك هو أعلم } إلى آخره ، وفيه بيان أنه تعالى يجازي كل فريق بحسب ما يستحقه ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ووقفوا لدى الباطل دون الحق .

ثم قرر أنه سوى الملك والملكوت لغرض الجزاء والإثابة . والحسنى صفة المثوبة والأعمال ، وإضافة الكبائر إلى الإثم إضافة النوع إلى الجنس لأن الإثم يشمل الكبائر والصغائر . واختلف في الكبائر وقد أشبعنا القول القول فيها في سورة النساء في قوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [ الآية : 31 ] والفواحش ام تزايد قبحه من الكبائر كأنها مع كبر مقدار عقابها قبيحة في الصورة كالشرك بالله . والمراد باللمم الصغائر ، والتركيب يدل على القلة ومنه اللمم المس من الجنون وألم بالمكان إذا قل لبثه فيه قال :
ألمت فحيث ثم قامت فودعت ... وإلا صفة كأنه قيل : كبائر الإثم وفواحشه غير اللمم ، أو استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش . عن أبي سعيد الخدري : اللمم هي النظرة والغمزة والقبلة . عن السدي : الخطرة من الذنب . وعن الكلبي : كل ذنب لم يذكر الله عز وجل عليه حداً ولا عذاباً . وعن عطاء : هي ما تعتاده النفس حيناً بعد حين .
قال جار الله : معنى قوله { إن ربك واسع المغفرة } أنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ويكفر الكبائر بالتوبة . وأقول : فيه إشارة إلى أن اللمم ما لا يمكن فيه الاجتناب عنه لكل الناس أو لأكثرهم فالعفو عن ذلك يحتاج إلى سعة وكثرة ، بل فيه بشارة أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعاً سوى الشرك لأن غفران اللمم لا يوجب الوصف بسعة المغفرة وإنما يوجب ذلك أن لو غفر معها الكبائر . وقوله { هو أعلم بكم } إلى آخره . دليل على وجوب وقوع الغفران لأنه إذا كان عالماً بأصلهم وفرعهم كان عالماً بضعفهم ونقصهم فلا يؤاخذهم بما يصدر عنهم على مقتضى جبلتهم وطبعهم . فكل شيء يرجع إلى الأصل والأرض بطبعها تميل إلى الأسفل . والجنين أوله نطفة مذرة وآخره الاغتذاء بدماء قذرة ، وإذا كان مبدأ حاله هكذا وهو في أوسط أمره متصف بالظلم والجهل والعاقبة غير معلومه وجب عليه أن لا يزكي نفسه فإن الله تعالى أعلم بالزكي والتقي أولاً وآخراً باطناً وظاهراً ، وما أحسن نسق هذه الجمل . وقد أبعد بعض أهل النظم فقال لما ذكر أنه أعلم بمن ضل كان للكافر أن يقول : كيف يعلم الله أموراً نعلمها في البيت الخالي وفي جوف الليل المظلم؟ فأجاب الله تعالى بأنا نعلم ما هو أخفى من ذلك وهو أحوالكم وقت كونكم أجنة . وقوله { في بطون أمهاتكم } للتأكيد فإنه إذا خرج من بطن الأم يدعى سقطاً أو ولداً . وقيل : أراد أن الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله وبأنه كتب عليهما في رحم أمهما أنه ضال أو مهتد . وقيل : فيه تقرير الجزاء وتحقيق الجزاء وتحقيق الحشر فإن العالم بأحوال المكلف وهو جنين القادر على إنشائه من الأرض أول مرة ، عالم بأجزائه بعد التفرق ، قادر على جمعه بعد التمزق . والعامل في « إذ » هو « اذكر » أو ما يدل عليه { أعلم } أي يعلمكم وقت الإنشاء .

والخطاب للموجودين وقت نزول الآية وللآخرين بالتبعية . ويجوز أن يكون الإنشاء من الأرض إشارة إلى خلق أبينا آدم . وقوله { وإذ أنتم } يكون خطاباً لنا . قوله { أفرأيت الذي تولى } قال بعض المفسرين : نزل في الوليد بن المغيرة جلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيراً قوياً فقال له رجل : لم تترك دين آبائك؟ قال : أخاف . ثم قال له : لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه ما ألزمه وتولى عن الوعظ واستماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : نزل في عثمان بن عفان كان يعطي ماله عطاء فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح . ويوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان : إن لي ذنوباً وخطايا وإني أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء . فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الإعطاء ومعنى تولي ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى خير من ذلك . يقال : أكدى الحافر إذا لقيته كدية وهي أرض صلبة كالصخرة ونحوه « أجبل الحافر وأجبل الشاعر » إذا أفحم . ثم وبخه بأنه لا يعلم الغيب فكيف يعلم أن أوزاره محمولة عنه؟ وقيل : نزلت في أهل الكتاب وذلك أنه لما بين حال المشركين المعاندين شرع في قصة هؤلاء والمعنى : أفرأيت الذي تولى أي صار متولياً لكتاب الله وأعطى قليلاً من الزمان حق الله فيه ، ولما بلغ عصر محمد صلى الله عليه وسلم أمسك عن العمل به . قالوا : يؤيد هذا التفسير قوله { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } عينها أو جنسها وهو ما نبأهم به نبينا صلى الله عليه وسلم . وجمع الصحف إما لأن موسى له صحيفة وإبراهيم له صحيفة فذكر التثنية بصيغة الجمع ، وإما لأن كل واحد منهما له صحف لقوله تعالى { وألقى الألواح } [ الأعراف : 15 ] وكل لوح صحيفة . وتقديم صحف موسى إما لأنها أقرب وأشهر وأكثر وإما لأنه رتب وصف إبراهيم عليه ، وإما لحسن رعاية الفاصلة وقد راعى في آخر « سبح اسم ربك » هذا المعنى مع ترتيب الوجود . والتشديد في قوله { وفي } للمبالغة في الوفاء ، أو لأنه بمعنى وفر وأتم كقوله { فأتمهن } [ البقرة : 124 ] وأطلق الفعل ليتناول كل وفاء وتوفية من ذلك تبليغه الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة والصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود وقيامه بأضيافه بنفسه . يروى أنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يطلب ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً فلما رمي في النار قال له جبريل وميكائيل : ألك حاجة؟ فقال : أما إليكم فلا .

قالا : فسل الله . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . وروي في الكشاف عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الفجر والضحى . وروي « ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى حين تظهرون » وعن الهزيل بن شرحبيل كان بين نوح وإبراهيم صلى الله عليه وسلم يؤخذ الرجل بجريرة غيره ويقتل الزوج بامرأته والعبد بسيده ، وأول من خالفهم إبراهيم فلهذا قال سبحانه { ألا تزر وازرة } وهي مخففة من الثقيلة ولهذا لم ينصب الفعل وضمير الشأن محذوف ومحله الجر بدلاً مما في صحف موسى ، أو الرفع كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل : هو أنه لا تزر نفس من شأنها أن تزر وزر نفس أخرى إذا لم تحمل التي يتوقع منها ذلك فغيرها أولى بأن لا تحمل . ثم عطف على قوله { ألا تزر } قوله { وأن ليس } وحكمه حكم ما يتلوه من المعطوفات فيما مر . وفيه مباحث : الأول الإنسان عام وقيل : هو الكافر . وأورد عليه أن الله سبحانه قال { ليس للإنسان } ولو أراد الكافر لقال « ليس على الإنسان » وهذا بالحقيقة غير وارد فإن اللام قد تستعمل في مثل هذا المعنى قال تعالى { وإن أسأتم فلها } [ الإسراء : 7 ] وورد على الأول أن الدعاء والصدقة والحج ينفع الميت كما ورد في الأخبار ، وأيضاً قال تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] والأضعاف فوق ما سعى . وأجاب بعضهم بأن قوله { ليس للإنسان إلا ما سعى } كان في شرع من تقدم ثم إنه تعالى نسخه في شريعتنا وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع . وقال المحققون : إن سعي غيره وكذا الأضعاف لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً كان سعي غيره كأنه سعي نفسه . والثاني « ما » مصدرية والمضاف محذوف أي الأثواب أو جزاء سعيه . ويجوز أن تكون موصولة أي إلا الجزاء الذي سعى فيه . الثالث في صيغة المضي إشارة إلى أنه لا يفيد الإنسان إلا الذي قد حصل فيه ووجد ، وأما مجرد النية مع التواني والتراخي فذلك مما لا اعتماد عليه ولعل ذلك من مكايد الشيطان يمنيه ويعده إلى أن يحل اوجل بغتة . قوله { وأن سعيه سوف يرى } إن كان من الرؤية فكقوله { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } [ التوبة : 105 ] وإن كان من الإراءة فالفائدة في إراءته وعرضه عليه أن يفرح به هو ويحزن الكافر والله قادر على إعادة كل معدوم عرضاً كان أو جوهراً ، والمراد أن يريه الله إياه على صورة جميلة إن كان عملاً صالحاً وبالضد إن كان بالضد .

ويجوز أن يكون مجازاً عن الثواب كما يقال « سترى إحسانك عند الملك » أي جزاءه إلا أن القول الأول أقوى لقوله { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } اللهم إلا أن يراد تراخي الرتبة والفائدة تعود إلى الوصف بالأوفى وهو الرؤية التي هي أوفى من كل وافٍ أي يجزى العبد بسعيه الجزاء الأتم . وجوز أن يكون الضمير للجزاء ثم فسره بقوله { الجزاء الأوفى } وأبدل عنه كقوله { وأسروا النجوى الذين ظلموا } [ الأنبياء : 3 ] ومن لطائف الآية أنه قال في حق المسيء { لا تزر وارزة وزر أخرى } ولا يلزم منه أن يبقى الوزر على المذنب بل يجوز أن يسقط عنه بالمحو والعفو ، ولو قال « كل وازرة تزر وزر نفسها » لم يكن بد من بقاء وزرها عليها . وقال في حق المحسن « ليس له ما سعى » ولم يقل « ليس له ما لم يسع » إذا العبارة الثانية لا يلزمها أن له ما سعى ، والعبارة الأولى يلزمها ذلك لأنها في قوة كلامين إثبات ونفي والحاصل أنه قال هي حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه ، وفي حق المحسن بعبارة توجب رجاءه كل ذلك لأن رحمته سبقت غضبه . قوله { وأن إلى ربك المنتهى } المشهور أن فيه بيان المعاد كقوله عز من قائل { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] أي للناس بين يدي الله وقوف وفيه بيان وقت الجزاء . وقد يقال : المراد به التوحيد وهو تأويل أهل العرفان . والحكماء يستدلون به على وجود الصانع فإن الممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب . وقيل : أراد أن البحث والإدراك ينتهي عنده كما قيل : إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إذا ذكر الرب فانتهوا » والخطاب عام لكل سامع مكلف وفيه تهديد للمسيء ووعد للمحسن : وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه تسلية له . ثم بين غاية قدرته وهي إيجاده الضدين الضحك والبكاء والإماتة والإحياء في شخص واحد ، وكذا الذكورة والأنوثة في مادة واحدة هي النطفة نطفت إذا تمنى تدفق في الرحم . يقال : منى وأمنى . وقال الأخفش : تخلق والمنى والتقدير وفيه إبطال قول الطبيعيين أن مبدأ الضحك قوة التعجب ، ومبدأ الكباء رقة القلب ، وإن الحياة مستندة إلى الطبيعة كالنبات ، والموت أمر ضروري وهو تداعي الأجزاء العنصرية إلى الانفكاك بعد اجتماعها على سبيل الاتفاق أو لاقتضاء سبب سماوي من اتصال أو انفصال وذلك أن انتهاء كل ممكن إلى الواجب واجب . قوله { أمات وأحيي } إما لأجل الفاصلة أو لأنه اعتبر حالة كون الإنسان نطفة ميتة . قال الأطباء : الذكر أسخن وأجف والأنثى أبرد وأرطب . وقالوا في نبات شعر الرجل : إن الشعور تتكون من بخار دخاني منجذب إلى المسام فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة ، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعراً .

وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف لم ينبت لعسر خروجه من المخرج الضيق وإنما يندفع كثرة تلك الأبخرة إلى الرأس حتى رأس المرأة والصبي لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فيتصاعد إليها . وأما في الرجل فيندفع إلى صدره كثيراً لحرارة القلب . وإلى آلات التناسل لحرارة الشهوة ، وإلى اللحيين لكثرة الحرارة بسبب الأكل والكلام ومع حرارة الأبخرة ، ومن شأن الحرارة جذب الرطوبة كجذب السراج الزيت . هذا أقوى ما قالوا في هذا الباب . ويرد عليه أنه ما السبب لتلازم شعر اللحية وآلة التناسل فإنها لو قطعت لم تنبت اللحية ، ولو سلم التلازم من حيث إن حرارة الخصيان تقل بسبب قطع آلة الشهوة فلا بد أن يعترفوا بانتهاء جميع الممكنات إلى الواجب بالذات .
واعلم أنه سبحانه في هذه الآية وسط الفصل بين الاسم والخبر حيث كان توهم الحملية فيه أكثر وترك الفصل حيث لم يكن كذلك . ففي آيات الضحك والبكاء والإماتة والإحياء وسط الفصل للتوهمات المذكورة حتى قال نمرود { أنا أحي وأميت } [ البقرة : 258 ] وأما خلق الذكر والأنثى فلم يتوهم أحد أنه بفعل المخلوقين فلم يؤكد بالفصل وعلى هذا القياس قوله { وأن عليه النشأة الأخرى } ظاهرة وجوب وقوع الحشر في الحكمة الإلهية للمجازاة على الإحسان والإساءة وقال في التفسير الكبير : هو كقوله { ثم أنشأناه خلقاًً آخر } [ المؤمنون : 14 ] أي بعد خلقته ذكراً وأنثى نفخ فيه الروح الإنساني ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، ثم أقناه بالكسب بعد كبره أي أعطاه القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك ، وبالجملة فالإغناء بكل ما تدفع به الحاجة والإقناء بما زاد عليه . وإنما وسط الفصل لأن كثيراً من الناس يزعم أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده ، فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر . وذهب بعضهم إلى أنه بالبخت أو النجوم فقال رداً عليهم { وأنه هو رب الشعرى } وهما شعريان شامية ويمانية وهذه أنورهما . وخصت بالذكر لأن أبا كبشة أحد أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أمه قال : لا أرى شمساً ولا قمراً ولا نجماً تقطع السماء عرضاً غيرها فليس شيء مثلها فعبدها وعبدتها خزاعة فخالفوا قريشاً في عبادة الأوثان . وكانت قريش يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم « أبو كبشة » تشبيهاً له لمخالفته إياهم في دينهم . وحين ذكر أنه أغنى وأقنى وذلك كان بفضل المولى لا بعطاء الشعرى ، ذكرهم حال الأقدمين الهلكى . وعاد الأولى قوم هود والأخرى ، إرم ميزوا عن قوم كانوا بمكة . وقيل : أراد التقدم في الدنيا وأنهم كانوا أشرافاً قوله { وثمود } عطف على { عاد } أي ما رحم عليهم . ومن المفسرين من قال فما أبقى أي ما ترك أحداً منهم كقول

{ فهل ترى لهم من باقية } [ الحاقة : 8 ] وبه تمسك الحجاج على من زعم أن ثقيفاً من ثمود . وإنما وصف قوم نوح بأنهم كانوا هم أظلم وأطغى فبالغ بتوسيط الفصل وبناء التفضيل لأن نوحاً عليه السلام كان أول الرسل إلى أهل الأرض ، وكان قومه أول من سن التكذيب وإيذاء النبي والبادي أظلم . ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها . ولأنهم كانوا مجاوزين حد الاعتدال يضربون نبيهم حتى لم يربه حراك وينفرون عنه الناس ويخوفون صبيانهم وما نجع فيهم وعظه ألف سنة إلا خمسين عاماً . وليس قوله { أنهم كانوا } تعليلاً للإهلاك حتى يرد عليه أن غيرهم من الظالمين والطاغين لا يلزم أن يهلكوا وإنما هي جملة معترضة بياناً لشدة طغيانهم وفرط ظلمهم . { والمؤتفكة } يعني قريات قوم لوط لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت وقد مر في هود { أهوى } أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل فأسقطها إلى الأرض { فغشاها ما غشي } من الحجار المسومة وفيه تهويل وتفخيم لما صب عليهم من العذاب . وجوز أن يكون « ما » فاعلاً كقوله { والسماء وما بناها } [ الشمس : 5 ] هذا كله حكاية ما في الصحف إلا فيمن قرأ { وإن إلى ربك المنتهي } بالكسر على الابتداء وكذا ما بعده أما قوله { فبأي آلاء ربك تتمارى } فقد قيل : هو أيضاً مما في الصحف وقيل : هو ابتداء كلام ، والخطاب لكل سامع ولرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] والمراد أنه لم يبق فيها إمكان الشك ، وقد عد نعماً ونقماً وجعل كلها آلاء لأن النقم أيضاً نعم إن أراد أن يعتبر . ويحتمل أن يقال لما عد نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه وإقنائه . ثم ذكر أنه أهلك من كفر بها ، وبخ الإنسان على جحد شيء من نعمة فيصيبه مثل ما أصاب المتمارين : أو يقال : لما حكى الإهلاك قال للشاك : أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك فبأي آلاء ربك تتمارى وسيجيء له مزيد بيان في سورة الرحمن { هذا } القرآن أو الرسول { نذير } أي إنذار أو منذر من جنس الإنذارات أو المنذرين . وقال { الأولى } على تأويل الجماعة . وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة ختم السورة بذكر اقتراب الحشر فقال { أزفت الآزفة } أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله { اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] { وما يدريك لعل الساعة قريب } [ الشورى : 17 ] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم وأنها تكاد تقوم { ليس لها من دون الله } نفس { كاشفة } تكشف عن وقت مجيئها أو تقدر على كشفها ودفعها إذا وقعت ، ولا يلزم من قدرة الله على دفعها وجوب وقوع الدفع فإن كل مقدور لا يلزم أن يكون واقعاً . والتاء في { كاشفة } للتأنيث كما مر ، أو للمبالغة أي لا أحد يكشف حقيقتها ، أو هي مصدر كالعافية ، و « من » زائدة والتقدير ليس لها كاشفة دون الله ، ويحتمل أن يراد لها في الوجود نفس تكشف عنها من غير الله بل إنما يكشفها من عند الله ومن قبل علمه وإخباره .

ثم وبخهم على التعجب من القرآن ومن حديث القيامة وضحكهم من استهزاء وإنكاراً . وفي قوله { ولا تبكون } إلى آخره تنبيه على أن البكاء والخشوع وحضور القلب حق عليهم عند سماع القرآن كما قال { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً } [ مريم : 57 ] والسمود الغفلة وقد يكون مع اللهو . وعن مجاهد : كانوا يمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم غضاباً مبرطمين . وقال : البرطمة الإعراض ثم إنهم كانوا أنصفوا من أنفسهم وقالوا : لا نعجب ولا نضحك ولا نسمد بل نبكي ونخشع فلا جرم قال { فاسجدوا } أي إذا اعترفتم لله بالعبودية فاخضعوا له وأقيموا وظائف العبادة . وقد مر في سورة الحج في قوله { ألقى الشيطان في أمنيته } { الآية : 52 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة في الصلاة ثم سجد فسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس وذكرنا سببه .
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

القراآت : { مستقر } بالجر : يزيد { الداعي } { إلى الداعي } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل فيهما بالياء { يدع الداع } بغير ياء في الحالين { إلى الداع } في الوصل : قالون . الباقون : بغير ياء في الحالين { شيء نكر } بسكون الكاف : ابن كثير { خاشعاً } بالألف : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . الآخرون { خشعاً } كركع . { ففتحنا } بالتشديد : ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب { وفجرنا } بالتخفيف : أبو زيد عن المفضل و { ونذري } وما بعده بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل . { أو لقي } مثل أو « نبئكم » { ستعلمون } على الخطاب : ابن عامر وحمزة { سنهزم } بالنون الجمع بالنصب : روح وزيد عن يعقوب .
الوقوف { القمر } ه { مستمر } ه { مستقر } ه { مزدجر } ه لا بناء على أن قوله { حكمه } بدل من « ما » أو من { مزدجر } { النذر } ه لا للعطف مع اتصاله المعنى { عنهم } م لأنه لو وصل لأوهم أن الظرف متصل به وليس كذلك بل هو ظرف { يخرجون } { نكر } ه لا لاتصال الحال بالظرف من قبل اتحاد عاملها { منتشر } ه لا لأن { مهطعين } حال بعد حال { الداع } ط { عسر } ه { وازدجر } ه { فانتصر } ه { منهمر } ه ز للعطف مع اتحاد مقصود الكلام { قدر } ه ج للعارض من الجملتين المتفقتين وللآية مع احتمال الحال أي وقد حملناه { ودسر } ه لا لأن { تجري } صفة لها { بأعيننا } ج لأن جزاء مفعول له أو مصدر لفعل محذوف { كفر } ه { مدكر } ه { ونذر } ه { مدكر } ه { ونذر } ه { مستمر } ه لا لأن ما بعده صفة الناس لا لأن { كأنهم } حال { منقعر } ه { ونذر } ه { مدكر } ه { بالنذر } ه { نتبعه } لا لتعلق « إذا » بها { وسعر } ه { أشر } ه { الأشر } ه { واصطبر } ه لا للعطف { بينهم } ج لأن كل مبتدأ مع أن الجملة من بيان ما تقدم { محتضر } ه { فعقر } ه { ونذر } ه { المحتظر } ه { مدكر } ه { بالنذر } ه { لوط } ط لأن الجملة لا تصلح صفة للمعرفة { بسحر } ه لا { عندنا } ط { شكر } ه { بالنذر } ه { ونذر } ه { مستقر } ه ج للفاء أي فقيل لهم ذقوا { ونذر } ه { مدكر } ه { النذر } ه ج لاتصال المعنى بلا عطف { مقتدر } ه { في الزبر } ه ج لأن ما بعده يصلح استفهام إنكار مستأنف ويصلح بدلاً عن « أم » قبلة { منتصر } ه { الدبر } ه { وأمر } ه { وسعر } ط بناء على أن { يوم } ليس ظرفاً لضلال وإنما هو ظرف لمحذوف أي يقال لهم ذقوا { وجوهم } ط { سقر } ه { بقدر } ه { بالبصر } ج { مدكر } ه { الزبر } ه { مستطر } ه { ونهر } ه لا لأن ما بعده بدل { مقتدر } ه .

التفسير : أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة { أزفت الآزفة } [ النجم : 57 ] إلا أنه ذكر ههنا دليلاً على الاقتراب وهو قوله { وانشق القمر } في الصحيحين عن أنس أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر مرتين . وعن ابن عباس : انفاق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت . وقال ابن مسعود : رأيت حراء بين فلقتي القمر . وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم هذا قول أكثر الفسرين . وعن بعضهم أن المراد سينشق القمر وصيغة الماضي على عادة إخبار الله ، وذلك أن انشقاق القمر أمر عظيم الوقع في النفوس فكان ينبغي أن يبلغ وقوعه حد التواتر وليس كذلك . وأجيب بأن الناقلين لعلهم اكتفوا بإعجاز القرآن عن تشهير سائر المعجزات بحيث يبلغ التواتر . وأيضاً إنه سبحانه جعل انشاق القمر آية من الآيات لرسوله ولو كانت مجرد علامة القيامة لم يكن معجزة له كما لم يكن خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب وغيرهما معجزات له ، نعم كلها مشتركة في نوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن الغيوب . وزعم بعض أهل التنجيم أن ذلك كان حالة شبه الخسوف ذهب بعض جرم القمر عن البصر وظهر في الجو شيء مثل نصف جرم القمر نحن نقول : إخبار الصادق بأن يتمسك به أولى من قول الفلسفي . هذا مع أن استدلالهم على امتناع الخرق في السماويات لا يتم كما بينا في الحكمة . وكيف يدل انشقاق القمر على اقتراب الساعة نقول : من جهة إن ذلك يدل على جواز انخراق السماويات وخرابها خلاف ما زعمه منكرو الحشر من الفلاسفة وغيرهم . ومن ههنا ظن بعضهم وإليه ميل الإمام فخر الدين الرازي أن المراد باقتراب الساعة ليس هو القرب الزماني وإنما المراد قربها في العقول في الأذهان كأنه لم يبق بعد ظهور هذه الآية للمكر مجال . واستعمال لفظ الاقتراب ههنا مع أنه مقطوع به كاستعمال « لعل » في قوله { لعل الساعة تكون قريباً } [ الأحزاب : 63 ] والأمر عند الله معلوم . قال : وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل لئلا يبقى للكافر مجال الجدال فإنه قد مضى قرب سبعمائة سنة ولم تقم الساعة ولا يصح إطلاق لفظ القرب على مثل هذا الزمان . والجواب أن كل ما هو آتٍ قريب وزمان العالم زمان مديد والباقي بالنسبة على الماضي شيء يسير قال أهل اللغة : في « افتعل » مزيد تشجم ومبالغة فمعنى اقترب دنا دنواً قريباً ، وكذلك اقتدر أبلغ من قدر . ثم بين أن ظهور آيات الله لا يؤثر فيهم بل يزيد في عنادهم وتمردهم حتى سموها سحراً مستمراً أي دائماً مطرداً كأنهم قابلوا ترادف الآيات وتتابع المعجزات باستمرار السحر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي كل أوان بمعجزة قولية أو فعلية سماوية أو أرضية .

وقيل : هو من قولهم « حبل مرير الفتل » من المرة وهي الشدة أي سحر قوي محكم . وقيل : من المرارة يقال : استمر الشيء إذا اشتد مراراته أي سحر مستبشع مر في مذاقنا . وقيل : مستمر أي مار ذاهب زائل عما قريب . عللوا أنفسهم بالأماني الفارغة فخيب الله آمالهم بإعلاء الدين وتكامل قوته كل يوم . والظاهر أن قوله { وأن يروا } إلى آخر الآية . جملة معترضة بياناً لما اعتادوه عند رؤية الآيات . وقوله { وكذبوا } عطف على قوله { اقترب } كأنهم قابلوا الاقتراب والانشقاق بالتكذيب واتباع الأهواء . والمعنى وكذبوا بالأخبار عن اقتراب الساعة { واتبعوا أهواءهم } في أن محمد صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاهن أو كذبوا بانشقاق القمر واتبعوا آراءهم الفاسدة في أنه خسوف عرض للقمر وكذلك كل آية { وكل أمر مستقر } صائر إلى غاية وأن أمر محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى حد يعرف منه حقيقته وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان . ومن قرأ بالجر فلعطف { كل } على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر وبين حاله . ثم أشار بقوله { ولقد جاءهم } إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد فأخبرهم الرسول باقتراب القيامة وأقام الدليل على صدقه ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة . وفي كل ذلك { مزدجر } لهم أي ازدجار أو موضع ازدجار ومظنة ادكار وهو افتعال من الزجر قلبت التاء دالاً . وقوله { حكمة } يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا الترتيب في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان { فما تغنى } نفي أو استفهام إنكار معناه أنك أتيت بما عليك من دعوى النبوة مقرونة بالآية الباهرة وأنذرتهم بأحوال الأقدمين فلم يفدهم فأي غناء تغنى النذر أي الإنذارات بعد هذا { فتول عنهم } لعلمك أن الإنذار لا يفيد فيهم ولا يظهر الحق لهم إلى يوم البعص والنشور . والداعي إسرافيل أو جبريل ينادي إلى شيء منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة . وتخصيص المدعوين بالكافرين من حيث إنهم هم الذين يكرهون ذلك اليوم من ضيق العطن قوله { خاشعاً } حال من الخارجين والفعل للأبصار . وليس قراءة من قرأ { خشعاً } على الجمع من باب « أكلوني البراغيث » كما ظن في الكشاف ، ولكنه أحسن من ذلك ولهذا تواترت قراءته لعدم مشابهة الفعل صورة . تقول في السعة « قام رجل قعود غلمانه » وضعف « قاعدون » وضعف منه « يقعدون » لأن زيادة الحرف ليست في قوة زيادة الاسم .

وجوز أن يكون في { خشعاً } ضميرهم ويقع أبصارهم بدلاً عنه . وخشوع الأبصار سكونها على هيئة لا تلتفت يمنة ويسرة كقوله { لا يرتد إليهم طرفهم } [ إبراهيم : 43 ] والأجداث القبور شبههم بالجراد المنتشر للكثرة والتموج والذهاب في كل مكان . وقيل : المنتشر مطاوع أنشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض وبدب فيكون إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعف حالهم . ومعنى مهطعين مسرعين وقد مر في إبراهيم عليه السلام .
ثم إنه سبحانه أعاد بعض الأنباء وقدم قصة نوح على عاد وفائدة ، قوله { فكذبوا عبدنا } بعد قوله { كذبت قبلهم قوم نوح } هي فائدة التخصيص بعد التعميم أي كذبت الرسل أجمعين فلذلك كذبوا نوحاً . ويجوز أن يكون المراد التكرير أي تكذيباً عقيب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن تبعه قرن آخر مكذب . وقوله { عبدنا } تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه فكذبوه { وقالوا } هو { مجنون } وازدجروه أي استقبلوه بالضرب والشتم وغير ذلك من الزواجر عن تبليغ ام أمر به . وجوز أن يكون من جملة قولهم أي قالوا ازدجرته الجن ومسته وذهبت بلبه { فدعى ربه أني مغلوب } غلبني قومي بالإيذاء والتكذيب . وقيل : غلبتني نفسي بالدعاء عليهم حين أيست من إجابتهم لي { فانتصر } منهم فانتقم منهم لي أو لدينك روي أن الواحد من قومه كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً عليه فيفيق وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وأبواب السماء وفتحها حقيقة عند من يجوز لها أبواباً وفيها مياهاً . وعند أهل البحث والتدقيق هو مجاز عن كثرة انصباب الماء من ذلك الصوب كما يقال في المطر الوابل « جرت ميازيب السماء وفتحت أفواه القرب » والباء للآية نحو : فتحت الباب بالمفتاح . ونظيره قول القائل « يفتح الله لك بخير » . وفيه لطيفة هي جعل المقصود مقدماً في الوجود والتقدير يفيض الله لك خيراً يأتي ويفتح لك الباب . ويجوز أن يراد فتحنا أبواب السماء مقرونة { بماء منهمر } منصب في كثرة وتتابع أربعين يوماً . قال علماء البيان : قوله { فجرنا الأرض عيوناً } أبلغ من أن لو قال « وفجرنا عيون الأرض » أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة نظيره { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] وقد مر { فالتقى الماء } أي جنسه يعني مياه السماء والأرض يؤيده قراءة من قرأ { فالتقى الماآن } { على أمر قد قدر } أي على حال قدرها الله عز وجل كيف شاء ، أو على حال جاءت مقدرة متساوية أي قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض ، ولعله إشارة إلى أن ماء الأرض ينبع من العيون حتى إذا ارتفع وعلا لقيه ماء السماء . ويحتمل أن يقال : اجتمع الماء على أمر هلاكهم وهو مقدر في اللوح { وذات ألواح ودسر } هي السفينة وهي من الصفات التي تؤدي مؤدى الموصوف فتنوب منابه .

وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه . والدسر المسامير جمع دسار من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه . فعلنا كل ما ذكرنا من فتح أبواب السماء وغيره { جزاء } أو جزيناهم جزاء { لمن كان كفر } وهو نوح عليه السلام لأن وجود النبي صلى الله عليه وسلم نعمة من الله وتكذيبه كفرانها . يحكى أن رجلاً قال للرشيد : الحمد لله عليك . فسئل عن معناه قال : أنت نعمة حمدت الله عيلها . والضمير في { تركناها } للسفينة أو للفعلة كما مر في « العنكبوت » { فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين } [ الآية : 15 ] والمدكر المعتبر وأصله « مذتكر » افتعال من الذكر والاستفهام فيه وفي قوله { كيف كان عذابي ونذر } أي إنذاراتي للتوبيخ والتخويف { ولقد يسرنا القرآن } سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية . وقيل : للحفظ والأول أنسب بالمقام . وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظاً على ظهر القلب سوى القرآن .
سؤال : ما الحكمة في تكرير ما كرر في هذه السورة من الآي؟ والجواب أن فائدته تجديد التنبيه على الادكار والاتعاظ والتوقيف على تعذيب الأمم السالفة ليعتبروا بحالهم ، وطالما قرعت العصا لذوي الحلوم وأصحاب النهي وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عد كل نعمة ، وفي سورة المرسلات عند عد كل آية لتكون مصورة للأذهان محفوظة في كل أوان . ونفس هذه القصص كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب لأن التكرير يوجب التقرير والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لمن يعرف من غيره ، وإنما كرر قوله { فكيف كان عذابي ونذر } مرتين في قصة عاد لأن الاستفهام الأول أورده للبيان كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسؤول سائلاً فيقول : كيف هي؟ فيقول المعلم : إنها كذا وكذا . والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف . فأما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار وفي قصة نوح اقتصر على الثاني لذلك . ولعله ذكر الاستفهامين معاً في قصة عاد لفرط عتوهم وقولهم { من أشد منا قوة } [ فصلت : 15 ] وقد مر في حم السجدة تفسير الصرصر والأيام النحسات . وإنما وحد ههنا لأنه أراد مبدأ الأيام ووصفه بالمستمر أغنى عن جمعه أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم . قيل : استمر عليهم جميعاً على كبيرهم وصغيرهم حتى لم يبق منهم نسمة . وقيل : المستمر الشديد المرارة . { تنزع الناس } تقلعهم عن أماكنهم فتكبهم وتدق رقابهم { كأنهم أعجاز نخل منقعر } منقلع عن مغارسه . وفي هذا التشبيه إشارة إلى جثثهم الطوال العظام ، ويجوز أن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجساداً بلا رؤس كأعجاز النخل أصولاً بلا فروع . قال النحويون : اسم الجنس الذي تميز واحده بالتاء جاز في وصفه التذكير كما في الآية ، والتأنيث كما في قوله

{ أعجاز نخل خاوية } [ الحاقة : 7 ] هذا مع أن كلاً من السورتين وردت على مقتضى الفواصل . قوله { أبشراً } من باب ما أضمر عامله على شريطة التفسير وإنما أولى حرف الاستفهام ليعلم أن الإنكار لم يقع على مجرد الاتباع ولكنه وقع على اتباع البشر الموصوف وأنه من جهات إحداها كونه بشراً وذلك لزعمهم أن الرسول لا يكون بشراً . الثاني كونه منهم وفيه بيان قوة المماثلة ، وفيه بيان مزيد استكبار أن يكون الواحد منهم مختصاً بالنبوة مع أنهم أعرف بحاله . الثالثة كونه واحداً ، أي كيف تتبع الأمة رجلاً أو أرادوا أنه واحد من الآحاد دون الأشراف . والسعر النيران جميع سعير للمبالغة ، أو لأن جهنم دركات ، أو لدوام العذاب كأن يقول : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وفي سعر فعكسوا عليه قائلين : إن اتبعانك كنا إذاً كما تقول . وقيل : الضلال البعد عن الصواب ، والسعر الجنون ومنه « ناقة مسعورة » وفي قوله { أءلقي الذكر عليه من بيننا } تصريح بما ذكرنا من أن واحداً منهم كيف اختص بالنبوة . وفي الإلقاء أيضاً تعجب آخر منهم وذلك أن الإلقاء إنزال بسرعة كأنهم قالوا : الملك جسم والسماء بعيدة فكيف نزل في لحظة واحدة؟ أنكروا أصل الإلقاء ثم الإلقاء عليه من بينهم . والأشر البطر المتكبر أي حمله بطره وشطارته على ادعاء ما ليس له . ثم قال سبحانه تهديداً لهم ولأمثالهم { سيعلمون غداً } أي فيما يستقبل من الزمان هو وقت نزول العذاب أو يوم القيامة { من الكذاب الأشر } بالتشديد أي الأبلغ في الشرارة . وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول : هو أخير وأشر . وذلك أصل مرفوض . ومن قرأ { ستعلمون } على الخطاب فإما حكاية جواب صالح أو هو على طريقة الالتفات . ثم إنه تعالى خاطب صالحاً بقوله { إنا مرسلو الناقة } أي مخرجوها من الصخرة كما سألوا فتنة وامتحاناً لهم . { فارتقبهم } وتبصر ما هم فاعلون بها { واصطبر } على إيذائهم { ونبئهم أن الماء قسمة } أي مقسوم { بينهم } خص العقلاء بالذكر تغليباً { كل شرب محتضر } فيه يوم لها ويوم لهم كما قال عز من قائل { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } [ الشعراء : 155 ] وقد مر في « الشعراء » وقال في الكشاف : محضور لهم وللناقة وفيه إبهام . وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في شربها { فنادوا صاحبهم } وهو قدار نداء المستغيث وكان أشجع وأهجم على الأمور أو كان رئيسهم . { فتعاطى } فاجترأ على الأمر العظيم فتناول العقر وأحدثه بها أو تعاطى الناقة أو السيف او الأجر . والهشيم الشجر اليابس المتهشم أي المتكسر والمحتظر الذي يعمل الحظيرة ، ووجه التشبيه أن ما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتكسر وأنهم صاروا موتى جاثمين ملقى بعضهم فوق بعض كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع . ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم وقوداً للجحيم كقوله { فكانوا لجهنم حطباً } والحاصب الريح التي ترميهم بالحجارة وقد مرّ في « العنكبوت » .

ولعل التذكير بتأويل العذاب . والسحر القطعة من الليل وهو السدس الآخر كما مر في « هود » و « والحجر » . وصرف لأنه نكرة وإذا أردت سحر يومك لم تصرفه . والظاهر أن الاستثناء من الضمير في { عليهم } لأنه أقرب ولأنه المقصود . وجوز أن يكون استثناء من فاعل كذبت وهو بعيد { نعمة } مفعول له أي إنعاماً . وقوله { كذلك نجزي من شكر } أكثر المفسرين على أنه إشارة إلى أنه تعالى يصون من عذاب الدنيا كل من شكر نعمة الله بالطاعة والإيمان . وقيل : إنه وعد بثواب الآخرة أي كما نجيناهم من عذاب الدنيا ننعم عليهم يوم الحساب بالثواب .
وحين أجمل قصتهم فصلها بعض التفصيل قائلاً { ولقد أنذرهم } أي لوط { بطشتنا } شدة أخذنا بالعذاب { فتماروا بالنذر } فتشاكوا بالإنذارات { ولقد راودوه عن ضيفه } معناها قريب من المطالبة كما مر في « يوسف » . والضمير للقوم باعتبار البعض لأن بعضهم راودوه وكان غيرهم راضين بذلك فكانوا جميعاً على مذهب واحد . { فطمسنا أعينهم } مسخناها وجعلناها مع الوجه صفحة ملساء لا يرى لها شق . وإنما قال في « يس » { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } [ الآية : 66 ] بزيادة حرف الجر لأنه أراد به إطباق الجفنين على العين وهو أمر كثير الوقوع قريب الإمكان بخلاف ما وقع للمراودين من قوم لوط فإنه أنذر وأبعد والكل بالإضافة إلى قدرة الله تعالى واحد ، إلا أنه حين علق الطمس بالمشيئة ذكر ما هو أقرب إلى الوقوع كيلا يكون للمنكر مجال كثير . ونقل عن ابن عباس أن المراد بالطمس المنع عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيئاً غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئاً . ولعل في هذا النقل خللاً لأنه لا يناسب قوله عقيب ذكر الطمس { فذوقوا عذابي ونذر } أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي . ثم حكى العذاب الذي عم الكل بقوله { ولقد صبحهم } ولقائل أن يسأل : مع الفائدة في قوله { بكرة } مع قوله { صبحهم } والجواب أن { صبحهم } يشمل من أول الصبح إلى آخر الإسفار وأنه تعالى وعدهم أول الصبح كما قال { إن موعدهم الصبح } [ هود : 81 ] فأراد بقوله { بكرة } تحقيق ذلك الوعد . ويمكن أن يقال : قد يذكر الوقت المبهم لبيان أن تعيين الوقت غير مقصود كما تقول : خرجنا في بعض الأوقات ولا فائدة فيه إلا قطع المسافة . فإنه ربما يقول السامع متى خرجتم فيحتاج إلى أن تقول في وقت كذا أو في وقت من الأوقات . فإذا قال من أول الأمر في وقت من الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته وبمثله أجيب عن قوله

{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] ويحتمل أن يقال : { صبحهم } معناه قال لهم بكرة عموا صباحاً وهو بطريق التهكم كقوله { فبشرهم بعذاب } [ آل عمران : 21 ] ويجوز أن يكون التصبيح بمعنى الإغاثة من قولهم « يا صباحاه » والعذاب المستقر الثابت الذي لا مدفع له أو الذي استقر عليهم ودام إلى الاستئصال الكلي أو إلى القيامة وما بعدها . قوله { ولقد جاء آل فرعون النذر } يعني موسى وهارون وغيرهما وأنهما عرضا عليه ما أنذر به المرسلون وهو بمعنى الإنذارات { بآياتنا كلها } هي الآيات التسع أو جميع معجزات الأنبياء عليهم السلام لأن تكذيب البعض تكذيب الكل العزيز المقتدر الغالب الذي لا يعجزه شيء . ثم خاطب كفار أهل مكة بقوله { أكفاركم خير من أولئكم } المكذبين وهو استفهام إنكار لأن الأقدمين كانوا أكثر عدداً وقوة وبطشاً { أم لكم براءة في الزبر } الكتب المتقدمة أن من كفر منكم كان آمناً من سخط الله فأمنتم بتلك البراة كما أن البيداء وهو من في يده قانون أصل الخراج إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة { أم يقولون نحن جميع } جمع مجتمع أمرنا { منتصر } منتقم عن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر فتقدم في الصف فقال : نحن ننصر اليوم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فنزلت { سيهزم الجمع ويولون الدبر } أي الأدبار . عن عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال عمر : أي جمع يهزم؟ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع ويقول { سيهزم الجمع } عرف تأويلها { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى } من أنواع عذاب الدنيا أو أدهى الدواهي . والداهية اسم فاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه ويختص بأمر صعب كالحادثة والنازلة . { وأمر } من المرارة . وقيل : من المرور أي أدوم وأكثر مروراً . وقيل : من المرة الشدة . قوله { إن المجرمين } الآية . روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله { خلقناه بقدر } وعن عائشة أن النبي صلى الله عيله وسلم قال « مجوس هذه الأمة القدرية » وهو المجرمون الذين سماهم الله في قوله { إن المجرمين في ضلال } عن الحق في الدنيا { وسعر } وهو نيران في الآخرة أو في ضلال وجنون في الدنيا لا يهتدون ولا يعقلون . أو في ضلال وسعر في الآخرة ، لأنهم لا يجدون إلى مقصودهم وإلى الجنة سبيلاً . والنيران ظاهر أنها في الآخرة ، وسقر علم لجهنم من سقرته النار وصقرته إذا لوحته ، والمشهور بناء على الحديث المذكور أن قوله { إنا كل شيء } متعلق بما قبله كأنه قال : إن مس النار جزاء من أنكر هذا المعنى وهو منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر . قال النحويون : النصب في مثل هذا الصور لازم لئلا يلتبس المفسر بالصفة ، وذلك أن النصب نص في المعنى المقصود وأما الرفع فيحتمل معنيين : أحدهما كل شيء فإنه مخلوق بقدر هو يؤدي مؤدى النصب ، والآخر كل شيء مخلوق لنا فإنه بقدر وهذا غير مقصود بل فاسد إذ يفهم منه أن شيئاً من الأشياء غير مخلوق لله ليس بقدر والقدر التقدير أي كل شيء خلقناه مرتباً على وفق الحكمة أو مقدراً مكتوباً في اللوح ثابتاً في سابق العلم الأزلي .

واعلم أنه قد مر في هذا الكتاب أن الجبري يقول القدرية التي ذمها النبي صلى الله عليه وسلم هو المعتزلي الذي ينفي كون الطاعة والمعصية بتقدير الله . والمعتزلة تقول : الجبري الذي يدعي أن الزنا والسرقة وغيرهما من القبائح كلها بتقدير الله تعالى . وكذا حال السني لأنه وإن كان يثبت للعبد كسباً إلا أنه يسند الخير والشر إلى القضاء والقدر وقال بعض العلماء : إن كل واحد من الفريقين لا يدخل في اسم القدرية إلا إذا كان النافي نافياً لقدرة الله لا أن يقول : هو قادر على أن يلجىء العبد إلى الطاعة ولكن حكمته اقتضت بناء التكليف على الاختيار وإلا كان المثبت منكراً للتكليف وهم أهل الإباحة القائلين بأن الكل إذا كان بتقدير الله فلا فائدة في التكليف . ولعل وجه تشبيههم بالمجوس أنهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالمجوس يام بين الكفار المتقدمين فكما أن المجوس نوع من الكفرة أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة وبهذا التأويل لا يلزم الجزم بأنهم من أهل النار ، وأيضاً لعل اسم القدرية لأهل الإثبات أولى منه لأهل النفي كما تقول : دهري لأنه يقول بالدهر والثنوية لإثباتهم إليهن اثنين أو نوراً وظلمة . وقال بعضهم : هذا الاسم بأهل النفي أولى لأن الآية نزلت في منكري القدرة وهم المشركون القائلون بأن الحوادث كلها مستندة إلى اتصالات الكواكب وانصرافاتها فلا قدرة لله على شيء من ذلك . قوله { وما أمرنا إلا واحدة } أي إلا كلمة واحدة وهي « كن » تأكيد إثبات القدرة له وقد مر مثله في « النحل » . وقوله { كلمح بالبصر } تأكيد على تأكيد وهذا تمثيل وإلا فتكوينه وإيجاده عين مشيئته وأرادته . ومعنى الخلق والأمر أيضاً تقدم مشتبعاً في « الأعراف » ثم هددهم مرة أخرى بقوله { ولقد أهلكنا أشياعكم } أي أشباهكم في الكفر من الأمم . ثم ذكر نوعاً آخر من التهديد مع بيان كمال القدرة والعلم فقال { وكل شيء فعلوه في الزبر } أي في صحف الحفظة . قال النحويون : هذا مما التزم فيه الرفع لأن النصب يكون نصاً في معنى غير مقصود بل فاسد إذ يلزم منه أن يكون { كل شيء } مفعولاً { في الزبر } وهذا معنى غير مستقيم كما ترى .

وأما الرفع فيحتمل معنيين . أحدهما صحيح مقصود وهو أن يقدر قوله { فعلوهن } صفة ل { شيء } والظرف خبر أي كل شيء مفعول للناس فإنه في الزبر . والآخر أن تقدر الجملة خبر أو يبقى الظرف لغواً فيؤدي الكلام حينئذ مؤدي النصب ، ولا ريب أن الوجه الذي يصح المعنى فيه على أحد الاحتمالين أولى من الذي يكون نصاً في المعنى الفاسد . ثم أكدالمعنى المذكور بقوله { وكل صغير وكبير } من الأعمال بل مما وجد ويوجد { مستطر } أي مسطور في اللوح . ثم ختم السورة بوعد المتقين . والنهر جنس أريد به الأنهار اكتفى به للفاصلة . ولما سلف مثله مراراً كقوله { إن المتقين في جنات وعيون } [ الذاريات : 15 ] وقيل : معناه السعة والضياء من النهار { في مقعد صدق } وفي مكان مرضيّ من الجنة مقربين { عند مليك مقتدر } لا يكتنه كنه عظمته واقتداره نظيره قول القائل « فلان في بلدة كذا في دار كذا مقرب عند الملك » . ويحتمل أن يكون الظرف صفة { مقعد صدق } كما يقال « قليل عند أمين خير من كثير عند خائن » . قال أهل اللغة : القعود يدل على المكث بخلاف الجلوس ولهذا يقال للمؤمن « مقعد دون مجلس » ومنه قواعد البيت ، وكذا في سائر تقاليبه من نحو وقع أي لزق بالأرض وعقد . والإضافة في { مقعد صدق } كهي في قولك « رجل صدق » أي رجل صادق في الرجولية كامل فيها . ويجوز أن يكون سبب الإضافة أن الصادق قد أخبرعنه وهو الله ورسوله ، أو الصادق اعتقد فه وهو المكلف ، أو يراد مقعد لا يوجد فيه كذب فإن من وصل إلى الله استحال عليه إلا الصدق وهو تبارك وتعالى أعلم وأجل وأكرم .
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

القراآت : { والحب ذا العصف والريحان } بالنصب فيهما : ابن عامر { والحب ذو العصف } بالرفع فيهما { والريحان } بالجر : حمزة وعلي وخلف . الباقون : برفع الريحان { يخرج } مجهولاً من الإخراج : أبو جعفر وناعف وأبو عمرو وسهل ويعقوب { اللؤلؤ } كنظائره { والجوار } ممالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو وخلف طريق ابن عبدوس . { المنشآت } بكسر الشين . حمزة ويحيى طريق الصريعيني { سيفرغ } بالياء : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون على طريق الالتفات { أيه الثقلان } بضم الهاء مثل { أيه المؤمنون } [ النور : 31 ] { يا أيها الساحر } [ الزخرف : 49 ] { شواظ } بكسر الشين : ابن كثير ونحاس . بالجر : ابن كثير وأبو عمرو وسهل { لم يطمثهن } بضم الميم في إحداهما تخيراً : علي . وروى أبو الحرث عنه في الأولى بالضم { من استبرق } بنقل حركة الهمزة إلى النون : رويس وورش والشموني وحمزة في الوقف { ذو الجلال } بالرفع : ابن عامر .
الوقوف : { الرحمن } ه لا { القرآن } ه ط { الإنسان } ه { البيان } ه { بحسبان } ه ص لعطف الجملتين المتفقتين { يسجدان } ه { الميزان } ه لا لتعلق أن { الميزان } ه { للأنام } ه لا لأن الجملة بعدها حال { فاكهة } ص { الأكمام } ه ص { والريحان } ه ج لابتداء الاستفهام مع دخول فاء التعقيب ، والوقف أجوز لأن الابتداء بالاستفهام مبالغة في التنبيه وكذلك في جميع السورة { تكذبان } ه { كالفخار } ه لا { نار } ه ج { تكذبان } ه { المغربين } ه ج { تكذبان } ه { يلتقيان } ه لا لأن ما بعده حال من الضمير في { يلتقيان } { ولا يبغيان } ه حال بعد حال { تكذبان } ه { والمرجان } ه ج { تكذبان } ه { كالأعلام } ه ج { تكذبان } ه { فإن } ه ج لعطف الجملتين المختلفتين والأولى الوصل لأن الكلام الأول يتم بالثاني . { والإكرام } ه ج { تكذبان } ه { والأرض } ط { شأن } ه ج { تكذبان } ه { الثقلان } ه { تكذبان } ه { فانفذوا } ه ط { بسلطان } ه ج { تكذبان } ه { فلا تنتصران } ه ج { تكذبان } ه { كالدهان } ه ج { تكذبان } ه { ولاجان } ه ج { تكذبان } ه { والأقدام } ه ج { تكذبان } ه { المجرمون } ه م لأنه لو وصل صار ما بعده حالاً من المجرمين وليس كذلك { آن } ج { تكذبان } ه { جنتان } ه ج { تكذبان } ه لا لأن قوله { ذواتا } صفة { أفنان } ه ج { تكذبان } ه { تجريان } ه { تكذبان } ه { زوجان } ه { تكذبان } ه ج لأن { متكئين } حال إلا أن الكلام قد تطاول { من إستبرق } ط { دان } ه ج { تكذبان } ه { الطرف } لا لأن { لم يطمثهن } حال عنهن { جان } ه ج { تكذبان } ه { والمرجان } ه ج { تكذبان } ه { إلا الإحسان } ج { تكذبان } ه { جنتان } ه { تكذبان } ه { مدهامتان } ه { تكذبان } ه { نضاختان } ه { تكذبان } ه { ورمان } ه ج { تكذبان } ه ج { حسان } ه { تكذبان } ه { في الخيام } ه ج { تكذبان } ه { جان } ه ج { تكذبان } ه ج { حسان } ه ج { تكذبان } ه { والإكرام } ه .

التفسير : افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على الهيبة والعظمة وهي انشقاق القمر . وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والعناية وهي القرآن الكريم الذي فيه شفاء القلوب والطهارة عن الذنوب ، وهو أسبق الآلاء قدماً وأجل النعماء منصباً . وبين السورتين مناسبة أخرى من جهة أنه ذكر هناك ما يدل على الانتقام والغضب كقوله { فذوقوا عذابي ونذر } [ القمر : 39 ] وقوله { فكيف كان عذابي ونذر } [ القمر : 21 ] وذكر في هذه السورة بعد تعداد كل نعمة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } مرة بعد مرة وتذكير النعمة على نعمة لأنها مما توقظ الوسنان وتنبه أهل الغفلة والنسيان . قال جار الله { الرحمن } مبتدأ والأفعال بعده مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها عن العاطف إما لأن العائد قام مقام الصدر وإما لمجيئها على نمط التعديد كما تقول : زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد بعد قلة فعل بك ما لم يفعله أحد بأحد فما تنكر من إحسانه . قلت : فعلى هذا لو لم يوقف على { القرآن } جاز . وقيل : الرحمن خبر مبتدأ أي هو الرحمن . ثم استأنف قائلاً { علم القرآن } وما مفعوله الأول؟ قيل : هو متعدٍ إلى واحد والمعنى جعل القرآن علامة وآية للنبوة . وقيل : هو جبرائيل أي علم جبرائيل القرآن حتى نزل به على محمد . وقيل : علم محمداً أو الإنسان القرآن كما يليق بفهمهم على حسب استعدادهم ولعله يلزم من الوجه الأخير شبه تكرار من قوله { خلق الإنسان علمه البيان } فالأول إشارة إلى قواه البدنية والثاني إشارة إلى قواه النطقية ، ويلزم منه أيضاً أن يكون التعليم قبل الخلق ظاهراً إلا أن يكون تفصيلاً لما أجمله . وقد نقل عن ابن عباس أن الإنسان آدم علمه الأسماء كلها ، أو محمد صلى الله عليه وسلم . والبيان القرآن فيه بيان ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة . قوله { الشمس والقمر بحسبان } أي بحسبانه استغنى عن الوصل اللفظي بالربط المغنوي لرعاية الفاصلة يعني أنهما يجريان في بروجهما ومنازلهما بحساب معلوم { والنجم } وهو النبات بغير ساق { والشجر يسجدان } بالانقياد له . وإنما وسط العاطف بين هاتين الجملتين لما بين العلوي والسفلي من تناسب التقابل ، ولما بين الحسبان والسجود من تناسب التجانس ، وذلك لأن سيرهما بحساب مقدّر مقرر وهو من جنس الانقياد لأمر الله { والسماء رفعها } قال في الكشاف : أي خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه . قلت : إنه حمل الرفع على ارتفاع المنزلة ولعل المراد به الرفع الحسي ليطابق قوله { والأرض وضعها } أي خفضها في مركز العالم مدحوة محاطة بالماء . نعم لو جعل وضع الأرض عبارة عن ذلها وتسخيرها كقوله { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً }

[ الملك : 15 ] صح تفسيره وإنما وسط قوله { ووضع الميزان } بين رفع السماء ووضع الأرض لأنه لا ينتفع بالميزان إلا إذا كان معلقاً في الهواء بين الأرض والسماء وهذا أمر حسي ، وأما العقلي فهو أنه بدأ أولاً من النعم بذكر القرآن الذي هو بيان الشرائع والتكاليف ، ثم أتبعه ذكر كيفية خلق الإنسان وقواه النفسانية وما يتم به معاشه من السماويات والأرضيات ، ثم ذكر أنه خلق لأجلهم آلة الوزن بهما يقيمون العدالة في ومعاملاتهم وأمور تمدنهم فصار كما مر في { حم عسق الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } [ الشورى : 1 ] وكما يجيء في الحديد { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } [ الآية : 25 ] وأن في قوله { ألا تطغوا } مفسرة أو ناصبة أي لأن لا تتجاوز حد الاعتدال في شأن هذه الآية أي في شأن الوزن . ثم أكد بقوله إثباتاً ونفياً { وأقيموا الوزن بالقسط } قوِّموه أو قوموا لسان الميزان بالعدل { ولا تخسروا الميزان } أي لا تجعلوها سبباً للخسران والتطفيف . وفي تكرير لفظ الميزان بل في ورود هذه الجمل المتقاربة الدلالة مكررة إشارة إلى الاهتمام بأمر العدل وندب إليه وتحريض عليه . وقيل : الأول ميزان الدنيا والثاني ميزان الآخرة والثالث ميزان العقل . وقيل : نزلت متفرقة فاقتضى الإظهار . قوله { للأنام } أي لكل ما على ظهر الأرض من دابة . وقيل : للإنسان . وخص بالذكر لشرفه ولأن الباقي خلق لأجله { فيها فاكهة } التنوين للتعظيم وهي كل ما يتفكه به . وقد أفرد النخل بالذكر للتفضيل ولأنه فاكهة غذائية . والأكمام جمع كم وهو وعاء الثمر . ثم ذكر أقوات البهائم والإنسان قائلاً { والحب ذو العصف } وهو ورق الزرع أو التبن . وقال الفراء والسدي : وهو أول ما ينبت من الزرع { والريحان } الورق . ومن رفع فعلى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وذو الريحان . وقال الحسن وابن زيد . على هذه القراءة وهو ريحانكم الذي يشم .
ثم خاطب الجن والإنس بقوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } عن جابر بن عبد الله قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : مالي أراكم سكوتاً؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد . قال جار الله : الخطاب في { ربكم } للثقلين بدلالة الأنام عيلهما قلت : ربما يصرح به قوله { أيها الثقلان } سميا بذلك لأنهم ثقلا الأرض أو بما سيذكر عقيبه من قوله { خلق الإنسان } والجان خلقناه . وقيل : التكذيب إما باللسان والقلب معاً وإما بالقلب دون اللسان كالمنافقين فكأنه قال : في أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان . وقيل : أراد في أيها المكذبان بالدلائل المعية والعقلية أو بدلائل الآفاق ودلائل الأنفس ، والاستفهام للتوبيخ والزجر . قوله { خلق الإنسان من صلصال } قد مر في سورة « الحجر » إلا أنه شبهه ههنا بالفخار وهو الخزف بيانأً لغاية يبس طينته وكزازته ، والتركيب يدل عليه ومنه الفخور ولولا يبس دماغه لم يفخر ومنه الفرخ لأنه تنشق البيضة عنه .

وكل يابس عرضة للتشقق ومنه الخزف لغاية يبوسة مزاجه . والجان أبو الجن . وقيل : هو إبليس . والمارج اللهب الصافي الذي لا دخان فيه من مرج إذا اضطرب ولعلها المخلوطة بسواد النار من مرج الشيء اختلط . وقوله { من نار } بيان لمارج كأنه قيل : من صاف من نار . ويجوز أن يكون ناراً مخصوصة فيكون صفة { رب المشرقين } يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والأول مطلع أول السرطان ، والثاني مطلع أول الجدي . هذا في بلادنا الشمالية والحال في الجنوبية بالعكس . قوله { مرج البحرين } وقد مر في « الفرقان » معناه أرسلهما ملحاً وعذباً متلاقيين { بينهما برزخ لا يبغيان } أي لا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة { يخرج منهما } أي من كل منهما . وقال في الكشاف : أعاد الضمير إلى البحرين لاتحادهما فالخارج من العذب كأنه خارج من الملح تقول : خرجت من البلد ولم تخرج إلا من محلة بل من دار . وقال أبو علي الفارسي : أراد من أحدهما فحذف المضاف . قلت : ونحن قد سمعنا أن الأصداف تخرج من البحر المالح ومن الأمكنة التي فيها عيون عذبة في مواضع من البحر الملح ويؤيده قوله سبحانه في « فاطر » { ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها } [ الآية : 12 ] فلا حاجة إلى هذه التكلفات . قال الفراء وغيره من أهل اللغة : اللؤلؤ الدر ، والمرجان ما صغر منه . وعن مقاتل : بالضد . ويشبه أن يكون اللؤلؤ هذا الجنس المعروف والمرجان البسذ . يقال : إنه ينبت في بحر الروم والإفرنج كالشجر وهو الفصل المشترك بين المعدن والنبات ، والجواري السفن الجارية حذف الموصول للعلم به . ومن قرأ { المنشآت } بفتح الشين فمعناها المرفوع الشرع والتي رفع خشبها بعضها على بعض وركب حتى ارتفعت . والقارىء بالكسر أراد الرافعات الشرع أو اللائي يبتدئن في السير أو ينشئن الأمواج بجريهن ، الأعلام الجبال الطوال شبههن في البحر بالجبال في البر . والضمير في { عليها } للأرض بدلالة المقال أو الحال . والوجه عبارة عن الذات كما مر في تفسر البسملة وفي قوله { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] وقوله { ذو } صفة للوجه وهو على القياس . وفيه دلالة على أن الوجه والرب ذات واحد بخلاف قوله في آخر السورة { تبارك اسم ربك } فإن الاسم غير المسمى في الأصح فلهذا قال { ذي الجلال والإكرام } ومعناه ذو النعمة والتعظيم كما سبق في البسملة . والنعمة في فناء ما على الأرض وهو مجيء وقت الجزاء { يسأله من في السموات } من الملائكة { و } من في { الأرض } من الثقلين الملائكة لمصالح الدارين والثقلان لمصالح الدارين . وعن مقاتل : يسأل أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل الملائكة أيضاً الرزق والمغفرة للناس { كل يوم هو في شأن }

« سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الشأن فقال : من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين » قلت : هذا التفسير يطابق ما مر في الحكمة . وما ذكرنا في الكتاب مراراً من أن القضاء هو الحكم الكلي الواقع في الأزل ، والقدر هو صدور تلك الأحكام في أزمنتها المقدرة . فبالاعتبار الأول قال « جف القلم بما هو كائن » وبالاعتبار الثاني قال : { كل يوم هو في شأن } وهذا بالنسبة إلى المقضيات ولا تغير في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . وبالجملة إنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها . وروى الواحدي في البسيط عن ابن عباس : إن مما خلق الله عز وجل لوحاً من درة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء . وحين بين أن كل زمان مقدر لأجل شأن قال { سنفرغ لكم } قال أهل البيان : هو مستعار من قول الرجل لمن يتهدده « سأفرغ لك » . والمراد تجرد داعيته للإيقاع به من النكاية فيه . والمراد شؤونه ستنتهي إلى شأن الجزاء وقصد المحاسبة . ثم هدد الثقلين بأنهم لا يستطعيون الهرب من أحكامه وأقضيته فيهما . نفذ من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية . وأقطار السموات والأرض نواحيهما . واحدها قطر . وهو في الهندسة عبارة عن الخط المنصف للدائرة . والسلطان القوة والغلبة ، أراد أنه لا مفر من حكمه إلا بتسلط تام ولا سلطان فلا مفر . قال الواحدي : أراد أنه لاخلاص من الموت . ويحتمل أن يخص هذا بيوم الجزاء المشار إليه بقوله { سنفرغ لكم } ويؤيده ما روي أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به ، ويعضده قوله عقيبه { يرسل عليكما } الآية .
جاء في الخبر : يحاط على الخلق بلسان من نار ثم ينادون يا مشعر الجن والإنس الآية . وذلك قوله { يرسل عليكما شواظ } وهو اللهب الذي لا دخان له معه . وقرأ ابن كثير بكسر الشين لغة أهل مكة يقولون صوار بالضم والكسر . والنحاس والدخان . ومن قرأ بالرفع فمعناه يرسل عليكما هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة . ويجوز أن يرسلا معاً من غير أن يمزج أحدهما بالآخر . ومن قرأ بالجر فبتقدير وشيء من نحاس . وعن أبي عمرو أن الشواظ يكون من الدخان أيضاً . وقيل : هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم . وعن ابن عباس : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر { فلا تنتصران } فلا تمتنعان { فإذا انشقت السماء } لنزول الملائكة { فكانت وردة } أي حمراء { كالدهان } وهو جمع الدهن أو اسم ما يتدهن به كالحزام والإدام شبهها بدهن الزيت كقوله

{ كالمهل } [ المعارج : 8 ] وهو دردي الزيت . وقيل : الدهان الأديم الأحمر . عن ابن عباس : نصير كلون الفرس الورد . وقيل : تحمر احمرار الورد ثم تذوب ذوبان الدهن . وقال قتادة : هي اليوم خضراء ولها يوم القيامة لون آخر يضرب إلى الحمرة . والفاء في قوله { فإذا } للتعقيب وفي { فكانت } للعطف ، والجواب محذوف كما سيجيء في قوله { إذا السماء انشقت } [ الأنشقاق : 1 ] والمراد أنهما لا ينتصران حين إرسال الشواظ عليهما فحين تنشق السماء وصارت الأرض والجو والهواء كلها ناراً وتذوب السماء كما يذوب النحاس الأحمر كيف تنتصران؟ ويمكن أن يكون وجه تشبيه السماء يومئذ بالدهن هو الميعان والذوبان بسرعة وعدم رسوب الخبث كخبث الحديد ونحوه ، والغرض بيان بساطة السماء وأنه لا اختلاف للأجزاء فيها . { فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان } وضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال هاشم ويراد ولده . والضمير في { ذنبه } عائد إلى الإنس لأن الفاعل رتبته التقديم وكأنه قيل : لا يسأل بعض الإنس عن ذنبه ولا بعض الجن . والجمع بين هذه الآية وبين قوله { فوربك لنسألنهم } [ الحجر : 92 ] هو ما مرّ من أن المواطن مختلفة ، أو لا يسأل سؤال استعلام وإنما يسأل سؤال توبيخ وتقريع . وعندي أن بيان عدم احتياج المذنب إلى السؤال عن حاله لأن كل ما هو اليوم فيه كامن فذلك في يوم القيامة يظهر ويبرز من ظلمة الطبيعة والعصيان ، أو من نور الطاعة والإيمان وإليه الإشارة بقوله { يعرف المجرمون بسيماهم } من سواد الوجه وزرقة العين { فيؤخذ } كل منهم أو جنس المجرم { بالنواصي } أي بسببها . ولعل المراد أن تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلفها أو من قدام ويلقون في النار . روى الحسن عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام » ويجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى قوله { بالنواصي } نحو ذهب بزيد . ثم ذكر أنهم يوبخون بقول الملائكة لهم { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } والأصل الخطاب والالتفات للتبعيد والتسجيل عليهم بالإجرام . والآني الذي بلغ منتهى حره . قال الزجاج : أني يأني أنا إذا انتهى في النضج والحرارة . والمعنى أنهم لا يزالون طائفين بين عذاب الجحيم وبين الحميم وذلك حين ما يستغيثون كقوله { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 29 ] قال جار الله : نعمته فيما ذكره من الأهوال وأنواع المخاوف هي نجاة الناجي منه وما في الإنذار به من اللطف ، ويمكن أن يراد بأي الآلاء المعدودة في أول السورة تكذبان فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب . ثم شرع في ثواب أهل الخشية والطاعة قائلاً { ولمن خاف مقام ربه } وقد مر نظيره في « إبراهيم » قوله

{ ذلك لمن خاف مقامي } [ الآية : 14 ] قال المفسرون : الجنتان إحداهما للخائف الإنسي والثانية للخائف الجني ، أو إحداهما لفعل الطاعات والثانية لترك المنكرات ، أو إحداهما للجزاء والأخرى للزائد عليه تفضلاً ، أو هما جنة عدن وجنة النعيم . أو إحداهما جسمانية والأخرى روحانية . وقيل : التثنية للتأكيد كقوله { ألقيا } [ ق : 24 ] وهو ضعيف . والأفنان جمع الفنن وهو الغصن المستقيم طولاً قاله مجاهد وعكرمة والكلبي وغيرهم ، وإنما خصها بالكر لأنها هي التي تورق وتثمر وتظل والساق لأجل ضرورة القيام ولا ضرورة في الجنة ولا كلفة . وعن سعيد بن جبير : هي جمع فن والمعنى أنهما صاحبتا فنون النعم وعلى هذا يكون قوله { فيهما من كل فاكهة زوجان } أي صنفان كتفصيل بعد إجمال والصنفان رطب ويابس أو معروف وغريب { فيهما } أي في كل منهما { عينان تجريان } من جبل من مسك إحداهما في الأعالي والأخرى في الأسافل . وقال الحسن : تجريان بالماء الزلازل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل { متكئين } حال من الخائفين المذكورين في قوله { لمن خاف } وجوز أن يكون نصباً على المدح . قال المفسرون : إذا كان بطائن الفرش وهي التي تحت الظهارة مما يلي الأرض من استبرق فما ظنك بظهائرها؟ ويجوز أن يكون ظائرها السندس . والتحقيق أنه لا يعلمها إلا الله كقوله { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم } [ السجدة : 17 ] { وجنى الجنتين } أي ثمرها { دان } قريب يناله القائم والقاعد والنائم . قال جار الله : { فيهن } أي في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى . وقيل : في الفرش أي عليها . وقيل : في الجنان لأن ذكر الجنتين يدل عليه ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات ، وهذا الوجه عندي أظهر وسيجيء بيانه بنوع آخر عن قريب . قال الفراء : الطمث الاقتضاض وهو النكاح بالتدمية و { قبلهم } أي قبل أصحاب الجنتين واللفظ يدل عليه . قال مقاتل : هن من حور الجنة . وقال الكلبي والشعبي : هن من نساء الدنيا أنشئن خلقاً آخر لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنسي ولا جني . قال في الكشاف : لم يطمث الإنسيات منهمن أحد من الإنس والجنيات أحد من الجن قلت : هذا التفصيل لعله لا حاجة إليه يعرف بأدنى تأمل . قال الزجاج : فيه دليل على أن الجن تطمث كما تطمث الإنس .
ثم ذكر أنهن في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ الصغار { هل جزاء الإحسان } في العمل { إلا الإحسان } في الجزاء . وخص ابن عباس فقال : هل جزاء من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله إلا الجنة . وحين فرغ من نعت جنتي المقربين شرع في وصف جنتين لأصحاب اليمين فقال { ومن دونهما } أي ومن أسفل منهما في المكان أو في الفضل أو فيهما وهو الأظهر . روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : « جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما »

{ مدهامتان } هو من الأدهيمام إدهام يدهام فيهو مدهام نظير إسواد يسواد فهو مسواد في اللفظ وفي المعنى ، وذلك أن كل نبت أخضر فتمام خضرته من الري أن يضرب إلى السواد { نضاختان } فوارتان ، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضخ وهو الرش . قال ابن عباس : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور ، وإنما خص النخيل والرمان بالذكر بعد اندارجهما في الفاكهة لفضلهما وشرفهما ، فالنخل فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء كامل ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً أو رطباًَ لم يحنث . وخالفه صاحباه ووافقهما الشافعي . والخيرات مخفف خيرات لأن الخير الذي هو بمعنى التفضيل لا يجمع جمع السلامة والمعنى أنهم فاضلات الأخلاق حسان الصور . واعلم أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور { فيهن } وفي سائر المواضع { فيهما } والسر فيه أن تمام اللذة عند اجتماع النسوان للرجل الواحد هو أن يكون لكل منهن مسكن على حدة فتباعد من مسكن الأخرى ، واسع بحيث يسع ما يليق بحاله أو بحالها من الجواري والغلمان وسائر الأسباب ، فيحصل هناك منتزهات كثيرة كل منها جنة ، وكأن في ضمير الجمع إشارة إلى ذلك . وأما العيون والفواكه فلم يكن شيء منها بهذه المثابة من كمال اللذة فأكتفي فهيا بعود الضمير إلى الجنتين فقط . والمقصورات اللواتي قصرن أي حبسن في خدورهن . امرأة مقصورة أي مخدرة . روى قتادة عن ابن عباس : الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون » وقال أهل المعاني : كنى عن الجماع في الدنيا بنحو قوله { من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] وذكر الجماع في الآخرة بلفظ يقرب من الصريح وهو الطمث فما الحكمة من ذلك؟ والجواب أن المباشرة في الدنيا قبيحة لما فيها من قضاء الشهوة وإسقاط القوى وهي في الآخرة بخلاف ذلك فإنها داعية روحانية ولذة حقيقية فلم يحتج إلى الكناية لأن الكنايات إنما تجري في الهنيئات . قال جار الله : { متكئين } نصب على الاختصاص . قلت : ويجوز أن يكون حالاً والعامل مضمير يدل عليه قوله { لم يطمثهن إنس قبلهم } أي يطمثونهم في حال الإتكاء . قال أبو عبيدة والضحاك ومقاتل والحسن : الرفرف ضرب من البسط . وقيل : كل ثوب عريض فهو رفرف . ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط رفارف . وقال الزجاج : الرفرف ههنا رياض الجنة . وقيل : الوسائد . قال جار الله { العبقري } منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجن فينسبون إليه كل شيء غريب عجيب . وعن أبي عبيدة : كل شيء من البسط عبقري وهو جمع واحدة عبقرية .

ومما يدل على أن صفات هاتين الجنتين تقاصرت عن الأوليين قوله { مدهامتان } فإنه دون قوله { ذواتا أفنان } وذلك أن كمال الخضرة لا يوجب كون البستان ذا فنن ونضاختان دون تجريان وفاكهة دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ . قال أهل العلم : كرر قوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إحدى وثلاثين مرة : ثمانية منهما ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه وذكر المبدأ والمعاد ، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة ، وثمانية بعدها عقيب وصف الجنات التي هي دونهما . فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة . ثم نزه نفسه عما لا يليق بجلاله وختم السورة عليه . والاسم مقحم كما بينا وفائدة هذا التوسيط سلوك سبيل الكناية كما يقال « ساحة فلان بريئة عن المثالب » والله أعلم بحقائق كلامه .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

القراآت : { ينزفون } من باب الأفعال : عاصم وحمزة وخلف . الباقون : بفتح الزاء { حور عين } بجرهما : يزيد وعلي وحمزة { عرباً } بالسكون : حمزة وخلف ويحيى وحماد وإسماعيل { أئذا أئنا } كما في « الرعد » إلا ابن عامر فإنه تابع عاصماً ، وإلا يزيد فإنه تابع قالون { شرب } بضم الشين : أبو جعفر نافع وعاصم وحمزة وسهل . الباقون : بالفتح وكلاهما مصدر { قدرنا } بالتخفيف : ابن كثير { أئنا لمغرمون } بهمزتين : أبو بكر وحماد . الآخرون : بهمزة واحدة مكسورة على الخبر . { بموقع } على الوحدة : حمزة وعلي وخلف . { تكذبون } بالتخفيف : المفضل { فروح } بضم الراء : قتيبة ويعقوب .
الوقوف : { الواقعة } ه لا بناء على أن العامل في الظرف هو ليس ولو كان منصوباً بإضمار « أذكر » أو كان الجواب محذوفاً أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت صح الوقف { كاذبة } ه م لئلا يصير ما بعدها صفة { رافعة } ه لا لتعلق الظرف بخافضة أو لكونه بدلاً من الأول { رجاً } ه لا { بساً } ه { منبثاً } ه { ثلاثة } ه ط { ما أصحاب الميمنة } ه ط لتناهي استفهام التعجب { ما أصحاب المشأمة } ه ط { السابقون } ه لا بناء على أن { السابقون } تأكيد والجملة بعده خبر { المقربون } ه ج لاحتمال أن ما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم { جنات النعيم } ه { الأولين } ه لا { الآخرين } ه لا { موضونة } ه لا { متقابلين } ه { مخلدون } ه لا { معين } ه لا { ولا ينزفون } ه لا { يتخيرون } ه لا { يشتهون } ه ط لمن قرأ { وحور عين } بالرفع { المكنون } ه ج { يعملون } ه { تأثيماً } ه لا { سلاماً } ه ط { وما أصحاب اليمين } ه ط { مخضود } ه لا { منضود } ه لا { ممدود } ه لا { مسكوب } ه لا { كثيرة } ه لا { ممنوعة } ه لا { مرفوعة } ه ط { إنشاء } ه لا { أبكاراً } ه لا { أتراباً } ه لا { اليمين } ه ط { الأولين } ه { الآخرين } ه ط { ما أصحاب الشمال } ه ط { وحميم } ه لا { يحموم } ه لا { ولا كريم } ه { مترفين } ه ج { العظيم } ه ج { لمبعوثون } ه لا { الأولون } ه { والآخرين } ه لا { معلوم } ه { المكذبون } ه لا { زقوم } ه لا { البطون } ه ج والوقف أجوز { الحميم } ه ج { الهيم } ه ط { الدين } ه { تصدقون } ه { تمنون } ه ط { الخالقون } ه { بمسبوقين } ه لا { تعلمون } ه { تذكرون } ه { تحرثون } ه ط { الزارعون } ه { تفكهون } ه { لمغرمون } ه لا { محرومون } ه { تشربون } ه { المنزلون } ه { تشكرون } ه { تورون } ه ط { المنشؤن } ه { للمقوين } ه ج { العظيم } ه { النجوم } ه لا { عظيم } ه لا { كريم } ه لا { مكنون } ه { المطهرون } ه ط { العالمين } ه { مدهنون } ه { تكذبون } ه { الحلقوم } ه لا { تنظرون } ه لا { تبصرون } ه { مدينين } ه لا { صادقين } ه { المقربين } ه لا { نعيم } ه { اليمين } ه لا { اليمين } ه لا { الظالين } ه لا { حميم } ه لا { جحيم } ه { اليقين } ه { ألعظيم } ه .

التفسير : { إذا وقعت الواقعة } نظير قولك حدثت الحادثة « وكانت الكائنة » وهي القيامة التي تقع لا محالة . يقال : وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله . واللام في { لوقعتها } للوقت أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله لأن الإيمان حينئذ بما هو غائب الآن ضروري إلا أنه غير نافع لأنه إيمان اليأس . ويجوز أن يراد ليس لها وقتئذ نفس تكذبها وتقول لها لم تكوني لأن إنكار المحسوس غير معقول . وجوز جار الله أن يكون من قولهم « كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم » إذا شجعته على مباشرته . وقالت له : إنك تطيقه . فيكون المراد أن القيامة واقعة لا تطاق شدة وفظاعة وأن الأنفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور . وقيل : هي مصدر كالعافية فيؤل المعنى إلى الأول . وقال في الكشاف : هو بمعنى التكذيب من قولهم « حمل على قرنه فما كذب » أي فما جبن وما تثبط ، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من طاقته له . والحال من هذا التوجيه أنها إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد { خافضة رافعة } أي هي تخفض أقواماً وترفع آخرين إما لأن الواقعات العظام تكون كذلك كما قال :
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايات ودولة آخرينا
وإما لإن للأشقياء الدركات وللسعداء الدرجات وإما لأن زلزلة الساعة تزيل الأشياء عن مقارها فتنثر الكواكب وتسير الجبال في الجو يؤيده قوله { إذا رجت الأرض } أي حركت تحريكاً عنيفاً حتى ينهدم كل بناء عليها { وبست الجبال بساً } أي فتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها { فكانت } أي صارت غباراً متفرقاً . ثم ذكر أحوال الناس يومئذ قائلاً { وكنتم } لفظ الماضي لتحقق الوقوع { أزواجاً } أي أصنافاً { ثلاثة } ثم فصلها فقال { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } وهو تعجب من شأنهم كقولك « زيد ما زيد » سموا بذلك لأنهم يؤتون صحائفهم بأيمانهم ، أو لأنهم آهل المنزلة السنية من قولهم « فلان مني باليمين » إذا وصفته بالرفعة عندك وذلك لتيمنهم بالميامن دون الشمائل وتبركهم بالسانح دون البارح ، ولعل اشتقاق اليمين من اليمن والشمال من الشؤم ، والسعداء ميامين على أنفسهم والأشقياء مشائيهم عليها . روي أهل الجنة يؤخذ بهم إلى جانب اليمين وأهل النار يؤخذ بهم في الشمال { والسابقون } عرف الخبر للمبالغة كقوله الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه من التوحيد والإخلاص والطاعة { هم السابقون } عرف الخبر للمبالغة كقوله « وشعري شعري » يريد والسابقون من عرف حالهم وبلغك وصفهم ، وعلى هذا يحسن الوقف { السابقون } { أولئك المقربون } إلى مقامات لا يكشف المقال عنها من الجمال والعارفون يقولون لهم إنهم أهل الله ، وفي لفظ السبق إشار إلى ذلك { في جنات النعيم } إخفاء حالهم وبيان محل إجسادهم أو هي الجنة الروحانية النورانية { ثلة من الأولين } أي جماعة كثيرة من لدن آدم إلى أول زمان نبينا صلى الله عليه وسلم .

قال أهل الاشتقاق : أصل الثلة من الثل وهو الكسر كما أن الأمة من الأم وهو الشج كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم ، ثم اشتق الإمام منه إذ به يحصل الأمة المقتدية به . { وقليل من الآخرين } أي من هذه الأمة . قال الزجاج : الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي صلى الله عليه وسلم وههنا سؤال وهو أنه كيف قال ههنا { وقليل من الآخرين } وفيما بعده قال { وثلة من الآخرين } والجواب أن الثلتين في آية أصحاب اليمين هما جميعاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . جواب آخر وهو أن يقال : الخطاب في قوله { وكنتم أزواجاً } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والأولون منهم هم الصحابة والتابعون كقوله { والسابقون الأولون } [ التوبة : 1 ] والآخرون منهم هم الذين يلونهم إلى يوم الدين ، ولا ريب أن السابقين يكونون في الأولين أكثر منهم في الآخرين . وأما أصحاب اليمين فيوجدون في كلا القبيلين كثيراً وعلى هذا يكون الترتيب المذكور ساقطاً ولا نسخ لإمكان اجتماع مضموني الخبرين في الواقع . قال الزجاج وهو قول مجاهد والضحاك يعني جماعة ممن تبع النبي صلى الله عليه وسلم وعاينه وجماعة ممن آمن به وكان بعده . وروى الواحدي في تفسيره بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « جميع الثلتين من أمتي » وأجاب بعضهم بأنه لما نزلت الآية الأولى شق على المسلمين فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } وزيفت هذه الرواية بظهور ورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين ، وبأن النسخ لا يتضح بل لا يصح في الأخبار ، وبأن الآية الأولى لا توجب الحزن ولكنها تقتضي الفرح من حيث إنه إذا كان السابقون في هذه الأمة موجودين وإن كانوا قليلين وقد صح أنه لا نبي بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم أن يكون بعض الأمة مع محمد صلى الله عليه وسلم سابقين فيكونون في درجة الأنبياء والرسل الماضين ، ولعل في قوله « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » إشارة إلى هذا . وأقول : عندي أن الجواب الصحيح هو أن السابقين في الأمم الماضية يجب أن يكونوا أكثر لأن فيض الله سبحانه المقدر للنوع الإنساني إذا وزع على أشخاص أقل يكون نصيب كل منهم أوفر مما لو قسم على أشخاص أكثر ، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة وعسى أن يكون هذا سبباً لخاتمة نبينا صلى الله عليه وسلم أما أصحاب اليمين وهم أهل الجنة كما قلنا فإنهم كثيرون من هذه الأمة لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحاً هذا ما سنح في الوقت والله تعالى أعلم بمراده .

======================

ج30.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


ثم وصف حال المقربين بقوله { على سرر موضونة } قال المفسرون : أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت وقد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع أي استقروا على السرر { متكئين } وقوله { ولدان مخلدون } أي غلمان لا يهرمون ولا يغيرون قال الفراء : والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد . قال : ويقال مخلدون مقرطون من الخلدة وهو القرط . وقيل : هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيئات فيعاقبوا عليها . قال جار الله : روي هذا عن علي رضي الله عنه . والحسن قال الحديث « أولاد الكفار خدام أهل الجنة » والأكواب الأقداح المستديرة الأفواه ولا آذان لها ولا عري ، والأباريق ذوات الخراطيم الواحد إبريق وهو الذي يبرق لونه من صفائه . والباقي مفسر في « الصافات » إلى قوله { مما يتخيرون } أي يختارون تخيرت الشيء أخذت خيره ، قال ابن عباس : يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى . ومن قرأ { وحور عين } بالرفع فمعناه ولهم أو عندهم حور . ومن خفضهما فعلى العطف المعنوي أي يكرمون أو يتنعمون بأكواب وبكذا وكذا . والكاف في قوله { كأمثال } للمبالغة في التشبيه . قوله { جزاء } مفعول له أي يفعل بهم ذلك لأجل الجزاء . قوله { ولا تأثيماً } أي لا يقول بعضهم لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم . وانتصب { سلاماً } على البدل من { قليلاً } أو على أنه مفعول به أي لا يسمعون يها إلا أن يقولوا سلاماً عقيبه سلام . ثم عجب من شأن أصحاب اليمين . والسدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه . وقال مجاهد : هو من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب كأنه من كثرة ثمره ثنى أغصانه والطلح شجر الموز أو أم غيلان كثير النور طيب الرائحة وعن السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل . وفي الكشاف أن علياً عليه السلام أنكره وقال : ما شأن الطلح إنما هو طلع وقرأ قوله { لها طلع نضيد } فقيل : أو نحولها؟ قال : آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول قال : وعن ابن عباس نحوه . قلت : وفي هذه الرواية نظر لا يخفى . والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره فليست له ساق بارزة { وظل ممدود } أي ممتد منبسط كظلي الطلوع والغروب لا يتقلص . ويحتمل أن يراد أنه دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس ، والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع إنه ممدود .

والمسكوب المصبوب يسكب لهم أين شاؤا وكيف شاؤا ، أو يسكبه الله في مجاريه من غير انقطاع ، أو أراد أنه يجري على الأرض في خير أخدود { لا مقطوعة } في بعض الأوقات { ولا ممنوعة } عن طالبيها بنحو حظيرة أو لبذل ثمن كما هو شأن البساتين والفواكه في الدنيا { مرفوعة } أي نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة قاله علي رضي الله عنه . وقيل : هي النساء المرفوعة على الأرائك . والمرأة يكنى عنها بالفراش يدل على هذا قوله { إنا أنشأناهن } وعلى التفسير الأول جعل ذكر الفرش وهي المضاجع دليلاً عليهن . ومعنى الإنشاء أنه ابتدأ خلقهن من غير ولادة أو أعاد خلقهن إنشاء . روى الضحاك عن ابن عباس أنهن نساؤنا العجز الشمط يخلقهن الله بعد الكبر والهرم { أبكاراً عرباً } جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أتراباً } مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً من غير وجع . وقوله { لأصحاب اليمين } متعلق بأنشأنا وجعلنا . ثم عجب من أصحاب الشمال . ومعنى { في سموم } في حر نار ينفذ في المسام . والحميم الماء الكثير الحرارة . واليحموم الدخان الأسود « يفعول » من الأحم وهو الأسود . ثم نعت الظل بأنه حار ضار لا منفعة فيه ولا روح لمن يأوي إليه . قال ابن عباس : لا بارد المدخل ولا كريم المنظر . قال الفراء : العرب تجعل الكريم تابعاً لكل شيء ينوي به المدح في الإثبات أو الذم في النفي تقول : هو سمين كريم وما هذه الدار بواسعة ولا بكريمة . ثم ذكر أعمالهم الموجبة لهذا العقاب فقال { إنهم كانوا قبل ذلك } أي في الدنيا { مترفين } متنعمين متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص { وكانوا يصرون على الحنث } وهو الذنب الكبير ووصفه بالعظم مبالغة على مبالغة تقول : بلغ الغلام الخنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم وحنث في يمينه خلاف بر فيها . وخص جمع من المفسرين فقالوا . أعني به الشرك . وعن الشعبي : هو اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون يدل عليه ما بعده وقد مر مثله في « الصافات » . واعلم أنه سبحانه ذكر في تفصيل الأزواج الثلاثة نسقاً عجيباً وأسلوباً غريباً . وذلك أنه لم يورد في التفصيل إلا ذكر صنفين . أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . ثم بعدما عجب منهما بين حال الثلاثة السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فأقول وبالله التوفيق : هذا كلام موجز معجز فيه لطائف خلت التفاسير عنها منها : أنه طوى ذكر السابقين في أصحاب الميمنة لأن كلاً من السابقين ومن أصحاب اليمين أصحاب اليمن والبركة كما أن أصحاب الشمال أهل الشؤم والنكد ، وكأن في هذا الطي إشارة إلى الحديث القدسي

« أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري » ومنها أن ذكر السابقين وقع في الوسط باعتبار وخير الأمور أوسطها ، وفي الأول باعتبار والأشراف بالتقديم أولى ، وفي الآخر باعتبار ليكون إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم « نحن الآخرون السابقون » ومنها أن مفهوم السابق متعلق بمسبوق ، فما لم يعرف ذات المسبوق لم يحسن ذكر السابق من حيث هو سابق . فهذا ما سنح للخاطر وسمح به والله تعالى أعلم بمراده .
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقرر لهم ما شكوا فيه فقال { قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات } أي ينتهي أمر جميعهم إلى وقت { يوم معلوم } عند الله وفيه رجوع إلى أول السورة . ولما كرر ذكر المعاد بعبارات شتى ذكر طرفاً من حال المكذبين المعاصرين ومن ضاهاهم فقال { ثم إنكم أيها الضالون } عن الهدى { المكذبون } بالبعث { لآكلون } أي في السموم المذكور { من شجر } هو للابتداء { من زقوم } هو للبيان { فمالئون منها البطون } آنت الضمير بتأويل الشجرة قال جار الله : عطف الشاربين على الشاربين لاختلافهما اعتباراً وذلك أن شرب الماء المتناهي الحرارة عجيب وشربه كشرب الهيم أعجب . والهيم الإبل التي بها الهيام وإذا شربت فلا تروى واحدها أهيم والمؤنث هيماء وزنه « فعل » كبيض . وجوز أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك كسحاب وسحب . ثم خفف وفعل به ما فعل بنحو جمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم . ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحمم كالإبل الهيم { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } بالبعث بعد الخلق فإن من قدر على البدء كان على الإعادة أقدر . ثم برهن أنه لا خالق إلا هو فقال { أفرأيتم ما تمنون } أي تقذفونه في الأرحام . يقال : أمنى النطفة ومناها وقد مر في قوله { من نطفة إذا تمنى } [ النحم : 46 ] { أءنتم تخلقونه } تقدّرونه وتصورونه . ووجه الاستدلال أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في جميع الأعضاء ولهذا تشترك كل الأعضاء في لذة الوقاع ويجب اغتسال كلها لحصول الانحلال عنها جميعاً . فالذي قدر على جمع تلك الأغذية في بدن الإنسان ثم على جمع تلك الأجزاء الطلية في أوعيتها ثم على تمكينها في الرحم إلى أن تتكون إنساناً كاملاً يقدر على جمعها بعد تفريقها بالموت المقدر بينهم بحيث لا يفوته شيء منها وإلى هذا أشار بقوله { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل } أي نحن قادرون على ذلك لا يغلبنا عليه أحد . يقال : سبقته على الشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه . والأمثال جمع المثل أي على أن نبدل مكانكم أشباهكم من الخلق و { فيما لا تعلمون } أي في خلق ما لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يريد بيان قدرته على إنشائنا في جملة خلق تماثلنا أو خلق لا تماثلنا .

وجوز جار الله أن يكون جمع مثل بفتحتين والمعنى إنا قادرون على تغيير صفاتكم التي أنتم عليها وإنشاء صفات لا تعلمونها . ثم ذكرهم النشأة الأولى ليكون تذكيراً بعد تذكير فقال { ولقد علمتم } الآية . ثم دل على كمال عنايته ورحمته ببريته مع دليل آخر على قدرته قائلاً { أفرأيتم ما تحرثون } من الطعام أي تبذرون حبه { أءنتم تزرعونه } أي تجعلونه بحيث يكون نباتاً كاملاً يستحق اسم الزرع . وفي الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يقولن أحد زرعت وليقل حرثت » والحطام ما تحطم وتكسر من الحشيش اليابس . وقوله { فظلتم } أصله فظللتم حذفت إحدى اللامين للتخفيف وهو مما جاء مستعملاً غير مقس عليه . ومعنى { تفكهون } تعجبون كأنه تكلف الفكاهة . وعن الحسن : تندمون على الإنفاق عليه التعب فيه أو على المعاصي التي تكون سبباً لذلك . من قرأ { أنا } بالخبر فواضح ويحسن تقدير القول أو لا بد منه ، ومن قرأ بالاستفهام فللتعجب ولا بد من تقدير القول أيضاً . ومعنى { لمغرمون } لمهلكون من الغرام الهلاك لهلاك الرزق ، أو من الغرامة أي لملزمون غرامة ما أنفقنا { بل نحن } قوم { محرومون } لا حظ لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا ما جرى ورفضوا العجب من حالهم ، ثم أسندوا ذلك إلى ما كتب عليهم في الأزل من الإدبار وسوء القضاء نعوذ الله منهما . ثم ذكر دليلاً آخر مع كونه نعمة أخرى وهو إنزال الماء من المزن وهو السحاب الأبيض خاصة . والأجاج الماء الملح اكتفى باللام الأولى في جواب « لو » عن إشاعة الثانية وهي ثابتة في المعنى لأن « لو » شرطية غير واضحة ليس إلا أن الثاني امتنع لامتناع الأول وهذا أمر وهمي فاحتيج في الربط إلى اللام التوكيدي . ويمكن أن يقال : إن المطعوم مقدم على أمر المشروب والوعيد بفقده أشد وأصعب فلهذا خصت آية المطعوم باللام المفيدة للتأكيد . وإنما ختم الآية بقوله { فلولا تشكرون } لأنه وصف الماء بقوله { الذي تشربون } ولم يصف المطعوم بالأكل أو لأنه قال { أءنتم أنزلتموه من المزن } وهذا لا عمل للآدمي فيه أصلاً بخلاف الحرث أو لأن الشرب من تمام الأكل فيعود الشكر إلى النعمتين جميعاً ثم عد نعمة أخرى من قبيل ما مر . ومعنى { تورون } تقدحونها وتستخرجونها من الشجر وقد سبق ذكرها في آخر « يس » .
وأعلم أنه سبحانه بدأ في هذه الدلائل بذكر خلق الإنسان لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم . ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معايشهم وهو الحب ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين ، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز ، وذكر عقيب كل واحد ما يأتي عليه ويفسده فقال في الأولى { نحن قدرنا بينكم الموت } وفي الثانية { لو نشاء لجعلناه حطاماً } وفي الثالثة { لو نشاء جعلناه أجاجاً } ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال { نحن جعلناها تذكرة } تتعظون بها ولا تنسون نار جهنم كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

« ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءاً من جهنم » { ومتاعاً } وسبب تمتع ومنفعة { للمقوين } للذين ينزلون القواء وهي القفر أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام في السفر من أقوى الرجل إذا لم يأكل شيئاً من أيام . وفي نسق هذه الآيات بشارة للمؤمنين وذلك أنه سبحانه بدأ بالوعيد الشديد وهو تغيير ذات الإنسان بالكلية في قوله { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم } ثم ترك ذلك المقام إلى أسهل منه وهو تغير قوته ذاتاً فقال { لو نشاء لجعلناه حطاماً } ثم عقبه بأسهل وهو تغيير مشروبه نعتاً لا ذاتاً ولهذا حذف اللام في قوله { لو نشاء جعلناه أجاجاً } ويحتمل عندي أن يكون سبب حذف اللام هو كون « لو » بمعنى « أن » وذلك أن الماء باقٍ ههنا فيكون التعليق حقيقة بخلاف الزرع فإنه بعد أن حصد صار التعليق المذكور وهمياً فافهم . ثم ختم بتذكير النار وفيه وعد من وجه ووعيد من وجه . أما الأول فلأنه لم يبين ما يفسدها كما قلنا يدل على أن الختم وقع على الرأفة والرحمة . وأما الثاني فلأن عدم ذكر مفسدها يدل على بقائها في الآخرة . وفي قوله { تذكرة } إشارة إلى ما قلنا . ثم أمر بإحداث التسبيح بذكره أو بذكر اسمه العظيم تنزيهاً له عما يقول الكافرون به وبنعمته وبقدرته على البعث ، ثم عظم شأن القرآن بقوله { فلا أقسم } أي فأقسم والعرب تزيد لا قبل فعل أقسم كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه فيفيد التأكيد . ومواقع النجوم مساقطعها ومغاربها ولا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة ولهذا قال سبحانه { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] وعن سفيان الثوري : إن الله تعالى ريحاً تهب وقت الأسحار وتحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار . وقوله { وأنه لقسم لو تعلمون عظيم } اعتراض فيه اعتراض . ومواقعها منازلها ومسايرها في أبراجها أو هي أوقات نزول نجوم القرآن الكريم الحسن المرضي من بين جنس الكتب . أو كرمه نفعه للمكلفين . أو هو كرامته على الله عز وجل { في كتاب مكنون } مستوراً على من أراد الله تعالى اطلاعه على أسراره من ملائكته المقربين وهو اللوح { لا يمسه } إن كان الضمير للكتاب فالمعنى أنه لا يصل إلى ما فيه { إلا } عبيده { المطهرون } من الأدناس الجسمية وهم الكروبيون ، وإن كان للقرآن فالمراد أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة الباطنة والظاهرة ، فلا يمسه كافر ولا جنب ولا محدث .

ومن الناس من حرم قراءة القرآن عند الحدث الأصغر أيضاً . وعن ابن عباس في رواية وهو مذهب الإمامية إباحة قراءته في الجناية إلا في أربع سور فيها سجدة التلاوة لأن سجدتها واجبة عندهم . ثم وبخ المتهاونين بشأن القرآن فقال { أفبهذا الحديث } أي بالقرآن أو بهذا الكلام الدال على حقيقة القرآن { أنتم مدهنون } متهاونون من أدهن في الأمر إذا لان جانبه ولا يتصلب فيه { وتجعلون رزقكم } أي شكر رزقكم { أنكم تكذبون } بالبعث وبما دل عليه القرآن ، ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر كأنه عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو ذكر تعداد النعم من قوله { أفرأيتم ما تحرثون } إلى قوله { للمقوين } وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم الأمطار إليها يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله عز وجل وتنسبونه إلى النجوم . ثم زاد في توبيخ الإنسان على جحد أفعال الله وآياته . وترتيب الآية بالنظر إلى أصل المعنى هو أن يقال : فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فزاد في الكلام توكيدات منها تكرير { فلولا } التحضيضية لطول الفصل كما كرر قوله { فلا تحسبنهم } بعد قوله { لا تحسبن الذين يفرحون } [ آل عمران : 188 ] ومنها تقديم الظرف وهو قوله { إذا بلغت الحلقوم } أي النفس . وإنما أضمرت للعلم بها كقوله { ما ترك على ظهرها } [ فاطر : 45 ] وإنما قدم الظرف للعناية فإنه لا وقت لكون الإنسان أحوج إلى التصرف والتدبير منه ، ولأنه أراد أن يرتب الاعتراضات عليه . ومنها زيادة الجمل المعترضة وهي قوله { وأنتم } يا أهل الميت { حينئذ تنظرون } إليه { ونحن أقرب إليه منكم } بالقدرة والعلم أو بملائكة الموت { ولكن لا تبصرون } لا بالبصر ولا بالبصيرة . ومعنى مدينين مربوبين مملوكين مقهورين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم . ومنها قوله { إن كنتم صادقين } فإنه شرط زائد على شرط أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مدينين فارجعوا أرواحكم إلى أبدانكم متمنعين عن الموت ، والحلقوم الحلق وهو مجرى النفس ، والواو والميم زائدان ، ووزنه « فعلوم » ويمكن أن يقال : إن فعل { فلولا } الأول محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم . فلولا تكذبون وقت الموت وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأحوال وتشاهدونها؟ ويحتمل أن يكون معنى مدينين مقيمين من مدن إذا أقام ، والمعنى إن كنتم على ما تزعمون من أنكم لا تبقون في العذاب إلا أياماً معدودة فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة . ويجوز أن يكون من الدين بمعنى الجزاء والمعنى يؤول إلى الأول لأن الجزاء نوع من القهر والتسخير . ويحتمل عندي أن يكون الضمير في { ترجعونها } عائداً إلى ملائكة الموت بدليل قوله { ونحن أقرب } والمعنى فلولا تردون عن ميتكم ملائكة الموت إن كنتم غير مقهورين تحت قدرتنا وإرادتنا .

وحين بين أن لا قدرة لهم على رجع الحياة والنفس إلى البدن وأنهم مجزيون في دار الإقامة فصل حال المكلف بعد الموت قائلاً { فأما إن كان } المتوفى { من المقربين } أي من السابقين من الأزواج الثلاثة { فروح } أي فله استراحة وهذا أمر يعم الروح والبدن { وريحان } أي رزق وهذا للبدن { وجنة نعيم } وهذا للروح يتنعم بلقاء المليك المقتدر . ويروى أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه { وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك } أيها النبي { من أصحاب اليمين } أي أنت سالم من شفاعتهم . هذا قول كثير من المفسرين . وقال جار الله : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين كقوله { وتحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] { إن هذا } القرآن أو الذي أنزل في هذه السورة { لهو حق اليقين } أي الحق الثابت من اليقين وهو علم يحصل به ثلج الصدر ويسمى ببرد اليقين . وقد يسمى العلم الحاصل بالبرهان فالإضافة بمعنى « من » كقولك « خاتم فضة » وهذا في الحقيقة لا يفيد سوى التأكيد كقولك « حق الحق » . « وصواب الصواب » أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه . أو المراد هذا هو اليقين حقاً لا اليقين الذي يظن أنه يقين ولا يكون كذلك في نفس الأمر . هذا ما قاله أكثر المفسرين . وقيل : الإضافة كما في قولنا « جانب الغربي » و « مسجد الجامع » أي حق الأمر اليقين . ويحتمل أن تكون الإضافة كما في قولنا « حق النبي أن يصلي عليه » و « حق المال أن تؤدى زكاته » ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها » أي إلا بحق هذه الكلمة . ومن حقها أداء الزكاة والصلاة فكذلك حق اليقين الاعتراف بما قال الله سبحانه في شأن الأزواج الثلاثة . وعلى هذا يحتمل أن يكون اليقين بمعنى الموت كقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 92 ] وقال أهل اليقين : للعلم ثلاث مراتب : أولها علم اليقين وهو مرتبة البرهان ، وثانيها عين اليقين وهو أن يرى المعلوم عياناً فليس الخبر كالمعاينة ، وثالثها حق اليقين وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحداً . ولعله لا يعرف حق هذه المرتبة إلا من وصل إليها كما أن طعم العسل لا يعرفه إلأ من ذاقه بشرط أن لا يكون مزاجه ومذاقه فاسدين . روى جمع من المفسرين أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي مات فيه فقال له : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي . قال : ما تشتهي؟ قال : رحمة ربي . قال : أفلا ندعو الطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني . قال : افلا نأمر بعطائك؟ قال : لا حاجة لي فيه . قال : تدفعه إلى بناتك . قال : لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبداً » .


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

القراآت : { أخذ } مجهولاً { ميثاقكم } بالرفع : أبو عمرو { وكل } بالرفع : ابن عامر { انظرونا } من الأنظار : حمزة { الأماني } بسكون الياء : يزيد { لا تؤخذ } بالتأنيث : ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب { وما نزل } بالتشديد مجهولاً : عباس { نزل } بالتخفيف من النزول : نافع وحفص . الباقون : بالتشديد { ولا تكونوا } على الخطاب : رويس { المصدقين والمصدقات } بتشديد الدال فقط : ابن كثير وأبو بكر وحماد { بما أتاكم } مقصوراً من الإتيان : أبو عمرو { فإن الله هو الغني } بغير الفصل : أبو جعفر ونافع وابن عامر { إبراهام } كنظائره .
الوقوف : { الأرض } ج لعطف الجملتين المختلفتين { الحكيم } ه { والأرض } ج لاحتمال أن يكون قوله { يحيى } مستأنفاً لا محل له أو له محل بتقدير هو يحيى وأن يكون حالاً من المجرور في قوله { له } والجار عاملاً فيها . { ويميت } ج { قدير } ه { والباطن } ج { عليم } ه { العرش } ط { فيها } ط { كنتم } ط { بصير } ه { والأرض } ط { الأمور } ه { في الليل } ط { الصدور } ه { فيه } ط { كبير } ه { بالله } ط { مؤمنين } ه { إلى النور } ط { رحيم } ه { والأرض } ط { وقاتل } ط { وقاتلوا } ط { الحسنى } ط { خبير } ه { كريم } ج لاحتمال تعلق الظرف بقوله { وله أجر } أو بقوله { بشراكم } أي يقال لهم ذلك يومئذ أو هو مفعول « اذكر » { فيها } ط { العظيم } ه ج وإن وصل وقف على { نوركم } لأن { يوم } قد يتعلق بالنور فيوقف على { نوركم } وقد يتعلق بقوله { قيل ارجعوا } { نوراً } ط { باب } ط { العذاب } ط { معكم } ط { الغرور } ه { كفروا } ط { النار } ط { مولاكم } ط { المصير } ه { الحق } ط إلا لمن قرأ { ولا تكونوا } على النهي { قلوبهم } ط { فاسقون } ه { موتها } ط { تعقلون } ه { كريم } ه { الصديقون } ه والوصل أولى ومن وقف على { الصديقين } لم يقف على { ربهم } { ونورهم } ط { الجحيم } ه { والأولاد } ط { حطاماً } ط { ورضوان } ط { الغرور } ه { ورسله } ط { من يشاء } ط { العظيم } ه { نبرأها } ط { يسير } ه ج لاحتمال تعلق اللام بما قبله أو بمحذوف أي ذلك لكيلا { أتاكم } ط { فخور } ه لا لأن ما بعده بدل { بالبخل } ط { الحميد } ه { بالقسط } ط ه للعطف ظاهراً مع أن إنزال الحديد ابتداء إخبار غير مختص بالرسل { بالغيب } ط { عزيز } ه { مهتد } ج لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظاً إلا أن الأولى للبعض القليل والثانية للكثير فيبنى على الاستئناف { فاسقون } ه { ورحمة } ط لأن ما بعدها منصوب بابتدعوا المقدر { رعايتها } ط لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظاً إلا أن قوله { فآتينا } ليس جزاء ترك الرعاية إنما هو تمام بيان الفرقة بين الفريقين فيرجع إلى قوله { فمنهم مهتد } { أجرهم } ه ط لما مر { فاسقون } ه { ويغفر لكم } ط { رحيم } ه لا وقد يجوز الوقف بناء على أن المراد ذلك ليعلم { يشاء } ط { العظيم } ه
التفسير : معنى تسبيح الموجودات قد تقدم في قوله

{ وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] والآن نقول : إنه بدأ في سورة بني إسرائيل بلفظ المصدر وهو { سبحان } وفي هذه السورة وفي الحشر والصف بلفظ الماضي . وفي الجمعة والتغابن بلفظ المستقبل ، وفي سورة الأعلى بلفظ الأمر استيعاباً للأقسام وذلك دليل على أن التسبيح لله تعالى مستمر دائم في الأوقات كلها من الأزل إلى الأبد . وتفسير أسماء الله الحسنى المذكورة في أول هذه السورة قد سبق في البسملة فلا حاجة إلى إعادة كلها إلا أننا نذكر ما أورده الإمام فخر الدين ههنا على سبيل الإيجاز مع تنقيح ما يجب تنقيحه . قال : هذا مقام مهيب والبحث فيه من وجوه : الأول أن تقدم الشيء على الشيء إما تقدم التأثير كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم ، وإما التقدم بالحاجة لا بالتأثير كتقدم الإمام على المأموم ، أو معقول كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي ، وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن قال : وتقدم بعض أجزاء الزمان على الزمان عندي ليس من هذه الأقسام الخمسة ، أما التأثير والحاجة فلأنه لو كان كذلك لوجدا معاً كما أن العلة والمعلول يوجدان معاً وكذا الواحد والاثنان . وأما الشرف والمكان فظاهران ، وأما بالزمان فإن الزمان لا يقع في الزمان وإلا تسلسل . قلت : لم لا يجوز أن يكون تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض بالحاجة أي بالطبع فإن الزمان كما لا يخفى حين كان كما متصلاً غير قار الذات اقتضت حقيقته أن يكون له وجود سيال يعقب بعض أجزائه بعضاً لا تنتهي النوبة إلى جزء مفروض منه إلا وقد انقضى منه جزء مفروض على الاتصال . وقال : إذا عرفت ذلك فنقول : القرآن دال على أنه تعالى قبل كل شيء والبرهان أيضاً يدل على هذا لأن انتهاء الممكنات لا بد أن يكون إلى الواجب إلا أن تلك القبلية ليست بالتأثير لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثرو المضافان معاً . والمعي لا يكون قبل لا بالحاجة لأنهما قد يكونان معاً كما قلنا ، ولا لمحض الشرف فإن تلك القبلية ليست مرادة ههنا ولا بالمكان وهو ظاهر ، ولا بالزمان لأن الزمان يجميع أجزائه ممكن الوجود ، والتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان فإذن تقدم الواجب تعالى على ما عداه خارج عن هذه الأقسام الخمسة وكيفيته لا يعلمها إلا هو . قلت : إنه سبحانه متقدم على ما سواه بجميع أقسام التقدمات الخمسة . أما بالتأثيبر فظاهر قوله والمضافان معاً . قلنا : إن أردت من الحيثية المذكورة فمسلم ولا محذور ، وإن أردت مطلقاً فممنوع . وأما بالطبع فلأن ذات الواجب من حيث هو لا تفتقر إلى الممكن من حيث هو وحال الممكن بالخلاف ، وأما بالشرف فظاهر ، وأما بالمكان فلأنه وراء كل الأماكن ومعها لقوله

{ فأينما تولوا فثم وجه الله } [ البقرة : 115 ] وقد جاء في الحديث « لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله » ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وههنا سر لعلنا قد رمزنا إليه في هذا الكتاب تفهمه بإذن الله إن كنت أهلاً له . وأما بالزمان فأظهر قوله والتقدم على الزمن لا يكون بالزمان : قلنا : ممنوع لأن الزمان عند المحققين هو أمر وهمي ، والزمان الذي يتكلم هو فيه إنما هو مقدار حركة الفلك الأعظم ، ولا ريب أن قبل هذه الحركة لا يوجد لها مقدار إلا أن قبل كل شيء يوجد امتداد وهمي يحصل فيه وجود الواجب سبحانه ، ومن هذا التحقيق يرتفع ما أشكل على الإمام من التمييز بين الأزل وما لا يزال فإن المبادىء الوهمية تتغير بتغير الاعتبارات وباختلافها تختلف حقائقها إذ ليس لها وجود سواها فقد يصير ما هو في جانب الأزل في جانب لا يزال ، وبالعكس إذا تغيرت المبادىء المفروضة . قال : أما البحث عن كونه تعالى آخراً بمعنى أنه يبقى وكل شيء يفنى فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه آخراً وهو مذهب جهم فإنه زعم أنه سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب ، والعقاب إلى أهل العقاب ، ثم يفني الجنة وأهلها والنار وأهلها والعرش والكرسي والملك والفلك ولا يبقى مع الله شيء أصلاً في أبد الآباد كما لم يكن قبله شيء في أزل الآزال قال : ومن حجج جهنم أنه تعالى إما أن يكون عالماً بعدد حركات أهل الجنة والنار أولاً . فإن كان عالماً لزم تناهيه فإن الأحاطة بما لا يتناهى مستحيلة . إن لم يعلم لزم نسبة الجهل إليه تعالى وذلك محال . وأيضاً الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه . وأجاب عن الأول بأن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد ، والدليل عليه أن هذه الماهيات لو زال إمكانها لزم انقلاب الممكن إلى الممتنع ، ولزم أن تنقلب قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير . قلت : هذه مغالطة فإنه لا يلزم من الإمكان الذاتي للشيء وقوعه في الخارج ولا من عدم وقوعه في الخارج الامتناع الذاتي وأجاب عن الثاني بأنه لا يعلم أن عددها ليس بمعين وهذا لا يكون جهلاً إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه . قلت : الذي علمه متناه يجب أن يكون معلومه متناهياً ، أما الذي لا نهاية لعلمه فلم يبعد بل يجب أن تكون معلوماته غير متناهية . وأجاب عن الثالث بأن الخارج منه إلى الوجود أحداً يكون متناهياً . قلت : الزيادة والنقصان لا يوجبان التناهي كتضعيف الألف والألفين مراراً غير متناهية قال : فالمتكلمون حين أثبتوا إمكان بقاء العالم عولوا في أبدية الجنة والنار على إجماع المسلمين .

واختلفوا في معنى كونه تعالى آخراً على وجوه أحدها : أنه تعالى يفني جميع العالم ليتحقق كونه آخراً ، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبداَ . قلت : هذا حقيق بأن لا يسمى آخرية بل يسمى توسطاً . وثانيها أن صحة آخرية كل الأشياء مختصة به فلا جرم وصف بكونه آخراً . أقول : هذا أول المسألة لأن الكلام لم يقع في اختصاص وجوده وعدمه وإنما النزاع في معنى قوله آخراً . وثالثها أنه أول في الوجود آخر في الاستدلال لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة ذات الصانع وصفاته ، وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد بها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة . قلت : أراد أنه غاية الأفكار ونهاية الأنظار وهذا معنى حسن في نفسه إلا أنه لا يطابق معنى الأول كل المطابقة . ورابعها أنه أول في ترتيب الوجود وآخر إذا عكس الترتيب . قلت : هذا تصور صحيح ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل والمعلولات ، وعلى المترتبة من الأشرف إلى الأخس . وعلى الآخذة من الوحدة إلى الكثرة ، وكما يلي الأزل إلى ما يلي الأبد ، ومما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز فهو سبحانه أول بالترتيب الطبيعي وآخر بالترتيب المنعكس فقد وضح بهذا البيان صحة إطلاق التقدمات الخمسة ومقابلاتها عليه تعالى ، وهذا من غوامض الاسرار وقد وفقني الله تعالى لحلها وبيانها فالشكر على آلائه . أما تفسير الظاهر والباطن فالمحققون قالوا : إنه الظاهر بالأدلة الدالة على وجوده . والباطن لأنه جل عن إدراك الحواس والعقول إياه إما في الدنيا أو فيها وفي الآخرة جميعاً . وقيل : معنى الظاهر الغالب ، والباطن العالم بما بطن أي خفي . قال الليث : يقال أنت أبطن بهذا الأمر أي أخبر به . وباقي الآيات قد سبق تفسيرها في مواضع إلا قوله { يعلم ما يلج } فإنه قد مر في أول « سبأ » فقط فلا حاجة إلى الإعادة . وقوله { وهو معكم } معية العلم والقدرة أو استصحاب المكان عند بعض قوله { له ملك السموات والأرض } وبعده مثله ليس بتكرار لأن الأول في الدنيا لقوله { يحي ويميت } والثاني في العقبى لقوله { وإلى الله ترجع الأمور } قوله { مستخلفين فيه } أراد أن المال مال الله والعباد عباد الله إلا أنه قد جعل أرزاقهم متداولة بيد حكمته متعلقة بالوسائط والروابط ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لرعاية حق الاستخلاف فيتصرف فيما آتاه الله على وفق ما أمره الله من الإنفاق في سبيل الله قبل أن ينتقل منه إلى غيره بإرث أو حادث كما انتقل من غيره إليه بأحد السببين . قوله { لا تؤمنون } حال من معنى الفعل كقولك « مالك قائماً » أي ما تصنع . والواو في قوله { والرسول } للحال من ضمير { لا تؤمنون } فهما حالان متداخلتان .

وأخذ الميثاق إشارة إلى الأقوال المذكورة في تفسير قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } [ الأعراف : 172 ] ، والمراد أنه قد تعاضدت الدلائل السمعية والبراهين العقلية على الإيمان بالله فأي عذر لكم في تركه { إن كنتم مؤمنين } لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه ولا ريب أن الإيمان بالله شامل لتصديق بجميع أوامره وأحكامه ومن جملتها الإيمان بالرسول وبالقرآن وبما فيه . استدل القاضي بقوله { وما لكم } على أن العبد قادر على الإيمان وعلى الاستطاعة قبل لافعل وإلا لم يصح التوبيخ كما لا يقال مالك لا تطول ولا تبيض . والبحث في أمثاله مذكور في مواضع . والضمير في قوله { ليخرجكم } لله تعالى أو لعبده والميراث مجاز عن بقائه بعد فناء الخلق وقد مر في « آل عمران » : قال المفسرون : إن أبا بكر أول من أنفق في سبيل الله فنزل فيه وفي أمثاله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح } أي فتح مكة وتمامه أن يقال : ومن أنفق بعد الفتح فحذف لدلالة قوله { أولئك } الذين أنفقوا قبل الفتح وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » { أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } وسبب الفضل أنهم أنفقوا قبل عز الإسلام وقوة أهله فكانت الحاجة إلى الإنفاق حينئذ أمسّ مع أنه كان أصدق إنباء عن ثقة صاحبه بهذا الدين { وكلاً وعد الله الحسنى } المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات . ومن قرأ بالرفع فتقديره وكل وعده الله والقرض مجاز عن إنفاق المال في سبيل الله . وقد مر في أواخر « البقرة » . قال أهل السنة : إنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن كل من صدرعنه الفعل الفلاني فله كذا من الثواب وهو الأجر الكريم ، فإذا ضم إلى ذلك مثله فهو المضاعفة . وقال الجبائي : إن الأعواض تضم إلى الثواب فهو المضاعفة . وإنما وصف الأجر بالكريم لأنه جلب ذلك الضعف وبسببه حصلت لكل الزيادة فكان كريماً من هذا الوجه . ثم أكد الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيله بتذكير يوم المحاسبة فقال { يوم ترى } يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب وقد مر إعرابه . عن ابن مسعود وقتادة مرفوعاً أن كل إنسان مؤمن فإنه يحصل له النور يوم القيامة على قدر ثوابه منهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ، ومنهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ، وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه ينطفىء مرة ويتقد أخرى . وقال مجاهد : ما من عبد إلا وينادى يوم القيامة يا فلان هذا نورك ، ويا فلان لا نور لك .

هذا وقد بينا لك في هذا الكتاب مراراً أن الكمالات والخيرات كلها أنوار وأكمل الأنوار معرفة الله سبحانه . وإنما قال { بين أيديهم وبأيمانهم } لأن ذلك جعل إمارة النجاة ولهذا ورد أن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . ومعنى سعي النور سعيه بسعيهم جنيباً لهم ومتقدماً ويقول لهم الذي يتلقونهم من الملائكة { بشراكم اليوم جنات } قوله { يوم يقول } بدل من قوله { يوم ترى } ومنصوب ب « أذكر » مقدراً . قال جمع من العلماء : الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار والمنافقون يطلبونها منهم قائلين { انظرونا } لأنهم إذا نظروا إليهم والنور قدامهم استضاؤا بتلألؤ تلك الأنوار . قال الفارسي : حذف الجار وأوصل الفعل وأنشد أبو الحسن :
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن ... كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك فإن كانت هذه الحالة عند الموقف فالمراد انظروا إلينا ، وإن كانت هذه الحالة عند سير المؤمنين إلى الجنة احتمل أن يكون النظر بمعنى الانتظار لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على الركاب وهؤلاء مشاة في القيود والسلاسل . ومن قرأ { انظرونا } أي أمهلونا جعل استبطاءهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إمهالاً لهم . قال الحسن : يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله . ثم إنه يؤخذ من جمر جهنم وما فيه من الكلاليب والحسك وتلقى على الطريق فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء . ثم على ذلك ثم على ذلك ، ثم تغشاهم الظلمة فينطفىء نور المنافقين فهناك يقول المنافقون للمؤمنين انظرونا { نقتبس من نوركم } والاقتباس أخذ القبس أي الشعلة من النار { قيل ارجعوا وراءكم } أي إلى الموقف حيث أعطينا هذا النور فاطلبوا نوراً وهو تهكم بهم أو إلى الدنيا { فالتمسوا نوراً } بتحصيل سببه وهو الإيمان والعمل الصالح أو اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة كأنها خدعة خدع بها المنافقون كقوله { يخادعون الله وهو خادعهم } [ البقرة : 9 ] وعلى هذا فالسور هو امتناع العود إلى الدنيا وعلى الأول قالوا : إنهم يرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروباً بينهم وبين المؤمنين وهو حائط الجنة أو هو الأعراف { باطنه } أي باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة { فيه الرحمة وظاهره } وهو ما ظهر لأهل النار { من قبله } أي من جهته { العذاب } قال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين { ارجعوا } منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه « وراءك أوسع لك » والمراد أنه لا سبيل لهم إلى هذا النور ، والمراد من السور منعهم من رؤية المؤمنين قال الأخفش : الباء في قوله { بسور } صلة وفائدته التوكيد وأرادوا بقوله { ألم نكن معكم } مرافقتهم في الظاهر .

ومعنى { فتنتم } محنتم { أنفسكم } بالنفاق وأهلكتموها { وتربصتم } بالمؤمنين الدوائر { وارتبتم } وشككتم في وعيد الله أو في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو في البعث أو في كل ما هو من عند الله { وغرتكم الأماني } بكثرة الآمال وطول الآجال { حتى جاء أمر الله } بالموت على النفاق ثم أوقعكم في النار { وغرّكم بالله } الشيطان { الغرور } فنفخ في خيشومكم إن الله غفور إن باب التوبة مفتوح { فاليوم لا يؤخذ منكم } أيها المنافقون { فدية } قيل أي توبة والأولى العموم ليشمل كل ما يفتدى به { ولا من الذين كفروا } في الظاهر . فالحاصل أنه لا فرق بين الذين أضمروه فإن كلا منكم { مأواكم النار هي مولاكم } وقيل : المراد أنها تتولى أموركم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار وقيل : أراد هي أولى بكم . قال جار الله حقيقته هي محراكم ومقمنكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل « إنه لكريم » . قال في التفسير الكبير : هذا معنى وليس بتفسير للفظ من حيث اللغة ، وغرضه أن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم « من كنت مولاه فعلى مولاه » فهذا علي مولانا احتج بقول الأئمة تفسير الآية أن المولى معناه الأولى ، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل وجب حمله عليه لأن ما عداه بين الثبوت ككونه ابن العم والناصر ، أو بين الانتفاء كالمعتق والمعتق فيكون على التقدير الأول عبثاً ، وعلى التقدير الثاني كذباً . قال : وإذا كان قول هؤلاء معنى لا تفسيراً بحسب اللغة سقط الاستدلال . قلت : في هذا الإسقاط بحث لا يخفى . وجوز أن يراد في الآية نفي الناصر لأنه إذا قال هي ناصركم على سبيل التهكم وليس لها نصرة لزم نفي الناصر رأساً كقوله تعالى { يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 29 ] ويقال ناصره الخذلان ومعينه البكاء .
قوله سبحانه { ألم يأن للذين آمنوا } من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه أي وقته . قال جمع من المفسرين : نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع . وقال آخرون : نزل في المؤمنين المحقين . روى الأعمش أن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا ليناً في العيش ورفاهية فغيروا بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية . وعن أبي بكر الصديق أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب . وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين . وعن ابن عباس أنه عاتبه على رأس ثلاث عشرة . وقوله { لذكر الله } من إضافة المصدر إلى الفاعل أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن { وما نزل من الحق } وأراد أن القرآن جامع للوصفين الذكر والموعظة ولكونه حقاً نازلاً من السماء .

ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول أي لذكرهم الله والقرآن كقوله { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } [ الأنفال : 2 ] ويحتمل أن تكون اللام للتعليل أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة . ومن قرأ { ولا تكونوا } بالتاء الفوقانية فهي الناهية . ومن قرأ بالياء التحتانية احتمل أن يكون منصوباً عطفاً على أن تخشع والأمد الأجل والأمل أي طالت المدة بين اليهود والنصارى وبين أنبيائهم ، أو طالت أعمارهم في الغفلة والأمل البعيد فحصلت القسوة في قلوبهم بسببه فاختلفوا فيما أحدثوا من التحريف والبدع . وقال مقاتل بن سليمان : طال عليهم أمد خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، أو طال عليهم عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما في قلوبهم قاله القرطبي ، وقرىء الأمد بالتشديد أي الوقت الأطول { وكثير منهم فاسقون } خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر . قال الحسن : أما والله لقد استبطأ قلوب المؤمنين وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسوق . قوله { اعلموا أن الله يحيي الأرض } فيه وجهان : الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالموظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث ، الثاني أنه زجر لأهل الفسق وترغيب في الخشوع لأنه يذكر القيامة وبعث الأموات . ثم استأنف وعد المنفقين ووعيد أضدادهم بقوله { إن المصدقين } وأصله المتصدقين وعطف عليه قوله { وأقرضوا الله } لأن الألف واللام بمعنى الذي كأنه قال : إن الذين تصدقوا وأقرضوا . والظاهر أن الأول هو الواجب الثاني هو التطوع لأن تشبيهه بالقرض كالدلالة على ذلك . وأيضاً ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل الدال على الاستمرار ينبىء عن الالتزام والوجوب . ومن قرأ بتشديد الدال فقط فمعناه إن الذين صدقوا الله ورسوله وأقرضوا ويندرج تحت التصديق الإيمان وجميع الأعمال الصالحات إلا أنه أفرد الإنفاق بالذكر تحريضاً عليه كما أنه أفرد الإيمان لتفضيله والترغيب فيه . وقال { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } الكاملون في الصدق إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة ، أوهم الكثير والصدق من حيث إنهم ضموا صدقاً إلى صدق وهو الإيمان بالله والاعتراف بالرسالة ، أو هم الكثيرر والصدق من حيث إنهم ضموا صدقاً إلى صدق وهو الإيمان بالله ورسوله أو به وبرسوله رسوله . ثم حث على الجهاد بقوله { والشهداء } وهو مبتدأ حبره { عند ربهم } وفيه بيان أنهم من الله بمنزلة وسعة وقد بين ثوابهم الجسماني { لهم أجرهم ونورهم } ويجوز أن يكون قوله { عند ربهم } حالاً أو صفة للشهداء كقوله « مررت على اللئيم يسبني » وما بعده خبر .

وقال الفراء والزجاج : هم الأنبياء لقوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] ومن جعل { الشهداء } عطفاً على ما قبله قال : أراد أنهم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله . قال مجاهد : كل مؤمن فهو صديق وشهيد . وقال جار الله : المعنى أن الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك . وقيل : أريد أنهم شهداء عند ربهم على أعمال عباده . وعن الحسن : كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه . وعن الأصم . إن المؤمن قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من الإيمان والطاعة . ثم ذكر ما يدل على حقارة أمور الدنيا وشبهها في سرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث ورباه إلى أن يتكامل نشؤه . ومعنى إعجاب الكفار أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم فبعث الله عليه العاهة فصيره كلا شيء كما فعل بأصحاب الجنتين في « الكهف » وفي « سبأ » وبأصحاب الجنة في « نون » . ومن جعل الكفار بمعنى الزراع فظاهر قاله ابن مسعود وصيرورته حطاماً هي عودة إلى كمال حاله في النضج واليبس . ثم عظم أمور الآخرة بتنوين التنكير في قوله { وفي الآخرة عذاب شديد } للكافرين { ومغفرة من الله ورضوان } للمؤمنين قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة . فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه فنعم المتاع ونعم الوسيلة . ثم حث على المسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة وقد مر نصير في « آل عمران » إلا أن البشارة ههنا أعم لأنه قال هناك { أعدت للمتقين الذين ينفقون } [ الآية : 133 ] إلأى آخره . وههنا قال { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } ولأن هؤلاء أدون حالاً من أولئك جعل عرض الجنة هنا أقل فقال { وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } فلم يجمع السماء وأدخل حرف التشبيه الدال على أن المشبه أدون حالاً من المشبه به . وفي لفظ { سابقوا } ههنا إشارة إلى أن مراتب هؤلاء مختلفة بعضها أسبق من بعض كالمسابقة في الخيل وفي لفظ { سارعوا } هنالك رمز إلى أن كلهم مستوون في القرب أومتقاربون لأن المرتبة العليا واحدة وهي مرتبة السابقين المقربين وإنها غاية الرتب الإنسانية فافهم هذه الأسرار فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . قال الزجاج : لما أمرنا بالمسابقة إلى المغفرة بين أن الوصول إلى الجنة والحصول في النار بالقضاء والقدر فقال { ما أصاب من مصيبة } أي لا يوجد مصيبة { في الأرض } من القحط والوباء والبلاء { ولا في أنفسكم } من المرض والفتن { إلا في كتاب } أي هو مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال ولهذا قال

« جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين » ولم يقل إلى الأبد .
وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه لم يذكر أحوال أهل السموات وفيه سر قال أهل البرهان : فصل في هذه السورة وأجمل في « التغابن » فقال { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } [ الحديد : 22 ] والتفصيل بهذه السورة أليق لأنه فصل أحوال الدنيا والآخرة بقوله { اعلموا إنما الحياة الدنيا } إلى آخره قوله { من قبل أن نبرأها } من قبل أن نخلق المصائب والأنفس أو الأرض أو المخلوقات { إن ذلك } الإثبات أو الحفظ { على الله يسير } وإن كان عسيراً على غيره . ثم بين وجه الحكمة في ذلك الإثبات قائلاً { لكيلا تأسوا } أي لكيلا تحزنوا { على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } نظيره ما ورد في الخبر : من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب لأنه لما علم وجوب وقوعه من حيث تعلق علم الله وحكمه وقدرته به عرف أن الفائت لا يرده الجزع والمعطى لا يكاد يثبت ويدوم لأنه عرضة للزوال ونهزة للانتقال فلا يشتد به فرحه . روى عكرمة عن ابن عباس : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبراً وللخير شكراً أو المراد أنه لم ينف الأسى والفرح على الإطلاق ولكنه نفى ما بلغ الجزع والبطر ولا لوم على ما يخلو منه البشر . والباقي ظاهر وقد مر في النساء . والمقصود أن البخيل يفرح فرحا مطغياً لحبه المال ليفتخر به ويتكبر على الناس ويحمل غيره على إمساك المال لمقتضى شحه الطبيعي { ومن يتول } عن أوامر الله ونواهيه ولا يعرف حق الله فما أعطاه { فإن الله هو الغني } عن طاعة المطيعين { الحميد } في ذاته وإن لم يحمده الحامدون . وقيل : إن الآية نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبخلوا ببيان نعته .
ثم أراد أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات ومن إنزال الكتاب والميزان معهم . يروى أن جبرائيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح فقال : مر قومك يزنوا به . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض . أنزل الحديد والنار والماء والملح . وعن الحسن : إنزالها تهيئتها كقوله { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] وقال قطرب : هو من النزل يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً منهم من قال : هو من باب « علفتها تبناً وماء بارداً » . وللعلماء في المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه .

أحدها أن مدار التكليف على فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي . والثاني لا يتم بالحديد الذي فيه بأس شديد والأول إما أن يكون من باب الاعتقادات ولن يتم إلا بالكتاب السماوي ولا سيما إذا كان معجزاً . وإما أن يكون من باب المعاملات ولا ينتظم إلا بالميزان فأشرف الأقسام ما يتعلق بالوقة النظرية الروحاينة ، ثم ما يتعلق بالعملية الجسمانية ، ثم ما يتعلق بالزواجر وقد روعي في الآية هذا النسق . وثانيها المعاملات إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم ، إما أحباب ويفتقر في نظام أمور تمدنهم إلى الميزان ، وإما أعداء فيدفعون بالسيف . وثالثها السابقون يعاملون بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات ، والمقتصدون ينصفون وينتصفون فلا بد لهم من الميزان ، والظالمون ينتصفون من غير إنصاف فلا بدّ لهم من السيوف الزواجر . واربعها أن الإنسان في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة المقربين لا يسكن إلا بكتاب الله { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] أو هو في مقام الطريقة وهو النفس اللوامة . وأصحاب اليمين لا بد لهم من الميزان في معرفة الأخلاق المتوسطة غير المائلة إلى طريق الإفراط والتفريط ، أو هو في مقام الشريعة والنفس الأمارة لا تنزجر إلا بحديد المجاهدة وسيف الرياضة . وخامسها السالك إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فانتبه بميزان الكتاب ، أو صاحب الطلب والاستدلال فانتبه بميزان الدليل والحجة ، وإن كان صاحب العناد واللجاج فلا بد له من الحديد . وسادسها الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوم بالميزان ، وميزان العدل والأحوال يعتبر بحديد الرياضة . أو نقول : الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوّم بالميزان ، والمنحرفون من أحد الموضوعين يولون بالسيف . وسابعها الكتاب للعلماء . والميزان للعوام والسيف للملوك . قال أهل التجارب : في منافع الحديد ما من صناعة إلا والحديد آلة فيها . أو ما يعمل بالحديد بيانه أن أصول الصناعة أربعة : الزراعة والحياكة والبناء والإمارة . أما الزراعة فتحتاج إلى الحديد في كراية الأرض وإصلاحها وحفرها وتنقية آبارها . ثم الحبوب لا بد من طحنها وخبزها وكل منهما يحتاج إلى شيء من حديد وأكل الفواكه واللحوم وغيرها يفتقر أيضاً في التغيير والتقطيع إلى الحديد وأما الحياكة فتحتاج إلى آلات الحراثة وإلى آلات الغزل وإلى أدوات الحياكة والخياطة ، وأما البناء فلا يكمل الحال فيه إلا بآلات حديدية وأما الإمارة فلا تتم إلا بأسباب الحرب وآلات السياسة فظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ولا يقوم الذهب ولا الجواهر في أكثرها مقام الحديد فلو لم يوجد الذهب والجواهر في الدنيا لم يختل شيء من المهمات ولو لم يوجد الحديد لاختلت المصالح فعند هذا يظهر أثر عناية الله بحال عبيده ، فإن كل شيء تكون حاجاتهم إليه أكثر يكون وجوده أسهل . قال بعضهم :
سبحان من خص الفلز بعزه ... والناس مستغنون عن أجناسه
وأذ أنفاس الهواء وكل ذي ... نفس فمحتاج إلى أنفاسه

نظيره الحاجة إلى الطعام ثم إلى الهواء ، فالطعام قلما يوجد إلا بالثمن والماء قد يباع في بعض الأمكنة والزمان والهواء لا يباع أصلاً لأن الحاجة إلى النفس أمس . قال بعض المحققين ههنا إن العلم أبلغ ما يحتاج الإنسان إليه إذ به قوام روحه وصلاح معاده فلا جرم لا يقع في عرضة البيع وكثيراً ما يعطى الأجر على تعلمه قوله { وليعلم الله } ظاهره أنه معطوف على المعنى التقدير : وأنزلنا الحديد لأجل المنافع الدنيوية ولأجل المصالح الدينية وهو ظهور معلوم الله وتعلق علمه بما سيقع من نصرة دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وغيرها . ويجوز أن يكون المعطوف عليه محذوفاً بدليل ما تقدمه أي وأنزلنا الحديد ليقوم الناس بالقسط خوفاً من أن يجعل وليعلم الله ومعنى { بالغيب } غائباً عنهم . قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه ، وفيه إشارة إلى أن الجهاد المعتبر هو الذي يوجد عن إخلاص القلب خالياً من النفاق والرياء وفي قوله { إن الله قوي عزيز } رمز إلى أنه تعالى قادر على إهلاك أعداء الدين وإعلاء كلمته بدون واسطة الجهاد ، ولكنه كلفهم ذلك ليتوسلوا به إلى نيل درجة الصديقين والشهداء .
وحين حكى قصة الرسل مجملة أعقبها بنوع من التفصيل والكتاب ظاهره الوحي . عن ابن عباس هو الخط بالقلم والضمير في { فمنهم } للذرية أو للمرسل إليهم بدليل الإرسال . والفاسقون إما العاصون بارتكاب الكبائر ، وإما الكافرون ولعل هذا أظهر لوقوعه في طباق المهتدين إلا أن يحمل الفاسق على الذي لا يهتدي لوجه رشده قال مقاتل : المراد بالرأفة والرحمة هو ما أوقع الله تعالى في قلوبهم من التواد والتعاطف كما جاء في نعت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] قال أبو علي الفارسي : الرهبانية لا يستقيم حمل نصبها على { جعلنا } لأن ما يبتدعونه لا يجوز أن يكون مجعولاً لله قال في التفسير الكبير : هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين من أين يليق بأبي علي أن يخوض في أمثال هذه الأشياء . قلت : الظن بالعلماء ينبغي أن يكون أحسن من هذا ولا حاجة إلى إحالة تمام الكلام على المسألة المذكورة ولكن يرد على أبي علي أنه إذا جاز أن يكون الكفر والفسوق وسائر المعاصي الصادرة عن العبد منسوبة إلى تخليق الله ، فلم لا يجوز أن يكون الابتداع وهو إحداث أمر من عند نفسه لا على ألسنة الرسل . مجعولاً لله سبحانه؟ قال المفسرون : إن الجبابرة ظهروا على أمة عيسى بعد رفعه فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوهم حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فترهبوا على رؤوس الجبال فارين من الفتنة متحملين كلفاً ومشاق زائدة على العبادات المكتوبة عليهم من الخلوة والاعتزال والتعبد في الغيران والكهوف ، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

« يا ابن مسعود أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلا ثلاث فرق فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداءه في نصرته حتى قتلوا وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة } » الآية قال العلماء : لم يرد الله تعالى بقوله { ابتدعوها } طريقة الذم ولكن المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذورها . والرهبانية بفتح الراء مصدر وهو الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بالفتح أيضاً وهو الخائف « فعلان » من رهب كخشيان من خشي . وقرىء بالضم وهو نسبة إلى الرهبان جمع الراهب . وقوله { إلا ابتغاء رضوان الله } استثناء منقطع عند الأكثر أي ما فرضناها نحن عليهم ولكنهم اتبدعوها طلب رضوان الله . وقال آخرون : إنه متصل والمعنى ما تعبدناهم بها إلا على وجه تحصيل مرضاة الله فتكون ندباً إن أتى بها ارتضاها الله وإن لم يأت بها فلا حرج . وفي قوله { فما رعوها حق رعايتها } أقول : أحدها أنهم ما أقاموا على تلك السيرة ولكنهم ضموا إليه التثليث والإلحاد إلا إناساً منهم أقاموا على دين عيسى حتى أدرجوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وثانيها أن أكثرهم لم يتوسلوا بها إلى مرضاة الله ولكنهم جعلوها سلماً إلى المنافع الدنيوية . وثالثها أن يكون في الكلام إضمار أي لم نفرضها أولاً عليهم بل كانت على جهة الاستحباب ، ثم فرضناها عليهم فما رعوها إلا قليلاً منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن استقاموا على الطريقة . ورابعها أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم من لم يرعها كما رعاها الحواريون . ثم خاطب المؤمنين منهم بقوله { يا أيها الذين آمنوا } أي بعيسى { اتقوا الله وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } لإيمانكم أولاً بعيسى وثانياً بمحمد صلى الله عليه وسلم { ويجعل لكم نوراً تمشون به } وهو النور المذكور في قوله { يسعى نورهم } أو النور المذكور في قوله { أو من ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } [ الأنعام : 122 ] ويجوز أن يكون الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والمراد اثبتوا على إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتكم ما وعد مؤمني أهل الكتاب في قوله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } [ القصص : 54 ] وذلك أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوةا الفضل عليهم فنزلت وفيه أنهم مثلهم في الإيمانين لأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله على أنه يجوز أن يكون النصيب الواحد من الأجر أزيد من نصيبين فإن المال إذا قسم نصفين كان الكفل الواحد نصفاً ، وإذا قسم عشرة أقسام كان الكفل الواحد جزءاً من عشرة .

ولا شك أن النصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من النصيب الواحد من القسمة الثانية . قوله { لئلا يعلم } الآية . أكثر المفسرين والنحويين على أن « لا » زائدة والمعنى ليعلم { أهل الكتاب } الذين لم يسلموا أن الشأن لا ينالون ولا يقدرون على شيء من الكفلين . والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم إيمانهم من قبله ، أو المراد أنا بالغنا في هذا البيان وأمعنا في الوعد لهم والوعيد ليعلم أهل الكتاب أن الشأن هو أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الأجر في طائفة مخصوصين { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } وقيل : غير زائدة والضمير في { لا يقدرون } للرسول وأصحابه . والعلم بمعنى الاعتقاد والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، ولكي يعتقدوا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، وقد خص بذلك محمداً صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وبالله التوفيق وإليه المرجع والمآب والله أعلم .


قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

القراآت { يظاهرون } من المظاهرة : عاصم { يظهرون } بتشديد الظاء والهاء من الظهر وأصله « يتظهرون » أدغمت التاء في الظاء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . والباقون { يظاهرون } بتشديد الظاء ويزادة الألف من التظاهر وأصله « يتظاهرون » { ما هن أمهاتهم } بالرفع : المفضل . الآخرون : بكسر التاء على إعمال « ما » عمل ليس هذه هي الفصحى { ما تكون } بتاء التأنيث : يزيد وهو ظاهر . الآخرون : على التذكير بناء على أن التقدير ما يقع شيء من نجوى . { ولا أكثر } بالرفع : يعقوب إما على الابتداء كقولك « لا حول ولا قوة » أو للعطف على محل { من نجوى } الباقون : بالنصب على أن « لا » لنفي الجنس أو على أنهما مجروران عطفاً على { نجوى } كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم . أو عطفاً على العدد والتقدير : ما يكون من نجوى أكثر من ذلك { وتتناجوا } على باب الافتعال : حمزة ورويس { ولا تتناجوا } من الافتعال أيضاً . رويس . { المجالس } على الجمع : عاصم { انشزوا } بضم الشين فيهما : أبو جعفر ونافع وأبن عامر وعاصم غير يحيى وحماد والهراز . الآخرون : بالكسر فيهما وهما لغتان مثل { يعرشون } و { يعرشون } { ورسلي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر { عشيراتهم } على الجمع : الشموني { كتب } مجهولاً الإيمان بالرفع : المفضل .
الوقوف : { تحاوركما } ط { بصير } ه { ما هن أمهاتهم } ط { ولدنهم } ط { وزوراً } ط { غفور } ه { يتماسا } ط { به } ط { خبير } ه { يتماسا } ج { مسكيناً } ط { ورسوله } ط { الله } ط { أليم } ه { بينات } ق { مهين } ه ط لاحتمال تعلق الظرف بما قبله وكونه مفعولاً لاذكر { عملوا } ط { ونسوه } ط { شهيد } ه { وما في الأرض } ه { كانوا } ج لأن « ثم » للعطف أو لترتيب الاخبار { القيامة } ط { عليم } ه { الرسول } ز لعطف الجملتين المتفقتين معنى مع أن { جاؤك } فعل ماض لفظاً { به الله } لا لأن ما بعده حال أو عطف على { جاؤك } لمستقبل معنى { نقول } ط { جهنم } ط لاحتمال الحال وكونه مستأنفاً { يصلونها } ج { المصير } ه { والتقوى } ج { تحشرون } ه { بإذن الله } ط { المؤمنون } ه { يفسح الله لكم } ج لابتداء شرط آخر مع العطف { منكم } لا للعطف { درجات } ط { خبير } ه { صدقة } ط { وأطهر } ط { رحيم } ه { صدقات } ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط { ورسوله } ط { تعملون } ه { عيلهم } ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار { منهم } لا بناء على أن ما بعده حاله والعامل معنى الفعل في الجار أي وهم يحلفون قاله السجاوندي ولا يبعد عندي أن يكون مستأنفاً فيحسن الوقف . { يعلمون } ه { شديداً } ط { يعملون } ه { مهين } ه { شيئاً } ط { النار } ط { خالدون } ه { على شيء } ط { الكاذبون } ه { ذكر الله } ط { أولئك حزب الشيطان } ط { الخاسرون } ه ه { الأذلين } ه { رسلي } ط { عزيز } ه { عشيرتهم } ط { بروح منه } ط للعدول عن الماضي إلى المستقبل { فيها } ط { عنه } ط { أولئك حزب الله } ط { المفلحون } ه .

التفسير : عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد كلمت المجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع وقد سمع الله لها . وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال : قد سمع الله لها أي أجاب وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة . ورآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم فلما سلمت راودها فأبت فغضب وكان به حدة فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوساً تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما كبر سني ونثرت بطني أي كثر منه ولدي جعلني منه كأمه . وفي رواية أنها قالت : إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فقال صلى الله عليه وسلم لها : ما عندي في أمرك شيء . وروي أنه قال لها مراراً : حرمت عليه . وهي تقول : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فنزلت . ومعنى { في زوجها } في شأنه ومعنى « قد » في { قد سمع الله } التوقع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله عز وجل مجادلتها وشكواها وينزل في شأنها ما يفرج عنها . والتحاور التراجع في الكلام وفي الآية دلالة على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق كفاه الله همه . « يروى أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى زوجها وقال : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : الشيطان ، فهل من رخصة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم وقرأ عليه الآيات الأربع وقال صلى الله عليه وسلم له : هل تستطيع العتق؟ فقال : لا والله . فقال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ فقال : لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة فأعانه بخمسة عشر صاعاً وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين » وعلم أن الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية لأنه في التحريم غاية فإن كان شرعاً متقدماً فالآية ناسخة له ولا سيما فيمن روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : حرمت عليه . وإن كان عادة الجاهلية فلا نسخ لأن النسخ لا يوجد إلا في الشرائع . ثم إنه سبحانه وبخ العرب أوّلاً بقوله { الذين يُظاهِرُونَ منكم } ثم بين الحكم العام في الآية الثانية ولهذا لم يورد لفظة منكم ونحن نبني تفسير الآية على أبحاث الأول في معنى الظهار وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته « أنت عليّ كظهر أمي » فاشتقاقه من الظهر .

وقال صاحب النظم : ليس الظهر بذلك أولى في يهذا المطلوب من سائر الأعضاء التي هي موضع التلذذ فهو مأخوذ من ظهر إذا علا وغلب وبه سمي المركوب ظهراً لأن راكبه يعلوه ، وكذلك امرأة الرجل مركبه وظهر له . والدليل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق : نزلت عن امرأتي أي طلقتها . وفي لفظ الظهار إضمار والتقدير : ظهرك عليّ أي علوي وركوبي عليك حرام علي كعلو أمي . ثم لا مناقشة بين العلماء في الصلات فلو قال : أنت معي أو عندي أو مني أو لي كظهر أمي صح ظهاره . وكذا لو ترك الصلات كلها وقال : أنت كظهر أمي كما أن قوله « أنت طالق » صريح وإن لم يقل « مني » أما إذا شبهها بغير الظهر فذهب الشافعي إلى أن ذلك العضو إن كان مشعراً بالإكرام كقوله أنت علي كروح أمي أو عين أمي صح ظهاره إن أراد الظهار لا الإكرام وإلا فلا . وإن لم ينو شيئاً ففيه قولان ، وإن لم يكن مشعراً بالكرامة كقوله أنت كرجل أمي أو كيدها أو بطنها ففي الجديد ظهار ، وفي القديم لا ، وقد يرجح هذا البراءة الأصلية . وقال أبو حنيفة : إن شبهها بعضو من الأم يحل له النظر إليه كاليد أو الرأس لم يكن ظهاراً ، وإن شبهها بعضو يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ كان ظهاراً . وفي التشبيه بالمحرمات الأخر من النسب أو الرضاع سوى الأم في الجديد وعليه أبو حنيفة أنه ظهار لعموم قوله { يظاهرون } ومن قصره على الأم احتج بقوله بعده { ما هنّ أمهاتهم } وبأن حرمة الأم أشد .
البحث الثاني في المظاهر وفيه مسائل : الأولى : قال الشافعي : كل من صح طلاقه صح ظهاره وإن كان خصياً أو مجبوباً ، ويتفرع عليه أن ظهار الذمي صحيح . حجة الشافعي عموم قوله تعالى { والذين يظاهرون } وأيضاً تأثير الظهار في التحريم والذمي أهل لذلك بدليل صحة طلاقه . وأيضاً إيجاب الكفارة للزجر عن هذا الفعل الذي هو منكر من القول وزور وهذا المعنى قائم في حق الذمي . وقال أبو حنيفة ومالك : لا يصح ظهاره . واحتج أبو بكر الرازي لهما بأن قوله { والذين يظاهرون منكم } خطاب للمؤمنين . وأيضاً من لوازم الظهار تصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع لأنه مع الكفر باطل ، وبعد الإسلام غير لازم لأنه يجب ما قبله . وأجيب عن الأول بأن قوله { منكم } خطاب للحاضرين فلم قلتم : إنه يختص بالمؤمنين؟ على أن التخصيص بالذكر عندكم لا يدل على نفي ما عداه . وأيضاً العام عندكم إذا أورد بعد الخاص كان ناسخاً للخاص . وعن الثاني أن من لوازم الظهار أيضاً أنه حين عجز عن الصوم اكتفي منه بالإطعام فهو ههنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفي فيه بالإطعام ، وإن لم يتحقق العجز زال السؤال .

وأيضاً الصوم بدل عن الإعتاق والبدل أضعف عن المبدل . ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره بالاتفاق فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب منع الظهار ففوات الأضعف كيف يمنع؟ وقال القاضي حسين من أصحاب الشافعي في الجواب : نقول للذمي إن أردت الخلاص من التحريم فأسلم وصم قوله الإسلام يجب ما قبله . قلنا : إنه عام والتكفير خاص والخاص مقدّم على العام . الثانية قال مالك وأبو حنيفة والشافعي : لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو ظاهر ولو قال شهراً فقد قال أبو حنيفة والشافعي : بطل ظهاره بمضي المدة وكان قبل ذلك صحيحاً لام روي أن سلمة بن صخر ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان ثم وطئها في المدة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحرير رقبة . وأما بطلان ظهاره بعد المدة فلمقتضى اللفظ كما في الأيمان . فإذا مضت المدة حل الوطء لارتفاع الظهار وبقيت الكفارة في ذمته . وقال مالك وابن أبى ليلى : هو مظاهر أبداً .
البحث الثالث في المظاهر عنها . ويصح الظهار عن الصغيرة والمجنونة والأمة المتزوّجة والذمية والرتقاء والحائض والنفساء ، ولا يصح عن الأجنبية سواء أطلق أو علق بالنكاح فقال « إذا نكحتك فأنت عليّ كظهر أمي » . ويصح عن الرجعية ولا يصح عن الأمة وأم الولد عند أبي حنيفة والشافعي لأن قوله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم } يتناول الحرائر دون الاماء كما في قوله { أو نسائهن } [ النور : 31 ] بدليل أنه عطف عليه قوله { أو ما ملكت أيمانهن } [ النور : 31 ] وقال مالك والأوزاعي : يصح لأن قوله { من نسائهم } يشمل ملك اليمين لغة . وفي الآية سؤال وهو أن المظاهر شبّه الزوجة بالأم ولم يقل إنها أم فيكف أنكر الله عليه بقوله { ما هن أمهاتهم } وحكم بأنه منكر وزور؟ والجواب أن قوله « أنت عليّ كظهر أمي » إن كان إخباراً فهو كذب لأن الزوجة حلال والأم حرام وتبشيه المحللة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب ، وإن كان إنشاء كان معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة ، ولما لم يرد الشرع بهذا السبب كان الحكم به كذباً وزوراً ولهذا أوجب الله سبحانه الكفارة على صاحب القول بعد العود . سؤال آخر قوله تعالى { إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } ظاهره يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة لكنه قال في موضع آخر { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } [ النساء : 23 ] وقال { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] أجاب في الكشاف بأنه يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هن الوالدات وغيرهن ملحقات بهن لدخولهن في حكمهن بسبب الإرضاع ، أو لكونها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو الأمة . وأما الزوجات فلسن من أحد القبيلين وكان قول المظاهر منكراً لمخالفة الحقيقة وزوراً لعدم موافقة الشرع .

قوله { ثم يعودون لما قالوا } قال الفراء : لا فرق في اللغة بين قولك عاد لما قال وإلى ما قال وفيما قال . وقال أبو علي الفارسي : كلمة إلى واللام يتعاقبان قال الله تعالى { الحمد لله الذي هدانا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقال { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقال أهل اللغة : إذا قال قائل عاد لما فعل جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى وهذا ظاهر ، وجاز أن يريد أن نقض ما فعل لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعودة إليه ، وإلى هذا ذهب أكثر المجتهدين إلا أن الشافعي قال : معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق قعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه ، وذلك أنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه ، فإذا سكت عن الطلاق دل على أنه ندم على ما ابتدأه من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة . واعترض أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عليه من وجهين : الأول أنه تعالى قال { ثم يعودون } وكلمة « ثم » تقتضي التراخي . وعلى قول الشافعي يكون المظاهر عائداً عقيب القول بلا تراخ وهذا خلاف مفهوم الآية . الثاني أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها فلا يكون إمساك الزوجة نقضاً لما قال . وأجيب عن الأول بأنه يوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك . والتحقيق أن العبرة بالحكم ونحن لا نحكم بالعود ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه فقد تأخر كونه عائداً عن كونه مظاهراً بهذا القدر من الزمان وهذا يكفي في العمل بمقتضى كلمة « ثم » . وعن الثاني أن المراد إمساكها على سبيل الزوجية واللفظ محتمل لهذا وإمساك الأم بهذا الوجه محرم . وقال أبو حنيفة : معناه استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة ، وذلك أنه لام شبهها بالأم في حرمة هذه الشياء ثم قصد استباحتها كان مناقضاً لقوله « أنت عليّ كظهر أمي » . وقال مالك : العود إليها عبارة عن العزم على جماعها ، وضعف بأن العزم على جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة هو القصد إلى استحلال جماعها فيرجع إلى قول أبي حنيفة . ولا يرد عليه إلا أنه خص وجه التشبيه من غير دليل ، والذي ذكره الشافعي أعم وأقل ما يطلق عليه اسم العود فكان أولى . وعن طاوس والحسن أن العود إليها عبارة عن جماعها وخطىء لقوله { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وإذا كان التكفير قبل الجماع والتكفير لا يثبت إلا بعد العود فالعود غير الجماع .

وأما الاحتمال الأول وهو أن العود لما فعل هو فعلة مرة أخرى ففيه أيضاً وجوه : الأول : قول الثوري : إن العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وزيف بأنه يرجع حاصل المعنى إلى قوله { والذين } كانوا { يظاهرون من نسائهم } في الجاهلية { ثم يعودون لما قالوا } في الإسلام { فكفارته } كذا وكذا وهذا إضمار من غير دليل مع أنه خلاف الأصل . الثاني قال أبو العالية : إذا كرر لفظ الظهار فهو عود وإلا فلا . وضعف بحديث أوس وحديث سلمة بن صخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لزمهما الكفارة مع أنهما لم يكررا الظهار . الثالثة : قال أبو مسلم الأصفهاني : العود هو أن يحلف على ما قال أوّلاً من لفظ الظهار فإذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على ما لو قال في بعض الأطعمة « إنه حرام عليّ كلحم الآدمي » فإنه لا يلزمه الكفارة إلا إذا حلف عليه . ورد بأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين . وعندي أن هذا الرد مردود لأنه لا يلزم من وجوب الكفارة في الصورتين من غير يمين وجوبها في كل صورة بلا يمين . نعم يرد على أبي مسلم أن تفسير العود بالحلف إثبات اللغة بالقياس ، ولا يخفى أن العود لما قالوا على هذا الاحتمال ظاهر لأنه أريد بالقول اللفظ . وأما الاحتمال الآخر فيحتاج إلى تأويل القول بالمقول فيه وهو ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار كما مر في قوله { ونرثه ما يقول } [ مريم : 81 ] أي المال والواو للحال .
مسائل : الأولى : الجديد وأبو حنيفة أن الظهار يحرم جميع جهات الاستمتاعات لأن قوله سبحانه { من قبل أن يتماسا } يعم جميع ضروب المس من المس بيد وغيرها . « وروى عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال : اعتزلها حتى تكفِّر » الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال أبو حنيفة والشافعي : لكل ظهار كفّارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد . وقال مالك : من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفّارة واحدة . وحجتهما أنه تعالى رتب الكفّارة على التلفظ بكلمة الظهار والمعلول يتكرر بتكرر العلة ، ويتفرع عليه أنه لو كانت تحته أربع نسوة وقال لهن : أنتن عليّ كظهر أمي لزمه أربع كفارات لأن الحكم يتكرر ويتعدّد المحل . حجته أنه رتب الكفارة على مطلق الظهار والمطلق شامل للمتعدد ، ونوقض باليمين فإن الكفارة لازمة في كل يمين . الثالثة : دلت على إيجاب الكفارة قبل التماس فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحق ، لأن سلمة بن صخر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها .

فقال عليه الصلاة والسلام : استغفر ربك ولا تعد حتى تكفّر . وقال بعضهم ومنهم بعد الرحمن بن مهدي : إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان . الرابعة : لا ينبغي للمرأة أن تدع الزوج يقربها حتى يكفّر فإن تهاون حال الإمام بينهما ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع . قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها . الخامسة : قد ذكرنا أن الاستمتاعات محرمة عليه إلى أن يكفّر وذلك صريح في تحرير الربة وفي الصيام والآن نقول : إن التكفير بالإطعام أيضاً كذلك وإن لم يتعرض للتماس في قوله { فإطعام ستين مسكيناً } حملاً للمطلق على المقيد عند اتحاد الواقعة ، وللأقل وهو صورة واحدة على الأكثر وهذه من فصاحات القرآن . السادسة : مذهب أبي حنيفة أن هذه الرقبة تجزي وإن كانت كافرة لإطلاق الآية . وقال الشافعي : لا بد أن تكون مؤمنة قياساً على كفارة القتل . والجامع أن الإعتاق إنعام والمؤمن أولى به ، ولأن المشركين نجس وكل نجس خبيث بالإجماع . وقال الله تعالى { ولا تيمموا الخبيث } [ البقرة : 267 ] ولا تجزي أم الولد ولا المكاتب عند الشافعي لضعف الملكية فيه ولا يحصل الجزم بالخروج عن العهدة . وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً جاز عن الكفارة لأنه رقبة بدليل قوله { وفي الرقاب } [ البقرة : 177 ] وإن أعتقه بعد أن يؤدي شيئاً لم يجز . والمدبر يجزي عند الشافعي ولا يجزي عند أبي حنيفة . السابعة : يعتبر في الرقبة بعد الإيمان على خلاف فيه السلامة عن العيوب لا التي يثبت بها الرد في البيع ولكن التي تخل بالعمل والاكتساب لأن المقصود هناك المالية وههنا تكميل حاله ليتفرغ للعبادات والوظائف المخصوصة بالأحرار ، فلا يجزي مقطوع اليدين أو الرجلين أو إحداهما ولا المجنون ، ويجزي الأعور والأصم والأخرس ومقطوع الأذنين أو الأنف أو أصابع الرجلين لا أصابع اليد لأن البطش والعمل يتعلق بها . والعبد الغائب . إن انقطع خبره لا يجزي ولو أعتق بعده عن كفارته شرط أن يردّ ديناراًَ أو غيره لم يجز بل يجب أن يكون الإعتاق خالياً من شوائب العوض . الثامنة : كفارة الظهار مرتبة على ما في الآية . فإن كان في ملكه عبد فاضل عن حاجته فواجبه هو ، وإن احتاج إلى خدمته لمرض أو كبر أو لأن منصبه يأبى أن يخدم نفسه لم يكلف صرفه إلى الكفارة ، ولو وجد ثمن العبد فكالعبد . والشرط أن يفضل عن حاجة نفقته وكسوته ونفقة عياله وكسوتهم وعن المسكن وما لا بدّ له من الأثاث ولو كانت له ضيعة أو رأس مال يتجر فيه ويفي ما يحصل منهما بكفايته بلا مزيد ولو باعهما لارتدّ إلى حد المساكين لم يكلف صرفه إلى الكفارة .

ولو وجد ثمن العبد فكالعبد والشرط بيعها وإن كان ماله غائباً أو لم يجد الرقبة في الحال لم يجز العدول إلى الصوم بل يصبر ، وإن كان يتضرر بامتناع الابتياع لأنه تعالى قال { فمن لم يجد } وهو واجد . أما من كان مريضاً في الحال ولا يقدر على الصوم فإنه ينتقل إلى الإطعام لأنه تعالى قال { فمن لم يستطع } وهو غير مستطيع ، والمآل غير معلوم ولا هو متعلق باختياره بخلاف إحضار المال أو تحصيل الرقبة فإن ذلك قد يمكنه . التاسعة : لو أطعم مسكيناً واحداً ستين مرة لا يجزي عند الشافعي لظاهر الآية ، ولأن إدخال السرور في قلب ستين أجمع وأقرب من رضا الله . وقال أبو حنيفة : يجزي . العاشرة : الشبق المفرط والغلمة عذر عند الأكثرين في الانتقال إلى الإطعام كما في قصة الأعرابي وهل أتيت إلا من قبل الصوم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أطعم . وحمله آخرون على خاصة الأعرابي . ولنكتف بهذا القدر من المسائل الفقهية في تفسير آية الظهار .
قال الزجاج { ذلكم توعظون } أي ذلك التغليظ وعظ لكم حتى تتركوا الظهار . وحين ذكر حكم الآية عقبه بقوله ذلك فيحتمل أن يعود إلى مطلق بيان كفارة الظهار ، ويحتمل أن يعود إلى التخفيف والتوسيع لتصدقوا بالله ورسوله فإن التخفيف مناسب للتصديق والعمل بالشريعة { وللكافرين } الذين استمروا على أحكام الجاهلية { عذاب أليم } وإنما قال في الآية الثانية { عذاب مهين } ليناسب قوله { كبتوا } أي أخزوا وأهلكوا . قيل : أريد كبتهم يوم الخندق . وفي الحدود مع المحادة نوع من التجانس ، والمحادّة المشاقة من الحد الطرف كأن كلاً من المتخاصمين في طرف آخر كالمشاقة من الشق . وقال أبو مسلم : هي من الحديد كأن كلا منهما يكاد يستعمل الحديد أي السيف وهم المنافقون أو الكافرون على الإطلاق . قوله { أحصاه الله } أي أحاط بما عمل كل منهم كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً { ونسوه } لكثرته أو لقلة اكتراثهم بالمعاصي وإنما يحفظ معظمات الأمور . ثم قرر كمال علمه بقوله { ما يكون من نجوى ثلاثة } نفر ويجوز أن يكون ثلاثة وصفاً للنجوى على حذف المضاف أي من أهل نجوى ، أو لأنهم جعلوا نجوى مبالغة وكذلك كل مصدر وصف به . قال الزجاج : هي مشتقة من النجوة المكان المرتفع لأن الكلام المذكور سراً يجل عن استماع الغير . سؤال : لم ذكر الثلاثة والخمسة وأهمل ذكر الاثنين والاربعة؟ الجواب من وجوه أحدها : أن الآية نزلت في قوم من المنافقين اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين وكانوا على هذين العددين فحص صورة الواقعة بالذكر . عن ابن عباس أن ربيعة وحبيباً ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً مّا يتحدثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول . فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً .

وقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله فنزلت . قالت جماعة : الحق مع الثالث فلعل الآخر كان فلسفي الاعتقاد القائل بأنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات . ثانيها أن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر ولأن الزوج يحتاج إلى الوتر دون العكس كالواحد . وثالثها أن المتشاورين الاثنين كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالمتوسط الحكم وهكذا في كل زوج اجتمعوا للمشاورة فلا بد فيهم من واحد يكون حكماً فذكر سبحانه الفردين الأولين تنبيهاً على الأفراد الباقية . ورابعها أن هذا إشارة إلى كمال المرحمة ، وذلك أن الثلاثة إذا أخذ اثنان منهم في التناجي والمسارّة بقي الواحد ضائعاً وحيداً فيضيق قلبه فيقول الله تعالى : أنا جليسك وأنيسك . وكذا الخمسة إذا اجتمع اثنان اثنان منهم بقي الخامس فريداً فنفس الله تعالى عنه ببشارة المعية . وهذا التأويل لا يتأتى في الاثنين والأربعة فأهمل ذكرهما . وفيه أن من انقطع عن الخلق لم يتركه الله ضائعاً . وخامسها وهو من السوانح . أنه سبحانه لما أراد تكميل الكلام بقوله { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر } لم يكن بد من الابتداء بالثلاثة مع أنها عدد أكثري في التشاور ، ثم بالخمسة ليكون لكل من العددين طرفا قلة وكثرة . وفيه أيضاً من الفصاحة أنه لم يقع حروف الأربعة مكرراً إذ لو قال « ولا أربعة إلا وهو خامسهم » على ما وقع في مصحف عبد الله لكان في ذكر الرابع والأربعة شبه تكرار . ولعل في الآية إشارة إلى التناجي لا ينبغي أن يكون إلا بين اثنين إلى ستة لتكون الزيادة على الخمسة بقدر احتمال النقصان على الثلاثة ، ويعضده ما روي أن عمر بن الخطاب ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع ، وهذه من نكت القرآن زادنا الله اطلاعاً عليها . قال أكثر المفسرين : كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون بذلك غيظهم ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فعادوا لمثله وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمحالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فنزل { ألم تر إلى الذين } الآية منهم من قال : هم المنافقون ومنهم من قال : فريق من الكفار . والأول أقرب بدليل قوله { وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك } وذلك أنهم كانوا يقولون « السلام عليك يا محمد » والله تعالى يقول { وسلام على عباده الذين اصطفى } [ النمل : 59 ] و « يا أيها الرسول » و « يا أيها النبي » . وحديث عائشة مع اليهود في هذا المعنى مذكور مع شهرته وكانوا يقولون : ما له إن كان نبياً لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول ، فأجاب الله تعالى عن قولهم بأن جهنم تكفيهم .

قال أبو علي : التناجي والانتجاء بمعنى نحو اجتوروا واعتوروا في معنى تجاوروا وتعاوروا . ثم نهى المؤمنين عن مثل تلك النجوى وهو ظاهر . وقال جمع من المفسرين : وهو خطاب المنافقين الذين آمنوا باللسان دون مواطأة القلوب . وأعلم أن المناجاة إذا كانت على طريقة البر والتقوى فقلما تقع الداعية إلى كتمانها فلا تكره النجوى ولا يتأذى بها أحد إذا عرفت سيرة المناجي فلهذا أمر الله سبحانه أن لا يقع التناجي إلا على وجه البر .
قوله { إنما النجوى } الألف واللام فيه لا يمكن أن تكون للاستغراق أو للجنس ، فمن النجوى ما تكون ممدوحة لاشتمالها على مصلحة دينية أو دنيوية فهي إذن للعهد وهو التناجي بالإثم والعدوان زينة الشيطان لأجلهم { ليحزن } الشيطان ، أو التناجي المؤمنين وكانوا يقولون ما نراهم متناجين إلا وقد بلغهم عن أقاربنا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا أو هربوا . ثم بين أن الشيطان أو الحزن لا يضر المؤمن أصلاً إلا بمشيئة الله وإرادته . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه » وفي رواية « دون الثالث » . وحين نهى تعالى عباده المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر حثهم على ما يوجب مزيد المحبة والألفة . والتفسح في المجلس التوسع لله والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتضامّون فيه تنافساً في القرب منه وحرصاً على استماع كلامه . ومن قرأ على الجمع جعل لكل جالس مجلساً على حدة . وقيل : هو المجلس من مجالس القتال أي مراكز القتال . كان الرجل يأتي الصف فيقول : تفسحوا . فيأبون حرصاً على الشهادة . والقول الأول أصح . قال مقاتل بن حيان : كان صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان قم يا فلان . فلم يزل كذلك حتى أقعد النفر الذين هم قيام بين يديه فعرفت الكراهية في وجه من أقيم من مجلسه ، وطعن المنافقون في ذلك قالوا : والله ما عدل على هؤلاء وإن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم فأجلس من أبطأ عنه فنزلت { وإذا قيل انشزوا } أي انهضوا للتوسعة على المقبلين فانشزوا ولا تملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالارتكاز فيه { يرفع الله الذين آمنوا منكم } أيها الممتثلون والعالمين منهم خاصة { درجات } قال بعض أهل العلم : المراد به الرفعة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو مناسب للمقام لقوله

« ليليني منكم أولو الأحلام والنهي » والمشهور أنه الرفعة في درجات ثواب الآخرة وقد أطنبنا في فضيلة العلم في أوائل البقرة عند قوله { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] والأمر يقتضي أن يقتدى بالعالم في كل شيء ولا يقتدى بالجاهل في شيء ، وذلك أنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام والشبهات ومحاسبة النفس ما لا يعرفه الغير ، ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها ما لا خبر فيه عند غيره ، ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق ما لا يتحفظ غيره ولكنه كما تعظم منزلته عند الطاعة ينبغى أن يعظم عتابه عند التقصيرات حتى كاد تكون الصغيرة بالنسبة إليه كبيرة ، واللهم ثبتنا على صراطك المستقيم ووفقنا للعمل بما فهمنا من كتابك الكريم . قال ابن عباس : كان المسلمون أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه وأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما نزلت آية النجوى شح كثير من الناس فكفوا عن المسئلة . وقال مقاتل بن حيان : إن الأغنياء غلبوا الفقراء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأكثروا مناجاته فأمر الله بالصدقة عند المناجاة فازدادت درجة الفقراء وانحطت رتبة الأغنياء وتميز محب الآخرة عن محب الدنيا . قال بعضهم : هذه الصدقة مندوبة لقوله { ذلك خير لكم } ولأنه أزيل العمل به بكلام متصل وهو قوله { أأشفقتم } والأكثرون على أنها كانت واجبة لظاهر الأمر والواجب قد يوصف بكونه خيراً ولا يلزم من اتصال الآيتين في القراءة اتصالهما في النزول . وقد يكون الناسخ متقدماً على المنسوخ كما مر في آية الاعتداد بالحول في البقرة . واختلفوا في مقدار تأخرها : فعن الكلبي ما بقى ذلك التكليف إلا ساعة من نهار . وعن مقاتل بقي عشرة أيام . وعن علي رضي الله عنه : لما نزلت الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تقول في دينار؟ قلت : لا يطيقونه . قال : كم؟ قلت : حبة أو شعيرة . قال : إنك لزهيد أي إنك لقليل المال فقدرت على حسب مالك . وعنه عليه السلام : إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي . كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم . قال الكلبي : تصدق به في عشر كلمات سألهن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال القاضي : هذا لا يدل على فضله على أكابر الصحابة لأن الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض . وقال فخر الدين الرازي : سلمنا أن الوقت قد وسع إلا أن الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئاً وينفر الرجل الغني ولم يكن في تركه مضرة . لأن الذي يكون سبباً للألفة أولى مما يكون سبباً للوحشة . وأيضاً الصدقة عند المناجاة واجبة : أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة بل الأولى ترك المناجاة لما بيّنا من أنها كانت سبباً لسآمة النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : هذا الكلام لا يخلو عن تعصب مّا . ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضي الله عنه في كل خصلة ، ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة . فقد روي عن ابن عمر كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة رضي الله عنها وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى . وهل يقول منصف إن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم نقيصة على أنه لم يرد في الآية نهي عن المناجاة وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالآية حصل له الفضيلة من جهتين : سدّ خلة بعض الفقراء ، ومن جهة محبة نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم ففيها القرب منه وحل المسائل العويصة وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من المال والظاهر أن الآية منسوخة بما بعدها وهو قوله { أأشفقتم } إلى آخرها . قاله ابن عباس . وقيل : نسخت بآية الزكاة . أما أبو مسلم الذي يدعي أن لا نسخ في القرآن فإنه يقول : كان هذا التكليف مقدراً بغاية مخصوصة ليتميز الموافق من المنافق والمخلص من المرائي ، وانتهاء أمد الحكم لا يكون نسخاً له . ومعنى الآية أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق المنقص للمال الذي هو أحب الأشياء إليكم { فإذا لم تفعلوا } ما أمرتم به { وتاب الله عليكم } ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات . ومن زعم أن العمل بآية النجوى لم يكن من الطاعات قال : إنه لا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب فقال : إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله وأقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة فقد كفاكم هذا التكليف . قال المفسرون : كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل فعلت . فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزل { ألم تر إلى الذين تولوا } أي وادّوا { قوماً غضب الله عليهم } وهم اليهود { ما هم منكم } لأنهم ليسوا مسلمين بالحقيقة { ولا منهم } لأنهم كانوا مشركين في الأصل { ويحلفون على الكذب } وهو ادعاء الإسلام . وفي قوله { وهم يعلمون } دلالة على إبطال قول الجاحظ إن الخبر الكذب هو الذي يكون مخالفاً للمخبر عنه مع أن المخبر يعلم المخالفة وذلك أنه لو كان كما زعم لم يكن لقوله { وهم يعلمون } فائدة بل يكون تكراراً صرفاً .

قال بعض المحققين : العذاب الشديد هو عذاب القبر ، العذاب المهين الذي يجيء عقيبه هو عذاب الآخرة . وقيل : الكل عذاب الآخرة لقوله { الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] قال جار الله : معنى قوله { إنهم ساء ما كانوا يعملون } إنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول مصرين على سور العمل ، أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة . ومعنى الفاء في { فصدوا } أنهم حين دخلوا في حماية الايمان بالأيمان الكاذبة وأمنوا على النفس والمال اشتغلوا بصدّ الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات وتقبيح حال المسلمين . ويروى أن رجلاً منهم قال : لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا فنزل { لن تغني عنهم } الآية .
ثم أخبر عن حالهم العجيبة الشأن وهو أنهم يحلفون يوم المحشر لعلام الغيوب كما يحلفون لكم في الدنيا وأنتم بشر يخفى عليكم السرائر { ويحسبون أنهم على شيء } من النفع . والمراد أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على ذلك الوصف . قال القاضي والجبائي : إن أهل الآخرة لا يكذبون . ومعنى الآية أنهم يحلفون في الآخرة إما ما كنا كافرين عند أنفسنا . وقوله { ألا أنهم هم الكاذبون } في الدنيا . ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف وقد مر البحث في قوله { والله ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] ثم بين أن الشيطان هو الذي زين لهم ذلك . ومعنى استحوذ استولى وغلب ومنه قول عائشة في حق عمر : كان أحوذياً أي سائساً غالباً على الأمور وهو أحد ما جاء على الأصل نحو « استصوب واستنوق » احتج القاضي به في خلق الأعمال بأن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذباً ، ولكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان . والجواب ظاهر مما سلف مراراً فإن الكلام في الانتهاء لا في الوسط . قوله { أولئك في الأذلين } قال أهل المعنى : إن ذل أحد الخصمين تابع لعز الخصم الآخر . ولما كانت عزة أولياء الله تعالى غير متناهية فذل أعدائه لا نهاية له فهم إذن أذل خلق الله . ثم قرر سبب ذلهم بقوله { كتب الله } في اللوح { لأغلبن أنا ورسلي } إما بالحجة وحدها أو بها وبالسيف . قال مقاتل : إن المسلمين قالوا : إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم . فقال عبد الله بن أبيّ : أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم عليها؟ كلا والله إنهم أكثر عدداً وعدّة فنزلت الآية . ثم بين أن الجمع بين الإيمان الخالص وموادّة من حادّ الله ورسوله غير ممكن ولو كان المحادّون بعض الأقربين .

وقال جار الله : هذا من باب التمثيل والغرض أنه لا ينبغي أن يكون وحقه أن يمتنع ولا يوجد . قلت : لو اعتبر كل من الأمرين من حيث الحقيقة كان بينهما أشد التباين ولا حاجة إلى هذا التكلف إلا أن يحمل أحدهما على الحقيقة والآخر على الظاهر فحينذ قد يجتمعان كما في حق أهل النفاق ، وكما يوجد بعض أهل الإيمان يخالط بعض الكفرة ويعاشرهم لأسباب دنيوية ضرورية . عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني أجد فيما أوحي إليّ » { لا تجد قوماً } يروى أنها نزلت في أبي بكر ، وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصكه صكة سقط منها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو قد فعلته؟ قال : نعم . قال : لا تعد . قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح فقتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ، وفي كثير من أكابر الصحابة أعرضوا عن عشائرهم وعادوهم لحب الله ورسوله . فذهب جمع من المفسرين إلى أنها نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح وسيجيء في الممتحنة . والأظهر عندي نزولها في المؤمنين الخلص لقوله { أولئك كتب } أي أثبت { في قلوبهم الإيمان } إثبات المكتوب في القرطاس . وقيل : معناه جمع . والتركيب يدور عليه أي استكلموا أجزاء الإيمان بحذافيرها ليسوا ممن يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض . قوله { وأيديهم بروح منه } قال ابن عباس : أي نصرهم على عدوّهم . وسمي النصرة روحاً لأن الأمر يحيا بها . ويحتمل أن يكون الضمير للإيمان على أنه في نفسه روح فيه حياة القلوب والباقي ظاهر والله أعلم وإليه المصير وبيده التوفيق والإتمام بالصواب .


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

القراآت : { يخربون } بالتشديد : أبوعمرو . والباقون : بالتخفيف من الإخراب { تكون } بالتاء الفوقانية { دولة } بالرفع على « كان » التامة : يزيد . والآخرون : على التذكير والنصب { جدار } بالألف على التوحيد : ابن كثير وأبو عمرو . والآخرون : بضمتين من غير ألف . { إني أخاف } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . و { الباري } بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو طريق ابن عبدوس .
الوقوف { وما في الأرض } ط { الحكيم } ه { الحشر } ط { الأبصار } ط { في الدنيا } ط { النار } ط ه { ورسوله } ج بناء على أن الشرط من جملة المذكور { العقاب } ه { الفاسقين } ه { من يشاء } ط { قدير } ه { السبيل } ه { منكم } ط { فانتهوا } ج لابتداء من بعد جزاء الشرط مع اتفاق النظم { واتقوا الله } ط { العقاب } ه لئلا يوهم أن قوله { للفقراء } يتعلق ب { شديد } { ورسوله } ط { الصادقون } ه ج بناء على أن ما بعده مستأنف أو معطوف ويجيء وجه كل منهما في التفسير . { خصاصة } قف قيل : وقفة والأحسن الوصل لأن الاعتراض مؤكد لما قبله { المفلحون } ه لمثل المذكور { رحيم } ه { أبداً } لا لأن ما بعده من تمام القول { لننصركم } ط { لكاذبون } ه { معهم } ج { لا ينصرونهم } ط للعطف فيهما مع الابتداء بالقسم { لا ينصرون } ه { من الله } ط { لا يفقهون } ه { جدر } ط { شديد } ه { لا يعقلون } ه ج لتعلق الكاف ب { لا يعقلون } أو بمحذوف أو مثلهم كمثل { أمرهم } ط لاختلاف الجملتين { أليم } ه ج لما قلنا { اكفر } ط { العالمين } ه { فيها } ط { الظالمين } ه { لغد } ج لاعتراض خصوص بين العمومين أي لم يتق الله كل واحد منكم فلتنظر لغدها نفس واحد منكم { واتقوا الله } ه { تعلمون } ه { أنفسهم } ط { الفاسقون } ه { الجنة } الأولى ط { الفائزون } ه { من خشية الله } ط { يتفكرون } ه { إلا هو } ج لاحتمال كون ما بعده خبر مبتدأ محذوف { والشهادة } ج لاحتمال كون الضمير بدلاً من عالم أو مبتدأ { الرحيم } ه { إلا هو } ط لما قلنا { المتكبر } ط { يشركون } ه { الحسنى } ط { والأرض } ط { الحكيم } ه .
التفسير : قال المفسرون : صالح بنو النضر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غلب الكفار يوم بدر قالوا : هوالنبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رأيه ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبين إلى مكة فعاهدوا قريشاً عند الكعبة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان اخا كعب من الرضاعة ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك .

فتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فدرّبوا على الأزقة وحصنوها ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة . فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصرة المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم ، فذهبوا إلى اريحاء وأذرعات من الشأم إلا أهل بيتين منهم ابن أبي الحقيق وحُيَيّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة . واللام في قوله { لأول الحشر } بمعنى الوقت كقولك « جئت ليوم كذا » . وهم أولم ن أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام . فمعنى الحشر إخراج الجميع من مكان ، ومعنى الأولية أنه لم يصبهم قبل ذلك مثل هذا الذل لأنهم كانوا أهل منعة هذا قول ابن عباس والأكثرين . وقيل : هذا أول حشرهم ، وآخره حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام كما جاء في الحديث « نار تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب » قاله قتادة . وقيل : آخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام . وقيل : معناه لأول ما حشر بقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال في الكشاف : الفرق بين النظم الذي جاء عليه وبين قول القائل « وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم » هو أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ، وفي نصب ضميرهم اسماً لأن إسناد الجملة إليه دليل على أنهم اعتقدوا عزة أنفسهم ومنعتها بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرض لهم . قلت : حاصل كلامه رضي الله عنه الحصر . ومعنى إتيان الله إتيان أمره وهو النصر إن عاد إلى اليهود وهذا أظهر ليناسب قوله تعالى { في قلوبهم } ولاستعمال القرآن نظيره في مواضع أخر في معرض التهديد { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } [ البقرة : 210 ] { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } [ الأنعام : 158 ] ومعنى { لم يحتسبوا } أنه لم يخطر ببالهم قتل كعب غيلة على يد أخيه . وقذف الرعب في قلوبهم وهذا من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم كما مر في آل عمران { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وفي لفظ القذف زيادة تأكيد ولهذا قالوا في صفة الأسد « مقذف » فكأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه . قال الفراء { يخربون } بالتشديد يهدمون ، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها . وكان أبو عمرو ويقول : الإخراب أن يترك الشيء خراباً ، والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا . وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الأحكام نحو « فرحته » و « أفرحته » و « حسنة الله » و « أحسنه » .

قال المفسرون : إنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج . قلت : ويحتمل أن يكون بعض التخريب لسدّ أفواه الأزقة بالخشب والحجارة أو لنقل ما أرادوا حمله من جيد الخشب والساج . وأما المؤمنون فداعيهم إلى ذلك إزالة تحصنهم أو أن يتسع لهم في الحرب مجال ، ومعنى تخريبهم بأيدي المؤمنين أنهم كانوا السبب فيه وأنهم عرضوا المؤمنين لذلك . ثم أمر أهل الابصار الباطنة بالاعتبار وهو العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ومنه العبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، والتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، والعبارة لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى فهم المستمع ، والسعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، أو القائس يعبر عن المقيس عليه إلى المقيس . ومعنى الاعتبار في الآية أنهم اعتمدوا على حصونهم وعدّتهم فأمر الله تعالى أرباب العقول بأن ينظروا في حالهم ولا يعتمدوا على شيء غير الله ، أو المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الكفر والغدر والطعن في النبوّة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء . واعترض بأن رب شخص وكفر وما عذب في الدنيا ، ورب ممتحن مبتلى هو نبي أو ولي . وأجيب بأن حاصل القياس والاعتبار يرجع إلى أن الغادر الكافر معذب أعم من أن يكون بالتخريب أو بالقتل أو في الدنيا أو في الآخرة والعكس لا يلزم . وقيل : معنى الاعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم أن يورثهم أرضهم وأموالهم بغير قتال فكان كما وقع فدل على صحة نبوّته . والجلاء أن لم يبق لهم بالمدينة دار ولا فيها منهم ديار وهذا عندهم أشدّ من الموت فلهذا قال { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا } بالقتل { ولهم في الآخرة } بعدما عاينوا في الدنيا { عذاب النار ذلك } التخريب أو الجلاء أو العذاب بسبب مخالفتهم وعصيانهم الله ورسوله . قالت الفقهاء : فيه دليل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها فليس أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب . يروى أنه صلى الله عليه وسلم حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق قالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى { ما قطعتم } محله نصب و { من لينة } بيان له كأنه قيل : أي شيء قطعتم من لينة وهي النخلة من الألوان ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخل . وياؤها واو في الأصل كالديمة . وقيل : هي النخلة الكريمة من اللين فتكون الياء أصلية ، فبين الله تعالى أن ذلك جائز غيظاً لقلوب الكفرة .

واحتج الفقهاء بها على جواز هدم حصون الكفار وقلع أشجارهم . وعن ابن مسعود : قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال . وروي أن رجلين كان يقطع أحدهما العجوة والآخر يترك فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هذا : قطعتها غيظاً للكفار . وقد يستدل بهذا على جواز الاجتهاد ولو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن كل مجتهد مصيب .
قوله { وما أفاء الله } أدخل العاطف ههنا دون الأخرى لأن تلك بيان لهذه فهي غير أجنبية عنها والأولى معطوفة على ما قبلها . ومعنى أفاء جعله فيئاً من فاء إذا رجع وذلك لرجوعه من ملك الكفار إلى ملك المسلمين . والإيجاف من الوجيف وهو السير السريع . وقوله { عليه } أي على ما أفاء . والركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها ، وقلما تطلق العرب الراكب إلا على راكب البعير ، بين الله سبحانه الفرق بين الغنيمة والفيء حين طلب الصحابة أن يقسم أموال أولئك اليهود بينهم اعترض بعضهم بأن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياماً وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من الغنيمة لا من الفيء . وأجاب المفسرون من وجهين : الأول أنها لم تنزل في بني النضير وإنما نزلت في فدك ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على نفسه وعلى عياله من غلة فدك ويجعل الباقي في السلاح والكراع . الثاني تسليم أنها نزلت فيهم ولكن لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا على أرجلهم ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان راكب جمل ، فلما كان المعاملة قليلة ولم يكن خيل ولا ركاب أجراه الله مجرى ما لم يكن قتال ثمة . ثم روي أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهو أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن أبرهة قال الواحدي : كان الفيء مقسوماً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم : أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وكذا خمس الباقي ، والسهم الأربعة من هذا الباقي لذي القربى ولد بني هاشم والمطلب ، واليتامى والمساكين وابن السبيل . وأما بعد الرسول فللشافعي فيه قولان : أحدهما أنه للمجاهدين المترصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رباط الثغور . والثاني أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر الأهم فالأهم . هذا في الأربعة الأخماس التي كانت له ، وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف وقد مر سائر ما يتعلق بقسمة الغنائم في سورة الأنفال .

ثم بين الغرض من قسمة الفيء على الوجه المذكور فقال { كيلا يكون دولة } قال المبرد : هي اسم للشيء الذي يتداوله الناس بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة كالغرفة اسم لما يغرف . والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم . قال جار الله : هي بالضم ما يدول للانسان أي يدور من الجد يقال دالت الدولة . فعلى قول المبرد معناه كيلا يكون الفيء شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء ، وعلى قول جار الله : كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء جداً بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو لكيلا يكون الفيء دولة جاهلية كان الرؤساء منهم يستأثرون بالغنائم لأنهم أهل الرياسة والجد والغلبة وكانوا يقولون من عزبر ومنه قول الحسن « اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً » يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به . ومن قرأ على « كان » التامة فالمعنى كيلا يقع شيء متعاوراً بينهم غير مخرج إلى الفقراء ، أو كيلا تقع دولة جاهلية أي ينقطع أثرها . قوله { وما آتاكم } الآية . قيل : يختص بأنه يقسم الغنائم وأن على المؤمنين أن يرضوا بما يعطيهم الرسول صلى الله عليه وسلم منها ، والأولى عند المحققين العموم . قوله { للفقراء } بدل من قوله { ولذي القربى } إلى آخر الأصناف الأربعة . ولا يجوز أيضاً أن يكون ابتدال البدل من قوله { فلله } لأنه يخل بتعظيم قولهم { وللرسول } لأنه تعالى أخرجه عن الفقراء بقوله { وينصرون الله ورسوله } ولترفع منصبه عن التسمية بالفقير . ولئن صح أنه صلى الله عليه وسلم قال « الفقر فخري » فذاك معنى آخر وهو غنى القلب وانقطاع التعلق عما سوى الله وجعل الهموم هماً واحداً وهو الافتقار بالكلية إلى الله . إستدل بعض العلماء بقوله { أولئك هم الصادقون } على إمامة أبي بكر لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يقولون له يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلو لم تكن خلافته حقه لزم كذبهم وهو خلاف الآية . وقال في الكشاف : أراد صدقهم في إيمانهم وجهادهم . قوله { والذين تبوّؤا الدار } معطوف على المهاجرين وكذا قوله { والذين جاءوا } وذلك عند من يجعل الغنائم حلاً للمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان أو التابعين لهم إلى يوم القيامة وعلى هذا يكون قوله { يحبون } و { يقولون } حالين أي الغنائم لهم محببن قائلين . ومن جعل المراد بيان غنائم بني النضير وقف على { هم الصادقون } و { المفلحون } وجعل الفعلين خبرين . وعلى هذا يكون الآيتان ثناء على الأنصار على الإيثار ، وللتابعين على الدعاء . قال مقاتل : أثنى على الأنصار حين طالبت أنفسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم . وههنا سؤالان أحدهما : أنه لا يقال تبوؤا الإيمان .

الثاني بتقدير التسليم أن الأنصار ما تبوؤا الإيمان قبل المهاجرين . والجواب من الأول أن المراد تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله :
« علفتها تبناً وماء بارداً » ... أو هو مجاز من تمكنهم واستقامتهم على الإيمان كأنهم جعلوه مستقراً لهم كالمدينة أو هو مجاز بالنقصان . والمعنى تبوّؤا دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من الثاني ، أو سمى المدينة بالإيمان لأنها مكان ظهور الإيمان وهذا يؤل بالحقيقة إلى الوجه الذي تقدمه . وعن الثاني أن المراد من قبل هجرتهم أو هو من تمام تبوء الدار ، ولا شك أن الأنصار سبقوهم في ذلك وإن لم يسبقوهم في الإيمان { ولا يجدون في صدورهم حاجة } أي حسداً وغيظاً مما أوتى المهاجرون من الفيء وغيره . وإطلاق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة من إطلاق اسم اللازم على الملزوم لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة . وقال جار الله : المحتاج إليه يسمى حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطح إلى شيء منه يحتاج إليه { ولو كان بهم خصاصة } أي خلة فهي من خصاص البيت أي فرجه ، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص الواحد خصاصة . وفعول { يؤثرون } محذوف أي يؤثرونهم ويخصونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الفيء كما قسمت لهم ، وإن شئتم كان لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم . فقالوا : لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا نؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها فنزلت . والشح المنع الذاتي الذي تقتضيه الحالة النفسانية ولهذا أضيف إلى النفس ، والبخل المنع المطلق من غير اعتبار صيرورته غريزة وملكة . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه . وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار الضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى شبع الضيف . والظاهر أنها نزلت في الفيء كما مر ويدخل فيه غيره . قوله { والذين جاءوا من بعدهم } أي هاجروا بعد المهاجرين الأوّلين . وقيل : هم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ، فتشمل الآيات الثلاث جميع المؤمنين . ثم عجب من أحوال أهل النفاق من أهل المدينة كعبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن زيد ، كانوا في الظاهر من الأنصار ولكنهم يوالون اليهود في السر فصاروا إخوانهم في الكفر وقالوا له ملا نطيع في قتالكم أو خذلانكم أحداً . ثم شهد إجمالاً عليهم بأنهم كاذبون ، ثم فصل ذلك قائلاً { لئن أخرجوا } إلى قوله { ولئن نصروهم } وهذا على سبيل الفرض لأنه تعالى كما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون .

والمعنى لو فرض نصر المنافقين اليهود ليهزمن المنافقون { ثم لا ينصرون } بعد ذلك أي لا يمنعهم من عذاب الله مانع لظهور كفرهم . وقيل : ليهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين . وعلى هذا يكون « ثم » لترتيب الأخبار كقوله { ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ثم بيّن الحكمة في الغزو فقال { لأنتم أشد رهبة } قال في الكشاف : أي مرهوبية هي مصدر رهب المبني للمفعول . وقوله { في صدورهم } دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله خوفاً شديداً ورهبتهم في السر منكم أشد من ذلك لأنهم لا يفقهون عظمة الله فلا يخشونه حق خشيته . وجوز أن يكون المراد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله وكانوا يتشجعون للمسلمين مع إضمار الخيفة في صدورهم . قلت : الأظهر أن المراد أنتم فيه أكثر مكانة من مواعظ الله أو لثمرة جهادكم معهم أوفر من ثمرة ترهبهم بعقاب الله { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } من سر التكاليف وتبعة الكفر والنفاق في الآخرة فلا يرتدعون إلا خوفاً من العقوبة العاجلة . ومن هذا أخذ عمر فقال : ما يزع السلطان أي منع أكثر مما يزع القرآن . وقال الشاعر :
السيف أصدق إنباء من الكتب ... وقيل : العبد لا يردعه إلا العصا . ثم شجع المسلمين بقوله { لا يقاتلونكم } أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين { إلا في قرى محصنة } غاية التحصين { أو من وراء جدر } لا مبارزين مكشوفين في الأراضي المستوية { بأسهم بينهم شديد } لا بينكم لأنكم منصورون بنصرة الله مؤيدون بتأييده ، أو لأنهم يحسبون في أنفسهم وفيما بينهم أموراً يعلم الله أنها لا تقع في الخارج على وفق حسبانهم وعن ابن عباس : معناه بعضهم لبعض عدوّ يؤيده قوله { تحسبهم جميعاً } مجتمعين ذوي تآلف ومحبة { وقلوبهم شتى } متفرقة وهو فعلى من الشت . وإنما قال ههنا { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } وفي الأوّل { لا يفقهون } لأن الفقه معرفة ظاهر الشيء وغامضه فنفي عنهم ذلك كما قلنا ، وأراد ههنا أنهم لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا فتشتتهم دليل عدم عقلهم لأن العقل يحكم بأن الاجتماع معين على المطلوب والتفرق يوهن القوى ولا سيما إذا كانوا مبطلين . ثم شبه حالهم بحال من قتلوا قبلهم ببدر في زمان قريب . قال جار الله : انتصب { قريباً } بمحذوف أي كوجود مثل أهل بدر قريباً . قلت : لا يبعد أن يتعلق بصلة الذين . ثم ضرب مثلاً آخر لإغراء المنافقين اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، والمراد إما عموم دعوة الشيطان للإنسان إلى الكفر وإما خصوص إغراء إبليس قريشاً يوم بدر كما مر في الأنفال في قوله سبحانه { وإذ زين لهم الشيطان } [ الأنفال : 48 ] إلى قوله { إني برىء منكم } [ الأنفال : 48 ] قال مقاتل : وكان عاقبة اليهود والمنافقين مثل عاقبة الشيطان والإنسان حتى صار إلى النار .

قال جار الله : كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو لأن الأول في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل والثاني في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد . وسمى القيامة بالغد تقريباً لمجيئها . عن الحسن : لم يزل بقربه حتى جعله كالغد . وقيل : جعل مجموع زمان الدنيا كنهار عند الآخرة . قال أهل المعاني : تنكير { نفس } للتقليل كما مر في الوقوف وتنكير { غد } للتعظيم والتهويل . قال مقاتل : ونسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم حتى لم يشعروا لها بما ينفعها ، أو فأراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم . قلت : يجوز أن يراد نسوا ذكر الله فأورثهم القسوة وفساد الاستعداد بالكلية . وحين نهى المؤمنين عن كونهم مثل الناسين الغافلين ذكرهم بأنه لا استواء بين الفريقين ففيه شبه قرع العصا كأنهم غفلوا عن هذا الواضح البين كما تقول لمن يعصي أباه « هو أبوك » . استدل أصحاب الشافعي بالآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي وإلا استويا ، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا . واحتج بعض المعتزلة بها على أن صاحب الكبيرة لو دخل الجنة وهو من أهل النار لزم خلاف الآية . والجواب ظاهر لأنه على تقدير إمكان العفو لا يحكم أنه من أهل النار . ثم عظم أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان . قال الكشاف : هو مثل وتخييل بدليل قوله { وتلك الأمثال } يعني هذا وغيره من أمثال التنزيل . وقال غيره : المعنى إشارة إلى قوله { كمثل الذين } { كمثل الشيطان } ولما وصف القرآن بما وصف عظم شأنه بوجه آخر وهو التنبيه على أوصاف منزله ، وقد سبق شرح أكثر هذه الأسماء في هذا الكتاب ولا سيما في البسملة . والقدّوس مبالغة القدس وهو التبليغ في الطهارة والبراءة عما يشين هذا بالنسبة إلى زمان الماضي والحال . والسلام إشارة إلى كونه سالماً عن الآفات والعاهات والنقائص في زمان الاستقبال ، ويجوز أن يراد أنه المعطي للسلامة . المؤمن الواهب الأمن والمصدق لأنبيائه بالمعجزات . وقد مر معنى المهيمن وأصل اشتقاقه في المائدة في قوله { ومهيمناً عليه } [ الآية : 48 ] وأن معناه الرقيب الحافظ لكل شيء . ولمكان تعداد هذه الأوصاف كرر قوله { يسبح له } إلى آخر السورة . فمن عزته كان منزهاً عن النقائص أهلاً للتسبيح ، ومن حكمته أمر المكلفين في السموات والأرضين بأن يسبحوا له ليربحوا لا ليربح هو عليهم وهو تعالى أعلم بمراده وبالله التوفيق للخير وإليه المآب .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

القراآت : { يفصل } ثلاثياً معلوماً : عاصم غير المفضل وسهل ويعقوب { يفصل } بالتشديد : حمزة وعلي وخلف . مثله ولكن مجهولاً : ابن ذكوان . الآخرون : ثلاثياً مجهولاً { في إبراهام } كنظائره { أن تولوهم } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { تمسكوا } بالتشديد : أبو عمرو وسهل ويعقوب .
الوقوف { من الحق } ج لأن ما بعده يحتمل الحال من ضمير { كفروا } والاستئناف { بالله ربكم } ط { أعلنتم } ط { السبيل } ه { تكفرون } ه { أولادكم } ج لاحتمال تعلق الظرف ب { لن تنفعكم } أو يفصل { يوم القيامة } ج بناء على المذكور { بينكم } ط { بصير } ه { والذين معه } ج لأن الظرف قد يتعلق باذكر محذوفاً أو أسوة { من دون الله } ط لأن ما بعد مستأنف في النظم وإن كان متصلاً في المعنى { من شيء } ط { المصير } ه { لنا ربنا } ه للابتداء بأن مع أن التقدير فإنك { الحكيم } ه { الآخر } ط { الحميد } ه { مودة } ط { قدير } ه { رحيم } ه { إليهم } ط { المقسطين } ه { تولوهم } ج للشرط مع العطف { الظالمون } ه { فامتحنوهنّ } ط { بإيمانهنّ } ط { الكفار } ط { لهنّ } ط { ما أنفقوا } ط { أجورهنّ } ط { ما أنفقوا } ط { حكم الله } ط { بينكم } ط { حكيم } ه ز { ما أنفقوا } ط { مؤمنون } ه { لهنّ الله } ط { رحيم } ه { القبور } ه .
التفسير : يروى أن مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم يقال لها سارة ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو متجهز لفتح مكة فعرضت حاجتها ، فحث بني المطلب على الإحسان إليها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دناينر وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة هذه نسخته « من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة . اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم » . فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام بالخبر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه وعماراً وعمرو فرساناً أخر وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فإن أبت فاضربوا عنقها . فأدركوها فجحدته وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسل سيفه وقال : أخرجي الكتاب أن تضعي رأسك فأخرجته من عقاص شعرها . فقال رسول الله عليه وسلم لحاطب : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت غريباً في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق .

فقال : وما يدريك يا عمر لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم وأنزلت السورة . و { تلقون } مستأنف أو حال من ضمير { لا تتخذوا } أو صفة لأولياء ، ولا حاجة إلى الضمير البارز وهو أنتم وإن جرى على غير من هو له لأن ذاك في الأسماء دون الأفعال كما لو قلت مثلاً ملقين أنتم والإلقاء عبارة عن الإيصال التام . والباء في { بالمودة } إما زائدة كما في قوله { ولا تلقوا بأيديكم } [ البقرة : 195 ] أو للسببية ومفعول { تلقون } محذوف معناه تلقون إليهم أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب المودة . و { أن تؤمنوا } تعليل ل { يخرجون } أي يخرجونكم لإيمانكم . و { إن كنتم خرجتم } تأكيد متعلق ب { لا تتخذوا } وجوابه مثله . وانتصب { جهاداً } و { ابتغاء } على العلة أي إن كنتم خرجتم من أوطانكم لأجل جهاد عدوّى ولابتغاء رضواني فلا تتولوا أعدائي . وقوله { تسرون } مستأنف والمقصود أنه لا فائدة في الإسرار فإن علام الغيوب لا يخفى عليه شيء . ثم خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أنهم إن يظفروا بهم أخلصوا العداوة ويقصدونهم بكل سوء باللسان والسنان . قال علماء المعاني : إنما عطف قوله { وودّوا } وهو ماضٍ لفظاً على ما تقدمه وهو مضارع تنبيهاً على أن ودادهم كفرهم أسبق شيء عندهم لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من الأرواح والأموال وأهم شيء عند العدوّ أن يقصد أعز شيء عند صاحبه . ثم بين خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أن المودة إذا لم تكن في الله لم تنفع في القيامة لانفصال كل اتصال يومئذ كما قال { يوم يفر المرء من أخيه } [ عبس : 34 ] الآية . ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم . ثم ذكر أن وجوب البغض في الله وإن كان أخاه أو أباه أسوة في إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه حيث جاهروا قومهم بالعداوة وقشروا لهم العصا وصرحوا بأن سبب العدوة ليس إلا الكفر بالله ، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة والمناوأة مصافاة والمقت محبة . ثم استثنى { إلا قول إبراهيم } من قوله أسوة كأنه قال حق عليكم أن تأتسوا بأقواله إلا هذا القول الذي هو الاستغفار لقوله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] أما قوله { وما أملك لك من الله من شيء } فليس بداخل في حكم الاستثناء لأنه قول حق ، وإنما أورده إتماماً لقصة إبراهيم مع أبيه . وقال في الكشاف : هو مبني على الاستغفار وتابع له كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار . ثم أكد أمر المؤمنين بأن يقولوا { ربنا عليك توكلنا } الآية . ويجوز أن يكون من تتمة قول إبراهيم ومن معه وفيه مزيد توجيه .

ثم أكد أمر الائتساء بقوله { لقد كان } فأدخل لام الابتداء وأبدل من قوله { لكم } قوله { لمن كان يرجو } وختم الآية بنوع من الوعيد . ثم أطمع المؤمنين فيما تمنوا من عداوة أقاربهم بالمودة { والله قدير } على تقليب القلوب وتصريف الأحوال { والله غفور رحيم } لمن وادهم قبل النهي أو لمن أسلم من المشركين ، فحين يسر الله فتح مكة أسلم كثير منهم ولم يبق بينهم إلا التحاب والتصافي . ولما نزلت هذه الآيات تشدّد المؤمنون في عداوة أقاربهم وعشائرهم فنزل { لا ينهاكم الله } وقوله { أن تبروهم } بدل من { الذين لم يقاتلوكم } وكذا قوله { أن تولوهم } من { الذين قاتلوكم } والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء . ومعنى { تقسطوا إليهم } تعطوهم مما تملكون من طعام وغيره قسطاً . وعدّي ب « إلى » لتضمنه معنى الإحسان وقال في الكشاف : تقضوا إليهم بالقسط أي العدل ولا تظلموهم . وقيل : أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه . وعن مجاهد : الذين آمنوا بمكة . وقيل : هم النساء والصبيان . وعن قتادة : نسختها آية القتال .
قال المفسرون : إن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم ومن أتى مكة منهم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك كتاباً وختموه . فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافراً المخزومي . وقيل : صيفي بن الراهب فقال : يا محمد اردد إليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } الآية . فكانت بياناً لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وعن الضحاك : كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد أن تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها . وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك فأتت امرأة فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى { فامتحنوهن } فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق ونزوّجها عمر . وفائدة قوله { الله أعلم بأيمانهنّ } أنه لا سبيل لكم إلى ما تسكن إليه النفس من اليقين الكامل لأنكم تختبرونهن بالحلف والنظر في سائر الأمارات التي لا تفيد إلا الظن ، وأما الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد به علام الغيوب { فإن علمتموهن مؤمنات } العلم الذي يليق بحالكم وهو الظن الغالب { فلا ترجعون إلى } أزواجهن { الكفار } لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك وآتوا أزواجهن { مثل ما أنفقوا } مثل ما دفعوا إليهن من المهور . ثم نفى عنهم الحرج في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا أعطوهن مهورهن .

قال العلماء : إما أن يريد بهذا الأجر ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزوّجهن تقديم أدائه ، وإما أن يراد بيان أن ذلك المدفوع لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق . احتج أبو حنيفة بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً وقعت الفرقة بينهما ولا يرى العدة على المهاجرة ويصح نكاحها إلا أن تكون حاملاً { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وهو ما يعتصم به من عقد وسبب قال ابن عباس : أراد من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعدّها من نسائه لأن اختلاف الدين قطع عصمتها وحل عقدتها . وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر . وقال مجاهد : هذا أمر بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن { واسئلوا ما أنفقتم } من مهور أزواجكم الملحقات بالكفار { وليسئلوا ما أنفقوا } من مهور نسائهم المهاجرات . أمر المؤمنين بالإيتاء ثم أمر الكافرين بالسؤال وهذه غاية العدل ونهاية الإنصاف . ثم أكد ما ذكر من الأحكام بأنها حكم الله . قال جار الله : { يحكم بينكم } كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف العائد أي يحكمه الله ، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة . يروى أن بعض المشركين أبوا أن يؤدّوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فأنزل الله تعالى { وإن فاتكم } أي سبقكم وانفلت منكم { شيء من أزواجكم } أحد منهن قال أهل المعاني : فائدة إيقاع شيء في هذا التركيب التغليظ في الحكم والتشديد فيه أي لا ينبغي أن يترك شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر غير معوّض عنه . ويجوز أن يراد وإن فاتكم شيء من مهور أزواجكم . ومعنى { فعاقبتم } فجاءت عقبتكم من أداء المهر والعقبة النوبة شبه أداء كل طائفة من المسلمين والكافرين المهر إلى صاحبتها بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } إلى الكفار { مثل ما أنفقوا } أي مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر . وقال الزجاج : معنى { فعاقبتم } فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، فالذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر . قال بعض المفسرين : جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة : أم الحكم ينت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شدّاد الفهرى ، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص ، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر . أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة . وفي قوله { واتقوا الله } ندب إلى سيرة التقوى ورعاية العدل ولو مع الكفرة .

ثم نبّه نبيه صلى الله عليه وسلم على شرائط المبالغة وهي المعاهدة على كل ما يقع عليه اتفاق كالإسلام والإمارة والإمامة ، والمراد ههنا المعاقدة على الإسلام وإعطاء العهود به وبشرائطه وعدم قتل الأولاد ووأد البنات ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك فكني عنه بالهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه هو بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين . وقيل : البهتان في الآية الكذب والتهمة والمشي بالسعاية مختلفة من تلقاء أنفسهنّ . وقيل : قذف المحصنين . قال ابن عباس : في قوله { ولا يعصينك في معروف } إنما هو شرط شرطه الله تعالى على النساء ، والمعروف كل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات . واختلف في كيفية مبايعته إياهنّ فقيل : دعا بقدح من ماء وغمس يده فيه ثم غمسن أيديهنّ . وقيل : صافحهنّ وكان على يده ثوب . وقيل : كان عمر يصافحهنّ ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة يملكها إنما كان كلاماً . وعن أميمة بنت رقيقة قالت : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من الأنصار نبايعه على الإسلام فأخذ علينا يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيما استطعن وأطقتن . قلنا؛ الله وسوله أرحم بنا منا بأنفسنا هلمّ نصافحك يا رسول الله . قال : إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة . يروى أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود طمعاً في ثمارهم فنزلت { لا تتلوا قوماً } الآية . وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوّة الرسول ثم عنادهم كما يئس الكفار من موتاهم أن يرجعوا أحياء . وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار لأنهم أيسوا من خير الآخرة ومعرفة المعبود الحق فكأنهم أولى .


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

القراآت : { زاغوا } بالإمالة مثل { زاغ البصر } [ النجم : 17 ] { بعدي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحماد وأبو بكر غير ابن غالب { متم نوره } بالإضافة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف وحفص . الآخرون : بالتنوين ونصب { نوره } { تنجيكم } بالتشديد : ابن عامر { أنصاراً } بالتنوين { لله } جاراً ومجروراً : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . والباقون : بالإضافة { أنصاري إلى الله } بالفتح كما مر في « آل عمران » .
الوقوف : { وما في الأرض } ط { الحكيم } ه ج { تفعلون } ه { تفعلون } ه { مرصوص } ط { إليكم } ط { قلوبهم } ط { الفاسقين } ه { أحمد } ط { مبين } ه { الإسلام } ط { الظالمين } ه { الكافرون } ه { المشركون } ه { أليم } ه ز { وأنفسكم } ط { تعلمون } ه لا لأن قوله { يغفر لكم } جواب { تؤمنون } على أنه خبر في معنى الأمر { عدن } ط { العظيم } ه ج للعطف { تحبونها } ط لحق الحذف أي هي نصر { قريب } ه لانقطاع النظم واختلاف المعنى { المؤمنين } ه { إلى الله } ط { وكفرت طائفة } ه لاتفاق الجملتين مع تخصيص الثانية ببيان حال أحد الفريقين { ظاهرين } ه .
التفسير : يروى أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فدلهم الله على الجهاد فولوا يوم أحد فعيرهم . وروي أن الله تعالى حين أخبر بثواب شهداء بدر قالوا : لئن لقينا قتلالاً إلى الله لنفرغن فيه وسعنا ففرّوا يوم أحد ولم يفوا . وقيل؛ كان الرجل يقول : قلت ولم يقل وطعنت ولم يطعن فأنزل الله تعالى { لم تقولون } واللام الجاره إذا دخلت على « ما » الاستفهامية أسقطت الألف لكثرة الاستعمال . وقد عرفت مراراً أن خصوص سبب النزول لا ينافي عموم الحكم ، وهذا التفسير يتناول إخلاف كل وعد . وقال الحسن : نزلت في الذين آمنوا بلسانهم لا بقلوبهم . ثم عظم أمر الإخلاف في قلوب المنافقين فقال { كبر } الآية . وفيه أصناف مبالغة من جهة صيغة التعجب والتعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله ، ومن جهة إسناد الفعل إلى { أن تقولوا } ونصب { مقتاً } على التمييز ومن قبل أن المقت أشدّ من البغض أو من وصفه بأنه { عند الله } لأن الممقوت عنده ممقوت عند كل ذي لب . ثم حث على الجهاد بنوع آخر وذلك أنه نسب أوّلاً ترك الجهاد بعد تمنيه إلى المقت ثم نسب الجهاد إلى الحب . وانتصب { صفاً } على المصدر بمعنى الحال . وقوله { كأنهم } مع الأول حالان متداخلان أي صافين أنفسهم أو مصفوفين كأنهم في تراميهم من غير فرجة ولا خلل { بنيان } رص بعضه على بعض أي رص صف . وجوزوا أن يراد صف معنوي وهو اتفاق كلمتهم واستواء نياتهم في الثبات . وعلى الأول استدل بعضهم به على تفضيل القتال راجلاً بناء على أن الفرسان لا يصطفون من غير فرجة ، ثم ذكرهم قصة موسى عليه السلام مع قومه كيلا يفعلوا بنبيهم مثل ما فعل به بنو إسرائيل .

تفسير الإيذاء مذكور في آخر « الأحزاب » وسائر أصناف إيذائهم إياه من عبادة العجل وطلب الرؤية والالتماسات المنكرة مشهورة { وقد تعلمون } في موضع الحال . وفائدة « قد » تأكيد العلم لا تقليله وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم إذا عكسوا القضية وصنعوا مكان تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذاءه . والزيغ الميل عن الحق والإزاغة الإمالة فكأنهم تسببوا لمزيد الانحراف عن الجادة ، فالطاعة تجر الطاعة والمعصية تجر المعصية . قال بعض العلماء : إنما قال عيسى { يا بني إسرائيل } ولم يقل يا قوم كما قال موسى ، لأنه لا نسب له فيهم . قلت : ممنوع لقوله تعالى في « الأنعام » { ومن ذريته داود } [ الأنعام : 84 ] إلى قوله { وعيسى } [ الآية : 85 ] قال النحويون : قوله { مصدّقاً } و { مبشراً } حالان والعامل فيهما معنى الإرسال في الرسول فلا يجوز أن يكون { إليكم } عاملاً لأنه ظرف لغو . عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال : نعم أمة محمد حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل . قوله { وهو يدعى إلى الإسلام } نظير ما مر من قوله { وقد تعلمون إني رسول الله } ففي كل منهما تعكيس القضية إذ جعل مكان إجابة النبي إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين افتراء الكذب على الله وهو قولهم للمعجزات هي سحر ، لأن السحر كذب وتمويه ولهذا عرف الكذب بخلاف آخر « العنكبوت » . ثم ذكر غرضهم من الافتراء بقوله { يريدون ليطفؤا } ولهذا خص هذه السورة باللام كأنه قال : يريدون الافتراء لأجل هذه الإرادة كما زيدت اللام في « لا أبالك » لتأكيد معنى الإضافة . وباقي الآيتين سبق تفسيره في « براءة » . وإنما قال ههنا { والله متم نوره } لمكان الفصل بالعلة كأنه قال : يريدون الافتراء لغرض إطفاء نور الله والحال أن الله متم نوره ، وأما هنالك فإنه عطف قوله { ويأبى } على قوله { يريدون } .
ثم دل أهل الإيمان على التجارة الرابحة وهي مجاز عن وجدان الثواب على العمل كما قال { إن الله اشترى } [ التوبة : 111 ] إلى قوله { فاستبشروا ببيعكم } [ التوبة : 111 ] قال أهل المعاني : فائدة إيقاع الخبر موقع الأمر هي التنبيه على وجوب الأمر وتأكيده كأنه أمتثل فهو يخبره به كأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان؟ وعن الفراء أن قوله { يغفر لكم } جواب { هل أدلكم } بتأويل أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم { ذلكم } يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد { خير لكم } من أموالكم وأنفسكم وهو اعتراض .

وقوله { إن كنتم تعلمون } اعتراض زائد على اعتراض ومعناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيراً لكم لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيراً . ثم قال { و } لكم مع هذه النعم الآجلة نعمة { أخرى } عاجلة { تحبونها } وهي فتح مكة كما قال { وأثابكم فتحاً قريباً } [ الفتح : 18 ] وعن الحسن : هو فتح فارس والروم . قال في الكشاف : في قوله { تحبونها } شيء من التوبيخ على محبة العاجلة . وعندي أنه سبحانه رتب أمرين على أمرين : المغفرة وإدخال الجنة على الإيمان ، والنصر والفتح على الجهاد ، ومحبة النصر من الله والفتح القريب لا تقتضي التوبيخ وإنما ذلك مطلوب كل ذي لب ودين . وقال في قوله { وبشر } إنه معطوف على { تؤمنون } لأنه بمعنى الأمر . والأظهر عند علماء المعاني أنه معطوف على « قل » مقدراً قل يا أيها الذين آمنوا يؤيد تقدير قل . قوله { هل أدلكم } فإن نسبة هذا الاستفهام إلى رسوله أولى من نسبته إلى الله سبحانه على ما لا يخفى . قوله { كونوا أنصار الله } أي أعوان دينه { كما قال عيسى ابن مريم للحوارين } أي أصفيائه وقد مر ذكرهم في « آل عمران » { من أنصاري } متوجهاً { إلى } نصرة دين { الله } قال أهل البيان : فيه تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى وإنه لا يصح على الظاهر لأن الكون يشبه بالكون لا القول ، فوجهه أن يحمل التشبيه على المعنى وبيانه أن كون الحواريين أنصار الله يعرف من سياق الآية بعدها وهو قول الحواريين { نحن أنصار الله } وارد بطريق الاستئناف كأن سائلاً سأل : فماذا قال الحواريون حينئذ؟ فأجيب بما أجيب . وقولهم لا يخالف كونهم فيعود معنى الآية إلى قول القائل : كونوا أنصار الله مثل كون الحواريين أنصار عيسى وقت قوله { من أنصاري } على أن « ما » مصدرية والمصدر يستعمل مقام الظرف اتساعاً كقولك « جئتك قدوم الحاج » و « خفوق النجم » أي وقت القدوم والخفوق والسر في العدول عن العبارة الواضحة إلة العبارة الموجودة هو أن سوق الكلام بطريق الكناية حيث جعل المشبه به لازم ما هو المشبه به أبلغ من التصريح ، وأن بناء الكلام على السؤال والجواب أوكد ، وأن المجاز وهو استفادة كونهم من قولهم أبلغ من الحقيقة ، ولعل في الآية أسراراً آخر لم نطلع عليها . ومعنى { ظاهرين } غالبين . عن زيد بن علي : كان ظهورهم بالحجة .


يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

القراآت : { كمثل الحمار } و { التوراة } بالإمالة قد سبق ذكرهما .
الوقوف { وما في الأرض } لا { الحكيم } ه { مبين } ه لا للعطف أي وفي آخرين { بهم } ط { الحكيم } ه { من يشاء } ط { العظيم } ه { أسفاراً } ط { بآيات الله } ط { الظالمين } ه { صادقين } ه { أيديهم } ط { بالظالمين } ه { تعملون } ه { البيع } ط { تعلمون } ه { تفلحون } ه { قائماً } ط { للتجارة } ط { الرازقين } ه .
التفسير : في الأميين منسوب إلى أمة العرب أو إلى أم القرى . وقد مر سائر الوجوه في « الأعراف » في قوله { النبيّ الأميّ } [ الآية : 157 ] وباقي الآية مذكورة في « البقرة » و « آل عمران » . والمراد بآخرين التابعون وحدهم أو مع تبع التابعين إلى يوم القيامة . ثمّ شبه اليهود الطاعنين في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم حاملوا التوراة وحفاظها العارفون بما فيها من نعت نبيّ آخر الزمان بالحمار الحامل للأسفار أي الكتب الكبار لأنه لا يدري منها إلا ما مر بجنبيه من الكدّ والتعب . ومعنى { حملوا } كلفوا العمل بما فيها . ومحل { يحمل } جر صفة للحمار كما في قوله « على اللئيم يسبني » وهذا مثل كل من علم علماً يتعلق بعمل صالح ثم لم يعمل به . ثم قبح مثلهم بقوله { بئس } مثلاً { مثل القوم الذين } وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فقيل لهم : إن كان قولكم حقاً { فتمنوا الموت } ليكون وصولكم إلى دار الكرامة أسرع وقد مر مثله في أول « البقرة » إلا أنه قال ههنا { ولا يتمنونه } وهناك ولن يتمنوه وذلك أن كليهما للنفي إلا أن « لن » أبلغ في نفي الاستقبال وكانت دعواهم هناك قاطعة بالغة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فخص الأبلغ بتلك السورة . ثم بين أن الموت الذي لا يجترؤن على تمنيه خيفة أن يؤاخذوا بوبال كفرهم فإنه ملاقيهم لا محالة . قال أهل النظم : قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث : زعموا أنهم أولياء لله فكذبهم بقوله { فتمنوا الموت } وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً ، وباهوا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع لنا الجمعة . قال جار الله : يوم الجمعة بالسكون الفوج المجموع كضحكة للمضحوك منه ، وضمَّ الميم تثقيل لها كما قيل في عسرة عسرة . قلت : ومما يدل على أن أصلها الكسون جمعها على جمع كقدرة وقدر . وفي الكشاف أن { من يوم الجمعة } بيان « إذا » وتفسير له . وأقوال : إن اليوم أعم من وقت النداء والعام . لإبهامه لا يصير بياناً ظاهراً فالأولى أن تكون « من » للتبعيض . والنداء الأذان في أول وقت الظهر ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك ، حتى إذا كان عثمان وكثر الناس زاد مؤذناً آخر ، مؤذن على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة .

وعن ابن عباس : إن أول جمعة في الإسلام بعد جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمعة أجتمعت بجواثى قرية من قرى البحرين من قرى عبد القيس وروي أن الأنصار بالمدينة اجتمعوا إلى أسعد بن زرارة . وكنيته أبو إمامة وقالوا : هلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فإن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة ، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتمعاهم فيه ، وأنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخمس وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة . وفضيلة صلاة الجمعة كثيرة منها ما ورد في الصحاح عن أبي هريرة « إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول » و « مثل المبكر كمثل الذي يهدي بدنه ثم كالذي يهدي بقرة ثم كبشاً ثم دجاجة ثم بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر » وعنه صلى الله عليه وسلم « من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر » وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج . وقيل : أول بدعة أحدثت مع الإسلام ترك البكور إلى الجمعة . ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة إلا في مصر جامع وهو ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام . وقد يقال : ما يكون فيه نهر جار وسوق قائم وملك قاهر وطبيب حاذق . وعنده تنعقد بثلاثة سوى الإمام ، وعند الشافعي لا تنعقد إلاّ بأربعين متوطنين . وأعذار الجمعة مشهورة في كتب الفقه . ومعنى السعي القصد دون العدو ومنه قول الحسن : ليس السعي على الأقدام ولكنه على النيات والقلوب . وعن ابن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي . قال العلماء : وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه . قوله { إلى ذكر الله } أي إلى الخطبة والصلاة وهي تسمية الشيء بأشرف أجزائه . ومذهب أبي حنيفة أنه لو اقتصر على كل ما يسمى ذكراً مثل الحمد لله أو سبحان الله جاز .

وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة . وعن جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهد الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له ، إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صلاته قصداً وخطبته قصداً . وعن أبي وائل قال : خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن طول الصلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأقصر الخطبة وأطل الصلاة » وإن من البيان لسحراً . قوله { وذروا البيع } خاص ولكنه عام في الحقيقة لكل ما يذهل عن ذكر الله . وسبب التخصيص أن أهل القرى وقتئذ يجتمعون من كل أوب في السوق وأغلب اجتماعهم على البيع والشراء . ولا خلاف بين العلماء في تحريم البيع وقت النداء . وهل يصح ذلك البيع إن وقع الأكثرون؟ نعم لأن المنع غير متوجه نحو خصوص البيع . وإنما هو متوجه نحو ترك الجمعة حتى لو تركها بسبب آخر فقد ارتكب النهي ولو باع في غير تلك الحالة لم يصادفه نهي . قوله { فانتشروا } وابتغوا إباحة بعد حظر . وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا امتثالاً للآية . وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله . وعن الحسن وسعيد بن المسيب : الطلب طلب العلم . وقيل : صلاة التطوع . وفي قوله { واذكروا الله كثيراً } إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يغفل عن ذكر ربه في كل حال كما قال { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [ النور : 37 ] عن جابر قال : بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل : عير تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فنزلت { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } أي تفرقوا إليها { وتركوك قائماً } في الصلاة أو في الخطبة أو في الزاوية ، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهذا هو المراد باللهو والتقدير إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه . يروى أنه صلى الله عليه وسلم وآله قال : والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً . ثم حث على تجارة الآخرة وعلى تيقن أن لا رازق بالحقيقة إلا هو سبحانه وقد مر مراراً .


إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

القراآت { خشب } بالسكون : أبو عمرو وعلي وابن مجاهد { لووا } بالتخفيف : نافع وقالون { تعملون } على الغيبة : يحي وحماد .
الوقوف : { لرسول الله } ط م لئلا يوهم أن قوله { والله يعلم } من مقول المنافقين { لرسوله } ط { لكاذبون } ه لا لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافاً { عن سبيل الله } ط { يعملون } ه { لا يفقهون } ط { أجسامهم } ط { لقولهم } ط { مسندة } ط { عليهم } ط { فاحذرهم } ط { قاتلهم الله } ط ز لابتداء الاستفهاهم مع اتصال المعنى { يؤفكون } ه { مستكبرون } ه { تستغفر لهم } ط { لن يغفر الله لهم } ط { الفاسقين } ه { ينفضوا } ط { لا يفقهون } ه { الأذل } ط { لا يعلمون } ه { عن ذكر الله } ط للشرط مع الواو { الخاسرون } ه { قريب } ج ه لتعلق الجواب { الصالحين } ه ز { أجلها } ط { تعملون } ه .
التفسير : قال علماء المعاني : أرادوا بقولهم نشهد إنك لرسول الله شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم كما ينبىء عنه « إن واللام » وكون الجملة اسمية مع تصديرها بما يجري مجرى القسم وهو الشهادة ، فكذبهم الله تعالى لأجل علمه بعدم المواطأة . أو يراد والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم إنك لرسول الله كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه . قلت : هذا مذهب الجاحظ وأنه خلاف ما عليه الجمهور وهو أن مرجع كون الخبر صدقاً أو كذباً إلى طباق الحكم للواقع أو لإطباقه ولهذا أوّلوا اآية بما أوّلوا ، وهو أن التكذيب توجه إلى ادّعائهم أن قولهم قول عن صميم القلب ، ومما يدل على أن مرجع كون الخبر صدقاً إلى ما قلنا لا إلى طباقه اعتقاد المخبر أو ظنه ولا إلى عدم طباقه لذلك الاعتقاد والظن تكذيبنا اليهودي إذا قال : الإسلام باطل مع أنه مطابق لاعتقاده ، وتصديقنا له إذا قال : الإسلام حق مع أنه غير مطابق لاعتقاده . وفائدة إقحام قوله { والله يعلم إنك لرسوله } النتصيص على التأويل المذكور وإلا أمكن ذهاب الوهم إلى أن نفس قولهم { إنك لرسول الله } كذب . ثم أخبر عن استثباتهم بالايمان الكاذبة كما مر في « المجادلة » . وجوز في الكشاف أن تكون اليمين الكاذبة ههنا إشارة إلى قولهم { نشهد } لأن الشهادة تجري في إفادة التأكيد مجرى الحلف وبه استدل أبو حنيفة على أن أشهد يمين . { ذلك } الذي مر من أوصافهم وأخلاقهم أو من التسجيل عليهم أنهم مقول في حقهم ساء ما كانوا يعملون { ب } سبب { أنهم آمنوا } باللسان { ثم كفروا } بظهور نفاقهم أو نطقوا بالإسلام عند المؤمنين ثم نطقوا بكلمة الكفر إذا خلوا إلى شياطينهم ، ويجوز أن يراد أهل الردة منهم وكان عبد الله بن أبيّ رجلاً جسيماً فصيحاً وكذا أضرابه من رؤساء النفاق يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون ، فيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم والحاضرون يعجبون بهياكلهم ويستمعون إلى كلامهم فنزلت { وإذا رأيتهم } أيها الرسول أو يا من له أهلية الخطاب .

ثم شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام فارغة عن الإيمان والخير بالخشب المستندة إلى الحائط . ويجوز أن تكون الخشب أصناماً منحوتة شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم . قال في الكشاف : ويجوز أن يكون وجه التشبيه مجرد عدم الانتفاع لأن الخشب المنتفع بها هي التي تكون في سقف أو جدار أو غيرهما ، فأما المسندة الفارعة المتروكة فلا نفع فيها . قلت : فعلى هذا لا يكون لتخصيص الخشب بالذكر فائدة لاشتراكها في هذا الباب مع الحجر والمدر المتروكين وغيرهما ، والخشب جمع خشبة كثمرة وثمر ، ومحل الجملة رفع على « هم كأنهم خشب » أو هو كلام مستأنف فلا محل له . قوله { عليهم } ثاني مفعولي { يحسبون } أي يحسبونها واقعة عليهم صادرة لهم لجبنهم والصيحة كنداء المنادي في العسكر ونحو ذلك ، أو هي أنهم كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم . ثم أخبر عنهم بأنهم { هم العدو } أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء هو العدوّ المداجي المكاشر تظنه جاراً مكاشراً وتحت ضلوعه داء لا دواء له . ويقال : ما ذم الناس مذمة أبلغ من قولهم « فلان لا صديق له في السر ولا عدوّ له في العلانية » وذلك أن هذه من آيات النفاق { فاحذرهم } ولا تغتر بظاهرهم ، وجوز أن يكون { هم العدو } المفعول الثاني و { عليهم } لغو . وإنما لم يقل « هي العدو » نظراً إلى الخبر أو بتأويل كل أهل صيحة { قاتلهم الله } دعاء عليهم باللعن والإخزاء أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر . ويجوز أن يكون تعليماً للمؤمنين أي ادعوا عليهم بهذا . يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم ازدحم على الماء جمع من المهاجرين والأنصار واقتتلا ، فلطم أحد فقراء المهاجرين شاباً حليفاً لعبد الله بن أبيّ ، فبلغ ذلك عبدالله فقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل « سمن كلبك يأكلك » ، أما والله { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } عنى بالأعز نفسه وبالأذل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لقومه : لو أمسكتم عن هؤلاء الفقراء فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم ولا تفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال : أنت والله الذليل القليل . فال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب . فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق .

فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجريّ فأمر به أنصارياً فقال : فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً قتل أصحابه . ولما أنزل الله تعالى تصديق قول زيد وبان نفاق عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزلت { وإذا قيل لهم تعالوا } ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات وقد تقدم قصة هذا المنافق في سورة « براءة » بأكثر من هذا ، وقد نفى عن المنافقين الفقه أولاً وهو معرفة غوامض الأشياء ، ثم نفى عنهم العلم رأساً كأنه قال : لا فقه لهم بل لا علم . أو نقول : إن معرفة كون الخزائن لله مما يحتاج إلى تدبر وتفقه لمكان الأسباب والوسائط والروابط المفتقرة في رفعها من البين إلى مزيد توجه وكمال نظر ، فأما كون الغلبة والقوة لدين الإسلام فذلك بظهور الإمارات وسطوع الدلائل بلغ مبلغاً لم يبق في وقوعه شك لمن به أدنى مسكة وقليل علم ، فلا جرم أورد في خاتمة كل آية ما يليق بها . وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر بعده . وعن الحسن بن علي رضي الله عنه أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً فقال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا الآية . وحينئذ عير المنافقين بما عير . وحث المؤمنين على ذكر الله في كل حال بحيث لا يشغلهم عنه التصرف في الأموال والسرور بالأولاد وكل ما سوى الله حقير في جنب ما عند الله ، فإن من تصرف في شيء ما المال أو صرف زمانه في طرف من أمر الأولاد فلله وبالله وفي الله . وقال الكلبي : ذكر الله الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن الحسن : جميع الفرائض . وقيل : القرآن . وقيل : الصلوات الخمس { يفعل ذلك } أي ومن أشغلته الدنيا عن الدين . ثم حثهم على الإنفاق إما على الإطلاق وإما في طريق الجهاد . وإتيان الموت إتيان سلطانه وأماراته حين لا يقبل توبته ولا ينفع عمل فيسأل الله التأخير في الأجل لتدارك ما فات ومن له بذلك كما قال { ولن يؤخر الله نفساً } والمعنى هلا أخرت موتي إلى زمان قليل { فأصدّق وأكون } من قرأ بالنصب فظاهر ، ومن قرأ بالجزم فعلى وهم أن الأول مجزوم كأنه قال : إن أخرتني أصدق وأكن . وقيل : هذا الوعيد لمانع الزكاة .


يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)

القراآت : { يوم نجمعكم } بالنون : رويس . الباقون : على الغيبة { نكفر } و { ندخله } بالنون فيهما : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل . الآخرون : على الغيبة .
الوقوف : { وما في الأرض } ط لاختلاف الجملتين { وله الحمد } ط النوع اختلاف وهو تقديم الخبر على المبتدأ في الأوّل { قدير } ه { مؤمن } ط { بصير } ه { صوركم } ج لعطف المختلفين { المصير } ه { تعلنون } ه { الصدور } ه { من قبل } ط لتناهي الاستفهام إلى الاخبار مع صدق الاتصال بالفاء { أليم } ه { يهدوننا } ه لاعتراض الاستفهام بين المتفقين { الله } ط { حميد } ه { يبعثوا } ط { عليم } ه { يسير } ه { أنزلنا } ط { خبير } ه { التغابن } ط { أبداً } ط { العظيم } ه { فيها } ط { المصير } ه { بإذن الله } ط { قلبه } ط { عليم } ه { الرسول } ج ط { المبين } ه { إلا هو } ط { المؤمنون } ه { فاحذروهم } ج { رحيم } ه { فتنة } ط { عظيم } ه { لأنفسكم } ط { المفلحون } ه { ويغفر لكم } ط { حليم } ه لا { الحكيم } ه .
التفسير : قال في الكشاف : قدم الظرفين في قوله { له الملك وله الحمد } لمكان الاختصاص وأن لا ملك بالحقيقة إلا له ولا استحقاق حمد في التحقيق إلا له . قلت : لو عكس الترتيب أفاد الخصوصية بوجه آخر وهو أن هذا الجنس وهذه الطبيعة له كما سبق في « الفاتحة » { هو الذي خلقكم } ذا فطرة سليمة . وقوله { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } بحسب الأسباب الخارجية كقوله صلى الله عليه وسلم « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه » والكل على وفق المشيئة . قالت المعتزلة : أراد هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق فكان يجب عليكم أن تقابلوه بالتوحيد والتكبير مجتمعين مطيعين لا أن يغلب الكفر والجحود عليكم ، ولمكان هذه الغلبة قدم الكافر . والعجب من صاحب الكشاف أنه سلم أن في خلق الكافر قد يكون وجه حسن ولكنه يخفى علينا ولا يسلم أن في خلق داعية الكفر في الكافر قد يكون وجه حسن يخفى عليه . وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن . قووله { فأحسن صوركم } كقوله في { أحسن } [ التين : 4 ] وسيجيء في « التين » إن شاء الله العزيز . وكل قبيح من الإنسان فهو في نوعه كامل إلا أن الله تعالى خلق أكمل منه من نوعه وأحسن فلهذا يحكم بدمامته وقبحه ، ولهذا قالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال والبيان . وحين وصف نفسه بالقدرة الكاملة والعلم الشامل أعم أولاً ثم أخص ثم أخفى ، هدد كفار مكة بحال الأمم الماضية فقال { ألم يأتكم } الآية { ذلك } الوبال الدنيوي والعذاب الأخروي { بأنه } أي بأن الشان { كانت } أي كانت القضية وقد مر نظيره في « حم المؤمن » .

{ أبشر } فاعل فعل محذوف تفسيره { يهدوننا } وجمع الضمير لأن البشر اسم جمع { إنّما أنا بشر } [ الكهف : 110 ] { إن نحن إلا بشر } [ إبراهيم : 11 ] قال أهل المعاني : لم يذكر المستغنى عنه في قوله { واستغنى الله } ليتناول كل شيء ومن جملته إيمانهم وطاعتهم . قال في الكشاف : معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان مع قدرته على ذلك ، وإنما ذهب إلى هذا التأويل لئلا يوهم أن يوجد التولي والاستغناء معاً ويلزم منه أن لا يكون الله في الأزل غنياً . قلت : لو جعل الواو للحال أي وقد كان الله مستغنياً قديماً أو والحال وجود استغناء الله في وجودكم لم يحتج إلى التأويل . قوله { زعم } من أفعال القلوب وفيه تقريع لكفار مكة لأن الزعم ادعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه ويؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « زعموا مطية الكذاب » و { أن لن يبعثوا } في تقدير مفرد قائم مقام المفعولين . قال جار الله : { يوم يجمعكم } منصوب بقوله { لتنبؤن } أو ب { خبير } لأنه في معنى الوعد كأنه قيل : واله يعاقبكم يوم كذا أو بإضمار « اذكر » قلت : يجوز أن يكون { يوم } مبنياً على الفتح ومحله ابتداء والخبر جملة قوله { ذلك يوم التغابن } .
سؤال : ما الفائدة في زيادة قوله { ليوم الجمع } الجواب إن كان الخطاب في { يجمعكم } لكفار مكة فظاهر أي اذكروا وقت جمعكم الواقع في وقت يجمع فيه الأوّلون والآخرون ، وإن كان لعموم الناس فلعل اللام في الجمع للمعهود الذي سلف في نحو قوله { يوم يجمع الله الرسل } [ المائدة : 109 ] { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً } [ الكهف : 47 ] { قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } [ الواقعة : 49 ، 50 ] هذا ما سمح به الفكر الفاتر والله تعالى أعلم بمراده . قال جار الله : التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغببن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي ينزلونها لو كانوا أشقياء . قلت : في تسمية القسم الأخير تغابناً نظر إلا أن يفرض بنزول الشقي في ذلك المنزل يزيد عذاب الشقي ، وزيادة العذاب سبب تضيق المكان عليه . واعتذر عنه جار الله بأنه تهكم بالأشقياء لأن خسران أحد الفريقين مبني على ربح الآخر ولا ربح في التحقيق فيلزم التهكم مثل { فبشرهم } [ آل عمران : 21 ] وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما من عبد يدخل الجنة إلا يرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً وما من عبد يدخل النار إلا يرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة » ويجوز أن يفسر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم وحمل الظالم خطايا المظلوم وإن صح مجيء التغابن بمعنى الغبن فذلك واضح في حق كل مقصر صرف شيئاً من استعداده الفطري في غير ما أعطى لأجله .

قوله { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } كقوله { وزدناهم هدى } [ الكهف : 13 ] والأول باللسان والثاني بالجنان أي هدينا قلبه إلى حقيقة الإيمان . وقال جار الله : يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير ، والتحقيق فيه أن نور الإيمان ينبسط كل يوم بسبب الرسوخ والثبات وتكامل المغيبات وتزايد المعارف والطاعات إلى أن يتنور جميع أجزاء القلب وينعكس منه إلى كل الأعضاء والجوارح . وعن الضحاك : يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه . وعن مجاهد : إن ابتلى صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر { والله بكل شيء عليم } يعلم درجات القلوب من الإيمان . ولما كان أكثر ميل الناس عن الطاعات والكمالات الحقيقيات لأجل صرف الزمان في تهيئة أمور الأزواج والأسباب المفضية إيلهن أو المعينة عليهن ، ثم الأولاد الذين هم ثمرات الأفئدة وحياة القلوب وقرة العيون ، بيّن الله سبحانه أن العاقل لا ينبغي أن يصرف كده في ذلك ويكون على حذر منهم ومن تكثيرهم ، وبيع الدين بالدنيا لأجلهم فمن الأزواج أزواج يعادين بعولتهن وأعدى عدوّك هي التي تضاجعك ، وهل يستلذ الوسنان إذا كان في مضجعه ثعبان . ومن الأولاد أولاد كيد زائدة قطعها مؤذ وفي إبقائها عيب { وإن تعفوا } عنهم إذا أطلعتم منهم على معاداة فإن الله يجازيكم . وروى أن ناساً أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فنزلت . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجرة على المنبر فقال : صدق الله { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما . وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات . وقال بعض أهل التفسير : أراد إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما . وحين بين أن الأزواج والأولاد لا ينبغي أن يمنعوا المكلف عن طاعة الله أنتج من ذلك الأمر بتقوى الله بمقدار الوسع والطاقة . « وما » للمدة أو للمصدر وقوله { خيراً لأنفسكم } نصب بمحذوف هو افعلوا أو ائتوا وقد مر نظيره في آخر « النساء » في قوله { انتهوا خيراً لكم } [ الآية : 171 ] وفيه إشارة إلى أن أمثال هذه الأوامر خير من التهالك في أمور الأزواج والأولاد وإغضاب الرب وإتعاب النفس لتكثير المال المخلف ومن أشقى ممن لا يقدّم لأجل نفسه شيئاً يستقرضه منه رازقه مع شدة احتياجه إلى ذلك بعد مماته ويؤخر لأجل وارثه أموالاً عظيمة مع عدم وثوقه بأنه هل يكون له انتفاع بها أم لا اللهم اشغلنا بما يغنينا وبالله .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

القراآت { بالغ أمره } بالإضافة : حفص . الآخرون : بالتنوين والنصب { وجدكم } بكسر الواو : روح . { ندخله } بالنون : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل .
الوقوف : { العدة } ج تعظيماً لأمر الاتقاء { ربكم } ط لاتصال المعنى مع عدم العاطف { مبينة } ج { وتلك حدود الله } ط { نفسه } ط { أمراً } ه { لله } ط { الآخر } ط { مخرجاً } لا { لا يحتسب } ط { حسبه } ط { أمره } ط { قدراً } ه { أشهر } لا للعطف أي واللائي لم يحضن كلذلك { لم يحضن } ط { حملهن } ط { يسراً } ه ط { إليكم } ط { أجراً } ه { عليهن } ط { حملهن } ط { أجورهن } ط { بمعروف } ك { أخرى } ه ط { من سعته } ط { آتاه الله } ط { يسراً } ه { نكراً } ه { خسراً } ه { الألباب } ه ز والوصل ههنا والوقف على { آمنوا } أجوز من العكس { ذكراً } ه لأن ما بعده بدل أو غيره كما يجيء { إلى النور } ط { أبداً } ط { رزقاً } ه { مثلهن } ط { علماً } ه .
التفسير : لما نبه في آخر السورة المتقدمة على معاداة بعض الأزواج والمعاداة كثيراً ما تفضي إلى الفراق بالطلاق أرشد في هذه السورة إلى الطلاق السني الذي لا يحرم إيقاعه وإلى أحكام أخر معتبرة في فراق الزوجين . وقبل الخوض في تقرير أقسام الطلاق نقول : إنه يورد ههنا سؤال وهو أنه كيف نادى نبيه صلى الله عليه وسلم وحده ثم قال { إذا طلقتم } على الجمع؟ والجواب أنه كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه وأن من سواه من قومه تبع له في الخطاب . وقيل : الجمع للتعظيم والمراد بالخطاب النبيّ أيضاً . وقيل : أراد يا أيها النبي والمؤمنون فحذف للدلالة . وقيل : يا أيها النبي قل للمؤمنين . ومعنى { إذا طلقتم } إذا أردتم تطليقهن كقوله { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] واللام في قوله { لعدتهنّ } بمعنى الوقت أي للوقت الذي يمكنهنّ الشروع في العدّة وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه . وقال جار الله : فطلقوهن مستقبلات لعدّتهن كقولك « أتيته لليلة بقيت من شهر كذا » أي مستقبلاً لها . قال الفقهاء : السنيّ طلاق المدخول بها التي ليست بحامل ولا صغيرة ولا آيسة في غير حالة البدعة ، والبدعيّ طلاق المدخول بها في حيض أو نفاس أو طهر جامعها فيه ولم يظهر حملها . فلتحريم الطلاق سببان : أحدهما وقوعه في حال الحيض إذا كانت المرأة ممسوسة وكانت ممن تعتدّ بالإقراء لقوله تعالى { فطلقوهن لعدّتهن } وطلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : مرة ليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم يطلقها إن شاء . فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء . والمعنى فيه أن بقية الحيضة لا تحسب من العدة فتطول عليها مدة التربص .

وثانيهما إذا جامع امرأته في طهرها وهي ممن تحبل ولم يظهر حملها حرم عليه أن يطلقها في ذلك الطهر لقوله صلى الله عليه وسلم في قصة ابن عمر « ثم إن شاء طلقها قبل أن يسمها » ولأنه ربما يندم على الطلاق لظهور الحمل . هذا تقرير السنة والبدعة من جهة الوقت . أما السنة والبدعة من جهة العدد فقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة أو مفرقة على الأطهار . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يكره ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما متفرقاً في الأطهار فلا لما روي في قصة ابن عمر : إنما السنة أن يستقبل الطهر استقبالاً ، ويطلق لكل قرء تطليقة . وقال الشافعي : لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة . وقد يستدل بما روي في حديث اللعان أن اللاعن قال : هي طالق ثلاثاً . ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم . وقالت الشيعة : إذا طلقها ثلاثاً يقع واحدة . ومنهم من قال : لا يقع شيء وهو قول سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين . والأصح عند أكثر المجتهدين أن الطلاق البدعي واقع وإن كان صاحبه آثماً وعاصياً وهذا مبنيّ على أن النهي لا يوجب فساد المنهي عنه . « وفي قصة ابن عمر أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً؟ فقال له : إذن عصيت وبانت منك امرأتك » قالت العلماء : المحرم هو الطلاق بغير عوض فأما إذا خلع الحائض أو طلقها على مال فلا لإطلاق قوله تعالى { فلا جناح عليهما فيما أفتدت به } [ البقرة : 229 ] ولأن المنع كان رعاية لجانبها وبدل المال دليل على شدة الحاجة إلى الخلاص بالمفارقة . قال جار الله : اللام في قوله { النساء } للجنس وقد علم بقوله { فطلقوهن لعدتهن } أنه مطلق على البعض وهنّ ذوات الأقراء المدخول بهن فلا عموم ولا خصوص . قلت : ما ضره لو جعله عاماً لأنه إذا روعي الشرط المذكور في هذا البعض لزم أن يكون طلاق كل النساء من الصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخول بها والمدخول بها بحيث يمكنهن أن يشرعن الطلاق في العدة . قوله { وأحصوا العدة } أي اضبطوها واحفظوا عدد أيامها ثلاثة أقراء كوامل لا أزيد ولا أنقص { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ } يعني من مساكن الفراق وهي بيوت الأزواج أضيفت إليهن لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى إلى انقضاء العدة ، وكما أن البعولة لا ينبغي أن يخرجوهنّ غضباً عليهنّ أو لحاجة لهم إلى المساكن كذلك لا ينبغي لهنّ أن يخرجن بأنفسهنّ . وقوله { إلا أن يأتين } استثناء من الجمة الأولى أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ ، أو إلا أن يطلقهن على النشوز فإن النشوز يسقط حقهنّ في السكنى ، أو إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهن ويؤيده قراءة أبيّ { إلا أن يفحشن عليكم } وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه .

والمعنى إن خرجت فقد أتت بفاحشة مبينة وعلى هذا يكون الاستثناء من الجملة الثانية . قوله { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أي أحصوا العدة وألزموهن مساكنكم فلعلكم تندمون بقلب الله البغضة محبة والمقت مقة والطلاق رجعة . والخطاب في { لا تدري } للنبي صلى الله عليه وسلم على نسق أول السورة أو لكل مكلف { فإذا بلغن أجلهنّ } أي شافن انقضاء عدتهن فأنتم بالخيار إن شئتم فالإمساك بالرجعة لا على وجه الضرار بل بالشرع والعرف ، وإن شئتم فالفراق بالمعروف كما مر في « البقرة » { وأشهدوا } على الرجعة أو الفرقة و { ذوى عدل منكم } أي من جنسكم من المسلمين قاله الحسن . وعن قتادة : من أحراركم . وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة . وفائدة الإشهاد أن لا يقع التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها أو يموت أحدهما فيدعي الآخر ثبوت الزوجية لأجل الميراث .
ثم حث الشهود على أن لا يشهدوا إلا لوجه الله من غير شائبة غرض أخروي أو عرض دنيوي { ذلكم } الحث على أداء الشهادة لله { يوعظ به من } هو من أهل الإيمان بالله والمعاد لأن غيره لا ينتفع به ، ويجوز أن تكون الإشارة بذلكم إلى ما مر من الإمساك أو الفراق بالمعروف لا على وجه الضرار فيكون موافقاً لما مر في « البقرة » إلا أنه وحد كاف الخطاب هنالك لأنه أكد الكلام بزيادة منكم ، وههنا جمع فلم يحتج إلى لفظ منكم والله تعالى أعلم بأسرار كلامه . ثم حض على التقوى في كل باب ولا سيما فيما سبق من أمر الطلاق وكأنه قال { ومن يتق الله } فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد { يجعل له مخرجاً } ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة ومن جملة ذلك تأيم الأزواج { ويرزقه } من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه بدل ما أدى وبذل من المهر والحقوق . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم » { ومن يتق الله } فما زال يقرؤها ويعيدها . « وروي أن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة . فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله . ففعل » ، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدوّ فاستاقها فنزلت هذه الآية . قلت : قد جربت الآية في محن ومهالك فوجدت مفرجة منفسة .

ومن أسرار القرآن ولطائفه أنه سبحانه حث على التقوى في هذه السورة ثلاث مرات : بقوله { ومن يتق الله } وذلك على عدد الطلقات الثلاث ، ووعد في كل مرة نوعاً من الجزاء : الأول أنه يخرجه مما دخل فيه وهو كاره ويتيح له خيراً ممن طلقها . الثاني اليسر في الأمور والموالاة في المقاصد ما دام حياً . الثالث أفضل الجزاء وهو ما يكون في الآخرة من النعماء . ثم حث في التوكل بثلاث جمل متقاربة الخطى : الأولى { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } لأن المعبود الحقيقي القادر على كل شيء الغنيّ عن كل شيء الجواد بكل شيء إذا فوض عبده الضعيف أمره إليه لا يهمله البتة . الثاني { إن الله بالغ أمره } أي يبلغ كل أمر يريده ولا يفوته المطلوب . الثالثة { قد جعل الله لكل شيء قدراً } أي وقتاً ومقداراً . وهاتان الجملتان كل منهما بيان لوجوب التوكل عليه لأنه إذا علم كونه قادراً على كل شيء وعلم أنه قد بيّن وعيّن لكل شيء حداً ومقدراً لم يبقَ إلا التسليم والتفويض . قال جار الله : قال المفسرون : إن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الأقراء فما عدة اللواتي لم يحضن فنزلت { واللائي يئسن } فمعنى إن ارتبتم إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن . قلت : في حصة هذه الرواية نظر فإن السورة ليس فيها بيان عدة ذوات الأقراء وإحالتها على ما في « البقرة » ، والمطلقات يتربصن لا يجوز لأن هذه مكية وتلك مدنية . نعم لو ثبت أن هذه متأخرة النزول كان له وجه كما روي عن عبد الله بن مسعود : من شاء باهلته إن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة . والجمهور أن المراد أن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضت { فعدّتهن ثلاثة أشهر } وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب أولى . وسن اليأس مقدر بخمس وخمسين وبستين . والمشهور عند أكثر أصحاب الشافعي النظر إلى نساء عشيرتها من الأبوين ، فإذا بلغت السن التي ينقطع فيها حيضهن فقد بلغت سن اليأس . { واللائي لم يحضن } هن الصغائر والتقدير فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر حذف لدلالة ما قبله عليه . قوله { وأولات الأحمال } أي النساء الحوامل { أجلهن } بعد الطلاق أو بعد وفاة الزوج أي انقضاء عدتهن { أن يضعن حملهن } هذا قول أكثر الأئمة والصحابة وإما تنقضي العدة بوضع الحمل بتمامه . فلو كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض العدة حتى ينفصل الثاني بتمامه ، وإنما يكون الولدان توأمين إذا ولدا على التعاقب وبينهما دون ستة أشهر وإلا فالثاني حمل آخر . وعن علي وابن عباس أن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين من بقية الحمل ومن أربعة أشهر وعشر ، ووضع الحمل لا يتفاوت بكونه حياً أو ميتاً أو سقطاً أو مضغة لا صورة فيها ، وصدقت المرأة بيمينها لأنهنّ مؤتمنات على أرحامهنّ .

وحين كرر شرط التقوى كان لسائل أن يسأل : كيف يعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل { أسكنوهن من حيث سكنتم } أي بعض مكان سكناكم الذي تطيقونه . والوجد . الوسع والطاقة . قال قتادة : فإن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه . قال أبو حنيفة : السكنى والنفقة واجبتان لكل مطلقة . وعند الشافعي ومالك : ليس للمبتوتة إلا السكنى . وعن الحسن وحماد : لا نفقة لها ولا سكنى لما في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا سكنى لك ولا نفقة . وضعف بقول عمر : لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها السكنى والنفقة { ولا تضاروهن } بإنزال مسكن لا يوافقهن أو بغير ذلك من أنواع المضار حتى تضطروهن إلى الخروج وقيل : هو أن يراجعها كلما قرب انقضاء عدتها ليضيق أمرها وقد يلجئها إلى أن تفتدي منه . قوله { وإن كن أولات حمل } تخصيص للحامل بالنفقة لأجل الحمل وإن كانت بائنة . هذا عند الشافعي ، وأما عند أبي حنيفة ففائدته أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفى ذلك الوهم ، وأما الحامل المتوفى عنها فالأكثرون على أنه لا نفقة لها لوقوع الإجماع على من أجبر الرجل على إنفاقه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته فكذلك الحامل . وعن علي وعبد الله وجماعة ومنهم الشافعي أنهم أوجبوا نفقتها .
ثم بين أمر الطفل قائلاً { فإن أرضعن } أي هؤلاء المطلقات { لكم } أي لأجلكم ولداً منهن أو من غيرهن بعد انفصام عرى الزوجية . وهذه الإجارة لا تجوز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان الولد منهن ما لم تحصل البينونة . وجوز الشافعي مطلقاً كلما صار . ثم خاطب الآباء والأمهات جميعاً بقوله { وأتمروا } قال أهل اللغة : الائتمار بمعنى التآمر كالاشتوار بمعنى التشاور أي ليأمر بعضكم بعضاً بالجميل وهو المسامحة وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما معاً { وإن تعاسرتم } أي أظهرتم من أنفسكم العسر والشدة في أم مؤنة الإرضاع { فسترضع } أي الطفل { له } أي للأب مرضعة { أخرى } وفيه طرف من معاتبة الأم على التعاسر كما تقول لمن تطلب منه حاجة وهو يتأنى في قضائها : سيقضيها قاضٍ . يريد لا تبقى غير مقضية وأنت ملوم . ثم بين أن ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات هو بمقدار الوسع والطاقة كما في « البقرة » على الموسر قدره وعلى المقتر قدره إلى أن يفتح الله أبواب الرزق عليهم . ثم هدد من خالف الأحكام المذكورة بأحوال الأمم السابقة .

والحساب الشديد أي بالاستقصاء والمناقشة ، والعذاب النكر أي المنكر الفظيع . يحتمل أن يراد بهما حساب الدنيا وعذابها وهو إحصاء صغائرهم وكبائرهم في ديوان الحفظة وما أصاب كل قوم من الصيحة ونحوها عاجلاً ، وأن يراد عذاب الآخرة وحسابها . ولفظ الماضي لتحقق الوقوع مثل { وسيق } [ الزمر : 72 ] { ونادى } [ الأعراف : 38 ] وعلى هذا يكون قوله { أعد الله } تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب فاحذروا مثله { يا أولى الألباب } وجوز جار الله أن يكون { عتت } وما عطف عليه صفة للقرية و { أعد الله } عاملاً في { كأين } . قوله { رسولاً } قال جار الله : هو جبرائيل أبدل من { ذكراً } لأنه وصف بتلاوة آيات الله وكان إنزاله في معنى إنزال الذكر فصح إبداله منه ، أو أريد بالذكر الشرف كقوله { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] فأبدل منه كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله ، أو جعل لكثرة ذكره الله وعبادته كأنه ذكر ، أو أريد ذا ذكر ملكاً مذكوراً في السموات وفي الأمم كلها ، أو دل قوله { قد أنزل الله } على أرسل فكأنه قيل : أرسل رسولاً أو أعمل { ذكراً } في { رسولاً } إعمال المصدر في المفاعيل أي أنزل الله أن ذكر رسولاً أو ذكره رسولاً . قلت : لم يبعد على هذه الوجوه أن يكون المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم . ثم ذكر غاية الإنزال أو التلاوة بقوله { ليخرج } والمعنى ليخرج الله أو الرسول { الذين } عرف منهم أنهم سيؤمنون من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أو ليوفقهم بعد الإيمان والعمل الصالح لمزيد البيان والعيان الذي ينجيلي به ظلم الشكوك والحسبان . قوله { قد أحسن الله له رزقاً } فيه معنى التعجب والتعظيم . ثم ختم السورة بالتوحيد الذي هو أجل المطالب وتفسيره ظاهر مما سلف مراراً إلا أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الأرض متعددة وأنها سبع كالسموات فذهب بعضهم إلى أن قوله { مثلهن } أي في الخلق لا في العدد . وقيل : هن الأقاليم السبعة ، والدعوة شاملة لجميعها . وقيل : إنها سبع أرضين متصل بعضها ببعض وقد حال بينهم بحار لا يمكن قطعها والدعوة لا تصل إليهم . وقيل : إنها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها وهذا يشبه قول الحكماء : منها طبقة هي أرض صرفة تجاوز المركز ، ومنها طبقة طينية تخالط سطح الماء من جانب التقعير ، ومنها طبقة معدنية يتولد منها المعادن ، ومنها طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها ، ومنها طبقة الأدخنة والأبخرة على اختلاف أحوالها أي طبقة الزمهرير ، وقد تعدّ هذه الطبقة من الهواء . وقيل : إنها سبع أرضين بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام كما جاء في ذكر السماء وفي كل أرض منها خلق حتى قالوا : في كل منها آدم وحواء ونوح وإبراهيم وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويستمدون الضياء منها أو جعل لهم نوراً يستضيئون به . وذكر النقاش في تفسيره فصلاً في خلائق السموات والأرضين وأشكالهم وأسمائهم أضربنا عن إيرادها لعد الوثوق بمثل تلك الروايات . ومعنى { تنزل الأمر بينهن } أن حكم الله وأمره يجري فيما بين السموات والأرضين أو فيما يتركب منهما ولا يعلم تلك الأجرام ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها فيهن إلا علام الغيوب تعالى وتقدس .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

القراآت { عرف } بالتخفيف : عليّ { تظاهرا } عاصم وحمزة وعلي وخلف . { أن يبدله } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { نصوحاً } بضم النون : يحيى وحماد { وكتبه } على الجمع : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص .
الوقوف { لك } ج لاحتمال أن الجملة بعده حال أو استفهامية بحذف الحرف وهذا أحسن ، لأن تحريم الحلال بغير ابتغاء مرضاتهن أيضاً غير جائز { أزواجك } ط { رحيم } ه { أيمانكم } ج لعطف الجملتين المختلفتين { مولاكم } ط للابتداء بذكر ما لم يزل من الوصفين مع اتفاق الجملتين { الحكيم } ه { حديثاً } ج { عن بعض } ج { هذا } ط { الخبير } ه { قلوبكما } ج { المؤمنين } ه لتناهي الشرط إلى الإخبار { ظهير } ه { وأبكاراً } ه { ما يؤمرون } ه { اليوم } ط { تعملون } ه { نصوحاً } ط { الأنهار } لا بناء على أن الظرف يتعلق بقوله { ويدخلكم } وج لاحتمال أن { يوم } متعلق بقوله { يسعى } بعد { واغفر لنا } ج للابتداء بأن مع احتمال اللام { قدير } ه { عليهم } ه { جهنم } ط { المصير } ه { لوط } ط لابتداء الحكاية { الداخلين } ه { فرعون } ج لئلا يتوهم أن الظرف متعلق ب { ضرب } بل التقدير « اذكروا » { الظالمين } ه لأن ما بعده معطوف على امرأة فرعون { القانتين } ه .
التفسير : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي زينب بنت جحش فيشرب عندها العسل ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنما نشم منك ريح المغافير . والمغفور والمغثور شيء واحد ينضحه العرفط والرمث مثل الصمغ وهو حلو كالعسل ويؤكل وله ريح كريهة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره التفل فحرم لقولهما على نفسه العسل . الثاني أنه ما أحل الله له من ملك اليمين . وههنا روايتان : الأولى « أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية القبطية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها : اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي » ، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين . الثانية أنه خلا بمارية في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية فقال عمر لابنته : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك . فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها لمن نسائك في الجنة . قال جمع من العلماء : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم حلال بأن يقول : هو عليّ حرام ولكنه كان يميناً كقوله « والله لا أشرب العسل ولا أقرب الجارية بعد اليوم » فقيل له : لم تحرم أي لم تمتنع منه بسبب اليمين يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر عن يمينك { والله غفور } لك { رحيم } بك لوالدليل عليه ظاهر .

قوله { قد فرض الله لكم تحلة } بمعنى التحليل كالتكرمة { أيمانكم } أي شرع لكم تحليلها بالكفارة . وقيل : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول : إن شاء الله عقبها حتى لا يحنث . والتحلة تفعلة بمعنى التحليل كالتكرمة بمعنى التكريم . عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم لم يكفر عن يمينه لأنه كان مغفوراً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين . وعن مقاتل أنه أعتق رقبة في تحريم مارية . وما حكم تحريم الحلال؟ قال أبو حنيفة : هو يمين على الامتناع من الانتفاع المقصود ، فلو حرم طعاماً فهو يمين على الامتناع من أكله ، أو أمه فعلى الامتناع من وطئها ، أو زوجة فمحمول على ما نوى ، فإن نوى الظهار فظهار ، أو الطلاق فطلاق بائن ، وإن لم ينو شيئاً فعلى الإيلاء ، وإن قال : كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى . وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد أن الحرام يمين . وقال الشافعي : هو في النساء من صرائح ألفاظ الطلاق . وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي رضي الله عنه : ثلاث . وعن عثمان : ظهار . وعن مسروق والشعبي أنه ليس بشيء فما لم يحرمه الله ليس لأحد أن يحرمه { والله مولاكم } متولي أموركم وقيل : أولى بكم من أنفسكم ونصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم { وهو العليم } بما يصلحكم { الحكيم } فيما يأمركم به وينهاكم عنه { و } اذكر { إذا أسرّ النبي إلى بعض أزواجه } وهي حفصة { حديثاً } هو حديث مارية وإمامة الشيخين { فلما نبأت به } حفصة عائشة { وأظهره الله } على نبيه أي أطلعه على إفشائه على لسان جبريل . وقيل : أظهر الله الحديث على النبي فيكون من الظهور { عرف بعضه } أعلم ببعض الحديث . ومن قرأ بالتخفيف من العرفان فمعناه المجازاة من قولك للمسيء « لأعرفنّ لك ذلك » وكان جزاؤه تطليقه إياها . وقيل : المعرف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية . وإنما أعرض عن البعض تكرماً . قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام . وروي أنه قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أبي . وإنما ترك المفعول ولم يقل « فلما نبأت به بعضهنّ وعرفها بعضه لأن ذلك ليس بمقصود وإنما الغرض ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به » ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرمه وحلمه لم يوجد منه إلا الإعلام بالبعض وهو حديث الإمامة . ولما كان المقصود في قوله { من أنبأك هذا } ذكر المنبأ به أتى بالمفعولين جميعاً . ثم وبخ عائشة وحفصة على طريقة الالتفات قائلاً { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن إخلاص رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وبغض ما يكرهه والأصل قلباكما .

ووجه الجمع ما مر في قوله { فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] { وإن تظاهرا } أي تعاونا على ما يوجب غيظه فلم يعدم هو من يظاهره كيف والله { مولاه } أي ناصره { وجبريل } خاصة من بين الملائكة { وصالح المؤمنين } قال أكثر العلماء : هو واحد في معنى الجمع لأنه أريد الجنس لشمول كل من آمن وعمل صالحاً . وجوز أن يكون جمعأً وقد أسقط الواو في الخط لسقوطه في اللفظ . عن سعيد بن جبير : هو كل من برىء من النفاق . وقيل : الأنبياء والصحابة والخلفاء . { والملائكة } على كثرة جموعهم { بعد ذلك } الذي عرف من نصرة المذكورين { ظهير } فوج مظاهر له كأنهم يد واحدة فأي وزن لاتفاق امرأتين بعد تظاهر هؤلاء على ضد مطلوبهما . ولا يخفى أن الكلام مسوق للمبالغة في الظاهر وإلا فكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً .
ثم وبخهما بنوع آخر وهو قوله { عسى ربه إن طلقكنّ } الآية . والسائحات الصائمات كما في آخر التوبة . قال جار الله : شبه الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره بالسائح الذي لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يطعمه . وقيل : السائحات المهاجرات فانظر في شؤم العصيان فإن أمهات المؤمنين وهنّ خير نساء العالمين يصير غيرهن بفرض عدم العصيان خيراً منهن بفرض العصيان وتطليق الرسول إياهن . وقد عرفت في النظائر أن الواو في قوله { وأبكاراً } يقال لها « واو الثمانية » إلا أن للواو في هذا المقام فائدة أخرى وهي أن وصفي الثيابة والبكارة متنافيان لا يكون إلا أحدهما بخلاف الصفات المتقدمة فإنها ممكنة الاجتماع ، فالمراد أن أولئك النساء جامعات للأوصاف المتقدمة ولأحد هذين . ثم عمم التحذير فقال { قوا أنفسكم } وهو أمر من الوقاية في الحديث « رحم الله رجلاً قال يا أهلاه صلاتكم وصيامكم وزكاتكم مسكينكم ويتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعهم معه في الجنة » وتفسير قوله { وقودها الناس والحجارة } قد مر في أول « البقرة » . وكونها معدّة للكافرين لا ينافي تعذيب المؤمنين الفسقة بها إن استحقوها . وجوز أن يكون أمراً بالتوقي من الارتداد وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم { عليها ملائكة } أي موكل على أهلها الزبانية التسعة عشر الموصوفون بالغلظة والشدة في الإجرام أو في الأفعال أو فيهما لأنه لا تأخذهم رأفة بمن عصى الله . وقوله { ما أمرهم } نصب على البدل أي لا يعصون أمر الله . ولا يخفى أن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر فصرح بما عرف ضمناً قائلاً { ويفعلون ما يؤمرون } ويجوز أن يكون الأوّل عائداً إلى الماضي والثاني إلى المستقبل .

ثم وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند دخولهم النار وهو قوله { لا تعتذروا } لأنه لا عذر لكم أو لا عذر مقبولاً لكم ، وليس هذا من قبيل الظلم ولكنه جزاء أعمالهم . ثم أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة ، ووصفت بالنصوح على الإسناد المجازي لأن النصح صفة التائبين وهو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة لا يكون فيها شوب رياء ولا نفاق . وقيل : هو من نصاحة الثوب أي توبة ترفأ خروقك في دينك . وقيل : خالصة عسل ناصح إذا خلص من الشمع . وقيل : توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها . و { عسى } من الكريم إطماع ولئلا يتكلوا . قوله { لا يخزي } تعريض لمن أخزاهم من أهل النار { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } [ آل عمران : 192 ] كأنه استحمد المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم . قوله { نورهم يسعى } قد مرّ في الحديد قوله { يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } أي قائلين ذلك إذا طفىء نور المنافقين خوفاً من زواله على عادة البشرية ، أو لأن الإخلاص والنفاق من صفة الباطن لا يعرفه إلا الله سبحانه على أنه يجوز أن يدعو المؤمن بما هو حاصل له مثل اهدنا ، ويجوز أن يدعو به من هو أدنى منزلة لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً لا مجازاة لانقطاع التكليف والعمل يومئذ . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة أو بإقامة الحدود عليهم ، وأمر باستعمال الغلظة والخشونة على الفريقين هذا عذابهم في الدنيا ولهم في الآخرة جهنم وقد سبق نظير الآية في « التوبة » . ثم ضرب مثلاً لأهل الكفر امرأة نوح واسمها قيل واعلة وامرأة لوط . واسمها قيل واهلة ومثلاً لأهل الإيمان امرأة فرعون واسمها آسية وهي عمة موسى ومريم ابنة عمران . وفي ضمن التمثيلين تعريض بما مرّ في أول السورة من حال عائشة وحفصة وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين لا الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئاً ، وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة { ادخلا النار مع } سائر { الداخلين } الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء من قوم نوح وقوم لوط أو من كل قوم . وفي قوله { عبدين من عبادنا } إشارة إلى أن سبب المزية والرجحان عند الله ليس إلا الصلاح كائناً من كان . وخيانة المرأتين ليست هي الفجور وإنما هي نفاقهما وإبطانهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين . فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه . قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط . عن أبى هريرة أن آسية حين آمنت بموسى عليه السلام وتدها فرعون باربعة أوتاد واستقبل بها الشمس وأضجعها على ظهرها ووضع الرحى على صدرها .

قال الحسن : فنجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتنعم فيها . وقيل : لما { قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } بنى من درّة . ومعنى { عندك بيتاً في الجنة } أنها طلبت القرب من الله والبعد عن عدوّه في مقام القرب ، أو أرادت أعلى موضع في الجنة . وقولها { من فرعون وعمله } كقولك « أعجبني زيد وكرمه » وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله من الأشرار دأب الصالحين . والضمير في { فيه } للفرج . وقيل : هو جيب الدرع وقد مرّ في « الأنبياء » . وكلمات الله صحف إبراهيم وغيره أو جميع ما كلم الله به وكتبه اللوح أو الكتب الأربعة ومن وحد فهو الإنجيل . وقرىء { بكلمة الله } أي بعيسى { وكانت من القانتين } من باب التغليب كما مرّ في قوله { واركعي مع الراكعين } [ آل عمران : 43 ] وقيل : « من » للابتداء أي ولدت منهم لأنهم من أعقاب هارون عليه السلام .


تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

القراآت { من تفوّت } من التفعل : حمزة وعلي { هل ترى } بالإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام { ولقد زينا } مثل { لقد سمع } : ابن فليح { فسحقا } بالضم : يزيد وعلي الآخرون : بالسكون { أءمنتم } بهمزتين : حمزة وعلي وخلف وابن عامر . والباقون { ءأمنتم } بتوسيط ألف بين الهمزتين { نذيري } { ونكيري } كنظائرهما . { سيئت } مثل ضربت : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس . { يدعون } بسكون الدال : يعقوب . { أهلكني الله } بسكون الياء : حمزة { معي } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم غير يحيى وحماد { فسيعلمون } على الغيبة : علي .
الوقوف { الملك } ط لنوع اختلاف بين الجملتين من حيث تقدم الظرف في الأولى { قدير } ه لا لأن { الذي } بدل { عملاً } ه { الغفور } ه لا لأن ما بعده صفة أو بدل { طباقاً } ط { تفاوت } ط { البصر } ط في الموضعين لأن ما بعد الأول مفعول أي فانظر هل ترى ، وما بعد الثاني ظرف مع أن الجواب منتظر { فطور } ه { حسير } ه { السعير } ه { جهنم } ط { المصير } ه { تفور } ه لا لأن ما بعده خبر آخر أو بدل { الغيظ } ط { نذير } ه { من شيء } ط ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الكفار وأن يكون مقول قول محذوف للخزنة { كبير } ه { السعير } ه { يذنبهم } ج لابتداء الشتم مع الفاء { كبير } ه { أو اجهروا به } ه ط { الصدور } ه { خلق } ط لتناهي الاستفهام مع أن الواو يحسن حالاً . { الخبير } ه { من رزقه } ط { النشور } ه { هي تمور } ه لا لأن أم معادل { أم أمنتم } { حاصبا } ط لابتداء التهديد { نذير } ه { نكير } ه { ويقبض } م { الرحمن } ط { بصير } ه { الرحمن } ط { غرور } ه { رزقه } ط { ونفور } ه { مستقيم } ه { والأفئدة } ط { تشكرون } ه { تحشرون } ه { صادقين } ه { عند الله } ط ص { مبين } ه { تدعون } ه { رحمنا } لا لأن ما بعده جواب الشرط { أليم } ه { توكلنا } ج ومن قرأ { فسيعلمون } بياء الغيبة فوقفه مطلق للعدول { مبين } ه { معين } ه .
التفسير : كثير خير من تحت تصرفه وتسخيره { الملك } الحقيقي { وهو على } إيجاد { كل } ممكن وإعدامه { قدير } بيانه أنه { خلق الموت والحياة } وهما عرضان يتعاقبان على كل من صح عليه ذلك . فالموت نظير الإعدام والحياة مثلا الإيجاد ، وتقديم الموت لأن الأصل في الأشياء العدم ، قال مقاتل : يعني كونه نطفة وعلقة ومضغة ثم نفخ فيه الروح .
وعن ابن عباس : الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان ، وإن الله خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد رائحته شيء إلا مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي ، قال الحكماء الإسلاميون : هذا على سبيل التمثيل وإلا فالعرض لا يكون جوهراً .

أقول : لعل الأملح والبلقاء إشارة إلى أن هذين العرضين في عالمنا هذا لا يطرآن إلا على ما فيه طبائع متضادة فتكون بسبب ذلك تارة وتفقد أخرى . قال جار الله : إنما قدم الموت لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم . زعم الكلبي أنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد ، وقال أبو علي وأبو هاشم : إنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد . وقالت الأشاعرة : إنه قادر على القبيلين وإلا لم يكن على كل شيء قدير وهو خلاف الآية فلزمهم صحة وجود مقدور بين قادرين وبهذا بطل القول بالطبائع على ما تقوله الفلاسفة ، وبالمتولدات على ما تقوله المعتزلة ، ويكون العبد موجد الأفعال نفسه . ومعنى الغاية في قوله { ليبلوكم } أنه إذا علم أن وراء الموت حياة وحالة يستوي فيها الغني والفقير والمولى والعبد ولا ينفعه إلا ما قدم من خير صار ذلك داعياً إلى جسن العمل وزاجراً عن ضده . وكذا لو قيل : إن الموت حال كونه نطفة والحياة نفخ الروح في الجنين فإنه إذا تفكر في أمور نفسه علم أن وراء هذه الحياة موتاً ينقطع به تدارك ما فات ، وأن الدنيا مزرعة الآخرة . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها فلما بلغ قوله { أيكم أحسن عملاً } قال : أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لقومه « لو أكثرتم ذكرها ذم اللذات لشغلكم عما أرى » والابتلاء مجاز كما مر في قوله { وإذ ابتلى إبراهيم } وفي الكهف قوله { أيكم أحسن عملاً } مفعول ثاني { ليبلوكم } على أنه متضمن معنى العلم وليس هذا من باب التعليق لأن التعليق هو أن تكون الاستفهامية سادة مسد المفعولين جميعاً نحو « علمت أزيد منطلق » نعم إنه تعليق على قول الفراء والزجاج لأنهما قالا تقديره ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملاً { وهو العزيز } الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل { الغفور } لمن تاب من أهل الإساءة ، وهذان الوصفان يتوقفان على كمال القدرة والعلم فلا جرم دل عليهما { الذي خلق سبع سموات طباقاً } أي ذات طباق أو طوبقت طباقاً أو هو وصف بالمصدر مبالغة أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا طار طارقها . ثم أشار إلى أنها محكمة متقنة بقوله { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } أو تفوّت قال الفراء : وهما واحد ومعناه يرجع إلى عدم التناسب والنظام بحيث يقول الناظر الفهم لو كان كذا لكان أحسن ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل راءٍ . والأصل ما ترى فيهن فعدل إلى العبارة الموجودة تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على أنه سبب تناسبهن كقوله « خلق الرحمن » .

فلو علم للمكلفين أنفع من هذا الخلق لفعل . وفسر بعضهم التفاوت بالفطور لقوله { هل ترى من فطور } أي صدوع وشقوق وخروق وفتور كل هذه من عبارات المفسرين وهو كقوله في أول « ق » { وما لها من فروج } [ ق : 4 ] وإنما أمر برجع البصر لأن النظرة الأولى حمقاء ، ثم أمر بتكرير رجع البصر كرتين وهو تثنية الكرة مثل لبيك وسعديك إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من الخلل والعيب ، ومعنى { خاسئاً } بعيداً عن إصابة الملمس ، قوله { ولقد زينا } قد مر تفسيره في « حم السجدة » . والرجوم جمع رجم مصدر سمي به ما يرجم به . وقيل : معناه جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من أهل التنجيم . وحين بين أنه أعد لهؤلاء عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عمم الوعيد بقوله { وللذين كفروا } الآية . ثم وصف جهنم بصفات منمها أن { لها شهيقاً } تشبيهاً لحسيسها المنكر الفظيع بصوت الحمار . ويجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم أو من أنفسهم ومنها الفوران . قال ابن عباس : تغلي بهم كغلي المرجل . وقال مجاهد : تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل . ويجوز أن يكون من فور الغضب يؤيده قوله { تكاد تميز من الغيظ } يقال فلان يتميز غيظاً وغضباً فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه ، ولعل السبب في هذا المجاز هو أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب ، والدم عند الغليان يصير أعظم حجماً ومقداراً فيمدد الأوعية حتى كادت تنشق وتنخرق ، فجعل ذكر هذا اللازم كناية عن شدة الغضب ، وقيل : الغيظ للزبانية احتجت المرجئة بقوله { كلما ألقي } الآية . على أنه لا يدخل النار إلا الكفار لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي فيها أنه قال كذبنا النذير أجاب القاضي بأن النذير قد يطلق على ما في المقول من الأدلة المحذرة عن المعصية فيشمل الفاسق ، القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود الشرع . احتجوا بأنه تعالى ما عذبهم إلا بعد مجيء النذير . ثم حكى عن أهل النار أنهم يقولون للخزنة { لو كنا نسمع } الإنذار سماع من كان طالباً للحق أو نعقله عقل متأمل متفكر { ما كنا في أصحاب السعير } وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل واحتج بالآية من فضل السمع على البصر لأنه تعالى جعل مناط الفوز السمع ولم يذكر البصر القائل بأن الدين لا يتم إلا بالتعليم . احتج بأنه قدم السمع على العقل تنبيهاً على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد وهداية الهادي .

وأجيب بأن سبب التقديم هو أن المكلف لا بد أن يسمع قول الرسول ثم يتفكر فيه . قال في الكشاف : ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أوعلى مذهب أصحاب الرأي ، ثم قال في إبطاله كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم ، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة . قلت : الإنصاف أن نزول الآية قبل المذهبين لا ينافي توبيخ أهل النار يوم القيامة أنفسهم بأنهم على تلك السيرة ، وكم من قصة قد أخبر الله بوقوعها من قبل أن تقع وهو أحد أنواع إعجاز القرآن وأيضاً لا يلزم من كونهما ناجمين كون غيرهما من أهل الوعيد . وأيضاً على هذا التفسير لو صح يلزم كونهما من أهل النجاة قطعاً فينضم إلى المبشرين أفراد غير محصورة فضلاً عن حادي عشر فيكون دعوى انحصار المبشرين في العشرة مصادرة على المطلوب . والفاء في قوله { فاعترفوا } للنتيجة أي فصح بعد البيانات السابقة أنهم اعترفوا { بذنبهم } قال مقاتل : يعني تكذيبهم الرسل . قال الفراء : الذنب ههنا بمعنى الجمع لأن فيه معنى الفعل كما يقال : خرج عطاء الناس أي أعطيتهم . ثم بين أن ذلك الاعتراف مما لا ينفع قائلاً فيه { فسحقاً } أي فبعداً لهم عن رحمة الله اعترفوا أو جحدوا . والتخفيف والتثقيل لغتان والمعنى أسحقهم الله سحقاً . وقال أبو علي : إسحاقاً إلا أن المصدر جاء على الحذف كقولهم « عمرك الله » ثم أتبهم الوعيد الوعد قائلاً { إن الذين } الآية . وقد مر مراراً . ثم هدد على العموم فقال { وأسروا } وهو من التسرية وعلل ذلك بقوله { أنه عليم بذات الصدور } قال ابن عباس : كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء فيخبره جبرائيل فقالوا : أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد فأنزل الله الآية بياناً لجهلهم . ثم استدل على كمال علمه بنوع آخر قائلاً { ألا يعلم من خلق } ومحل « من » رفع أي ألا يعلم من خلق مخلوقه ، وذلك أن خلق الشيء يتوقف على معرفة تفاصيل كمياته وكيفياته من خلقه ، وجوز أن يكون « من » بمعنى « ما » ويكون إشارة إلى ما يسره الخلق ويجهرونه ويضمرونه في صدورهم ، وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى . وقد يستدل بالوجهين الأولين أيضاً على ذلك لأن العبد لو كان موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها بناء على الآية . ولكنه غير عالم بتفاصيلها لأنه لا يعرف مقادير حركته وسكونه وكمية الجواهر الفردة الواقعة على مسافته ، بل لا يعرف الأسباب السابقة والغايات اللاحقة لا بكلها ولا بأكثرها في كل من أفعاله . وأنكر في الكشاف أن يكون قوله { ألا يعلم } متروك المفعول على تقادير كون « من » مرفوع المحل نحو « فلان يعطي » قال : لأن قوله { وهو اللطيف الخبير } حال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ولكن ، ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء قلت : أما قوله { وهو اللطيف } حال فممنوع ولم لا يجوز أن يكون مستأنفاً ، وعلى تقدير تسليمه فليس معنى قوله { ألا يعلم } متروك المفعول على تقدير كون « من » مرفوع المحل حتى يلزم توقيت الشيء بنفسه ، بل المعنى ألا يتصف الخالق بالعلم والحال أن علمه وصل إلى بواطن الأشياء وخبايا الأمور .

وذلك أن المتصف بالأخص متصف بالأعم ضرورة . قوله { هو الذي جعل لكم الأرض } قال أهل النظم : وجه التعلق أنه سبحانه وتعالى قال : أيها الكافرون أنا عالم بسركم وجهركم فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم أنا الذي ذللتها لكم وإن شئت خسفت بكم إياها ، والذلول من كل شيء المناقد الذي يذل لك ، ومن ذلها أنه ما جعلها خشنة يمتنع المشي عليها ، ولا صلبة بحيث لا يمكن حفرها والبناء عليها ، ولا متحركة على الاستقامة واستدارة ، بل جعلها ساكنة في جو الهواء عند المركز . قال جار الله : المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل لأن ملتقى المنكبين من الغارب أبعد شيء من أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا كان هذا الموضع ذلولاً فما ظنك بغيره ، وعن ابن عباس والضحاك وقتادة أن مناكب الأرض جبالها وآكامها ، وإذا كانت هذه الأمكنة مع شخوصها وارتفاعها مذللة فغيرها أولى . قال الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل ، وهو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره الفراء وابن قتيبة : أن مناكبها جوانبها وطرقها ، ومنكبا الرجل جانباه فيكون كقوله { والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } [ نوح : 19 ، 20 ] { وكلوا من رزقه } الذي خلق لكم في الأرض ولا يخفى أن الأمر بالمشي والأكل للإباحة . ثم قال { وإليه النشور } يعني ينبغي أن يكون مشيكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مشي من يعلم وأكل من يتيقن أن المصير إلى الله ، والمراد التحذير من المعاصي سراً وجهراً . ثم بين أن بقاءهم سالمين على هذه الأرض إنما هو بفضل الله ولو شاء لخسف بهم الأرض أو أمطر عليهم مطر القهر ، واستدلال المشبهة بقوله { من في السماء } ظاهر . وأهل السنة يتأولونه بوجوه منها : قول أبي مسلم أن العب كانوا يقرون بوجود الإله لكنهم يزعمون أنه في السماء فقيل لهم على حسب اعتقادهم { أأمنتم من } تزعمون أنه { في السماء } ومنها قول جمع من المفسرين أأمنتم من السماء ملكوته أو سلطانه أو قهره لأن العادة جارية بنزول البلاء من السماء . ومنها قول آخرين أن المراد جبرائيل يخسف بهم الأرض بأمر الله والمور حركة في اضطراب وقد مر في « الطور » .

والحاصل ريح فيها حصباء وقد مر أيضاً . ثم هدد وأوعد قائلاً { فستعلمون كيف نذير } قال عطاء والضحاك عن ابن عباس : هو المنذر يعني محمداً صلى الله عليه وسلم والمعنى فستعلمون رسولي وصدقه حين لا ينفعكم ذلك . وقيل : بمعنى الإنذار أي عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، ثم مثل بحال الأمم السابقة . قال أبو مسلم : النكير عقاب المنكر . وقال الواحدي : أراد إنكاري وتغييري . ثم برهن على الوحدانية وكمال القدرة بوجوه : الأول { أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات } أي باسطات أجنحتهن لأنهم إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً . قال أهل المعاني : وإنما قيل { ويقبضن } دون « قابضات » على نحو « صافات » لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في كل منهما مد الأطراف وبسطها ، والقبض طارىء على البسط لأجل الإعانة فالمعنى أنهن صافات ويكون منهن القبض في بعض الأوقات كما يكون من السابح . وإنما قال في « النحل » { ما يمسكهن إلا الله } [ الآية : 79 ] وفي هذه السورة { ما يمسكهن إلا الرحمن } لأن التسخير في جو السماء محض الآلهية ، وأما صافات وقابضات فكان إلهامها كيفية البسط والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن . { إنه بكل شيء بصير } فيعلم أو يرى كيف يدبر العجائب . قالوا وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه ، ثم إن الكفار كانوا يمتنعون من الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول وكان تعويلهم على أمرين : أحدهما القوة من جهة الإخوان والأعوان . والثاني الاستظهار بالأصنام والأوثان وكانوا يقولون إنها توصل إلينا جميع الخيرات وتدفع عنا كل الآفات ، فأبطل الله الأول بقوله { أمن هذا الذي } يعني من يشار إليه من المجموع ويقال هذا الذي { هو جند لكم } هو { ينصركم من دون الرحمن } إن أرسل عذابه عليكم { إن الكافرون إلا في غرور } من الشياطين يغرونهم أن العذاب لا ينزل بهم ولو أنزل دفعه أصنامهم وأبطل الثاني بقوله { أمن هذا الذي } يشار إليه هذا الذي { يرزقكم } بزعمكم { إن أمسك } الله { رزقه } بإمساك أسبابه من المطر وغيره هل يقدر على رزقكم { بل لجوا في عتو } وتباعد عن الحق { ونفور } عنه بالطبع والأول دليل فساد القوة العلمية ، والثاني إشارة إلى فساد القوة النظرية . ثم نبه على قبح هذين الوصفين قائلاً { أفمن يمشي مكباً } قال الواحدي « أكب » مطاوع « كب » . وأنكر عليه صاحب الكشاف بأن مطاوع « كب » هو « انكب » ومثله « قشعت الريح السحاب فانقشع » وأما الهمزة في « أكب » و « أقشع » فللصيرورة أي صار ذا كب وقشع ، أو دخل فيهما ولا شيء من بناء أفعل مطاوعاً ولا يخفى أن هذا نزاع لفظي ، أما المثل فقيل : هو في حق راكب التعاسيف وفي الذي يمشي على الصراط السوي وقيل : هو الأعمى والبصير أو العالم والجاهل .

وعن قتادة : الكافر أكب على معاصي الله فحشره يوم القيامة على وجهه ، والمؤمن كان على الدين الواضح فهداه الله للطريق السوي إلى الجنة . ومنهم من قال : هو في شخصين فقال مقاتل : أبو جهل والنبي صلى الله عليه وسلم وقال عطاء عن ابن عباس : أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب . وعن عكرمة : أبو جهل وعمار بن ياسر . والأصح التعميم وإن كان السبب خاصاً . البرهان الثاني ابتداء خلق الإنسان وتبيين جوارحه . وفي قوله { قليلاً ما تشكرون } إشارة إلى أنه أعطاهم هذه القوى الشريفة ولكنهم ضيعوها في غير ما خلقت لأجله . البرهان الثالث ذرء الناس ونشرهم { في الأرض } ثم أشار إلى المعاد بقوله { وإليه تحشرون } لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة وقد مر نظير الآيتين في سورة « المؤمنين » . وحين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار أنهم طالبوه بتعيين الوقت . قال أبو مسلم : المراد كانوا { يقولون متى هذا الوعد } يعني العذاب النازل بعاد وثمود وغيرهما لقوله بعد ذلك { فلما رأوه } ومن حمل اللفظ على المستقبل وفسر الوعد بالقيامة كان قوله { فلما رأوه } من قبيل { وسيق } [ الزمر : 72 ] وأجابهم الله بقوله { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } العلم بوقوعه حاصل عندي وكان كافياً الإنذار والتحذير ، وأما العلم بوقته فليس إلا لله ولا حجة في النذارة إلى ذلك . والضمير في { رأوه } للوعيد في الدنيا أو في الآخرة والزلفة القرب . قال الحسن : أراد عياناً لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة . وقال في الكشاف : انتصابها على الحال أو الظرف أي رأو ذا زلفة أو مكاناً ذا زلفة . قوله { سيئت } قال ابن عباس : اسودت وعلتها الكآبة والقترة كوجه من يقاد إلى القتل . وقال الزجاج : تبين فيها السوء وهذا الفعل يستعمل لازماً ومتعدياً بمعنى القبح أو التقبيح . قوله { وقيل هذا الذي } الأكثرون على أن القائلين هم الزبانية . وقال آخرون : بل يقول بعضهم لبعض . و { تدعون } تفعلون من الدعاء أي تتمنون وتستعجلون به ويؤيده قراءة من قرأ بالتخفيف . وقيل : هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وكنتم ببطلانه مدعين . وقيل : استفهام على سبل الإنكار والمعنى ، أهذا ما ادعيتموه لا بل كنتم بسببه تدعون عدمه . يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين . بالهلاك ويتربصون بهم الدوائر فأمر الله بنوعين من الجواب الأول . { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي } كما تتمنون فنقلب إلى الجنة { أو رحمنا } بالنصرة وإمهال المدة كما نرجو { فمن يجير الكافرين من عذاب } النار فنحن متربصون لإحدى الحسنيين وأنتم هالكون بالهلاك الذي لا هلاك بعده ، وإن أهلكنا الله بالموت فمن يخلصكم من النار بعد موت هداتكم؟ وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم فمن ينجيكم من العذاب فإن المقتول على أيدينا هالك؟ وإن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن له مسلمون فأي خلاص ومناص للكافرين؟ وإن رحمنا لأجل الإيمان فمن يرحم الكافرين ولا إيمان لهم؟ النوع الثاني في الجواب { قل هو الرحمن آمنا به } ولم نكفر كما كفرتم { وعليه } خاصة { توكلنا } لا على غيره ، وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال وإذا كانت حالنا هكذا فكيف يقبل الله دعاءكم علينا؟ ثم أشار إلى وجوب الاعتماد عليه في كل حاجة مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته فقال { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً } أي غائراً مصدر بمعنى الفاعل للمبالغة .

عن الكلبي : لا تناله الدلاء . والمعين الجاري على وجه الأرض وقد ذكرنا الخلاف في اشتقاقه في « الصافات » . يحكى أن بعض المتجبرين على الله قرئت الآية عنده فقال : تأتينا به الفؤس والمتكل فذهب ماء عينيه وهذا من الإعجاز . قال مؤلف الكتاب : وحكم القريحة كذلك فإن فتح باب العويصات لا يتيسر إلا بإعانة رب الأرض والسموات والله الموفق وإليه المآب وبالله التوفيق والنصر


ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

القراآت : { ن والقلم } مظهراً : يزيد وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وابن كثير ونافع وعاصم غير يحيى وحماد وغالب وهو الأصل للوقف . ووجه الإخفاء نية الوصل { آن كان } بهمزتين : حمزة وأبو بكر وحماد { آن كان } بقلب الثانية ألفاً ، ابن عامر ويزيد ويعقوب الباقون بهمزة واحدة { يبدلنا } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { لما تخيرون } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { ليزلقونك } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع الآخرون : بالضم من الإزلاق .
الوقوف : { يسطرون } ه ط لأن ما بعده جواب القسم { لمجنون } ه ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وعطفاً على جواب القسم { ممنون } ه ج لذلك { عظيم } ه { ويبصرون } ج لأن ما بعد مفعول { المفتون } ه { سبيله } ط لاتفاق الجملتين { بالمهتدين } ه { المكذبين } ه { فيدهنون } ه { مهين } ه لا { بنميم } ه لا { أثيم } ه لا { زنيم } ه ط لمن قرأ { أن كان } مستفهماً { وبنين } ه ومن قرأ مقصوراً يقف على البنين دون { زنيم } { الأولين } ه { الخرطوم } ه { الجنة } ط لاحتمال أن يكون « إذ » ظرفاً ليكون وأن يكون مفعول « أذكر » محذوفاً { مصبحين } ه لا لتعلق أن المفسرة { صارمين } ه { يتخافتون } ه لا { مسكين } ه { قادرين } ه { الضالون } ه لا لعطف « بل » واتحاد المفعول { محرومون } ه { تسبحون } ه { ظالمين } ه { يتلاومون } ه { طاغين } ه { راغبون } ه { العذاب } ط { أكبر } م { يعلمون } ه { النعيم } ه { كالمجرمين } ه ط { مالكم } ص وقفة لطيفة لاستفهام آخر { تحكمون } ه ج { تدرسون } ه ج لأن ما بعده مفعول { تدرسون } وإنما كسرت « أن » لدخول اللام في خبرها { تخيرون } ه لا لأن « أم » معادل الاستفهام أو بمعنى ألف الاستفهام { القيامة } لا لأن « أن » جواب الأيمان { تحكمون } ه { زعيم } ه لما مر في { تخيرون } { شركاء } ج للابتداء بأمر التعجيز مع الفاء { صادقين } ه { فلا يستطيعون } ه لا لأن ما بعده حال { ذلة } ط { سالمون } ه { بهذا الحديث } ط { لا يعلمون } ه ج للعطف { لهم } ط { متين } ه { مثقلون } ه { يكتبون } ه { الحوت } م بناء على أن « إذ » مفعول « اذكر { مكظوم } ه ط { مذموم } ه { الصالحين } ه { لمجنون } ه لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار { للعالمين } ه .
التفسير : الأقوال المشتركة في فواتح نحو هذه السورة مذكورة . أما المخصوصة بالمقام فعن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدى أن النون السمكة أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى ، أو بالحوت الذي احتبس يونس في بطنه ، أو بالحوت بالذي لطخ سهم نمرود بدمه ، اقوال . عن ابن عباس في رواية الضحاك والحسن وقتادة أن النون هو الدواة .

قال :
إذا ما الشوق برّح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم
فيكون قسماً بالدواة والقلم العظيم النفع فيهما فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة . وعن بعض الثقات أن أصحاب السجر يستخرجون من بعض الحيتان شيئاً أسود كالنقس أو أشد سواداً منه يكتبون منه فيكون النون . وهو الحوت عبارة عن الدواة ، ويعضده ما روي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال « أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهو الدواة ثم قال اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلم ينطق إلى يوم القيامة » وعن معاوية بن قرة مرفوعاً أن النون لوح من نور تكتب الملائكة فيه يأمرهم الله به . وقيل : نهر في الجنة . اعترض النحويون على هذه الأقوال كلها أن اللفظ إن كان جنساً لزم الجر والتنوين وكذا إن كان علماً منصرفاً ، وإن كان علماً غير منصرف لزم الفتح بتقدير حرف القسم ، وقيل : النون آخر حرف من حروف الرحمن فإنه يجتمع من الروحم ون هذا الإسم الخاص . أما القلم فالأكثرون على أنه جنس أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض وقال آخرون : هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن « أول ما خلق الله القلم » والجوهرة التي وردت في الحديث « أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السماء ومن الزبد الأرض » كلها واحدة ولعلك قد وقفت على تحقيق هذه المعاني في هذا الكتاب . و « ما » في قوله { وما يسطرون } موصولة أو مصدرية والضمير لكل من يسطر أو للحفظة . وقيل : أراد أصحاب القلم فحذف المضاف قال الزجاج : « أنت » اسم « ما » والخبر { بمجنون } وقوله { بنعمة ربك } كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بواسطة إنعام ربك عليك ، أو انتفى عنك الجنون متلبساً بنعمة الله كما لو قلت : أنت عاقل بحمد الله أي ثبت لك العقل حال كونك متلبساً بحمد الله ، أو أثبته لك حال كون التباسي بالحمد . وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وسائر الأخلاق الفاضلة . وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل ملكة وإذا كانت هذه النعمة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون وكلام العدى ضرب من الهذيان . { وإن لك } على احتمال أعباء النبوة ومشاق تبليغ الرسالة { لأجراً غير ممنون } قال الأكثرون : أي غير مقطوع كقوله { عطاء غير مجذوذ } [ هود : 108 ] وعن مجاهد ومقاتل والكلبي أنه غير مكدر عليك بسبب المنة .

وقالت المعتزلة : في تقرير هذا الوجه أن له ممنا لأنه ثواب يستوجبه على عمله وليس بتفضل ابتداء ، وضعف لأنه يلزم منه التكرار لأن الأجر عندهم شيء ينبىء عن كونه غير ممنون . الحاصل أنه لا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الخطب الجسيم وهو دعاء الخلق إلى الدين القويم فإن لك بسببه ثواباً عظيماً . { وإنك لعلى خلق عظيم } والخلق ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بمواتاة وسهولة ، فإذا وصفه مع ذلك بالعظم وهو كونه على الوجه الأجمل والنهج الأفضل لم يكن خلق أحسن منه . وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة نفي الجنون عنه ودلالة على تكذيب الحساد لأن المجنون لا خلق له يحمد أو عليه يعتمد ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من حسن الخلق المتشابه بحيث كان مجمع أخلاق سائر الأنبياء وكان يوجد فيه ما كان متفرقاً فيهم ، وإليه الإشارة بقوله { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] أي اقتد بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم وفي قوله { لعلى } إشارة إلى أنه مستول على أحسن الأخلاق الفاضلة لا يزعه عنها وازع . قال سعيد بن هشام : قلت لعائشة : أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان خلقه القرآن . وفي روياة : قرأت { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، وقال أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لمَ فعلته ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت ، ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم وهدد أعداءه بقوله { فستبصر } يا محمد ما قدر لك من عز الدارين { ويبصرون } في الدنيا بالقتل والسبي كما في بدر أو في الآخرة . قوله { بأيكم المفتون } قال الأخفش وأبو عبيدة وابن قتيبة : الباء صلة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون . وقال الفراء والمبرد والحسن والضحاك عن ابن عباس : المفتون مصدر بمعنى المجنون كالمعقول والمجلود . وقيل : الباء بمعنى « في » وعل هذا يجوز أن يكون الفتون بمعنى المجنون أي في أي الفريقين من يستحق هذا الاسم أو في أيهما الشيطان لأن الشيطان مفتون في دينه . وكانت العرب تزعم أنه من يخبله الجن فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون وإختلاط العقل ، وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما . ثم أحال كيفية الحال إلى كمال علمه فقال { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } أي بمن جن { وهو أعلم بالمهتدين } وهم العقلاء . والأظهر أن يراد الضلال في غوائلهم والاهتداء في الدين وفيه وعد ووعيد .

قال المفسرون : إن المشركين أرادوا من النبي أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة وهم يعبدون الله مدة وآلهتهم مدة فأنزل الله تعالى { فلا تطع المكذبين } وهو كالنتيجة لما تقدمه لأنه سبحانه حين وعده أنصار العز والرفعة في الدارين وأوعد أعداءه بضد ذلك وكان علمه شاملاً بحال الفريقين وجزائهما لم يبق لطاعة الأعداء وجه .
ثم ذكر تمنيهم فقال { ودوا لو تدهن } تلين وتصانع { فيدهنون } أي فهم يدهنون حينئذ لأن النفاق يجر النفاق أي ودوا ادهانك فهم الآين يدهنون طمعاً في ادهانك . قال المبرد : أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر . ثم حض النبي قائلاً { ولا تطع كل حلاف مهين } لأن من أكثر الحلف بالله ولم يعرف قدر المعبود بالحق أذله الله . وفيه إشارة إلى أن عزة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية ، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سر الربوبية . وأيضاً الحلاف يتفق له الكذب كثيراً والكذب حقير عند الناس . والهماز الذي يذكر الناس بالمكروه . وعن الحسن : يلوي شدقيه في أقفية الناس . { مشاء بنميم } أي لأجل سعاية . والنميم مصدر نم ينم { مناع للخير } أي للمال أو مناع أهل الخير وهو الإسلام فذكر الممنوع منه دون الممنوع فكأنه قال مناع من الخير { معتد } مجاوز في الظلم حده { أثيم } كثير الإثم { عتل } غليظ في الخلقة جاف في الخليقة . الزنيم الدعي ومعنى { بعد ذلك } التبعيد في الرتبة أي مع الأوصاف المعدودة له هذا الوصف الذي هو أشنعها لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث جميع أخلاق الولد . عن ابن عباس في رواية أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسراً وله عشر بنين يقول لهم : من أسلم منكم منعته رفدي وفي رواية أخرى ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده ويقال : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية . وقوله { أن كان } بهمزة واحدة تقديره لأن كان أي لا تطع صاحب هذه المثالب لكثرة ماله وولده ومن قرأ بهمزتين فمعناه ألأن كان { ذا مال } كذب فمتعلق الجار مدلول . قوله { إذا تتلى عليه آياتنا قال } وذلك أن قال لا يصلح أن يعمل فيه لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ولا قوله { يتلى } لأنه مضاف إليه . عن مجاهد أنه الأسود بن عبد يغوث وعن السدى : الأخنس بن شريق أصله في ثقيف وعداده في زهرة . وقيل : كان الوليد دعياً في قريش { سنسمه على الخرطوم } أي الأنف وفيه استخفاف به من جهة الوسم ومن جهة التعبير عن أنف الآدمي بالخرطوم الذي هو أنف الحيوانات المنكرة كالخنزير والفيل كما لو عبر عن شفاه الناس بالمشافر ، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر ، ثم الأنف أكرم موضع من الوجه ولهذا قيل : الجمال في الأنف وله التقدم ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا : في الذليل « جدع أنفه ورغم أنفه » والوسم في الأنف إهانة فوق إهانة .

ومتى هذا الوسم؟ منهم من قال في الدنيا فعن ابن عباس خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمته على خرطومه . وعن النضر بن شميل : الخرطوم الخمر أي سنسمه على شربها . وسمي الخمر خرطوماً كما قيل لها السلافة وهو ما سلف عن عصير العنب ، أو لأنها تطير في الخياشيم وتؤثر فيها . ومنها من قال في الآخرة نعلمه فعبر عن سواد الوجه كله بسواد الخرطوم . ومنهم من قال في الدارين أي سنشهره بهذه السمة وهي أنّه { حلاف } إلى { زنيم } فلا يخفى كما لا تخفى السمة على الخرطوم . ولا شك أن هذه الأوصاف الذميمة وتبعاتها بقيت في حق الوليد بن المغيرة في الدنيا والآخرة كالوسم على الأنف والوسم على الجبهة . ثم بين أنه إنما أعطى رؤساء مكة الآلاء ليواظبوا على شكر نعم الله وإلا صب عليهم بدل الآلاء البلاء ومكان السراء والضراء . وهذه صورة الابتلاء كما أنه كلف أصحاب الجنة ذات الثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم ، يروى أن واحداً من ثقيف وكان مسلماً كان ملك ضيعة فيها نخل وزروع بقرب صنعاء ، وكان يجعل منها نصيباً وافراً للفقراء ، فلما مات ورثها منه بنوه ثم قالوا : عيالنا كثير والمال قليل فلو فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا { ليصر منها } أي ليقطعن ثمر نخيلها في وقت الصباح { ولا يستثنون } أي لا يقولون « إن شاء الله » وأصله من الثني وهو الرد كأن الحالف يرد انعقاد اليمين بالثنيا . ولعلهم إنما لم يقولوا إن شاء الله لوثوقهم بالتمكن من صرامها . هذا قول الأكثرين . وزعم الآخرون أن المراد يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملته ذلك القدر الذي كان يدفع أبوهم إليهم { فطاف عيلها } عذاب { طائف من } حكم { ربك } أو بعض من عذاب ربك ، والطائف لا يكون إلا ليلاً . قال الكلبي : أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت { وهم نائمون فأصبحت } الجنة { كالصريم } « فعيل » بمعنى « فاعل » أو معنى « مفعول » والأول قول من قال إنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم ، أو سمي الليل صريما لأنه يصرم نور البصر فيقطعه أو لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ، وقيل : النهار يسمى أيضاً صريماً لأن كل واحد من الملوين ينصرم بالآخر فالصريم بمعنى الصارم . ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها أو لم يبق منها شيء من قولهم « صرم الإناء » إذا أفرغه . والثاني وهو الأولى قول من قال إنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمرة وإن كان أثر الاحتراق مغايراً لأثر الصوم .

وقال الحسن : أي صوم عنها الخير : وقيل : الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه للصرائم شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال وهي ما لا تنبت شيئاً ينتفع به . قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض { اغدوا على حرثكم } وعنوا بالحرث الزرع والثمار والأعناب ولذلك قالوا { صارمين } لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار وضمن الغدو معنى الإقبال فلهذا عدي بعلى أي أقبلوا على حرثكم باكرين ، أو عبر عن الغدو لأجل الصرم بالغدو عليه كما قال : غدا عليهم العدو { يتخافتون } يتسارون فيما بينهم والنهي عن الدخول للمسكين نهي لأصحاب الجنة عن تمكين المسكين منه كأنهم قالوا فيما بينهم لا تمكنوه من الدخول . قوله { وغدوا على حرد } هو المنع ومنه حاردت السنة إذا منعت خيرها ، وحاردت الإبل إذا منعت درها ، أي قادرين على منع المساكين لا غير يعني أنهم عزموا على حرمان المساكين مع كونهم قادرين على نفعهم . وغدوا بحال فقر وذهاب ثمر لا يقدرون فيها إلا على النكد والمنع . وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء فعورضوا بنقيض مقصودهم فتعجلوا الحرمان والمسكنة . ويجوز أن تكون المحاردة للجنة أي غدوا حاصلين على منع الجنة خيرها لا على إصابة النفع منها . ويجوز أن لا يكون قوله { على حرد } صلة { قادرين } ولكن الكل يعود إلى قوله { أن اغدوا على حرثكم } أي عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرج وقوله { قادرين } يكون من باب عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين . وقيل : الحرد بالتسكين والتحريك وهو الأكثر بمعنى الغضب أي لم يقدروا إلا على غضب بعضهم على بعض كقوله { يتلاومون } وقيل : الحرد القصد والسرعة قطا حراد أي سراع يعني وغدوا على حالة سرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم على صرامها ومنع خيرها من المساكين . وقيل : حرد علم للجنة بعينها والمعنى كما تقدم لأن قوله { إنا لضالون } يحتمل أن يراد الضلال عن الطريق كأنهم لما رأوا جنتهم محترقة سبق إلى ذهنهم أنها ليست هي وأنهم ضلوا الطريق ، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا { بل نحن محرومون } حرمنا خيرها لشؤم عزمنا على البخل ومنع المساكين . ويحتمل أن يراد الضلال عن الدين لأن منع حق الله نوع من الضلال . ومعنى بل أنهم اعتقدوا كونهم قادرين على الانتفاع به ومنع الغير منها فقالوا : بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين . { قال أوسطهم } أي أعدلهم وخيرهم كما مر في قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] .
{ ألم أقل لكم لولا تسبحون } قال الأكثرون : معنى التسبيح ههان الاستثناء لأنه تعالى وبخهم بقوله { ولا يستثنون } والاستثناء نوع من التنزيه لأنه لو دخل في الوجود شيء على خلاف مشيئته كان نقصاً في كمال القدرة .

وعن الحسن : هو الصلاة كأنهم يتكاسلون فيها وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر . وقال آخرون : إن أوسطهم كان يقول لهم عند عزمهم على منع حقوق الفقراء : لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من هذه العزيمة الخبيثة . لم يلتفتوا إلى قوله إلا بعد خراب الجنة قائلين { سبحان ربنا } عن أن يجري في ملكه شيء على خلاف مشيئته . قالت المعتزلة : سبحان الله عن الظلم وعن كل قبيح { إنا كنا ظالمين } بمنع المعروف وترك الاستثناء . ومعنى { يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً يقول واحد لغيره : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر : أنت خوفتنا بالفقر . ويقول الثالث : أنت الذي رغبتني في جمع المال . ثم قالوا جميعاً { يا ويلنا إنا كنا طاغين } اعترافاً بالذنب ثم قووا رجاءهم قائلين { عسى ربنا } الآية . سئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال : لقد كلفتني تعباً كأنه توقف في المسألة . وعن مجاهد : إن هذه كانت توبة منهم فأبدلوا خيراً منها . وعن ابن مسعود : بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً . ثم هدد المكلفين بقوله { كذلك العذاب } أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من القحط والقتل وبلونا أصحاب الجنة عذاب الدنيا { ولعذاب الآخرة } أشد وأعظم . ثم مزج وعيد الأشقياء بوعد السعداء قائلاً { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه منغص كجنان الدنيا . قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن الله فضلنا عليكم في فنفى الله معتقدهم بقوله { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } قال القاضي : فيه دليل واضح على أن وصفي المسلم والمجرم متنافيان فلا يكون الفاسق مسلماً . وأجيب بأنه تعالى لم ينف المماثلة من كل الوجوه لتماثلهما في الجوهرية والجسمية وسائر الأوصاف التي لا تكاد تحصر ، فإذن المراد نفي التسوية في أثري الإسلام والإجرام ولا نزاع في ذلك فإن أثر أحدهما وعد وأثر الآخر وعيد أو يكون ثواب المسلم غير المجرم أكثرمن ثواب المسلم المجرم على أن المجرم في الآية يحتمل أن يراد به الكافر الذي ضرب مثل أصحابه الجنة فيه وفي أمثاله نظير الآية { أم نجعل المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] وقد مر في « ص » . ثم قال لهم على طريقة الالتفات { ما لكم كيف تحكمون } هذا الحكم المعوج وتخير الشيء واختاره إذا أخذ خيره { أم لكم أيمان علينا } يقال لفلان علي يمين بكذا إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به . ومعنى { بالغة } مؤكدة مغلظة وقوله { إلى يوم القيامة } يجوز أن يتعلق ببالغة أي هذه الإيمان في قوتها وكمالها بحيث تنتهي إلى يوم القيامة لم تبطل منها يمين على أن يحصل المقسوم عليه وهو قوله { إن لكم لما تحكمون } ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أو لكل من يستأهل الخطاب { سلهم أيهم بذلك } الحكم { زعيم } أي كفيل بالإستدلال على صحته { أم لهم } ناس { شركاء } في هذا القول .

والمراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم ولا نقلي وهو كتاب يدرسون ولا عهد لهم به عند الله ولا زعيم لهم يقوم به ولا لهم من يوافقهم من العقلاء ، فدل ذلك على أنه باطل من كل الوجوه . قوله { يوم يكشف } قيل : منصوب بقوله { فليأتوا } أي إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم وتشفع لهم . وقيل : بإضمار « اذكر » وقيل : التقدير يوم يكشف { عن ساق } كان كيت وكيت . احتجت المشبهة على أن لله ساقاً وأيدوه بما يروى عن ابن مسعود مرفوعاً أنه يتمثل الحق يوم القيامة ثم يقول : هل تعرفون ربكم؟ فيقولون : إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف الرحمن عن ساقه ، فأما المؤمنون فيخرون سجداً ، وأما المنافقون فتكون ظهورهم كالطبق الواحد وذلك قوله { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } حال كونهم { خاشعة أبصارهم } يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم لم يكونوا مواظبين على خدمة مولاهم في حال السلامة ووجود الأصلاب والمفاصل على هيآتها المؤدية للركوع والسجود .
وقال أهل السنة : الدليل الدال على أنه تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحدوث وسمات الإمكان دل على أن الساق لم يرد بها الجارحة ، فأولوه أنه عبارة عن شدة الأمر وعظم الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن ومثله . « وقامت الحرب بنا على ساق » . ومعناه يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثمة ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح « يده مغلولة » ولا يد ثمة ولا غل وإنما هو مثل في البخل ، وهكذا في الحديث ومعناه يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله . قال في الكشاف : ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن . وإنما جاءت منكرة في التمثيل للدلالة على أنه أمر فظيع هائل : قلت : الإنصاف أن هذا لا يرد على المشبه فإن له أن يقول إنما نكر الساق لأجل التعظيم أي ساق لا يكتنه كنة عظمتها كما يقول غيره . وقال أبو سعيد الضرير : ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان ، فمعنى الآية يوم تظهر حقائق الأشياء ، وأصولها . وقيل : يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب . وقال أبو مسلم : هذا في الدنيا لأنه تعالى قال في وصف ذلك اليوم { ويدعون إلى السجود } ولا ريب أن يوم القيامة ليس فيه تعبد وتكليف فهو زمان العجز ، أو آخر أيام دنياه فإنه في وقت النزع ترى الناس يدعون إلى الصلاة بالجماعة إذا حضرت أوقاتها وهؤلاء لا يستطيعون الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها .

والتحقيق أن الذي ذكره محتمل إلا أن في تعليله ضعفاً فإنا نوافقه أن يوم القيامة ليس وقت تعبد وتكليف . ولكن لا مانع من الدعاء إلى السجود للتوبيخ والتفضيح على رؤس الأشهاد . وقال الجبائي : لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل على أنهم كانوا يستطيعون فيبطل هذا قول من قال لا قدرة له على الإيمان ، والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضاً غير حاصلة على قول الجبائي . والجواب الصحيح عندي أن عدم الاستطاعة في الدنيا لمانع آخر وهو أنه تعالى لم يرد منهم الإيمان وعلم منهم الكفر وقدر لهم ذلك ، وعدم الاستطاعة في الآخرة لمانع آخر له من السجود وهو لين المفاصل ومطاوعة الأعصاب وسلامة الفقر . ثم خوفهم بنوع آخر قائلاً { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قال : حسبي مجازياً لمن يكذب بالقرآن فلا تشغل قلبك بشأنه . وقوله { سنستدرجهم } إلى قوله { مبين } قد مر في آخر « الأعراف » . وقوله { أم تسألهم } إلى { يكتبون } قد مر في « الطور » . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السلام وقد تقدم مراراً . قال بعض العلماء : معنى قوله { كصاحب الحوت } أنه كان في ذلك الوقت مكظوماً أي مملوءاً من الغيظ فكأنه قيل : لا تكن مكظوماً أولا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة . وقال جمع من المفسرين : أن الآية نزلت بأحد حين حل بالمؤمنين ما حل فأراد أن يدعو على من انهزم . وقيل : نزلت حين أراد أن يدعو على ثقيف والنعمة التي تداركت يونس أي التحقت به وسدت خلته هي النبوة أو عبادته السابقة ، أو قوله في بطن الحوت « لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » ، وهذه النعمة التوبة بالحقيقة . وقد اعتمد في جواب لولا على الحال أعني قوله { وهو مذوم } والمعنى أن حاله كانت على خلاف الصبر حين نبذ بالعراء أي الفضاء كما مر في « الصافات » . لولا تسبيحه لكانت حاله على الذم . ويل : أراد لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة أي بعرصتها مذموماً { فاجتباه ربّه } بقبول التوبة { فجعله من الصالحين } أي من الأنبياء عن ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه . ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن حسد قومه وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبره وشجعه فقال { وإن يكاد } هي مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها .

زلقه وأزلقه بمعنى . يقال زلق الرأس وأزلقه أي حلقه . قال جار الله : يعني أنهم من شدة تخوفهم ونظرهم إليك سراً بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك من قولهم « نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني » أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله . ثم بين بقوله { لما سمعوا الذكر } أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن حسداً على ما أوتي من النبوة . { ويقولون إنه لمجنون } حيرة في أمره وتنفيراً عنه مع علمهم بأنه أعقلهم . ثم قال تعالى { وما هو } أي القرآن { إلا ذكر } وموعظة { للعالمين } وفيه استجهال أن يجنبن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف . واعلم أن للعقلاء خلافاً في أن الإصابة بالعين هل لها في الجملة حقيقة أم لا؟ وبتقدير كونها حقيقة فهل الآية مفسر بها أم لا؟ أما المقام الأول فقد شرحناه في أول « البقرة » في قوله { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } [ الآية : 102 ] وفي يوسف في قوله { يا بني لا تدخلوا من باب واحد } [ الآية : 67 ] والذي نقوله ههنا : فمنهم من أنكر ذلك بناء على أن تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة وهو ضعيف لأن النفوس والأمزجة له تأثيرات خاصة . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال « العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر » وأما المقام الثاني فقد قال بعض المفسرين : كانت العين في بني أسد ، وكان الرجل منهم يتجوع ويرتاض وثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا عانه . فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لم أر كاليوم رجلاً مثله . فعصمه الله تعالى . طعن الجبائي في هذا التأويل وقال : الإصابة بالعين مقرونة باستحسان الشيء ، والقوم كانوا يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم وأجيب بأنهم كانوا يبغضونه من حيث الدين إلا أنهم كانوا يستحسنون مصاحبته بإيراده الأعاجيب من الحجج والبيان وأنواع المعجزات . وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية وبالله التوفيق .


الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

القراآت : { وما أدراك } بالإمالة حيث كان : حمزة وخلف والخراز عن هبيرة ، وأبو عمرو والنجاري عن ورش ، وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { فهل ترى } كما في الملك { ومن قبله } بكسر القاف وفتح الباء : أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون : بفتح القاف وسكون الباء { وتعيها } بسكون العين تشبيهاً بخاء « فخذ » : القواس عن حمزة عن خلف وخلف لنفسه والهاشمي عن قنبل والخزاعي عن ابن فليح وأبو ربيعة عن أصحابه { فهي يومئذ } بالإدغام : شجاع أبو شعيب { لا يخفى } على التذكير : حمزة وعلي وخلف { كتابي } { وحسابي } بغير هاء السكت في الوصل : سهل ويعقوب { مالي } و { سلطاني } بدون الهاء في الوصل : حمزة وسهل ويعقوب { يؤمنون } و { يذكرون } على الغيبة : ابن كثير وسهل ويعقوب وابن عامر .
الوقوف : { الحاقة } ه لا لأن ما بعده خبرها { ما الحاقة } ه لا لاحتمال الواو بعده الحال والاسئناف { الحاقة } ه م { القارعة } ه { بالطاغية } ه ط { عاتية } ط { أيام } لا لأن { حسوماً } صفة الثمانية { صرعى } لا لأن ما بعده صفة { خاوية } ه ج للاستفهام مع الفاء { باقية } ط { بالخاطئة } ه { رابية } ه { الجارية } ه ج { واعية } ه { واحدة } ه لا { واحدة } ه ط { الواقعة } ه لا للعطف { واهية } ه لا لذلك { رجائها } ط لاختلاف النظم { ثمانية } ط { خافية } ه { كتابيه } ه ج { حسابيه } ه ج { راضية } ه لا { عالية } ه لا { دانية } ه { الخالية } ه { كتابيه } ه ج { حسابيه } ه ج { القاضية } ه ج { ماليه } ه كلها جائزات وتفصيلاً بين الندامات مع اتحاد المقولات { سلطانية } ه { فغلوه } ط للعطف { صلوه } ه لا لذلك { فاسلكوه } ه ط { العظيم } ه لا { المسكين } ه ط { حميم } ه لا { غسلين } ه لا { الخاطئون } ه { تبصرون } ه لا { وما لا تبصرون } ه لا { كريم } ه لا { شاعر } ط { تؤمنون } ه { كاهن } ط { تذكرون } ه أي هو تنزيل { العالمين } ه { باليمين } ه لا { الوتين } ه والوصل أجوز لدخول الفاء واتحاد الكلام { حاجزين } ه { للمتقين } ه { مكذبين } ه لا { الكافرين } ه { اليقين } ه { العظيم } ه .
التفسير : { الحاقة } وهي القيامة بالاتفاق إلا أنهم اختلفوا في سبب التسمية فقال أبو مسلم : هي الفاعلة من حقت كلمة ربك أي الساعة واجبة الوقوع لا ريب في مجيئها ، وقريب منه قول الليث أنها النازلة التي حقت فلا كاذبة لها . وقيل : إنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته ، جعل الفعل لها وهو لأهلها ، وقيل : هي التي يوجد فيها حواق الأمور وهي الواجبة الحصول من الثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة . وهذا الوجه والذي تقدمه يشتركان في الإسناد المجازي إلا أن الفاعل في الأول بمعنى المفعول والثاني على أصله ، وقريب منه قول الزجاج أنها تحق أي يكون فيها جميع آثار أعمال المكلفين ويخرج عن حد الانتظار .

قال الأزهري : سميت بذلك أنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل أي تخاصم كل مخاصم وتغلبه . وأورد في التفسير الكبير وجوهاً أخر إلى تمام العشرة فهي في التحقيق مكررة فلذلك حذفناها . قوله { ما الحاقة } مبتدأ وخبره والمجموع خبر الحاقة . والأصل ما هي يعني وأي شيء هي؟ وفي هذا الاستفهام تعظيم وتفخيم لشأنها ، وفي وضع الظاهر موضع المضمر تهويل فوق تهويل وفي قوله { وما أدراك ما الحاقة } مبالغة أخرى والمعنى أي شيء أعلمك ما الحاقة؟ وفيه أن مدى عظمها بحيث لا يبلغه وصف واصف ولا نعت مخبر . قال جار الله : ما يعني في ما الحاقة الثانية في موضع الرفع على الابتداء . { وأدراك } معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام . قلت : ولولا ذلك لنصب الجزأين على أنهما مفعول ثان وثالث كقولك « أعلمتك زيداً فاضلاً » . وحين ذكر الحاقة على أبلغ وجوه التعظيم أتبعها ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تخويفاً لأهل مكة فقال { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } والأصل بها أي بالحاقة إلا أنه وضع القارعة موضع الضمير ليدل بذلك على معنى الروع في الحاقة زيادة في وصف شدتها . ولا ريب أنها تفزع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق ، والأرض بالدك ، والنجوم بالطمس إلى غير ذلك . وكانت عادة القرآن جارية بتقديم قصة عاد على ثمود إلا أنه قلب ههنا لأن قصة ثمود بنيت على غاية الاختصار ومن عادتهم تقديم ما هو أخصر . قوله { بالطاغية } أي بالواقعة المجاوزة للحد وهي الرجفة أو الصاعقة أو الصحية ، وقيل : الطاغية مصدر أي بسبب طغيانهم . واعترض بأنه لا يطابق قصة عاد فأهلكوا بريح . ويمكن أن يجاب بأن السبب الفاعلي والسبب الآلي كلاهما يشتركان في مطلق السببية ، وهذا القدر من المناسبة كافٍ في الطباق وعلى هذا القول يحتمل أن تكون الطاغية صفة موصوف أي بشؤم الفرقة الطاغية التي تواطأت على عقر الناقة . ويجوز أن يراد بها عاقر الناقة وحده والتاء للمبالغة . الصرصر الشديد الصوت أو الكثير سميت عاتية بشدة عصوفها . قال جار الله : العتو استعارة قلت : لأنه مستعمل في مجاوزة الإنسان حد الطاعة والانقياد . قال عطاء عن ابن عباس : يريد أن الريح عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببيت واستناد إلى جبل ، فإنها كانت تزعجهم من مكانهم . قال الكلبي : عتت على خزانها كما جاء في الحديث « ما أرسل الله من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم نوح ويوم عاد ، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان والريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل »

وقيل : العاتية من عتا النبت أي بلغ منتهاه وجف قال تعالى { وقد بلغت من الكبر عتياً } [ مريم : 8 ] أي ريح بالغة منتهاها في الشدة والقوة { سخرها } أي سلطها بدليل { عليهم } وقال الزجاج : أقامها وقيل : أرسلها . قوله { حسوماً } جمع حاسم كشهود جمع شاهد . والتركيب يدور على القطع والاستئصال ومنه الحسام لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ أمله ، وذلك أن تلك الريح حسمت كل خير واستأصلت كل بركة . وقيل : إنها تتابعت من غير فتور ولا انقطاع حتى أتت عليهم ، فمثل تتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء مرة بعد أخرى إلى أن ينحسم . ويجوز أن يكون { حسوماً } مصدراً كالدخول والخروج وعلى هذا انتصب بفعل مضمر أي يستأصل استئصالاً ، أو يكون وصفاً بالمصدر أي ذات حسوم ، أو مفعولاً له ، وقيل : هي أيام العجوز وذلك أن عجوزاً من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها . والصحيح أنها أيام العجز وهي آخر الشتاء وأساميها . الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر . وقيل : ومكفىء الظعن . والضمير في { فيها } للجهات أو الليالي والأيام الخاوية الساقطة . وقيل : الخاوية لأن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم ، وعلى هذا يحتمل أن تكون الخاوية بمعنى البالية لأن النخل إذا بليت خلت أجوافها والباقية مصدر . وقيل : من نفس باقية : قال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله ، فلما كان اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذلك قوله { فهل ترى لهم من باقية } وقوله { فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم } [ الأحقاف : 25 ] ومن قرأ { ومن قبله } بالفتح والسكون فظاهر أي ومن تقدمه من رؤساء الكفر والضلال كنمرود ونحوه . ومن قرأ بالسكر والفتح أراد ومن عنده من أتباعه وجنوده . والخاطئة مصدر أي بالخطأ أو صفة أي بالفعلة أو الأفعال ذوات الخطأ العظيم { رابية } من ربا الشيء يربو إذا زاد أي زائدة في الشدة كما كانت فعلاتهم زائدة في القبح . وقيل : معنى الزيادة اتصال عذابهم في الدنيا بعذاب الآخرة . { أغرقوا فأدخلوا ناراً } . ولاريب أن عذاب الآخرة أشد وكان عقابهم ينمو ويزيد إلى حد ليس فوقه عذاب . قال الوحدي : الوجه في قوله { رسول ربهم } أن يكون رسول الأمم الماضية كلهم أعني موسى ولوطاً وغيرهما من رسل من تقدم فرعون كقوله { أنا رسول رب العالمين } [ الشعراء : 16 ] ولو جعل عبارة عن موسى عليه السلام لزم التخصيص من غير مخصص . ثم ذكر قصة بعض من تقدم فرعون فقال { إنا لما طغى الماء } وطغيان الماء كعتو الريح وقد سبق في عدة سور . ومعنى { حملناكم } حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم { في الجارية } في السفينة وهي سفينة نوح { لنجعلها } قال الفراء : أي الجارية لأنها المذكور .

والأظهر عودة إلى الواقعة والحالة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين فإنها هي التذكرة والعبرة ولقوله { وتعيها أذن واعية } من شأنها حفظ كل ما تسمع لتعمل به . قال أهل اللغة : كل ما حفظته في نفسك فقد وعيته وما تعيه في غير نفسك فقد أوعيته . يقال : أوعيت المتاع في البيت .
والشر أخبث ما أوعيت من زاد ... قال جار الله : إنما قيل { أذن واعية } على التوحيد والتنكير للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، للدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت فهي عند الله بمكان وما سواها لا يلتفت إليه وإن ملأ العالم . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه عند نزول هذه الآية : سألت الله يجعلها أذنك يا علي . قال علي رضي الله عنه : فما نسيت شيئاً بعد ذلك وما كان لي أن أنسى . وحين فرغ من بيان القدرة والحكمة عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث الحاقة ، والنفخة الواحدة عن ابن عباس أنها الأولى التي عندها خراب العالم ، وفي رواية عنه أنها الثانية لقوله بعد ذلك { يومئذ تعرضون } والعرض عند الثانية . ولناصر الرواية الأولى أن يقول : اليوم اسم للحين الواسع الذي يقع فيه النفخات والصعقة والنشور والوقوف والحساب كما تقول « جئته عام كذا » وإنما جئت في وقت واحد من أوقاتها . قوله { واحدة } صفة مؤكدة قوله { وحملت } أي رفعت من جهاتها بريح شديدة أو بملك أو بقدرة الله من غير واسطة . والضمير في { دكتا } لجماعتي الأرض والجبال والمراد أن هاتين الجملتين يضرب بعضها ببعض حتى يندك ويرجع كثيباً مهيلاً منثوراً . والدك أبلغ من الدق . وقيل : فبسطتا بسطة واحدة فصارتا قاعاً صفصفاً من قولك « اندك السنام » إذا انقرش « وبعير أدك » « وناقة دكاء » قوله { فيومئذ } جواب { فإذا نفخ } والواقعة النازلة وهي القيامة { واهية } مسترخية بعد أن كانت مستمسكة { والملك } جنس ولهذا كان أعم من الملائكة لشموله الواحد والاثنين دونها . والأرجاء الجوانب جمع رجا مقصوراً . والمعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء .
سؤال : الملائكة يموتون في الصعقة الأولى فكيف يقفون على أرجاء السماء؟ الجواب أنهم يقفون لحظة ثم يموتون أو هم المستثنون بقوله إلا ما شاء الله ، والضمير في { فوقهم } عائد إلى الملك على المعنى لأن التقدير الخلق الذي يقال له الملك ، والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش ، وقال مقاتل : الضمير للحملة أي فوق رؤسهم والإضمار قبل الذكر جائز لأنه بعده حكماً كقوله « في بيته يؤتى الحكم » وعن الحسن : لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف . وعن الضحاك : ثمانية صفوف ولا يعلم عددهم إلا الله .

قال المفسرون : الحمل على الأشخاص أولى لأن هذا أقل ما يصدق اللفظ عليه والزائد لا دليل له ، وكيف لا والمقام مقام تهويل وتعظيم؟ فلو كان المراد ثمانية آلاف لوجب ذكره ليزداد التعظيم والتهويل ويؤيده ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى » وروي « ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤسهم وهم مطرقون يسبحون » وقيل : بعضهم على صورة الإنسان ، وبعضهم على صورة الأسد ، وبعضهم على صورة الثور ، وبعضهم على صورة النسر ، وروي « ثمانية أملاك في خلق الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً » وعن شهر بن حوشب : أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك . ولولا هذه الروايات لجاز أن يكون الثمانية من الروح أو من خلق آخر . قالت المشبهة : لو لم يكن الله على العرش لم يكن لحمله فائدة وأكدوا شبهتهم بقوله { يومئذ تعرضون } للمحاسبة والمساءلة فلو لم يكن الإله حاضراً لم يكن للعرض معنى . وأجيب بأن الدليل على أن حمل الإله محال ثابت فلا بد من التأويل وهو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه فخلق نفسه بيتاً يزورونه ليس ليسكن فيه ، وجعل في ذلك البيت حجراً هو يمينه في الأرض إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العباد حفظة لا لأن النسيان يجوز عليه بل لأنه المتعارف . فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله أن يجلس لهم على سرير ويقف الأعوان حواليه صور الله تعالى تلك الصورة المهيبة لا لأنّه يقعد على السرير . روي أن في القيامة ثلاث عرضات . فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب . قوله { لا تخفى منكم خافية } أي تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلاً وقيل : أراد لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفياً في الدنيا على غير الله وذلك ليتكامل سرور المؤمنين ويعظم توبيخ المذنبين . ثم أخذ في تفصيل عرض الكتب . « وهاء » صوت بصوت به فيفهم منه « خذ » وله لغات واستعمالات مذكورة في اللغة منها ما ورد به الكتاب الكريم وهو « هاء » مثل باع للواحد المذكور « وهاؤما » بضم الهمزة وإلحاق الميم بعدها ألف للتثنية { هاؤم } بضم الهمة بعده ميم ساكنة لجمع المذكر . « هاء » بالكسر للمؤنثة « هاؤن » لجمعها { كتابيه } مفعول { هاؤم } عند الكوفيين و { اقرؤا } عند البصريين لأنه أقرب أصله هاؤم كتابي اقرأوا كتابي فحذف لدلالة الثاني عليه . قال البصريون : ولو كان العامل الأول لقيل اقرأه إذ المختار إضمار المفعول ليكون دليلاً على المحذوف .

وأجاب الكوفيون بأن الظاهر قد أغنى عن الضمير كما في قوله { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] والهاء في { كتابيه } وغيره هاء السكت ومن ههنا تثبت في الوقف وتسقط في الوصل لكنه استحب التلفظ بها في الوصل عند جماعة اتباعاً لوجودها في المصحف ، وإنما قال { من أوتي كتابه } { هاؤم اقرؤا كتابيه } ابتهاجاً وفرحاً . وقيل : يقول ذلك لأهل بيته وقرابته .
وفي قوله { إني ظننت } وجوه كما مر في قوله { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } [ البقرة : 46 ] ومما يختص بالمقام قول بعضهم أنه أراد الن في الدنيا لأن أهل الدنيا لا يوقنون بنيل الدرجات ، وفي هذا الوجه نظر لأنهم كانوا غير قاطعين بالجنة إلا أنهم يجب أن يقطعوا بالحساب الجزاء . وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال « إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى بكتابه فتكتب حسناته في ظهر كفه وتكتب سيئاته في بطن فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له : اقلب كفك فيرى حسناته فيفرح ثم يقول { هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت } » عند النظر الأولى { أني ملاق حسابيه } على سبيل الشدة ، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم ، وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا . ثم بين عاقبة أمره قائلاً { فهو في عيشة } فعلة من العيش للنوع { راضية } منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل للمنسوب إلى الدرع والنبل ، وهذا من النسبة بالصيغة كما أن قولك « بصري » أو « هاشمي » من النسبة بالحروف ، ويجوز أن يكون من الإسناد المجازي كقولك « نهاره صائم » جعل الصوم للنهار وهو لصاحبه كذلك ههنا جعل الرضا للعيشة وهو لصاحبها { في جنة عالية } درجاتها لأنها فوق السموات على تفاوت الطبقات أو في جنة رفعية المباني والقصور والأشجار { قطوفها دانية } ثمارها قريبة التناول . والقطوف جمع قطف بالكسر وهو المقطوف كالطحن بمعنى المطحون . يروى أن ثمارها يقرب تناولها للقائم والجالس والمضطجع وإن أحب أن تدنو دنت { كلوا } على إرادة القول و { هنيئاً } مصدر أو صفة كما مر في « الطور » جمع الخطاب في { كلوا } مع أنه وحد الضمير في قوله { أوتي } وغيره حملاً على لفظ من ثم على معناه . والغرض من هذا الأمر التوقير والعرض لا التكليف . ومن قال بالإباحة ليس بتكليف فلا إشكال . وقوله { بما أسلفتم } كقوله في « الطور » { بما كنتم تعملون } [ الآية : 19 ] والإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالافتراض ومنه يقال « أسلف في كذا » إذا قدم فيه ماله . والمعنى بسبب ما عملتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية . وعن مجاهد والكلبي : هي أيام الصيام فيكون الأكل والشرب في الجنة بدل الإمساك عنهما في الدنيا . ثم أخذ في قصة الأشقياء .

وإنما تمنى أنه لم يدر أي شيء حسابه لأنه عليه لا يعود منه إليه سوى الضر . والضمير في { يا ليتها } عائد إلى الموتة الأولى يدل عليها سياق الكلام . ولعل في قوله { ولم أدر } إشارة إليها لأنها حالة العدم المستلزمة لعدم الإدراك أي الموتة التي متها يا ليتها { كانت القاضية } لأمري أو للحياة فلم أبعث بعدها . وقيل : هاء الضمير للحال أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليّ . قال القفال : تمنى الموت حين رأى من الخجل وسوى المنقلب ما هو أشد وأشنع من الموت . قوله { ما أغني } نفي . ويجوز أن يكون استفهاماً على سبيل الإنكار ومعناه أي شيء أغنى { عني } ما كان لي من اليسار فإنه لم يبق منه إلا الوبال { هلك عني } تسلطي على الناس وزال عني ما كنت أتصوره حجة وبرهاناً . قال ابن عباس : ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا . وقال مقاتل : إنما يقول هذا حين شهدت عليه الجوارح بالشرك . يحكى عن عضد الدولة أنه قال قصيدة مطلعها هذا البيت :
ليس شرب الكاس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها
ملك الأملاك غلاب القدر ... يروى بضم القاف جمع القدرة وبفتحها وهو ما قدر الله على عباده وقضى . ولا ريب أن المصراع الأخير فيه سوء الأدب والجراءة على الله من وجهين : أحدهما أنه سمى نفسه ملك الأملاك ولا يصلح هذا الاسم إلا لله سبحانه ولهذا جاء في الحديث « أفظع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الأملاك » ويقال لها بالفارسية شاهنشاه والثاني أنه زعم الغلبة على القدر وهذا أيضاً من أوصاف الله جل وعلا لا يصلح لغيره . وإن زعم أنه قال ذلك بالنسبة إلى ملوك دونه فذلك قيد لا يدل عليه الإطلاق فسوء الأدب باقٍ فمن ههنا روي أن الله تعالى ابتلاه عقيب ذلك بالجهل وفساد الذهن وخور القوى ، وكان لا ينطلق لسانه إلا بتلاوة { ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه } { خذوه } على إرادة القول أي يقال لهم خذوه أيها الخزنة يروى أنهم مائة ألف ملك تجمع يده إلى عنقه . والتصلية في الجحيم وفي النار العظمى ، إشارة إلى أنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . والسلسلة حق منتظمة كل حلقة منها في حلقة . وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل . والذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد .
وقوله { سبعون ذراعاً } يجوز أن يكون محمولاً على الظاهر وأن يراد المبالغة على عادة العرب . وتقديم الجحيم على التصلية والسلسلة على السلك للحصر أي لا تصلوه إلا في الجحيم ولا تسلكوه إلا في هذه السلسلة الطويلة لأنها إذا طالت كانت الكلفة أشد .

قالوا : كل ذراع سبعون باعاً أبعد مما بين مكة والكوفة . قال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هو قال ابن عباس : تدخل السلسة في دبره وتخرج من حلقه ثم يجمع بين ناصيته وقدميه قال الكلبي : كما يسلك الخيط في اللؤلؤ يجعل في عنقه سلوكها . عن بعضهم أن جمعاً من الكفار يقرن في هذه السلسلة الطويلة ليكون العذاب عليهم أشد وإنما لم يقل فاسلكوا السلسلة فيه لأنه أراد أن السلسلة تكون ملتفة على جسده بحيث لا يقدر على حركة . وقيل : هو كقولهم « أدخلت القلنسوة في رأسي » او « الخاتم في أصبعي » . ومعنى « ثم » التراخي في الرتبة . ثم ذكر سبب هذا الوعيد الشديد وهو عدم الإيمان بالله العظيم وعدم بذل المال للمساكين ولعل الأول إشارة إلى فساد القوة النظرية ، والثاني إلى فساد القوة العملية . قال جار الله : وعطف حرمان المساكين على الكفر تغليظ ، وفي ذكر الحض دون الفعل تغليظ دون تغليظ ليعلم أن ترك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل؟ وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلا نخلع نصفها الآخر إلا بالإطعام . والطعام اسم بمعنى الإطعام كالعطاء اسم بمعنى الإعطاء . وفي الآية دلالة على أن الكفار مخطابون بالفروع . والحميم القريب النافع وقوله { ههنا } إشارة إلى مكان عذابهم أو إلى مقام الوصول إلى هذا الحد من العذاب . يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين فقال : لا أدري . وقال الكلبي : هو ما يسال من أهل النار . فغسلين من الغسالة والطعام ما يهيأ للأكل . ويجوز أن يكون إطلاق الطعام عليه من باب التهكم أو مثل عقابك السيف . قال ابن عباس : الخاطئون في الآية هم المشركون . ثم عظم شأن القرآن بالإقسام بكل الأشياء لأنها إما مصبر أو غير مبصر . وقيل : الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة . والأكثرون على أن الرسول الكريم ههنا هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن ، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالعشر والكهانة وإنما يصفون محمداً صلى الله عليه وسلم وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه السلام لأن الأوصاف التي بعده تناسبه كما يجيء . وفي ذكر الرسول إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه وإنما هو قول المؤدي عن الله بطريق الرسالة ، وهكذا لو كان المراد جبرائيل . وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعاً في أغراض الدنيا الخسيسة . وأيضاً من كرمه أنه أتى بأفضل أنواع المزايا والعطايا وهو المعرفة والإرشاد والهداية . وإنما قال عند نفي الشعر عنه { قليلاً ما تؤمنون } وعند نفي الكهانة { قليلاً ما تذكرون } لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس .

أما من حيث اللفظ فظاهر لأن الشعر كلام موزون مقفى وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد ، وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق البراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند . وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف . على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها . وأيضاً في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم والكهان إخوان الشياطين فكيف رضوا بإظهار قبائحهم . ثم صرح بالمقصود فقال { تنزيل من رب العالمين } أي هو تنزيل ثم بين أن المفتري لا يفلح وإن فرض أنه نبي فقال { ولو تقول } وهو تكلف القول من غير أن يكون له حقيقة و { الأقاويل } جمع أقوال . وقال جار الله : في اللفظ تصغير وتحقير كالأعاجيب والأضاحيك كأنه جمع « أفعولة » من القول . ومعنى الآية لو نسب إلينا قولاً لم نقله لقتلناه أشنع قتل وهو أن يؤخذ بيمينه وتضرب رقبته وهو ينظر إلى السيف ، وهذه فائدة تخصيص اليمين لأن القتال إذا أخذ بيسار المقتول وقع الضرب في قفاه . ومعنى { لأخذنا منه باليمين } لأخذنا بيمينه ، وكذا قوله { لقطعنا منه الوتين } لقطعنا وتينه وهذا تفسير منقول عن الحسن البصري . والوتين العرق المتصل من القلب بالرأس فإذا انقطع مات الحيوان : قال ابن قتيبة : لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه كما يفعل الملوك فكان كمن أخذ بيمينه فقطع وتينه ونظيره « ما زالت أكلة خبير تعاودني ، فهذا أوان اقطع أبهري » . والأبهر عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال : هذا أوان يقتلني السم . وعن الفراء والمبرد والزجاج أن اليمين القوة وقوة كل شيء في ميامنه والباء زائدة ومعنى الأخذ السلب أي سلبنا عنه القدرة على التكلم بذلك القول وهذا كالواجب في حكمة الله تعالى كيلا يشتبه الصادق بالكاذب وقال مقاتل : اليمين الحق كقوله { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } [ الصافات : 28 ] أي من قبل الحق . والمعنى منعناه بواسطة إقامة الحجة وقضينا له من يعارضه فيه فيظهر للناس كذبه { فما منكم من أحد عنه } أي عن الرسول أو عن القتل ، والخطاب للناس وأحد في معنى الجمع لأنه في سياق النفي فلذلك قال { حاجزين } أي مانعين . وحين بين أن القرآن تنزيل من عند الله بواسطة جبرائيل على محمد الذي صفته أنه ليس بشاعر ولا كذاب ، بين أن القرآن ما هو وإلى أي صنف يعود نفعه فقال { وإنه لتذكرة للمتقين } ثم أوعد على التكذيب . قائلاً { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } ثم بين أن تكذيب القرآن سبب حسرة الكافرين في القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين ، لأن القرآن حق اليقين أي حق يقين لا ريب فيه ، فأضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد كقوله « هو حق العالم » . ثم أمر بالتسبيح شكراً له على الإيحاء إليه ، أو على أن عصمه من الافتراء عليه .


سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

القراآت : { سأل } بغير همز مثل باع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة على التذكير : علي { ولا يسأل } بضم الياء : البزي من طريق الهاشمي والبرجمي { يومئذ } بالفتح على البناء : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعباس وعلي والشموني والبرجمي { توويه } بغير همز : يزيد والأعشى وحمزة في الوقف { نزاعة } بالنصب : حفص والمفضل { يخرجون } من الإخراج : الأعشى وحمزة في الوقف { إلى نصب } بضمتين : ابن عامر وسهل وحفص { نصب } بالضم فالسكون : المفضل الباقون : بالفتح والسكون .
الوقوف : { واقع } ه لا { دافع } ه لا { المعارج } ه لا { سنة } ج { جميلاً } ه { بعيداً } ه لا { قريباً } ه ط { كالمهل } ه لا { كالعهن } ه لا { حميماً } ه ج لأن ما بعده منقطع عنه مستأنف ولكن أصلحوا الوقف على { يبصرونهم } { ببنيه } ه لا { وأخيه } ه { تؤويه } ه لا { جميعاً } ه لا للعطف { ينجيه } ه لا { كلا } ط { لظى } ه ج لأن من قرأ { نزاعة } بالرفع جاز أن يكون بدلاً أو خبر { لظى } والضمير في { أنها } للقصة أو خبر مبتدأ محذوف . ومن نصب فعلى الحال المؤكدة أو على الإختصاص . { للشوى } ه ص لأن { يدعو } يصلح مستأنفاً وبدلاً من { نزاعة } { وتولى } ه لا { فأوعى } ه { هلوعاً } ه لا { جزوعاً } ه لا { منوعاً } ه لا { المصلين } ه لا { دائمون } ه لا { معلوم } ه لا { والمحروم } ه ص { الدين } ه { مشفقون } ه ج { مأمون } ه { حافظون } ه لا { ملومين } ه ج { العادون } ه ج { راعون } ه لا { قائمون } ه ك { يحافظون } ه لا { مكرمون } ه ط لانقطاع المعنى { مهطعين } ه لا { عزين } ه { نعيم } ه { كلا } ط { يعلمون } ه { لقادرون } ه ج { منهم } ج بناء على أن الواو للحال { بمسبوقين } ه { يوعدون } ه لأن ما بعد بء دل { يوقضون } ه ج لأن ما بعد حال من الضمير { ذلة } ط { يوعدون } ه .
التفسير : من قرأ { سأل } بالهمزة ففيه وجهان : الأول عن ابن عباس أن النضر بن الحرث قال { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة } [ الأنفال : 32 ] الآية فأنزل الله تعالى { سأل سائل } أي دعا داع ولهذا عدي بالباء . يقال : دعاه بكذا إذا استدعاه وطلبه . وقال ابن الأنباري : الباء للتأكيد والتقدير : سأل سائل عذاباً لا دافع له البتة . إما في الآخرة وإما في الدنيا كيوم بدر . الثاني قال الحسن وقتادة : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل بعذاب الكافرين ، أو سأل عن عذاب . والباء بمعنى « عن » . قال ابن الأنباري : أو عنى واهتم بعذاب أنه على من ينزل وبمن يقع ، فبين الله تعالى أن هذا واقع بهم فلا دافع له .

والذي يدل على صحة هذا الوجه قوله في آخر الآية { فاصبر صبراً جميلاً } ومن قرأ بغير همز فله وجهان أيضاً : الأول أنه مخفف « سأل » وهي لغة قريش والمعاني كما مرت ، والآخر أن يكون من السيلان ويعضده قراءة ابن عباس « سال سيل » وهو مصدر في معنى سائل كالفوز بمعنى الفائز . والمعنى اندفع وأدى عذاب فذهب بهم وأهلكهم أما { سائل } فلا يجوز فيه إلا الهمز وفاقاً لأنه إن كان من سأل المهموز فظاهر ، وإن كان من غير المهموز انقلبت الياء همزة كما في بائع . وقوله { للكافرين } صفة أخرى للعذاب أي بعذاب واقع ، لا محالة كائن للكافرين ، أو متعلق بواقع أي نازل لأجلهم ، أو كلام مستأنف جواب للسائل الذي سأل : إن العذاب على من ينزل أي هو للكافرين . والظاهر أن قوله { من الله } يتعلق { بدافع } أي لا دافع له من جهة الله لأنه قضاء مبرم . وجوز أن يتصل بواقع أي نازل من عند { ذي المعارج } المصاعد . روى الكلبي عن ابن عباس أنها السموات لأن الملائكة يعرجون فيها . وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم بحسب الأرواح ومراتب الاستحقاق والاستعداد . وقيل : هي الجنة لأنها درجات . وقال في التفسير الكبير . وهي مراتب أرواح الملكية المختلفة بالشدة والضعف وبسببها يصل آثار فيض الله إلى العالم السفلي عادة ، أو غير عادة فتلك الأرواح كالمصاعد لمراتب الحاجات التي ترفع إليها ، كالمنازل لآثار الرحمة من ذلك العالم إلينا . قوله { تعرج الملائكة والروح } وفي مواضع أخرى يوم يقوم الروح والملائكة . قيل : إن الروح أعظم الملائكة قدراً وهو أول في درجة نزول الأنوار من جلال الله ، ومنه تتشعب إلى أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح . وبين الطرفين معارج مراتب أرواح الملائكة ومدارج منازل الأنوار القدسية ولا يعلم تفصيلها إلا الله . وأما المتكلمون فالجمهور منهم قالوا : إن الروح هو جبريل عليه السلام . ولا استدلال لأهل التشبيه في لفظ { المعارج } فإنا بينا أنها المراتب . قووله { إليه } إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العز والكرامة . والأكثرون على أن قوله { في يوم } من صلة { تعرج } . أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم وهو يوم القيامة . قال الحسن : يعني من موقفهم للحساب إلى حين يقضي بين العباد خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ثم بعد ذلك يستقر أهل الجنة في الجنة إلى آخر الآية . والأصح أن هذا الطول إنما يكون للكافر لما « روي عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسوله صلى الله عليه وسلم : ما أطول هذا اليوم؟ فقال : والذي نفسي بيه إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة في الدنيا » ومنهم من قال : إن ذلك الموقف وإن طال فقد يكون سبباً لمزيد السرور والراحة للمؤمن

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...