Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

 ج27وج28.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج27وج28.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

{ المكرمين } 5 { منزلين } 5 { خامدون } 5 { العباد } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً والعامل معنى في حسرة { يستهزؤن } 5 { لا يرجعون } 5 { محضرون } 5 { يأكلون } 5 { العيون } 5 لا { ثمر } 5 ط لمن جعل « ما » نافية ومن جعلها موصولة لم يقف { ايديهم } ط { يشكرون } 5 { لا يعلمون } 5 { مظلمون } 5 ط { لها } ط { العليم } 5 لا لمن قرأ { والقمر } بالرفع بالعطف على { الليل } ، ومن قرأ بالنصب وقف مطلقاً { القديم } 5 { النهار } ط { يسبحون } 5 { المشحون } 5 لا { يركبون } 5 { ينقذون } 5 لا { حين } 5 .
التفسير : الكلام الكلي في فواتح السور قد مر في أوّل البقرة وغيرها والذي يختص بالمقام ما قيل إن معناه يا سيد أو يا أنيسين فاقتصر على البعض رواه جار الله عن ابن عباس . ولا يخفى أن النداء على هذا يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم يؤيده قوله { إنك لمن المرسلين } وكثيراً ما يستعمل القسم بعد إفحام الخصم الألدّ كيلا يقول إنك قد افحمت بقوّة جدالك وأنت في نفسك خبير بضعف مقالك . وأيضاً الابتداء بصورة اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه ، وكانت العرب يتحرزون من الأيمان الفاجرة ويقولون إنها تدع الديار بلا قع ، وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعظمون القرآن غاية التعظيم وكان اليمين به موقوفاً عليه عند الكفرة . وقوله { على صراط } كالتأكيد لأن المرسلين لا يكونون إلا على المنهج القويم . وتنكير صراط للتعظيم . قيل : فيه دليل على فساد قول المباحية القائلين بأن المكلف إذا صار واصلاً لم يبق عليه تكليف فإن المرسلين لم يستغنوا عن رعاية الشريعة فكيف غيرهم . وقوله { ما أنذر آباؤهم } كقوله في « القصص » { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير } [ الآية : 46 ] وقد مر أنه يشمل اليهود والنصارى لأن آباءهم الأدنين لم ينذروا بعدما ضلوا { فهم غافلون } لهذا السبب . وقد يقال : إن « ما » مصدرية أو موصولة أي أرسلت لتنذرهم إنذارا آبائهم أو ما أنذر آباؤهم فإنهم في غفلة ، فعلى هذا كونهم غافلين سبب باعث على الإنذار ، وعلى الأول عدم الإنذار سبب غفلتهم . ثم بين أن السبب الحقيقي للغفلة هو أنه تعالى جعلهم من جملة المطبوع على قلوبهم ومن زمرة أهل النار وهو قوله فيهم { لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك } [ ص : 85 ] أو أراد بالقول سبق علمه فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤمنون .

وقيل : أراد أن القول بالدعوة بلغ أكثرهم ولكنهم لا يؤمنون جحوداً وعناداً ، وذلك أن من يتوقف على استماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان ، أما بعد البيان والوضوح فلا يكون عدم الإيمان إلا للمكابرة . وحين بيّن أنهم لا يؤمنون ذكر أن ذلك من الله تعالى فقال { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } فيكون مثلاً لتصميمهم على الكفر كالطبع والختم . وقيل : إنه إشارة إلى إمساكهم وأنهم لا ينفقون في سبيل الله كما قال { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } [ الإسراء : 29 ] وعلى هذا يمكن أن يكون معنى قوله { فهم لا يؤمنون } أنهم لا يزكون كأنه عبر بالإيمان عن الزكاة كما عبر به عن الصلاة في قوله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] وقيل : نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر . فذهب فأعمى الله بصره وأنزلت الآيتان . والضمير في قوله { فهي إلى الأذقان } راجع إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة لكونها معلومة فإن المغلول تكون أيديه مجموعة إلى العنق ولذلك يسمى الغل جامعة أي جامعاً لليد والعنق . وتأنيث الجامعة مبالغة أو بتأويل الآلة . وقيل : واختاره في الكشاف أنه يرجع إلى الأغلال اي جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحاً . والمقمح الذي يرفع راسه ويغض بصره ومنه أقمحت السويق اي سففته . والكانونان يقال لهما شهراً قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما . وكيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فيقول المغلول الذي بلغ الغل ذقنه وبقي مقمحاً رافع الرأس لا يبصر الطريق فضرب ذلك مثلاً للذي يهديه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستيم العقلي وهو لا يبصره بنظر بصيرته ، ويمكن أن يجعل كناية عن عدم التصديق بتحريك الرأس . ويقال : بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة . ثم ضرب مثلاً آخر لكونهم غير منتهجين سبيل الرشاد وذلك قوله { وجعلنا من بين ايديهم سداً } قال أهل التحقيق : المانع إما أن يكون في النفس وهو الغل فلا يتبين لهم ىيات الأنفس ، وإما أن يكون خارداً عنها وهو السدّ فلا يتضح لهم دلائل الآفاق . ويمكن أن يقال : السدّ من قدام إشارة إلى عدم العلوم النظرية ، ومن خلف إشارة إلى عدم فطنتهم الغريزية ، أو الأوّل إشارة إلى الغفلة عن أحوال المعاد ، والثاني إشارة إلى الغفلة عن المبدأ .

وفيه أن السالك إذا انسدّ عليه الطريق من قدامه ومن خلفه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة فإنه يهلك لا محالة . ثم زاد ف التأكيد بقوله { فأغشيناهم } أي جعلنا بعد ذلك كله على ابصارهم غشاوة { فهم لا يبصرون } شيئاً اصلاً . ويحتمل أن يكون الإغشاء إشارة إلى أن السدّ قريب منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة فإن القرب القريب مانع من الرؤية فلا يرون السدّ قريب منهم { فهم لا يبصرون } وعلى هذا يكون ذكر السد من خلف تأكيداً على تكيد ، فإن الذي جعل بين يديه ومن خلفه سدان ملتزقان لا يمكنه التحرك يمنة ويسرة ولا النظر إلى السدّ ولا إلى غيره . ويمكن أن يقال : فائدته تعميم المنع من انتهاج المسالك المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو إلى جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء ، وهكذا إن فرض رجوع قهقرى فإن المشي من هاتين الجهتين عادة ، ثم صرح بالمقصود معطوفاً على المذكوراتع قائلاً { وسواء عليهم } الآية . وقد مر إعرابه وسائر ما يتعلق بتفسيره في أول البقرة . ولا يخفى أن الإنذار وعدمه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مستويين وإنما الإنذار سبب لزيادة سيادته وسعادته عاجلاً وآجلاً .
ثم بين بقوله { إنما تنذر } أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به . والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل ، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم . والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها . وقيل : أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة . ومعنى الفاء في { فبشره } أنك كما أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه ، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصالح . أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية . وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلاً { إنا نحن نحيي الموتى } على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات . والظاهر أن قوله { نحن } ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة هخبر « إن » ويجوز أن يكون { نحن } خبر « إن » كقول القائل عند الافتخار بالشهرة : أنا أنا . كأن الله تعالى قال إنما نحن معروفون بأوصاف الكمال وإذا عرّفنا أنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى . وفي هذا التركيب أيضاً إشارة إلى التوحيد أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى نقول إنا كذا فنمتاز .

ثم اشار إلى العلم التام الذي يتوقف عليه المجازاة فقال { ونكتب ما قدّموا } أي اسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة . وقيل : أراد ما قدّموا وأخروا فاكتفى بأحدهما كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] والصحيح أنه لا حاجة إلىهذا التقدير لأن قوله { وآثارهم } يدل عليه والمراد بها ما هلكوا عليه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو بقعة خير عمروها أو أثر سيء كبدعة وظلامة وآلات ملاه . وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد . عن جابر : أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عليكم دياركم فإنما تكتب آثاركم » وعن عمر بن عبد العزيز : لو كان الله مغفلاً شيئاً لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح أي تمحوها . وقيل : أراد ونكتب ما قدموا من نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم .
سؤال : كيف قدم إحياء الموتى على الكتابة ولم يقل « نكتب ما قدموا ونحييهم » لأجل الجزاء؟ الجواب لأن الكتابة ليست مقوصدة بالذات وإنما المقصود الأصلي هو الإحياء للجزاء ولو لم يكن إحياء وإعادة لم يكن للكتابة أثر . وأيضاً قوله { إنا نحن } دال على العظمة والجبروت ، والإحياء أمر عظيم لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه بخلاف الكتابة ، فقدّم الأمر العظيم ليناسب اللفظ الدال على العظمة . وأيضاً أراد أن يرتب على كتابة الأعمال قوله { وكل شيء أحصيناه } ومعناه أن قبل هذه الكتابة كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا ، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه . وفيه بيان أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء ، فرب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط ، وفيه تعميم بعد تخصيص كأنه قال : ليست لالكتابة مختصة بأفعالهم وإنما هي لكل شيء . والإمام اللوح لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة وإحياء ، والمبين هو المظهر للأمور ، والفارق بين أحوال الخلق ، وحيث بين أن الإنذار لا ينفع من اضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تأس .
{ واضرب } لنفسك ولقومك { مثلاً } مثل { أصحاب القرية } وهي إنطاكية الروم ، والمرسلون رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها . وفي قوله { إذ أرسلنا } دلالة على أن رسول الرسول رسول وأنه يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول ، وكأنه أرسل اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجة تامة . وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يكتفي بواحد في الأغلب كمعاذ وغيره فمن هنا يعلم ترجيح هذه الأمة . وأما القصة فإن عيسى عليه السلام أرسل إليهم اثنين فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنماً واسمه حبيب النجار فسألهما فأخبراه فقال : ما آيتكما؟ قالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمة والأبرص .

وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفى على أيديهما خلق كثير ورفع خبرهما إلى الملك فأحضرا فلما سمع قولهما قال : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم . من أوجدك وآلهتك . فحبسهما حتى ينظر في أمرهما فبعث عيسى شمعون وذلك قوله سبحانه { فعززنا بثالث } من قرأ بالتشديد فمعناه فقوّينا الرسولين ، ومن قرأ بالتخفيف فمن العزة أي فغلبنا وقهرنا أهل القرية . وإنما ترك ذكر المفعول به لأأن الغرض ذكر الثالث فالعناية بذكره أهم وأتم نظيره قولك : حكم السلطان اليوم بالحق الغرض الذي سبق له الكلام قولك بالحق فلذلك تركت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه . وأما باقي القصة فإن شمعون دخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ قال : لا ، حال الغضب بيني وبين ذلك . فدعاهما فقال شمعون : من أرسلكما قال : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . قال : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنى الملك . فدعا بغلام مطموس فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما فقال شمعون : يا أيها الملك إن شئت أن تغلبهما فقل لآلهتك حتى تصنع مثل هذا . فقال الملك : أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر ولا تعلم . وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم . فقال شمعون : فالحق إذاً معهم فآمن الملك وبعض حاشيته وبقي آخرون على الكفر فأهلكوا بالصيحة . قال أهل البيان : يجب زيادة المؤكدات في الجملة الخبرية بحسب تزايد الإنكار من السامع فلهذا قال الرسل أوّلاً : إنا إليكم مرسلون مقتصرين على « أن » . وثانياً { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } مجموعاً بين « أن » واللام وما يجري مجرى القسم . ولا يخفى أن اليمين بعد إظهار البينة وإفحام الخصم مؤكد قوي كما مر في أول السورة . وفي قولهم { وما علينا إلا البلاغ المبين } تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا من عهدة ما علينا ولم يبق إلا التفكر منكم والتذكر . وحيث أكد الرسل قولهم باليمن أكد الكفار قولهم بالتطير ، فمن عادة الجهال أن يتيمنوا بكل ما يوافق طباعهم وهواهم ويتشاءموا بما كرهوه وكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين بالأيمان الكاذبة التي تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ولا نترككم . { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } بالقول أو بالحجارة . { وليمسنكم } بعد ذلك أو بسبب الرجم بالحجارة المتوالية إلى الموت { عذاب أليم } { قالوا طائركم } أي سبب شؤمكم { معكم } وهو كفركم ومعاصيكم { أئن ذكرتم } يعني أتطيرون إن ذكرتم .

ومن قرأ { أين } على وزن « كيف » ذكرتم بالتخفيف فالمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم فضلاً عن المكان الذي حللتم فيه . ثم إن الرسل كأنهم قالوا لهم أنحن كاذبون أم نحن مشؤمون { بل أنتم قوم مسرفون } في عصيانكم أو ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم ، أو تشاءمتم بمن يجب التبرك بهم وقصدتموهم بالسوء { وجاء من أقصى المدينة رجل } هو حبيب النجار الذي مر ذكره نصح قومه فقتلوه وقبره في سوق أنطاكية . وقيل : في غار يعبد الله عز وجل ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة فوثبوا عليه فقتلوه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم « سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون » ومن هنا قالوا : إنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ولادته وذلك أنه سمع نعته من الكتب والعلماء . وتنكير رجل للتعظيم أي رجل كامل في الرجولية أو ليفيد ظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن بهم رجل من الرجال لا معرفة لهم به وكان بعيداً من التواطؤ . وقوله { من أقصى المدينة } ايضاً يفيد مثل هذا أو أنهم ما قصروا في التبليغ والإنذار حتى بلغ خبرهم القاصي والداني والسعي بمعنى المشي أو بمعنى القيام في المهام أي يهتم بشأن المؤمنين ويسعى في نصرتهم وهدايتهم ونصحهم . ثم حثهم على اتباع الرسل ولم يقل اتبعوني كما قال مؤمن آل فرعون { اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } [ غافر : 38 ] لأنه جاءهم فنصحهم في أوّل مجيئه وما رأوا سيرته بعد فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لأجلكم السبيل . فقوله { اتبعوا } نصيحة وقوله { المرسلين } إظهار للإِيمان وقدم النصيحة إظهاراً للشفقة . وقد روي أنه كان يقتل ويقول : اللهم اهد قومي .
ثم أكد وجوب الاتباع بأنهم في أنفسهم مهتدون ولا يتوقعون أجراً في الدلالة ووجوب اتباع مثل هذا الدليل للذي ضل عن سواء السبيل مركوز في العقول . ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه . قال الحكيم { الذي فطرني } إشارة إلى وجود المقتضى . وقوله { ومالي } إشارة إلى عدم المانع من جانبه فإن كل امرئ هو أعلم بحال نفسه ، والمقتضى وإن كان مقدماً في الوضع والطبع على المانع إلا أن المقتضي ههنا لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً فقدّم عدم المانع لأجل البيان ولهذا لم يقل « وما لكم لا تعبدون » كيلا يذهب الوهم إلى أنه لعله يطلب العلة والبيان وإنما ورد في سورة نوح { ما لكم ترجون لله وقاراً } [ الآية : 13 ] لأن القائل هناك داع لا مدعو فكأن الرجل قال : مالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك . وفي قوله { وإليه ترجعون } بيان الخوف والرجاء ولهذا لم يقل « وإليه أرجع » كأنه جعل نفسه ممن يعبد الله لذاته لا لرغبة أو رهبة .

ثم أراد كمال التوحيد فقال { أئتخذ من دونه آلهة } فقوله { مالي لا أعبد الذي فطرني } فيه إقرار بوجود الصانع الفاطر ، وقوله { أأتخذ } على سبيل الإنكار نفي لغيره ممن يسمى إلهاً وبهما يتم معنى لا إله إلا الله . ثم عرض على عقولهم جهل عابدي الأصنام أنهم لا يقدرون على دفع ضر ولا على إيصال نفع ، وقد رتب الكلام فيه على ترتيب ما يقع بين العقلاء فإن الذي يريد أن يدفع الضر عن شخص يقدم على الشفاعة له ، فإن قبلت وإلا أنقذه اي أخلصه بوجه من الوجوه . قال بعض المفسرين : لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين . قال { إني آمنت بربكم } فاسمعوا قولي لتشهدوا لي . وإنما قال { بربكم } ولم يقل « بربي » ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه . وقال أكثرهم : الخطاب للفكار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني . وفي قوله { قيل ادخل الجنة } وجهان أحدهما . أنه قتل . ثم كأن سائلاً سأل : كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته؟ فقيل : قيل ادخل الجنة . والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره . قال جار الله : لم يذكر المقول له لانصباب الغرض إلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم . ثم كأن سائلاً آخر سأل : ايّ شيء تمنى في الجنة؟ فقيل { قال يا ليت قومي يعلمون } وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سبباً لهم في التوبة والإِيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حياً وميتاً . ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة . وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن . و « ما » في قوله { بما غفر } مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب ، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود . فقول القائل : علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله « بما صنعت » فقوله { غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } بإزاء قوله { فبشره بمغفرة وأجر كريم } ثم اشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلاً { وما أنزلنا على قومه } قال المفسرون : يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب . ثم قال { وما كنا منزلين } أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء ، ومن هنا يعلم فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلاً عن حبيب ، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار .

فالحصال أنه تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك وما كنا نفعله لغيرك . فمن قرأ { إلا صيحة } بالنصب أراد ما كانت الأخذة أو العقوبة إلا بسبب صيحة ، ومن قرأ بالرفع على أن « كان » التامة فمعناه ما وقعت إلا صيحة . قال جار الله : القياس والاستعمال على تذكير الفعل لأن المعنى ما وقع شيء إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل . قلت : يجوز أن يقدر ما حدثت عقوبة . وقيل : إن التأنيث لتهويل الواقعة ولهذا جاءت أسماء الجنس كلها مؤنثة . ووصف الصيحة بواحدة للتأكيد . وقرأ ابن مسعود إلا زقية وهي الصيحة ايضاً ومنه المثل « أثقل من الزواقي » والزقاء صياح الديك ونحوه ، وذلك لأن صياح الديكة يؤل بنزول الأنس وبتبدل الفراق بالوصال .
ثم شبه هلاكهم بخمود النار وهو صيرورتها رماداً لأنهم كانوا كالنار الموقدة في القوة الغضبية حيث قتلوا من نصحهم وتجبروا على من أظهر المعجزة لديهم . ثم بين بقوله { يا حسرة } أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون من الملائكة والثقلين أو من الله عز وجل على سبيل الاستعارة وذلك لتعظيم ما صدر من تقصيرهم وبدر من تفريطهم ثم ذكر سبب التحسر بقوله { ما يأتيهم } الآية . ثم عجب من حالهم في عدم الاعتبار بأمثالهم من الأمم الخالية . وقوله { أنهم إليهم لا يرجعون } بدل من { كم أهلكنا } التقدير : ألم يعلموا القرون الكثيرة المهلكة من قبلهم كونهم غير ارجعين إليهم . والبدل بدل اشتمال لهم لأنه حال من أحوال المهلكة أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم . ولارجوع حسيّ وهو ظاهر ، أو معنويّ وهو الرجوع بالنسب والولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم . من قرأ « لما » بالتشديد فمعنى إلا و « أن » نافية . ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة و « ما » صلة تقديره . وإن كلهم لمحشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة . قال في الكشاف : كيف أخبر عن كل المجموعي بجميع؟ وأجاب بأنهما ليسا بواحد ، بل الكل يفيد الشمول والجميع يفيد الانضمام وأن المحشر يجمعهم . ويحتمل أن يقال : الغرض وصف الجميع بالإحضار كقولك : الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل . ثم ذكر البرهان على الحشر وعلى التوحيد أيضاً مع تعداد النعم وتذكيرها قائلاً : { وآية لهم الأرض الميتة } قال المحققون : إنما قال لهم لأن الأرض ليست آية للنبي ولغيره من أهل الإخلاص الذين هم بالله عرفوا الله قبل النظر إلى الأرض والسماء كقوله

{ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] وقوله { أحييناها } استئناف بياناً لكونها آية وكذلك نسلخ ويجوز أن يكونا وصفين على قياس .
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... وقوله { فمنه يأكلون } بتقديم الجار للدلالة على أن الحب هو معظم قوت الإنسان وبه قوام معاشه عادة ، فنفس الأرض آية فإنها مهدهم الذي فيه تحريكهم واستكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم . وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم ، ثم إحياؤها مخضرة نعمة ثانية فإنها أحسن وأنزه ، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم إذ كان في مكانهم كأن أجمع للقوّة والفراغ . ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة موجبة للتفكه وسعة العيش ، ثم تفجير العيون فيها نعمة خامسة لأن ماء السماء لا يحصل الوثوق بنزوله في كل حين فذلك كالشيء المدخر القريب التناول . والضمير في قوله { من ثمره } يعود إلى الله ، وفائدة الالتفات أن الثمار بعد وجود الاشجار وجريان الأنهار لا توجد إلا بتخليق الملك الجبار ، ويحتمل أن يعود إلى المذكور وهو الجنات أو إلى التحصيل وترك ذكر الأعناب لأن حكمه حكم النخيل . وقيل : إلى التفجير المدلول عليه بسياق الكلام أي ليأكلوا من فوائد التفجير وهو أعم من الثمار ، ويشمل جميع ما ذكره في قوله { أنا صببنا الماء صباً } [ عبس : 25 ] إلى قوله { وفاكهة وأباً } [ عبس : 31 ] وقوله { وما عملت } من قرأ بغير هاء الضمير فما موصولة أو مصدرية أي ليأكلوا من ثمر الله ومن ثمر ما عملته أو من ثمر عمل ايديهم ، أو نافية فيكون إشارة إلى أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه ، ومن قرأ مع الضمير فما موصولة والضمير لها أو نافية والضمير للتفجير أو المذكور . ومعنى عمل الأيدي ما يتكابده الناس من الحرث والسقي وغير ذلك . هذا إذا جعلت « ما » موصولة ، فإن كانت نافية فالمراد الإيجاد والخلق . وقيل : عمل الأيدي التجارة . وقيل : الطبخ ونحوه .
ثم نزه نفسه بقوله { سبحان الذي خلق الأزواج } أي الأصناف والمراد بقوله { ومما لا يعلمون } أزواج لم يطلع الله الإنسان عليها بطريق من طرق المعرفة { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر : 31 ] { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] قالت الأشاعرة : فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أفعالهم أعراض وهي داخلة تحت الأجناس . وقوله { مما تنبت } لا يخرجه عن العموم لأن البيان متعدّد نظيره قول القائل : أعطيته كل شيء من الثياب والدواب والعبيد . فإنه يفهم أن تعديد الأصناف لتأكيد العموم يؤيده قوله في الزخرف { الذي خلق الأزواج كلها } [ الآية : 12 ] من غير تقييد . وحين فرغ من الاستدلال بالمكان شرع في الاستدلال بالزمان .

ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه . ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه . قال جار الله : أصله من سلخ الجلد الشاة إذا ازالة عنها فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وموضع إلقاء ظله . ومعنى { مظلمون } داخلون في الظلام أي لا بد لهم أن يدخلوا في الظلام إذ زال ولا يقدرون على دفعه . وفيه أن الليل كعرض أصلي يطرأ عليه النور تارة ويزول عنه أخرى . ثم كان لجاهل أن يقول : سلخ النهار إنما هو بغروب الشمس فلا جرم قال { والشمس تجري لمستقرّ } أي لحدّ لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره إلا أن المسافر له قرار بعد ذلك وهذه لا قرار لها بعد الحصول في ذلك الحدّ ولكنها تستأنف الحركة منه وهو أوّل الحمل أو أحد الخافقين أو إحدى الغايتين في تصاعدها فلك نصف النهار وتنازلها أو غير ذلك من الاعتبارات . وقيل : أراد بالمستقر بيتها وهو الأسد . وقيل : أراد لجري مستقرها وهو فلكها . وقيل : هو الدائرة التي عليها حركتها الخاصة . وقال الحكيم : أراد لأمر لو وجده لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة . وقيل : أراد الوقت الذي ينقطع جريها وهو يوم القيامة . وقيل : إنه إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه قال : إن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه وعلى هذا فالمستقر هو افق الغرب خاصة { ذلك } الجري على الوجوه المذكورة { تقدير العزيز } الغالب بقدرته على كل مقدور { العليم } بمبادئ الأمور وغاياتها .
ثم ذكر أمر سير القمر وقد مر في أوّل سورة يونس في قوله { وقدره منازل } [ الآية : 5 ] والعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة وهو « فعلون » من الانعراج الانعطاف قاله الزجاج . والقديم ما تقادم عهده ويختلف بحسب الأعيان . فلا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنيتن هي قديمة . وقد يقال : نبت قديم وإن لم يكن له سنة . وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد لأنه موهم إلا عند من يعتقد أنه لا أول له . وقال في الكشاف : القديم المحول وهو أول ما يوصف بالقدم ، فلو أن رجلاً قال : كل مملوك لي قديم فهو حر وكتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر . وإذا قدم العرجون دق وانحنى واصفرّ فشبه انقراض الشهر به من الوجوه الثلاثة . ثم بين أن لكل واحد من النيرين حركة مقدرة وسلطاناً على حياله { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } لتباطؤ سيرها عن سيره { ولا الليل } أي ولا تسبق آية الليل - وهو القمر- آية النهار - وهي الشمس - أي لا يداخل القمر الشمس في سلطانها . وقيل : أراد أن الليل لا يدخل في وقت النهار . وقيل : إنه إشارة إلى الحركة اليومية التي بها يحدث الليل والنهار .

والمراد أن القمر لا يسبق الشمس بهذه الحركة لأنها تشملهما على السواء ، وهكذا جميع الكواكب فلا يقع بسببها تقدم ولا تأخر ولهذا لم يقل « يسبق » على قياس تدرك أي ليس من شأنه السبق إذ الكواكب كأنها كلها ساكنة بهذه الحركة . وأقول : يحتمل أن يراد لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر ينبغي أن يتخلف ، فحذف إحدى القرينتين للعلم به كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وكذا الكلام في قوله { ولا الليل سابق النهار } أراد ولا النهار سابق الليل أي لا يدخل شيء منهما في غير وقته . سلمنا أن المراد بالليل والنهار آيتهما لكنه يمكن أن يقال : إنه إشارة إلى الحركة الدورية لأنه لما قال : إن الشمس لبطء سيرها لا تدرك القمر . فهم منه أن القمر يسبق الشمس بحركته ، فأشار إلى أن هذا السبق ليس على قياس المتحركات على الاستقامة ولكنه سبق هو بعينه موجب للقرب ، وهذا معنى قول أهل الهيئة إن الكوكب هارب عن نقطة ما طالب لها بعينه . وأما قوله { وكل في فلك يسبحون } فقد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء . ولما بين ما هو كالضروري لوجود الإنسان من المكان والزمان وما يتبعه ويسبقه ، شرع في تقرير ما هو نافع لهم في أحوال المعاش . قال بعض المفسرين : أراد بحمل الذرية حمل آبائهم وهم في أصلابهم . والفلك فلك نوح ومثله هو ما يركبون الآن عليه من السفن والزوارق . قال جار الله : وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح ، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل . ومن فوائد ذكر الذرية أن من الناس من لا يركب السفينة طول عمره ولكنه في ذريته من يركبها غالباً . وذهب آخرون إلى أن المراد حمل أولادهم ومن يهمهم حمله كالنساء . وقد يقع اسم الذرية عليهن لأنهن مزارع الأولاد . في الحديث « إنه نهى عن قتل الذراري » يعني النساء فكأنه قيل : إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره وعلى هذا يكون قوله { وخلقنا لهم } إلى آخره اعتراضاً ، ومثل الفلك ما يركبون من الإبل لأنها سفائن البر . وفي وصف الفلك بالمشحون مزيد تقرير للقدرة والنعمة فإن الفلك إذا كان خالياً كان خفيفاً لا يرسب في الماء بالطبع . ثم ذكر ما يؤكد كونه فاعلاً مختاراً قائلاً { وإن يشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } وهو مصدر أو صفة أي لا إغاثة أو لا مغيث . وقوله { إلا رحمة } إشارة إلى أن الإنقاذ رحمة بالنسبة إلى المؤمن ومتاع إلى حلول الأجل بالإضافة إلى الكافر ، أو المراد أن أحد لا يتخلص من الموت وإن سلم من الآفات ولله در القائل :

ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
التأويل : { يس } إشارة إلى أنه بلغ في السيادة مبلغاً لم يبلغه أحد من المرسلين { تنزيل العزيز الرحيم } فيه أنه لعزته لا يحتاج إلى تنزيل القرآن ولكن رحمته اقتضت ذلك { نحيي } القلوب { الموتى ونكتب ما قدموا } من الأنفاس المتصاعدة ندماً وشوقاً ، وآثار خطا أقدام صدقهم وآثار دموعهم على خدودهم { أصحاب القرية } القلوب { إذ أرسلنا إليهم اثنين } من الخواطر الرحمانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود { فكذبوهما } النفس وصفاتها { فعززنا بثالث } من الجذبة { إنا تطيرنا بكم } لأن النفس وصفاتها لا يوافقهما ما يدعو الإلهام والجذبة إليه { طائركم معكم } لأن النفس خلقت من العدم على خاصيتها المشؤومة { رجل يسعى } هو الروح المشتاق إلى لقاء الحق { لا يسألكم أجراً } لأنه لا شرب له من مشاربكم . { قيل ادخل الجنة } وهي عالم الأرواح وهو كقوله { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] إلى قوله { ادخلي جنتي } [ الفجر : 30 ] { على قومه من بعده } أي بعد رجوع الروح إلى الحضرة ما أنزل إلى النفس وصفاتها ملائكة من السماء لأنهم لا يقدرون على النفس وصفاتها وإصلاح حالها ، فإن صلاحها في موتها والمميت هو الله . { صيحة واحدة } من وارد حق { فإذا هم } يعني النفس وصفاتها { خامدون } ميتون عن أنانيته بهويته { ألم يروا كم أهلكنا } فيه إشارة إلى أن هذه الأمة خير الأمم شكى معهم من كل أمة وما شكى إلى أحد من غيرهم شكايتهم { وآية لهم } القلوب { الميتة أحييناها } بالطاعة ونخيل الأذكار واعناب الأشواق وعيون الحكمة وثمر المكاشفات وعمل الخيرات والصدقات { خلق الأزواج } من الآباء العلوية والأمهات السفلية { مما تنبت } ارض البشرية بازدواج الكاف والنون . { ومن أنفسهم } بازدواج الروح والقلب { ومما لا يعلمون } من تأثير العناية في قلوب المخلصين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت { وآية لهم } ليل البشرية { نسلخ منه } نهار الروحيانة { فإذا هم مظلمون } بظلمة الخليقة فإن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره . وشمس نور الله { تجري لمستقر لها } وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله وقمر القلب { قدرناه } ثمانية وعشرين منزلاً على حسب حروف القرآن وأسماؤها : الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والعزة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين . فإذا قطع كل المنازل فقد تخلق بخلق القرآن ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] وهو آخر المنازل والمقامات ، فإن السالك يألف الحق أوّلاً ثم يتوب فيثبت على ذلك حتى تحصل له الجمعية ، وعلى هذا يعبر المقامات حتى يصير كاملاً كالبدر ، ثم يتناقص نوره بحسب دنوّه من شمس شهود الحق إلى أن يتلاشى ويخفى وهو مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به نبيناً صلى الله عليه وسلم بقوله « الفقر فخري » ثم أشار بقوله { لا الشمس ينبغي لها } إلى أن الرب لا يصير عبداً ولا العبد رباً . ثم ذكر أن العلوم محمولون في سفينة الشريعة والخواص في بحر الحقيقة كلاهما بفلك العناية وملاحة ارباب الطريقة ، ومثل ما يركبون هو جناح همة المشايخ . { وإن نشأ } نغرق العوام في بحر الدنيا والرخص والخواص في بحر الشبهات والإباحة .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

القراآت : { يخصمون } بفتحتين ثم كسر الصاد المشددة : ابن كثير وورش وسهل ويعقوب وأصله « يختصمون » أدغمت التاء في الصاد بعد نقل حركتها إلى الخاء ، وقرأ أبو جعفر ونافع غير ورش بسكون الخاء ، وقرأ أبو عمرو باشمام الفتحة قليلاً وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من الخصم ثلاثياً . الباقون : بكسر الخاء للاتباع وتشديد الصاد . وروى خلف عن يحيى بكسر الياء والخاء والتشديد . { شغل } بضمتين : عاصم وخلف وابن عامر ويزيد ويعقوب . { فكهون } وبابه بغير ألف : يزيد . { ظل } بضم الظاء وفتح اللام : حمزة وعلي وخلف على أنه جمع ظلة . الآخرون : { ظلال } جمع ظل { جبلاً } بضم الجيم وسكون الباء . ابن عامر وأبو عمرو . وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل بكسرتين واللام مشددة ، وقرأ يعقوب بضمتين والتشديد . والباقون : بضمتين والتخفيف { ننكسه } مشدداً : حمزة وعاصم غير مفضل . الآخرون : بالتخفيف من النكس . { تعقلون } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب { لتنذر } على الخطاب أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب { يقدر } على صيغة المضارع : يعقوب { كن فيكون } بالنصب : ابن عامر وعلي .
الوقوف : { ترحمون } 5 { معرضين } 5 { رزقكم الله } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { أطعمه } لا كذلك لاتحاد المقول ولئلا يبتدأ بما لا يقوله مسلم . وجوز جار الله أن يكون قوله { إن أنتم } قول الله أو حكاية قول المؤمنين لهم فالوقف جائز . { مبين } 5 { صادقين } 5 { يخصمون } 5 { يرجعون } 5 { ينسلون } 5 { مرقدنا } 5 لئلا يوهم أن هذا صفة وما بعده منفي وفيه وجوه أخر نذكرها في التفسير { المرسلون } 5 { محضرون } 5 { تعملون } 5 { فاكهون } 5 ج لاحتمال أن { هم } تأكيد الضمير { أزواجهم } عطف عليه و { في ظلال } ظرف { فاكهون } ، ولاحتمال أن ما بعده مبتدأ وخبره { متكئون } { يدعون } 5 ج لأنه من المحتمل أن يكون { سلام } خبر محذوف اي عليهم سلام يقول قولاً ، وأن يكون { سلام } بدل { ما يدعون } اي لهم ما يتمنون وهو سلام { سلام } ط ج لحق الحذف { رحيم } 5 { المجرمون } 5 { الشيطان } ج لأن التقدير فإنه { مبين } 5 لا للعطف { اعبدوني } ج { مستقيم } 5 { كثيراً } 5 { تعقلون } 5 { توعدون } 5 { تكفرون } 5 { يكسبون } 5 { يبصرون } 5 { يرجعون } 5 { في الخلق } ط { يعقلون } 5 له ج { مبين } 5 { الكافرين } 5 { مالكون } 5 { يأكلون } 5 { مشارب } 5 { يشكرون } 5 { ينصرون } ج { نصرهم } لا لأن الواو للحال { محضرون } 5 { قولهم } 5 لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار { يعلنون } 5 { مبين } 5 خلقه } ط { رميم } 5 { مرة } ط { عليم } 5 لا لأن { الذي } بدل { توقدون } 5 { مثلهم } ط لانتهاء الاستفهام { العليم } 5 { فيكون } 5 { ترجعون } 5 .

التفسير : لما بين الآيات المذكورة حكى أنهم في غاية الجهالة ونهاية الضلالة ، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان ، ولا كالعوام الذين يبنون أمورهم على الأحوط إذا أنذرهم منذر انتهوا عن ارتكاب المنهي خوفاً من تبعته وطمعاً في منفعته وإليه الإشارة بقوله { لعلكم ترحمون } أي في ظنكم فإن الذي لا تفيده الآيات يقيناً فلا أقل من أن يحترز من العذاب ويرجو الثواب أخذاً بطريقة الاحتياط ، ونظير الآية ما مرّ في أوّل سورة سبأ { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } [ الآية : 9 ] وعن مجاهد : اراد ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر . وعن قتادة : ما بين ايديكم من وقائع الأمم وما خلفكم أي من أمر الساعة . وقيل : ما بين أيديكم من أمر الساعة . وقيل : ما بين أيديكم الآخرة فإنهم مستقبلون لها ، وما خلفكم الدنيا فإنهم تاركون لها . أو ما بين أيديكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حاضر عندهم وما خلفكم من أمر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد لى الله عليه وسلم والحشر رحمكم الله . أو ما بين أيديكم من أنواع العذاب كالحرق والغرق المدلول عليه بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ما خلفكم الموت الطالب لكم يدل على قوله { ومتاعاً إلى حين } وجواب « إذا » محذوف وهو لا يتقون أو يعرضون ، يدل عليه ما بعده مع زيادة فائدة هي دابهم الإعراض عند كل آية . ويحتمل أن يكون قوله { وما تأتيهم } متعلقاً بما قبله وهو قوله { يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } . { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا مانوا عنها معرضين } يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها . وقوله { الم يروا } إلى قوله { لعلكم ترحمون } اعتراض . ثم أشار إلى أنهم كما يخلون بجانب التعظيم لأمر الله حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا يخلون بجانب الشفقة على خلق الله ولا ينفقون إذا أمروا بالإنفاق على أنهم خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والإشفاق ، فإن أدنى الانقياد الاتقاء من العذاب ، وأدنى الإشفاق هو إنفاق بعض ما في التصرف من مال الله ، فأين هم من معشر أقبلوا بالكلية على الله وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ وفي قوله { مما رزقكم الله } إشارة إلى أن الله تعالى قادر على إغناء الفقير وإعطائه ولكنه جعل الغني واسطة في الإنفاق على الفقير . فالسعيد من عرف حق التوسيط وانتهز فرصة الإمكان وعلم أن الإنفاق سبب للبركة في الحال ومجلبة للثواب في المآل . وقوله { قال الذين كفروا } دون أن يقول « قالوا » تسجيل عليهم بالكفر . وقوله { للذين آمنوا } مزيد تصوير لجهالتهم حين قالوا لهؤلاء الأشراف ما قالوا . وقوله { أنطعم } دون « أننفق » إظهار لغاية خستهم فإن الإطعام أدون من الإنفاق ومن بخل بالأدون فهو بأن يبخل بالأكثر أولى .

وقوله { من لو يشاء الله أطعمه } كلام في نفسه حسن لكنهم ذكروه في معرض الدفع فلهذا استوجبوا الذم وقد بين الله خطأهم بقوله { مما رزقكم الله } فإن من في خزائنه مال وله في يد الغير مال فإنه مخير إن اراد أعطى زيداً مما في خزائنه وإن شاء أعطاه مما في يد الغير وليس لذلك الغير أن يقول لم أحلته عليّ . وقوله { إن أنتم إلا في ضلال مبين } بناء على ما اعتقدوه أن الأمر بالإنفاق ضائع ، لأنه سعي في إبطال مشيئة الله ولم يعلموا أن الضلال لا يتعدّاهم ايه سلكوا ، وذلك أنهم لم ينظروا إلى الأمر والطلب وبادروا إلى الاعتراض ، والطاعة هي اتباع الأمر لا الاستكشاف عن الغرض والغاية . ومن جملة تعنتهم أنهم استبطؤا الموعود على التقاء والإنفاق قائلين { إن كنتم } أيها المدّعون للرسالة { صادقين } فأخبرونا متى يكون هذا الموعود به من الثواب والعقاب فأجابهم الله تعالى بقوله { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } كأنهم بالاستبطاء كانوا منتظرين شيئاً . وتنكير صيحة للتهويل ووصفها بواحدة تعظيم للصيحة وتحقير لشأنهم أي صيحة لا يحتاج معها إلى ثانية ، وفي قوله { تأخذهم } أي تعمهم بالأخذ مبالغة أخرى ، وكذا في قوله { وهم يخصمون } أي يشتغلون بمتاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ومع ذلك يصعقون . وقيل : تأخذهم وهم يختصمون في أمر البعث قائلين إنه لا يكون . ثم بالغ في شدّة الأخذ بقوله { فلا يستطيعون توصية } وفي قوله { لا يستطيعون } دون أن يقول « فلا يوصون » مبالغة لأن من لا يوصي قد يستطيعها ، وكذلك في تنكير توصية الدال على التقليل ، وكذا في نفس التوصية لأنها بالقول والقول يوجد أسرع من الفعل من أداء الواجبات وردّ المظالم ، وقد تحصل التوصية بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها . وفي قوله { ولا إلى أهلهم يرجعون } بيان لشدّة الحاجة إلى التوصية فإن الذي يقطع بعدم الوصول إلى أهله كان إلى الوصية أحوج . وفيه تنبيه على أن الميت لا رجوع له إلى الدنيا ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى إلى حين يبعثون . ثم بين حال النفخة الثانية ، والأجداث القبور والنسلان العدو . وكيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإماتة والإحياء؟ نقول : لا مؤثر إلا الله ، والنفخ علامة على أن الصوت يوجد التزلزل وأنه قد يصير سبباً لافتراق الأجزاء المجتمعة تارة ولاجتماع المتفرقة أخرى . ثم إن أجزاء كل بدن قد تحصل في موضع هو بمنزلة جدثه ، أو أعطى للأكثر حكم الكل . وذكر الرب في هذا الموضع للتخجيل فإن من أساء واضطر إلى الحضور عند من أحسن إليه كان أشدّ ألماً وأكثر ندماً . وقوله { ينسلون } لا ينافي قوله في موضع آخر

{ فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : 68 ] فلعل ذلك في أول الحالة ثم يحصل لهم سرعة المشي من غير اختيارهم . ويمكن أن يقال : إن هيئة الانتظار ليست بمنافاة للمشي بل مؤكدة له ومعينة عليه . وفي « إذا » المفاجأة إشارة إلى أن الإحياء والتركيب والقيام والعدو كلها تقع في زمان النفخ .
ثم بين أنهم قبل النسلان { قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } كأنهم شكوا في أنهم كانوا موتى فبعثوا أو كانوا نياماً فتنبهوا فجمعوا في السؤال بين الأمرين : البعث والمرقد . عن مجاهد : للكفار . هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا ذلك ، ثم أجابهم الملائكة في رواية ابن عباس ، والمتقون على قول الحسن { هذا ما وعد الرحمن } كأنه قيل : ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث أن هذا هو البعث الأكبر الذي وعده الرحمن في كتبه المنزلة على لسان رسله الصادقين . والظاهر أن { هذا } مبتدأ { وما وعد الرحمن } إلى آخره خبره ، و « ما » مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالمصدر . ويجوز أن يكون « ما » موصولة أي هذا الذي وعده الرحمن وصدقه المرسلون أي صدقوا فيه . وجوّز جار الله أن يكون { هذا } صفة للمرقد و { ما وعد } خبر مبتدأ محذوف أي هذا وعد الرحمن ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي ما وعده الرحمن وصدقه المرسلون حق عليكم . وقيل : إن قوله { هذا ما وعد الرحمن } من كلام الكافرين كأنهم تذكروا ماسمعوا من الرسل فأجابوا به انفسهم ، أو أجاب بعضهم بعضاً ، ثم عظم شأن الصيحة بالنسبة إلى المكلفين وحقر أمرها بالإضافة إلى الجبار قائلاً { إن كانت إلا صيحة } الآية . وقد مر نظيره . ثم بين ما يكون في ذلك اليوم قائلاً { فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون } أيها الكافرون { إلا ما كنتم تعملون } وفيه إشارة إلى أن عدله عام وفضله خاص بأهل الإيمان وفيه أنهم إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للعدل أو الفضل فالفاء فيه كما في قول القائل للوالي أو للقاضي : جلست للعدل فلا تظلم . أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه . وقوله { ما كنتم تعملون } إشارة إلى عدم الزيادة فإن الشيء لا يزيد على عينه كقولك : فلان يجازيني حرفاً بحرف . أي لا يترك شيئاً . ويجوز أن يراد الجنس أيّ لا تجزون إلا جنس العمل حسناً أو سيئاً . ثم فصل حال المحسنين بطريق الحكاية في ذلك اليوم تصويراً للموعود وترغيباً فيه فقال { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } لا يكتنه كنهه وفيه وجوه أقواها أنهم مشغولون عن هول ذلك اليوم بما لهم من الكرامات والدرجات . وقوله { فاكهون } مؤكد لذلك المعنى أي شغلوا عنه باللذة والسرور با بالويل والثبور .

وثانيها أنه بيان لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء بل المراد أنهم في عمل ، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب . وثالثها أنهم تصوروا في الدنيا أموراً يطلبونها في الجنة فإذا رأوا فيها ما لم يخطر ببالهم اشتغلوا به عنها . وعن ابن عباس أن الشغل افتضاض الأبكار أو ضرب الأوتار . وقيل : التزاور . وقيل : ضيافة الله . وعن الكلبي : هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار لا يهمهم أمرهم لئلا يدخل عليهم تنغيص من تنعمهم . والفاكه والفكه المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها تؤكل للتلذذ لا للتغذي والفكاهة الحديث لأجل التلذذ لا للضرورة . والأزواج ظاهرها زوج المرأة وزوجة الرجل . وقيل : أراد اشكالهم في الأحساب وأمثالهم في الإيمان كقوله { وآخر من شكله أزواج } [ ص : 58 ] قال أهل العرفان : من شرائط السماع الزمان والمكان والإخوان فقوله { هم وأزواجهم في ظلال } إشارة إلى عدم الوجوه الموحشة وأن لهم في ظل الله ما يمنع الإيذاء كقوله { لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } [ الدهر : 13 ] وقوله { على الأرائك متكئون } دليل على القوة والفراغة والتمكن من أنواع الملاذ . وقوله { لهم فيها فاكهة } إشارة إلى سائر أنواع الملاذ الزائدة على قدر الضرورة .
وقوله { ولهم ما يدّعون } إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وما يخطر ببالهم . قال الزجاج : هو افتعل من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم . وقال جار الله : هو للاتخاذ اي ما يدعون به أو ما يدعون به أو ما يدعون لأنفسهم كقولك : يشتوي . أي اتخذ لنفسه شواء . أو هو بمعنى التداعي . وعلى الوجهين إما أن يراد كل ما يدعو به الله أحد أو كل ما يطلبه من صاحبه فإنه يجاب له بذلك ، أو يراد أن كل ما يصح أن يدعى به ويطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب . وقيل : معناه يتمنون من قولهم : ادّع عليّ ما شئت أي تمنه عليّ . وقيل : هو من الدعوى وذلك أنهم كانوا يدّعون في الدنيا أن الله هو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم بينه قوله { سلام } يقال لهم { قولاً من رب رحيم } أي من جهته بواسطة الملائكة . وقيل : اراد لهم ما يدّعون سالم خالص لا شوب فيه . و { قولاً } اي عدة وعلى هذا يكون قوله { لهم } للبيان و { ما يدعون سلام } مبتدأ وخبر كقولك : لزيد الشرف متوفر . وقال بعضهم : يحتمل أن يكون { قولاً } نصباً على التمييز لأن السلام من الملك قد يكون قولاً وقد يكون إشارة . وقال أهل البيان قوله { وامتازوا } معطوف على المعنى كأنه قيل : دوموا أيها المؤمنون في النعيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون . أو قلنا لأهل الجنة : إنكم في شغل وقلنا لأهل النار : امتازوا وهو كقوله { فريق في الجنة وفريق في السعير } [ الشورى : 7 ] أو تميزوا في أنفسكم غيظاً وحنقاً فلا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم كقوله في صفة جهنم

{ تكاد تميز من الغيظ } [ الملك : 8 ] أو افترقوا خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان فلا عذاب كفرقة الأخدان يؤيده ما روي عن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يُرى . وعن قتادة : اراد اعتزلوا عن كل خير ترجون ، أو امتازوا عن شفعائكم وقرنائكم . أو المراد تميزهم بسواد الوجه وزرقة العين وبأخذ الكتاب بالشمال وبخفة الميزان وغير ذلك . وقال صاحب المفتاح : قوله { إن أصحاب الجنة } إلى آخر الآيات خطاب لأهل المحشر بدلالة الفاء في قوله { فاليوم لا تظلم } بعد قوله { إن كانت إلا صيحة } وقد جاء في التفاسير أن قوله { إن أصحاب الجنة } إنما يقال حين يسار بهم إلى الجنة فيؤل معنى الكلام إلى قول القائل إن اصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤل حالهم إلى أسعد حال فليمتازوا عنكم إلى الجنة ، وامتازوا أنتم عنهم أيها المجرمون . ثم كان لسائل أن يقول : إن الإنسان خلق ظلوماً جهولاً والجهل عذر فبين الله تعالى أن الأعذار زائلة قائلاً { ألم أعهد إليكم } والآية إلى قوله { أفلم تكونوا تعقلون } شبه اعتراض ، فيه توبيخ لأهل النار وما ذلك العهد عن بعضهم أنه الذي مر ذكره في قوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } [ طه : 115 ] وقيل : هو المذكور في قوله { وإذ خذ ربك من بني آدم من ظهورهم } [ الأعراف : 172 ] وقيل : هو المبين على لسان الرسل . ومعنى { لا تعبدوا } لا تطيعوا ولا تنقادوا وسوسته وتزيينه . وقوله { هذا } إشارة إلى ما عهد إليهم من مخالفته الشيطان وعبادة الرحمن . قال أهل المعاني : التنوين في قوله { صراط } للتعظيم إذ لا صراط أقوم منه ، أو للتنويع اي هذا بعض الطرق المستقيمة ، ففيه توبيخ لهم على العدول عنه كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ : هذا فيما أظن قول نافع غير ضار . وفي ذكر الصراط ههنا إشارة إلى أن الإنسان في دار التكليف مسافر والمجتاز في بادية يخاف فيها على نفسه وماله لا يكون عنده شيء أهم من معرفة طريق قريب أمن . ثم بين لهم عدواة الشيطان بقوله { ولقد أضل منكم جبلاً } وهو في لغاته كلها بمعنى الخلق من جبله الله على كذا أي طبعه عليه . عن علي رضي الله عنه أنه قرأ { جيلاً } بياء منقوطة من تحت بنقطتين . ثم أشار إلى محل امتياز المجرمين إليه بقوله { هذه جهنم } وقوله { اصلوها } أمر إهانة وتنكيل نحو ذق . وفي قوله { اليوم } إشارة إلى أن اللذات قد مضت وأيامها قد انقضت وليس بعد ذلك إلا العقاب . روى أهل التفسير أنهم يجحدون يوم القيامة كفرهم في الدنيا فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم . وفي الحديث « يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز شاهداً إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد الكنّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل »

قال المتكلمون : إنه لا يبعد من الله تعالى إنطاق كل جرم من الأجرام إنطاق اللسان وهو فاعل لما يشاء . قال الحكيم : إنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤس . وتكلم الأعضاء عبارة عن ظهور إمارات الذنوب عليهم بحيث لا يبقى للإنكار مجال كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إذا ظهر أمارات الحزن وأسبابه . ثم إنه تعالى أسند الختم إلى نفسه وأسند التكلم والشهادة إلى الأيدي والأرجل لكيلا يقال : إن الإقرار بالإجبار غير مقبول . وأيضاً إنه أسند التكلم إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل لأن الأعمال مستندة إلى الأيدي غالباً كقوله { وما عملته أيديهم } { فبما كسبت ايديكم } [ الشورى : 30 ] فهي كالعاملة ، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره . وإنما جعلت الشهادة عليهم منهم لأن غيرهم إما صالحون وهم أعداء للمجرمين فلهم أن يقولوا شهادتهم غير مقبولة في حقنا ، وإما فاسقون وشهادة الفسقة غير مقبولة شرعاً .
وههنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين ، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } [ آل عمران : 167 ] ثم إذا ختم على أفواههم أيضاً في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم . هذا وقد ذكرنا مراراً أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس . وكان للقدرية أن تتمسك بقوله { يكسبون } { يكفرون } حيث اسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله { ولو نشاء لطمسنا } ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار ، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية . فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر ، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلاً ولم يتفكروا في آية . والطمس محو أثر شق العين . قال جار الله { فاستبقوا الصراط } أصله فاستبقوا إلى الصراط فانتصب بنزع الخافض . والمعنى لو شاء لمسح أعينهم فلو راموا أن يسبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق ، والاستباق مضمن معنى الابتدار . فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو ارادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يتسطيعوا . أو يجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه ، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلى على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها . عن ابن عباس : أراد لمسخناهم قردة وخنازير .

وقيل : حجارة . عن قتادة : لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم . والمكان والمكانة واحد أراد مسخاً مجمداً بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم . وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجاً من الأهون إلى الأصعب ، فإن الأعمى قد يهتدي إلى وجوه التصرف بأمارت عقلية أو حسية غير البصر . وأما الممسوخ على مكانه فلا يهتدي إلى شيء أصلاً . ولمثل ما قلنا قدم المضيّ على الرجوع فإن سلوك طريق قد رآه مرة يكون أهون مما لم يره اصلاً ، فنفى أوّلاً استطاعة الصعب ثم نفى استطاعة الأهون أيضاً لأجل المبالغة . وحين قطع الأعذار بسبق الإنذار وذلك في قوله { ألم أعهد إليكم } شرع في قطع عذر آخر للكافر وهو أن يقول : لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيراً ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيراً فقال الله تعالى { ومن نعمره ننكسه في الخلق } كقوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } [ الحج : 5 ] { أفلا تعقلون } أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرتم ما تمكنتم فيه أن النظر والعمل ، ومن لم يأت بالواجب في زمان الإمكان لم يأت به في زمن الأزمان . وعن بعضهم :
طوى العصران ما نشراه مني ... فأبلى جدّتي نشر وطيّ
أراني كل يوم في انتقاص ... ولا يبقى على النقصان شيّ
وقال آخر :
أرى الأيام تتركني وتمضي ... وأوشك أنها تبقى وأمضي
علامة ذاك شيب قد علاني ... وضعف عند إبرامي ونقضي
وما كذب الذي قد قال قبلي ... إذا ما مر يوم مر بعضي
وحيث بين أصل الوحداينة والحشر في هذه السورة مرات أقربها قوله { وأن اعبدوني } وقوله { هذه جهنم } إلى آخرها عاد إلى أصل الرسالة بقوله { وما علمناه الشعر } وإنما لم يقل وما علمناه السحر ولا الكهانة مع أنهم ادّعوا أنه ساحر كاهن لأنه ما تحدّاهم إلا بالقرآن . وإنما نسبوه إلى السحر عند إظهار فعل خارق كشق القمر وحنين الجذع إليه ، ونسبوه إلى الكهانة عند إخباره عن الغيوب وهو نوع خاص من الكلام من غير اعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية . قال جار الله معنى قوله { وما ينبغي له } أنه لا يتأتى له ولا يتسهل كما جعلنا أمياً لا يهتدي للخط . وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له . قال : وما روي أنه صلى الله عليه وسلم .
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقال
:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد ، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد . وقيل : أراد نفي الشعر عن القرآن فقال { وما علمناه } بتعليم القرآن { الشعر وما ينبغي } القرآن أن يكون شعراً وأنا أقول : الأحسن أن يقال : ما ينبغي له معناه أنه لا يليق بجلالة منصبه لأن الشعر مادته كلام يفيد تأثيراً دون التصديق وهو التخييل ، وأما الوزن والقافية فهما كالصورة ويفيدانه تروجياً وتزييناً فجلَّ رتبته من التخييل الذي هو قريب من المغالطة ، ولهذا لم يؤمر بأن يدعو بهما إلى سبيل ربه .

وإنما أمر بأن يدعو إلى الدين باسئر أصناف الكلام حيث قيل { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] ونظيره قوله ههنا { إن هو إلا ذكر } أي موعظة { وقرآن مبين } ذو البيان أو الإبانة وأنه يشمل البرهان والجدل . أما البرهان فظاهر ، وأما الجدل فلأن النتيجة إذا كانت في نفسها حقة . فالرجل العالم المحق ليس عليه إلا إفحام الخصم الألدّ وإلزامه بمقدّمات مسملة أو مشهورة ، ومما يؤيد ما ذكرنا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
هكذا : ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار . ولا ريب أنه كان يتأتى له رواية الشعر إن لم يتأت له فرصة ، وما ذاك إلا للتنزه عما يشبه ما يشين رتبته ولا يوافق وغزاه . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم حين قال :
هل أنت إلا إصبع دميت ... انقطع الوحي أياماً حتى قالت الكفار إن محمداً قد ودعه ربه وقلاه ، وهذا أحد أسباب نزول تلك الآية . ولمثل ما قلنا لم يروَ عنه كلام منظوم وإن كان حقاً وصدقاً كالذي قاله بعض الشعراء في التوحيد والحقائق . وقد اشار إلى نحو ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم « إن من الشعر لحكمة » وقد مر في تفسير قوله سبحانه في آخر الشعراء { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الآية : 227 ] وذلك أن الشاعر يقصد لفظاً فيوافقه معنى حكمي . وبالجملة لا يخلو الشعر عن تكلف مّا ، وقد يدعوه النظم إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ ، فأين الشارع من الشاعر؟ ثم بين كون القرآن منزلاً على هذا الوجه بقوله { لتنذر } يا محمد أو لينذر هو أي القرآن { من كان حياً } عاقلاً متأملاً . ويجوز أن تكون الحياة عبارة عن الإيمان ، أو المراد بالحي من يؤل حاله إلى الإيمان . أو المراد بالإنذار الانتفاع به مثل { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] { إنما تنذر من اتبع الذكر } [ يس : 11 ] وقوله { ويحق القول } كقوله في أول السورة { لقد حق القول } وقد مر وهذا كلام مطابق من حيث المعنى كأنه قال : لتنذر من كان حياً ويحق القول على من كان ميتاً لأن الكافر في عداد الموتى . ثم عاد إلى تقرير دلائل الوحدانية مع تعداد النعم فقال { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت } أي من جملة ما عملته { أيدينا } فاستعار عمل الأيدي لتفرده بالأحداث والإيجاد مع اشتمال المحدث والموجد على غرائب وعجائب حتى قال فيه { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت }

[ الغاشية : 17 ] وقوله { فهم لها مالكون } إشارة إلى اتمام الإنعام في خلق الأنعام . وقوله { وذللناها لهم } إشارة إلى ما فوق التمام فقد يملك الشيء ولا يكون مسخراً ، ومن الذي يقدر على تذليل الإبل لولا أمر الله بتسخيرها حتى قال بعضهم :
يصرف الصبيّ بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا غير لديه ولا نكير
والجرير حبل يجعل للعبير بمنزلة العذار للدابة . ومن زعم أن الملك بمعنى الضبط من قوله : لا أملك رأس البعير أن يفر . يلزمه التكرار . ثم فصل بعض منافعها بقوله { فمنها ركوبهم } والركوب والركوبة ما يركب كالحلوب والحلوبة ، والتاء للمبالغة . وقيل : للوحدة والمنافع كالجلود والأوبار والأصواب ، ذكرها بالاسم العام لما في تفصيلها من الطول . والمشارب جمع مشرب وهو موضع الشرب اي الأواني المتخذة من جلودها ، أو هو الشرب كالألبان والأسمان .
وحين وبخهم على عدم الشكر بقوله { أفلا يشكرون } زاد في توبيخهم بقوله { واتخذوا من دون الله آلهة } أي وضعوا الشرك مكان الشكر فلا أظلم منهم . وفي قوله { لعلهم ينصرون } إلى قوله { محضرون } وجهان : أحدهما أنهم طمعوا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم والأمر عكس ذلك حيث هم جند لآلهتهم معدّون يخدمونهم ويذبون عنهم من غير نفع في آلهتهم . وثانيهما اتخذوهم لينصرونهم عند الله بالشفاعة ، والأمر على خلاف ذلك حيث إن آلهتهم يوم القيامة جند محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداً للنار . ووجه ثالث وهو أن يكون قوله { وهم لهم جند محضرون } تأكيداً لعدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يتأهب ولم يجمع أنصاره . ثم عقب دليل التوحيد بالرسالة مسلياً رسوله بقوله { فلا يحزنك قولهم } باتخاذ الشريك لله أو بالطعن في الرسالة أو بالإيذاء في والتهديد . ثم علل عدم الحزن بقوله { إنا نعلم ما يسرون } من النفاق وسائر العقائل الفاسدة { وما يعلنون } من الشرك وسائر الأفعال القبيحة ، أو يسرون من المعرفة بالله ويعلنون من العناد وجوّز جار الله فتح « أن » على تقدير لام التعليل ، بل جوز أن تكون المفتوحة بدلاً من { قولهم } والمكسورة مفعولاً ل { قولهم } ويكون نهي الرسول عن ذلك كنهيه عن الشرك في قوله و { تكونن من المشركين } [ الأنعام : 14 ] ثم اردف الرسالة بالحشر مع أن فيه دليلاً آخر على التوحيد مأخوذاً من الأنفس ، فإن الأول كان مأخوذاً من الآفاق . وفي قوله { فإذا هو خصيم مبين } وجهان : أحدهما فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً رجل مميز منطيق معرب عما في ضميره كقوله { أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } [ الزخرف : 18 ] فقوله { من نطفة } إشارة إلى أدنى ما كان عليه الإنسان وقوله { فإذا هوخصيم مبين } إشارة إلى أعلى ما حصل عليه الآن ، لأن أعلى أحوال الناطق أن يقدر على المخاصمة والذب عن نفسه بالكلام الفصيح .

وثانيهما قول كثير من المفسرين إنها نزلت في جماعة من كفار قريش تكلموا في البعث فقال للهم أبيّ بن خلف الجمحي : واللات والعزى لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه . وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتته بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم ويبعثك ويدخلك جهنم . قال أهل البيان : سمى قولهم { من يحيي العظام وهي رميم } مثلاً لأن إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى قصة عجيبة . وفيه تشبيه الخالق اللقادر العليم بالمخلوق العاجز عن خلق أدنى بعوضة الجاهل بما يجري عليه من الأحوال . والرميم اسم لما بلي من العظام كالرمة والرفات ولا يبعد أن يكون صفة . ولم تؤنث بتقدير موصوف محذوف أي شيء رميم ، أو لأنه بمعنى فاعل كقوله { إن رحمة الله قريب } [ الأعراف : 56 ] وفي الآية دليل ظاهر على أن عظام الميتة نجسة لأن الموت والحياة يتعاقبان عليها . وقال أصحاب أبي حنيفة : إنها ظاهرة وإن الحياة لا تحل فيها فلا يتصور موتها ، وكذا الشعر والعصب . وتأوّلوا الآية بأن المراد بإحياء العظام ردّها على ما كانت عليه غضة طرية في بدن حيّ حساس . واعلم أن المنكرين للحشر منهم من اكتفى في إنكاره بمجرد الاستبعاد كقوله { من يحيي العظام وهي رميم } فأزال استبعادهم بتصوير الخلق الأول فإن الذي قدر على جعل النطفة المتشابهة الأجزاء إنساناً مختلف الأبعاض والأعضاء ، مودعاً فيه الفهم والعقل وسائر اسباب المزية والفضل ، فهو على إعادتها أقدر . ومنهم من ذكر شبهة وهي كقولهم : إن الإنسان بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح إعادة المعدوم عقلاً؟ أو كقولهم : إن الذي تفرقت أجزاؤه في أبدان السباع وجدران الرباع كيف يجمع ويعاد؟ أو كقولهم إن إنسانأً إذا نشأ مغتذياً بلحم إنسان آخر فلا بد أن لا يبقى للآكل وللمأكول جزء يمكن إعادته . فأجاب الله تعالى عن الأول بقوله { يحييها الذي أنشأها أوّل مرة } يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً فإنه يعيده وإن لم يكن شيئاً . وعن الباقيتين بقوله { وهو بكل خلق عليم } فيجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع والسباع وهكذا يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الصلية للآكل والمأكول . ثم شبه خلق الإنسان بل الحيوان من قبل إيداع الحرارة الغريزية التي بها قوام الحياة في جوهر رطب طريّ بإنشاء الشجر الخضر الذي تنقدح منه النار . قالت العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر واستغزر يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ - وهو ذكر علىلعفار- وهي أنثى- فتنقدح النار بإذن الله عز وجل .
وعن ابن عباس : ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب قالوا : ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين .

قلت : ويشبه أن يكون كل شجرة في غاية الصلابة هكذا إلا أن يكون له سبب خاص به كما يروى أنه معجزة لموسى عليه السلام فإنه قد رأى النار فيها فلا ينبغي لغيره أن يراها . ثم أكد قدرته الكاملة على خلق الإنسان إبداء وإعادة بتذكر خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس . ثم اثبت ما نفاه مستفهماً للتقرير بقوله { بل وهو الخلاق } الكثير الخلق الكامل فيه { العليم } بكل جوهر وعرض وما يطلق عليه اسم الشيئية . ثم بين أن إيجاده ليس متوقفاً إلا على تعلق الإرادة بالمقدور وقد مر تقريره في أوائل « البقرة » وغيرها . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن المعدوم شيء . وأجيب بأن الآية دلت على أنه حين تعلق الإرادة به شيء ، أما إنه قبل ذلك شيء فكلا . ثم ختم السورة بتقرير المبدأ والمعاد على الإجمال . فقوله { بيده ملكوت كل شيء } إشارة إلى المبدأ . وقوله { وإليه ترجعون } إشارة إلى المعاد وإذا تقرر الطرفان فما بينهما الوسط المشتمل على التكاليف والرسالة ، فهذه الآية كالنتجية للمقدمات السابقة في السورة . عن ابن عباس : كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ان لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس » فذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه أن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر وأنه مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فلذلك سماها قلب القرآن . وقال غيره : إن الأصول الثلاثة التي يتعلق بها نصيب الجنان وهي التوحيد والرسالة والحشر مكررة في هذه السورة . وليس فيها شيء من بيان وظيفة اللسان ولا العمل بالأكان . فلما كان أعمال القلب لا غير سماه قلباً ، ولهذا ورد في الأخبار أنه ينبغي أن تقرأ على الميت حالة النزع وذلك ليزداد بها قوة قلبه ، فإن الأعضاء الظاهرة وقتئذ ساقطة المنة ، والقلب مقبل على الله معرض عما سواه ولنا فيه وجه هو بالتأويل أشبه فلنذكره هناك .
التأويل : { اتقوا ما بين أيديكم } من الدنيا وشهواتها { وما خلفكم } من نعيم الجنة ولذاتها { لعلكم ترحمون } بمشاهدة الجمال وأنوار الكمال { ونفخ في الصور } إشارة إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب ، فإذا السر والروح والخفى من أجداث أوصاف البشرية { إلى ربهم ينسلون } يرجعون بعضها بالسير وبعضها بالطيران { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } شغلهم الله بالمفاكهة عن المشاهدة كما قال بعض الصوفية : والناس يخرجون من مسجد الجامع هؤلاء حشو الجنة . وللمجالسة اقوام آخرون وهم الفارغون من الالتفات إلى الكونين . قال الله تعالى { فإذا فرغت } [ الشرح : 7 ] أي من تعلقات الكونين { فانصب } [ الشرح : 7 ] لطلب الوصال . ويحكى أن الآية قرئت في مجلس الشبلي رضي الله عنه فشهق شهقة وغاب ، فلما أفاق قال : مساكين لو علموا أنهم عم شغلوا لهلكوا .

ويحتمل أن يقال : إنهم اليوم أي في الدنيا ف شغل بأنواع الطاعات والعبادات من طلب الحق والشوق إلى لقائه كما يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال : رايت رب العزة في منامي فقال لي : ابن معاذ ، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني . ويمكن أن يقال : إنهم اليوم في الدنيا في شغل بالطاعات والرضا بما قسم الله عن طلب اللذات والفوائد وارتكاب المحرمات والزوائد . أو يقال : إنه خطاب للعصاة فإن أهل الله هم المستغرقون في بحار عظمة الله ، وأهل الجنة مشتغلون باستيفاء اللذات وليس العصاة إلا رحمتي وكرمي كما قال { يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] { وتشهد أرجلهم } في بعض الأخبار المروية أن عبداً لتشهد عليه أعضاؤه بالذلة فتتطاير شعرة من جفن عينه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى : تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي . فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد : هذا عتيق الله بشعرة . { ومن نعمره ننكسه } إن السالك إذا عمر صار في آخر الأمر إلى الفناء في الله حتى لا يبقى منه ما يستند الفعل إليه . وفي قوله { وما علمناه الشعر } إشارة إلى أن العلوم والصنائع كلها من الله تعالى وبتعليمه وإلهامه . { من الشجر الأخضر } وهو شجرة البشرية نار المحبة { توقدون } مصباح قلوبكم . وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن قلب القرآن يس » لأن ذكره صلى الله عليه وسلم رمز إليه في أول السورة وفي آخرها . أما الأول فقد مر في تفسير لفظ { يس } وأما الثاني فلأن قوله { فسبحان } إلى آخره يدل على المبدأ والمعاد تصريحاً ، وعلى الرسالة ضمناً ، ولا ريب أن القلب خلاصة كل ذي قلب ، وإنه صلى الله عليه وسلم كان خلاصة المخلوقات وكان خلقه القرآن الذي نزل على قلبه ، وكأن فاتحة السورة وخاتمتها مبنية على ذكره منبئة عن سره كالقلب في جوف صاحبه فلأجل هذه المناسبات أطلق على { يس } أنه قلب القرآن والله ورسوله أعلم بأسرار كلامه .
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

القراآت : { والصافات صفاً } وما بعدهما مدغماً : حمزة وأبو عمرو غير عباس { بزينة } منوناً : حمزة وعاصم غير المفضل { الكواكب } بالنصب : أبو بكر وحماد . الباقون : بالجر { لا يسمعون } بتشديد السين والميم وأصله « يتسمعون » : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الآخرون : بسكون السين وتخفيف الميم . { بل عجبت } بالضم : حمزة وعلي وخلف . الآخرون : بالفتح على الخطاب { آيذا } بالمد والياء { إنا } بهمزة واحدة مكسورة : يزيد وقالون وزيد . الباقون : مثل التي في « الرعد » وأما الثانية فمثل التي في « الرعد » { أو آباؤنا } مثل { أو أمن أهل القرى } [ الأعراف : 98 ] وكذلك في « الواقعة » { لا تناصرون } بالتشديد البزي وابن فليح { أئنا } { أئنك } { أئفكا } مثل { ائنكم } في « الأنعام » { ينزفون } بضم الياء وكسر الزاي : حمزة وعلي وخلف والمفضل . الآخرون : بفتح الزاي { لترديني } بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل .
الوقوف : { صفا } 5 لا { زجراً } 5 لا { لواحد } 5 ط { المشارق } 5 ط { الكواكب } 5 لا { مارد } 5 ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي . وعليه بحث يجيء في التفسير { واصب } 5 لا { ثاقب } 5 ج { خلقنا } ط { لازب } 5 { ويسخرون } 5 ص { لا يذكرون } 5 ص { يستسخرون } 5 ص { مبين } 5 ج { لمبعوثون } 5 لا { الأوّلون } 5 ط { داخرون } 5 { ينظرون } 5 { الدين } 5 { تكذبون } 5 { يعبدون } 5 لا { الجحيم } 5 { مسؤولون } 5 لا لأن المسؤول عنه قوله { ما لكم لا تناصرون } 5 { مستسلمون } 5 { يتساءلون } 5 { اليمين } 5 { مؤمنين } 5 ج { سلطان } ج للعدول مع اتفاق الجملتين { طاغين } 5 { لذائقون } 5 { غاوين } 5 { مشتركون } 5 { بالمجرمين } 5 { يستكبرون } 5 { مجنون } 5 ط { المرسلين } 5 { الأليم } 5ج { تعملون } 5 لا { المخلصين } 5 { معلوم } 5 { فواكه } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { مكرمون } 5 لا { النعيم } 5 لا { متقابلين } ج { معين } 5 لا { للشارين } 5 ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { ينزفون } 5 { عين } ط { مكنون } ج { يتساءلون } 5 { قرين } 5 { المصدّقين } 5 { لمدينون } 5 { مطلعون } 5 { الجحيم } 5 { لتردين } 5 { المحضرين } 5 { بميتين } 5 لا { بمعذبين } 5 { العظيم } 5 { العالمون } 5 { الزقوم } 5 { للظالمين } 5 { الجحيم } 5 لا لأن ما بعده صفة لشجرة { الشياطين } 5 { البطون } 5 لا لأن « ثم » لترتيب الأخبار { حميم } 5 { الجحيم } 5 ج { ضالين } 5 لا للعطف مع اتصال المعنى { يهرعون } 5 { الأوّلين } 5 { منذرين } 5 { المنذرين } 5 لا { المخلصين } 5 { المجيبون } 5 ز { العظيم } 5 ز { الباقين } 5 ز { في الآخرين } 5 لا لأن ما بعده مفعول تركنا على سبيل الحكاية { العالمين } 5 { المحسنين } 5 { المؤمنين } 5 { الآخرين } 5 .

التفسير : إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء ، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس ، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه ، أو هو على عادة العرب ، أو المراد تعظيم هذه الأشياء وتشريفها ، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف . قال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الزاي وفي الذال لتقارب مخارجها ، الا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأوصل الثنايا ويجتمعان في الهمس ، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن؟ وايضاً الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير . ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثاً لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة . وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل : أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض ، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى . والصف ترتيب الشيء على نسق . الفاعل صاف ، والجماعة صافة ، والصافات جمع الجمع ولولا ذلك لقيل والصافين . قال الحكيم : يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفاً أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة . والزجر سوق السحاب . قال ابن عباس : يعني الملائكة الموكلين بالسحاب . وقال آخرون : أراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات ، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم . والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأبنياء . والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة ، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية ، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية . الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض ، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات ، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها . أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله ، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } [ الصف : 4 ] والزجرة والصيحة سواء . والمراد رفع الصوت بزجر الخيل . وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله . يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دماً فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء . الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد ، وبعضها دلائل العلم والقدرة ، وبعضها دلائل النبوة ، وبعضها دلائل المعاد ، وبعضها بيان التكاليف والأحكام ، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة ، وكلها مترتبة ترتيباً لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة ، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات .

وأما نسبة التلاوة إليهن فمجاز كما يقال : شعر شاعر . والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه . ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله :
الصابح فالغانم فالآيب ... كأنه قال : الذي صبح فغنم فآب . مثاله المصلون يقفون أوّلاً صفوفاً ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة .
وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة؛ فالصافات الطير من قوله { والطير صافات } [ النور : 41 ] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله ، والتاليات كل من تلا كتاب الله . أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإِنسانية ، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى . وقيل : الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم ، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف ، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه . والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل . ثم إنه سبحانه لو يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال { رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها . وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] . ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين : الأولى تحصيل الزينة ، والثانية الحفظ من الشيطان . والزنية مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة . ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه : أن يكون مصدراً مضافاً إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها ، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها ، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها ، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر . وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر ، ويجوز أن يقع { الكواكب } بياناً للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة . ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء . ومن قرأ باتنوين { زينة } وجر { الكواكب } فعلى الإبدال ، ومن قرأ بتنوين { زينة } ونصب { الكواكب } فعلى أنه بدل من محل { بزينة } أو من السماء ، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة .

قوله { وحفظاً } فيه وجوه أحدها : أنه محمول على المعنى والتقدير : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً من الشياطين . وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل : وحفظاً من كل شيطان زيناها بالكواكب . وثالثها قال المبرد : إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم . تقول : افعل ذلك كرامة أي وأكرمك كرامة ، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير : وحفظناها حفظاً . قال المفسرون : الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب فأخبروا صنعاءهم ، فجعل الله الكواكب في زمن محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تحرقهم وتحفظ أهل السماء في إصغائهم . قال الحكيم : ليس المراد بالكواكب الحافظة أنفس الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلا لوقع نقصان ظاهر في أعدادها ، بل المراد ما يضاهيها من الشهب الحادثة عند كرة النار من الأبحرة المرتفعة ، وقد مر تحقيق ذلك في أول سورة الحجر . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : إن الشياطين لهم حذق كامل في استخراج الصنائع الدقيقة فإذا عرفوا هذه الحالة بالتجربة فلم لا يمنعون منه . وأيضاً إنهم مخلوقون من النار والنار كيف تؤثر في النار؟ وأيضاً مقر الملائكة السطح الظاهر من الفلك الأعلى وإنهم لا يصعدون إلا إلى قريب من الفلك الأدنى فكيف يسمعون كلام الملائكة؟ والجواب أنا لا نسلم حذقهم في كل الأمور ولهذا جاء في وجوه تسخيرهم ما جاء على أن موضع الاستراق والاحتراق غير متعين ، ووقوع هذه الحالة أيضاً كالنادر . فلعل المسترق يكون غير واقف عليه ، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان ناراً صرفاً ، ولكن الناري غالب عليه . ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله . والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق .
والضمير في قوله { لا يسمعون } لكل شيطان لأنه في معنى الجمع . والتسمع تكلف السماع سمع أو لم سمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بإلى . وقيل : معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي . قال جار الله : هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له ، ولا يصح أن يكون استئنافاً لأن سائلاً لو سأل : لم يحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون . لم يستقم فبقي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع . قلت : لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز ، وكذا إن كان مستأنفاً كأنه قيل : لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا .

ومن هنا زعم بعضهم أن أصله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم « أن » وأهدر عملها كما في قول القائل :
ألا ايهذا الزاجري أحضر الوغى ... ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك « جئتك أن تكرمني » وحذف « أن » في قول الشاعر جائز ، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات . قلت : إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضاً لا يصح إلا بتقدير اللام أو « من » مع « أن » . والملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات . وعن ابن عباس : أراد أشراف الملائكة . وعنه : الكتبة من الملائكة . والقذف الرمي بحجر تقول : قذفته بحجر أي رميت إليه حجراً . وقوله { من كل جانب } أي مرة من هذا الجانب ومرة من هذا الجانب . وقيل : من كل الجوانب . { دحوراً } أي طرداً مع صغار مصدر من غير لفظ الفعل ، لأن القذف والطرد متغايران كأنه قيل : يقذفون قذفاً أو يدحرون دحوراً . ويجوز أن يكون مفعولاً له اي لأجل الدحور أو مصدراً في موضع الحال أي مدحورين كقوله { مذموماً مدحوراً } [ الإسراء : 18 ] { ولهم } أي للشياطين { عذاب واصب } دائم وقد مر في النحل في قوله { وله الدين واصباً } [ النحل : 52 ] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع { إلا من خطف } في محل الرفع بدلاً من الواو في { لا يسمعون } أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة . وقيل : وثب وثبة . وقيل : الاستثناء منقطع خبره { فأتبعه } أي أتبعه ورمى في أثره { شهاب ثاقب } مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا . وقيل : تصيبهم آفة فلا يعودون . وقيل : لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك . وقيل : يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي السفينة للتجارة . وحين بين الوحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين : الأوّل أن يقال : قدر على الأصعب فيقدر على الأسهل بالأولى ، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية . أما الطريق الأوّل فاشار إليه بقوله { فاستفتهم } أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين ، وغلب أولي العقل على غيرهم . وقيل : اراد عاداً وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية . والقول الأول اقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله { خلقنا } إكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق ، فاستخبرهم أهم أشد خلقاً أم هذه الخلائق ، ومن هان عليه هذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون . وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله { إنا خلقناهم من طين لازب } أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس : هو الملتصق من الطين الحر .

وقال مجاهد والضحاك : هو المنتن . ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلاً للحياة لم يقبلها من أول الأمر ، وإذا قبلها أوّلاً فلا يبقى ريب في قبولها ثانياً ، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن ، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها . وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل ، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة . ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال { بل عجبت } من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث { و } هم { يسخرون } من تعجبك ، أو عجبت من القرآن حين أعطيته ويسخر أهل الكفر منه . ومن قرأ بالضم فأورد عليه أن التعجب على الله غير جائز لأنه روعة تعتري الشخص عند استعظام الشيء . وقيل : هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء . وأجيب بأن معناه : قل يا محمد بل عجبت . سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر . سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والستهزاء والمعنى : بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها ، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية { وإن تعجب فعجب قولهم } [ الرعد : 5 ] . عند من يرى أن العجب من الله . وقد جاء في الحديث « يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة » وقال أيضاً : « عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته » والألّ التضرع . ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون .
{ وإذا رأوا آية } بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات { يستسخرون } يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر . فالحصال أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث . قوله { أو آباؤنا } من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم « أن » ، ومن قرأ بفتحها فعليه ، أو على الضمير في { مبعوثون } وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى : أيبعث أيضاً آباؤنا؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد . وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله { قل نعم } تبعثون { وأنتم داخرون } صاغرون أذلاء . وإذا كان كذلك { فإنما هي } أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره { زجرة } واحدة يعني صيحة النفخة الثانية { فإذا هم ينظرون } أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم . { وقالوا يا ويلنا } الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله { تكذبون } يقوله الكفرة فيما بينهم .

وقيل : إن كلامهم يتم عند قوله { يا ويلنا } ثم قال الله أو الملائكة { هذا يوم الدين } الجزاء والحساب { هذا يوم الفصل } القضاء والفرق بين المحسن والمسيء { احشروا الذين ظلموا } بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم . وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث اي اجمعوهم { وأزواجهم } أي أشكالهم الذي على دينهم وسيرتهم؛ الزاني مع الزاني ، والسارق مع السارق ، والشارب مع الشارب . وقيل : قرناءهم من الشياطين . وقيل : نساءهم اللاتي على ملتهم . { وما كانوا يعبدون من دون الله } من الأصنام { فاهدوهم } ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم { إلى صراط الجحيم } وسطها أو طريقها لأنه قال بعد ذلك { وقفوهم } اي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكماً وتوبيخاً بالعجز عن التناصر { ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون } قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله . وحقيقته طلب كل منهم سلامة نفسه فقال المفسرون : إن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة . ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم { قالوا } لرؤسائهم { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } وفيه وجوه ، الأول : أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعاً وعرفاً . كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال ، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيآت ، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء بالضد ، وما جعلت يمنى إلا للتيمن بها ولذلك تيمنوا بالسانح وتطيروا بالبارح . فقيل : أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه وأضله . قال جار الله : من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير . ثم صار قولك « أتاه عن اليمين » مجازاً في المعنى المذكور . الثاني : أن يقال : فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا : إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم . الثالث : اليمين الحلف ، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم . الرابع : أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالباً أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال . وكما أن الضمير في { قالوا } الأول كان عائداً إلى الأتباع بقرينة الخطاب ، فالضمير في { قالوا } الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة . والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا . { وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً } مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم } [ إبراهيم : 22 ] { فحق علينا قول ربنا إنا لذاقون } قال مقاتل : أراد قوله :

{ لأملأن جهنم } [ الأعراف : 18 ] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقاً فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب . قال جار الله : لو حكى الوعيد كما هو لقال « إنكم لذائقون » ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع { فأغويناكم إنا كنا غاوين } أي أقدمنا على أغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب أغوائنا فغوايتنا إن كانت بسب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضاً من الله كما مر في قوله { فحق علينا قول ربنا } هذا تفسير أهل السنة . وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا : { بل لم تكونوا مؤمنين } أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان ، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق علينا وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة { فأغويناكم } فدعوناكم إلى الغي لأنا كنا غاوين فاردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا . وحين حكى كلام الأتباع والمتبوعين أنتج من ذلك قوله { فإنهم } جميعاً { يومئذ } أي يوم القيامة { في العذاب مشتركون } كما كانوا مشتركين في الغواية . ولعل للمتبوعين عذاباً زائداً للإغواء ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء { إنا كذلك } أي مثل ذلك الفعل { نفعل } بكل مجرم أي كافر بدليل قوله { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } يابون من قبوله ، والجملة الشرطية خبر « كان » وهو مع الاسم والخبر خبر « إن » وإن ألغيت « كان » فالخبر { يستكبرون } و « إذا » ظرفه .
{ ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } عنوا محمداً صلى الله عليه وسلم بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعاً فردّ عليهم بقوله { بل جاء } متلبساً { بالحق وصدّق المرسلين } وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم { فحق علينا قول ربنا } ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلاً { إنكم لذائقوا العذاب الأليم } ثم كان لقائل أن يقول : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال { وما تجوزون إلا ما كنتم تعملون } فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة ، والنهي عن القبيح والمعصية ، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب ، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صوناً للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة اشبه . والسنيّ يقول : لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل . قال جار الله { إلا عباد الله } استثناء منقطع أي لكن عباد الله { المخلصين أولئك لهم رزق } قلت : يجوز أن يكون الاسثناء متصلاً والمعنى : وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة إلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف .

ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله { إنكم } للمكلفين جميعاً فيصح الاستثناء المتصل مطلقاً أي تذوقون العذاب الأليم . قوله { معلوم } قيل : أي معلوم الوقت كقوله { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] وقيل : معلوم الصفة لكونه مخصوصاً بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر . وقيل : معلوم القدر على حسب استحقاقهم . وقيل : أراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع . ثم فسر ذلك الرزق بأنه { فواكه } فقيل : إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة ، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فلذلك سمي رزقهم فاكهة . وقيل : أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان الطعام أولى بالحضور . وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال { وهم مكرمون } إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم . وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال { في جنات النعيم على سرر متقابلين } وقد مر في « الحجر » . ثم وصف مشروبهم . قال أهل اللغة : لا يسمى الإناء كاساً إلا إذا كان فيها خمر ، وقد تسمى الخمر نفسها كأساً . عن الأخفش :
كل كأس في القرآن فهي الخمر ... وكذا في تفسير ابن عباس : والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء . وقد يقال : عان الماء يعين إذا ظهر جارياً قاله ثعلب . وقيل : « فعيل » من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه . واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء . وبيضاء صفة للكأس : قال الحسن : خمر الجنة أشدّ بياضاً من اللبن . { ولذة } إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة ، أوصي تأنيث . اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول . يقال : غاله يغوله غولاً إذا أهلكه وافسده ، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله { ولا هم عنها ينزفون } أي يسكرون . وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر . يقال : نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله . والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء . وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف . وعن بعضهم أن معنى قوله { ولا هم عنها ينزفون } هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار . والأوّلون حملوه على المبالغة . ثم وصف منكوحهم بقوله { وعندهم قاصرات الطرف } أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله { عرباً } [ الواقعة : 37 ] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين . ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها ، وذلك لأن فيها بياضاً يشوبه قليل من الصفرة ، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن ، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور .

ثم عطف على قوله { يطاف } قوله قوله { فاقبل } وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار . ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار . والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة . قال بعضهم :
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام
وقد حكى من جملة مكالماتهم تذكرهم أنه كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله ، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالنعيم المقيم وهذا ابتداء الحكاية { قال قائل منهم } أي من أهل الجنة { إني كان لي قرين } جليس أو شريك في الدنيا { يقول أئنك لمن المصدقين } أي بيوم الدين { أئنا لمدينون } لمجزيون من دان يدين إذا جزى . وقيل : لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث « الكيس من دان نفسه » وعن بعضهم : اراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله { واضرب لهم مثلاً رجلين } [ الآية : 32 ] { قال } يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة { هل أنتم مطلعون } إلى النار اي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم منها . عن ابن عباس : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار { فاطلع } على أهل النار فرأى قرينه { في سواء الجحيم } وسطها { قال } لقرينه { تالله إن كدت لتردين } « إن » مخففة واللام فارقة . والإرداء الإِهلاك ، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا إلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي . والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته ، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم ، نظيره ما مر في قصة صالح { فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم } [ الأعراف : 79 ] إلى آخر الآية والله أعلم . ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } في النار مثلك أطلق إطلاقاً لأن الإِحضار يستعمل في الشر غالباً ولا سيما في اصطلاح القرآن . وحين تمم كلامه مع الرجل الذي كان قريناً له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلاً { افما نحن بميتين } وفيه قولان أحدهما : إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم ، أو يسالون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون والتقدير : نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب .

وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله سبحانه واغتباطاً بحاله ، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول . أفيدوم هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه . وايضاً إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخاً له وليحكيه الله فيكون لنا لطفاً وزجراً . احتج نفاة عذاب القبر بقوله { إلا موتتنا الأولى } فإنه يدل على أن الإنسان لاي موت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلاً مرتين . وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا . وقوله { إن هذا لهو الفوز العظيم } يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعاً له وتوبيخاً وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه أو هو قول الله تصديقاً لهم ، وكذا قوله { لمثل هذا فليعمل العاملون } ولا خلاف أن قول ذلك خير من كلام الله عز وجل كأنه لما تمم قصة المؤمن رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فاستفهم للتقرير أن ذلك الزرق { خير نزلاً أم شجرة الزقوم } قال جار الله : أصل النزل الفضل والريع في الطعام يقال : طعام كثير النزل . فاستعير للحاصل من الشيء ، وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور ، وحاصل تلك الشجرة الألم والغم . ويمكن أن يقال : النزل ما يقدّم للضيف ، ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ولكنهم وبخوا على ذلك . وظاهر القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم والرائحة مؤلمة التناول صعبة الابتلاع إلا أن المفسرين اختلفوا في ماهيتها ، فذكر قطرب أنها شجرة مرة تكون بتهامة . وقال غيره : إنها ليس لها في الدنيا وجود بدليل قوله { إنا جعلناها فتنة للظالمين } وذلك أنها خلاف المألوف والمعتاد فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله تعالى وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن ويزيد في شبهته كقوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وقيل : إنما كانت فتنة لهم لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فهو كقوله { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] وذكر المفسرون أن ابن الزبعري قال لصناديد قريش إن محمداً يخوّفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وإفريقية الزبد والتمر . وذكروا أيضاً أن أبا جهل أدخلهم بيته وقال : يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال : تزقموا فهذا الذي يوعدكم محمد به فأنزل الله صفة الزقوم .
وذكر بقية أوصاف الشجرة منها { إنها تخرج في أصل الجحيم } اي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها . وفيه تكذيب للطاعنين فيه كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر . ومنها { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } قال جار الله : الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية وذلك أن يكون وجه الاستعارة مجرد الطلوع أي الظهور ، أو معنوية وذلك إذا كان يشبه الطلع شكلاً ولوناً .

وفي تشبيه ثمرتها برؤوس الشياطين أقوال أحدها وهو الأقوى : إنه تمثيل وتخييل وذلك أن الشيطان مثل في القبح ونفرة الطباع عنه كما أن الملك مثل في الحسن وميل النفوس أليه ، وإذا كان الشيطان كله مستقبحاً فراسه كذلك ، وتشبيه الثمرة براسه أولى للاستدارة وللتوسط في الجحيم . الثاني أن الشيطان ههنا نوع من الحيات تعرفها العرب ، خفاف لها أعراف ورؤوس قباح . الثالث أنه شجر معروف عند العرب قبيح الأعالي يسمى الأستن وثمره يسمى رؤوس الشياطين . الرابع قال مقاتل : رؤوس الشياطين حجارة سود تكون حول مكة . ولعل هذا بل الثالث والثاني أيضاً يعود إلى الأول إلا أنه بعد التسمية كأنه صار أصلاً يشبه به . ثم علل جعل الشجرة فتنة للظالمين بقوله { فإنهم لآكلون منها } أي من طلعها { فمالؤن منها البطون } أي بطونهم إما لأن شدّة الجوع تحملهم على تناول ذلك الشيء الكريه ، وإما لأن الزبانية يقسرونهم على أكلها ليكون باباً من العذاب ، فإذا شبعوا غلبهم العطش أو أخذتهم الغصة فيسقون من حميم وهو الماء الشديد الحرارة ، وقد وصفه الله سبحانه في قوله { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه } [ الكهف : 29 ] والشوب المزج كما قال في صفة شراب أهل الجنة { ومزاجه من تسنيم } [ المطففين : 27 ] وهو تسمية بالمصدر والمراد أن الطعام مزج بالحميم أو يسقون صديداً أو شراباً حاراً ممزوجاً بما هو أحر وهو الحميم . ومعنى « ثم » التراخي في الزمان كأنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة تكميلاً للتعذيب ، أو التراخي بالرتبة لأن الشراب ابشع من الطعام بكثير . قال مقاتل : معنى « ثم » في قوله { ثم إن مرجعهم } أنهم يخرجون من الجحيم ودركاتها إلى موضع فيه الزقوم والحميم ، وبعد الأكل والشرب يردّون إلى موضعهم أي من الجحيم فكأنهم في وقت الأكل والشرب لا يعذبون بالنار . وقيل : هو كقولهم « فلان يرجع إلى مال ونعمة » أي هو فيها . وقيل : « ثم » لتراخي الأخبار أي فقد صح أن مرجع الكفار إلى النار . وقيل : « ثم » مع الجملة قد تدل على التقديم أي قبل ذلك كان مرجعهم إلى الجحيم . ثم بين أن سبب وقوعهم في أصناف العذاب المذكور هو التقليد . والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يساقون سوقاً ولو لم يوجد في ذم التقليد إلا هذه الآية لكفى . ثم اراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً بقوله { ولقد ضل قبلهم } أي قبل قومك { اكثر الأوّلين } ثم استثنى من قوله { ولقد ضل } أو { من المنذرين } المهلكين عباده المخلصين فإن عاقبتهم كانت حميدة .

ثم سلاه بوقائع الأمم الخالية تفصيلاً وقدّم قصة نوح عليه السلام لكونه أباً ثانياً ونداؤه في قوله { رب انصرني بما كذبون } [ المؤمنون : 26 ] أو قوله { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] واللام الداخلة على { نعم } جواب قسم محذوف أو لبتداء ، والمخصوص بالمدح وهو نحن محذوف ، والجمع لتصوير العظمة والكبرياء ، وفيه وفي فاء التعقيب في { فلنعم } دليل على أن نداء العظيم الكبير حقيق بأن يكون مقروناً بإجابة . والكرب العظيم ما هو فيه من مخاوف الطوفان أو من إيذاء قومه مع الياس من إيمانهم وهذا أقرب . وفي قوله { هم الباقين } بصيغة الحصر دلالة على أن كل ما سواه وسوى ذريته فقد فنوا . روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ذرّيته وهم سام وحام ويافث . فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان شرقاً وغرباً ، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في المتأخرين من الأمم هذه الكلمة وهي { سلام على نوح } ومعنى { في العالمين } أن هذه التحية ثبتها الله فيهم فيسلم الثقلان عليه إلى يوم القيامة . ثم بين أن سبب هذه التشريفات هو كونه محسناً وهذا جزاء كل محسن . ثم بين أن إحسانه كان مسبوقاً بإيمانه فعلى كل مؤمن أن يجتهد حتى يصير محسناً . وحين تمم ما آل إليه أمر نوح وذريته ذكر عاقبة سائر قومه فقال { ثم أغرقنا الآخرين } أعاذنا الله من الإغراق والإِحراق وجعل فلكنا فلك نوح وسفرنا متضمناً للنصر والفتوح .
التأويل : { والصافات } إشارة إلى ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد في أربعة صفوف : الأول للأنبياء ، والثاني للأولياء ، والثالث للمؤمنين ، والرابع لأهل الكفر { فالزاجرات } هي الإلهامات الربانية للعوام عن المناهي ، وللخواص عن رؤية الأعمال ، وللأخص عن الالتفات إلى غير الله { فالتاليات ذكراً } هم الذين يذكرون الله في الخلوات بخلوص النيات . رب سموات القلوب وأرض النفوس وما بينهما من صفاتهما ورب مشارق القلوب يطلع منها شموس الشواهد واقمار الطوالع ونجوم اللوامع . السماء الدنيا هي الرأس ، وكواكبها الحواس ، والشهب هي الخواطر الرحمانية تدفع بها الوساوس الشيطانية { طين لازب } أي لاصق بكل ما يصادفه فقوم لصقوا بالدنيا وقوم لصقوا بالآخرة وقوم لصقوا بنفحات ألطاف الحق ، فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه عنه : { وقفوهم إنهم مسؤولون } للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام . فقوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك ، والأوّلون أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف . والآخرون قسمان : قوم لهم أعمال يسترها الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة كما قال « أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري » وقوم لهم ذنوب لا يطلع عليها إلا الله فيسترها عليهم كما جاء ذكره في الحديث

« إن الله يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كتفه يستره من الناس فيقول : أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : نعم اي رب . ثم يقول : أي عبدي تعرف ذنب كذا! وكذا!؟ فيقول : نعم . ثم يقول : اي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : نعم أي رب . حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته » { إلا موتتنا الأولى } وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية وبعد ذلك لا موت ، بل ينتقل من دار إلى دار . { لمثل هذا فليعمل العاملون } بل لمثل هذه الأمور تبذل الأرواح وتفدى الاشباح كما قيل : ( شعر )
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن بات من ليلى على اليأس والصدّ
ثم أخبر بعد قصة الأولياء عن قصة الأعداء بقوله { أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم } وفي قوله { كأنه رؤوس الشياطين } دليل على أن أفعالهم كانت في قبح صفات الشياطين فكانت مكافأتهم من جنس صورة الشياطين { سلام على نوح في العالمين } أنه تعالى سلم على نوح الروح لأنه يحتاج إلى سلام الله ليعبر على الصراط المستقيم الذي هو أدقَ من الشعر وأحدّ من السيف ، ولهذا يكون دعوة الرسل حينئذ رب « سلم سلم » . وإنما اختصوا بالصراط والعبور عليه ليؤدّوا الأمانة التي حملوها إلى أهلها وهو الله سبحانه وتعالى .
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

القراآت : { يزفون } بضم الياء وكسر الزاي : حمزة . الباقون : بفتح الياء { إني أرى } { إني أذبحك } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابو عمرو . { وترى } بضم التاء وكسر الراء : علي وخلف وحمزة . { ستجدني } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع { وإن إلياس } موصولاً كهمزة الوصل : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الآخرون : بكسر الهمزة { الله ربكم ورب } بالنصب في ثلاثتها على البدل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل . الباقون : برفعها على الابتداء والخبر . { آل ياسين } ابن عامر ونافع ورويس . الآخرون { إلياسين } كأنه جمع إلياس { لكاذبون اصطفى } موصلاً والابتداء بكسر الهمزة : يزيد وإسماعيل والأصبهاني عن ورش الباقون : بفتحها في الحالين .
الوقوف : { لإبراهيم } 5 ط لأن التقدير « واذكر » . وجوز في الكشاف أن يتعلق الظرف بما في الشيعة من معنى المتابعة فلا وقف { سليم } 5 { تعبدون } 5 ج للابتداء بالاستفهام مع اتحاد المقول { تريدون } 5 ط لاستفهام آخر { العالمين } 5 { في النجوم } 5 لا للفاء واتحاد المعنى { سقيم } 5 { مدبرين } 5 { تأكلون } 5 ج للاستفهام مع الاتحاد كما مر { لا تنطقون } 5 { باليمين } 5 { يزفون } 5 { تنحتون } 5 لا لأن الواو للحال { تعملون } 5 { في الجحيم } 5 { الأسفلين } 5 { سيهدين } 5 { الصالحين } 5 { حليم } 5 { ماذا ترى } ط { ما تؤمر } ز للسين مع اتصال المقول { الصابرين } 5 { للجبين } 5 ج لاحتمال أن الواو مقحمة { وناديناه } جواب « لما » ، ولاحتمال أن الجواب محذوف أي قبلنا منه وناديناه { يا إبراهيم } 5 لا { الرؤيا } ج لاحتمال أن ما بعده داخل في حكم النداء أو مستأنف { المحسنين } 5 { المبين } 5 { عظيم } 5 { في الآخرين } 5 لا { إبراهيم } 5 { المحسنين } 5 { المؤمنين } 5 { الصالحين } 5 { إسحق } ط { مبين } 5 { وهارون } 5 ج للآية مع العطف { العظيم } 5 ج لذلك { الغالبين } 5 لا { المستبين } 5 ج { المستقيم } 5 ج { في الآخرين } 5 لا { وهارون } 5 { المحسنين } 5 { المؤمنين } 5 { المرسلين } 5 لا وجه صحيح وإن لم يكن مقصوداً فلهذا لم يكن الوقف لازماً . { تتقون } 5 { الخالقين } 5 لا لمن قرأ { الله } بالنصب { الأوّلين } 5 { لمحضرون } 5 { المخلصين } 5 { في الآخرين } 5 لا { الياسين } 5 { المحسنين } 5 { المؤمنين } 5 { المرسلين } 5 { أجميعن } 5 لا { الغابرين } 5 { الآخرين } 5 { مصبحين } 5 لا { وبالليل } ط { تعقلون } 5 { المرسلين } 5 لا { المشحون } 5 لا { المدحضين } 5 ج لحق المحذوف مع الفاء { مليم } 5 { من المسبحين } 5 لا { يبعثون } 5 { سقيم } 5ج { يقطين } 5 ج { أو يزيدون } 5 ط { إلى حين } 5 ط { البنون } 5 ط { شاهدون } 5 { ليقولون } 5 لا { ولد الله } لا تعجيلاً لتكذيبهم { لكاذبون } 5 { البنين } 5 ط لابتداء استفهام آخر { تحكمون } 5 { تذكرون } 5 ج لأن « أم » تصلح استئنافاً { مبين } 5 لا لتعجيل أمر التعجيز { صادقين } 5 { نسباً } ط { لمحضرون } 5 لا لتعلق الاستثناء و { سبحان الله } معترض { يصفون } 5 { المخلصين } 5 { تعبدون } 5 لا { بفاتنين } 5 لا { الجحيم } 5 { معلوم } 5 { الصافون } 5 ج للعطف مع الاتفاق { المسبحون } 5 ج { ليقولون } 5 لا { من الأوّلين } 5 لا { المخلصين } 5 { يعلمون } 5 { المرسلين } 5 لأن ما بعده يصلح ابتداء مقولاً للكلمة { المنصورون } 5 ص لعطف الجملتين المفقتين { الغالبون } 5 { حين } 5 لا للعطف ولشدة اتصال المعنى { يبصرون } 5 { يستعجلون } 5 { المنذرين } 5 { حين } 5 لا { يبصرون } 5 { عما يصفون } 5 ج لعطف جملتين مختلفتين { المرسلين } 5 ج للابتداء بالحمد الذي به يبتدأ الكلام وإليه ينتهي مع اتفاق الجملتين { العالمين } 5 .

التفسير : الضمير في { شيعته } يعود إلى نوح والمراد أن إبراهيم ممن شايع نوحاً على أصول الدين أو على التصلب في الدين . وقال الكلبي : واختاره الفراء إنه يعود إلى محمد أي هو على منهاجه ودينه وإن كان إبراهيم سابقاً والأوّل لتقدّم ذكر نوح . ولما روي عن ابن عباس معناه من أهل دينه وعلى سنته وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان : هود وصالح ، وبين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة . ومعنى { جاء ربه } أقبل بقلبه على الله وأخلص العمل له . والقلب السليم قد مرّ في « الشعراء » . ثم ذكر من جملة آثار سلامة قلبه أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد . ومعنى { ماذا تعبدون } أي شيء تعبدونه كقوله في « الشعراء » { وما تعبدون } [ الآية : 70 ] سألهم عن جنس معبوديهم ثم وبخهم على ذلك بقوله { أئفكاً } هو مفعول له قدم للعناية كما قدم المفعول به على الفعل لذلك فإنه كان الأهم عنده أن يكافحهم ويعنفهم على شركهم وأنهم على إفك وباطل . ويجوز أن يكون { إفكاً } حالاً معنى أو مفعولاً به { آلهة } بدل منه على أنها إفك في أنفسها . { فما ظنكم برب العالمين } حتى جعلتم الجمادات أنداداً له أو حسبتم أنه يهمل أمركم ولا يعاقبكم ، وفيه أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصدر عن عبادته . وفي قوله { إني سقيم } قولان : الأوّل أنه صدر منه كذباً لمصلحة رأى فيه ، ولما جاء في الحديث « لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات » : قوله : { إني سقيم } وقوله { بل فعلهم كبيرهم } وقوله لسارة إنها أختي « وقد سبق تقرير ذلك في الأنبياء . والثاني وهو الأقوى أنه كلام صادق لأن الكذب قبيح وإن اشتمل على مصلحة . وأما الحديث فنسبه الراوي إلى الكذب أولى من نسبة نبي الله إلى ذلك .

وفي التوجيه وجوه : الأوّل إن النظر في النجوم يريد به النظر في علم النجوم وأحكامها وكتبها وذلك ليس بحرام ولا سيما في ذلك الشرع فليس فيه إلا اعتقاد أنه تعالى خص كل واحد من الكواكب بقوّة وخاصية يظهر بها منه أثر مخصوص ، والإنسان لا نيفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة له ، إما في بدنه أو في قلبه ، فلعل به سقماً كالحمى الثابتة ، أو أراد سيسقم لأمارة نجومية ، أو أراد به الموت الذي يلحقه لا محالة ولا داء أعي منه . الثاني : أن المراد بالنجوم ما جاء في قوله { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً } إلى آخر الآية . أي نظر فيها ليعرف أحوالها وأنها قديمة أو محدثة . وقوله { إني سقيم } أي سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ ، أو سقيم النفس لكفركم . الثالث : إن النجوم النبات أي فنظر فيها متحرياً منها ما فيه شفاء لسقمهم وهمهم أن به ذلك وكان به . وقال الأزهري عن أحمد بن يحيى : النجوم جمع نجم وهو كل ما تفرق ومنه نجوم الكتابة أي نظر في متفرقات كلامهم وأحوالهم حتى يستخرج منه حيلة فلم يجد عذراً أحسن من قوله { إني سقيم } قال المفسرون : كان الطاعون أغلب الأسقام عليهم فظنوا أن به ذلك فتركوه في بيت الأصنام مخافة العدوى وهربوا إلى عيدهم وذلك قوله سبحانه { فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم } ذهب إليها في خفية حتى لا يرى فكأنه رجع إليها مراوغاً قومه من روغان الثعلب . وقيل : راغ بقوله { إني سقيم } حتى خلا بها وسماها آلهة على زعمهم . وقوله { الا تأكلون ما لكم لا تنطقون } استهزاء بها وكان عندها طعام زعموا أنها تأكل منه . وقيل : وضع الطعام ليبارك فيه . وروى أن سدنتها كانوا يأكلون ما يوضع عندها من الطعام وينطقون عند الضعفة عن لسانها يوهمون أنها تأكل وتنطق . وإنما جاء في هذه السورة { فقال ألا تأكلون } بالفاء وفي « الذاريات » { قال ألا تأكلون } بغير الفاء لأنه قصد من أول الأمر تقريع من زعم أنها تأكل وتشرب ، وفي الذاريات « يستأنف تقديره : قربه إليهم فلم يأكلوها فلما رآهم لا يأكلون فقال ألا تأكلون .
{ فراغ عليهم } عداه بعلى لأن الميل الأول كان على سبيل الرفق استهزاء ، وهذا كان بطريق العنف والقهر وهذا كما يقال في المحبوب : مال إليه . وفي المكروه : مال عليه . وقوله { ضرباً } مصدر راغ من غير لفظه أو لفعل محذوف أو حال أي بضرب ضرباً أو ضارباً . ومعنى { باليمين } اي باليد اليمنى لأنها أقوى على الأعمال أو باقوّة مجازاً ، أو بسبب الحلف وهو قوله { تالله لأكيدن أصنامكم } { فأقبلوا إليه } أي إلى إبراهيم { يزفون } بمشون على سرعة . وزفيف النعامة ابتداء عدوها . ومن قرأ بضم الياء فإما لازم من أزف إذا صار إلى حال الزفيف ، أو متعدٍ والمفعول محذوف أي يزفون دوابهم أو بعضهم بعضاً وقد مر نظيره في التوبة في قوله

{ ولأوضعوا خلالكم } [ التوبة : 47 ] قال بعض الطاعنين ، قوله { فاقبلوا إليه } دل على أنهم عرفوا كاسر أصنامهم . وقوله في « الأنبياء » { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } [ الآية : 62 ] دل على أنهم لم يعرفوا الكاسر فبينهما تناقض . وأجيب بأن هؤلاء غير أولئك فالذين عرفوه ذهبوا إليه مسرعين ، والذين لم يعرفوه بعد استخبروا عنه . على أن قوله { فأقبوا إليه } لا دلالة له على أنهم عرفوا أن الكاسر هو إبراهيم فلعلهم أقبلوا إليه لأجل السؤال عن الكاسر . وحين عاتبوه على فعله أراد أن يبين لهم فساد طريقتهم ف { قال أتبعدون ما تنحتون } وذلك أن الناحت لم يحدث فيه إلا صورة معينة فيكون معناه أن الشيء الذي لم يكن معبوداً لي صار بسبب تصرفي فيه معبوداً لي وفساد هذا معلوم بالبديهة ، احتج جمهور الأشاعرة بقوله { والله خلقكم وما تعملون } على أن العبد ليس خالق أعماله لأن المعنى خلقكم وأعمالكم . وزيف بأن « ما » موصولة لتناسب قرينتها في قوله { ما تنحتون } وليتوجه التوبيخ ولكيلا يلزم التناقض فإن النحت عملهم . والصحيح أن الآية كقوله { بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } [ الأنبياء : 56 ] أي فطر الأصنام : ثم إن إبراهيم لما ألقمهم الحجر بهذا القول وألزمهم عدلوا إلى طريقة الإيذاء و { قالوا ابنوا له بنياناً } قال ابن عباس : بنوا حائطاً من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون . وتقدير الآية : ابنوا له بنياناً واملؤه ناراً وألقوه فيها . والجحيم النار العظيمة . ومعنى الفاء في قوله { فارادوا } كقوله { أهلكناها فجاءها بأسنا } [ الأعراف : 4 ] كأنه قيل : فبنوا البنيان وملؤه ناراً وألقوه فنجيناه منها . وقد صح أنهم أرادوا به كيداً { فجعلناهم الأسفلين } الأذلين وأما في الأنبياء فلم يقصد هذا الترتيب فاقتصر على الواو العاطفة . وإنما اختصت هذه السورة بقوله { الأسفلين } لأنه ذكر أنهم بنوا بنياناً عالياً فكان ذكر السفل في طباقه أنسب . ثم ذكر بقية قصة إبراهيم وقوله { إني ذاهب إلى ربي } كقوله في « العنكبوت » { إني مهاجر إلى ربي } [ الآية : 26 ] وإنما حكم بقوله { سيهدين } ربي إلى ما فيه صلاحي في الدارين اعتماداً على فضل الله أو عرف ذلك بالوحي . وحين هاجر إلى الرض المقدسة أراد الولد فقال { رب هب لي من الصالحين } والله تعالى بين استجابته بقوله { فبشرناه بغلام حليم } وصف الغلام بالعلم في سورة الحجر وبالحلم ههنا . فذهب العلماء إلى أنه أراد بغلام عليم في صغره حليم في كبره ، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ومن هنا انطوت البشارة على معان ثلاثة : أحدها أن الولد ذكر ، والثاني أنه يبلغ أوان الحلم ، والثالث أنه يكون حليماً ، وأيّ حلم أعظم من استمساكه حين عرض أبوه عليه الذبح فقال { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } وفيه أن ولده قائم مقامه في الشرف والفضيلة فوصفه بالحلوم كما وصف به إبراهيم في قوله

{ إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب } [ هود : 75 ] . وقيل : العليم إسحق لقوله { فأقبلت امرأته في صرة } [ الذاريات : 29 ] والحليم إسماعيل . ثم حكى حديث ذبحه قائلاً { فلما بلغ معه السعي } أي قوي على أن يمشي مع أبيه في حوائجه . والظرف بيان كأنه قال أوّلاً { فلما بلغ السعي } فقيل : مع من؟ فأجيب مع أبيه . ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ولا بقوله { بلغ } لأنهما لم يبلغا معاً حد السعي - والمعنى في اختصاص الأب إخراج الكلام مخرج الأغلب . وقال جار الله : السبب فيه أن الأب أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته . يروى أنه كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل أراد السعي في المنافع وفي طاعة الله .
اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح ، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل لقوله صلى الله عليه وسلم « أنا ابن الذبيحين » فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله . وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحداً منهم تقرباً ، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح فخرج قدح عبد اتلله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل ، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى ، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة . وفي رواية أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم « يا ابن الذبيحين » . فتبسم فسأل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده . فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه بمائة من الإبل . حجة أخرى : نقل عن الأصمعي أنه قال : سألت ابا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عقلك؟ ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة . وحجة أخرى : وصف إسماعيل بالصبر في قوله { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } [ الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح في قوله { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ووصفه بصدق الوعد { إنه كان صادق الوعد } [ مريم : 54 ] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به . أخرى : { ومن وراء إسحق يعقوب } [ هود : 71 ] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه لم يؤمر بذبحه .

أخرى : أجمعوا على أن إسماعيل مقدم في الوجود على إسحق فهو المراد بقوله { رب هب لي من الصالحين } ثم إنه ذكر عقيبة قصة الذبح . وايضاً قوله { وبشرناه بإسحق } يجب أن يكون غير قوله { فبشرناه بغلام حليم } وإلا لزم التكرار . حجة أخرى : ان قرني الكبش كانا ميراثاً لولد إسماعيل عن أبيهم وكانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت في أيام ابن الزبير والحجاج . وعن علي وابن مسعود وكعب الأحبار وإليه ذهب أهل الكتاب أن الذبيح إسحق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل اي النسب أشرف؟ فقال : يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله . وأجابوا عن قوله : { وبشرناه بإسحاق } أنه بشر بغلام أوّلاً ثم بنبوته ثانياً . وايضاً صرح بالمبشر به في قوله { فبشرناه بإسحق } [ هود : 71 ] وفي قوله { وبشرناه بإسحق } فيحمل عليه المبهم في قوله { فبشرناه بغلام } وأيضاً لا نسلم أن البشارة بيعقوب كانت متصلة ببشارة إسحق اعتباراً بقراءة من قرأ { يعقوب } [ هود : 71 ] بالرفع . وأيضاً أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله { إني ذاهب إلى ربي } هو مهاجرته إلى الشام ثم قال { فبشرناه بغلام } فوجب أن يكون الغلام الحليم قد حصل له في الشام وذلك الغلام لم يكن إلا إسحق ، لأن إسماعيل قد نشأ بمكة . وكان الزجاج يقول : الله أعلم أيهما الذبيح . ويتفرع على اختلاف المفسرين في الذبيح اختلافهم في موضع الذبح ، فالذين قالوا إن الذبيح إسماعيل ذهبوا إلى أن الذبح كان بمنى وهذا أقوى ، والذين قالوا إنه إسحق قالوا ن الذبح كان بالشام وخصه بعضهم ببيت المقدس . إذا عرفت هذا الاختلاف فقوله { يا بني إني أرى في المنام } إنما قال بلفظ المستقبل لأنه كان يرى في منامه ثلاث ليال أو لأن رؤيا الأنبياء وحي ثانٍ فذكر تأويل الرؤيا كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة : رايت في المنام أني ناجٍ من هذه المحنة فكأنه قال : إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك . ويحتمل أن يكون حكاية ما رآه . قال بعض المفسرين : رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فأصبح يروّي في ذلك أمن الله أو من الشيطان فسمي يوم التروية . فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فسمي عرفة ، ثم رأى مثله في الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر . وقال بعضهم : حين بشره الملائكة بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله ، فلما ولد وبلغ حد السعي مع أبيه قيل له : أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي . ومن قرأه من الإراءة فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك . وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح معافصة من غير إعلام به وبسببه ، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك { قال يا أبت افعل ما تؤمر } أي به فحذف الجار كقوله : أمرتك الخير .

اي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم إضافته إلى المفعول : { فلما اسلما } أي انقادا وخضعا لأمر الله . قال قتادة : اسلم هذا ابنه وهذا نفسه . { وتله } أي صرعه . واللام في { للجبين } كهي في قوله { ويخرون للأذقان } [ الإسراء : 109 ] والجبين أحد جانبي الجبهة . وقيل : كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني وأنا ساجد . يروى أنه حين أراد ذبحه قال : يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب ونحتطب ، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له : اشدد به رباطي لئلا اضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن ، واشحذ شفرتك واسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون اسهل . فقال إبراهيم : نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله . ثم اقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له : كبني على وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله . قال جار الله : تقدير الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في تضاعيف ذلك من الثواب والثناء ، وقد اشير إلى جميع ذلك بقوله { إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا } الأمر الذي قد وقع { لهو البلاء المبين } الذي يتميز فيه المخلص عن المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه . يروى أنه لما وصل موضع السجود منه الأرض جاء الفرج . وقيل : إنه وضع السكين على قفاه فانقلب السكين وونودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا . فنظر فإذا جبرائيل عليه السلام معه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل والكبش وإبراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه وذلك قوله سبحانه { وفديناه بذبح عظيم } والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه ، . والذبح اسم لما يذبح كالطحن لما يطحن . وقوله { عظيم } أي سمين ضخم الجثة بالقياس إلى أمثاله وهي السنة في الأضاحي . قال صلى الله عليه وسلم « استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم » والاستشراف جعلها شريفة وكريمة . وعن سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً . وفي قول ابن عباس : إنه الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة إلى أن فدى به غسماعيل .

وقيل : سمي عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد خليله . وقيل : وصفه بالعظم لبقاء أثره إلى يوم القيامة فإنه ما من سنة إلا ويذبح بسبب ذلك من الأنعام مالا يحصيه إلا الله . وعن الحسن : أنه وعل أهبط عليه من ثبير . وقال السدّي : نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح ينحط من الجبل فقام عند إبراهيم عليه السلام فذبحه وخلى ابنه .
استدل بعض الأصوليين من أهل السنة بالآية على جواز نسخ الحكم قبل حضور وقته . وقالت المعتزلة . وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية بعدم الجواز لاستلزامه البداء أو الجهل ، وزعموا أنه تعالى أمر إبراهيم في المنام بمقدمات الذبح كاضجاع ابنه ووضع السكين على حلقه ، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل أوان ورود الأمر . سلمنا أنه أمر بنفس الذبح لكن لم يجوز أنه قطع الحلقوم إلا أنه كان يلتئم جزءاً فجزءاً فلهذا قيل له { قد صدّقت الرؤيا } . والفداء فضل من الله في حقه وتعظيم له بدلاً من عدم وقوع الذبح في الظاهر ولهذا قال { وفديناه } . بإسناد الفداء إلى ذاته تعالى . والحق أن نسخ الحكم قبل وقته لا يدل على البداء والعبث كما أنه بعد الوقت لا يدل على ذلك فقد يكون غرض الآمر أن يعلم أن المأمور هل يعزم على الفعل ويوطن نفسه على الانقياد والطاعة أم لا . وتصديق الرؤيا يكفي فيه الإتيان بمثل هيئة الذبح ، فمن الرؤيا ما يكون تأويلها بالشبيه كرؤيا يوسف ، والفداء زيادة تشريف وتكريم ووضع سنة مؤكدة . وروي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي . وروي أنه لما ذبحه قال جبرائيل : الله أكبر الله أكبر . فقال الولد الذبيح : لا إله إلا الله واله أكبر . فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد . فبقي سنة . قوله { وتركنا } إلى قوله { المؤمنين } قد مر نظيره في قصة نوح إلا أنه لم يقل ههنا { في العالمين } اكتفاء بما علم في قصة نوح . ولم يقل ههنا { إنا كذلك } بل اقتصر على { كذلك } لأنه سبق ذكر التأكيد في هذه القصة فلم يحتج إلى إعادته على أنه قد بقي من القصة شيء فناسب الاختصار في الاعتراض . قوله { وبشرناه بإسحق } من جعل الذبيح إسماعيل قال : وبشرناه بإسحق بعد إسماعيل . ومن جعل الذبيح إسحق قال بشر بنبوّته وقد كان بشر بمولده . قوله { نبياً من الصالحين } كل منهما حال مقدرة من الفاعل أي بشرناه به مقدراً وعالماً وحاكماً بأنه نبي صالح . وقد أطنب صاحب الكشاف في هذا المقام حيث بنى الكلام على أنه حال مقدرة من إسحق . وهو عندي تطويل بلا طائل فليتأمل . { وباركنا عليه } قيل : أي على الغلام المبشر به .

قيل : على إبراهيم : { وعلى إسحق } اي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا . ومن جملة ذلك ما روي أنه أخرج من صلب غسحق ألفي نبي أوّلهم يعقوب وآخرهم عيسى وهم المشار إليهم بقوله { ومن ذريتهما محسن } ويعلم من قوله { وظالم لنفسه } أن البر قد يلد الفاجر ولا عار على الأب ، وأن الشرف بالحسب لا بالنسب . وأما قصة موسى فلا خفاء بها . والكرب العظيم تسلط فرعون وجفاؤه على قومه . وقيل : الغرق . والضمير في { نصرناهم } لها ولقومهما . والمستبين البليغ في بيانه وهو التوراة بان وأبان واستبان بمعنى إلا أن الثالث أبلغ . والصراط المستقيم دين الله الذي اشترك في أصوله جميع الرسل . وأما إلياس فالجمهور على أنه نبي من بني غسرائيل بعث بعد موسى وكان من ولد هارون . وقيل : هو إدريس النبي وقد مر ذكره في سورة مريم . و « إذ » ظرف 3 لمحذوف أي اذكر يا محمد لقومك { إذ قال لقومه ألا تتقون } الله . قال الكلبي . أي ألا تخافون عبادة غير الله . وحين خوّفهم مجملاً ذكر سببه فقال { أتدعون } أي أتعبدون { بعلاً } وهم اسم صنم من ذهب كان ببعلبك من بلاد الشام طوله عشرون ذراعاً وله اربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس . قال الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه : لو جوّزنا دخول الشيطان في جوف الصنم وتكلمه فيه لكان قادحاً في كثير من المعجزات كحنين الجذع وكلام الجمل . قلت : هذا الوهم زائل بعد ثبوت النبوّة بمعجزات أخر . وقيل : البعل الرب بلغة اليمن . والمعنى أتبعدون بعض البعول وتتركون عبادة أحسن الخالقين . ثم بين أجزاء تكذيبهم أنهم محضرون في العذاب غداً . وباقي القصة ظاهر إلا قوله { إلياسين } فمن قرأ بالإضافة فعلى أن إدريس بن ياسين أي سلام على أهل ياسين . وقيل : آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم . وقل : يس اسم القرآن فكأنه قيل : سلام على من آمن بكتاب الله . والوجه الأوّل هو أنسب الأقوال . ومن قرأ على صورة الجمع فقد قال الفراء : اراد به إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم المهلبون والأشعرون بتخفيف ياء النسبة . وقيل : إنه لغة في إلياس . قال الزجاج : يقال ميكائيل وميكائين فكذا ههنا . حكى الثعلبي وغيره أن إلياس نبي من سبط هارون بعثه الله إلى بني إسرائيل وكان فيهم ملك يقال له « أحب » وله امرأة يقال لها « إزبيل » وكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتجلس للحكم كما يجلس ، فأتاهما إلياس ودعاهما إلى الله تعالى فأبيا عليه وهما بقتله فاختفى منهما سبع سنين ، وكان اليسع خليفته وآل أمره إلى أن أوحي إليه أن اخرج إلى موضع كذا فما جاءك فاركبه ولا تخف .

فجاء فرس من نار فوثب عليه وناداه خليفته اليسع بن أخطوب ما تأمرني؟ فرمى إلياس إليه بكسائه من الجوّ وكان ذلك عليه علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل . ورفع الله إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسياً ملكياً ارضياً سماوياً . وقيل : إلياس موكل بالفيافي كما وكل الخضر بالبحار ، وهما آخر من يموت من بني آدم . وكان الحسن يقول : قد هلك إليا والخضر ولا نقول كما يقول الناس . وقصة لوط مذكورة مراراً . ومعنى { مصبحين وبالليل } أن مشركي العرب كانوا مسافرين إلى الشأم فلعل أكثر مرورهم بتلك الديار كان في هذين الوقتين لأمر عارض كحر أو غيره . وقصة يونس أيضاً مما سبق ذكرها ، وفيها مزيد تسلية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم : إنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله تعالى . فالإباق وهو هرب العبد من سيده لا يوجب العصيان ، والأظهر أن قوله { وإن يونس لمن المرسلين } مذكور في معرض التعظيم على قياس أوائل سائر القصص ، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان الإرسال من الله تعالى . وأما الجواب عن إباقة فقد مر في قوله { وذا النون إذ ذهب مغاضباً } [ الأنبياء : 87 ] قوله { المشحون } كالعلة لقوله { فساهم } والسماهمة المقارعة . يقال : أسهم القوم إذا اقترعوا . قال المبرد : هي من السهام التي تجال للقرعة ، والمدحض المغلوب في الحجة وغيرها وحقيقته الذي أزلق عن مقام الظفر والغلبة . يروى أنه حين غضب على قومه خرج من بينهم حتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها ، فلما وصلت إلى لجة البحر أشرفت على الغرق فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما رناه من غير ريح ولا سبب ظاهر . وقد يزعم أهل البحر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فاقترعوا فخرج من بينهم يونس . فقال التجار : نحن أولى بالمعصية من نبي الله . ثم عادوا ثانياً وثالثاً فخرج سهمه فقال : يا هؤلاء أنا العاصي ورمى نفسه إلى الماء . { فالتقمه الحوت } أي ابتلعه كاللقمة { وهو مليم } داخل في الملامة ومنه المثل : رب لائم مليم . أي يلوم غيره وهو أحق منه باللوم { فلولا أنه كان من المسبحين } قيل : أي من المصلين . قيل : أي من المصلين . عن قتادة : كان كثير الصلاة في الرخاء . وقيل : من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح والتقديس كما قيل : اذكر الله في الخلوات يذكرك في الفلوات . والأظهر أن المراد منه ما حكى الله تعالى في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] .
والضمير في { يبعثون } للخلائق بالقيرنة وقوله { للبث } في أقوال : أحدها : يبقى هو والحوت إلى يوم البعث .

والثاني يموت الحوت ويبقى هو في بطنه . والثالث يموتان ثم يحشر يونس من بطنه . واختلفوا في مدّة لبثه في بطن الحوت ، فعن الحسن أنه لم يلبث إلا قليلاً . وقيل : ثلاثة ايام . وعن عطاء : سبعة . وعن الضحاك : عشرون . وقال الكلبي : أربعون . روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً راسه يتنفس فيه يونس ويسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه بالعراء وهو المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه . عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا إنا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة . فقال : نعم ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح . قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل » وحكي في بعض التفاسير وإن لم يطابقه رأي أصحاب المسالك كل المطابقة أن الحوت أخرجه إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم دجلة فلفظه بأرض نصيبين لم تنله آفة إلا أن بدنه عاد كبدن الصبي حين يولد ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وذلك كالمعجزة له . قال المبرد والزجاج : هو « يفعيل » من قطن بالمكان إذا أقام به فيشمل كل شجرة لا تقوم على ساق كالدباء والبطيخ إلا أن المفسرين خصصوه بالدباء قالوا : لأن الذباب لا يجتمع عنده وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لتحب القرع . قال : أجل هي شجرة أخي يونس . قال الواحدي : في الآية دلالة أوّلاً على أن اليقطين لم يكن من قبل فأنبته الله لأجله . والآخر أن اليقطين كان قائماً بحيث يحصل له ظل . قلت : الثاني مسلم إلا أن الأول ممنوع إن أراد به النوع وإن أراد به الشخص فمسلم . وقيل : هي التين . وقيل : هي شجرة الموز تغطى بورقها واستظل بأغصانها واغتذى من ثمارها . وروي أنه كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تأتيه فيشرب من لبنها . وروي أنه مر زمان على الشجرة فيبست فبكى جزعاً فأوحى إليه : بكيت على شجرة ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون فرجع إلى قومه . وقد سبق في سورة يونس باقي التفسير و « أو » في قوله { أو يزيدون } ليست للشك وإنما المراد وصفهم بالكثرة في مأرى الناظر أي إذا رآها الرائي قال هي مائة ألف أو أكثر . ومن هذا التأويل يتضح وجه العطف من حيث المعنى كأنه قيل : وأرسلناه إلى جم غفير مقول فيهم إنهم مائة ألف أو يزيدون . وقيل : التقدير وأرسلناه إلى مائة ألف وارسلناه إلى قوم ثزيدون في الإيهام . وكم الزائد؟ قيل : ثلاثون ألفاً . عن ابن عباس . وقيل : بضعة وثلاثون .

وقيل : بضعة وأربعون . وقيل : سبعون . وجاء مرفوعاً عشرون الفاً . ويحتمل أن يراد أو يزيدون في مرور الزمان لأنه يبقى فيهم مدة كما قال { فآمنوا فمتعناهم إلى حين } هو انقضاء آجالهم . وقيل : القيامة وقد مر . ثم عطف قوله { فاستفتهم } على مثله في أول السورة . والوجه فيه أنه أمر رسوله باستفتاء قريش عن سبب إنكار البعث ، ثم ساق الكلام متصلاً بعضه ببعض على ما عرفت في أثناء التفسير ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى حين أضافوا البنات إلى الله تعالى قائلين الملائكة بنات الله مع كراهتهم التامة لهن ورغبتهم الوافرة في البنين . وحين استفتاهم على سبيل التوبيخ شرع في تزييف معتقدهم بقسمة عقلية وذلك أن سند الدعوى إما أن يكون حساً أو خبراً أو نظراً . أما الحس فمفقود لأنهم ما شاهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله { أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون } وأما الخبر فكذلك لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم أنه صدق قطعاً وهؤلاء كذابون أفاكون وأشار إليه بقوله { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون } وأما النظر فمفقود أياضً وبيانه من وجهين : الأول أن دليل العقل يقتضي فساده لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس لأجل نفسه وذلك قوله { اصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون } من قرا اصطفى بفتح الهمزة فلأنه استفهام بطريق الإنكار وقد حذفت همزة الوصل للتخفيف ، ومن قرأ بكسرها على الإخبار جعله من جملة كلام الكفرة . الثاني : عدم الدليل على صحة مذهبهم وهو قوله { أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } نظيره ما مر في قوله { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [ الروم : 35 ] وقوله { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } للمفسرين فيه قولان : أحدهما أنهم الطائفة الأولى والمعنى أنهم جعلوا بين الله وبين الملائكة نسبة بسبب قولهم إنهم بناته فإن الولادة تقتضي الجنسية والمناسبة ، وفيه توبيخ لهم على أن من صفته الاحتنان والاسستار كيف يصلح أن يكون مناسباً لا يجوز عليه صفات الإجرام ، وعلى هذا فالضمير في قوله { إنهم لمحضرون } للكفرة . والمعنى أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة وقد علمت الملائكة أنهم في ذلك كاذبون وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون . وثانيهما أنهم طائفة من الزنادقة قائلون بيزدان واهر من كما مر في « الأنعام » في قوله { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الآية : 100 ] وعلى هذا فالضمير إما للكفار كما مر ، وإما للشياطين . روى عكرمة أنهم قالوا : سروات الجن بنات الرحمن . وقال الكلبي : زعموا أن الله سبحانه تزوّج إلى الجن فخرج منها الملائكة . والتاء في الجنة للتأنيث كحق وحقة .
قال جار الله : الاستثناء في قوله { إلا عباد الله } منقطع معناه إنهم لمحضرون ولكن المخلصين ناجون وما بينهما اعتراض دال على التنزيه .

وجوّز أن يكون الاستثناء من الضمير في { يصفون } اي يصفه هؤلاء بذلك ، ولكن أهل الإخلاص مبرؤن من وصفه بما لا ينبغي . وحين بين المذاهب الفاسدة بقضها بيّن أن أهل الشرك ومعبوديهم ليس لهم أن يفتنوا على الله أي يحملوا غيرهم على سلوك سبيل الفتنة والضلال إلا من سبق في علم الله بأنه من أهل النار . وقالت المعتزلة : إلا من سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها . وجوز جار الله أن تكون الواو في { وما تعبدون } بمعنى « مع » وجاز السكوت على { تعبدون } كما في قولهم « كل رجل وضيعته » . ثم قال { ما أنتم عليه } أي على ما تعبدون { بفاتنين إلا من هو صال } مثلكم . وقال : والوجه في نظم هذه الآيات أن يكون قوله { سبحان الله } إلى قوله { المسبحون } من كلام الملائكة والمعنى : ولقد علمت الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا : سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباده المخلصين . وقالوا للكفرة : فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه إلا من كان مثلكم ممن علم الله عز وجل لكفرهم أنهم أهل النار . وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يتجاوزه ونحن الصافون كما مر في أول السروة ونحن المسبحون وقال في التفسير الكبير : هاتان الجملتان تدلان على الحصر ، وفيه إشارة إلى أن طاعة البشر كالعدم بالنسبة إلا طاعة الملك فكيف يجوز أن يقال : البشر تقرب درجتهم من درجة الملك فضلاً عن دعوى الأفضلية؟ قلت : لا شك أن هذا التركيب يفيد الحصر إلا أنه لم يفرق بين قصر الأول على الثاني كما في الآية وبين عكسه ، والذي يفيد مدعاه هو العكس لا الأصل فافهم . وقيل : هذه الآيات من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله . ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه . ثم حكى أن مشركي قريش { كانوا يقولون لو أن عندنا ذكراً } أي كتاباً من جملة كتب الأوّلين اي نظيرها في بيان الشرائع والتكاليف لأخلصنا العبادة لله . وإن مخففة واللام فارقة { فكفروا به } الفاء للربط أي فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار فكفروا به { فسوف يعلمون } وخامة عاقبة التكذيب . وقيل : أرادوا لو علمنا حال آبائنا وما آل إليه أمرهم وكان ذلك كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم لآمنا به وأخلصنا لكنا على شك من حديثه . ثم بين أن رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلاً وآجلاً ، والأول أكثريّ والثاني تحقيق يقيني .

ثم أمر نبيه بالصفح والإغماض إلى أوان النصرة والغلبة قائلاً { فتوّل عنهم } أي أعرض عن أذاهم إلى حين الأمر بالقتال أو إلى يوم بدر . عن السدي : أو إلى الموت والقيامة . { وأبصرهم } وما يقضى عليهم من السر والقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة فسوف يبصرونك وما يؤل غليه أمرك من النصر والثواب في الدارين . وفي هذا الأمر تنفيس عن النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له كأن الحالة الموعودة قدام عينيه قرباً وتحققاً . و { سوف } في الموضعين للوعيد لا للتبعيد وكأنهم فهموا التسويف فاستعجلوا العذاب فوبخوا عليه . وكان من عادة العرب أن يغيروا صباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر ، وشبه نزول العذاب بساحتهم بعدما أنذروه بجيش أنذر بعض النصحاء بهجومه قومه فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ الغارة عليهم . وقيل : نزل في فتح مكة . وعن أنس : لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا : محمد والخميس . ورجعوا إلى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين أي صباحهم ، فحذف المخصوص بالذم . واللام في { المنذرين } للجنس . وإنما ثنى وتول عنهم ليكون تسلية على تسلية . والأول لعذاب الدنيا والثاني للآخرة ، وأطلق الفعل الثاني ايضاً اكتفاء بالأول وليفيد فائدة زائدة وهي أنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من صنوف المسرة وفنون المساءة . واعلم أن السورة اشتملت على ما قاله المشركون في الله وعلى ما عانى المرسلون من جهتهم وعلى ما يؤل إليه عاقبة الرسل وحزب الله من موجبات الحمد فلا جرم ختمها بكلمات جامعة لتلك المعاني . ومعنى { رب العزة } كقوله { قل اللهم مالك الملك } [ آل عمران : 26 ] والمراد ذي العزة لأنها صفته لا مربوبه . عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول : اللهم رب القرآن فأنكر عليه وقال : القرآن ليس بمربوب ولكن كلام الله . والظاهر أن قوله { عما يصفون } يتعلق { بسبحان } كما في قوله { سبحان الله عما يصفون } وقل : متعلق بالعزة أي امتنع عما يصفونه به وقد مر شيء من تحقيق هذه الحالة في آخر يس . قال بعضهم : إنما لم يقل في آخر قصتي لوط ويونس سلام عليهما اكتفاء بقوله في الخاتمة { وسلام على المرسلين } عن علي رضي الله عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلس { سبحان ربك رب العزة } إلى آخر السورة .
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

القراآت : { أو أنزل } بالواو مثل { أونبئكم } [ الآية : 15 ] في آل عمران { عذابي } و { عقابي } بالياء في الحالين : يعقوب والسرندي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل { أيكة } مذكور في « الشعراء » { من فواق } بضم الفاء : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالفتح { ولي نعجة } بفتح الياء : حفص والأعشى والبرجمي { فتناه } بتخفيف النون على أنه مثنى والضمير للخصمين : عباس { لتدبروا } بحذف إحدى التاءين على أنه خطاب : يزيد والأعشى والبرجمي . الباقون : على الغيبة وإدغام تاء التفعل في الدال { إني أحببت } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو من بعدي بالفتح ابو جعفر ونافع وأبو عمرو { والرياح } مجموعة : يزيد .
الوقوف : { ذي الذكر } ط { وشقاق } 5 { مناص } 5 { منهم } ز لتصريح ذكر الكافرين مع إمكان الاكتفاء بالضمير وقد اتفقت الجملتان { كذاب } ج للاستفهام واتحاد العامل { واحداً } ج لمثل ما مر { عجاب } 5 { آلهتكم } ج لما مر { يراد } ج 5 لذلك { الآخرة } ج لذلك { اختلاق } 5 ج لما قلنا { من بيننا } ط { من ذكري } 5 لعطف الجملتين المختلفتين والابتداء بالتهديد { عذاب } 5 لأن « أم » بمعنى ألف استفهام إنكار { الوهاب } 5 ج « أم » تصلح ابتداء إنكار { الأسباب } 5 { الأحزاب } 5 { الأوتاد } 5 لا { الأيكة } ط { الأحزاب } 5 { عقاب } 5 { فواق } 5 { الحساب } 5 { الأيد } ج للابتداء بإِن ولاحتمال التعليل { أوّاب } 5 { والإشراق } 5 { أوّاب } 5 { الخطاب } 5 { الخصم } م لأن « إذ » ليس بظرف للإتيان ولتناهي الاستفهام إلى الأمر أي اذكر إذ تسوّروا { المحراب } 5 لا لأن « إذ » بدل من الأولى { لا تخف } ج لحق الحذف أي نحن خصمان مع اتحاد المقول { الصراط } 5 { في الخطاب } 5 { نعاجه } ج { ما هم } ط { وأناب } 5 { ذلك } ط { مآب } 5 { عن سبيل الله } الأولى ط { الحساب } 5 { باطلاً } ط { كفروا } ج للابتداء بالتهديد مع فاء التعقيب { النار } 5 ج لأن « أم » لاستفهام إنكار . { كالفجار } 5 { الألباب } 5 { سليمان } ط { العبد } ط { أوّاب } 5 لا والأصح الوقف والتقدير : اذكر إذ فإِن أوْبَهُ غير مقيد بل مطلق الجياد 5 لا للعطف { ربي } ج لاحتمال أن « حتى » للابتداء وأن تكون لانتهاء الحب أي آثرت حب الخير حتى توارت { بالحجاب } 5 لحق الحذف تقديره : قال ردّوها عليّ فطفق . { والأعناق } 5 { أناب } 5 { بعدي } لا لاحتمال أن يكون التقدير فإنك { الوهاب } 5 { اصاب } 5 { وغوّاص } 5 { الأصفاد } 5 { حساب } 5 { مآب } 5 .
التفسير : عن ابن عباس أن { ص } بحر عليه عرش الرحمن . وعن سعيد بن جبير : بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين . وقيل : صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به عن الله .

وقيل : صدّ الكفار عن قبول هذا الدين . وقيل : صدّ محمد صلى الله عليه وسلم قلوب العباد . وقيل : هو من المصاداة المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الجبال يؤيده قراءة من قرأ { ص } بالكسر ، معناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوارمه وانته عن نواهيه . والذكر الشرف والشهرة أو الموعظة ، وجواب القسم محذوف كأنه قيل : إنه المعجز وإن إلهكم لواحد . ويجوز إن كان { ص } اسم السورة أن يراد هذه ص ، والقرآن يعني هذه السورة هي التي أعجزت العرب بحق القرآن كما تخبر عن هذا حاتم والله ، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله . ثم بين أن الكفار في استكبار عن الإذعان للحق وفي مخالفة الله ورسوله . ومعنى « بل » ترك كلام والأخذ في كلام آخر . ولئن سلم أنه للمغايرة الكلية فالكلام الأول هو كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً في تبليغ الرسالة ، أو كون القرآن ، أو هذه السورة معجزاً ، والحكم المذكور بد « بل » هو المعازة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب . ثم خوف الكفار بقوله { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات } أي رفعوا اصواتهم بالدعاء والاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب لا يكون إلا كذلك . وعن الحسن : فنادوا بالتوبة كقوله { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا } ولهذا قال { ولات حين مناص } أي لم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب أو حين نداء ينجي . قال سيبويه والخليل : التاء في « لات » زائدة مثلها في « ربت » و « ثمت » وهي المشبهة بليس ، وقد تغير حكمها بزيادة التاء حيث لا تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وتقدير الآية : ليس الحين حين مناص . ولو رفع لكان تقديره وليس حين مناص حاصلاً لهم . وقال الأخفش : إنها « لا » النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان كأنه قيل : اصل « لات » ليس قلبت الياء ألفاً والسين تاء . وقيل : التاء قد تلحق بحين كقوله :
العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم
وإلى هذا ذهب أبو عبيدة . وتأكد هذا الرأي عنده حين رأى التاء في المصحف متصلاً بحين . وضعف بعد تسليم أنه في الإمام كذلك بأن خط المصحف غير مقيس عليه . أما الوقف على { لات } فعند الكوفيين بالهاء قياساً على الأسماء ، وعند البصريين بالتاء قياساً على الأفعال . والمناص مصدر ناص ينوص إذا هرب ونجا أو فات . قال ابن عباس : لما نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فأنزل الله { ولات حين مناص } . ثم حكى شر صنيعهم وسوء مقالتهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } أي من جنس البشر .

ثم سجل عليهم بالكفر بوضع الظاهر موضع المضمر قائلاً { وقال الكافرون هذا ساحر } في إظهار خوارق العادات { كذاب } على الله . وإنما قيل في سورة ق { فقال الكافرون } [ الآية : 2 ] بالفاء لأن القول هناك شيء عجيب وهو نتيجة العجب فاتصل الكلامان لفظاً ومعنى : وأما ههنا فلم يتصل إلا معنى { أجعل الآلهة } أي صيرها وحكم عليها بالوحدة { إن هذا لشيء عجاب } بليغ في العجب . يروى أنه لما أسلم عمر بن الخطاب شق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الأشراف والرؤساء : امشوا إلى أبي طالب فأتوه وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك . فدعا أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألون السواء فلا تمل كل الميل على قومك . فقال : ماذا يسألونني؟ فقالوا : ارفضنا وارفض آلهتنا وندعك وإلهك . فقال صلى الله عليه وسلم : أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال له أبو جهل : والله لنعطينكها وعشر أمثالها . فقال صلى الله عليه وسلم : قولوا لا إله إلا الله . فنفروا من ذلك وقالوا : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } كيف يسع الخلق كلهم إله واحد فأنزل الله هذه الآيات . يعني من أول السورة إلى قوله { كذبت قبلهم } { وانطلق الملأ منهم } أي نهضوا من ذلك المجلس و { أن } مفسرة أي { امشوا } من غير أن يتلفظوا به { واصبروا على } عبادة { آلهتكم } .
قال النحويون : الانطلاق ههنا مضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم . وقيل : وانطلق الملأ منهم وقالوا لغيرهم امشوا . وقيل : انطلقوا بأن امشوا أي بهذا القول . وليس المراد بالمشي السير إنما المراد المضيّ على الأمر . وقيل : امشوا واتركوا محمداً صلى الله عليه وسلم . وقيل : هي من مشت الماشية إذا كثر نسلها مشاء ومنه الماشية للتفاؤل . وفي تهذيب اللغة عن الأزهري : مشى الرجل إذا استغنى فيكون هذا دعاء لهم بالبركة { إن هذا } الأمر وهو استعلاء محمد صلى الله عليه وسلم { لشيء يراد } أي حكم الله به فلا حيلة في دفعه ولا ينفع إلا الصبر أو إنه لشيء من نوائب الدهر اريد بنا فلا انفكاك لنا منه ، أو إن دينكم لشيء يراد أن يؤخذ منكم . وقيل : إن عبادة الأصنام لشيء نريده ونحتاج إليه . وقيل : إن هذا الاستعلاء والترفع لشيء يريده كل أحد وكل ذي همة وقريب منه قول القفال : إن هذه كلمة تذكر للتحذير والتخويف معناها إنه ليس غرض محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القول تقرير الدين ولكن غرضه أن يستولي علينا ويحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد .

{ ما سمعنا بهذا } أي بقول محمد صلى الله عليه وسلم { في الملة الآخرة } فيما أدركنا عليه آباءنا أو في ملة عيسى التي هي آخر الملل ، لأن النصارى مثلثة غير موحدة . قال جار الله : يجوز أن يكون التقدير ما سمعنا بهذا كائناً في الملة الآخرة فيكون الظرف حالاً من هذا لا متعلقاً ب { سمعنا } والمعنى أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله . { إن هذا إلا اختلاق } كذب اختلقه من عنده . ثم أظهروا الحسد وما كان يغلي به صدورهم قائلين { أأنزل عليه الذكر من بيننا } وذلك أنهم ظنوا أن الشرف بالمال والجاه فقط نظيره في القمر { أألقي الذكر عليه من بيننا } [ القمر : 25 ] إلا أنه استعمل هناك الإلقاء لأن أذكارهم كانت صحفاً مكتوبة وألواحاً مسطورة . وقدم الظرف ههنا لشدّة العناية ولزيادة غيظهم وحمقهم فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { بل هم في شك من ذكري } اي من دلائلي التي لو نظروا فيها لزال الشك عنهم ، فالقاطع لا يساوي المشكوك . وقيل : أراد أنهم لا يكذبونك ولكنهم جحدوا آياتي . ثم قال { بل لما يذوقوا عذاب } أي لو ذاقوا لأقبلوا على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات . وقيل : أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوّفهم بالعذاب لو أصروا على الكفر . ثم إنهم أصروا ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه صلى الله عليه وسلم فلا جرم لا يزول ذلك الشك إلا بنزول العذاب . ثم أجاب عن شبهتهم بوجه آخر وهو قوله { أم عندهم خزائن رحمة ربك } والمراد أن النبوة من جملة النعمة المخزونة عنده يعطيها من يشاء من عباده . ثم خصص بعد التعميم قائلاً { أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } ولا ريب أن هذه الأشياء بعض خزائن الله وإذا كانوا عاجزين عن البعض فعن الكل أولى . ثم تهكم بهم بقوله { فليرتقوا } اي فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق وقسمة الرحمة فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوسل بها إلى المقصود . وقيل : أسباب السموات أبوابها والمعنى إن ادّعوا ملك السموات وأنهم يعلمون ما يجري فيها فليرتقوا إليها . قال بعض حكماء الإسلام : في الأسباب إشارة إلى أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب حوادث العالم السفلي . ثم حقر أمرهم بقوله { جند مّا } وهو خبر مبتدأ محذوف و « ما » مزيدة للاستعظام جارية مجرى الصفة أي هم جند من الجنود . ثم خصص الوصف بقوله { من الأحزاب } أي ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بهم . قال قتادة { هنالك } إشارة إلى يوم بدر . وقيل : يوم الخندق . وقيل : فتح مكة فإن مكة هي الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات .

وقال أهل البيان : هي إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كقولك لمن ينتدب لأمر « ليس من أهله » « لست هنالك » . ثم مثل حالهم بحال من قبلهم من الأمم المكذبة وقصصهم مذكورة مراراً . والذي يختص بالمقام هو أنه وصف فرعون بذي الأوتاد فعن قتادة أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب بها عنده . وقال المبرد : بنى أبنية طويلة صارت كالأوتاد لبقائها . وقيل : هي أوتاد أربعة كان يعذب الناس بها على الأرض أو على رؤوس أخشاب أربعة . وقيل : اراد كثرة أوتاد خيام معسكره . وقيل : أراد ذو جموع كثيرة فبالجمعية يشتد الملك كما يشتد البناء بالأوتاد وهذا قريب . وقول أهل البيان إن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاد ، ثم استعير لثبات العز والملك والمقصود على الوجود كلها . وصف فرعون بالشدة والقوة ونفاذ الأمر ليعلم أنه تتعالى أهلك من كان هذه صفته فكيف بمن هو دونه .
قال أبو البقاء : قوله { أولئك الأحزاب } مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون خبراً والمبتدأ من قوله وعاد أو من ثمود أو من قوم لوط ، قلت : ويحتمل أن يكون { الأحزاب } صفة { أولئك } و { أولئك } بدلاً من مجموع المعطوفات والمعطوف عليه . قال جار الله : قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن هذه الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم وآباؤهم الذين وجد منهم التكذيب . لقد ذكر تكذيبهم أوّلاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية أعني قوله { إن كل إلا كذب الرسل } فبين أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم { فحق } أي ثبت أو وجب لذلك عقابى إياهم في الدنيا ثم في الآخرة وذلك قوله { وما ينظر هؤلاء } المذكورون . وقيل : أهل مكة : { إلا صيحة واحدة } وهي النفخة الأولى { ما لها من } توقف مقدار { فواق } وهو بالفتح والضم زمان ما بين حلبتي الحالب . عن النبي صلى الله عليه وسلم « العيادة قدر فواق الناقة » ومعنى الآية إذا جاء وقتها لم يمهل هذا القدر . وقيل : الفواق بالفتح الإفاقة أي ما لها من رجوع وترداد لأن الواحدة تكفي أمرهم وما لها رجوع إلى الحالة الأولى بل تبقى ممتدة إلى أن يهلك كلهم واعلم أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث وقعت لهم : أولاها في الإلهيات وهو قولهم { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } والثانية في النبوات وهي قولهم { أأنزل عليه الذكر من بيننا } والثالثة تتعلق بالمعاد وهي قولهم { ربنا عجل لنا قطناً } وهو القطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطة إذا قطعه . والقط أيضاً صحيفة الجائزة ونحوها لأنها قطعة من القرطاس استعجلوا نصيبهم من العذاب الموعود ، أو من اللذات العاجلة ، أو من صحيفة الأعمال ، كل ذلك استهزاء منهم فلذلك أمره بالصبر على ما يقولون .

قال جار الله : أراد اصبر على أذاهم وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مخابراتهم . { واذكر } أخاك { داود } كيف زل تلك الزلة اليسيرة فعوتب عليها ونسب إلى البغي ، أو اصبر وعظم أثر أمر معصية الله في أعينهمم بذكر قصة داود وما أورثته زلته من البكاء الدائم والحزن الواصب . وقال غيره : اصبر على اذى قومك فإنك مبتلى بذلك كما صبر سائر الأنبياء على ما ابتلاهم به . ثم عدّهم وبدأ بداود وذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه أنهم وجدوها بالصبر على البلايا فسأل الابتلاء . ثم إن الدنيا لا تنفك من الهموم والأحزان واستحقاق الدرجات بقدر الصبر على البليات . ثم إن مجامع ما ذكر الله تعالى في قصة داود ثلاثة أنواع من الكلام : الأول : تفصيل ما آتاه الله تعالى من الفضائل . الثاني : شرح الواقعة التي وقعت له . والثالث : استخلاف الله تعالى إياه بعد ذلك . والأول عشرة أصناف : أحدها ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم إياه ليقتدي به في الصبر وسائر اصول الأخلاق . وثانيها تسميته بالعبد مضافاً إلى صيغة جمع التكلم للتعظيم والعبودية الصحيحة الجامعة لكمالات الممكنات كما سبق مراراً . ويمكن أن يكون التلفظ بذكر اسمه العلم أيضاً تشريفاً له . وثالثها قوله { ذا الأيد } ذا القوة في الحروب وعلى الطاعات وعن المعاصي وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل . ويحتمل أن يكون الياء محذوفاً اكتفاء بالكسر فيكون جميع اليد بمعنى النعمة لأن الله تعالى أنعم عليه ما لم ينعم على غيره . رابعها قوله { إنه أوّاب } أي رجاع ي الأمور كلها إلى طاعة الله ومرضاته من آب يؤب . خامسها تسبيح الجبال معه وقوله { يسبحن } حال والإشراق وقت إضاءة الشمس وهو بعد شروقها عند الضحى . يقال شرقت الشمس ولما تشرق . واستدل به ابن عباس على وجود صلاة الضحى في القرآن لما روى عن أم هانئ : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق . قال ابن عباس : وكانت صلاة يصليها داود عليه السلام ويحتمل أن يكون معنى الإشراق الدخول في وقت الشروق فيراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق قاله جار الله . سادسها قوله { والطير محشورة } أي وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية . قال ابن عباس : كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت فذلك حشرها وقد مر ذكر هذه المعجزة في « الأنبياء » وفي « سبأ » . قال أهل البيان : قوله { محشورة } في مقابلة قوله { يسبحن } ولكنه اختير الفعل في أحد الموضعين والاسم في الآخر لأنه أريد في الأول الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال حتى كأن السامع يتصوّرها بتلك الحالة ، وأما الحاشر فهو الله وحشر الطيور جملة واحدة أدل على القدرة له تعالى .

سابعها قوله { كلّ له أوّاب } أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح مرجع للتسبيح . وقيل : الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله مسبح رجاع إلى فعله مرة بعد مرة ، وهذا الوصف كالتأكيد للوصف الذي يتقدّمه وهذا أخص لأنه أدل على الواقعة . ثامنها قوله { وشددنا ملكه } أي قوّيناه بالجنود والأعوان وبسائر الأسباب فكان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف حرس ، وزاد بعضهم فقال أربعون الفاً . وقيل : نصرناه بالهيبة ، وسببه أن غلاماً ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى عليه ولطم الغلام لطمة فسأل داود من الغلام البينة فعجز فرأى داود في المنام أن الله تعالى يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقرة إلى الغلام . فقال داود : هذا منام فأتاه الوحي بذلك في اليقظة فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا : أتقتل رجلاً بلطمة؟ فقال داود : هذا أمر الله فسكتوا . ثم أحضر الرجل وأخبره إن الله أمره بقتله فقال الرجل : صدقت يا نبيّ الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة ، فقتله داود وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا : إنه يقضي بالوحي من السماء . تاسعها قوله { وآتيناه الحكمة } وقد مر معناها مراراً وأنها منحصرة في قسمين : الأول العلم بالتصوّرات الحقيقية والتصديقات اليقينية بمقتضى الطاقة البشرية ، والثاني العمل بالأخلاق الفاضلة المفضية إلى السعادة الباقية . وخصصها بعضهم بالعلم بالنبوّة والفهم أو بالزبور والشرائع . عاشرها فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملاً مكملاً فهماً مفهماً .
قال جار الله : الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام الملخص الذي لا يلتبس ولا يختلك بغيره . قلت : ومن ذلك أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل كما تذكره في الوقوف . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : البينة على المدّعي واليمين على من أنكر . فالفصل بمعنى الفاصل كالصوم والصحب ويندرج فيه جميع كلامه في الأقضية والحكومات وتدابير الملك والمشورات . يروى أنه سبحانه علق لأجله سلسلة من السماء وأمره أن يقضي بها بين الناس ، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة ، ومن كان على الباطل لا يقدر على أخذها . ثم إن رجلاً غصب من آخر لؤلؤه وجعلها في جوف عصاً له ثم خاصمه المدّعي إلى داود فقال المدعي : إن هذا أخذ مني لؤلؤة ولم يردّها عليّ وإني صادق في مقالتي ، فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبينة واليمين وهو فصل الخطب . وقيل : هو قوله « أما بعد » وهو أوّل من تكلم به .

وقيل : هو أنه إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه . ثم إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلاً { وهل أتاك } يا محمد { نبأ الخصم } أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن . وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون أدعى إلى الإصغاء لها . وللناس في هذه الواقعة ثلاثة آقوال أقواها تقريرها على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله ، وثانيها التقرير على وجه يدل على صدور الصغيرة عن نبيّ الله ، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه ، وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة . ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف بعض المذاهب فلنفسر كلاً منها على حدة . وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة .
القول الأوّل : يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود - وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه - فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي تصعدوا غرفته من سوره . وفي قوله { إذ دخلوا عليه } إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا عليه . قال الفراء : قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك « ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت عليّ » مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحداً . وحين رآهما قد دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر . { ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان } أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلاً نظراً إلى أصله ، وثناه ثانياً بتأويل شخصان أو فريقان خصمان ، وجمع المائر في قوله { إذ تسوّروا } { إذ دخلوا } { ففزع منهم } { قالوا لا تخف } بناء على أن أقل الجمع اثنان ، أو على أن صحب كل منهما من جملتهما . والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق { بغى بعضنا على بعض } أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة . ثم قرروا مقصودهم بثلاث عبارات متلازمة إحداها { فاحكم بيننا بالحق } أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا . والثانية { ولا تشطط } وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد . شط وأشط لغتان ، أرادوا لا تجر فالجور البعد عن الحق . والثالثة { واهدنا إلى سواء الصراط } أي وسطه وهو مثل لمحض الحق وصدقه . وحين اخبروا عن وقوع الخصومة مجملاً شرعوا في التفصيل فقال أحدهما مشيراً إلى الآخر { إن هذا } وقوله { أخي } أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر أو بدل والخبر { له تسع وتسعون نعجة } وهي أنثى من الضأن { ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها } أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي { وعزني في الخطاب } أي غلبني في المخاطبة فكان تكلمه أبين وبطشه اشدّ { قال } داود { لقد ظلمك بسؤال نعجتك } أضاف المصدر إلى المفعول الثاني وحذف الفاعل والمفعول الأوّل أي بسؤاله إياك نعجتك .

وليس السؤال ههنا سؤال خضوع وتفضل وإنما هو سؤال مطالبة ومعازة . و { إلى } متعلقة بفعل دل عليه السؤال تقديره بسؤال أي ليضمها إلى نعاجه ، أو ضمن السؤال معنى الإضافة كأنه قيل : بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب { وإن كثيراً من الخلطاء } الشركاء الذين خلطوا أموالهم واطلع بسبب ذلك بعضهم على أحوال البعض { ليبغي بعضهم على بعض } وقد تغلب الخلطة في الماشية . والشافعي يعتبرها في باب الزكاة إذا اتحد الفحل والراعي والمراح والمسقى وموضع الحلب ، فإن كانت للخليطين أرعبون شاة فعليهما شاة . وعند أبي حنيفة لا شي عليهما وإن كانت لأحدهما واحدة وللآخر تسع وتسعون فعلى الأوّل أداء جزء من مائة جزء من شاة واحدة وعلى الآخر الباقي . هذا عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة لا شيء على ذي النعجة . ثم بين أن أكثر الخلطاء موسوم بسمة الظلم إلا المؤمنين وإنهم لقليل . « وما » في قوله { وقليل ما هم } مزيدة للإبهام ، وفيه تعجيب من قلتهم . وقال ابن عيسى : هي موصولة أي وقليل الذين هم كذلك . قصد نبيّ الله بذكر حال الخطاء في هذا المقام الموعظة الحسنة والترغيب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لا التي عليها أكثرهم من الظلم والاعتداء ، وفيه تسلية للمظلوم عما جرى عليه من خليطه وإن له في أكثر الخلطاء اسوة { وظن داود إنما فتناه } اي ابتليناه وذلك أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطاناً شديد القوّة وقد فزع منهم . ثم إنه مع ذلك عفا عنهم دخل قلبه شيء من العجب فحمله على الابتلاء { فاستغفر ربه } من تلك الحالة { وأناب } إلى الله واعترف بأن إقدامه على تلك الخلة لم يكن إلا بتوفيق الله . { فغفرنا له ذلك } الخاطر أو لعله هم بإيذاء القوم . ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ، ثم استغفر من تلك الهمة . أو لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم فاستغفر لأجلهم متضرعاً إلى الله فغفر ذنبهم بسبب شفاعته ودعائه . { و } معنى { خرّ راكعاً } سقط ساجداً . قال الحسن : لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع ، أو المراد أن خرّ للسجود مصلياً لأن الركوع قد يعبر به عن الصلاة . ومذهب الشافعي أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة لأنه توبة نبيّ فلا توجب على غيره سجدة التلاوة ولا تستحب أيضاً . ومذهب أبي حنيفة بخلافه . وجوز مع ذلك أن يكون الركوع بدل السجود هذا تمام تقرير القول الأوّل . ولا يرد عليه إلا أن داود كان أرفع منزلة من أن يتسور عليه بعض آحاد الرعية في حال تعبده أو يتجاسر عليه بقوله { لا تخف } { ولا تشطط } وأنه كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين على ظلم الآخر قبل استماع كلامه والأول استبعاد محض؟ وأجيب عن الثاني بأنه ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه لكنه لم يذكر في القرآن ، ومما يؤيد هذا القول ختم ذكر الواقعة بقوله : { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } والزلفى القربة ، والمآب الحسن الجنة .

قال مالك بن دينار : إذا كان يوم القيامة يؤتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة يقال : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا - وحاصل التفسير على هذا القول إن الخصمين كانا من الإنس وكانت الخصومة بينهما على الحقيقة ، وكانا خليطين في الغنم ، أو كان الخلطة خلطة الصدقة ، أو الجوار وكان أحدهما موسراً وله نسوان كثيرة من الحرائر والسرائر . والعرب تشبه المرأة بالنعجة والظبية ، والثاني معسراً ما له إلا امرأة واحدة واستنزله عنها ، وكانت الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك كما كانوا يقاسمونهم أموالهم ومنازلهم وما كان ذنب داود إلا خطرة أو همة .
القول الثاني : إن أهل زمان داود كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته فاتفق أن نظر داود وقع على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا ففعل فتزوجها وهي أم سليمان . فقيل له : إن مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلاً ليس له امرأة واحدة النزول لك ، كان الواجب عليك مغالبة هواك والصبر على ما امتحنت به . وقيل : خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه ، وعلى هذا يجوز أن يكون الخطاب في قوله { وعزني في الخطاب } من الخطبة أي غالبني في خطبتها حيث زوّجها دوني . وعلى هذا القول يجوز أن يكون الخصمان من الإنس كما مر . وحين وافق حالهما حال داود تنبه فاستغفر . وأن يكونا ملكين بعثهما الله ليتنبه على خطئه فيتداركه بالاستغفار ويرد على هذا أن الملكين لو قالا نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فكذب والملائكة لا يكذبون ولا يأمرهم الله بالكذب . والجواب أن التقدير ما تقول خصمان قالا بغى بعضنا على بعض . أو أرادوا : ارأيت لو كنا خصمين بغى بعضنا على بعض ألست تحكم بيننا ، ثم صوروا المسألة ومثلوا قصته بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة المائة وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده . وعن الحسن : لم يكن لداود تسع وتسعون امرأة وإنما هذا مثل .
القول الثالث : وهو المشهور عند الجمهور أن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً يجمع بني إسرائيل للوعظ والتذكير فجاءه الشيطان يوم العبادة والباب مغلب في صورة حمامة من ذهب فمد يده ليأخذها لابن صغير له فطارت إلى قريب منه ، وهكذا مرة ثانية وثالثة إلى أن وقعت في كوة فتبعها فوقع بصره على امرأة جميلة تغتسل فنقضت شعرها فغطى جسدها فوقع في نفسه منها ما شغله عن الصلاة ، فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها ، فخرج داود حتى عرف بيتها وسألها من أنت؟ فأخبرته فقال لها : هل لك زوج؟ فقالت : نعم .

قال : أين هو؟ قالت : في جند كذا فرجع وكتب إلى أمير جيشه إذا جاءك كتابي هذا فقدم فلاناً في أول التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ففتح الله على يده وسلم . فأمر برده مرة ثانية وثالثة حتى قتل ، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء ، وتزوّج امرأته فبعث الله إليه ملكين في صورة إنسانين فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته ومنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ففزع منهما ، وحين وجد قصتهما مطابقة لحاله علم أنه مبتلى من الله . يروى أنهما قالا حينئذ حكم على نفسه . وقيل : ضحكا وغابا فعلم أن الله ابتلاه بذنبه . ولا يخفى أن ذنبه بهذا التفسير والتقرير كبيرة لأنه يدل على الإفراط في العشق وعلى السعي في قتل النفس المسلمة بغير حق . فيروى أنه سجد أربعين ليلة لم يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ولم يذق طعاماً ولا شراباً حتى أوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك . ويروى أن جبرائيل قال له اذهب إلى أوريا وهو زوج المرأة واستحل منه فإنك تسمع صوته موضع كذا ، فأتاه ، واستحل منه فقال : أنت في حل . قال : فلما رجع قال له جبريل : هل أخبرته بجرمك؟ فقال : لا قال : فإنك لم تعمل شيئاً فارجع وأخبره بالذي صنعت . فرجع داود فأخبره بذلك فقال : أنا خصمك يوم القيامة فرجع مغتماً وبكى أربعين يوماً . فأتاه جبريل وقال : إن الله تعالى يقول : أنا أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسرى عنه وكان حزيناً في عمره باكياً على خطيئته . وروي أنه نقش خطيئته على كفه حتى لا ينساها . والمحققون كعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وغيرهم ينكرون القصة على هذا الوجه . روى سعيد بن المسيب والحرث بن الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء . قلت : لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى طائل ، بل يحتمل أن يعود إلى قائله لوم عاجل وعقاب آجل .

ومن الدلائل القوية التي اعتمد عليها فخر الدين الرازي في ضعف هذه الرواية قوله سبحانه عقيب ذكر الواقعة { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } فمن البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دم أخيه المسلم بغير حق وبانتزاع زوجته منه ثم يقال : إنا فوضنا الخلافة إليه . وعندي أن ذلك عليه لا له لقوله تعالى { فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى } الخ فكأنه قيل له : إنا جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله وفي سياسة المدن ، أو تخلفنا كما يقال « السلطان ظل الله في الأرض » فاللائق بهذا المنصب السعي لإصلاح حال المسلمين وحفظ فروجهم ودمائهم وأموالهم لا السعي في تحصيل هو النفس بأي وجه يمكن ، فإن صاحبه المصر عليه ضال معرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد . يحكى عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو الزهري : هل سمعت ما بلغنا؟ قال : وما هو؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية . فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ثم تلا هذه الآية . وحين تمم واقعة داود ونصحه وما فرض عليه في شأن الاستخلاف أشار إلى أن الأمور الدنيوية التابعة للحركات السماوية ليست واقعة على الجزاف ، وبمقتضى الطبائع ، ولكن لها غاية صحيحة فأجمل هذا المعنى أوّلاً بقوله { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك } الذي ذكر من خلق هذه الأشياء بلا غاية { ظن الذين كفروا } لأنهم بإنكارهم البعث جحدوا الجزاء الذي هو غاية التكليف { فويل للذين كفروا من النار } لأنهم بهذه العقيدة وقعوا في نار البعد والقطيعة فلم يستدلوا بالآفاق والأنفس على الصانع نظيره ما مر في آخر « آل عمران » { ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } [ الآية : 191 ] ثم صرح بالغاية قائلاً { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية . « وأم » منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار والمراد أنه لم بطل الجزاء كما زعموا لاستوت حال الطائفتين المتقي المصلح للأرض بتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية على وفق العقل والشرع ، والفاجر المفسد في الأرض بهدم النواميس وتتبع الشهوات وهتك الحرمات ، ومن سوى بينهم كان إلى السفه أقرب منه إلى الحكمة ، ولا ينافي هذا إمكان التسوية من حيث المالكية . وحين ذكر هذه المعاني اللطيفة والقواعد الشريفة منّ على رسوله بقوله { كتاب } اي هذا كتاب { أنزلناه إليك مبارك } كثير المنافع والفوائد { ليدّبروا آياته } ليتأملوا فيها ويستنبطوا الأسرار والحقائق منها فمن حفظ حروفه وضيع حدوده كان مثله كمثل معلق اللؤلؤ والجواهر على الخنازير . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : يقال في وجه النظم إن العقلاء قالوا : من ابتلى بخصم جاهل مصر متعصب وجب عليه أن يقطع الكلام معه ويخوض في كلام آخر أجنبي حتى إذا اشتغل خاطره بالكلام الأجنبي أدرج في أثنائه مقدمة مناسبة للمطلوب الأول ، فإن ذلك المتعصب قد يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول فيصير الخصم ساكتاً مفحماً .

وإذ قد عرفت هذا فنقول : إن الكفار قد بلغوا في إنكار الحشر إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء { ربنا عجل لنا قطعنا قبل يوم الحساب } فقال تعالى : يا محمد { اصبر على ما يقولون } واقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في كلام آخر أجنبي في الظاهر وهو قصة داود إلى قوله { إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } فكل من سمع هذا قال : نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق كأنه قال : أيها المكلف إني لا آمرك مع أني رب العالمين إلا بالحق فههنا الخصم يقول : نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق ، فعند هذا يلتزم صحة القول بالحشر وإلاّ لزم التسوية بين من أصلح واتقى ومن افسد وفجر وذلك ضدّ الحكمة . وحين ذكر هذه الطيرقة الدقيقة في إلزام المنكرين وإفحامهم وصف القرآن بالبركة والإفادة والإرشاد ، لأن هذه اللطائف لا تستفاد إلا منه .
وبعد تتميم قصة داود شرع في قصة ابنه سليمان ومدحه بقوله { نعم العبد } أي هو فحذف المخصوص للعلم به . وفي قوله { إنه أوّاب } كما مر في قصة داود إشارة إلى أنه كان شبيهاً بالأب في الفضيلة والكمال فلذلك استويا في جهة المدح . وفي القصة واقعتان يمكن تقرير كل منهما كما في واقعة أبيه على وجه لا يقدح في الصعمة وهو المختار عند المحققين ، وعلى وجه دون ذلك وهو الأشهر فلنفسر كلاً منهما بالوجهين بتوفيق الله تعالى . أما الأوّل من الواقعة الأولى فقوله { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات } وهي جمع صافن وهو الذي يقوم على ثلاث قوائم وعلى طرف الرابعة وهو نعت جيد للخيل . قيل : الصافن الذي يجمع بين يديه . وفي الحديث « من سرّه أن يقوم الناس له صفوفاً فليتبوّأ مقعده من النار » أي واقفين مثل خدم الجبابرة . و { الجياد } جمع جواد وهو جيد الجري يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة من مواقفها على أحسن الأشكال . وإذا أجريت كانت سراعاً في جريها ، فإذا طلبت لحقت ، وإذا طلبت لم تلحق . يروى أن رباط الخيل كان مندوباً في شرعهم كما في شرعنا . ثم إن سليمان سلام الله عليه احتاج إلى الغزو فجلس بعد صلاة الظهر على كرسيه وأمر بإحضار الخيل ، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله { إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } سمى الخيل خيراً لتعلق الخير بها كما جاء في الحديث

« الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة » أي آثرت حب الخير ولزمته لأن ربي أمرني بارتباطها ولم يصدر حب هذه المحبة الشديدة إلا عن ذكر الله وأمره . والضمير في قوله { حتى توارت } للخيل أي ما زالت تعرض عليه ويأمر بإعدائها وسيرها إلى أن غابت عن بصره ، ثم قال { ردّوها عليّ } أي أمر الرائضين بان يردوا الخيل عليه ، فلما عادت عليه طفق يمسح مسحاً بوسقها وأعناقها تشريفاً لها وإظهاراً لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ ، أو لأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، أو أراد إظهار أنه بلغ في اختبار أمور المملكة إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه . ويل : مسح الغبار عن أعناقها وسوقها بيده . وقيل : وسم أعناقهن وارجلهن فجعلهن في سبيل الله .
وأما الوجه الآخر في هذه الواقعة فما روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس . وقيل : ورثها من ابيه وكان أبوه اصابها من العمالقة . وقيل : أخرجها الشياطين من مرج من المروج أو من البحر وكانت ذوات أجنحة . فقعد يوماً بعد الظهر واستعرضها فلم يزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وذلك قوله { حتى توارت } أي الشمس بدليل ذكر العشي { بالحجاب } حجاب الأفق . وقيل : حتى توارت الخيل بحجاب الليل وغفل عن العصر ، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي فقال { إني أحببت حب الخير } وهو متضمن معنى فعل يتعدى بعن أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي وجعلت حبها مغنياً عن ذكر ربي فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقرباً لله وذلك قوله { فطفق مسحاً } قال جار الله : أي يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقلب لأمن الإلباس كقولهم « عرضت الناقة على الحوض » قال الراوي : قربها إلا مائة فما في ايدي الناس من الجياد فمن نسلها ، وحين عقرها أبدله الله خيراً منها وهي الريح تجري بأمره . وقيل : الضمير في { ردّوها } للشمس والخطاب للملائكة تضرع إلى الله فرد الله عليه الشمس فصلى العصر . ومحل القدح في هذه الرواية هو نسبة سليمان إلى حب الدنيا حتى غفل عن الصلاة وضم بعضهم إلى ذلك أن قطع أعناق الخيل وعرقبة أرجلها منهي عنه . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله . وأجيب بأنه فعل ذلك لأنها منعته عن الصلاة أو لأنه ذبحها للفقراء والمساكين ، قال الزجاج : لم يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له وما أباح الله فليس بمنهي . قال الإمام فخر الدين الرازي : إن الكفار لما بلغوا في الإيذاء والسفاهة إلى حيث قالوا { ربنا عجل لنا قطنا } قال لنبيه : اصبر يا محمد على ما يقولون وذاكر عبدنا داود . ثم ذكر عقيبه قصة سليمان ، وهذا الكلام إنما يكون لائقاً لو قلنا إن سليمان أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله وأعرض عن الشهوات ، فاما لو كان المقصود أنه أقدم على الكبيرة لم يكن ذكره مناسباً .

هذا تمام الكلام في الواقعة الأولى .
وأما الثانية وإليها الإشارة بقوله . { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً } فالمحققون يروونه على وجوه : أحدها : أن سليمان ولد له ابن بعد أن ملك عشرين سنة فقالت الشياطين : إن عاش لم نتخلص من البلاء والتسخير فسبيلنا أن نقتله أو نخبله ، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب أن يحفظه ويغذوه خوفاً من مضرة الشياطين ، فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه فاستغفر ربه وأناب . وثانيها روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن سليمان قال ذات ليلة : لأطوفن الليلة على سبعين أمرأة . وفي رواية على مائة وفي رواية على ألف- كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجميعن فذلك قوله { ولقد فتنا سليمان » وثالثها قال أبو مسلم : مرض سليمان مرضاً شديداً امتحنه الله به حتى صار جسداً على كرسيه ملقي كما جاء في الحديث « لحم على وضم وجسد بلا روح » لأن الجسد يطلق في الأكثر على ما لا روح له . { ثم أناب } أي رجع إلى حالة الصحة . والمشهور عند الجمهور أن الجسد الملقى على كرسيه كان شيطاناً جلس على سرير ملكه اربعين يوماً ، وذلك أن ملكه كان في خاتمة فأخذ شيطاناً يقال له آصف وقال : كيف تفتنون الناس؟ قال : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه . وعن علي رض1ي الله عنه أنه قال : بينما سليمان جالس على شاطئ البحر وهو يعبث بخاتمه إذ سقط في البحر . وقيل : إنه وطئ امرأة في الحيض فذلك ذنبه . وقال في الكشاف : وغيره حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر وأن بها ملكاً عظيم الشأن . فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها جنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهاً ، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها . فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة ابيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتهن في ملكه ، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، فوضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان صاحب البحر وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس .

واسمه صخر - على صورة سليمان فقال : يا أمينة أعطيني خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس . وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال : أنا سليمان . حثوا عليه التراب وسبوه فمكث على ذلك أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته . وكان ذلك الشيطان يقضي بين الناس ويتمكن من جميع ملكه إلا نساءه . وقيل : من جميع ملكه ونسائه وما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة ، فلما أراد الله أن يرد الملك إليه أنكر علماء بني إسرائيل قضية قضاها الشيطان فأحضروا التةوراة ، فلما قرؤها فرّ الشيطان وألقى الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فصادها صائد ووهبها لسليمان وأعطاها على أجره عمله يوماً فأخرج من بطنها الخاتم { ثم أناب } أي رجع على ملكه أو ثاب ووقع ساجداً . ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تابوت وسده بالنحاس وألقاه في البحر . والعلماء المتقنون أبوا قبول هذه الرواية وقالوا : إنها من اباطيل اليهود ، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل وإلا ارتفع الأمان عن الشرائع والأديان ، وكيف يسلطهم الله على آحاد عباده فضلاً عن أنبيائه حتى يغيروا أحكامهم ويفجروا بنسائهم . وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع والسجود للصورة إذا كان بغير إذنه فلا عتب عليه .
وحكى الثعلبي هذه القصة بوجه أقرب إلى القبول وهو أن سليمان لما افتتن بأخذ التمثال في بيته سقط الخاتم من يده فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط ، فلما رآه لا يثبت في اليد ايقن بالفتنة فقال له آصف : إنك لمفتون فتب إلى الله واشتغل بالعبادة وأنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك . فقام آصف في ملكه أربعة عشر يوماً وهو الجسد الذي ألقي على كرسيه ، فردّ الله إليه ملكه وأثبت الخاتم في يده . وعن سعيد بن السميب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه : يا سليمان احتجبت عن عبادي وما أنصفت مظلوماً عن ظالم ، ثم ذكر القصة وأخذ الشيطان الخاتم ورجوعه إليه . ثم حكى الله تعالى أن سليمان قال { رب اغفر لي وهب لي ملكاً } قدم المغفرة على طلب الملك كما هو دأب الصالحين تقديماً لأمر الدين على أمر الدنيا ، ولأن الاستغفار يجر الرزق فإن الإنسان قلما ينفك عن ترك الأولى فإذا زال عنه شؤم ذلك ببركة الاستغفار انفتح عليه أبواب الخيرات . والذين حملوا الفتنة على صدور الذنب عنه فوجوب الاستغفار عندهم واضح وحملوا قوله { لا ينبغي لأحد من بعدي } على أنه سأل ملكاً لا يقدر الشيطان على أن تقوم مقامه .

والأوّلون ذهبوا إلى أنه لم يقل ذلك حسداً وإنما قصد به أن يكون معجزة له ، ومن شرط المعجز أن لا يقدر غيره على معارضته ولا سيما أمته الذين بعث إليهم ولهذا قال بعضهم : أراد غيري ممن بعثت إليهم ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة . وحقيقة لا ينبغي لا ينفعل من بغيت الشيء طلبته أي لا يصير مطلوباً لأنه سماوي فوق طوق البشر ، أو قصد أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق فإذا كان ملكه آية كان ثوابه على الصبر عنه غاية ونهاية ، أو أراد أن يظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى ، وأن ملك سليمان إذا كان عرضة للفناء فالأولى بالعاقل أن يشتغل بالعبودية ولا يلتفت إلى الدنيا وما فيها . وقيل : إنه لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا زائلة منتقلة إلى الغير بإرث ونحوه فطلب ملكاً لا يتصور انتقاله إلى الغير وهو ملك الدين والحكمة . وقال أهل البيان : لم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال . وربما كان للناس أمثال ذلك . والأقوى هو الأوّل بدليل قوله عقيبه { فسخرنا له الريح } { والشياطين } . ولا ريب أن هذا معجزة وملك عجيب دال على نبوّته ويؤيده ما جاء في الحديث « أردت أن اربطه - يعني الشيطان - على سارية من سواري المسجد إلا أني تذكرت دعوة أخي سليمان » والضمير في { بأمره } لسليمان . وقيل : لله . والرخاء الرخوة اللينة ولا ينافي هذا وصفها بالعصوف في الأنبياء فلعلها تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، أو هي طيبة في نفسها ولكنها عاصفة بالإضافة إلى الرياح المعهودة . ومعنى أصاب قصد واراد من إصابة السهم . وقوله { والشياطين } معطوف على { الريح } وقوله { كل بناء وغواص } بدل الكل من الشياطين . كانوا يبنون لأجله الأبنية الرفيعة ويستخرجون اللؤلؤ من البحر وهو أوّل من استخراج الدر من البحر { وآخرين } عطف على الشياطين أو على كل داخل في حكم البدل ، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد . والصفد القيد والعطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول عليّ رضي الله عنه :
من برك فقد أسرك ... ومن جفاك فقد أطلقك
وقيل : حقيقته التفويض على الخير والشر . قال الجبائي : إن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان ويشاهده الناس . ثم إنه لما توفي سليمان أمات الله ذلك الجنس وخلق نوعاً آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة . قلت : هذا إخبار بالغيب إلا أن تكون رواية صحيحة . ولم لا يجوز أن تكون أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التمزق والتفرق .

{ هذا عطاؤنا } أي قلنا لسيلمان هذا الملك عطاؤنا والإضافة للتعظيم . وقوله : { بغير حساب } يتعلق بالعطاء يعني أنه جم كثير لا يدخل تحت الضبط والحصر فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوّضاً إليك زمام التصرف فيه . ويجوز أن يتعلق بالأمرين أي ليس عليك في ذلك حرج ولا تحاسب على ما تعطي وتمنع يوم القيامة . عن الحسن : أن الله لم يعط أحداً عطية إلا جعل عليه فيها حساباً سوى سليمان فإنه أعطاته عطية هنيئة إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة . ويحتمل أن يراد هذا التسخير تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم الإطلاق ، أو أمسك منشئت منهم بالوثاق ، فأنت في سعة من ذلك لا تحاسب في إطلاق من أطلقت وحبس من حبست وحين فرغ من تعداد النعم الدنيوية أردفه بما أنعم به عليه في الآخرة قائلاً : { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } كما في قصة داود وفيه أن ثوابه كفء ثواب أبيه كما أن سيرته سيرة أبيه .
التأويل بصاد صمديته في الأزل وصانعيته في الوسط وصبوريته إلى الأبد . أقسم بالقرآن ذي الذكر لأن القرآن قانون معالجات القلوب وأعظم مرض القلب من نسيان الله فأعظم علاجه ذكر الله . ثم أشار غلى انحراف مزاج الكفار بمرض نسيان الله من اللين والسلامة إلىلغلظ والقساوة ، ومن التواضع إلى التكبر ، ومن الوفاق إلى الخلاف ، ومن التصديق إلى التكذيب ، ومن التوحيد غلى تكثير الآلهة . وفي قوله { واصبروا على آلهتكم } إشارة إلى أن الكفار إذا تواصوا فيما بينهم بالصير والثبات فالمؤمنون أولى بالثبات على قدم الصدق في طلب المحبوب الحقيقي { إن هذا لشيء يراد } في الأزل من المقبول والمردود . { بل لما يذوقوا عذاب } لأنهم في النوم فإذا ماتوا انتبهوا وأحسوا بالألم فعاينوا الأمر حين لا ينفع العيان ، ويزول الشك في يوم لا يجدي البرهان . { عجل لنا قطنا } النفوس الخبيثة تميل بطبعها إلى السفليات العاجلة كما أن النفوس الكريمة تميل بطبعها إلى العلويات الباقية ، ولكل من الصنفين جذبة بالخاصية إلى شكله كجذب المغناطيس الحديد . { له تسع وتسعون نعجة } هن آثار فيوض الصفات الربانية بحسب الأسماء التسعة والتسعين ، فلكل منها مظهر في عالم الملك والخلق { ولي نعجة واحدة } هو ذات الله وحده { فقال أكفلنيها } أي صيرني أجمع بين الله وبين ما سواه . ثم ههنا أسار كثيرة تفهمها إن شاء الله . { وظن داود أنما فتناه } امتحناه بالجمع بين الدين والدنيا { فاستغفر } للحق { ربه } { راكعاً وأناب } إلى الله معرضاً عما سواه . وهذا التأويل مما خطر ببالي أرجو أن يكون مضاهياً للحق : { إنا جعلناك خليفة } فيه أن الخلافة عطاء من الله وأنها مخصوصة بالإنسان خلق مستعدّاً لها بالقوة ، وفيه أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة .

{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] { فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] ووجه الخلافة هو أن الروح الإنساني أوّل فيض بذاته وصفاته فذاته من ذات الله بلا واسطة ، وصفاته من صفاته بلا واسطة فخلق لخليفة منزلاً صالحاً وهو قالبه ، وأعد له عرشاً هو القلب ليكون محل استوائه ، ونصب له خادماً وهو النفس ، فلو بقي الإنسان على فطرة الله لكان روحه مستفيضاً من الله تعالى فائضاً لخلافة الحق على عرش القلب ، والقلب فائض لخلافة الروح على خادمه النفس ، والنفس فائضه لخلافة القلب على القالب ، والقالب فائض لخلافة النفس على الدنيا ، وهي أرض الله فلا يجري شيء من الأمور إلا على نهج الحق . { ووهبنا لداود } الروح { سليمان } اقلب { إذ عرض عليه بالعشي } وهو بعد زوال شمس التجلي { الصافنات الجياد } وهي مركب الصفات البشرية . وفي قوله { فطفق مسحاً } إشارة إلى أن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عنه لحظة يلزمك أن تقتله بسيف « لا إله إلا الله » وإليه الإشارة بقوله ثانياً { ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه } صدره شيئاً من الشهوات الجسدانية فافتتن به فتاب ورجع إلى الحضرة . فإن قيل : قوله { لا ينبغي لأحد من بعدي } هل يتناول نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : يتناوله بالصورة لا بالمعنى : فإن الذي كان مطلوب سليمان من تزكية النفس عن محبة الدنيا مع القدرة عليها ، ومن تحلية القلوب بعلوّ الهمة وبذل المال والجاه وإفشاء العدل والنصفة وغير ذلك كان حاصلاً للنبي صلى الله عليه وسلم من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتنان به عزة ودلالاً ولهذا قال في حديث تسلطه على الشيطان « ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته » وكان يعرض عليه مقاليد الخزائن فيقول : « الفقر فخري » على أن صورة الملك أيضاً مما سيحصل لبعض أمته كما قال « وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها » .
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

القراآت : { مسني الشيطان } بسكون الياء : حمزة . بنصب بضمتين : يزيد ، وقرأ يعقوب بفتحتين ، وقرأ هبيرة بالفتح والسكون . والباقون : باضم والسكون { بخالصة ذكري } على الإضافة : أبو جعفر ونافع وهشام { عبدنا إبراهيم } على التوحيد : ابن كثير وعلى هذا يكون إبراهيم وحده عطف بيان { ما يوعدون } على الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو { وغساق } بالتشديد حيث كان : حمزة وعليّ وخلف وحفص { أخر } بضم الهمزة على الجمع : أبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل . والباقون : بالمد على التوحيد . { الأشرار } بالإمالة والتفخيم مثل { الأبرار } غير ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { الأشرار } بالإمالة { اتخذناهم } موصولة والابتداء بكسر الألف : ابو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . والآخرون : بفتح الهمزة على الاستفهام { ما كان لي } بفتح الياء : حفص { إلا إنما } بكسر الهمزة على الحكاية : يزيد { لعنتي إلى } بفتح الياء : ابو جعفر ونافع { فالحق } بالرفع : حمزة وخلف وعاصم غير المفضل وهبيرة ويعقوب غير رويس .
الوقوف : { أيوب } م لا إذا جعل « إذ » بدلاً { وعذاب } 5 ط لتقدير القول أي فأرسلنا إليه جبريل فقال له اركض { برجلك } ج لأن هذا مبتدأ مع أه من تمام القول { وشراب } 5 { الألباب } 5 { ولا تحنث } ط { صابراً } ط { العبد } ط { أوّاب } 5 { والأبصار } 5 { الدار } 5 ج للآية مع العطف { الأخيار } 5 { وذا الكفل } ط { من الأخيار } 5 { ذكر } 5 ط { مآب } 5 لا لأن { جنات } بدل أو عطف بيان . { الأبواب } 5 ج لاحتمال أن عامل { متكئين } محذوف أي يتنعمون متكئين وإن جعل حالاً من { مفتحة } فهي مقدّرة لأن الاتكاء لا يكون في حال فتح الأبواب { وشراب } 5 { أتراب } 5 { الحساب } 5 { من نفاد } 5ج { هذا } ط أي هذا بيان جزاء المتقين أو الأمر هذا { مآب } 5 لا { جهنم } ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً { يصلونها } ج { المهاد } 5 { هذا } لا لأن خبره { حميم } فقوله { فليذوقوه } اعتراض { وغساق } 5 لا للعطف { أزواج } 5 ط { معكم } ج لاتصال المعنى مع الابتداء بما في معنى الدعاء { بهم } 5 { النار } ط { بكم } ط { لنا } ج { القرار } 5 { النار } 5 { الأشرار } 5 ط لمن قرأ بكسر الهمزة لاحتمال إضمار همزة الاستفهام واحتمال كونها خبرية صفة أو حالاً ومن صرح بالاستفهام فوقفه مطلق { الأبصار } 5 { النار } 5 { القهار } 5 ج لأن ما بعده يصلح بدلاً وخبراً لمحذوف أي هو الغفار { عظيم } 5 لا لأن ما بعده وصف { معرضون } 5 { يختصمون } 5 { مبين } 5 { طين } 5 { ساجدين } 5 { أجمعون } 5 لا { إبليس } ط { الكافروين } 5 { بيديّ } ط للاستفهام { العالين } 5 { منه } ط لأن ما بعده جواب سؤال كأنه علل الخيرية { طين } 5 { رجيم } 5 ج والوصل أولى لاتصال لعنتي به { الدين } 5 { يبعثون } 5 { المنظرين } 5 لا لتعلق إلى { المعلوم } 5 { أجميعن } 5 للاستثناء { المخلصين } 5 { فالحق } ز على قراءة الرفع أي فهذا الحق مع اتحاد المقول { أقول } ج لاحتمال أن ما بعده قسم مستأنف أو بدل من قوله { والحق } .

{ أجمعين } 5 ج { المتكلفين } 5 { للعالمين } 5 { حين } 5 .
التفسير : وجه النظم كأنه تعالى يقول : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر مالاً أو جاهاً من داود وسليمان ، ولم يكن أكثر بلاء ومحنة من أيوب ، ومع ذلك لم يبق حالهما وحاله على نسق واحد ، فالصبر مفتاح الفرج . { وأيوب } عطف بيان و « إذ » معمول فعل آخر أو بدل اشتمال من أيوب أي زمان بلائه وكان معاصراً ليعقوب ، وامرأته ليا بنت يعقوب ، ونداؤه دعاؤه والجار محذوف أي دعاه بأني مسني على الحكاية وإلا لقال بأنه مسه والنصب والنصيب كالرشد والرشد ، والنصب بالفتح والسكون على أصل المصدر ، وضمة الصاد لا تباع النون كقفل وقفل . ومعنى الكل التعب والمشقة . قيل : الضر في البدن والعذاب في ذهاب المال والأهل وللناس في بلائه قولان : الأول أن الذي نزل به كان من الشيطان وقد مرّ تقريره في « الأنبياء » ومجمله ما روي أن إبليس سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال : نعم ، عبدي أيوب . قال : فسلطني على ماله فكان يجيئه ويقول : هلك من مالك كذا فيقول : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله . فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده . فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية فجاء وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال : يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده فأذن فيه ، فنفخ في جلد ايوب وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سبع سنين أو ثمان عشرة ، وصار بحيث استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته وقال : إن استعاذ بي زوجك خلصته من هذا البلاء فاشارت غلى أيوب بذلك فغضب لذلك - أو لوجوه أخر سبق ذكرها في سورة الأنبياء - وحلف إن عافه الله ليجلدنها مائة جلدة وعند ذلك دعا ربه شاكياً إليه لأمنه كقول يعقوب { إنما اشكو بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] فأجاب دعاءه وأوحى إليه { أركض } أي اضرب { برجلك } الأرض . عن قتادة : هي أرض الجابية من قرى الشام . فأظهر الله تعالى من تحت رجله عيناً باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه وردّ عليه أهله وماله .
القول الثاني : إن الشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآفات وإلا لوقع في العالم مفاسد ولم يدع صالحاً إلا نكبه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة .

فالمراد بمس الشيطان هو الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب وساوسه من تعظيم ما نزل به من البلاء وإغرائه على الجزع والقنوط من روح الله إلى غير ذلك مما مر ذكره في سورة الأنبياء . ولناصر القول الأول أن يقول : سلمنا أن الشيطان باستقلاله لا يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر بعد الالتماس والتسليط؟ . ولنعد إلى تفسير ما يختص بالمقام . قوله { مغتسل بارد } أي هذا مكان يغتسل فيه أي بمائة ويشرب منه ، والظاهر أنها كانت عيناً واحدة عذبة باردة ، وروى بعضهم أنه نبعت عينان ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها فبرأ ظاهره ، وضرب رجله اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها فزال ما في بطنه من القروح . وزعم أن تقدير الكلام هذا مغتسل وشراب بارد . وقوله { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم } قيل : أحياهم الله بأعيانهم وزاد مثلهم من أولاده . وقيل : من أولاد أولاده . وقيل : كانوا قد غابوا عنه وتفرقوا فجمع الله شملهم . وقيل : كانوا مرضى فشفاهم الله والأول اصح . وقوله { رحمة منا وذكرى } مفعول لهما فكانت الهبة رحمة له وتذكيراً لذوي العقول حتى لو ابتلوا بما ابتلي به صبروا كما صبر فيفوزوا كما فاز . وإنما لم يقل ههنا { رحمة من عندنا } [ الأنبياء : 84 ] مع أنه أبلغ اكتفاء بما مر في سورة الأنبياء وفي قوله { وذكرى لأولي الألباب } مع قوله في « الأنبياء » { وذكرى للعابدين } [ الآية : 84 ] إشارة إلى أن ذا اللب هو الذي يعبد الله . وتخصص كل من السورتين بما خص لرعاية الفاصلة قوله { وخذ } معطوف على { اركض } والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو سنبلة . قال مجاهد : هو لأيوب خاصة . وعن قتادة : هو عام في هذه الأمة . والصحيح أنه باق في المريض والمعذور لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمخدج وقد زنى بأمة فقال : خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة حلل الله يمين أيوب بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها . ومعنى { وجدناه صابراً } علمنا منه الصبر .
وههنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان { نعم العبد } تارة وفي حق أيوب أخرى ، اغتم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه ، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه ، فكيف السبيل إلى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله { فنعم المولى ونعم النصير } [ الحج : 78 ] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى ، فإن كان منك الفضول فمني الفضل ، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق .

قلت : وصف أنبياء سائر الأمم بقوله { نعم العبد } ووصف هذه الأمة بقوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء . ومعنى { أولي الأيدي والأبصار } أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال ، والبصر آلة لأقوى الإِدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد ، وعن الإدراك بالبصر ، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والرعفان فهم في حكم الزمنى والعميان ، ولولا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة . قوله { أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة ، والدار ظرف فهي الدنيا ، أو مفعول به فهي الآخرة . والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا ، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها ، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة ، أو بما خلص من ذكراها ، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم . و { المصطفين } جمع مصطفى وأصله مصطفين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء المتحركة ألفاً ثم حذفت ، أراد اخترناهم من بين أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في ميت أو موت { إسماعيل واليسع وذا الكفل } وقد مر ذكرهم في سورة الأنبياء . وحين تمم ذكر الصالحين وما لقي كل منهم من أنواع الابتلاء تثبيتاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو باب من أبواب التنزيل ونوع من أنواع القرآن ، أراد أن يذكر على عقيبه باباً آخر وهو ذكر جزاء المتقين والطاغين قال { هذا ذكر } ثم قال { وإن للمتقين } كما يقول المصنف : إذا فرغ من فصل من كتابه هذا باب ثم يشرع في باب آخر . ويحتمل أن يكون من تتمة صفات الأنبياء أي هذا الذي قصصنا عليك من أحوال هؤلاء الأنبياء شرف وذكر جميل يذكرون به أبداً . قوله { مفتحة } حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل . قال الزجاج { الأبواب } فاعل { مفتحة } والعائد محذوف أي الأبواب منها . وقال غيره . في { مفتحة } ضمير الجنات { والأبواب } بدل الاشتمال من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب نظيره في بدل البعض « ضرب زيد اليد والرجل » فكان اللام عوضاً من الضمير الراجع . والمعنى أن الملائكة الموكلين بالجنات إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له ابوابها وحيوه بالسلام فلا يحتاجون إلى تحصيل مفاتيح ومعاناة الفتح . وقيل : أراد به وصف تلك المساكين بالسعة وجولان الطرف فيها من غير حائل . وقوله { متكئين } حال مقدرة متداخلة كما مر أو حال بعد حال أو عامله مؤخر وهو { يدعون } أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم .

وقيل : يتمنون وقيل : يسألون . قال المفسرون : أراد وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول . وحين بين أمر المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح . وقاصرات الطرف قد مر في « الصافات » أنهن اللواتي قصرن الطرف عن الالتفات إلى غير أزواجهن . والأتراب جمع ترب وهي اللدة . واشتقاقها قيل من اللعب بالتراب ، وقيل لأن التراب مسهن في وقت واحد . والسبب في اعتبار هذا الوصف أن التحاب بين الأقران أثبت . وقيل : هن وأزواجهن واحدة في الأسنان . وقيل : اراد أنهن شواب لا عجوز ولا صبية . ويروى أنهن بنات ثلاث وثلاثين . ومعنى { ليوم الحساب } قيل : لأجل الحساب لأن الحساب على الوصول إلى جزاء العمل . والظاهر أن اللام للوقت أي ما وعدتم تعطونه في يوم الحساب . { إن هذا لرزقنا ماله من نفاد } انقطاع ونهاية ولا مزيد فوق ذلك فتمام النعم بدوامها . ثم بين أن حال الطاغين مضادّة لحال المتقين وأكثر المفسرين حملوا الطغيان ههنا على الكفر لأنه تعالى يحكي عنهم أنهم قالوا اتخذناهم سخرياً ، والفاسق لا يتخذ المؤمن هزواً لأن الطاغي اسم ذم ، والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر ، ويؤيده قول ابن عباس : المعنى إن الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مصير . وحمله الجبائي على أصحاب الكبائر من أهل الإيمان وغيرهم لأن كل من تجاوز عن تكاليف الله فقد طغا ، ومنه قوله تعالى { إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى } [ العلق : 67 ] والمهاد الفراش وقد مر مراراً . وقوله { هذا } قد مر بعض إعرابه في الوقوف ، ويحتمل أن يراد العذاب هذا ثم ابتدأ فقال هو حميم أو منه { حميم } ومنه { غساق } أو { هذا فليذوقوه } معناه ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله { فإِياي فارهبون } [ النحل : 51 ] وقيل : { حميم } مبتدأ و { هذا } خبره . والغساق بالتخفيف والتشديد ما يغسق من صديد أهل النار . يقال : غسقت العين إذا سال دمعها . وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل الليل الغاسق لأنه أبرد من النهار . فالحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده . وقال الزجاج : إنه المنتن لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق يؤيده قول ابن عمر : هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه . وقال كعب : هو عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي سم من عقرب وحية . وعن الحسن : هو عذاب لا يعلمه إلا الله . إن الناس أخفوا الله طاعة فأخفى لهم ثواباً في قوله { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة : { وآخر من شكله } أي ومذوقات أخر أو عذاب أو مذوق آخر من جنس هذا المذوق . و { أزواج } أي أجناس أو مقترنات صفة الآخر لأنه جاز أن يكن مختلفات أو صفة للثلاثة المذكورة وهي حميم وغساق وشيء آخر من شكله ، والمجموع خبر هذا أو خبر هو .

وحين وصف مسكن الطاغين ومأكولهم ومشروبهم حكى أحوالهم مع الذين كانوا يعدونهم أحباءهم في الدنيا ثم مع الذين كانوا يعدونهم أعداءهم . أما الأوّل فقوله { هذا } اي يقول الطاغون بعضهم مع بعض وذلك إذا دخلت أمة ثم دخل آخرون . والفوج الأوّل الرؤساء والثاني الأتباع . وقيل : الأول إبليس وبنوه والثاني أبناء آدم هذا { فوج } اي جمع كثيف دخل النار في صحبتكم . والاقتحام الدخول في الشدة أرادوا أن أتباعهم اقتحموا معهم العذاب كما اقتحموا معهم الضلال . وقوله { لا مرحباً بهم } دعاء منهم على أتباعهم و { مرحباً } نصب على أنه مفعول به أو مصدر أي أتيت رحباً لا ضيقاً ، أو رحبت بلادك رحباً فإذا دخل عليه لا صار دعاء السوء وبهم بيان للمدعو عيلهم . وقوله { إنهم صالوا النار } تعليل لاستيجابهم اللعن . قيل : إنما قالوا ذلك ولم يصدر من الأتباع ذنب في حق من قبلهم لأن النار تكون مملوءة منهم ، أو لأن عذابهم يضاعف بسببهم . وقيل : هو إخبار لا دعاء أي وقد وردوا مورداً لا رحب فيه ولا سعة . وقيل { هذا فوج مقتحم معكم } كلام الخزنة لرؤساء الكفرة فما بين أتباعهم . وقيل : هذا كله كلام الخزنة { قالوا } أي الأتباع . { بل أنتم لا مرحباً بكم } أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم { أنتم قدمتموه لنا } والضمير لما هم فيه من العذاب أو الصلي أي كنتم السبب في العمل الذي هو جزاؤه فجمعوا بين مجازين ، لأن الأتباع هم الذين عملوا عمل السوء لا رَؤساؤهم والعمل هو المقدّم لا جزاؤه . ومن جعل قوله { لا مرحباً } بهم من كلام الخزنة ، زعم أن تقدير الكلام هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا وتسببكم لما نحن فيه . { فبئس القرار } أي المستقر النار { قالوا } أي الفوج وهو كالبدل من { قالوا } الأوّل والضعف المضاعف كما مر في « الأعراف » وأما الثاني فقوله { ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدّهم من الأشرار } أي في اعتقادنا لأن دينهم على خلاف ديننا ، أو أرادوا أنهم أراذل لا خير فيهم يعنون فقراء المسلمين . وعن بعضهم أن القائلين صناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما والرجال عمار وبلال وصهيب وأمثالهم . من قرأ { أتخذناهم } بفتح الهمزة فعلى أنه إنكار منهم على أنفسهم وتأنيب لها بالاستسخار منهم ، وكذا فيمن قرأ { اتخذناهم } بكسر الهمزة ويقدر همزة الاستفهام محذوفة ، ومن جعلها صفة أو حالاً فلا إشكال وحينئذ يتصل { أم زاغت } بقوله { ما لنا لا نرى } أي الرجال الموصوفين في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا وخفي علينا مكانهم فلا نراهم وهم فيها . فأم منقطعة وكذا إن اتصل بقوله { اتخذناهم } على الاستفهام لأن الأول للإِنكار ، والثاني للاستخبار .

ويجوز أن يكون « أم » متصلة وكلاهما للإِنكار . ومعنى زيغ الأبصار ازدراؤهم وتحقيرهم يؤيده قول الحسن ، كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخرياً وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم واللام في الأبصار عوض من الضمير أي أبصارنا { إن ذلك } الذي حكينا عنهم { لحق } لا بد لهم من وقوعه لأنهم مالوا إلى عالم التضاد فيحشرون كذلك . ثم بين ما هو فقال هو { تخاصم أهل النار } لأن التلاعن والتشاتم نوع من أنواع الخصومة .
واعلم أنه سبحانه لما بدأ في أول السورة بأن محمداً يدعو إلى التوحيد وأن الكفار يستهزؤن منه وينسبونه إلى السخرية تارة وإلى الكذب أخرى . ثم ذكر طرفاً من قصص الأنبياء عليهم السلام ليعلم أن الدنيا دار تكليف وبلاء لا دار إقامة وبقاء . ثم عقبه بشرح نعيم الأبرار وعقاب الأشرار ، عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أوّل السورة وهي صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما يدعو إليه من التوحيد والإخلاص فقال { قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد } من جميع الوجوه { القهار } لما دونه ثم أردف القهر باللطف والتربية قائلاً { رب السموات والأرض وما بينهما } ثم أكد صفتي القهر واللطف بقوله { العزيز الغفار } فمن عزته أدخل أهل الاستكبار النار ولمغفرته أعدّ الجنة لأهل الاستغفار . قوله { قل هو نبأ عظيم } أي القول بأن الله واحد نبأ عظيم أو القول بالنبوّة أو بإثبات الحشر والقيامة ، وذلك لأن هذه المطالب كانت مذكورة في أوّل السورة ولأجلها سيق الكلام منجراً إلى ههنا . ويحتمل أن يراد { كتاب أنزلناه } فيه نبأ عظيم وهؤلاء الأقوام أعرضوا عن كل من هذه الأمور . ثم بين أنه حاصل من قبل الوحي بقوله { ما كان لي من علم بالملأ الأعلى } وهم الملائكة { إذ يختصمون } أي يتقاولون فيما بينهم بالوحي . والظرف متعلق بمحذوف أي بكلامهم وقت اختصامهم ، شبه التقاول بالتخاصم من حيث إن في كل منهما سؤالاً وجواباً والمشابهة علة لجواز المجاز . ثم صرح بما عليه مدار الوحي قائلاً { إن يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين } أي ما يوحى إليّ إلا هذا وهو إني نذير كامل في باب التبليغ ، ويؤيده قراءة كسر { إنما } . وقيل : إن الجار محذوف أي لم يوح إليّ إلا لأن أنذر ولا أقصر . روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم « أتاني الليل آت من ربي وفي رواية ربي في أحسن صورة فقال لي : يا محمد . قلت : لبيك ربي وسعديك . قال : هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أعلم . قال : فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض . قال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : نعم ، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه »

الحديث . قال : والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام .
واعلم أن أشراف قريش إنما نازعوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد والكبر فختم الله تعالى السورة بذكر قصة آدم وما وقع فيه إبليس من الرجم واللعن حين حسد آدم واستكبر ليصير سماع القصة زاجراً للمكلفين عن هاتين الخصلتين ، فعلى هذا يكون { إذ قال } معمولاً لمحذوف اي اذكر وقت قول ربك للملائكة . وقيل : النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد . وعلى هذا فالضمير عائد إلى ما ذكره عما قريب . والمعنى ما أحكيه خبر له شأن لأنه مستفاد من الوحي . وقوله { إذ قال } بدل من { إذ يختصمون } والملأ الأعلى اصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم حين قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] كأنهم قالوا : هؤلاء فيما بينهم . ثم خاطبوا بها الله سبحانه فلا يلزم أن يكون الله تعالى من الملأ الأعلى ويثبت له مكان . أو نقول : المراد علو الرتبة والشرف فيشمل تقاول الله وملائكته . وقال جار الله : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط . وقصة آدم مذكورة في « البقرة » وفي غيرها مشروحة . والتي في هذه السورة يوافق أكثرها ما في الحجر فلا فائدة في إعادتها فلنذكر ما يختص بالمقام قوله { خلقت بيديّ } كلام المجسمة فيه ظاهر وغيرهم حملوه على وجوه منها : أن اليد عبارة عن القدرة يقال ما لي بهذا الأمر يد أي قوّة وطاقة . ومنها أنها النعمة . ومنها أنها للتأكيد وليدل على عدم الواسطة كما مر في قوله { مما عملت أيدينا } [ يس : 71 ] وقد يقال في حق من جنى بلسانه وإن لم يكن له هذا مما كسبت يداك . والحق فيه أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيديه إلا إذا كانت عنايته مصروفة إلى ذلك العمل ، فحيث كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازاً عنها . ومنها قول أرباب التأويل إنه إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وهما يشملان جميع الصفات فلا مخلوق إلا وهو مظهر لإِحدى الصفتين ، كالملك فإنه مظهر اللطف ، وكالشيطان فإِنه مظهر القهر إلا الإنسان فإِنه مظهر لكلتيهما وبذلك استحق الخلافة ومسجودية الملائكة ولهذا جاء في الأحاديث القدسية « لا أجعل ذرّية من خلقت بيديّ كمن قلت له كن فكان » قوله { استكبرت أم كنت من العالين } أي أطلبت الكبر من غير استحقاق أم كنت ممن علوت وقفت؟ فأجاب بأنه من العالين حيث { قال أنا خير منه } وقيل : استكبرت الآن أو لم تزل منذ كنت من المتكبرين .

ومعنى الهمزة التقرير . قوله { فالحق } من قرأ بالرفع فعلى أنه خبر لما مر أو مبتدأ محذوف الخبر مثل { لعمرك } [ الحجر : 72 ] أي فالحق قسمي لأملأن والحق أقوله وهو اعتراض . ومن نصبهما فعلى أن اثاني تأكيد للأوّل ، أو على أن الأوّل للإغراء أي اتبعوا الحق وهو الله سبحانه ، أو الحق الذي هو نقيض الباطل . وقوله { منك } أي من جنسك وهم الشياطين { وممن تبعك منهم } أي من ذرّية آدم . و { أجمعين } تأكيد للتابعين والمتبوعين . ثم ختم السورة بما يدل على الاحتياط والاجتهاد في طلب هذا الدين لأن النظر إما إلى الداعي أو إلى المدعو إليه . أما الداعي فلا يسأل أجراً على ما يدعو إليه وهو القرآن أو الوحي أو النبأ ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال ألبتة . وأما المدعو إليه فقوله { وما أنا من المتكلفين } الذين ينتحلون ما ليس عندهم ولا دليل لهم على وجوده ، بل العقل الصريح يشهد بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بالله أوّلاً ثم إلى تنزيهه عما لا يليق به ثانياً ، ثم إلى وصفه بنعوت الجمال والجلال ثالثاً ومن جملة ذلك التوحيد ونفي الأنداد والأضداد ، ثم أدعو إلى تعظيم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة والأنبياء رابعاً ، ثم إلى الشفقة على خلق الله خامساً ، ثم أدعو إلى الإقرار بالبعث والقيامة سادساً { ليجزي الذين أسؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } [ النجم : 31 ] فهذه أصول معتبرة في دين الإسلام يشهد بحسنها بداية العقول ويحكم ببعدها عن الباطل كل من يرجع إلى محصول وهو المراد بقوله { إن هو إلا ذكر للعالمين } عن النبي صلى الله عليه وسلم « للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول مالا يعلم » { ولتعلمن نبأه بعد حين } أي خبر حقيقة القرآن وما أدعو إليه بعد حين هو الموت لأن الناس نيام فإِذا ماتوا انتبهوا . وقيل : هو القيامة . وقيل : هو حين ظهور الإسلام ولا يخفى ما فيه من التهديد .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

القراآت : { يرضه } بالإِشباع : ابن كثير وعلي والمفضل وعباس وإسماعيل وابن ذكوان وخلف { يرضه } باختلاس ضمة الهاء : يزيد وسهل ويعقوب ونافع وعاصم غير يحيى وحماد والمفضل وحمزة وهشام وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الباقون { يرضه } بسكون الهاء { ليضل } بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب . الباقون : بالضم { أمن هو } بتخفيف المميم : نافع وابن كثير وحمزة وأبو زيد { يا عبادي الذين } بفتح الياء : الشموني والبرجمي والوقف بالياء { إني أمرت } { فبشر عبادي } بفتح المتكلم فيهما : شجاع وأبو شعيب وعباس والشموني والبرجمي والوقف بالياء { إني أخاف } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { سالماً } بالألف : ابن كثير وأبو عمرو . والآخرون : بفتح السين واللام من غير ألف .
الوقوف : { الحكيم } 5 { له الدين } 5 ط { الخالص } ط { أولياء } 5 التقدير يقولون ولو وصل لأوهم أن ما نعبدهم أخبار من الله قاله السجاوندي . وعندي أن هذا وهم بعيد والأولى أن لا يوقف لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره { زلفى } ج لاحتمال أن خبر المبتدأ هو ما بعده { يختلفون } 5 ط { كفار } 5 { ما يشاء } ز لتعجيل التنزيه { سبحانه } ط { القهار } 5 ز { بالحق } ج لاحتمال كون ما بعده حالاً والاستئناف أفضل { والقمر } ط { مسمى } ط { الغفار } 5 { أزواج } ط { ثلاث } ط { الملك } ط { تصرفون } 5 { الكفر } ج لعطف جملتي الشرط مع وقوع العارض { لكم } ط { أخرى } ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { تعملون } 5 { الصدور } 5 { سبيله } ط { قليلاً } ز ص والأولى والوصل أو التقدير فإنك { النار } 5 { رحمة ربه } 5 { لا يعلمون } 5 { الألباب } 5 { ربكم } ط { حسنة } ط { واسعة } ط { حساب } 5 { له الدين } 5 ط { المسلمين } 5 { عظيم } 5 { ديني } 5 لا { دونه } ط { يوم القيامة } ط { المبين } 5 { ومن تحتهم ظلل } ط { عباده } ط { فاتقون } 5 { البشرى } ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب { عباد } 5 لا { أحسنه } ط { الألباب } 5 { العذاب } 5 { في النار } 5 ج للآية مع الاستدراك مبنية لا لأن ما بعده وصف { الأنهار } ط { وعد الله } ط { الميعاد } 5 { حطاماً } ط { الألباب } 5 { من ربه } ط لحذف جواب الاستفهام من { ذكر الله } ط { مبين } 5 { ربهم } ج لأن الجملة ليست من صفة الكتاب مع العطف { ذكر الله } ط { من يشاء } ط { هاد } 5 { يوم القيامة } ط لحق الحذف كما مر { تكسبون } 5 { لا يشعرون } 5 { الدنيا } ج للام الابتداء مع العطف { أكبر } 5 { يعلمون } 5 { يتذكرون } 5 ج لاحتمال كون { قرآنا } نصباً على المدح أو على الحال المؤكدة كما يجيء { يتقون } 5 { متشاكسون } 5 { لرجل } ط { مثلاً } ط { الله } ج للإضراب مع اتفاق الجملتين { لا يعلمون } 5 { ميتون } 5 { تحتصمون } 5 .

التفسير : { تنزيل الكتاب } مبتدأ وخبره { من الله } وقيل : اصله هذا تنزيل الكتاب والجار صلة ، والأولى أقوى لأن الإِضمار خلاف الأصل ، ولأنه يلزم مجاز وهو كون التنزيل بمعنى المنزل فإن هذا إشارة إلى القرآن أو إلى جزء منه وهو هذه السورة . وفيه إبطال ما يقوله المشركون من أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه . وفي قوله { من الله } إشارة إلى الذات المستحق للعبادة والطاعة كقولك : هذا كتاب من فلان . تعظم به شأن الكتاب : وفي قوله { العزيز } إشارة إلى أن هذا الكتاب يحق قبوله فكتاب العزيز عزيز ، وفيه أنه غني عن إرسال الكتاب والاستكمال به وإنما ينتفع به المرسل إليهم . وفي قوله { الحكيم } إشارة إلى أنه مشتمل على الفوائد الدينية والدنيوية لا على العبث والباطل . وقوله { إنا أنزلنا إليك } ليس تكراراً من وجهين : أحدهما أن التنزيل للتدريج والإنزال دفعي كما مر مراراً . والثاني أن الأول كعنوان الكتاب ، والثاني يقرر ما في الكتاب . وقوله { بالحق } يعني أن كل ما أودعنا فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق مؤيد بالبرهان العقلي وهو مطابقته للعقول الصحيحة ، وبالدليل الحسي وهو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته . ثم اشتغل ببيان بعض ما فيه من الحق وهو الإقبال على عبادته بالإخلاص والالتفات عما سواه بالكلية . أما الأول فهو قوله { فاعبد الله } أي أنت أو أمتك { مخلصاًً له الدين } وآية الإخلاص أن يكون الداعي إلى العبادة هو مجرد الأمر لا طلب مرغوب أو هرب مكروه . وأما الثاني فذلك قوله { الا لله الدين الخالص } أي واجب اختصاصه بالطاعة من غير أن يشوب ذلك دعاء أو شرك ظاهر وخفي . وخصصه قتادة فقال : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله . وحين حث على التوحيد والإخلاص ذم طريقة الشرك والتقليد فقال { والذين اتخذوا } الضمير للمشركين ولكن الموصول يحتمل أن يكون عبارة عن المشركين والخبر ما أضمر من القول ، أو قوله { إن الله يحكم بينهم } والقول المضمر حال أو بدل فلا يكون له محل كالمبدل ، وأن يكون عبارة عن الشركاء والخبر { إن الله يحكم بينهم } والقول المضمر للحال أو بدل . وتقدير الكلام على الأول : والمشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا أو المشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين أو يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم . وعلى الثاني : والشركاء الذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين أو يقولون كذا إن الله يحكم بينهم . وإذا عرفت التقادير فنقول : المراد بالأولياء ههنا الملائكة وعيسى واللات والعزى . قال ابن عباس : كانوا يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله أما الملائكة وعيسى فظاهر ، وأما الأصنام فلأنهم اعتقدوا أنها تماثيل الكواكب والأرواح السماوية أو الصالحين .

ومعنى حكم الله بينهم أنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة ، ويدخلهم مع الأصنام النار . واختلافهم أن الملائكة وعيسى موحدون وهم مشركون والأصنام يكفرون يوم القيامة بشركهم وهم يرجون نفعهم وشفاعتهم . ويجوز أن يرجع الضمير في { بينهم } غلى الفريقين المؤمن والمشرك . ولا يخفى ما في الآية من التهديد . ثم سجل عليهم بالخذلان والحرمان فقال { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } فكذبهم هو زعمهم شفاعة الأصنام وكفرانهم أنهم تركوا عبادة المنعم الحق وأقبلوا على عبادة من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً . ومن جملة كذبهم قولهم الملائكة بنات الله فلذلك نعبد صورها فاحتج على إبطال معتقدهم بقوله { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء } وهو الأفضل يعني البنين لا الأنقص وهن البنات . وقال جار الله : معناه لو اراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه وهم الملائكة ، لأن اتخاذ الولد ممتنع ، وفيه توبيخ لهم على أنهم حسبوا الاصطفاء اتخاذ الأولاد بل البنات . وأقول : إنه تعالى أراد إبطال قولهم بطريق برهان وهو صورة قياس استثنائي كقوله { لو اراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى } لأجل الاتخاذ مما يخلق ما يشاء لكنه ما اصطفى ينتج أنه لم يرد أما الشرطية فظاهرة بعد تسليم كما قدرته ، وأما الثانية فأشار إليها بقوله { سبحانه هو الله الواحد القهار } فقوله { سبحانه } إشارة إلى استحالة اصطفائه شيئاً لأجل اتخاذ الولد . وقوله { هو الله الواحد القهار } إشارة إلى البرهان على استحالة ذلك وتقريره من ثلاثة أوجه : الأول أنه هو الله وهو اسم للمعبود الواجب الذات الجامع لجميه نعوت الجمال والجلال واتخاذ الولد يدل على الحاجة والفقر حتى يقوم الولد بعده مقامه ، أو على الاستئناس والالتذاذ بوجوده أو لغير ذلك من الإغرض ، وكل ذلك ينافي الوجوب الذاتي والاستغناء المطلق . الثاني أنه هو الواحد الحقيقي كما مر ذكره مراراً . والولد إنما يحصل من جزء من أجزاء الوالد ، ومن شرطه أن يكون مماثلاً لوالده في تمام الماهية حتى تكون حقيقة الوالد حقيقة نوعية محمولة على شخصين ، ويكون تعين كل منهما معلوماً لسبب منفصل وكل ذلك ينافي التعين الذاتي والوحدة المطلقة . وأيضاً إن حصول الولد من الزوج يتوقف على الزوجة عادة وهي لا بد أن تكون من جنس الزوج فلا يكون الزوج مما ينحصر نوعه في شخصه . الثالث أنه هو القهار والمحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيقوم الولد مقامه والميت مقهور لا قاهر ، فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما اصطفى شيئاً لأن يتخذه ولداً فصح أنه لم يرد ذلك ، ونفي إرادة الاتخاذ أبلغ من نفي الاتخاذ فقد يراد ولا يتخذ لمانع كعجزه ونحوه . هذا ما وصل إليه فهمي في تفسير هذه الآية والله تعالى أعلم بأسرار كلامه .

وحين طعن في إلهية الأصنام عدد الصفات التي بها يستدل على الإلهية الحقة وهي أصناف : أولها قوله { خلق السموات والأرض بالحق } أي متلبساً بالغاية الصحيحة وقد مر مراراً . الثاني . { يكوّر الليل على النهار } والتكوير اللف واللي يقال كار العمامة على راسه وكورها . وفي التشبيه أوجه منها : أن الليل والنهار متعاقبان إذا غشي أحدهما مكان الآخر فكأنما ألبسه ولف عليه . ومنها أنه شبه كل منهما إذا غيب صاحبه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الأبصار . ومنها أن كلاً منهما يكر على الآخر كروراً متتابعاً أكوار العمامة . وقيل : أراد أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر من قوله صلى الله عليه وسلم « نعوذ بالله من الحور بعد الكور » أي من الإدبار بعد الإقبال . الثالث { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } وقد مر مثله في « فاطر » وغيره . وحيث كان الأجل المسمى شاملاً للقيامة عقبه بقوله { الا هو العزيز الغفار } وفيه ترهيب مع ترغيب . الرابع والخامس قوله { خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها } وهما آيتان أوّلهما تشعيب الخلق الفائت للحصر من نفس آدم ، والثانية خلق حوّاء من ضلعه . ومعنى « ثم » ترتيب الأخبار لأن الأولى عادة مستمرة دون الثانية إذ لم يخلق أنثى غير حوّاء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع . وقيل : هو متعلق بواحدة في المعنى كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة ثم شفعها الله بزوج منها . وقيل : إنه خلق آدم وأخرج ذريته من ظهره ثم ردهم إلى مكانهم ، ثم خلق بعد ذلك حوّاء . وقيل : « ثم » قد يأتي مع الجملة دالاً على التقدّم كقوله { ثم اهتدى } [ طه : 82 ] { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم « فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير » السادس قوله { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } أما الأزواج فهي المذكورة في سورة الأنعم من الضأن اثنين الذكر والأنثى ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين . وأما وصفها بالإنزال فقيل : أنزلها من الجنة . وقيل : أراد إنزال ما هو سبب في وجودها وهو المطر الذي به قوام النبات الذي به يعيش الحيوان . وقيل : أنزل بمعنى قضى وقسم لأن قضاياه وقسمه مكتوبة في اللوح ومن هناك ينزل . وفي هذه العبارة نوع فخامة وتعظيم لإفادتها معنى الرفعة والاعتلاء ولهذا يقال : رفعت القضية إلى الأمير وإن كان الأمير في سرب . وخصت هذه الأزواج بالذكر لكثرة منافعها من اللبن واللحم والجلد والشعر والوبر والركوب والحمل والحرث وغير ذلك . السابع قوله { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } والمقصود ذكر تخليق الحيوان على الإطلاق بعد ذكر تخليق الإنسان والأنعام ، إلا أنه غلب أولي العقل لشرفهم .

ويحتمل أن يكون ذكر الإنعام اعتراضاً حسن موقعه ذكر الأزواج بعد قوله { جعل منها زوجها } ليعلم أن كل حيوان ذو زوج وترتيب التخليق مذكور مراراً كقوله { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] إلى قوله { أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ، أو الصلب والرحم والبطن . { ذلكم } الذي هذه أفعاله { ربكم له الملك } وقد مر إعرابه في « فاطر » . { لا إله إلا هو } إذ لا موصوف بهذه الصفات إلا هو { فأنى تصرفون } أي كيف يعدل بكم عن طريق الحق بعد هذا البيان؟ ثم بين أنه غني عن طاعات المطيعين وأنها لا تفيد إلا أنفسهم فقال { وإن تكفروا فإن الله غنيّ عنكم } قال المعتزلة : في قوله { ولا يرضى لعباده الكفر } دليل على أن الكفر ليس بقضائه وإلا لكان راضياً به . وأجاب الأشاعرة بأنه قد علم من اصطلاح القرآن أن العباد المضاف إلى الله أو إلى ضميره هم المؤمنون . قال { وعباد الرحمن الذين يمشون } [ الفرقان : 63 ] { عيناً يشرب بها عباد الله } [ الدهر : 6 ] فمعنى الآية : ولا يرضى لعباده المخلصين الكفر . وهذا مما لا نزاع فيه . أو نقول : سلمنا أن كفر الكافر ليس برضا الله بمعنى أنه لا يمدحه عليه ولا يترك اللوم والاعتراض إلا أنا ندعي أنه بإرادته ، وليس في الآية دليل على إبطاله . ثم بين غاية كرمه بقوله : { وإن تشكروا يرضه لكم } والسبب في كلا الحكمين ما جاء في الحديث القدسي « سبقت رحمتي غضبي » وباقي الآية مذكور مراراً مع وضوحه . ثم حكى نهاية ضعف الإنسان وتناقض آرائه بقوله { وإذا مس } إلى آخره . وقد مر نظيره أيضاً . وقيل : إن الإنسان هو الكافر الذي نقدّم ذكره . وقيل : أريد أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره . ومعنى خوّله أعطاه لا لاستجرار العوض . قال جار الله : في حقيقته وجهان : أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهداً له حسن القيام به . ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة أي يتعهد ويتكفل أحوالهم إن رأى منهم نشاطاً في الوعظ وعظهم . والثاني أنه جعله يخول أي يفتخر كما قيل :
إن الغني طويل الذيل مياس ... ومعنى { نسي ما كان يدعو إليه } نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ، أو نسي ربه الذي كان يتضرع إليه و « ما » بمعنى « من » . والمراد أنه نسي أن لا مفزع ولا إله سواه وعاد إلى اتخاذ الأنداد مع الله . واللام في { ليضل } لام العاقبة . ثم هدّده بقوله { تمتع بكفرك } كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وفيه أن الكافر لا يتمتع بالدنيا إلا قليلاً ثم يؤل إلى النار .

ثم أردفه بشرح حال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا إلى الله ولا اعتماد لهم إلا على فضله فقال { أمن هو قانت } قال ابن عباس : القنوت الطاعة . وقال ابن عمر : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام . والمشهور أنه الدعاء في الصلاة والقيام بما يجب عليه من الطاعة . وعن قتادة { آناء الليل } أوّله ووسطه وآخره . وفيه تنبيه على فضل قيام الليل ولا يخفى أنه كذلك لبعده عن الرياء ولمزيد الحضور وفراغ الحواس من الشواغل الخارجية ، ولأن الليل وقت الراحة فالعبادة فيه أشق على النفس فيكون ثوابه أكثر . والواو في قوله { ساجداً وقائماً } للجمع بين الصفتين . وفي قوله { يحذر الآخرة } أي عذابها { ويرجو رحمة ربه } إشارة إلى أن العابد يتقلب بين طوري القهر واللطف ، ويتردّد بين حالي القبض والبسط ولا يخفى أن في الكلام حذفاً فمن قرأ { أمن } بالتخفيف فالخبر محذوف والمعنى أمن هو مطيع كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جري ذكر الكافر قبله وبيان عدم الاستواء بين العالم والجاهل بعده . ومن قرأ بالتشديد فالمحذوف جملة استفهامية والمذكور معطوف على المبتدأ والمعنى : هذا أفضل أمن هو قانت . وقيل : الهمزة على قراءة التخفيف للنداء كما تقول : فلان لا يصلي ولا يصوم فيا من تصلي وتصوم أبشر . وقيل : المنادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله { قل هل يستوي الذين يعلمون } الآية . قال جار الله : أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون فكأنه جعل من لا يعمل غير عالم . وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها ثم يفتنون بالدنيا . ويجوز أن يراد على وجه التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون . قيل نزلت في عمار بن ياسر وأمثاله ، والظاهر العموم . وفي قوله { إنما يتذكر أولو الألباب } إشارة إلى أن هذا التفات العظيم بين العالم والجاهل لا يعرفه إلا أرباب العقول كما قيل :
إنما نعرف ذا الفضل من الناس ذووه ... وقيل لبعض العلماء : إنكم تزعمون أن العلم أفضل من المال ونحن نرى العلماء مجتمعين على أبواب الملوك دون العكس؟ فأجاب بأن هذا أيضاً من فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه . وحين بين عدم الاستواء بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام . النوع الأوّل . { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } قال أهل السنة : أمر المؤمنين أن يضموا إلى الإيمان التقوى ، وفيه دلالة على أن الإيمان يبقى مع المعصية . وقالت المعتزلة : أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم بارتكاب الكبائر بل يزيدوا في الإيمان حتى يتصفوا بصفة الاتقاء .

ثم بين للمؤمنين فائدة الاتقاء قائلاً { للذين أحسنوا } الآية . وقوله { في هذه الدنيا } إما أن يكون صلة لما قبله أو صلة لما بعده وهو قول السدي . ومعناه على الأوّل : الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة . والتنكير للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنهها . وعلى الثاني : الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة . قال جار الله : فالظرف بيان لمكان الحسنة . ويحتمل أن يقال : إنه نصب على الحال لأنه نعت للنكرة قدّم عليها . والقائلون بهذا القول فسروا الحسنة بالصحة والعافية وضم بعضهم إليها الأمن والكفاية . ورجح الأوّل بأن هذه الأمور قد تحصل للكفار على الوجه الأتم فكيف تجعل جزاء للمؤمن المتقي . وقيل : هي الثناء الجميل . وقيل : الظفر والغنيمة . وقيل : نور القلب وبهاء الوجه . وفي قوله { وأرض الله واسعة } إشارة إلى أن أسباب التقوى إن لم تتيسر في أرض وجبت الهجرة إلى أرض يتيسر ذلك فيها فيكون كقوله { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } [ النساء : 97 ] وعن أبي مسلم : هي أرض الجنة لأنه حين بين أن المتقي له الجنة وصف أرض الجنة بالسعة ترغيباً فيها كما قال { نتبوّأ من الجنة حيث نشاء } [ الزمر : 74 ] { إنما يوفّى الصابرون } على مفارقة الأوطان وتجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وتكاليفه { أجرهم بغير حساب } أي لا يحاسبون أو بغير حصر . قال جار الله : عن النبي صلى الله عليه وسلم « ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صباً » ثم تلا الآية وقال : حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل . النوع الثاني { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين } قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله هذه الآية . وكأنه إشارة إلى الأمر المذكور في أوّل السورة { فاعبد الله مخلصاً له الدين } وقوله { وأمرت لأن أكون } ليس بتكرار لأن اللام للعلة والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى : أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدارين فنقول : فائدة التكرار أن ذكر التعليل مع نوع تأكيد . وقيل : اللام بدل من الباء أي أمرت بأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ليصح الاقتداء بي في قولي وفعلي . ولعل الإخلاص إشارة إلى عمل القلب والإسلام إلى عمل الجوارح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم ليس مثل الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلونها بل له سابقة في كل ما يأمر به وينهى عنه .

وحين بين أن الله أمره بإخلاص القلب وبأعمال الجوارح وكان الأمر يحتمل الوجوب والندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال { قل إني أخاف } الآية . وذلك أن خوف العقاب لا يترتب إلا على ترك الواجب ، وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره خائفاً من العصيان فغيره أولى . قيل : المراد به أمته . وقيل : نزلت قبل أن يغفر الله له . وقالت الأشاعرة : فيه دليل على أن صاحب الكبيرة قد يعفى عنه لأنه بين أن اللازم عند حصول المعصية خوف العقاب لا نفس العقاب . النوع الثالث { قل الله أعبد مخلصاً له ديني } وليس بتكرار لما قبله وذلك أن الأوّل للإخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة الخالصة عن الشرك الجلي والخفي ، وهذا إخبار بأن الذي أمر به فإنه قد أتى به على أكمل الوجوه ، ولهذا أخر الفعل وضم إلى مضمونه التهديد بقوله { فاعبدوا ما شئتم من دونه } النوع الرابع { قل أن الخاسرين } الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه هم { الذين خسروا أنفسهم } لوقوعها في هلكة الإخلاد بعذابها { و } خسروا { أهليهم } لأن أهلهم وأولادهم إن كانوا في النار فلا فائدة لهم منهم لأنهم محجوبون عنهم ، أو لأن كلاً منهم مشغول بهمه وإن كانوا من أهل الجنة فما أبعد ما بينهم . وقيل : أهلوهم الحور العين في الجنة لو آمنوا .
قال أهل البيان : في قوله { ألا ذلك هو الخسران المبين } تفظيع لشأنهم حيث استأنف الجملة وصدّرها بحرف التنبيه ووسط الفصل وعرف الخسران ووصفه بالمبين . قلت : التحقيق فيه أن للإنسان قوّتين يستكمل بإحداهما علماً وبالأخرى عملاً . والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالبديهيات وترتيبها على الوجه المؤدّي إلى النتائج وهو بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء ، والآلة في القسم العملي هي القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها ، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة فكل من أعطاه الله العقل والصحة والتمكين . ثم إنه لم يستفد منها معرف الحق ولا عمل الخير فإذا مات فقد فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد ، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه وقد أشار إلى هذا بقوله { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } أي أطباق من النار من ظلل الآخرين فإن لجهنم دركات كما أن للجنة درجات . وقال المفسرون : سمى النار ظلة بغلظها وكثافتها فصارت محيطة بهم من جميع الجوانب حائلة من النظر إلى شيء آخر .

قلت : إن كانوا في كرة النار فوجهه ظاهر ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة نار الجهل والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان وقد مرّ في قوله { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } [ الأعراف : 41 ] { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } [ العنكبوت : 55 ] وقيل : الظلة ما علا الإنسان فسمى ما تحتهم بالظلة إطلاقاً لأحد الضدين على الآخر ، أو لأن التحتانية مشابهة للفوقانية في الحرارة والإحراق و { ذلك } العذاب المعد للكفار { يخوّف الله به عباده } المؤمنين وقد مر أن العباد في القرآن إذا كان مضافاً إلى ضمير الله اختص بأهل الإيمان عند أهل السنة . وعندي أنه لا مانع من التعميم ههنا . ثم عقب الوعيد بالوعد قائلاً { والذين اجتنبوا الطاغوت } وهو كل ما عبد من دون الله كما مر في آية الكرسي . وقوله { أن يعبدوها } بدل اشتمال منه { وأنابوا إلى الله } رجعوا بالكلية إلى تحصيل رضاه ، فالأول تخلية ، والثاني تحلية ، وحقيقة الإعراض عما سوى الله والإقبال على الله هي أن يعرف أنّ كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته فقير في نفسه وهو سبحانه واجب الوجود لذاته غني على الإطلاق لا حكم إلا له ولا تدبير إلا به وبأمره . { لهم البشرى } أي هم مخصوصون بالبشارة المطلقة وهي الخبر الأول الصدق الموجب للسرور بزوال المكاره وحصول الأماني ووقتها الموت { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم } [ النحل : 32 ] وعند دخول الجنة { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 2324 ] وعند لقاء الله { تحيتهم يوم يلقونه سلام } [ الأحزاب : 44 ] وسماع هذه البشارات في الدنيا على ألسنة الرسل لا يخرجها عن كونها بشارة في هذه الأوقات لأنها في الأول عامة للمكلفين مبهمة فيهم ولا تتعين إلا في هذه الأحوال . وقيل : هذه أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها أو سمعوها نسأل الله الفوز بها . قال ابن زيد : نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله : زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي . وعن ابن عباس أن أبا بكر آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد وسعيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فأنزل الله { فبشر عبادي الذين يستمعون القول } أي من أبي بكر { فيتبعون أحسنه } وهو لا إله إلا الله . وقال أهل النظم : لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأقلون جعل الحكم أعم إظهاراً للرحمة فقال : كل من اختار الأحسن في كل باب كان من زمرة السعداء أهلاً للبشارة . وقال جار الله : أراد بعباده الذين يستمعون القول الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم أي هم الذين ضموا هذه الخصلة إلى تلك ، ولهذا وضع الظاهر في موضع المضمر .

وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأنه إذا اعترض أمران واجب وندب ، فالأولى اختيار الواجب . وكذا الكلام في المباح والندب ، فالأولى اختيار الواجب . وكذا الكلام في المباح والندب كالقصاص والعفو وكل ما هو أحوط في الدين . مثاله في الأصول القول بأن للعالم صانعاً حياً قديماً عليماً قادراً متصفاً بنعوت الجلال والإكرام وصفات الكمال والتمام ، أولى وأحوط من إنكاره . وكذا الإقرار بالبعث والجزاء أحوط من الإنكار ، وفي الفروع الصلاة المشتملة على القراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأركان والأبعاض المختلف فيها أجود من الصلاة الفارغة عنها أو عن بعضها . وقال العارفون : يسمعون من النفس الدعوة إلى الشهوات ، ومن الشيطان قول الباطل والغرور ، ومن الملك الإلهامات ، ومن الله ورسوله الدعاء إلى دار السلام ، فيقبلون كلام الله ورسوله والخواطر الحسنة دون غيرها . وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيستمع الحديث فيه محاسن ومساوٍ فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه . ومن الواقفين من يقف على قوله { فبشر عبادي } ويبتدئ { الذين يستمعون } وخبره { أولئك الذين هداهم } وهو إشارة إلى الفاعل { وأولئك هم أولو الألباب } إشارة إلى أن جواهر نفوسهم قابلة لفيض الهداية بخلاف من لم يكن له قابلية ذلك وهو قوله { أفمن حق عليه كلمة العذاب } قال جار الله : أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه فهي جملة شرطية دخل عليها الهمزة للإنكار ، وكررت الفاء الثانية للجزاء تأكيداً لمعنى الإنكار . ووضع من في النار موضع الضمير تصريحاً بجزائهم ، وأما الفاء الأولى فللعطف على محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره : أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق إلى آخره . وجوز أن يكون الكلام بعد المحذوف جملتين شرطية جزاؤها محذوف أيضاً ثم حملية والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار؟ قلت : فالكلام على هذا التقدير يشتمل على أربع جمل : ثنتان بعد همزتي الإنكار محذوفتان والباقيتان ظاهرتان . ومن زعم أن الفاء بعد الهمزة لمزيد الإنكار لا للعطف فمجموع الآية شرطية كما ذكرنا ، أو هي مع حملية ثم صرح بجزاء المتقين فقال { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف } وهو كالمقابل لما مر في وعيد الكفار { لهم من فوقهم ظلل } ومعنى قوله { مبنية } والله أعلم . أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها وجعلت متساوية في أسباب النزاهة من الأشجار والأنهار لا مثل أبنية الدنيا فان الفوقاني منها يكون أضعف من التحتاني وأخف ، والتحتاني قد يجري من تحتها الأنهار ، وأما الفوقاني فلا يمكن فهيا ذلك . قال حكماء الإسلام : الغرف المبنية بعضها فوق بعض هي العلوم المكتسبة المبنية على الفطريات ، وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية .
وحين وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها أراد أن يصف الدنيا بما يقتضي النفرة عنها فقدم لذلك مقدمة يستدل بها على حقية الصانع أيضاً فقال { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه } أي أدخله في الأرض حال كون ذلك الماء { ينابيع } مثل الدم في العروق .

والينابيع جمع ينبوع وهو كل ماء يخرج من الأرض . وقيل : هو الموضع الذي يخرج منه الماء كالعيون والآبار فينصب على الظرف . وقوله { ثم يخرج } على لفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن وهي إخراج النبت المختلف الألوان والأصناف والخواص بسبب الماء المخالط للأرض { ثم يهيج } أي يتم جفافه . قال الأصمعي : لأنه إذا تم جفافه جاز له أن يثور عن منابته ويذهب { ثم يجعله حطاماً } أي فتاتاً متكسراً { إن في ذلك } الذي ذكر من إنزال الماء وإخراج الزرع بسببه { لذكرى } لتذكيراً أو تنبيهاً على وجود الصانع { لأولي الألباب } وفيه أن الإنسان وإن طال عمره فلا بدّ له من الانتهاء إلى حالة اصفرار اللون وتحطم الأجزاء والأعضاء بل إلى الموت والفناء . وإنما قال ههنا { ثم يجعله حطاماً } وفي الحديد { ثم يكون حطاماً } [ الحديد : 20 ] لأن الفعل هناك مسند إلى النبات وهو قوله { أعجب الكفار نباته } وههنا مسند إلى الله من قوله { أنزل } إلى آخره . وحين بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله والإعراض عن الدنيا الفانية بيّن أن ذلك البيان لا يكمل الانتفاع به إلا إذا شرح الله صدره ونور قلبه فقال { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } ولا يخفى ما في لفظه « على » من فائدة الاستعلاء والتمكن كما مر في قوله { أولئك على هدى } [ البقرة : 5 ] والخبر محذوف كما ذكرنا في قوله { أمن هو قانت } يعني هذا الشخص المنشرح الصدر كمن طبع الله على قلبه يدل عليه ما بعده { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } أي من أجل سماع القرآن . وإنما عدى ب « من » لأن قسوة القلب تدل على خلوه من فوائد القرآن ويجوز أن يكون « من » للتعليل وذلك أن جواهر النفوس مختلفة فبعضها تكون مشرقة بنور الله يزيدها نور القرآن بهاء وضياء ، بعضها تكون مظلمة كدرة لا ينعكس نور الذكر إليها ولا تظهر صور الحق فيها كالمرآة الصدئة . ثم أكد وصف القرآن وكيفية تأثيره في النفوس بقوله { الله نزل أحسن الحديث } عن ابن عباس وابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له : حدثنا ، فنزلت الآية . والحديث كلام يتضمن الخبر عن حال متقدمة ووصفه بالحدوث من حيث النزول لا ينافي قدمه من حيث إنه كلام نفسي . ووجه كونه أحسن لفظاً ومعنى مما لا يخفى على ذي طبع فضلاً عن ذي لب . وقوله { كتاباً } بدل من أحسن أو حال موطئة .

ومعنى { متشابهاً } أنه يشبه بعضه بعضاً في الإعجاز اللفظي والمعنوي والنظم الأنيق والأسلوب العجيب والاشتمال على الغيوب وعلى أصول العلوم كما مر في أوّل « البقرة » في تفسير قوله { وإن كنتم في ريب } [ البقرة : 23 ] وقيل : هو من قوله { وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] فيكون صفة لبعض القرآن . وقيل : يشبه اللفظ اللفظ والمعنى مختلف . وقوله { مثاني } جميع مثنى ومثنى بمعنى مكرر لما ثنى من قصصه وأحكامه ومواعظه ، أو لأنه يثني في التلاوة فلا يورث ملالاً كقوله « ولا يخلق على كثرة الرد » وقيل : المثاني لآي القرآن كالقوافي للشعر . وقد مر بعض هذه الأقوال في مقدمات الكتاب وفي سورة الحجر في قوله { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] ومعنى اقشعرار الجلد تقبضه . قال جار الله : تركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموماً إليها الراء ليصير رباعياً دالاً على معنى زائد ، وهو تمثيل لشدة الخوف أو حقيقة سببه الخوف . قال المفسرون : أراد أنهم عند سماع آيات العذاب يخافون فتقشعر جلودهم وعند سماع آيات الرحمة والإحسان أو تذكرهم لرأفته وأن رحمته سبقت غضبه تلين جلودهم وقلوبهم . ومعنى « إلى » في قوله { إلى ذكر الله } هو أنه ضمن لأن معنى سكن واطمأن . وقال العارفون : إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن راح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا . وقال أهل البرهان : إذا اعتبر العقل موجوداً لا أول له ولا آخر لا حين ولا جهة وقع في بادية التحير والهيبة ، وإذا اعتبر الدلائل القاطعة على وجود موجود واجب لذاته واحد في صفاته وأفعاله اطمأن قلبه إليه . قال جار الله : إنما ذكرت الجلود أوّلاً وحدها لأن الخشية تدل على القلوب لأنها محل الخشية فكأنه قيل : تقشعر جلودهم بعد خشية قلوبهم ، ثم إذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم . ويحتمل أن يقال : المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف ، ومحل المكاشفات هو القلب ، فلذلك اختص ذكر القلب بجانب الرجاء . ثم أشار إلى الكتاب المذكور بقوله { ذلك هدى الله } كقوله { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] .
ثم بين أن القاسية قلوبهم حالين : أما في الدنيا فالضلال العام وهو قوله { ومن يضلل الله فما له من هاد } وأما في الآخرة فقوله { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } أي شدّته والخبر محذوف وهو كمن أمن العذاب واتقاء العذاب بوجهه إما حقيقة بأن تكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، وإما أن يكون كناية عن عجزه عن الاتقاء وذلك أن الإنسان إذا وقع في نوع من العذاب فإنه يجعل يديه وقاية لوجهه الذي هو أشرف الأعضاء ، فكأنه قيل : لا يقدرون على الاتقاء إلا بالوجه ، والاتقاء بالوجه غير ممكن فلا اتقاء أصلاً { وقيل للظالمين } القائلون هم خزنة النار .

قوله { كذب الذين من قبلهم } تصوير لحال أمثالهم من الأمم الخالية بيناهم آمنون إذ أخذهم العذاب والخزي في الدنيا كالمسخ والقتل ونحوهما . ثم بين بقوله { ولقد ضربنا } إلى آخر الآيتين أن هذه البيانات بلغت في الكمال إلى حيث لا مزيد عليه . ثم ضرب من أمثال القرآن مثلاً لقبح طريقة أهل الشرك وهو رجل من المماليك قد اشترك { فيه شركاء متشاكسون } أي كلهم يسيء خلقه في استخدامه أو هم مختلفون في ذلك يأمره هذا بشيء وينهاه الآخر عن ذلك الشيء بعينه . والشكاسة سوء الخلق والاختلاف . { ورجلاً سالماً لرجل } أي خالصاً من الشرك . ومن قرأ بغير ألف فعلى حذف المضاف أي ذا سلامة وذا خلوص من الشركة . وقال جار الله : وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقي به أو سعد فان المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك . قلت : لا ريب أن الرجل أصل في كل باب فجعله مضرب المثل أولى نظيره { وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم } [ النحل : 76 ] ثم استفهم على سبيل الإنكار بقوله { هل يستويان مثلاً } وهو تمييز أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما . واقتصر في التمييز على الواحد لقصد الجنس والمراد تجهيل من يجعل المعبود متعدداً ، فليس رضا واحد كطلب رضا جماعة مختلفين . وحاصله يرجع إلى دليل التمانع كما مرّ في قوله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] وقال أهل العرفان : الشركاء المتشاكسون تجاذب شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال ، فأين ذلك الرجل ممن ليس له في الدنيا نصيب ولا له في الخلق نسيب وهو عن الآخرة غريب وإلى الله قريب . قوله { الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } كما مرّ في « لقمان » قوله { إنك ميت } وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال إن هؤلاء الأقوام إن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا ، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً يؤلون إلى الموت فلو أنهم يتربصون بك الموت فإن الموت يعم الكل فلا معنى لشماتة المرء بعد وفاة صاحبه { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } تحتج عليهم بأنك قد بلغت وهم يعتذرون بما لا طائل تحته ، وقد يخاصم الكفار بعضهم بعضاً حتى يقال لهم { لا تختصموا لديّ } [ ق : 28 ] وقد يقع الاختصام بين أهل الملة في الدماء والمظالم التي بينهم والله أعلم .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

القراآت : { عباده } على الجمع : يزيد وحمزة وعلي وخلف . { أرادني الله } بسكون الياء : حمزة . { كاشفات } بالتنوين { ضره } بالنصب وهكذا { ممسكات رحمته } أبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون : بالإضافة فيهما { قضى عليها } مجهولاً { الموت } بالرفع : حمزة وعلي وخلف { يا عبادي الذين أسرفوا } بسكون الياء : حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وسهل ويعقوب ، والوقف للجميع بالياء لا غير . { يا حسرتاي } بياء بعد الف : يزيد . الآخرون : بالألف وحدها { وينجي الله } بالتخفيف : روح { بمفازاتهم } على الجمع : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل { تأمروني } بتشديد النون وفتح الياء : ابن كثير { تأمرونني } بنونين وسكون الياء : ابن عامر { تأمروني } بنون واحدة وفتح الياء : أبو جعفر ونافع . الباقون : بتشديد النون وسكون الياء . { لنحبطن } بالنون من الإحباط { عملك } بالنصب : يزيد . الآخرون : على الغيبة وفتح العين { عملك } بالرفع { وسيق } بضم السين وكسر الياء : ابن عامر وعلي ورويس { فتحت } بالتخفيف : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل في الحرفين .
الوقوف : { إذ جاءه } ط { للكافرين } 5 { المتقون } 5 { عند ربهم } ط { المحسنين } 5 ج لاحتمال تعلق اللام بمحذوف كما يجيء . { يعملون } 5 { عبده } ط { من دونه } ط { من هاد } 5 ج { مضل } ط { انتقام } 5 { ليقولن الله } ط { رحمته } ط { حسبي الله } ط { المتوكلون } 5 { عامل } ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب { تعلمون } 5 لا { مقيم } 5 { بالحق } ج لاختلاف الجملتين { فلنفسه } ج { عليها } ج للابتداء بالنفي مع العطف { بوكيل } 5 ج { في منامها } ج { مسمى } ط { يتفكرون } 5 { شفعاء } ط { يعقلون } 5 { جميعاً } ط { والأرض } ط بناء على أن « ثم » لترتيب الأخبار { ترجعون } 5 { بالآخرة } ط ج فصلاً بين الجملتين مع اتفاقهما نظماً { يستبشرون } 5 { يختلفون } 5 { القيامة } ط { يحتسبون } 5 { يستهزؤن } 5 { دعانا } ز فصلاً بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين { منا } لا لأن ما بعده جواب { على علم } ط { لا يعلمون } 5 { يكسبون } 5 { ما كسبوا } الأولى ط { ما كسبوا } الثانية لا لأن الواو للحال { بمعجزين } 5 { ويقدر } ط { يؤمنون } 5 { رحمة الله } ط { جميعاً } ط { الرحيم } 5 { لا تنصرون } 5 { لا تشعرون } 5 لا { الساخرين } 5 لا { المتقين } 5 لا { المحسنين } 5 { الكافرين } 5 { مسودّة } ط { للمتكبرين } 5 { بمفازتهم } ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه { يحزنون } 5 { كل شيء } ز للفصل بين الوصفين تعظيماً مع اتفاق الجملتين { وكيل } 5 { والأرض } ط { الخاسرون } 5 { الجاهلون } 5 { من قبلك } ج لحق القسم المحذوف { الخاسرين } 5 { الشاكرين } 5 { بيمينه } ط { يشركون } 5 { من شاء الله } ج بياناً لتراخي النفخة الثانية عن الأولى مع اتفاق الجملتين { ينظرون } 5 { لا يظلمون } 5 { يفعلون } 5 { زمراً } ط { هذا } ط { الكافرين } 5 { فيها } ج { المتكبرين } 5 { زمراً } ط { خالدين } 5 { نشاء } ج { العاملين } 5 { ربهم } ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولاحتمال جعله حالاً وقد قضى بين الزمرين { العالمين } 5 .

التفسير : لما ضرب لعبدة الأصنام مثلاً أشار إلى نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يضمون على كذبهم على الله بإضافة الشريك والولد إليه تكذيبهم بالصدق يعني الأمر الذي هو الصدق بعينه أي القرآن . ومعنى { إذ جاءه } أنه لم يراع طريقة أهل الإنصاف والتدبر لكنه لما سمع به فاجأه بالتكذيب . واللام في قوله { للكافرين } لهؤلاء المعهودين الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق . قال جار الله : ويحتمل أن يكون للعموم فيشملهم وغيرهم من الكفرة . وحين بين وعيدهم عقبه بوعد الصادقين المصدّقين وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقيل : الرسول وأبو بكر والتعميم أولى لقوله { أولئك هم المتقون } قوله { ليكفر } ظاهره تعلقه ب { يشاؤن } فتكون لام العاقبة . ويحتمل تعلقه بمحذوف أي جزاؤهم وإكرامهم لأجل ذلك . قال جار الله : الأسوأ ههنا ليس للتفضيل وإنما هو كقولهم : الأشج أعدل بني مروان . وفائدة صيغة التفضيل استعظامهم المعصية حتى إن الصغائر عندهم أسوأ أعمالهم . وقال بعض المفسرين : أراد به الكفر السابق الذي يمحوه الإيمان . واستدل مقاتل وكان شيخ المرجئة بهذه الآية فإنها تدل على أن من صدّق الأنبياء فإنه تعالى يكفر عنه أسوأ الأعمال التي أتى بها بعد الإيمان والوصف بالتقوى وفيه نظر . ثم إنهم كانوا يخوّفون المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم برفض آلهتهم وتحقيرها . ويروى أنه بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها : أحذركها يا خالد ، إن لها شدّة . فعمد خالد إليها فهشم أنفها فأنزل الله تعالى { أليس الله بكاف عبده } أي نبيه بدليل قوله { ويخوّفونك } ومن قرأ على الجمع فهي للعموم . والآيات إلى قوله { بوكيل } ظاهرة مع أنها تعلم مما سبق ذكرها مراراً . والعذاب الخزي عذاب يوم بدر ، والعذاب المقيم العذاب الدائم في الآخرة ، ومدار هذه الآي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أكد كون الهداية والضلال من الله تعالى بقوله { والله يتوفى الأنفس } وذلك أن الحياة واليقظة تشبه الهداية ، والموت والنوم يضاهي الضلال . فكما أن الحياة والموت واليقظة والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله وتكوينه فكذلك الهداية والضلال ، والعارف بهذه الدقيقة عارف بسر الله في القدر ، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، ففيه تسلية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل في وجه النظم : إنه تعالى أراد أن يذكر حجة أخرى على إثبات الإله العليم القدير ليعلم أنه أحق بالعبادة من كل ما سواه فضلاً عن الأصنام . ومعنى الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها . قال جار الله : أراد بالأنفس الجملة كما هي لأنها هي التي تنام وتموت { و } يتوفى الأنفس { التي لم تمت في منامها } أي يتوفاها حيت تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى كقوله

{ وهو الذي يتوفاكم بالليل } [ الأنعام : 60 ] والحاصل أنه يتوفى الأنفس مرتين ، مرة عند موتها ومرة عند نومها فتكون « في » متعلقة ب { يتوفى } والتوفي مستعمل في الأول حقيقة وفي الثاني مجازاً ، ولم يجوّزه كثير من أئمة الأصول . وقال الفراء : « في » متعلقة بالموت وتقديره : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها عند انقضاء حياتها . ثم بين الفرق بين الحالين بقوله { فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الآخرى إلى أجل مسمى } من غير غلط . وقال حكماء الإسلام : النفس الإنسانية جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها وهو الحياة واليقظة . وأما في وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره ، فتبقى نفس الحياة التي بها النفس وعمل القوى البدنية في الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل ، وإذا نقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت ، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا من القدير الخبير الذي لا شريك له في ملكه ولا نظير ، ولهذا ختم الآية بقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ثم كان لمشرك أن يقول : إنما نعبد الأصنام لأنها تماثيل أشخاص كانوا عند الله مقربين فنحن نرجو شفاعتهم فأنكر الله عليهم بقوله { أم اتخذوا من دون الله } أي من دون إذنه { شفعاء } و « أم » بمعنى « بل » ، والهمزة الإنكارية وتقرير الإنكار أن هؤلاء الكفار إما أن يطعموا في شفاعة تلك التماثيل وإما في شفاعة من هذه التماثيل تماثيلهم . والأول باطل لأن هذه الأصنام جمادات لا تملك شيئاً ولا تعقل وأشار إلى هذا المعنى بقوله { قل أولو كانوا } يعني أيشفعون ولو كانوا بحيث { لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } والثاني أيضاً مستحيل لأن يوم القيامة لا يشفع أحد إلا بإذن الله وهو المراد بقوله { قل لله الشفاعة } وانتصب { جميعاً } على الحال . ولو كان تأكيداً للشفاعة لقيل جمعاء .
وحين قرر أن لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله برهن على ذلك بقوله { له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون } يوم القيامة ولا ملك في ذلك اليوم إلا له . ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال المشركين فقال { وإذا ذكر الله وحده } أي منفرداً ذكره عن ذكر آلهتهم { اشمأزت } أي نفرت وانقبضت منه { قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دون } سواء ذكر الله معهم أو لم يذكر { إذا هم يستبشرون } أي فاجأ وقت ذكر آلهتهم وقت استبشارهم . وفي الآية طباق ومقابلة لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى يظهر أثره في بشرته .

والاشمئزاز أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه وذلك لاحتباس الروح الحيواني في القلب . وقيل : معنى الآية أنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له . نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم . وفي بعض التفاسير أن هذا إشارة إلى ما روي « أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وسوس الشيطان إليه بقوله » تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى « فاستبشر المشركون وسجدوا » ولما حكى عنهم هذا الجهل الغليظ والحمق الشديد وهو الاشمئزاز عن ذكره من ذكره رأس السعادات وعنوان الخيرات والاستبشار بذكر أخس الأشياء وهي الجمادات ، أمر رسوله بهذا الدعاء { اللهم فاطر السموات والأرض } وهو وصفه بالقدرة التامة { عالم الغيب والشهادة } وهو نعته بالعلم الكامل . وإنما قدم وصفه بالقدرة على وصفه بالعلم لأن العلم بكونه قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً كما بين في أصول الدين وقد أشرنا إلى ذلك فيما سلف { أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم بالشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل فلا حيلة في إزالته إلا باستعانة القدير العليم . عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته بالليل فيقول : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم . وعن الربيع بين خثيم . وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين عليه السلام وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال آه أوقد فعلوا وقرأه هذه الآية . وروي أنه قال على أثره : قتل من كان النبي صلى الله عليه وسلم . يجلسه في حجره ويضع فاه في فيه . ثم ذكر وعيدهم على ذلك المذهب الباطل بقوله { ولو أن للذين ظلموا } أي بالشرك وقد مر نظير الآية مراراً أوّلها في آل عمران وفيه قوله { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } نظير قوله في أهل الوعد { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] وقيل : عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات . يروى أن محمد بن المنكدر جزع عند موته فقيل له في ذلك فقال : أخشى آية من كتاب الله وتلاها ، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم يكن في حسباني . وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء . ثم صرح بما أبهم قائلاً { وبدا لهم سيئات ما كسبوا } و « ما » موصولة أو مصدرية أي ظهرت لهم سيئات أعمالهم التي اكتسبوها ، أو سيئات كسبهم وذلك عند عرض الصحائف أو غير ذلك من المواقف . وجوّز أهل البيان أن يراد بالسيئات جزاء أفعالهم كقوله

{ وجزاء سيئة سيئة } [ الشورى : 40 ] وإنما قال في الجاثية { سيئات ما عملوا } [ الجاثية : 33 ] لمناسبة ألفاظ العمل ، وههنا قد وقع من ألفاظ الكسب .
ثم حكى نوعاً آخر من قبيح أعمالهم قائلاً { فإذا مسّ الإنسان } وقد مر مثله في مواضع أقر بها أول السورة إلا أنه ذكر ههنا بفاء التعقيب لأن هذا مناقض لما حكى عنهم عن قريب وهو أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده فكيف التجأوا إليه وحده عند ضر يصيبهم . ومعنى { أوتيته على علم } أوتيته على علم لله بكوني مستحقاً لذلك أو على علم عندي صار سبباً لهذه المزية ككسب وصنعة ونحو ذلك . ولا شك أن هذا نوع من الغرور فلهذا قال سبحانه { بل هي فتنة } بلاء واختبار يتميز بها الشاكر عن الكافر . ذكر الضمير أوّلاً بتأويل المخوّل وأنثه ثانياً بتأويل النقمة . ثم أشار بقوله { قد قالها } أي مجموع الكلمة التي صدرت عنهم و { الذين من قبلهم } هم قارون وقومه حيث { قال إنما أوتيته على علم عندي } [ القصص : 78 ] وقومه راضون بها فكأنهم قالوها . ويجوز أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } من الأموال أو من المعاصي وأشار بقوله { هؤلاء } إلى أهل مكة أصابهم قتل في يوم بدر وغيره وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم : أولم يعلموا أن الباسط والقابض هو الله وحده؟ وذلك أن انتهاء الحوادث المتسلسلة يجب أن يكون إلى إرادته ومشيئته ، ولا ينافي هذا توسيط عالم الأسباب وأن يكون للكواكب كلها تأثيرات في عالمنا هذا بإذن مبدعها وفاطرها . وقول الشاعر :
فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل
كلام من غير تبين واستبصار بسر القدر . والذي يشكك به الإمام فخر الدين الرازي من أنه قد يولد إنسانان في طالع واحد ثم يصير أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة كلام غير محقق ، لأنا لو سلمنا وقوع ذلك فلاختلاف القابل ، وليس تأثير العامل السماوي في طالع ولد السلطان مثله في طالع ولد الحمامي ، وكذا اختلافات أخر لا نهاية لها . نعم لو ادعى عسر إدراك جميع الجزئيات فلا نزاع في ذلك إلا المنتفع بما ينتفع به عليه أن يقنع بما يصل إليه فهمه فلكل شيء حد وفوق كل ذي علم عليم . وحين أطنب في الوعيد أردفه ببيان كمال رحمته ومغفرته فقال { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبدالأوثان وقتل النفس التي حرم الله لن يغفر له ونحن قد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس فأنزل الله هذه الآية . وعن ابن عمر : نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم عذبوا فارتدوا فنزلت فيهم ، وكان عمر كاتباً فكتبها إلى عياش والوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .

وقيل : نزلت بالمدينة في وحشيّ وقد سبق . ثم إن قلنا : العباد عام فالإسراف على النفس يعم الشرك ، ولا نزاع أن عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطاً بالتوبة والإيمان . وإن قلنا : العباد المضاف في عرف القرآن مختص بالمؤمنين فالإسراف إما بالصغائر ولا خلاف في أنها مكفرة ما اجتنبت الكبائر ، وأما بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين . فالمعتزلة شرطوا التوبة ، والأشاعرة العفو وقد مر مراراً . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات » رواه في الكشاف . وعلى هذا يكون مخصوصاً بشرط الإيمان .
ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات الرحمة : أوّلها تسمية المذنب عبداً والعبودية تشعر بالاختصاص مع الحاجة ، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجود والرحمة على المساكين . وثانيها من جهة الإضافة الموجبة للتشريف . وثالثها من جهة وصفهم بقوله { الذين أسرفوا على أنفسهم } كأنه قال يكفيهم من تلك الذنوب عود مضرتها عليهم لا عليّ . ورابعها نهاهم عن القنوط ، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم . وخامسها قوله { من رحمة الله } مع إمكان الاقتصار على الضمير بأن يقول « من رحمتي » فإيراد أشرف الأسماء في هذا المقام يدل على أعظم أنواع الكرم واللطف . وسادسها تكرير اسم الله تعالى في قوله { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } مع تصدير الجملة ب « إن » ، ومع إيراد صيغة المضارع المنبئة عن الاستمرار ، ومع تأكيد الذنوب بقوله { جميعاً } أي حال كونها مجموعة . وسابعها إرداف الجملة بقوله { إنه هو الغفور الرحيم } ومع ما فيه من أنواع المؤكدات ومع جميع ذلك لم يخل الترغيب عن الترهيب ليكون رجاء المؤمن مقروناً بخوفه فقال { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } وذلك أن الأشاعرة أيضاً يجوّزون أن يدخل صاحب الكبيرة النار مدة ثم يخرج منها . ومع احتمال هذا العذاب يجب الميل إلى الإنابة والإخلاص لله في العمل على أن الخوف للتقصير في الطاعة يكفي عن الخوف للتصريح بالمعصية ، وللصديقين في الأول مندوحة عن الثاني . وقال بعضهم : إن الكلام قد تم على الآية الأولى ، ثم خاطب الكفار بهذه الآيات من قوله { وأنيبوا } والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا كما للأمم السابقة ، وإما الموت لأنه أول أهوال الآخرة . وقوله { أحسن ما أنزل إليكم } كقوله { يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وقد مر الأقوال فيه . وحين خوّفهم بالعذاب حكى عنهم أنهم بتقدير نزول العذاب ماذا يقولون؟ فذكر ثلاثة أنواع من الكلمات : الأوّل أن تقول والتقدير أنذرناكم العذاب المذكور كراهة أن تقول أو لئلا .

تقول . قال جار الله : إنما نكرت نفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر ، أو نوع من الأنفس متميزة بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم . وجوز أن يكون التنكير لأجل التكثير كقوله « رب وفد أكرمته » . { يا حسرتا على ما فرّطت } أي قصرت . والتفريط إهمال ما ينبغي أن يقدّم { في جنب الله } واعلم أن بعض أهل التجسيم يحكمون بورود هذا اللفظ على إثبات هذا العضو لله سبحانه ولا يدري أنه بعد التسليم لا معنى للتفريط فيه ما لم يصر إلى التأويل . والصحيح ما ذهب إليه علماء البيان أن هذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه وجانبه وناحيته فقد أثبته كقوله :
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
وتقول : لمكانك فعلت كذا . أي لأجلك . وفي الحديث « من الشرك الخفي أن يصلى الرجل لمكان الرجل » ولا بد من تقدير مضاف سواء ذكر الجنب أو لم يذكر ، وللمفسرين فيه عبارات . قال ابن عباس : أي ضيعت من ثواب الله . وقال مقاتل : ضيعت من ذكر الله . وقال مجاهد : في أمر الله . وقال الحسن : في طاعة الله . وعن سعيد بن جبير : في حق الله . وقيل : في قرب الله من الجنة من قوله { والصاحب بالجنب } [ النساء : 36 ] وقال ابن جبير : في جانب هدى الله لأن الطريق متشعب إلى الهدى والضلال فكل واحد جانب وجنب . والتحقيق في المسألة أن الشيء الذي يكون من لوازم الشيء ومن توابعه كأنه حدّ من حدوده وجانب من جوانبه ، فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له ، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب في الآية على أحد هذه المضافات . قال الشاعر وهو سابق البربري :
أما لتقين الله في جنب عاشق . ... له كبد حرّى عليك تقطع؟
ثم زاد في التحسر بقوله { وإن كنت لمن الساخرين } أي المستهزئين بالقرآن والنبي والمؤمنين . « إن » مخففة ، واللام فارقة ، والواو تحتمل العطف والحال . قال قتادة . لم يكفه ما ضيع من أمر الله حتى سخر من المصدّقين . النوع الثاني من كلمات النفس المعذبة { لو أن الله هداني } يجوز أن يقول مرة هذا ومرة ذلك ، أو يكون قائل كل من الكلمتين بعد أخرى والمعنى لو أرشدني إلى دينه . { لكنت من المتقين } النوع الثالث قوله عند رؤية العذاب { لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } قال جار الله : لما حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب وهو الثاني ، صح أن تقع « بلى » جواباً له مع أنه غير منفي ، لأن قوله { لو أن الله هداني } في معنى ما هديت .

قلت : هذا يصلح جواباً للقولين الثاني والثالث أي بلى قد هديت بالوحي فكذبت واستكبرت عن قبوله فلا فائدة في الرجعة ، فإن عدم القابلية وكونه واقعاً في جانب القهر لن يزول عنه . ثم صرح ببعض أنواع العذاب قائلاً { ويوم القيامة نرى الذين كذبوا على الله } وقوله { وجوههم مسودّة } مفعول ثان إن كانت الرؤية القلبية وإلا فموضعه نصب على الحال . والظاهر أن الكذب على الله هو المشار إليه في قوله { فكذبت بها } ويشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والولد ، ونسبته إلى العجز عن الإعادة ، ونسبة القرآن إلى كونه مختلفاً ونحو ذلك . وأما المسائل الاجتهادية التي يختلف فيها كل فريق إسلامي ولا سيما الفروعية ، فالظاهر أنها لا تدخل فيها والله أعلم . وأما سواد الوجه فإن كان في الصورة فظاهر ويكون كسائر أوصاف أهل النار من زرقة العيون وغيره ، وإن كان المراد به الخجل وشدّة الحياء ونحو ذلك فالله تعالى أعلم بمراده . ولا ريب أن الجهل والإخبار على خلاف ما عليه الأمر ونحو ذلك من الأخلاق الذميمة كلها ظلمات كما أن العلم والصدق ونحوهما أنوار كلها وفي ذلك العالم تظهر حقيقة كل شيء على المكلف { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } [ يونس : 30 ] . ثم حكى حال المتقين يومئذ قائلاً { وينجي الله الذين اتقوا } الشرك أو المعاصي كبائر وصغائر { بمفازتهم } هي « مفعلة » من الفوز . فمن وحد فلأنه مصدر ، ومن جمع فلاختلاف أجناسها فلكل متق مفازة وهي الفلاح . ولا شك أن الباء هي التي في نحو قولك « كتب بالقلم » . فقال جار الله : تارة تفسير المفازة هي قوله { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } فلا محل للجملة لأنه كأنه قيل : وما مفازتهم؟ فقيل : { لا يمسهم السوء } أي في أبدانهم . { ولا هم يحزنون } يتألمون قلباً على ما فات . وقال : أخرى يجوز أن يراد بسبب فلاحهم أو منجاتهم وهو العمل الصالح ، وذلك أن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة . ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها . وعلى هذه الوجوه يكون قوله { لا يمسهم } منصوباً على الحال . وعن الماوردي أن المفازة ههنا البرية أي بما سلكوا مفازة الطاعات الشاقة وهو غريب . وحين تمم الوعد والوعيد أتبعه شيئاً من دلائل المالكية قائلاً { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } وقد مر في « الأنعام » . ثم أكده بقوله { له مقاليد السموات والأرض } وهو كقوله في « الأنعام » { وعنده مفاتح الغيب } [ الآية : 59 ] والمقاليد المفاتيح أيضاً فقيل : لا واحد لها من لفظها . وقيل : مقليد أو مقلد أو إقليد . والظاهر أنه في الأصل فارسي والتعريب جعله من قبيل العربي . ويروى أنه سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير الآية فقال : يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسير المقاليد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير .

وقال العلماء : يعني أن هذه الكلمات مفاتيح خيرات السموات والأرض وقد يوحد الله بها ويمجد . قال أهل العرفان : بيده مفاتيح خزائن اللطف والقهر ، فيفتح على من يشاء أبواب خزائن لطفه في قلبه فتخرج ينابيع الحكمة وجواهر الأخلاق الحسنة وللآخر بالضد . قال في الكشاف قوله { والذين كفروا } متصل بقوله { وينجي } وما بينهما اعتراض دل على أنه خالق الأشياء كلها مهيمن عليها ، لا يخفى عليه أعمال المكلفين وجزاؤها فإن كل شيء في السموات والأرض فإن مفتاحه بيده . هذا والظاهر أنه لا حاجة إلى هذا التقدير البعيد حتى يعطف جملة اسمية على جملة فعلية . والأقرب أنه لما وصف نفسه بصفات المالكية والقدرة ذكر بعده { والذين كفروا } بدلائل ملكه وملكه مع كونها ظاهرة باهرة فلا أخسر منهم لأنهم عمي في الدارين فاقدون لأشرف المطالب ولذلك وبخ أهل الشرك بقوله { قل أفغير الله } أي قل لهم بعد هذا البيان أفغير الله وهو منصوب { بأعبد } و { تأمروني } اعتراض والمعنى أفغير الله { أعبد } بأمركم . وذلك أن المشركين دعوه إلى دين آبائه . وجوز جار الله : أن ينصب بما يدل عليه جملة قوله { تأمروني أعبد } لأنه في معنى تعبدونني غير الله وتقولون لي اعبد . والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل . ويمكن أن يعترض عليه بأن صلة « أن » كيف تتقدّم عليه . ويحتمل أن يجاب بأن العامل هو ما دل عليه الجملة كما قلنا لا قوله { أن أعبد } وقيل : التقدير أفبعبادة غير الله تأمروني؟ وقوله { أيها الجاهلون } لا يكون أليق بالمقام منه لأنه لا جهل أشدّ من جهل من نهى عن عبادة أشرف الأشياء وأمر بعبادة أخس الأشياء . ثم هددّ الأمة على الشرك مخاطباً نبيه بقوله { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك } من الأنبياء مثله { لئن أشركت } فاقتصر على الأول يجوز أن يراد ولقد أوحى إليك وإلى كل واحد ممن قبلك لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة أي كل واحد منا وقد مر نظير هذه الآية بقوله { ولئن أتبعت أهواءهم } [ البقرة : 120 ] وبينا أن ذلك على سبيل الفرض والشرطية لا حاجة في صدقها إلى صدق جزأيها ، أو المراد الأمة كما قلنا . وفي قوله { ولتكونن من الخاسرين } إشارة إلى أن منصب النبوة الذي هو أشرف مراتب الإنسانية وأقربها من الله إذا بدل بضدّه الذي هو البعد عن الحضرة الإلهية لم يكن خسران وراء ذلك .
ثم ردّه صلى الله عليه وسلم إلى ما هو الحق الثابت في نفس الأمر وهو تخصيص الله بالعبادة فقال { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } على ذلك لأن توفيق العبادة منه وحده ولذا جعله مظهر اللطف حتى صار سيد ولد آدم .

===================

ج28. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


ثم بين أنهم لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة في العبادة ما عرفوا الله حق معرفته وقد مر في « الأنعام » و « الحج » . ثم أردفه بما يدل على كمال عظمته قائلاً { والأرض جميعاً قبضته } قال جار الله : الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز . وكذلك حكم ما يروى عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً من أهل الكتاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، والشجر على أصبع ، والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال وأنزل الله الآية تصديقاً له . وقال جار الله : وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من غير ذلك ، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي لا تكتنهها الأوهام هينة عليه ، ثم ذكر كلاماً آخر طويلاً . واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته لأنه هل يسلم أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته أم لا . وعلى الثاني يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حجة فإن لكل أحد حينئذ أن يؤوّل الآية بما شاء . وعلى الأول وهو الذي عليه الجمهور يلزمه بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلاني على معناه الحقيقي لتعين المصير إلى التأويل . ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما ، ففي هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب المصير إلى التأويل صوتاً للنص عن التعطيل . ولا تأويل إلا أن يقال : المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره كما يقال : فلان في قبضة فلان . وقال تعالى { وما ملكت أيمانهم } [ الأحزاب : 50 ] ويقال : هذه الدار في يد فلان ويمينه ، وفلان صاحب اليد . وأنا أقول : هذا الذي ذكره الإمام طريق أصولي ، والذي ذكره جار الله طريق بياني ، وأنهم يحيلون كثيراً من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينهما . ولا يرد اعتراض الإمام وتشنيعه وقد مر لنا في هذا الكتاب الأصل الذي كان يعمل به السلف في باب المتشابهات في مواضع فتذكر .

ولنرجع إلى الآية . قوله { والأرض } قالوا : المراد بها الأرضون لوجهين : أحدهما قوله { جميعا } فإنه يجعله في معنى الجمع كقوله { كل الطعام } [ آل عمران : 93 ] وقوله { والنخل باسقات } [ ق : 10 ] والثاني قوله { والسموات } ولقائل أن يقول : كل ما هو ذو أجزاء حساً أو حكماً فإنه يصح تأكيده بالجميع . وعطف السموات على الأرض في القرآن كثير . نعم قيل : إن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهو مقتض للمبالغة وليس ببعيد . والقبضة بالفتح المرة من القبض يعني والأرضون جميعاً مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته . وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] { والسموات مطويات بيمينه } كقوله { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } [ الأنبياء : 104 ] وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوي عندك بيدك . وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أي بقسمه لأنه تعالى حلف أن يطويها ويفنيها في الآخرة . وفي الآية إشارة إلى كمال استغنائه ، وأنه إذا حاول تخريب الأرض والسموات وتبديلها . وذلك في يوم القيامة سهل عليه كل السهولة ، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله { سبحانه وتعالى عما يشركون } ثم ذكر سائر أهوال القيامة وأحوالها بقوله { ونفخ في الصور فصعق } الظاهر أن نفخ الصور مرتان ، وبعضهم روى أنه ثلاث نفخات الأولى للفزع كما جاء في « النمل » ، والثانية للموت وهو معنى الصعق ، والثالثة للإعادة . والأظهر أن الفزع يتقدم الصعق فلا يلزم منه إثبات نفختين ، وقد مر في « النمل » تفسير باقي الآية . قال جار الله : تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة { ثم نفخ فيه أخرى } وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان . ومعنى { ينظرون } يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب ، أو ينظرون ماذا يفعل بهم . ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود تحيراً . ثم وصف أرض القيامة بقوله { وأشرقت الأرض بنور ربها } الظاهر أن هذا نور تجليه سبحانه . وقد مر شرح هذا النور في تفسير قوله { الله نور السموات والأرض } [ الآية : 35 ] وفي غيره من المواضع . وقال علماء البيان : افتتح الآية بذكر العدل كما اختتم الآية بنفي الظلم . ويقال للملك العادل : أشرقت الآفاق بنور عدلك وأضاءت الدنيا بقسطك ، وفي ضدّه أظلمت الدنيا بجوره . وأهل الظاهر من المفسرين لم يستبعدوا أن يخلق الله في ذلك اليوم للأرض نوراً مخصوصاً . وقيل : أراد أرض الجنة .
ثم إن أهل البيان أكدوا قولهم بأنه أتبعه قوله { ووضع الكتاب } إلى آخره . وكل ذلك من الأمور الدالة على غاية العدل . والمراد بالكتاب إما اللوح المحفوظ يقابل به صحف الأعمال أو الصحف نفسها ولكنه اكتفى باسم الجنس .

{ وجيء بالنبيين } ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة ويجيب قومهم بما يجيبون . والمراد بالشهداء الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار ومن الجوارح والمكان والزمان أيضاً . وقيل : هم الذين قتلوا في سبيل الله ولعله ليس في تخصيصهم بالذكر فائدة . وحين بين أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الخصومات ذكر أنه يوصل أهل النار ، وختم السورة بذكر أهل الجنة فقال : { وسيق } وهو على عادة إخبار الله تعالى . والزمر الأفواج المتفرقة واحدها زمرة وكذلك في صفة أهل الجنة ، وذلك أنه يحشر أمة بعد أمة مع إمامها إلى الجنة أو النار ، أو بعضهم قبل الحساب وبعضهم بعد الحساب على اختلاف المراتب والطبقات ، فلا ريب أن الناس محقين أو مبطلين فرق ذاهبون في طرق شتى جماعة جماعة . والخزنة جمع خازن ، والمراد بكلمة العذاب قوله { لأملأن جهنم } [ السجدة : 13 ] أو علم الله السابق وكان القياس التكلم إلا أنه عدل إلى الظاهر فقيل على الكافرين ليعلم سبب العذاب .
سؤال السوق في الكفار له وجه لأنهم أهل الطرد والعنف فما وجهه في أهل الجنة؟ الجواب من وجوه : قال جار الله : المضاف هنا محذوف أي وسيق مراكب الذين اتقوا لأنهم لا يذهبون إلا راكبين كالوافدين على ملوك الدنيا ، وحثها إسراع لهم إلى دار الكرامة والرضوان : وقيل : طباق . وقيل : أكثر أهل الجنة البله فيحتاجون إلى السوق لأنهم لا يعرفون ما فيه صلاحهم . وقيل : إنهم يقولون لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي فيتأخرون لهذا السبب وحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة . وقال أهل العرفان : المتقون قد عبدوا الله لله لا للجنة فيصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة ، فلا جرم يفتقرون إلى السوق . وقال الحكيم : كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختياره شاء أم أبى إلى ما يضاهيه حاله فذاك معنى السوق .
سؤال آخر : لم قيل في صفة أهل النار { فتحت أبوابها } من غير واو وفي صفة أهل الجنة { وفتحت أبوابها } بالواو؟ والجواب البحث عن مثل هذه الواو قد يقال له واو الثمانية قد مر في قوله { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] وفي سورة الكهف إلا أن الذي اختص بالمقام هو أن بعضهم قالوا : إن أبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } [ ص : 50 ] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل : حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها ، وعلى هذا فجواب { حتى إذا } محذوف وحق موقعه ما بعد { خالدين } أي كان ما كان من أصناف الكرامات والسعادات . وقيل : حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي مع فتح أبوابها . وقيل : لأهل التأويل أن يقولوا : إن أبواب الجنة وهي أسباب حصول الكمالات مفتوحة بمعنى أنها غير ممنوع عنها بل مندوب إليها مرغب فيها ، وأبواب جهنم مغلقة بمعنى أن أسبابها ممنوع عنها على لسان الشرع والعقل جميعاً .

ومعنى تسليم الخزنة الإكرام والتهنئة بأنهم سلموا من أحوال الدنيا وأهوال القيامة . ومعنى { طبتم } قيل : إخبارهم عن كونهم طيبين في الدنيا بالأفعال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، أو طبتم نفساً بما نلتم من الجنة ونعيمها . وقيل : إن أهل الجنة إذا انتهوا إلى بابها وجدوا عنده عينين تجريان من ساق شجرة فيتطهرون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلن تتغير أبشارهم بعدها أبداً ، ويشربون من الأخرى فيذهب ما في بطونهم من أذى وقذى فيقول لهم الخزنة : طبتم . وقال جار الله : أرادوا طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا ، ولهذا عقبه بقوله { فادخلوها خالدين } ليعلم أن الطهارة عن المعاصي هي السبب في دخول الجنة والخلود فيها لأنها دار طهرها الله من دنس فلا يدخلها إلا من هو موصوف بصفتها رزقنا الله تعالى بعميم فضله وحسن توفيقه نسبة توجب ذلك . ثم حكى قول المتقين في الجنة فقال { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } أي الوعد بدخول الجنة { وأورثنا الأرض } أرض الجنة عبر عن التمليك بالإيراث وقد مرّ مراراً { نتبوّأ منها حيث نشاء } لأن لكل متق جنة توصف سعة فيتبوّأ من جنته كما يريد من غير منازع . وقال حكماء الإسلام : الجنات الجسمانية كذلك ، أما الروحانية فلا مانع فيها من المشاركة وأن يحصل لغيره ما يحصل لبعض الأشخاص . ثم وصف مآب الملائكة المقربين بعد بعثهم فقال { وترى } أيها الرائي أو النبي { الملائكة حافين } محدّقين وهو نصب على الحال . قال الفراء : لا واحد له لأنه لا بد فيه من الجمعية . وأقول : لعله عني من حيث الاستعمال . وقيل : الحاف بالشيء الملازم له . وقوله { من حول العرش } « من » زائدة أو ابتدائية أي مبتدأ خوفهم من هناك إلى حيث شاء الله أو متصل بالرؤية { يسبحون بحمد ربهم } تلذذاً لا تعبداً . وكان جوانب العرش دار ثواب الملائكة وإنها ملاصقة لجوانب الجنة . والضمير في قوله { وقضي بينهم } للعباد كلهم لقرائن ذكر القيامة فإن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون الإقضاء بينهم بالحق والعدل . وقيل : بين الأنبياء وأممهم . وقيل : تكرار لقوله { وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق } وقيل : هو حال وقد مقدرة معه أي يسبحون بحمد ربهم وقد قضى بينهم يعني بين الملائكة على أن ثوابهم ليس على سنن واحد . ويحتمل عندي أن يعود الضمير إلى البشر والملائكة جميعاً ، والقضاء بينهم هو إنزال البشر مقامهم من الجنة أو النار ، وإنزال الملائكة حول العرش . ثم ختم السورة بقوله { وقيل الحمد لله } والقائل المقضي بينهم وهم جميع العباد كقوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله } [ يونس : 10 ] أ جميع الملائكة حمدوا الله على إنزال كلّ منزلته .


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)

القراآت : { حم } وما بعده بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وذلك طبعاً لا اختلافاً لمعان مذكورة في « ص » . { كلمات ربك } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر { لتنذر } بالتاء الفوقانية على أن الضمير للروح ، وقد تؤنث ، أو على خطاب الرسول : يعقوب غير رويس { التلاقي } بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل . { والذين تدعون } على الخطاب : نافع وهشام غير الرازي وابن مجاهد والنقاش وابن ذكوان { أشد منكم } ابن عامر . الباقون { منهم } .
الوقوف : { حم } ط كوفي { العليم } 5 لا { الطول } ط { إلا هو } ط { المصير } 5 { البلاد } 5 { من بعدهم } ص لعطف الجملتين المتفقتين { فأخذتهم } ط للابتداء بالتهديد { عقاب } 5 { النار } م لئلا يتوهم أن ما بعده صفة أصحاب النار { آمنوا } ج لحق القول المحذوف { الجحيم } 5 { وذرياتهم } ط { الحكيم } 5 وقد يوصل للعطف { السيئات } ط { رحمته } ط { العظيم } 5 { فتكفرون } 5 { سبيل } 5 { كفرتم } ج للابتداء بالشرط مع العطف { تؤمنوا } ط { الكبير } 5 { رزقاً } ط { ينيب } 5 { الكافرون } 5 { ذو العرش } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { التلاق } 5 لا { بارزون } ج لاحتمال الاستئناف وتعلقه بالظرف { شيء } ط { اليوم } ط فصلاً بين السؤال والجواب { القهار } 5 { كسبت } ط { اليوم } ط { الحساب } 5 { كاظمين } ط { يطاع } 5 ط { الصدور } 5 { بالحق } ط { بشيء } ط { البصير } 5 { من قبلهم } ط { واق } 5 { فأخذهم الله } ط { العقاب } 5 .
التفسير : { حم } اسم الله الأعظم . وقيل : { حم } ما هو كائن أي قدّر . وروي أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما حم؟ فقال : أسماء وفواتح سور . وقد تقدم القول في حواميم في مقدمات الكتاب وفي أول « البقرة » . ومن جملة تلك التقادير أن يقال : السورة المسماة بحم . { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } وقد مر نظيره في أول « الزمر » . ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد فقال { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } قالت المعتزلة : معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بالتوبة إن كان كبيراً ، أو طاعة أعظم منه ثواباً إن كان صغيراً . وقال الأشعري : إنه قد يعفو عن الكبائر بدون التوبة لئلا يلزم التكرار بقوله { قابل التوب } وليفيد المدح المطلق ويؤيده إدخال الواو بين هذين الوصفين فقط كأنه قيل : الجامع بين المغفرة إن كانت بدون توبة وبين القبول إن كانت بتوبة فقد جمع للمذنب بين رحمتين بحسب الحالتين . وقيل : غافر الذنب الصغير وقابل التوب عن الكبير ، أو غافر الذنب بإسقاط العقاب وقابل التوب بإيجاب الثواب .

ثم إن قبول التوبة واجب على الله أم لا؟ فيه بحث أيضاً للفريقين . فالمعتزلة أوجبوه ، والأشعري يقول : إنه على سبيل التفضيل وإلا لم بتمدّح به . والظاهر أن التوب مصدر . وقيل : جمع توبة أي ما ذنب تاب منه العبد إلا قبل توبته . وقد ذكر أهل الإعراب ههنا سؤالاً وهو أن غافر الذنب وقابل التوب يمكن بوجيههما بأنهما معرفتان كما سبق في { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] وهو أنهما بمعنى الماضي أو الاستمرار فيصح وقوعهما صفتين لله إلا أن قوله { شديد العقاب } لا يمكن فيه هذا الوجه لأنه في معنى شديد عقابه . فإن قلنا إنه صفة لزم وقوع النكرة صفة للمعرفة ، وإن قلنا إنه بدل لزم نبوّ ظاهر للزوم بدل واحد فيما بين صفات كثيرة . وأجيب على تقدير أن لا يكون الكل أبدالاً بأن الألف واللام من شديد محذوف لمناسبة ما قبله مع الأمن من اللبس ومن جهالة الموصوف ، أو تعمد تنكيره من بين الصفات للإبهام والدلالة على فرط الشدة . وجوزوا أن تكون هذه النكتة سبباً لجعله بدلاً من بين سائر أخواته . وهذا ما قاله صاحب الكشاف . وعندي أنه لا مانع من جعل { شديد العقاب } أيضاً للاستمرار والدوام حتى يصير إضافة حقيقية . قوله { ذي الطول } أي ذي الفضل بسبب ترك العقاب وقد مر في قوله { ومن لم يستطع منكم طولاً } [ النساء : 25 ] وإنما أورد هذا الوصف بعد وصفه نفسه بشدة العقاب ليعلم أن خاتمة أمره مبنية على التفضل كما أن فاتحته مبنية على الغفران وقبول التوبة وقد تقع عقوبة في الوسط أعاذنا الله منها ، إلا أنه لا يبقى مؤمن في النار خالداً ببركة قوله لا إله إلا الله وهو المبدأ وسبب علمه أنه إليه المصير وهو المعاد . وفيه أن من آمن بالمبدأ والمعاد فإن أخل في الوسط ببعض التكاليف كان مرجواً أن يغفر الله له ويقبل توبته . ثم بين أحوال من لا يقبل هذه التقريرات ولا يخضع لها فقال { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } والجدال في آياته نسبتها إلى الشعر تارة وإلى السحر أخرى إلى غير ذلك من المطاعن وفضول الكلام . فأما البحث عنها لاستنباط حقائقها والوقوف على دقائقها وحل مشكلاتها فنوع من الجهاد في سبيل الله ، ولمكان الفرق بين هذين الجدالين قال صلى الله عليه وسلم « إن جدالاً في القرآن كفر » فنكر الجدال ليشمل أحد نوعيه فقط وهو الجدال بالباطل كما يجيء في قوله { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } ثم عقب الكلام بقوله { فلا يغررك } ليعلم أن جدالهم الصادر عن البطر والأشر والجاه والخدم لا اعتبار به وكذا { تقلبهم في البلاد } للتجارات والمكاسب فإن قريشاً كانت أصحاب أموال متجرين إلى الشام واليمن مترفين بأموالهم مستكبرين عن قبول الحق لذلك .

ثم مثل حالهم بحال الأمم السالفة الذين تحزبوا على الرسل وكادوا يقتلونهم فأهلكهم الله ودمرهم ونجى الرسل . ثم بين بقوله { وكذلك حقت } أنهم في الآخرة أيضاً معذبون . وقوله { أنهم أصحاب النار } بدل من { كلمة ربك } أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم في الآخرة من أصحاب النار . وجوّز جار الله أن يكون { أنهم } في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل . وقوله { الذين كفروا } قريش أي كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء لأن العلة الجامعة وهي أنهم أصحاب النار واحدة في الفريقين . ومن قرأ { كلمات } على الجمع أراد بها علم الله السابق أو معلوماته التي لا نهاية لها ، أو الآيات الواردة في وعيد الكفار .
وحين بين أن الكفار بالغوا في إظهار عداوة المؤمنين حكى أن أشرف طبقات أكثر المخلوقات وهم حملة العرش ، والحافون حوله يبالغون في محبتهم ونصرتهم كأنه قيل : إن كان هؤلاء الأراذل يعادونهم فلا تبال بهم ولا تقم لهم وزناً فإن الأشراف يحابونهم . روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يعرفون طرفهم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق من الملائكة فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وهو طائر صغير شبه العصفور » وروي أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة . وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ، وعدد حملة العرش يوم القيامة ثمانية لقوله عز وجل { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقّة : 17 ] أما في غير ذلك الوقت فلا يعلم به إلا الله . أما الذين حول العرش فقيل : سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر . وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب الكشاف . سؤال : ما فائدة قوله { ويؤمنون به } ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون؟ أجاب في الكشاف بأن فائدته التنبيه على شرف الإيمان والترغيب فيه . وأيضاً فيه تكذيب المجسمة فإن الأمر لو كان على زعمهم لكانت الملائكة يشاهدونه فلا يوصفون بالإيمان به لأنه لا يوصف بالإيمان إلا الغائب ، فعلم أن إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكل سواء في أن إيمانهم بطريق النظر والاستدلال .

واستحسن هذا الكلام الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتى ترحم عليه وقال : لو لم يكن في كتابه إلا هذه النكتة لكفى به فخراً وشرفاً . وأنا أقول : لا نسلم أن الإيمان لا يكون إلا بالغائب وإلا لم يكن الإيمان بالنبي وقت تحديه بالقرآن . وإن شئت فتأمل قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله { بالغيب } فائدة . على أنه يحتمل أن يشاهد الرب وينكر كونه إلهاً ، ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوباً عن ذلك الشيء فمن أين يلزم تكذيب المجسمة؟ وقال بعضهم في الجواب : أراد أنهم يسبحون تسبيح تلفظ لا تسبيح دلالة . وزعم فخر الدين أن في الآية دلالة أخرى على إبطال قول أهل التجسيم إن الإله على العرش فإنه لو كان كما زعموا وحامل الشيء حامل لكل ما على ذلك الشيء لزم أن تكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له ، والحافظ أولى بالإلهية من المحفوظ . قلت : لا شك أن هذه مغالطة فإن جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم في المسألة كيف يلزم منه ذلك؟ وهل يزعم عاقل أن الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه؟ وإنما ذكرت ما ذكرت لكونه وارداً على كلام الإمامين مع وفور فضلهما وبعد غورهما ، لا لأني مائل في المسألة على ما يزعم الخصم إلى غير معتقدهما . قال جار الله : وقد روعي التناسب في قوله { ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم ، وفيه أنهم بعد التعظيم لأمر الله يقبلون على الشفقة على خلق الله ولا سيما المؤمنين لأن الإيمان جامع لا أجمع منه يجذب السماوي إلى الأرضي ، والروحاني إلى العنصري . احتج كثير من العلماء بالآية على أفضلية الملك قالوا : لأنها تدل على أنه لا معصية للملائكة وإلا لزم بحكم « ابدأ بنفسك » أن يستغفروا أوّلاً لأنفسهم قال الله تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } [ محمد : 19 ] { وقال نوح رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً } [ نوح : 28 ] قلت : لا نزاع بالنسبة إليهم وإلى غير المعصومين من البشر وإنما النزاع بينهم وبين المعصومين فلا دليل في الآية ، ولا يلزم من طلب الاستغفار لأحد . لو سلم أن قوله { للذين آمنوا } عام أن يكون المستغفر له عاصياً على أنه قد خص الاستغفار في قوله { فاغفر للذين تابوا } وهذا فيه بحث يجيء . وفي قولهم { ربنا وسعت كل شيء رحمة } ولو بإعطاء الوجود { وعلماً } وقد مر في « الأنعام » إشارة إلى أن الحمد والثناء ينبغي أن يكون مقدماً على الدعاء . وفي لفظ { ربنا } خاصية قوية في تقديم الدعاء كما ذكرنا في آخر « آل عمران » كأن الداعي يقول : كنت نفياً صرفاً وعدماً محض فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك ، ولا ريب أن ذكر الله أول كل شيء بمنزلة الإكسير الأعظم للنحاس من حيث إنه يقوّي جوهر الروح ويكسبه إشراقاً وصفاء .

وفي تقديم الرحمة على العلم فائدة هي أن مطلوب الملائكة في هذا المقام هو أن يرحم المؤمنين فكأنهم قالوا : ارحم من علمت منه التوبة واتباع الدين . قالت علماء المعتزلة : الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون ، طلب مزيد الكرامة والثواب فهو بمنزلة الشفاعة ، وإذا ثبت شفاعة الملائكة لأهل الطاعة فكذلك شفاعة الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق . وقال علماء السنة : إن مراد الملائكة { فاغفر للذين تابوا } عن الكفر { واتبعوا سبيلك } الإيمان وهذا لا ينافي كون المستغفر لهم مذنبين ومما يؤيد ما قلنا أن الاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العذاب ، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً . قال أهل التحقيق : هذا الاستغفار من الملائكة يجري مجرى الاعتذار من قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] أما قوله { وقهم عذاب الجحيم } فتصريح بالمطلوب بعد الرمز لأن دلالة المغفرة على الوقاية من العذاب كالضمنية .
وحين طلبوا لأجلهم إسقاط العذاب ضمناً وصريحاً طلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } قال علماء السنة : كل أهل الإيمان موعودون بالجنة وإن كانوا من أهل الكبائر غاية ذلك أنهم يعذبون بالنار مدّة إن لم يكن عفواً وشفاعة ثم يخرجون إلى الجنة . قال الفراء والزجاج : قوله { ومن صلح } يجوز أن يكون معطوفاً على الضمير في { وأدخلهم } فيكون دعاء من الملائكة بإدخال هؤلاء الأصناف الجنة تكميلاً لأنس الأولين وتتميماً لابتهاجهم وإشفاقاً على هؤلاء أيضاً . ويجوز أن يكون عطفاً على الضمير في { وعدتهم } لأنه تعالى قال في سورة الرعد { أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } [ الآية : 23 ] وعلى هذا لا يشمل دعاء الملائكة هؤلاء الأصناف اللهم إلا ضمناً . قال أهل السنة : المراد بمن صلح أهل الإيمان منهم وإن كانوا ذوي كبائر . ثم ختم الآية بقوله { إنك أنت العزيز الحكيم } لأنه إن لم يكن غالباً على الكل لم يصح منه وقوع المطلوب كما يراد ، وإن لم يكن حكيماً أمكن منه وضع الشيء في غير موضعه . ثم قالوا { وقهم السيئات } فقيل : يعني العقوبات أو عذاب السيئات على حذف المضاف . واعترض بأنهم قالوا مرة وقهم عذاب الجحيم فيلزم التكرار . وأجيب بأن الأوّل دعاء للأصول وهذه لفروعهم وهم الأصناف الثلاثة ، أو الأول مخصوص بعذاب النار وهذا شامل لعذاب الموقف وعذاب الحساب وعذاب السؤال ، أو المراد بالسيئات العقائد الفاسدة والأعمال الضارة ، وعلى هذا يكون { يومئذ } في قوله { ومن تق السيئات يومئذ } إشاة إلى الدنيا .

وقوله { فقد رحمته } يجوز أن يكون في الدنيا وفي الآخرة . قال في الكشاف : السيئات هي الصغائر والكبائر المتوب عنها ، والوقاية منها التكفير أو قبول التوبة . ثم إنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفرة المجالدين في آياته وأنهم سيعترفون يوم القيامة بما كانوا ينكرونه في الدنيا من البعث ، وذلك إذا عاينوا النشأة وتذكروا النشأة الأولى فقال { إن الذين كفروا ينادون } أي يوم القيامة . وفي الآية حذف وفيها تقديم وتأخير . أما الحذف فالتقدير لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة . وأما التقديم والتأخير فهو أن قوله { إذ تدعون } منصوب بالمقت الأول . وفي المقت وجوه : الأول كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون ، وذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم في النار إذ أوقعتكم فيها باتباعكم هواهّن وفيه توبيخ . ولا ريب أن سخط الله وبغضه الشديد لا نسبة له إلى سخط غيره ولهذا أوردهم النار . الثاني عن الحسن : لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا بلسان خزنة جهنم لمقت الله وهو قريب من الأول . الثالث قال محمد بن كعب : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله { وما كان لي عليكم من سلطان } إلى قوله { ولوموا أنفسكم } [ إبراهيم : 22 ] وفي هذه الحالة مقتوا أنفسهم . فلعل المعنى . لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ومن لعنه إياه . وأما قول الكفرة في الجواب { ربنا أمتنا اثنتين } أي إماتتين اثنتين { وأحييتنا } إحياءتين { اثنتين } فللعلماء في تعيين كل من الاثنتين خلاف . أما في الكشاف فذهب إلى أن الإماتتين إحداهما خلقهم أوّلاً أمواتاً ثم نطفة ثم علقة الخ كما في الآية الأخرى { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً } [ البقرة : 28 ] ونسب هذا القول إلى ابن عباس ووجهه بأنه كقولك للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها وليس ثم نقل من كبر إلى صغر أو بالعكس ، وإنما أردت الإنشاء على هذه الصفة . والسبب في صحته أن كلا النعتين جائز على المصنوع الواحد وللصانع أن يختار أحدهما . قلت : ومما يؤيد قوله أنه بدأ بالإماتة وإلا كان الأظهر أن يبدأ بالإحياء . قال : والإماتة الثانية هي التي في الدنيا والإحياءة الأولى هي التي في الدنيا ، والثانية هي التي بعد البعث . وأورد على هذا القول أنه يلزم أن لا تكون الإحياءة في القبر والإماتة فيه مذكورتين في القرآن بل تكونان منفيتين مع ورودهما في الحديث . أجاب بعضهم بأن حياة القبر والإماتة ممنوعة لأنه تعالى لم يذكرها ، والأحاديث الواردة فيها آحاد ، ولأن الذي افترسه السبع لو أعيد حياً لزم نقصان شيء من السبع وليس بمحسوس ، ولأن الذي مات لو تركناه ظاهراً بحيث يراه كل أحد لم يحس منه حياة وتجويز ذلك مع عدم الرؤية سفسطة وفتح لباب الجهالات .

وزيف هذا الجواب أهل الاعتبار بأن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدمه ، والأحاديث في ذلك الباب صحيحة مقبولة . وإذا كان الإنسان جوهراً نورانياً مشرقاً مدبراً للبدن في كل طور على حد معلوم كما ورد في الشريعة الحقة زالت سائر الإشكالات ، ولا يلزم قياس ما بعد الموت على ما قبله وللشرع في إخفاء هذه الأمور عن نظر المكلفين حكم ظاهرة حققناها لك مرات . وقال بعضهم : في الجواب هذا كلام الكفار فلا يكون حجة . وضعف بأنه لو لم يكن صادقاً لأنكر الله عليهم . وقيل : إن مقصودهم تعديد أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة : الموتة الأولى ، والحياة في القبر ، والموتة الثانية ، والحياة في القيامة . فأما الحياة في الدنيا فإنها وقت ترفههم وتنعمهم فلهذا السبب لم يذكروها . وقيل : أهملوا ذكر حياة القبر لقصر مدتها أو لأنهم لم يموتوا بعد ذلك بل يبقون أحياء في الشقاوة حتى اتصل بها حياة القيامة وكانوا من جملة المستثنين في قوله { فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } [ الزمر : 68 ] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال متكلفة ولا سيما الأخير فإن قوله { الذين كفروا } عام . ولو فرض أنه مخصوص بكفار معهودين فتخصيصهم بالحياة في القبر حتى يكونوا من المستثنين بعيد جداً . وقد يدور في الخلد أن هذا النداء يحتمل أن يكون في القبر ، وعلى هذا لا يبقى إشكال لأن الإماتة والإحياء التي بعد ذلك تخرج من غير تكلف وثبت سؤال القبر كما جاء في الحديث والله تعالى أعلم بمراده . وقوله { فهل إلى خروج من سبيل } أي إلى نوع من الخروج والرد من القبر إلى الدنيا خروج سريع أو بطيء من سبيل قط أم اليأس الكلي واقع ، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط . وكان الجواب الصريح أن يقال : لا أو نعم إلا أنه سبحانه رمز إلى عدم الخروج بقوله { ذلكم } أي ذلكم اليأس وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم في وقت التمكن من التوحيد أو ان التكليف { فالحكم لله العلي الكبير } حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وكما يناسب عظمته وكبرياءه . قيل : إن تحكيم الحرورية وهو قولهم « لا حكم إلا لله » مأخوذ من هذه الآية . ثم أراد أن يذكر طرفاً من دلائل وحدانيته وكماله فقال { هو الذي يريكم آياته } من الريح والسحاب والرعد والبرق { وينزل لكم من السماء } ماء هو سبب الرزق { وما يتذكر إلا من ينيب } أي ما يعتبر إلا الذي أناب إلى الله وأعرض عن الشرك لينفتح عليه أبواب الأنوار والمكاشفات . ثم قال للمنيبين { فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } قال جار الله : قوله { رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح } ثلاثة أخبار لقوله هو مترتبة على الأول وهو قوله { الذي يريكم } أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً أوسطها معرفة .

ثم إن الرفيع إما أن يكون بمعنى الرافع أو بمعنى المرتفع ، وعلى الأول فإما أن يراد رافع درجات الخلق في العلم والأخلاق الفاضلة كما قال { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] وكذا في الرزق والأجل بل جعل للملائكة مقامات معينة وللأجسام البسيطة العلوية والسفلية درجات معينة كما يشهد به علم الهيئة ، وقد أشرنا إلى ذلك في أثناء هذا الكتاب . أو يراد رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة . وأما على الثاني فلا ريب أنه سبحانه أشرف الموجودات وأجلها رتبة من جهة استغنائه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه ، وافتقار كل ما سواه إليه في الوجود وفي توابع الوجود .
واعلم أن كمال كبرياء الله لا يصل إليه عقول البشر فالطريق في تعريفه أن يؤيد المعقول بنحو من المحسوس ، فلهذا عقب الله تعالى هذه الصفة بصفتين أخريين ، وذلك أن ما سوى الله إما جسمانيات وإما روحانيات . أما الجسمانيات فأعظمها العرش فأشار بقوله { ذو العرش } إلى استيلائه على كلية عالم الأجسام ، وأما الروحانيات فأشار إلى كونها تحت تسخيره بقوله { يلقي الروح } أي الوحي { من أمره } أي من عالم أمره { على من يشاء من عباده } وقد مر نظيره في الآية في أول سورة النحل . وقيل من أمره حال ثم بين الغرض من الإلقاء بقوله { لينذر يوم التلاق } ووجه التسمية ظاهر لتلاقي الأجساد والأرواح فيه ، أو لتلاقي أهل السماء والأرض كما قال عز من قائل { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً } [ الفرقان : 25 ] ولأن كل واحد يلاقي جزاء عمله . وقال ميمون بن مهران : يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم ، فربما ظلم رجل رجلاً وانفصل عنه ولم يمكن التلاقي أو استضعف المظلوم ففي يوم القيامة لا بد أن يتلاقيا . وقوله { يوم هم بارزون } بدل من الأول . ومعنى البروز ما مر في آخر سورة إبراهيم في قوله { وبرزوا لله الواحد القهار } [ الآية : 48 ] وقوله { لا يخفى على الله منهم شيء } تأكيد لذلك وهذا ، وإن كان عاماً في جميع الأحوال وشاملاً للدنيا والآخرة إلا أنه خصص بالآخرة لأنهم في الدنيا كانوا يظنون أن بعض الأعمال تخفى على الله عند الاستتار بالحجب كما قال { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } فهو نظير قوله { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] ثم أكد تفرّده في ذلك اليوم بالحكم والقضاء بقوله { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } ولا ريب أن الكلام مشتمل على جواب وسؤال وليس في لفظ الآية ما يدل على تعيين السائل ولا المجيب . فقال جم من المفسرين ومن أرباب القلوب : إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض يقول الرب تعالى : لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد .

فهو سبحانه يجيب عن نفسه فيقول : لله الواحد القهار . وأما الذين ألغوا صرف المعقول من أهل الأصول فقد أنكروا هذا القول إنكاراً شديداً لأنه تعالى بين أن هذا النداء في يوم التلاقي والبروز يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وكل هذا ينافي في كون الخلق هالكين وقتئذ ، ولأن التكلم من غير سامع ولا مجيب عبث إلا أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء لكن المفروض فناء كل المخلوقين ، فأما أن يكون حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به وذلك أن ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار ، يقوله المؤمن تلذذاً والكافر هواناً وتحسراً على أن فاتتهم هذه المعرفة في الدنيا فإن الملك كان له من الأزل إلى الأبد . وفائدة تخصيص هذا النداء يوم القيامة كما عرفت في { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] يحكى أن نصر بن أحمد لما دخل نيسابور وضع التاج على رأسه ودخل عليه الناس فخطر بباله شيء فقال : هل فيكم من يقرأ آية؟ فقرأ رجل روّاس { رفيع الدرجات ذو العرش } فلما بلغ قوله { لمن الملك اليوم } نزل الأمير عن سريره ورفع التاج عن رأسه وسجد لله تعالى وقال : لك الملك لا لي . فلما توفي الروّاس رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي وقال لي إنك عظمت ملكي في عين عبدي فلان يوم قرأت تلك الآية فغفرت لك وله . ومما يدل على تفرده سبحانه قوله { لله الواحد القهار } فإن كل واحد من الأسماء الثلاثة ينبىء عن غاية الجلال والعظمة كما مر مراراً ، وباقي الآية أيضاً مما سلف تفسيره مرات . ثم وصف يوم القيامة بأنواع أخر من الصفات الهائلة فقال { وأنذرهم يوم الآزفة } وهي فاعلة من أزف الأمر أزوفاً إذا دنا ، ولا ريب أن القيامة قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن كل ما هو كائن فهو قريب . قال جار الله : يجوز أن يريد بيوم الآزفة وقت لحظة الآزفة وهي مشارفتهم دخول النار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا . وقال أبو مسلم : يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل لأنه تعالى ذكر يوم القيامة في قوله { يوم التلاق يوم هم بارزون } فناسب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم ، ولأنه تعالى وصف يوم الموت بنحو هذه الصفة في مواضع أخر قال { فلولا إذا بلغت الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] { كلا إذا بلغت التراقي } [ القيامة : 26 ] ولا ريب أن الرجل عند معاينة أمارات الموت يعظم خوفه ، فلو جعلنا كون القلوب لدى الحناجر كناية عن شدّة الخوف جاز ، ولو حملناه على ظاهره فلا بأس .

وقوله { كاظمين } أي مكروبين . والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيظاً قال عز من قائل { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] وانتصابه على أنه حال عن أصحاب القلوب كأنه قيل : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ، أو عن القلوب . وجمع جمع السلامة بناء على أن الكظم من أفعال العقلاء كقوله { فظلت أعناقهم لها خاضعين } [ الشعراء : 4 ] أو عن ضمير المفعول في { وأنذرهم } أي وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم فيكون حالاً مقدّرة . وفي قوله { ما للظالمين من حميم ولا شفيع } بحث بين الأشاعرة والمعتزلة حيث حمله الأوّلون على أهل الشرك ، والآخرون على معنى أعم حتى يشمل أصحاب الكبائر . وقد مرّ مراراً ولا سيما في قوله { وما للظالمين من أنصار } [ آل عمران : 192 ] ومعنى قوله { يطاع } يجاب أي لا شفاعة ولا إجابة كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر ... وذلك أنه لا يشفع أحد في ذلك اليوم إلا بإذن الله ، فإن أذن له أجيب وإلا فلا يوجد شيء من الأمرين . والفائدة في ذكر هذه الصفة أن يعلم أن الغرض من الشفيع منتفٍ في حقهم وإن فرض شفيع على ما يزعم أهل الشرك من أن الأصنام يشفعون لهم . وقوله { يعلم خائنة الأعين } خبر آخر لقوله { هو الذي يريكم آياته } إلا أنه فصل بالتعليل وهو قوله { لينذر } وذكر وصف القيامة استطراداً ، قال جار الله : هي صفة للنظرة أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية ، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب . قال : ولا يحسن أن تكون الخائنة صفة للأعين مضافة إليها نحو « جرد قطيفة » أي يعلم العين الخائنة لأن قوله { وما تخفي الصدور } لا يساعد عليه . قلت : يعني أن عطف العرض على الجوهر والمعنى على العين غير مناسب . وقيل : هي قول الإنسان رأيت ولم ير وما رأيت ورأى . ومضمرات الصدرو أي القلوب فيها لأنها فيها . قيل : هي ما يستره الإنسان من أمانة وخيانة . وقيل : الوسوسة . وقال ابن عباس : ما تخفي الصدور بعد النظر إليها أيزني بها أم لا . أقول : والحاصل أنه تعالى أراد أن يصف نفسه بكمال العلم فإن المجازاة تتوقف على ذلك . ففي قوله { يعلم خائنة الأعين } إشارة إلى أنه عالم بجميع أفعال الجوارح ، وفي قوله { وما تخفي الصدور } دلالة على أنه عالم بجميع أفعال القلوب . وإذا علمت هذه الصفة وقد عرفت من الأصناف السابقة كمال قدرته واستغنائه لم يبق شك في حقيّة قضائه فلذلك قال { والله يقضى بالحق } ثم وبخهم على عبادة من لا قضاء له ولا سمع ولا بصر بقوله { والذين يدعون } الخ . ثم وعظهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة وقد مر نظير الآية في مواضع . وإنما قال في هذه السورة { ذلك بأنهم كانت } وفي « التغابن »

{ ذلك بأنه كانت } [ الآية : 6 ] موافقة لضمير الفصل في قوله { كانوا هم أشد } .
التأويل : الحاء والميم حرفان من وسط اسم الرحمن ومن وسط اسم محمد ففي ذلك إشارة إلى سر بينه وبين حبيبه صلى الله عليه وسلم لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل { غافر الذنب } للظالم { وقابل التوب } للمقتصد { شديد العقاب } للكافر { ذي الطول } للسابق { وقهم عذاب الجحيم } أي عن موجباتها كالرياء واتباع الهوى { لمقت الله } إياكم حين حكم عليكم بالبعد والحرمان { أكبر من مقتكم أنفسكم } لو كنتم تمقتونها في الدنيا فإنها أعدى عدوّكم . ومقتها منعها من هواها ، ولا ريب أن عذاب البعد الأبديّ أشدّ من رياضة أيام معدودة قلائل . { ذو العرش } عرش القلوب استوى عليها بجميع الصفات وهم العلماء بالله المستغرقون في بحر معرفته .


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)

القراآت : { ذروني } بفتح الياء : ابن كثير { إني أخاف } بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو . أو بصيغة الترديد : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب . الباقون : بواو العطف . { يظهر } بضم الياء وكسر الهاء من الإظهار الفساد بالنصب : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل وحفص . الآخرون : بفتحهما ورفع الفساد { عذت } مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وإسماعيل وهشام { التنادي } بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل { قلب متكبر } بالتنوين فيهما على الوصف : أبو عمرو وقتيبة وابن ذكوان . الباقون : على الإضافة . { لعلي أبلغ الأسباب } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { فأطلع } بالنصب : حفص . { اتبعوني } بالياء في الحالين : سهل وابن كثير ويعقوب وافق أبو عمرو ويزيد والأصفهاني عن ورش وإسماعيل وأبو نشيط عن قالون في الوصل . { مالي } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع { أمري إلى الله } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { تقوم } بتاء التأنيث : الرازي عن هشام { أدخلوا } من الإدخال : أبو جعفر ونافع ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص . وعلى هذه القراءة الخطاب للزبانية . وانتصب { آل } و { أشدّ } على أنهما مفعول بهما . وعلى القراءة الأخرى هو لآل فرعون ، وانتصب { آل } على النداء لا على أنه مفعول به .
الوقوف : { مبين } 5 لا { كذاب } 5 { نساءهم } ط { ضلال } 5 { رّبه } ج لاحتمال اللام { مؤمن } قف قد قيل : بناء على أن الجار يتعلق بالفعل بعده والوصل أصح أنه كان من القبط ، ولو فرض أنه لم يكن منهم فالجملة وصف له { من ربكم } ج لانتهاء الاستفهام إلى الابتداء بالشرط { كذبه } ج للعطف والشرط { بعدكم } ط { كذاب } 5 { في الأرض } ز لابتداء الاستفهام والوجه الوصل لأن المقصود الوعظ به { جاءنا } ط { الرشاد } 5 { الأحزاب } 5 لا لأن ما بعده بدل { بعدهم } ط { للعباد } 5 { التناد } 5 ط لأجل البدل { مدبرين } ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً { من عاصم } ج لاحتمال كون ما بعده ابتداء إخبار من الله سبحانه وكونه من كلام المؤمن { من هاد } 5 { جاءكم به } ط { رسولاً } ط { مرتاب } 5 ج لاحتمال البدل فإن « من » في معنى الجمع أو الاستئناف أي هم الذين أو أعني أنهم { آمنوا } ط { جبار } 5 { الأسباب } 5 لا { كاذباً } ط { السبيل } ط { تباب } 5 { الرشاد } ج لأن النداء يبدأ به مع أنه تكرار للأول { متاع } ز للفصل بين تنافي الدارين مع اتفاق الجملتين { القرار } 5 { مثلها } ج لعطف جملتي الشرط { حساب } 5 { النار } 5 ج لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ولاحتمال ابتداء استفهام آخر { الغفار } 5 { النار } 5 { لكم } ط { إلى الله } ط { بالعباد } 5 { العذاب } 5 ج لاحتمال البدل والابتداء { وعشياً } ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف { الساعة } قف لحق القول المحذوف أي يقال لهم أو للزبانية { لعذاب } 5 { من النار } 5 { العباد } 5 { من العذاب } 5 { بالبينات } ط { بلى } ط { فادعوا } ج لاحتمال أن ما بعده من قول الخزنة أو ابتداء إخبار من الله تعال { ضلال } 5 .

التفسير : لما وبخ الكفار بعدم السير في الأرض للنظر والاعتبار أو بعدم النظر في أحوال الماضين مع السير في الأقطار وقد وصف الماضين بكثرة العدد والآثار الباقية ، أراد أن يصرح بقصة واحدة من قصصهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وزيادة توبيخ وتذكير لهم . وكان في قصة موسى وفرعون من العجائب ما فيها ، فلا جرم أوردها ههنا مع فوائد زائدة على ما في المواضع الأخر منها : ذكر مؤمن من آل فرعون وما وعظ ونصح به قومه . ولأن القصة قد تكررت مراراً فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالمقام . قوله { بالحق } أي بالمعجزات الظاهرة . وقوله { اقتلوا } يريد به إعادة القتل كما مر في « الأعراف » في قوله { سنقتل أبناءهم } [ الآية : 127 ] قوله { إلا في ضلال } أي في ضياع واضمحلال . فإن كان اللام في { الكافرين } للجنس فظاهر لأن وبال كيدهم يعود بالآخرة عليهم حين يهلكون ويدخلون النار ، وإن كان للعهد وهم فرعون وقومه فأظهر كما قص عليك من حديث إغراقهم وإستيلاء موسى وقومه على ديارهم . قوله { ذروني أقتل موسى } ظاهره مشعر بأن قومه كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالات : الأول لعله كان فيهم من يعتقد نبوّة موسى فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون . الثاني قال الحسن : إن أصحابه قالوا لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك ، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا : إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتله . الثالث : لعل مراد أمرائه أن يكون فرعون مشغول القلب بأمر موسى حتى إنهم يكونون في أمن وسعة . قال جار الله : إن فرعون كان فيه خب وجريرة وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء فكيف لا يقصد قتل من أحسن بأن في وجوده هدم ملكه وتغيير ما هو عليه من عبادة أصنامه كما قال { إني أخاف أن يبدّل } الآية . ولكنه كان قد استيقن أنه نبي وكان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك . قال : وقوله { وليدع ربّه } شاهد صدق على فرط خوفه من دعوة ربه . وقال غيره : هو على سبيل الاستهزاء يعني إن أقتله فليقل لربه الذي يدّعي وجوده حتى يخلصه . ومعنى تبديل الدين تغيير عبادة الأصنام كما مر في « الأعراف » في قوله { ويذرك وآلهتك } [ الآية : 127 ] والفساد التهارج والتنازع واختلاف الآراء والأهواء ، أراد أن يحدث لا محالة من إبقائه فساد الدين والدنيا جميعاً ، أو أحد الأمرين على القراءتين .

ثم حكى ما ذكره موسى في دفع شر فرعون وهو العوذ بالله . وفي تصدير الجملة بأن دلالة على أن الطريق المعتبر في دفع الآفات الاستغاثة والاستعاذة برب الأرض والسموات . وفي قوله { بربي } إشارة إلى أن الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني سيعصمني من شر هذا المارد الجاني . وفي قوله { وربكم } احتراز عن أن يظن ظانّ أنه يريد به فرعون لأنه رباه في صغره { ألم نربك فينا وليدا } [ الشعراء : 18 ] وفيه بعث لقوم موسى على أن يقتدوا به في الاستعاذة فإن اجتماع النفوس له تأثير قوي . وفي قوله { من كل متكبر } أي متكبر عن قبول الحق على سبيل العموم فائدتان : إحداهما شمول الدعاء فيدخل فيه فرعون بالتبعية . والثانية أن فرعون رباه في الصغر فلعله راعى حسن الأدب في عدم تعيينه . وأما وصف المتكبر بقوله { لا يؤمن بيوم الحساب } فلأن الموجب لإيذاء الناس أمران : أحدهما قسوة القلب . والثاني عدم اعتقاد بالجزاء والحساب . ولا ريب أنه إذا اجتمع الأمران كان الخطب أفظع لاجتماع المقتضى وارتفاع المانع . ثم شرع في قصة مؤمن آل فرعون . والأصح أنه كان قبطياً ابن عم لفرعون آمن بموسى سراً واسمه سمعان أبو حبيب أو خربيل . وقيل : كان إسرائيلياً . وزيف بأن المؤمنين من بني إسرائيل لو يعتلوا ولم يعزوا لقوله { اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } فما الوجه في تخصيصه؟ ولقائل أن يقول : الوجه تخصيصه بالوعظ والنصيحة إلا أن قوله : { فمن ينصرنا من بأس الله } وقوله { يا قوم } على رأس كل نصيحة يغلب على الظن أن يتنصح لقومه . ومعنى { أن يقول } لأجل قوله أو وقت أن يقول كأنه قال منكراً عليهم أترتكبون الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة أي نفس كانت لأجل كلمة حقة وهي قوله { ربى الله } والدليل على حقيتها إظهار الخوارق والمعجزات . وفي قوله { من ربكم } استدراج لهم إلى الاعتراف بالله . ثم احتج عليهم بالتقسيم العقلي أنه لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً . على الأول يعود وبال كذبه عليه ، وعلى الثاني أصابكم ما يتوعدكم به من العقاب . واعترض على الشق الأوّل بأن الكاذب يجب دفع شره بإمالته إلى الحق أو بقتله ، ولهذا أجمع العلماء على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى دينه يجب قتله . وعلى الشق الثاني بأنه أوعدهم بأشياء والنبي صادق في مقالته لا محالة فلم قال { يصبكم بعض الذي يعدكم } ولم يقل « كل الذي »؟ والجواب عن الأوّل أنه إنما ردّد بين الأمرين بناء على أن أمره مشكوك فيما بينهم ، والزمان زمان الفترة والحيرة ، فأين هذا من زماننا الذي وضح الحق فيه وضوح الفجر الصادق بل ظهور الشمس في ضحوة النهار؟ وعن الثاني أنه من كلام المنصف كأنه قال : إن لم يصبكم كل ما أوعد فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، أو أراد عذاب الدنيا وكان موسى أوعدهم عذاب الدنيا والآخرة جميعاً .

وعن أبي عبيدة : أن البعض ههنا بمعنى الكل وأنشد قول لبيد :
ترّاك أمكنه إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وخطأه جار الله وكثير من أهل العربية وقالوا : إنه أراد ببعض النفوس فقط . ثم أكد حقية أمر موسى بقوله { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } وقد هداه الله إلى المعجزات الباهرة فهو إذن ليس بمتجاوز عن حدّ الاعتدال ولا بكذاب . وقيل : إنه كلام مستأنف من الله عز وجل ، وفيه تعريض بأن فرعون مسرف في عزمه على قاتل موسى كذاب في ادّعاء الإلهية فلا يهديه الله إلى شيء من خيرات الدارين ويزيل ملكه ويدفع شره ، وقد يلوح من هذه النصيحة وما يتلوها من المواعظ أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه إلى أن قصدوا قتل موسى وعند ذلك أظهر الإيمان وترك التقية مجاهداً في سبيل الله بلسانه . ثم ذكرهم نعمة الله عليهم وخوّفهم زوالها بقوله { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } أي غالبين على أرض مصر ومن فيها من بني إسرائيل والقبط { فمن ينصرنا من بأس الله } من يخلصنا من عذابه { إن جاءنا } وذلك لشؤم تكذيب نبيه { قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى } أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قبله { وما أهديكم } بهذا الرأي { إلا سبيل الرشاد } وصلاح الدين والدنيا ، أو ما أعلمكم من الصواب ولا أسر خلاف ما أظهر . قال جار الله : وقد كذب فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد . وحكى أبو الليث أن الرشاد اسم من أسماء أصنامه . قوله { مثل دأب } قال جار الله صاحب الكشاف : لا بد من حذف مضاف أي مثل جزاء دأبهم وهو عادتهم المستمرة في الكفر والتكذيب . ثم قال : إنه عطف بيان للأوّل لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح . ولو قلت أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بين لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أوّل المضافات . قلت : لا بأس من جعله بدلاً كما مرّ . وقوله { وما الله يريد ظلماً للعباد } أبلغ من قوله { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] لأن نفي الإرادة آكد من نفي الفعل ولتنكير الظلم في سياق النفي . وفيه أن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً . وقيل : معناه أنه لا يريد لهم أن يظلموا فدمرهم لكونهم ظالمين . وحين خوّفهم عذاب الدنيا خوّفهم عذاب الآخرة أيضاً فقال { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد } أما اليوم فيمكن انتصابه على الظرفية كأنه أخبر عن خوفه في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب ، والأولى أن يكون مفعولاً به أي أحذركم عذاب ذلك اليوم .

وفي تسمية يوم القيامة يوم التناد وجوه منها : أن أهل الجنة ينادون أهل النار وبالعكس كما مر في سورة الأعراف . ومنها أنه من قوله { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } [ الإسراء : 71 ] ومنها أن بعض الظالمين ينادي بعضاً بالويل والثبور قائلين يا ويلنا . ومنها أنهم ينادون إلى المحشر . ومنها أنه ينادي المؤمن هاؤم اقرؤا كتابيه والكافر يا ليتني لم أوت كتابيه . ومنها أنه يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادي في أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً على فرح ، وأهل النار حزناً على حزن . وقال أبو علي الفارسي : التناد مخفف من التنادّ مشدداً وأصله من ندّ إذا هرب نظيره { يوم يفر المرء من أخيه وأمه } [ عبس : 34 ] الخ . ويؤيده قراءة ابن عباس مشدداً وتفسيره بأنهم يندون كما تند الإبل . وقوله بعد ذلك { يوم تولوّون مدبرين } أنهم إذا سمعوا زفير النار ندّوا هاربين فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه . وقال قتادة : معنى تولون مدبرين انصرافهم عن موقف الحساب إلى النار . ثم أكد التهديد بقوله { ما لكم من الله } الآية . ثم ذكر مثالاً لمن لا يهديه الله بعد إضلاله وهو قوله { ولقد جاءكم يوسف } وفيه أقوال ثلاثة أحدها : أنه يوسف بن يعقوب ، وفرعون موسى هو فرعون يوسف ، والبينات إشارة إلى ما روي أنه مات لفرعون فرس قيمته ألوف فدعا يوسف فأحياه الله . وأيضاً كسفت الشمس فدعا يوسف فكشفها الله ، ومعجزاته في باب تعبير الرؤيا مشهورة ، فآمن فرعون ثم عاد إلى الكفر بعدما مات يوسف . والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب ، أقام فيهم عشرين سنة قاله ابن عباس . والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف إليهم رسولاً من الجن اسمه يوسف وأورده أقضى القضاة أيضاً وفيه بعد . قال المفسرون في قوله { لن يبعث الله من بعده رسولاً } ليس إشارة إلى أنهم صدّقوا يوسف لقوله { فما زلتم في شك } وإنما الغرض بيان أن تكذيبهم لموسى مضموم إلى تكذيب يوسف ولهذا ختم الآية بقوله { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } قلت : هذا إنما يصح إذا لم يكن فرعون يوسف قد آمن به لكنه مرويّ كما قلنا اللهم إلا أن يقال : لولا شكه في أمره لما كفر بعد موته قال جار الله : فاعل كبر ضمير عائد إلى من هو مسرف لأنه موحد اللفظ وإن كان مجموع المعنى . وجوّز أن يكون { الذين يجادلون } مبتدأ على تقدير حذف المضاف أي جدال الذين يجادلون كبر . وجوّز آخرون أن يكون التقدير الذين يجادلون كبر جدالهم على حذف الفاعل للقرينة .

وفي قوله { وعند الذين آمنوا } إشارة إلى أن شهادة المؤمنين عند الله بمكان حتى قرنها إلى شهادة نفسه . والمقصود التعجب والاستعظام لجدالهم وخروجه عن حدّ أشكاله من الكبائر ، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه مركزهما ومنبعهما ، أو باعتبار صاحبه . ومن قرأ بالإضافة فظاهر إلا أنه قيل : فيه قلب والأصل على قلب كل متكبر كما يقال : فلان يصوم كل يوم جمعة أي يوم كل جمعة . ثم أخبر الله سبحانه عن بناء فرعون ليطلع على السماء وقد تقدّم ذكره في سورة القصص . قال أهل اللغة : الصرح مشتق من التصريح الإظهار ، وأسباب السموات طرقها كما مر في أوّل « ص » ف { ليرتقوا في الأسباب } [ الآية : 10 ] فائدة بناء الكلام على الإبدال هي فائدة الإجمال ثم التفصيل والإبهام ثم التوضيح من تشويق السامع وغيره . من قرأ { فأطلّع } بالرفع فعلى العطف أي لعلي أبلغ فأطلع . ومن قرأ بالنصب فعلى تشبيه الترجي بالتمني . والتباب الخسران والهلاك كما مر في قوله { وما زادوهم غير تتبيب } [ هود : 101 ] استدل كثير من المشبهة بالآية على أن الله في السماء قالوا : إن بديهة فرعون قد شهدت بأنه في ذلك الصوب وأنه سمع من موسى أنه يصف الله بذلك وإلا لما رام بناء الصرح . والجواب أن بديهة فرعون لا حجة فيها ، وسماعه ذلك من موسى ممنوع . وقد يطعن بعض اليهود بل كلهم في الآية بأن تواريخ بني إسرائيل تدل على أن هامان لم يكن موجوداً في زمان موسى وفرعون وإنما ولد بعدهما بزمان طويل ، ولو كان مثل هذا الشخص موجوداً في عصرهما لنقل لتوفرت الدواعي عن نقله . والجواب أن الطعن بتاريخ اليهود المنقطع الوسط لكثرة زمان الفترة أولى من الطعن في القرآن المعجز المتواتر أولاً ووسطاً وآخراً .
ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المؤمن وأنه أجمل النصيحة أوّلاً بقوله { اتبعون أهدكم } ثم استأنف مفصلاً قائلاً { إنما هذه الحياة الدنيا متاع } يتمتع به أياماً قلائل ثم يترك عند الموت إن لم يزل نعيمها قبل ذلك { وإن الآخرة هي دار القرار } المنزل الذي يستقر فيه . ثم بين أنه كيف تحصل المجازاة في الآخرة وفيه إشارة إلى أن جانب الرحمة أرجح . ومعنى الرزق بغير حساب أنه لا نهاية لذلك الثواب ، أو أنه يعطى بعد الجزاء شيئاً زائداً على سبيل التفضل غير مندرج تحت الحساب . ثم صرح بأنهم يدعونه إلى النار وهو يدعوهم إلى الخلاص عنها وفسر هذه الجملة بقوله { تدعونني لأكفر بالله } الآية . ليعلم أن الشرك بالله أعظم موجبات النار والتوحيد ضدّه . وفي قوله { ما لي أدعوكم } من غير أن يقول « ما لكم » مع أن الإنكار يتوجه في الحقيقة إلى دعائهم لا إلى المجموع ولا إلى دعائه سلوك لطريق الإنصاف .

ووجه تخصيص العزيز الغفار بالمقام أنه غالب على من أشرك به غفور لمن تاب عن كفره . قوله { لا جرم } لا ردّ لكلامهم ، وجرم بمعنى كسب أو وجب أو لا بد وقد سبق في « هود » و « النحل » . ومعنى { ليس له دعوة } أنه لا يقدر في الدنيا على أن يدعو الناس إلى نفسه لأنه جماد ، ولا في الآخرة لأنه إذا أنطقه الله فيها تبرأ من عابديه . ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ليس له استجابة دعوة كقوله { والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء } [ الرعد : 14 ] عن قتادة : المسرفين هم المشركون . ومجاهد : السفاكون للدماء بغير حلها . وقيل : الذين غلب شرهم خيرهم . وقيل : الذين جاوزوا في المعصية حدّ الاعتدال كما بالدوام والإصرار وكيفا بالشناعة وخلع العذار { فستذكرون } أي في الدنيا عند حلول العذاب أو في الآخرة عند دخول النار { وأفوّض أمري إلى الله } قاله لأنهم توعدوه . وفيه وفي قوله { فوقاه الله } دليل واضح على أنه أظهر الإيمان وقت هذه النصائح . قال مقاتل : لما تمم هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه . قوله { وحاق بآل فرعون } معناه أنه رجع وبال مكرهم عليهم فأغرقوا ثم أدخلوا ناراً . ولا يلزم منه أن يكونوا قد هموا بإيصال مثل هذا السوء إليه ، ولئن سلّم أن الجزاء يلزم فيه المماثلة لعل فرعون قد همّ بإغراقه أو بإحراقه كما فعل نمرود . قوله { يعرضون عليها } أي يحرقون بها . يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به . وقوله { غدوّاً وعشياً } إما للدوام كما مر في صفة أهل الجنة { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] وإما لأنه اكتفى في القبر بإيصال العذاب إليهم في هذين الوقتين . وفي سائر الأوقات إما أن يبقى أثر ذلك وألمه عليهم ، وإما أن يكون فترة وإما أن يعذبوا بنوع آخر من العذاب الله أعلم بحالهم . وفي الآية دلالة ظاهرة على إثبات عذاب القبر لأن تعذيب يوم القيامة يجيء في قوله { ويوم تقوم الساعة } قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بعرض النار عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن سماع الحق مرّ طعمه؟ قلنا : عدول عن الظاهر من غير دليل . ولما انجز الكلام إلى شرح أحوال أهل النار عقبة بذكر المناظرات التي تجري فيها بين الرؤساء والأتباع والمعنى : اذكر يا محمد وقت تحاجهم وقد مر نظير ذلك مراراً . وفي قولهم { إن الله قد حكم بين العباد } أي قضى لكل فريق بما يستحقه إشارة إلى الإقناط الكليّ ، ولهذا رجعوا عن محاجة المتبوعين إلى الالتماس من خزنة النار أن يدعوا الله بتخفيف العذاب عنهم زماناً . قال المفسرون : إنما لم يقل لخزنتها لأن جهنم اسم قعر الناس فكأن لخزنتها قرباً من الله وهم أعظم درجة من سائر الخزنة فلذلك خصوهم بالخطاب . أما قول الخزنة لهم { فادعوا } ودعاء الكافر لا يسمع؛ فالمراد به التوبيخ والتنبيه على اليأس كأنهم قالوا : الشفاعة مشروطة بشيئين : كون المشفوع له مؤمناً والشافع مأذوناً له فيها ، والأمر إن ههنا مفقودان على أن الحجة قد لزمتهم والبينة ألجأتهم . ثم أكدوا ذلك بقولهم { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } أي لا أثر له ألبتة .


إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

القراآت : { لا ينفع } على التذكير : نافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم { تتذكرون } بتاء الخطاب : عاصم وحمزة وعلي وخلف . { ادعوني أستجب } بفتح الياء : ابن كثير . { سيدخلون } من الإدخال مجهولاً : ابن كثير ويزيد وعباس ورويس وحماد وأبو بكر غير الشموني { شيوخاً } بكسر الشين : ابن كثير وابن عامر وحمزة وعلي وهبيرة والأعشى ويحيى وحماد .
الوقوف { الأشهاد } 5 لا لأن { يوم } يدل من الأول { الدار } 5 { الكتاب } 5 لا { الألباب } 5 { والأبكار } 5 { أتاهم } لا لأن ما بعده خبر « إن » { ما هم ببالغيه } ج لاختلاف الجملتين { بالله } ط { البصير } 5 { لا يعلمون } 5 { ولا المسيء } ط { يتذكرون } 5 { لا يؤمنون } 5 { أستجب لكم } ط { داخرين } 5 { مبصراً } ط { لا يشكرون } 5 { شيء } لا لئلا يوهم أن ما بعده صفة شيء وخطؤه ظاهر { إلا هو } ز لابتداء الاستفهام ورجحان الوصل لفاء التعقيب ولتمام مقصود الكلام { يؤفكون } 5 { يجحدون } 5 { الطيبات } ط { العالمين } 5 { الدين } 5 { العالمين } 5 { شيوخاً } ج لاختلاف الجملتين { تعقلون } 5 { ويميت } ج لأجل الفاء مع الشرط { فيكون } 5 { في آيات الله } ط لانتهاء الاستفهام وابتداء آخر { يصرفون } 5 ج لاحتمال كون { الذين } بدلاً من الضمير في { يصرفون } { رسلنا } قف إن لم تقف على { يصرفون } { يعلمون } 5 لا لتعلق الظرف { والسلاسل } ط لأن ما بعده مستأنف . وقيل : { والسلاسل } مبتدأ والعائد محذوف أي والسلاسل يجرون بها في الحميم { يسجرون } 5 ج للآية مع العطف { من دون الله } ط { شيئاً } ط { الكافرين } 5 { تمرحون } 5 { خالدين فيها } ج { المتكبرين } 5 { حق } 5 { للشرط } مع الفاء { يرجعون } 5 { نقصص عليك } ط { بإذن الله } ج { المبطلون } 5 { تأكلون } 5 ز للآية مع العطف وشدّة اتصال المعنى { تحملون } 5 ط لأن ما بعده مستأنف ولا وجه للعطف . { تنكرون } 5 { من قبلهم } ط للفصل بين الاستخبار والأخبار { يكسبون } 5 { يستهزؤن } 5 { مشركين } 5 { بأسنا } الثاني ط { في عباده } ج لأن الفعل المعطوف عليه مضمر وهو سن { الكافرون } 5 .
التفسير : هذا من تمام قصة موسى وعود إلى مقام انجر الكلام منه وذلك أنه لما قيل { فوقاه الله } وكان المؤمن من أمة موسى علم منه ومما سلف مراراً أن موسى وسائر قومه قد نجوا وغلبوا على فرعون وقومه فلا جرم صرح بذلك فقال { إنا لننصر رسلنا } الآية . ونصرتهم في الدنيا بإظهار كلمة الحق وحصول الذكر الجميل واقتداء الناس بسيرتهم إلى مدة ما شاء الله ، وقد ينصرون بعد موتهم كما أن يحيى بن زكريا لما قتل قتل به سبعون ألفاً . وأما نصرهم في الآخرة فمن رفع الدرجات والتعظيم على رؤوس الأشهاد من الحفظة والأنبياء والمؤمنين وقد مر باقي تفسير الأشهاد في أوائل « هود » .

ثم بين أن يوم القيامة لا اعتذار فيه لأهل الظلم والغواية وإن فرض اعتذار فلا يقبل وسوء الدار عذاب الآخرة . ثم أخبر عن إعطاء موسى التوراة وإيراثها قومه بعده . والمراد بكون الكتاب هدى أنه دليل في نفسه ، وبكونه ذكرى أن يكون مذكراً للشيء المنسيّ . وحين فرغ من قصة موسى وما تعلق بها خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم مسلياً له بقوله { فاصبر إن وعد الله } بالنصر وإعلاء كلمة الحق { حق } كما قص عليك من حال موسى وغيره . ثم أمره باستغفاره لذنبه وقد سبق البحث في مثله مراراً . والعشيّ والإبكار صلاتا العصر والفجر أو المراد الدوام . قوله { إن الذين يجادلون } عود إلى ما انجر الكلام إليه من أول السورة إلى ههنا . وفيه بيان السبب الباعث لكفار قريش على هذا الجدال وهو الكبر والحسد وحب الرياسة ، وأن يكون الناس تحت تصرفهم وتسخيرهم لا أن يكونوا تحت تصرف غيرهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن تكون الأمة تحت أمره ونهيه وذلك تخيل فاسد لأن الغلبة لدين الإسلام ولهذا قال { ما هم ببالغيه } ثم أمره أن يستعيذ في دفع شرورهم بالله السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم فيجازيهم على حسب ذلك . ثم إنهم كانوا أكثر ما يجادلون في أمر البعث فاحتج الله تعالى عليهم بقوله { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } ومن قدر على الأصعب في نظر المخالف وقياسه كان على الأسهل أقدر ، فظاهر أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان بل لمجرد الحسد والكبير بل لا يعرفون ما البرهان وكيف طريق النظر والاستدلال ولهذا قال { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .
ثم نبه على الفرق بين الجدال المستند على العناد والتقليد وبين الجدال المستند إلى الحجة والدليل قائلاً { وما يستوي الأعمى والبصير } وحين بين التفاوت بين الجاهل والعالم أراد أن يبين التفاوت بين المحسن والمسيء ثم قال { قليلاً ما تتذكرون } وفيه مزيد توبيخ وتقريع ، وفيه أن هذا التفاوت مما يعثر عليه المكلف بأدنى تأمل لو لم يكن معانداً مصراً . ثم صرح بوجود القيامة قائلاً { إن الساعة لآتية } أدخل اللام في الخبر بخلاف ما في « طه » لأن المخاطبين ههنا شاكون بخلاف المخاطب هناك وهو موسى ، وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها . ومعنى { لا يؤمنون } لا يصدّقون بالبعث . ثم إنه كان من المعلوم أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بالطاعة فلا جرم أشار إليها بقوله { وقال ربكم ادعونى أستجب لكم } أكثر المفسرين على أن الدعاء ههنا بمعنى العبادة ، والاستجابة بمعنى الإنابة بقوله سبحانه { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله

{ إن يدعون من دونه إلا إناثاً } [ النساء : 117 ] روى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الدعاء العبادة » وقرأ هذه الآية . وجوّز آخرون أن يكون الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، ويراد بعبادتي دعائي لأن الدعاء باب من العبادة يصدّقه قول ابن عباس : أفضل العبادة الدعاء . وقد مرّ تحقيق الدعاء في سورة البقرة في قوله { أجيب دعوة الداع إذا دعان } [ الآية : 186 ] وقد فسره ابن عباس بمعنى آخر قال : وحدوني أغفر لكم . وفي الدعاء . قال جار الله : وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد . ومعنى { داخرين } صاغرين . وقال أهل التحقيق : كل من دعا الله وفي قلبه مثقال ذرة من المال والجاه وغير ذلك فدعاؤه لساني لا قلبي ولهذا قد لا يستجاب لأنه اعتمد على غير الله . وفيه بشارة هي أن دعاء المؤمن وقت حلول أجله يكون مستجاباً ألبتة لانقطاع تعلقه وقتئذ عما سوى الله . ثم إنه تعالى ذكر نعمته على الخلائق بوجود الليل والنهار وقد مر نظير الآية مراراً ولا سيما في أواخر « يونس » وأواسط « البقرة » . وكرر ذكر الناس نعياً عليهم وتخصيصاً لكفران النعمة بهم من بين سائر المخلوقات . وأما وجه النظم فكأنه يقول : إني أنعمت عليك بهذه النعم الجليلة قبل السؤال فكيف لا أنعم عليك بما هو أقل منه بعد السؤال؟ ففي تحريض على الدعاء . وأيضاً الاشتغال بالدعاء مسبوق بمعرفة المدعوّ فلذلك ذكر في عدّة آيات دلائل باهرة من الآفاق والأنفس على وحدانيته واتصافه بنعوت الكمال . قوله { ذلكم الله } إلى قوله { إلا هو } قد مر في « الأنعام » . قوله { كذلك يؤفك } أي كل من حجد بآيات الله ولم يكن طالباً للحق فإنه مصروف عن الحق كما صرفوا . قوله { فأحسن صوركم } كقوله { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] قوله { الحمد لله ربّ العالمين } إما استئناف مدح من الله تعالى لنفسه ، وإما بتقدير القول أي فادعوه مخلصين قائلين الحمد لله . قوله { لما جاءني البينات } شامل لأدلة العقل والنقل جميعاً . قوله { ثم لتبلغوا أشدكم } متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا . وأما قوله { ولتبلغوا أجلاً مسمى } فمتعلق بفعل آخر تقديره ونفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى هو الموت أو القيامة ، ورجاء منكم أن تعقلوا ما في ذلك من العبر .
وحيث انجر الكلام إلى ذكر الأجل وصف نفسه بأن الإحياء والإماتة منه ، ثم أشار بقوله { فإذا قضى } الخ إلى نفاذ قدرته في الكائنات من غير افتقار في شيء مّا إلى آلة وعدّة . وأشار إلى أن الإحياء والإماتة ليسا من الأشياء التدريجية ولكنهما من الأمور الدفعية المتوقفة على أمر كن فقط ، وذلك أن الحياة تحصل بتعلق النفس الناطقة بالبدن ، والموت يحدث من قطع ذلك التعلق ، وكل من الأمرين يحصل في آن واحد .

ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى خلق الإنسان الأوّل وهو آدم كقوله { خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] ثم عاد إلى ذم المجادلين وذكر وعيدهم قائلا { ألم تر } الآية والكتاب القرآن . وما أرسل به الرسل سائر الكتب . وقوله { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } ليس كقول القائل : سوف أصوم أمس . بناء على أن سوف للاستقبال وإذ للمضي ، لأن « إذ » ههنا بمعنى « إذا » إلا أنه ورد على عادة أخبار الله نحو { وسيق } [ الزمر : 73 ] { ونادى } [ الأعراف : 48 ] وقال المبرد : إذ صارت زماناً قبل سوف لأن العلم وقع منهم بعد ثبوت الأغلال . والمعنى علموا من الأغلال الذي كانوا أو عدوه من بعد أن حق بالوجود . ومعنى { يسجرون } قال جار الله : هو من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بها مملوءة أجوافهم منها . والحاصل أنهم يعذبون مرة بالماء الشديد الحرارة ومرة بالنار . وقال مقاتل : في الحميم يعني في حر النار { ثم قيل لهم } على سبيل التوبيخ { أينما كنتم } « ما » موصولة مبتدأ و « أين » خبرها . ومعنى { ضلّوا } غابوا وضاعوا ولم يصل إلينا ما كنا نرجوه من النفع والشفاعة ، وأكدوا هذا المعنى بقوله { بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً } يعتدّ به كما تقول : حسبت أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء أي ليس عنده خير . ومن جوّز الكذب على الكفار لم يحتج إلى هذا التأويل وقال : إنهم أنكروا عبادة الأصنام . ثم قال { كذلك يضل الله الكافرين } قالت الأشاعرة : أي عن الحجة والإيمان . وقالت المعتزلة : عن طريق الجنة بالخذلان . وقال في الكشاف : أي مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر . واعترض عليه بأنهم مقرونون بآلهتهم في النار لقوله { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] والجواب أن كون الجميع في النار لا ينافي غيبة أحدهما عن الآخر . وأجاب في الكشاف باختلاف الزمان وبتفسير الضلال بعدم النفع . { ذلكم } العذاب بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح أي النشاط { بغير الحق } وهو الشرك وعبادة الصنم . ويجوز أن يكون القول محذوفاً أي يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكل طائفة مقدّرين الخلود فيها { فبئس مثوى المتكبرين } يعني الذين مر ذكرهم في قولهم { إن في صدوركم إلاّ كبر } والمخصوص بالذم محذوف وهو مثواكم أو جهنم . قال جار الله : إنما لم يقل « فبئس مدخل المتكبرين » حتى يكون مناسباً لقوله { ادخلوا } كقولك : زر بيت الله فنعم المزار . لأن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء . وحين زيف طريقة المجادلين مرة بعد مرة أمر رسوله بالصبر على إيذائهم وإيحاشهم إلى إنجاز الوعد بالنصرة قال { فإما نرينّك بعض الذي نعدهم } من عذاب الدنيا فذاك { أو نتوفينك فإلينا يرجعون } هذا التقدير ذكره جار الله ، وقد مر في « يونس » مثله .

وأقول : لا بأس أن يعطف قوله { أو نتوفينك } على { نرينك } ويكون الرجوع إلى الله جزاء لهما جميعاً ومعناه : إنا نجازيهم على أعمالهم يوم القيامة سواء عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا . ثم سلاه بحال الأنبياء السابقة ليقتدي بهم في الصبر والتماسك فقال { ولقد أرسلنا } الآية . ذهب بعض المفسرين إلى أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً . وقيل : ثمانية آلاف ، نصف ذلك من بني إسرائيل والباقي من سائر الناس . ولعل الأصح أن عددهم لا يعلمه إلا الله لقوله تعالى { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } [ إبراهيم : 9 ] لكن الإيمان بالجميع واجب . عن علي رضي الله عنه . بعث الله نبياً أسود لم يقص علينا قصته . ثم إن قريشاً كانوا يقترحون آيات تعنتاً كما مر في أواخر « سبحان » وأول « الفرقان » وغيرهما فلا جرم قال الله تعالى { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله } بعذاب الدنيا أو بالقيامة . وقال ابن بحر : أمر الله الآية التي اقترحوها وذلك أنه يقع الاضطرار عندها { وخسر هنالك } أي في ذلك الوقت استعير المكان للزمان { المبطلون } وهم أهل الأديان الباطلة . ثم عاد إلى نوع آخر من دلائل التوحيد قائلاً { الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا } قال جار الله : ظاهر النظم يقتضي إدخال لام الغرض في القرائن الأربع أو خلو الكل عنها فيقال : لتركبوا ولتأكلوا ولتصلوا إلى منافع ولتبلغوا . أو يقال : منها تركبون ومنها تأكلون وتصلون وتبلغون إلا أنه ورد على ما ورد لأن الركوب قد يجب كما في الحج والغزو ، وكذلك السفر من بلد إلى بلد لهجرة أو طلب علم لا أقل من الندب فصح أن يكونا غرضين . وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا تتعلق به إرادته كثير تعلق شرعاً . وإنما قال { على الفلك } ولم يقل « وفي الفلك » مع صحته إذ هي كالوعاء إزدواجاً لقوله { وعليها } [ المؤمنون : 22 ] والحمل محمول على الظاهر . وقيل : هو من قول العرب : حملت فلاناً على الفرس إذا وهب له فرساً . ثم وبخهم بقوله { ويريكم آياته فأيّ آيات الله تنكرون } .
ثم حرضهم وزاد توبيخهم بقوله { أفلم يسيروا } الآية . وقد سبق . وقوله { فما أغنى عنهم } « ما » نافية أو استفهامية ومحلها النصب . وقوله { ما كانوا } مصدرية أو موصولة أي كسبهم أو الذي كسبوا . قوله { فرحوا } لا يخلو إما أن يكون الضمير عائداً إلى الكفار أو إلى الرسل .

وعلى الأول فيه وجوه منها : أنه تهكم بعلمهم الذي يزعمون كقولهم { وما أظن الساعة قائمة } [ الكهف : 36 ] { أئذا كنا تراباً وعظاماً أئنا لفي خلق جديد } [ ق : 4 ] ومنها أنه أراد بذلك شبهات الدهرية وبعض الفلاسفة كقولهم { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وحقروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم كما يحكى عن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له : لو هاجرت إليه؟ فقال : نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا . ويروى أن جالينوس قال لعيسى عليه السلام : بعثت لغيرنا . ومنها أن يراد علمهم بظاهر المعاش كقوله { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } [ الروم : 7 ] وذلك مبلغهم من العلم فرحوا به وأعرضوا عن علم الديانات . وعلى الثاني يكون معناه أن الرسل لما رأوا جهل قومهم وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم . ووجه آخر وهو أن يكون ضمير { فرحوا } للكفار وضمير { عندهم } للرسل أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء . ثم بين أن إيمان البأس وهو حالة عيان العذاب أو أمارات نزول سلطان الموت غير نافع وقد مر مراراً . ومعنى { فلم يك ينفعهم } لم يصح ولم يستقم لأن الإلجاء ينافي التكليف . وترادف الفاءات في قوله { فما أغني } { فلما جاءتهم } { فلما رأوا } { فلم يك } لترتيب الأخبار ولتعاقب المعاني من غير تراخٍ . وقال جار الله : فما أغنى نتيجة قوله { كانوا أكثر منهم } وقوله { فلما جاءتهم } جار مجرى البيان والتفسير لقوله { فلما أغنى } وقوله { فلما رأوا بأسنا } تابع لقوله { فلما جاءتهم } كأنه قال : فكفروا كقولك : رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء . وقوله { فلما رأوا بأسنا } آمنوا وكذلك { فلم يك } تابع لإيمانهم بعد البأس . قال أهل البرهان : وإنما قال ههنا { وخسر هنالك الكافرون } وفيما قبل { المبطلون } لأنه قال هناك { قضى بالحق } ونقيض الحق الباطل ، وههنا ذكر أن إيمان البأس غير مجد ونقيضه الكفر والله أعلم .


حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

القراآت : { سواء } بالرفع : يزيد . وقرأ يعقوب بالجر . الباقون : بالنصب { نحسات } بسكون الحاء : ابن كثير وأبو عمرو ونافع وسهل ويعقوب { وأما ثمود } بالنصب : المفضل { نحشر } بالنون { أعداء } بالنصب : نافع ويعقوب . الآخرون : بالياء مجهولاً { أعداء } مرفوعاً .
الوقوف : { حم } كوفي { الرحيم } 5 ج لأن قوله { كتاب } يصلح أن يكون بدلاً من { تنزيل } وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب . ويجوز أن يكون { تنزيل } هو مع وصفه مبتدأ { وكتاب } خبره { يعلمون } 5 ج لأن { وبشيراً } صفة أخرى ل { قرآناً } { ونذيراً } 5 ج لاختلاف الجملتين { لا يسمعون } 5 { عاملون } 5 { واستغفروه } ج { للمشركين } 5 لا { كافرون } 5 { ممنون } 5 { وأنداداً } ط { العالمين } 5 لا للآية مع العطف { أيام } ط لمن نصب { سواء } أو رفع ومن خفض لم يقف { للسائلين } 5 { كرهاً } ط { طائعين } 5 { أمرها } ج للعدول { بمصابيح } ج لحق المحذوف أي وحفظناها حفظاً ولعل الوصل أولى لما يجيء { وحفظاً } 5 { العليم } 5 { وثمود } 5 بناء على أن « إذ » يتعلق بمحذوف هو اذكر أو بمعنى الفعل في الصاعقة أي يصعقون إذ ذاك ، ولا يجوز أن يتعلق ب { أنذرتكم } { إلا الله } ط { كافرون } 5 { منا قوّة } ط { منهم قوّة } ط للفصل بين الإخبار والاستخبار { يجحدون } 5 { الدنيا } ج { لا ينصرون } 5 { يكسبون } 5 { يتقون } 5 { يوزعون } 5 { يعملون } 5 { علينا } ط { ترجعون } 5 { تعملون } 5 { الخاسرين } 5 { مثوى لهم } ط { المعتبين } 5 .
التفسير : { حم } قال بعضهم : الحاء من الحكمة ، والميم من المنة أي منّ على عباده بتنزيل الحكمة من الرحمن في الأزل ، الرحيم في الأبد وهي { كتاب فصلت آياته } أي ميزت أمثالاً ومواعظ وأحكاماً وقصصاً إلى غير ذلك . وقد مر في أوّل « هود » . وانتصب { قرآناً } على المدح والاختصاص أو على الحال الموطئة { لقوم يعلمون } أي لقوم عرب يفهمون معانيه يعني بالأصالة وللباقين بعدهم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم منهم فالدعوة تحصل أوّلاً لهم . والأظهر عندي أنه كقوله { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وذلك أنه لا ينتفع بالقرآن إلا أهل العلم به . قال أهل السنة : الصفات المذكورة ههنا للقرآن توجب شدة الاهتمام بمعرفته . والوقوف على معانيه بيانه أن كونه نازلاً من الرحمن الرحيم دليل على أن تنزيله رحمة للعالمين ، وفيه شفاء لأمراض القلوب ، وكونه كتاباً . والتركيب يدور على الجمع كما سبق في أول الكتاب يدل على أن فيه علوم الأوّلين والآخرين . وقوله { فصلت آياته } دليل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه { قرآناً عربياً } ولغة العرب أفصح اللغات مما يوجب أن تتوفر عليه الرغبات ولا سيما للعرب ومن داناهم . وكونه { بشيراً ونذيراً } يدل على أن الاحتياج إليه من أهم المهمات لأنه سعي في معرفة ما يوصل إلى الثواب الأبديّ ، ويخلص من العقاب السرمدي .

فإذا علم المخاطبون هذه الفوائد ثم أعرض أكثرهم عن القرآن ولم يسمعوه سماع قبول دل ذلك على أن المهديّ من هداه الله ومن يضلله فلا هادي له . ثم أكد بيان إعراضهم بقوله { وقالوا قلوبنا في أكنة } ولا يخفى أنه سبحانه ذكر هذا في معرض الذم فوجه الجمع بينه وبين قوله { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } [ الأنعام : 25 ] هو أن الذم إنما يتوجه على اعتقادهم أنهم إذا كانوا كذلك لم يجز تكليفهم ولا خطابهم بالأمر والنهي ، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء . قال جار الله : فائدة « من » في قوله { ومن بيننا وبينك حجاب } دون أن يقول « وبيننا » هو أن العبارة الثانية تدل على مطلق الحجاب ، ولكن العبارة الواردة في القرآن تفيد أن المسافة التي بينهم وبين رسول الله مملوءة من الحجاب لا فراغ فيها كأنه قيل : إن الحجاب ابتدأ منا ومنك . ثم حكى عنهم ما قالوا على سبيل التهديد أو التحلية { فاعمل } أي على دينك أو في إبطال ديننا { إننا عاملون } على ديننا أو في إبطال أمرك . ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم بقوله { إنما أنا بشر مثلكم } وتوجيه النظم إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبراً فإني بشر مثلكم ولا امتياز إلا أني أوحي إليّ بالتوحيد والأمر به ، فعليّ البلاغ وحده . ثم إن قبلتم قولي أثابكم الله وإلا عاقبكم . قال في الكشاف : أراد إن نبوّتي صحت بالوحي وإذا صحت وجب اتباعي ومن جملة ذلك القول بالتوحيد . ثم بين أن خلاصة الوحي ترجع إلى أمرين : الاستقامة والإقامة على التوحيد المتوجهين إلى الله والاستغفار من تقصير قد يقع في الطاعة . ثم هددّ أهل الشرك بقوله { وويل للمشركين } وقرن منع الزكاة بالكفر بالله أوّلاً وبالآخرة ثانياً ، لأن المال شقيق الروح ، وبه وببذله في سبيل الله يعرف الموافق من المنافق ، ففيه بعث شديد لأهل الإيمان على أداء الزكاة ، وفيه أن الشفقة على خلق الله قرينة التعظيم لأمر الله . وقيل : كانت قريش يطعمون الحاج ولا يطعمون المؤمنين فنزلت قاله الفراء . وقيل : أراد بالزكاة ههنا الإيمان لأنه يزكي النفس من دون الشرك . ثم ذكر جزاء المطيعين وهو ظاهر . والممنون المقطوع . وقيل : هو من المنة . قال جمع من المفسرين : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون .
لما حكى بعض قبائح المشركين وسائر الكفرة أراد أن يورد دليلاً على التوحيد فأمر رسوله أن يوبخهم بقوله { أئنكم لتكفرون بالذي } سمعتم ممن تصدّقونهم من أهل الكتاب غيركم أنه { خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً } عمم الكفر أوّلاً ثم خصص بنوع الشرك { وجعل فيها رواسي } ومعنى { من فوقها } أي بالنسبة إلى سكان المعمورة تذكيراً لنعمة فوق نعمة فإن الجبال منافعها أكثر من أن تحصى يعرف بعضها أهلها ولعلنا قد عددنا في أوّل « البقرة » طرفاً منها .

{ وبارك فيها } بوضع الخيرات الكثيرة فيها . قال ابن عباس : يريد شق الأنهار وخلق الجبال والأشجار والحيوانات وكل ما يحتاج إليه { وقدّر فيها أقواتها } عن مجاهد : يعني المطر فإنه بمنزلة الغذاء للأرض به حياتها . وعن محمد بن كعب : أراد أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم . وقيل : لا حاجة إلى الإضمار فإن الإضافة تحسن لأدنى ملابسة أي وقدر فيها أقواتها التي يختص حدوثها بها { في أربعة أيام } يعني مع اليومين الأوّلين فيكون إيجاد نفس الأرض في يومين وإيجاد هذه الأشياء في يومين آخرين والمجموع أربعة أيام وخلق السماء في تتمة ستة فتكون هذه الآية موافقة لسائر الآيات ، وقد سبق هذا المعنى في أوّل سورة البقرة . من قرأ { سواء } بالرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سواء . ثم إن كان الضمير للأربعة فمعناه أن تلك الأيام مستوية في الطول والقصر كأيام خط الاستواء ، أو هي تامة غير ناقصة بشيء فقد يطلق لفظ الكل على الأكثر ، وهذه إحدى فوائد العدول عن العبارة الصريحة وهي أن لو قال في يومين آخرين . وقال بعضهم : من فوائده أنه لا يجوز عطف قوله { وجعل } على { خلق } لأن قوله { وتجعلون } معطوف على { لتكفرون } ولا يجوز أن يحال بين صلة الموصول وما يعطف عليه بأجنبي لا يقال : جاءني الذي يكتب وجلس يقرأ فلا بدّ من إضمار فعل مثل الأول فتقدير الكلام : ذلك أن رب العالمين خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ، وهو كلام لا يرد عليه سؤال أصلاً . ومن قرأ بالجر فعلى وصف الأربعة بالاستواء والمعنى كما مر . ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر أي استوت استواء . ثم إن كان الضمير للأربعة فالمعنى كما قلنا ، وإن كان للأقوات . وكذا في قراءة الرفع احتمل أن يكون { للسائلين } متعلقاً به أي الأقوات والأرزاق سواء لمن سأل ولمن لم يسأل لما روى عن ابن عباس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا رديفه يقول : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ولمن لم يسأل ، وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق ، ومن سأل فهو جهل منه . واحتمل أن يكون قوله { للسائلين } متعلقاً بقوله { وقدّر } أي قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها وهم في الاحتياج سواء . وقيل : إنه متعلق بمحذوف كأنه قيل : هذا الحصر والبيان لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها ، لأن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك .

قوله { ثم استوى إلى السماء } أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء ، وقد مر في أول « البقرة » . قوله { وهي دخان } ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات . وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور ، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور . واعلم أن ظاهر قوله { ثم استوى } يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر . وفي الآثار ، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى { إن يسرق فقد } [ يوسف : 77 ] أي إن يكن يسرق . وزيف بأن الجمع بين « ثم » الدال على التأخر وبين إضمار « كان » الدال على التقدم جمع بين النقيضين . ويمكن أن يجاب بأن « ثم » ههنا لترتيب الأخبار . وقال الإمام فخر الدين الرازي : المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله { خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] فإن إيجاد الموجود محال . فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا . قلت : لو لم يكن قوله تعالى { وجعل فيها رواسي من فوقها } إلى قوله { أربعة أيام } لكان هذا التأويل له وجه . وقال بعض الصوفية : خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد ، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها ، وبارك فيها بالحواس الخمسة ، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي ، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطواراً سبعة كقوله { وقد خلقكم أطواراً } [ نوح : 15 ] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] ثم الحكمة « ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه » ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام الرباني . قوله { فقال لها وللأرض ائتيا } الآية .

للمفسرين فيه قولان : الأول إجراء الكلام على ظاهره فإنه ليس بمستبعد من الله إنطاق أيّ جسم فرض بل إيداع الحياة والفهم فيه ولهذا قال { طائعين } على لفظ جمع المذكر السالم ، فإن جمع المؤنث السالم لا يختص بالعقلاء . ووجه الجمع أن أقل الجمع اثنان أو لأن كل واحد منهما سبع . ومن هؤلاء من قال : نطق من الأرض موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض . وعلى هذا القول لا بد أن يكون هذا التخاطب بعد الوجود فقالوا : معناه ائتيا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فاخرجي ما خلقت فيك من النبات فقالتا : جئنا بما أحدثت فينا مستجيبين لأمرك . ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما يقال : أتى عمله مرضياً . ويجوز أن يراد لتأت كل منكما صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة من كون الأرض قراراً والسماء سقفاً لها . وقوله { طوعاً أو كرهاً } إظهار لكمال القدرة والتقدير أبيتما أو شئتما كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو كارهين . والقول الثاني أن هذا تمثيل لنفوذ قدرته فيهما ولا قول ثمة ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون المقصود إيجادهما على وفق إرادته وهما في حيز العدم ، وأن يكون المراد ما تقدم . وقال بعضهم : الطوع يرجع إلى السماء لأن أحوالها على نهج واحد لا يختلف . وشبه مكلف مطيع والكره يعود إلى الأرض لأنها مكان تغيير الأحوال ومحل الحوادث والمكاره . قلت : لعل هذين الوصفين لهما باعتبار سكانهما . قوله { فقضاهن } قضاء الشيء إتمامه والفراغ منه مع الإتقان . والضمير إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سموات سبع . وانتصب { سبع سموات } على الحال . وإما مبهم مميز بما بعده . يروى أنه خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين ، وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم وأسكنه الجنة وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة . { وأوحى في كل سماء أمرها } أي أمر أهلها من العبادة والتكليف الخاص بكل منهم ، فبعضهم وقوف وبعضهم ركوع وبعضهم سجود ، وعلى هذا احتمل أن يكون خلق الملائكة مع السموات وقبلها . وقيل : الإيحاء ههنا التكوين والإيجاد وأمرها شأنها وما يصلحها { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } أي بالنيرات المضيئة كالمصباح { وحفظناها } حفظاً من الشياطين المسترقة للسمع كما مرّ مراراً . وجوّز جار الله أن يكون { حفظاً } مفعولاً له على المعنى كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة { وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم } فلكمال عزته قدر على خلق ما خلق ولشمول علمه دبر ما دبر .
ثم قال لنبيه عليه السلام { فإن أعرضوا } عن التوحيد بعد هذا البيان الباهر والبرهان القاهر { فقل أنذرتكم صاعقة } لأن الإصرار على الجهل بعد وضوح الحق عناد ، ولا علاج للمعاند سوى التأديب بما يناسبه .

يروى أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره . فقال عتبة بن ربيعة : أنا ذاك . فأتاه وقال : أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا . وعرض عليه الرياسة والنساء والأموال إن ترك ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بسم الله الرحمن الرحيم } إلى قوله { مثل صاعقة عاد وثمود } فهال عتبة بذاك وناشده بالرحم ورجع ولم يأت قريشاً . فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صبأ . فانطلقوا إليه فقال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ولما بلغ { صاعقة عاد وثمود } ناشدته بالرحم أن يكف . ولقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب . فإن قيل : كيف يصح هذا الإنذار وقد أخبر الله سبحانه في قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] وإن هذه الأمة آمنون من العذاب؟ قلنا : الأنفال مدنية وهذه مكية . قوله { إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم } قيل : الضميران عائدان إلى الرسل أي جاءهم رسل بعد الرسل . وقيل : من بين أيديهم أي حذروهم الدنيا { ومن خلفهم } الآخرة . وقيل : من بين أيديهم الذين عاينوهم ، ومن خلفهم الذين وصل إليهم خبرهم وكتبهم . وحقيقة بين يديه أن يستعمل للشيء الحاضر ، ومجازه أن يستعمل للشيء الماضي بزمان قريب . وقال بعض المحققين : معناه أتاهم الرسل من كل جهة وأعملوا في إرشادهم كل حيلة { أن لا تعبدوا } ويجوز أن تكون « أن » مفسرة أو مخففة وضمير الشأن مقدر . والفاء في قوله { فإنا } للجزاء كأنه قيل : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فانا لا نؤمن بكم . وقولهم { ربنا } وكذا بما أرسلتم أي على زعمكم ، أو أرادوا التهكم . ثم فصل حال كل فريق قائلاً { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق } وهذا إخلال بالشفقة على الخلق { وقالوا من أشد منا قوّة } وهذا إخلال بالتعظيم لأمر الله ولهذا وبخهم بقوله { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوة } لأن الفاعل والعلة أقوى من القابل والمعلول ، والقوة في الإنسان نتيجة صحة البنية والاعتدال وحقيقتها زيادة القدرة فلذلك جاز أن يقال : الله أقوى منهم كما صح أن يقال : الله أقدر ، الله أكبر . وإن كان لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . وقوله { وكانوا بآياتنا يجحدون } معطوف على قوله { فاستكبروا } وقالوا : إن التوبيخ المذكور وقع اعتراضاً في البين .

ثم أخبر عن إهلاكهم والصرصر الريح الباردة الشديدة ضوعفت من الصر بالكسر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض ، أو من صرير الباب . والتركيب يدور على الضم والجمع . عن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي ومع ذلك أهلكت الكل . والأيام النحسات هي التي فسرها الله سبحانه في الحاقة { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام } [ الآية : 7 ] والنحس بالسكون ضد السعد وهو إما مخفف نحس بالكسر أو هو أصل في نفسه كضخم ، أو وصف لمصدر . واستدل به بعض الأحكاميين على أن بعض الأيام يصح وصفه بالسعادة وبعضها بضدها . وأجاب بعض المتكلمين بأن المراد بالنحوسة كونها ذات غبار وتراب وبرد . والإنصاف أنه تكلف خارج عن قانون اللغة . والإضافة في قوله { عذاب الخزي } كهي في قولك : رجل صدق . وقوله { ولعذاب الآخرة أخزى } من الإسناد المجازي فإن الذل والهوان لصاحبه . قوله { وأما ثمود } مرتفع على الابتداء . قوله { فهديناهم } خبره قال سيبويه : هذا أفصح لأن أما من مظان وقوع المبتدأ بعده . وقرىء بالنصب إضماراً على شريطة التفسير . واتفقوا على أن المراد بالهداية ههنا الدلالة المجردة لقوله بعده { فاستحبوا العمى } يعني عمى البصيرة وهي الضلالة { على الهدى } إلا أن المعتزلة تأوّلوه بأنه إنما شاع استعماله في الدلالة المجردة لأنه مكنهم وأزاح علتهم فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها . على أن المراد المعقولة ونقيضها ، وقد مر هذا البحث في أول « البقرة » في قوله { هدى للمتقين } [ الآية : 2 ] وصاعقة العذاب داهيته وقارعته ، والهون مصدر بمعنى الهوان وصف به العذاب مبالغة ، أو أبدله منه وكسبهم شركهم وتكذيبهم صالحاً وعقرهم الناقة . ثم بين أحوال الذين آمنوا واتقوا المعاصي بقوله { ونجينا } الآية . وحين بين عقوبتهم في الدنيا أخبر عن عذابهم وعذاب أمثالهم في الآخرة فقال { ويوم يحشر } الآية . والعامل فيه « اذكر » محذوفاً ، أو هو ظرف لما يدل عليه { يوزعون } كأنه قيل : يمنعون يوم يحشر فيحبس أوائلهم حتى يلحق بهم أواخرهم . قال جار الله : هو عبارة عن كثرة أهل النار . قلت : وذلك لأن الإيزاع لا يحتاج إليه إلا عند كثرة العدد كما مر في « النحل » . وما الإبهامية في قوله { حتى إذا ما جاؤها } تفيد التأكيد . وهو أن عند وقت مجيئهم لا بد أن تحصل هذه الشهادة وشهادة الجلود بملامسة ما هو محرم . وعن ابن عباس : المراد شهادة الفروج فيكون كناية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « أوّل ما يتكلم من الآدميّ فخذه وكفه » وفيه وعيد شديد في فعل الزنا لأن مقدمته تحصل بالكف ونهايته تكون بمساعدة الفخذ . قوله { أنطق كل شيء } من العمومات المخصوصة أي ممن يصح النطق منه . والمراد أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى في الدنيا ، ثم خلقكم وإنطاقكم مرة أخرى ، وثالثة في القبر وفي القيامة ، كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟ وقد مر تمام البحث في « يس » .

عن ابن مسعود قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال آخر : إذا رفعنا أصواتنا يسمع وإلا لم يسمع . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا رفعنا أصواتنا يسمع إذا خفضنا . فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل { وما كنتم تستترون } الآية . وذلك أنهم كانوا يستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب القبائح فقيل لهم : ما كان استتاركم ذلك خفية أن تشهد عليكم جوارحكم هذه ، لأن ذلك غير ممكن فإنها متصلة بكم وهي أعوانكم ومع ذلك لم يكن استتاركم في اعتقادكم أنها تشهد عليكم ولكنكم استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم . وفيه ردّ على بعض الجهلة الذين يستخفون من الناس ولا يمكنهم الاستخفاء من الله ، وفيه تنبيه على أن المؤمن يجب عليه أن يكون في أوقات خلواته أهيب لربه وأوفر احتشاماً ومراقبة . ثم أخبر { فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } ولا ينتج الصبر لهم فرجاً وخلاصاً { وإن يستعتبوا } يطلبوا من الله الرضا عنهم { فما هم من المعتبين } أي من المرضيين . والمراد أنهم باقون في مكروههم أبداً ، سكتوا أو نطقوا . قال الضعيف مؤلف الكتاب : إذا كان هذا وعيد من ظن أنه يمكن إخفاء بعض الأعمال من الله بالأستار والحجب فما ظنكم بوعيد من جزم أنه سبحانه غير عالم بالجزئيات نعوذ بالله من هذا الاعتقاد والله أعلم .


وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم القراآت : { ربنا أرنا } بسكون الراء : ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ورويس أبو عمرو بالاختلاس . الآخرون : بكسر الراء . { اللذين } بتشديد النون : ابن كثير . { يلحدون } بفتح الياء والحاء : حمزة . الباقون : بضم الياء وكسر الحاء { أعجمي } بهمزة واحدة : هشام . وقرأ بتحقيق الهمزتين : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص إلا الخزاز . الباقون : بالمد { ثمرات } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل . { شركاي } مثل { من وراي } على وزن { عصاي } قد مر في سورة مريم { إلى ربي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { ونأى بجانب } وقد مر في السورة { سبحان الذي أسرى } .
الوقوف : { والإنس } ج للابتداء بأن مع احتمال كونه جواب القسم في حق { خاسرين } 5 { تغلبون } 5 { يعملون } 5 { النار } ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً أي كائناً لهم فيها { دار الخلد } ج { يجحدون } 5 { الأسفلين } 5 { توعدون } 5 { وفي الآخرة } ج لانقطاع النظم بتقدير الجار مع اتحاد المقول { تدعون } 5 ط لحق المحذوف أي أصبتم أو وجدتم نزلاً { رحيم } 5 { المسلمين } 5 { السيئة } ط { حميم } 5 { صبروا } ج لاتفاق الجملتين مع تكرارها للتوكيد { عظيم } 5 { بالله } ط { العليم } 5 { والقمر } ط { تعبدون } 5 { يسأمون } 5 سجدة { اهتزت وربت } ط { الموتى } ط { قدير } 5 { علينا } ط { القيامة } ط { شئتم } 5 لا ليكون ما بعده دالاً على أنه أمر تهديد { بصير } 5 { لما جاءهم } ج لأن خبر أن محذوف فيتقدر ههنا أو بعد قوله { من خلفه } كما يجيء { عزيز } 5 لا لاتصال الصفة { من خلفه } ط { حميد } 5 { من قبلك } ط { أليم } 5 { وآياته } ط { وعربي } ط { وشفاء } ط { عمى } ط { بعيد } 5 { فيه } ط { بينهم } ط { مريب } 5 { فعليها } ط { للعبيد } 5 { الساعة } ط { بعلمه } ط ج { شركائي } لا لأن { قالوا } عامل { يوم } { آنذاك } لا لأنه في معنى القول وقع على الجملة بعده { من شهيد } 5 ج للآية مع العطف { محيص } 5 { الخير } ز لاختلاف الجملتين إلا أن مقصود الكلام يتم بهما { قنوط } 5 { هذا لي } لا تحرز إعمالاً يقوله مسلم قائمة كذلك { للحسنى } 5 ج لابتداء الأمر بالتوكيد مع فاء التعقيب { عملوا } إمهالاً للتذكر في الحالتين مع اتفاق الجملتين { غليظ } 5 { بجانبه } ج فصلاً بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين { عريض } 5 { بعيد } 5 { الحق } ط { شهيد } 5 { ربهم } ج { محيط } 5 .
التفسير : لما ذكر وعيد الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر . ومعنى { قيضنا } سببنا لهم من حيث لا يحتسبون أو قدرنا أو سلطنا وأصله من القيض وهو البدل ، والمقايضة المعاوضة كأن القرينين يصلح كل منهما أن يقوم مقام الآخر .

والقرناء إخوانهم من الشياطين جمع قرين { فزينوا لهم ما بين أيديهم } وهو الدنيا وما فيها من الشهوات { وما خلفهم } وهو الآخرة بأن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب وقيل : ما بين أيديهم أعمالهم التي عملوها ، وما خلفهم ما عزموا على فعله وزينوا لهم فعل مفسدي زمانهم والذين تقدم عصرهم . والآية على مذهب الأشاعرة واضحة . وقالت المعتزلة : معناها أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين . ومعنى { في أمم } كائنين في جملة أمم وقد مر في أوائل الأعراف كانوا يقولون إذا سمعتم القرآن من محمد فارفعوا أصواتكم باللغو وهو الساقط من الكلام فنزلت { وقال الذين كفروا } الآية . يقال : لغى بكسر الغين يلغى بالفتح ، ولغا يلغو فلهذا قرىء بالضم أيضاً ، والمقصود أنهم علموا أن القرآن كلام كامل لفظاً ومعنى ، وكل من سمعه ووقف على معانيه وأنصف حكم بأنه واجب القبول فدبروا هذا التدبير الفاسد وهو قول بعضهم لبعض { لا تسمعوا لهذا القرآن } إذا قرىء وتشاغلوا عن قراءته برفع الصوت بالمكاء والهذيان والرجز { لعلكم تغلبون } القارىء على قراءته فلا يحصل غرضه من التفهيم والإرشاد . وحين حكى حيلتهم ذكر وعيدهم بقوله { فلنذيقن } الآية . والمضاف في قوله { أسوأ } محذوف أي جزاء أسوأ الذي ولذلك أشار اليه بقوله { ذلك جزاء أعداء الله } وقوله { النار } بدل من الجزاء أو خبر مبتدأ مضمر . و { دار الخلد } موضع المقام . قال الزجاج : هو كما يقول لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها وقد وضع قوله { بما كانوا بآياتنا يجحدون } موضع أن لو قال بما كانوا يلغون إقامة للسبب مقام المسبب ثم حكى عنهم ما سيقولون في النار وهو قولهم { ربنا أرنا } أي أبصرنا { اللذين أضلانا من الجن والإنس } وذلك أن الشياطين ضربان : جني وإنسي ، وقد ورد في القرآن كثيراً ، وقيل : هما إبليس الذي سن الكفر ، وقابيل الذي سن القتل . ومن قرأ بسكون الراء فلثقل الكسرة . وقد يقال : معناه إذ ذاك أعطناه . وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه ، وإذا قلت بالسكون فهو بمعنى الإعطاء ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء وأصله الإحضار . { نجعلهما تحت أقدامنا } أي نطأهما إذلالاً وإهانة { ليكونا من الأسفلين } الأذلين وقيل : في الدرك الأسفل . وتأوله بعض حكماء الإسلام بأنهما الشهوة والغضب المشار إليهما في قوله { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] كأنهم سألوا توفيق أن يجعلوا القرينين تحت قدم النفس الناطقة .
وحين أطنب في الوعيد أردفه بالوعد على العادة المستمرة فقوله { ربنا الله } إشارة إلى العلوم النظرية التي هذه المسألة رأسها وأصلها . وقوله { ثم استقاموا } إشارة إلى الحكمة العملية وجملتها الاستقامة على الوسط دون الميل إلى أحد شقي الإفراط والتفريط كما سبق تقرير ذلك في تفسير قوله

{ اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 5 ] ومعنى « ثم » تراخي الاستقامة في الرتبة عن الإقرار ، وفيه أن حصول العلوم النظرية بدون القسم العملي كشجرة بلا ثمرة . وقال أهل العرفان : قالوا ربنا الله يوم الميثاق في عالم الأرواح ، ثم استقاموا على ذلك في عالم الأشباح . وعن أبي بكر الصديق : معناه لم يلتفتوا إلى إله غيره . { تتنزل عليهم الملائكة } عند الموت أو عنده وفي القبر وفي القيامة . و « أن » مفسرة أو مخففة . ولقد فسرنا الخوف والحزن مراراً والإبشار لازم . قال الجوهري : يقال بشرته بمولود فأبشر إبشاراً . وقوله { ألا تخافوا ولا تحزنوا } إشارة إلى رفع المضار في المآل وفي الحال . وقوله { وأبشروا } إخبار عن حصول المنافع . وقوله { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا } يقابل قوله { وقضينا لهم قرناء } فللملائكة تأثيرات في الأرواح بالإلهامات الحسنة والخواطر الشريفة كما للشياطين تأثيرات بإلقاء الوساوس والهواجس ، وقد تقدم في أول الكتاب في تفسير الاستعاذة . وإذا كانت هذه الولاية ثابتة في الدنيا بحكم المناسبة النورية كانت بعد الموت أقوى وأظهر لزوال العلائق الجسمانية . وقيل : في الحياة الدنيا بالاستغفار . { وفي الآخرة } بالشفاعة . وقيل : كنا نحفظكم في الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } يعني الحظوظ الجسمانية { ولكم فيها ما تدعون } أي تمنون من المواهب الروحانية ، وقد مر في « يس » سائر الوجوه . والنزل ما يهيأ للضيف وقد مر . وفي ذكر الغفور الرحيم ههنا مناسبة لا تخفى . قال أهل النظم إن القوم لما أتوا بأنواع السفاهة والإيذاء كقولهم { قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] { لا تسمعوا لهذا القرآن } حرض سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على مواظبة التبليغ والدعوة واحتمال أعباء الرسالة والتزام السيرة الفاضلة إظهار المزيتة على الجهال وتحصيلاً للغرض بالرفق واللطف ما أمكن فقال { ومن أحسن قولاً } ووجه آخر في النظم وهو أنه لما مدح الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وذكر جزاءهم وهم أهل الكمال ، أراد أن يبين حال المشتغلين بتكميل الناقصين . زعم بعض المفسرين أن المراد بهذا الدعاء الأذان ، والعمل الصالح الصلاة بين الأذان والإقامة ، ورفعوه إلى عائشة . والأصح أنه عام لجميع الأئمة والدعاة إلى طاعة الله وتوحيده ، ولا ريب أن مصطفاهم ومقتداهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وبعده العلماء بالله وهم الحكماء المتألهون ، وبعدهم العلماء بصفات الله وهم الأصوليون ، ثم العلماء بأحكام الله وهم الفقهاء ، ثم الملوك العادلون الذين يدعون إلى الله بالسيف والسبب . وفي الاستفهام الإنكاري دلالة على أنه لا قول أحسن من الدعاء إلى الله فمن زعم أنه الأذان ذهب إلى أنه واجب وإلا لكان الواجب أحسن منه .

ونوقض بأنا نعلم بالدلائل اليقينية أن الدعوة إلى الدين القويم بالحجة أو السيف أحسن من الأذان فلا يدخل الأذان تحت الآية . قال جار الله : ليس معنى قوله { وقال إنني من المسلمين } أنه تكلم بهذا الكلام ، ولكن المراد أنه جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده كما تقول : هذا قول أبي حنيفة . وقال آخرون : أراد به التلفظ به تفاخراً بالإسلام وتمدحاً . وزعموا أن فيه إبطال قول من جوز : أنا مسلم إن شاء الله . فإنه لو كان ذلك معتبراً لورد في الآية كذلك ولا يخفى ضعفه ، فإن التجويز غير الإيجاب . ثم صبر رسوله صلى الله عليه وسلم على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء أي الدين بل في مطلق أمور التمدن فقال { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } « لا » زائدة لتأكيد نفي الاستواء ، والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة قط ومثالهما الإيمان والشرك والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف ثم إن سائلاً كأنه سأل : فكيف نصنع؟ فأجيب { ادفع بالتي هي أحسن } فإن الحسنة أحسن من السيئة كما يقال : الصيف أحر من الشتاء وذهب صاحب الكشاف إلى أن « لا » غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة . مثاله : رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إسائته . قال : ومن جعل « لا » مزيدة فالقياس على تفسيره أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة . ولكنه وضع أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها . قال العارفون : الحسنة التوجه إلى الله بصدق الطلب ، والسيئة الالتفات إلى غيره . { فإذا الذي } إذا فعلت ذلك انقلب عدوك ولياً مصافياً . قال مقاتل : نزلت في أبي سفيان وكان مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يتحاب بعد ذلك لما رأى من لطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطفه . ثم مدح هذه السيرة وأهلها بقوله { وما يلقاها إلا الذين صبروا } أي لا يعمل بها إلا كل صبار على تجرع المكاره . { وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا يتأثر من الواردات الخارجية ، وقد يفسر الحظ العظيم بالثواب الجزيل . وعن الحسن : ما عظم حفظ دون الجنة . ثم ذكر طريقاً آخر في دفع الغضب والانتقام قائلاً { وإما ينزغنك } وقد مر في آخر الأعراف . والمعنى إن صرفك الشيطان عما أمرت به فاستعذ بالله من شره وإنما قال ههنا { إنه هو السميع العليم } بالفصل وتعريف الخبر ليكون مناسباً لما تقدّمه من قوله { وما يلقاها } مؤكداً بالتكرار وبالنفي والإثبات ولم يكن هذا المقتضى في الأعراف فجاء على أصل الاسم معرفة والخبر نكرة .

وحين ذكر أن أحسن الأقوال هو الدعوة إلى الله بين الدلائل على وجوده فقال { ومن آياته } الخ . والضمير في { خلقهن } للآيات أو الليل وما عطف عليه . ولم يغلب المذكر لأن ذلك قياس مع العقلاء . وفي قوله { إن كنتم إياه تعبدون } تزييف لطريقة الصابئين وسائر عبدة الكواكب جهلاً منهم وزعماً أنها الواسطة بين الخلق والإله ، فنهوا عن هذا التوسيط لأن ذلك مظنة العبادة المستقلة لرفعة شأنها وارتفاع مكانها ، وهذا بخلاف التوجه في الصلاة إلى القبلة فإن الحجر قلما يظن به أنه معبود بالحق والجزم حاصل بأنه لتوحيد متوجهات المصلين عند صلاتهم مع أن للبيت شرفاً ظاهراً في نفسه { فإن استكبروا } عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر { فالذين عند ربك } عندية بالشرف والرتبة وهم الملائكة المقربون { يسبحون له بالليل والنهار } أي على الدوام والاستمرار { وهم لا يسأمون } من السآمة والملالة . والحاصل أنهم إن يمتثلوا ما أمروا به ونهوا عنه وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن ربك لا يعدم عابداً مخلصاً .
ولما فرغ من تقرير الآيات السماوية شرع في الدلائل الأرضية فقال { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } وأصل الخشوع التذلل فاستعير للأرض التي لا خضرة بها ولا نفع كما وصفها بالهمود وقد مرّ في سورة الحج ، وذلك أنها إذا اهتزت وربت أي انتفخت حين يهم النبت بالخروج منها كانت بمنزلة المختال في زيه وهي قبل ذلك كالفقير الكاسف البال المتلبس بثوب أطمار . وبعد تقرير الدلائل الباهرة ذكر وعيد الملحدين في آياته المنحرفين عن الجادة والوعيد قوله { لا يخفون علينا } وكفى به وعيداً . ثم أكده بالاستفهام على سبيل التقرير وهو قوله { أفمن يلقى } الخ . وقوله { يوم القيامة } ظرف لآمنا أو ليأتي . ثم هددهم بقوله { اعملوا ما شئتم } الخ . ثم أبدل من قوله { إن الذين كفروا بالذكر } أي القرآن لأنهم بكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا معانيه ، وعلى هذا فالخبر هو ما تقدم من قوله { لا يخفون } وإنه كلام مستأنف . وعلى هذا فاختلفوا في خبر « إن » . فالأكثرون على أنه { أولئك ينادون } وما بينهما اعتراض من تتمة الذكر . وقيل : خبره ما يقال إذ التقدير ما يقولون لك . وقيل : هو محذوف . ثم اختلفوا فقال قوم : إن الذين كفروا بالذكر كفروا لما جاءهم . وقال آخرون : هلكوا أو يجازون بكفرهم ونحو ذلك ، وهذا يمكن تقديره بعد قوله { لما جاءهم } وبعد قوله { من خلفه } وبعد قوله { حميد } والعزيز معناه الغالب القاهر بقوة حجته على ما سواه من الكتب ، والمراد أنه عديم النظير لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته . ثم أكد هذا الوصف بقوله { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } قال جار الله : وهو تمثيل أي لا يتطرق البطلان إليه بجهة من الجهات فلا ينقص منه شيء ولا يزاد عليه شيء .

وقيل : أراد أنه لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ولن يجيء بعده ما يخالفه . وقد يحتج أبو مسلم بالآية على عدم وقوع النسخ في القرآن زعماً منه أن النسخ نوع من البطلان ، ولا يخفى ضعفه فإن بيان انتهاء حكم لا يقتضي إبطاله فإنه حق في نفسه ومأمور به في وقته . { تنزيل } أي هو منزل { من } إله { حكيم } في جميع أفعاله { حميد } إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه . ثم سلى نبيه عليه السلام بقوله { ما يقال لك } وفيه وجهان : أحدهما ما يقول لك كفار قريش إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من المطاعن فيهم وفي كتبهم . { إن ربك لذو مغفرة } للمحقين { وذو عقاب أليم } للمبطلين ، ففوض الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به من الدعاء إلى دينه . وثانيهما ما يقول لك الله إلا مثل ما قال لغيرك من الرسل من الصبر على سفاهة الأقوام وإيذائهم . ويجوز أن يكون المقول هو قوله { إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب } فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخشاه أهل عصيانه . كانوا يقولون : لولا أنزل القرآن بلغة العجم تعنتاً منهم فأجابهم الله بقوله { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا } معترضين منكرين { لولا فصلت آياته } أي بينت بلسان نفهمه . أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي؟ وإنما جاز هذا التقدير الثاني مع أن المرسل إليهم كثيرون وهم غير أمة العرب ، لأن الغرض بيان تنافر حالتي القرآن ، والذين أنزل القرآن إليهم من العجمية والعربية لا بيان أنهم جمع أو واحد كما تقول : وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة اللباس طويل واللابس قصير . ولو قلت : واللابسة قصيرة جئت بما هو أفضل . ومن قرأ بغير همزة الاستفهام فعلى حذفها أو على الإخبار بأن القران أعجمي والرسول أو المرسل إليه عربي ، والغرض أنهم لعنادهم لا ينفكون عن المراء والاعتراض سواء كان القرآن عربياً أو أعجمياً . وفيه إفحام لهم وجواب عن قولهم { قلوبنا في أكنة } فإن القرآن إذا كان بلغتهم وهم فصحاء وبلغاء فكيف لا يفهمونه إلا إذا كان هناك مانع إلهي ولذلك قال { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } لداء الجهل { والذين } أي وللذين { لا يؤمنون في آذانهم وقر } وهذا التقدير عند من يجوز العطف على عاملين ، ومن لم يجوز زعم أن الرابط محذوف تقديره : والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر أو في آذانهم منه . وقرأ والذين لا يؤمنون به الخ . والحاصل أنهم لعدم انتفاعهم بالقرآن كأنهم صم عمي . ثم أكد هذا المعنى بقوله { أولئك ينادون من مكان بعيد } فلهذا لا يسمعون النداء أي مثلهم كمثل الشخص الذي ينادي من بعد فلا يسمع ، وإن سمع لم يفهم .

ثم شبه حال القرآن بحال الكتب المتقدمة في أنها اختلف فيها كما اختلف فيه إلا أنه خص كتاب موسى بالذكر لكثرة أحكامه وعجيب قصته . والكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وتأخر العذاب والقضاء بين المصدقين والمكذبين إلى وقتئذ . ثم ذكر أن جزاء كل أحد يختص به سواء كان له أو عليه وأن الله لا يظلم أحداً ثم كان لسائل أن يسأل : متى القيامة التي يتعلق بها الجزاء فقال { إليه } لا إلى غيره { يرد علم الساعة } أي إذا سأل عنها . قيل : لا يعلمها إلا هو . ثم عمم بعد هذا التخصيص وذكر مثالين يعرف منهما أن علم جميع الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا له سبحانه . والكم بكسر الكاف وعاء الثمرة . ثم ذكر من أحوال القيامة طرفاً آخر فقال { ويوم يناديهم أين شركائي } وهو نداء تهكم أو توبيخ كما مر مراراً { قالوا آذناك } قال ابن عباس : أي أسمعناك من أذن بالكسر أذناً بالفتح إذا استمع . وقال الكلبي : أعملناك قال الإمام فخر الدين الرازي : هو بعيد لأن أهل القيامة يعلمون أنه تعالى يعلم الأشياء علماً واجباً ، فالإعلام في حقه محال . قلت : لو أريد أظهرنا معلومك أين الاستبعاد؟ والمعنى ظهر وحصل في الواقع من جهة قولنا ما كان ثابتاً في علمك القديم أنا سنقوله كقوله { ولما يعلم الله الذين جاهدوا } [ آل عمران : 142 ] أي لم يحصل بعد معلومه في الواقع وقد مر . وقولهم { آذناك } ماض في معنى المستقبل على عادة القرآن أو إنشاء للإيذان أو إخبار عما قيل لهم قبل ذلك فإنه يمكن أن يعاد عليهم هذا الاستفهام مرات لمزيد التوبيخ . ومعنى { ما منا من شهيد } ليس منا من يشهد اليوم بأنهم شركاؤك لأنا عرفنا عياناً أنه لا شريك لك . أو هو كلام الشركاء أحياها الله وأنطقها فتبرأ مما أضيف إليها من الشركة . ومعنى الضلال على هذا التفسير عدم النفع ، ويجوز أن يراد ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم غابوا عنا . ومعنى { يدعون } يعبدون . والظن بمعنى اليقين ، والمحيص المهرب . وحين بين أن الكفار تبرؤا في الآخرة من شركائهم بعد أن كانوا مصرين في الدنيا على عبادتهم ، بين أن الكافر تبدله في حالاته كلي أو أكثري . ففي حالة الإقبال لا يسأم من طلب الجاه والمال ، في حالة الإدبار يصير في غاية اليأس والانكسار ، وإن عاودته النعمة بعد يأسه فلا بد أن يقول هذا إنما وجدته باستحقاق لي وهذا لا يزول عني ويبقى علي وعلى عقبي وأنكر البعث ، وعلى فرض وجوده زعم بل جزم أن له عند الله الحالة الحسنى قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا ، ونظير الآية ما سبق في سورة الكهف { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً } [ الآية : 36 ] فلا جرم خيب الله أمله وعكس ما تصوره بقوله { فلننبئن } وحين حكى قول الكافر أخبر عن أفعاله بقوله { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } أي تعظم وتجبر .

وقد سلف في « سبحان » . واستعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه ، وقد يستعار الطول لكثرة الدعاء ودوامه أيضاً وإن لم يكن الشيء ذا جزم كما استعير الغلظ لشدة العذاب . فإن قيل : كيف قال أولاً { فيؤس قنوط } ثم قال { فذو دعاء عريض } ؟ قلنا : أراد أنه يؤس بالقلب دعاء باللسان ، أو قنوط من الصنم دعاء الله ، أو الأول في قوم والثاني في آخرين .
ولما ذكر مرات في السورة مبالغة الكفار في العداوة والنفرة من اتباع الرسول والقرآن أرشدهم إلى طريق أحوط مما فيه فقال { قل أرأيتم } الآية . وتقريره أنكم كما سمعتم القرآن أعرضتم عنه ثم كفرتم به حتى قلتم { قلوبنا في أكنة } [ فصلت : 5 ] { لا تسمعوا لهذا القرآن } ومن المعلوم أن هذا ليس ببديهي فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً وحينئذ يلزم أن يكون بعدم قبوله العقاب الأبدي . وقوله { ممن هو في شقاق بعيد } من وضع الظاهر مقام المضمر وهو منكم بياناً لبعد شوطهم في الشقاق والخلاف قاله في الكشاف . وأقول : جواب الشرط بالحقيقة محذوف وهو قوله مثلاً فمن أضل منكم . وإنما قال في الأحقاف { وكفرتم } [ الآية : 10 ] بالواو لأن معناه في السورة كان عاقبة أمركم بعد الإمهال للنظر الكفر فحسن دخول « ثم » مع أنها تفيد التراخي في الرتبة ، وهناك عطف عليه قوله { وشهد شاهد } فلم يحسن إلا الواو . ثم بين أن الإسلام يعلو ولا يعلى وأن الغلبة والنصرة تكون لذويه فقال { سنريهم آياتنا في الآفاق } وهي الفتوح الواقعة على أيدي الخلفاء الراشدين والتي ستقع على أيدي أنصار دينه إلى يوم القيامة . { وفي أنفسهم } وهي فتح مكة وسائر الفتوح التي وجدت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم { حتى يتبين لهم أنه } أي محمداً أو القرآن أو الدين { الحق } ووجه التبين أن هذا إخبار عن الغيب فإذا وقع مطابقاً دل على صدق المخبر بل إعجازه . وواحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض والسماء . وعند المحققين الآيات الآفاقية هي الخارجة عن حقيقة الإنسان وبدنه كالأفلاك والكواكب والظلم والأنوار والعناصر والمواليد سواه . ولا ريب أن العجائب المودعة في هذه الأشياء مما لا نهاية لها ، وإنما يوقف عليها حيناً بعد حين . وقد أكثر الله تعالى من تقدير تلك الدلائل في القرآن ، بعضها في السور المكيات وكثير منها في المدنيات ، والآيات النفسية هي التي أودعها في تركيب الإنسان وفي ربط روحه العلوي ببدنه السفلي كقوله { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] وفي قوله { سنريهم } دلالة على أن رؤية الأدلة إنما تكون بإراءة الله . قال جار الله : معنى قوله { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } هو أن هذه الآيات الموعودة تكفيهم دلالة على أن القرآن منزل من عالم الغيب المطلع على كل شيء .

وقال حكماء الإسلام : أراد بقوله { أو لم يكف } توبيخ من ليس له رتبة الاستدلال بنفس الوجود على واجب الوجود ، فإن هذا هو طريقة الصديقين ، وأما غيرهم فإنهم يستدلون بالممكن على الواجب فيفتقرون إلى النظر في الآفاق . قال أهل المعرفة : النظر في الآفاق لأجل العوام والأنفس للخواص وقوله { أو لم يكف } لخواص الخواص . وقيل : أولم يكف الإنسان من الزاجر والرادع عن المعاصي كون الله شهيداً عليهم . وقيل : أراد أنه لا يخلف ما وعد لاطلاعه على الأشياء كلها . ثم ختم السورة بتوبيخ الشاكين في أمر البعث وبالنعي عليهم وأوعدهم بأنه عالم بكل شيء فيجازي كلاً على حسب ما يستحقه والله أعلم .


حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

القراآت : { يوحي } على البناء للمفعول : ابن كثير وعباس { يكاد } بالياء التحتانية : نافع وعلي { تنفطرن } بالنون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد والمفضل { إبراهام } كنظائره . { يبشر الله } مخففاً من البشارة : ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي .
الوقوف : { حم عسق } كوفي { من قبلك } ط لمن قرأ { يوحى } مجهولاً كأنه قيل : من الموحي فقال الله أي هو الله { الحكيم } 5 { في الأرض } ط { العظيم } 5 { لمن في الأرض } ط { الرحيم } 5 { عليهم } ز والوصل أوجه لأن نفي ما بعده تقرير لإثبات ما قبله { بوكيل } 5 { لا ريب فيه } ط { السعير } 5 { رحمته } ط { نصير } 5 { أولياء } ج للفصل بين الاستخبار والأخبار مع دخول الفاء { الموتى } ط فصلاً بين المقدور المخصوص وبين القدرة على العموم مع اتفاق الجملتين { قدير } 5 { إلى الله } ط { أنيب } 5 { والأرض } ط { أزواجاً } الثاني ط لأن ضمير { فيه } يحتمل أن يعود إلى الازدواج الذي في مدلول الأزواج أو إلى التدبير وإن لم يسبق ذكره { فيه } ط { شيء } ج لعطف الجملتين المختلفتين { البصير } 5 { والأرض } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال والعامل معنى الفعل في له أو في الملك . { ويقدر } ط { عليم } 5 { فيه } ط { إليه } ط { ينيب } 5 { بينهم } ط كذلك ما بعده ط { مريب } 5 { فادع } ج { كما أمرت } ج { أهواءهم } ج { كتاب } ج كل ذلك للترتيل في القراءة وإن اتفقت الجملتان { بينكم } ط { وربكم } ط { أعمالكم } ط { وبينكم } ط { بيننا } ج { المصير } 5 { شديد } 5 { والميزان } ط { قريب } 5 { بها } ج لعطف الجملتين المختلفتين { منها } ج للعطف أو الحال { الحق } ط { بعيد } 5 { من يشاء } ج لاحتمال عطف وهو على جملة قوله { الله لطيف } وهما متفقتان { العزيز } 5 { في حرثه } ج لعطف جملتي الشرط { نصيب } 5 { به الله } ط { بينهم } ط { أليم } 5 { بهم } ط { الجنات } ط لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { ربهم } ط { الكبير } 5 { الصالحات } ط { في القربى } ط { حسناً } ط { شكور } 5 .
التفسير : الكلام في { حم } كما سبق وأما { عسق } فقد قيل : إنه مع { حم } اسم للسورة . وقيل : رموز إلى فتن كان عليّ يعرفها . وقيل : الحاء حكم الله ، والميم ملكه ، والعين علمه ، والسين سناؤه ، والقاف قدرته . وقيل : الحاء حرب علي ومعاوية ، والميم ولاية المروانية ، والعين ولاية العباسية ، والسين ولاية السفيانية ، والقاف قدرة المهدي . وهذه الأقاويل مما لا معول عليها . وقال أهل التصوف : حاء حبه ، وميم محبوبية محمد ، وعين عشقه ، وقاف قربه إلى سيده . أقسم أنه يوحي إليه وإلى سائر الأنبياء من قبله أنه محبوبه في الأزل وبتبعيته خلق الكائنات . والأولى تفويض علمها إلى الله كسائر الفواتح .

وإنما فصل { حم } من { عسق } حتى عدا آيتين خلاف { كهيعص } [ مريم : 1 ] لتقدم { حم } قبله واستقلالها بنفسها ، ولأن جميعها ذكر الكتاب بعدها صريحاً إلا هذه فإنها دلت عليه دلالة التضمن بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب . روي عن ابن عباس أنه لا نبي صاحب كتاب إلا أوحى الله إليه { حم عسق } والله أعلم بصحة هذه الرواية . والأظهر أن يقال : مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الأنبياء قبلك . والمراد المماثلة في أصول الدين كالتوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة كقوله { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 18 ، 19 ] وفي ورود لفظ { يوحى } مستقبلاً لا ماضياً إشارة إلى أن إيحاء مثله عادته . ثم بين سعة ملكه وأخبر عن غاية جلاله بقوله { له ما في السموات } الخ . ثم أخبر عن فظاعة ما ارتكبه أهل الشرك فقال { تكاد السموات يتفطرن } وقد سبق في آخر سورة مريم . ومعنى { من فوقهن } أن الانفطار يبتدىء من أعلى السموات أو ما فوقها من العرش والكرسي إلى أن ينتهي إلى السفلي ، وفي الابتداء من جهة الفوق زيادة تفظيع وتهويل . قال جار الله : كأنه قيل يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن . وقيل : معناه من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها وفيه ضعف لأنه كقول القائل : السماء فوقنا . وقيل : الضمير للأرض وقد تقدم ذكرها أي من فوق الأرضين وروى عكرمة عن ابن عباس : يتفطرن من ثقل الرحمن . فإن صحت الرواية كان في الظاهر دليل المجسمة . ولأهل السنة أن يتأولوا الثقل بالهيبة والجلال أو يقدروا مضافاً محذوفاً أي من ثقل ملائكة الرحمن كقوله صلى الله عليه وسلم « أطت السماء أطأ وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد . » ثم انتقل من وصف الجسمانيات إلى ذكر الروحانيات ، وأنهم بالوجه الذي لهم إلى عالم الأرواح يسبحون بالوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام يستغفرون فقال { والملائكة } قيل : هو عام . وقيل : حملة العرش كما مر في أول سورة المؤمن إلا أنه عمم ههنا فقال { لمن في الأرض } أي يطلبون أن لا يعاجل الله أهل الأرض بالعذاب طمعاً في توبة الكفار والفساق منهم . وقيل : هو مخصوص بما مر أي يستغفرون للمؤمنين منهم . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن المشركين إنما يحاسبهم الله وما عليك إلا البلاغ . قوله { وكذلك أوحينا } قال ابن بحر : هو الكلام الأول أعيد لما اعترض بين الكلامين ما اعترض . وقال جار الله : الكاف مفعول به لأوحينا ، { وذلك } إشارة إلى المذكور قبله من أن الله هو عليهم الرقيب وما أنت عليهم برقيب . وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه في مواضع .

{ وقرآناً عربياً } حال . والمعنى مثل ذلك المذكور أوحينا إليك وهو قرآن عربي بين لا لبس فيه ليفهم معناه ولا يتجاوز حد الإنذار . ويجوز أن يكون { ذلك } إشارة إلى الإيحاء أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك وأوحينا إليك ، فيجوز أن تكون المماثلة بالحروف المفردة وأن تكون بأصول الدين كما مر . قال أهل اللغة : يقال أنذرته كذا وبكذا . فمن الاستعمال الثاني قوله { لتنذر أم القرى } أي أهل مكة على حذف المضاف ، والمفعول الثاني وهو القرآن محذوف . ومن الاستعمال الأول قوله { وتنذر يوم الجمع } والمفعول الأول محذوف وتنذر الناس يوماً تجمع فيه الخلائق أو يجمع فيه بين الأرواح والأجساد أو بين كل عامل وعمله . قلت : ومن الجائز أن يكون الكل من الاستعمال الأول ولا حذف إلا ان قوله { وتنذر } يكون مكرراً للمبالغة والتقدير الأصلي : لتنذر أم القرى يوم الجمع . وقد مر في القصص في قوله { حتى يبعث في أمها } [ الآية : 59 ] أن مكة لم سميت أم القرى . وقوله { ومن حولها } يحتمل عموم أطراف الأرض لأن مكة في وسطها ، ويحتمل أن يكون المراد به سائر جزيرة العرب ويدخل باقي الأمم بالتبعية أو بنص آخر كقوله { وما أرسلناك إلا كافة للناس } [ سبأ : 28 ] وقوله { لا ريب فيه } اعتراض لا محل له أو صفة للجمع بناء على أن التعريف الجنسي قريب من النكرة . وقوله { فريق } مبتدأ محذوف الخبر أي منهم فريق كذا ومنهم فريق كذا ، أي هذا مآل حالهم بعد الحشر والاجتماع .
ثم بين بقوله { ولو شاء الله } الخ . أن السعادة والشقاوة والهداية والضلالة متعلق بمشيئته وإرادته . وهذا على مذهب أهل السنة ظاهر ، وتأوله المعتزلة بمشيئة القسر والإلجاء ، وقد مر نظائره مراراً . والظاهر أن المراد بكونهم أمة واحدة أن يكونوا مسلمين كلهم . وقيل : أن يكونوا أهل ضلالة قياساً على قوله { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } [ الزخرف : 33 ] ثم أنكر على أهل الشرك بأم المنقطعة قائلاً { أم اتخذوا من دونه أولياء } إن أرادوا أولياء بحق { فالله هو الولي } الذي يجب أن يعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ومن شأنه أنه { يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير } وهو الحقيق بأن يتخذ ولياً . وحين منع الرسول صلى الله عليه وسلم من التحزن على من كفر أراد أن يمنع المؤمنين من الاختلاف والتنازع فقال { وما اختلفتم } والتقدير : قل يا محمد كذا بدليل قوله { ذلكم الله ربي } الآية . والمراد أن الذي اختلفتم أنتم والكفرة فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين . وقيل : وما اختلفتم فيه فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء : 59 ] وقيل : وما اختلفتم فيه من الآيات المتشابهات فارجعوا في بيانه إلى المحكمات أو إلى الظاهر من السنة .

وقيل : ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بالتكاليف فقولوا : الله أعلم كمعرفة الروح وغيره . قال في الكشاف : ولا يندرج فيه اختلاف المجتهدين لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم . قلت : إن لم يجز بحضرته فإنه جائز بعده . وقوله { وما اختلفتم } شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة مثل { يا أيها الناس } ومثل { أقيموا الصلاة } والأظهر أن اختلافهم يدخل فيه ، وأن المراد بحكمه تعريفه من بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد . فإن قيل : المقصود من التحاكم قطع الاختلاف ولا قطع مع القياس ولا مع الاجتهاد . قلنا : إذا كان القياس مأموراً به وكذا الاجتهاد بل يكون كل مجتهد مصيباً ، كانت المخالفة في حكم الموافقة ولهذا قال « اختلاف أمتي رحمة » ثم وصف نفسه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال تأكيداً لصحة أحكامه فقال { فاطر السموات والأرض } وهو أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف . ومعنى { ومن الأنعام أزواجاً } أنه خلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً { يذرؤكم فيه } يكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى حصل بين الذكور والإناث التوالد والتناسل . والضمير في { يذرؤكم } راجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام وهو من الأحكام ذوات العلتين ، وذلك أن فيه تغليبين تغليب المخاطبين على الغائبين وهم من سيوجد إلى يوم القيامة ، وتغليب العقلاء على غيرهم . وعلة الأول الخطاب ، وعلة الثاني العقل . وإنما قال { يذرؤكم فيه } ولم يقل به لأنه جعل التدبير منبعاً ومعدناً للتكثير كقوله { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] ولأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض ومعنى { ليس كمثله شيء } نفي المثلية عنه بطريق الالتزام وذلك أنه لو كان له مثل والله تعالى شيء لكان مثل مثله شيء وهو خلاف نص المخبر الصادق وهذا المحال إنما لزم من فرض وجود المثل له فوجود المثل محال وهو المطلوب ، ولعل هذا التقرير مختص بنا . قال في الكشاف : إنه من باب الكناية كقولهم : مثلك لا يبخل . يعنون أنت لا تبخل . وكذا ههنا يريد ليس كالله شيء . وجوز أن يكون تكرير حرف التشبيه للتأكيد . وقد يستدل بالآية على نفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى لأن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمانية . قوله { له مقاليد السموات والأرض } أي له مفاتيح خزائنها وقد مر في الزمر والباقي واضح وقد سبق أيضاً . وحين عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله { كذلك يوحى إليك } إلى آخره ذكر تفصيل ذلك فقال { شرع لكم } أي أوجب وبين لأجلكم { من الدين ما وصى به نوحاً } وهو أقدم الأديان بعد الطوفان { والذي أوحينا إليك } وهو ختمها { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } وهي الملل المعتبرة المتوسطة .

ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأكابر من رسله فيه بقوله { أن أقيموا الدين } الحنيفي ومحله نصب بدلاً من مفعول { شرع } أو رفع على الاستئناف كأنه قيل : وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين . يعني إقامة أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ونحو ذلك دون الفروع التي تختلف بحسب الأوقات لقوله { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] وفي بناء الكلام على الغيبة ثم الالتفات إلى التكلم في { أوحينا } والخطاب في { إليك } تفخيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم حكى حسد أهل الشرك بقوله { كبر على المشركين } أي شق وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من الدين المبرأ من عبادة غير الله . ثم أجاب عن شبهتهم بأن الاجتباء والاصطفاء يتعلق بمشيئة الله لا بتمني كل واحد ولا بكثرة المال والجاه . يقال : اجتباه إليه أي اصطفاه لنفسه ، والتركيب يدل على الجمع والضم ، ويحتمل أن يراد يجتبي إلى الدين . ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } ببعث محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته كقوله في آل عمران { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم } [ الآية : 19 ] وقيل : وما تفرق الأمم الذين تقدم ذكرهم إلا بعد العلم بصحة ما أمروا به . قال أهل البرهان : لما ذكر مبدأ كفرهم وهو قوله { إلا من بعدما جاءهم العلم } حسن ذكر نهاية إمهالهم وهو قوله { إلى أجل مسمى } ليكون محدوداً من الطرفين . وإنما ترك ذكر النهاية في السورة المتقدمة لعدم ذكر البداية { وإن الذين أورثوا الكتاب } هم العرب ورثوا القرآن من بعدما أورث أهل الكتابين كتابهم أو هم أهل الكتاب المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : جاءهم أسباب العلم فلم ينظروا فيها لأنه حكم عليهم في آخر الآية بأنهم في شك من كتابهم وهو مع العلم غير مجتمعين { فلذلك } أي فلأجل تشعب الملل وتفرق الكلم { فادع } إلى الملة الحنيفية . وقيل : اللام بمعنى « إلى » والإشارة إلى القرآن { وأستقم } عليها كما أمرت { ولا تتبع أهواءهم } المختلفة { وقل آمنت بما أنزل الله من } أي { كتاب } كان { وأمرت لأعدل بينكم } أي في التبليغ أو إذا تحاكمتم إليّ حتى لا أفرق بين نفسي ونفس غيري . ثم أشار إلى ما هو أصل في الدين فقال { الله ربنا وربكم لنا } جزاء { أعمالنا ولكم } جزاء { أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم } وليس المراد منه تحريم المحاجة فإنه لولا الأدلة لما توجه التكليف بل المراد أنهم بعد أن وقفوا على الحجج الباهرة والدلائل الظاهرة على حقية دين الإسلام لم يبق معهم حجة لسانية وإنما بقي السيف . وقيل : إنه منسوخ بآية القتال وقوله { الله يجمع بيننا } إشارة إلى المهاجرة التي اقتضاها إصرارهم على الباطل وتفويض للأمر إلى المجازي المنتقم .

ثم أخبر عن وعيد المخاصمين في أمر دين الله { من بعدما استجيب له } أي من بعدما استجاب له الناس وقبلوا دينه ، أو بعدما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر { حجتهم داحضة } أي باطلة زائلة { عند ربهم } وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فأنتم أولى باتباعنا . وأيضاً أنتم تقولون الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، ونبوة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم مختلف فيها . والجواب أن نبوّة موسى إنما صحت بالمعجزة فإن كانت المعجزة في حقه مصححة للنبوة ففي حق محمد صلى الله عليه وسلم كذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضاً . ثم حث على سلوك طريقة العدل حذراً من عقاب يوم القيامة فقال { الله الذي أنزل الكتاب } أي جنسه متلبساً بالغرض الصحيح { والميزان } أي أنزل العدل والسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان . وقيل : هو العقل . وقيل : الميزان نفسه وذلك في زمن نوح . وقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بالكتاب { وما يدريك } يا محمد أو أيها المكلف { لعل الساعة } أي مجيئها { قريب } أو ذكر بتأويل البعث أو الحشر ونحوه ، أو أراد شيء قريب . ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في أداء ما عليه من التكاليف . ولا يتأنى في سلوك سبيل الإنصاف مع الخالق والخلق فإنه لا يعلم أن القيامة متى تفاجئه . ثم قبح طريقة منكري الساعة فقال { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } يقولون على سبيل السخرية : متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى تظهر لنا جلية الحال . ثم مدح المقربين بأنهم يخافون القيامة هيبة من الله وإجلالاً له أو حذراً من تقصير وخلل وقع في العمل إلا أن خوفهم يجب أن يكون ممتزجاً بالرجاء ، وقد مر تحقيقه مراراً . ثم هدد الشاكين المجادلين في أمر البعث بقوله { ألا إن الذين يمارون } وأصله من المرية الشك { لفي ضلال بعيد } عن الصواب لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب على فضله أو في حكمه ، ولأن في إنكاره نسبة الله سبحانه إلى ضد العلم والقدرة . ثم إنه لا ريب في أن إنزال الكتاب والميزان لطف من الله على خلقه فلذلك قال { الله لطيف بعباده } عمم البر ثم خصص بقوله { يرزق من يشاء } يعني الزائد على مقدار الضرورة ، فلكم من إنسان فاق أقرانه في المال أو الجاه أو الأولاد أو في العلم أو في سائر أسباب المزية إلا أن أحداً منهم لا يخلو من بره الذي يتعيش به كقوله { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] وقيل : معنى لطيف يرزقهم من حيث لا يعلمون ، أو يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا .

وقد مر معناه في الأنعام بوجه آخر في قوله { وهو اللطيف الخبير } [ الآية : 103 ] وأما قوله { القوي العزيز } ففيه إشارة إلى أن لطفه مقرون بقهره . وحين ذكر أنه يرزق من يشاء الزائد على مقدار كفايته وكان فيه كسر قلوب أرباب الضنك والضيق جبر كسرهم بقوله { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } سماه حرثاً تشبيهاً للعامل الطالب لثواب الآخرة أضعافاً مضاعفة بالزارع الذي يلقي البذر في الأرض طلباً للزيادة والنماء ، ومن فضائل حرث الآخرة أن طالبها قد يحصل له الدنيا بالتبعية ويرى ثواب عمله أضعافاً مضاعفة ، وطالب الدنيا لا تحصل له المطالب بأسرها ولهذا قال { نؤته منها } أي بعض ذلك { وما له في الآخرة من نصيب } قط وفي زيادة لفظ الحرث فائدة أخرى وهي أن يعلم أن شيئاً من القسمين لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق . عن النبي صلى الله عليه وسلم « من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة » هذا لفظه أو لفظ هذا معناه . وعن قتادة إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا . وفي ظاهر اللفظ دلالة على أن من صلى لطلب الثواب أو لدفع العقاب فإنه تصح صلاته لأنه صلى لأجل ما يتعلق بالآخرة . قال بعض أصحاب الشافعي : إذا توضأ بغير نية لم يصح لأن هذا الإنسان غفل عن الآخرة وعن ذكر الله ، والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فلا يحصل بالوضوء العاري عن النية ، وحيث بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدارين نبه على أحوال الضلال بقوله { أم لهم شركاء } وهي المنقطعة عند بعضهم . وقال آخرون : هي المعادلة لألف الاستفهام تقديره أفيقبلون ما شرع الله لهم من الدين أم لهم آلهة . { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } أي لم يأمرهم به أو لم يعلمه كقوله { أتنبؤن الله بما لا يعلم } [ يونس : 18 ] والأذن بالفتح العلم بالمسموعات وتحقيقه شرعوا ما ليس بشريعة إذ لو كان شريعة لعلمها الله { ولولا كلمة الفصل } أي القضاء السابق بتأخير الجزاء { لقضي بينهم } والضمير للمؤمنين والكافرين أو المشركين والشركاء { ترى الظالمين } في القيامة { مشفقين } خائفين { مما كسبوا } من الجرائم { وهو } أي وبال ذلك { واقع بهم } واصل إليهم لا محالة { والذين آمنوا وعلموا الصالحات في روضات الجنات } أي منتزهاتها . قالت الأشاعرة : فيه دليل على أن غيرها من الأماكن في الجنة لغير المذكورين وغيرهم ليس إلا بالذي آمن ولم يعمل صالحاً وهو الفاسق . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون إضافة الروضات إلى الجنات من إضافة العام إلى الخاص فيكون الجنات كلها روضات .

ولكن الروضات قد لا تكون في الجنة لثبوتها في الدنيا . والفضل الكبير قد تقدم في « فاطر » . { ذلك } المذكور أو الثواب أو التبشير هو { الذي يبشر الله } به { عباده } ثم حذف الجار ، ثم الراجع إلى الموصول ، ثم أمر رسوله بأن يقول { لا أسألكم عليه } على هذا التبليغ { أجراً إلا المودة } الكائنة { في القربى } جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ولهذا لم يقل « مودة القربى » أو « المودة للقربى » وهي مصدر بمعنى القرابة أي في أهل القربى وفي حقهم . فإن قيل : استثناء المودة من الأجر دليل على أنه طلب الأجر على تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولا سيما في « الشعراء » . وقد جاء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أيضاً { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } [ سبأ : 47 ] { وقل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } [ ص : 86 ] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بالمروءة . وأيضاً أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة . قلنا : إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه ، وأما الآخرون فمنهم من قال : الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى لا أطلب منكم أجراً ، إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولا سيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } [ الرعد : 21 ] ومنهم من قال : الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجراً ألبتة ، ولكن أذكركم المودة في القربى ، وفي تفسير { المودة في القربى } أربعة أقوال : الأول قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فأجاب بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله : قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونني ولا تهيجوا عليّ . القول الثاني : روى الكعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار : إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم ، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا . ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية بحثهم على مودة أقاربهم وصلة أرحامهم .

القول الثالث : عن الحسن : إلا أن توددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح . الرابع : عن سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما . ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام ، ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس فيه فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا وعنه صلى الله عليه وسلم « حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة » وكان يقول « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب علياً والحسن والحسين ، وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقوله { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وكفى شرفاً لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخراً ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة . قال بعض المذكرين : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال « مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق » وعنه صلى الله عليه وسلم « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » فنحن نركب سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ونضع أبصارنا على الكواكب النيرة أعني آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن أمواج الشبه والضلالة . ثم أكد إيصال الثواب على المودة بقوله { ومن يقترف حسنة } أي يكتسب طاعة ، قال بعض أهل اللغة : الاقتراف مستعمل في الشر فاستعاره ههنا للخير . عن السدي أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم ، والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مرادة قصداً أولياً لذكرها عقيبها . ومعنى زيادة حسنها تضعيف ثوابها { إن الله غفور } لمن أذنب { شكور } لمن أطاع الله والله أعلم .


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

القراآت : { ما تفعلون } على الخطاب : حمزة وعلي وحفص { ينزل الغيث } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم { ينزل } بالتخفيف : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { بما كسبت } بدون فاء الجزاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون { فبما كسبت } بالفاء { الجواري } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل . وقرأ قتيبة ونصير وأبو عمرو بالإمالة { الرياح } نافع . على الجمع : أبو جعفر ونافع . { ويعلم الذين } بالرفع : ابن عامر وأبو جعفر ونافع . الباقون : بالنصب { كبير الإثم } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف . { أو يرسل } بالرفع { فيوحى } بالإسكان : نافع وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الآخرون : بالنصب فيهما .
الوقوف : { كذباً } ج للشرط مع فاء التعقيب { قلبك } ط لأن ما بعده مستأنف { بكلماته } ط { الصدور } ه { تفعلون } ه لا { فضله } ط { شديد } ه { يشاء } ط { بصير } ه { رحمته } ط { الحميد } ه { دابة } ط { قدير } ه { كثير } ه { في الأرض } ط { ولا نصير } ه { كالأعلام } ه ط { على ظهره } ط { شكور } ه لا { كثير } ه لا لمن رفع { ويعلم } ومن نصب فوقفه مجوز { آياتنا } ط { محيص } ه { الدنيا } ج لعطف جملتي الشرط ، ويحتمل أن يكون الوقف مطلقاً بناء على أن الثانية أخبار مستأنف { يتوكلون } ه ط { يغفرون } ه ج { الصلاة } ص لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد المقول { بينهم } ص لذلك { ينفقون } ه ج { ينتصرون } ه { مثلها } ج { على الله } ط { الظالمين } ه { سبيل } ه ط { الحق } ط { أليم } ه { الأمور } ه { بعده } ط { من سبيل } ه ج للآية مع العطف { خفي } ط { القيامة } ط { مقيم } ه { من دون الله } ط { سبيل } ط { من الله } ط { نكير } ه { حفيظاً } ط { البلاغ } ط { بها } ج { كفور } ه { والأرض } ط { ما يشاء } ط { الذكور } ه لا { وإناثاً } ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف أي وهو يجعل { عقيماً } ه { قدير } ه { ما يشاء } ط { حكيم } ه { أمرنا } ط { عبادنا } ط { مستقيم } ه { وما في الأرض } ط { الأمور } ه .
التفسير : لما ذكر في أول السورة أن هذا القرآن إنما حصل بوحي الله وانجر الكلام إلى ههنا حكى شبهة القوم وهي زعمهم أنه مفترى وليس بوحي فقال { أم يقولون افترى } قال جار الله : « أم » منقطعة ، ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى أعظم أنواع الفرية وهو الافتراء على الله ، ثم أجابهم بقوله { فإن يشاء الله يختم على قلبك } أي يجعلك من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم . والغرض المبالغة في استبعاد الافتراء من مثله والتعريض بأن من ينسبه إلى الافتراء فهو مختوم على قلبه .

وقيل : لأنساك ما أتاك من القرآن ولكنه لم يشأ فأثبته فيه ، وقيل : لأماتك فإن قلب الميت كالمختوم عليه ومثله { لقطعنا منه الوتين } [ الحاقة : 46 ] قاله قتادة . وقال مجاهد ومقاتل : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يدخل قلبك حزن مما قالوه . ثم استأنف فقال { ويمح الله الباطل } أي من عادته ذلك فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم مبطلاً لفضحه وكشف عن باطله ، وحذف الواو من الخط لا للجزم كما في قوله { ويدع الإنسان } [ الإسراء : 11 ] { سندع الزبانية } [ العلق : 18 ] وفي تفسير الجبائي أن الواو حذف للجزم ، والمعنى إن افتريت ختم على قلبك ومحا الباطل المفترى ، فالاستئناف على هذا من قوله { ويحق الحق بكلماته } [ يونس : 82 ] أي يثبت ما هو الحق في نفسه بوحيه أو بقضائه . ويجوز أن يكون وعداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ويظهر الحق الذي أنت عليه وهو القرآن بحكمه السابق وبعلمه القديم { إنه عليم بذات الصدور } فيجازي المبطل والمحق على حسب حاليهما وحين وبخهم على البهت والتكذيب ندبهم إلى التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء والآية واضحة مما سلف تارات ولا سيما في أوائل البقرة في توبة آدم . أما الضمير في قوله { ويستجيب } فعائد إلى الله سبحانه وأصله ويستجيب لهم فحذف الجار ، والمراد أنه إذا دعوه استجاب لهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم تفضلاً . وقيل : لا ضمير فيه وإنما الظاهر بعده فاعله . قال سعيد بن جبير : أراد أن المؤمنين يجيبونه إذا دعاهم . وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قيل : ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلو تجيبوه وقرأ { والله يدعو إلى دار السلام ويستجيب الذين آمنوا } [ يونس : 25 ] وحيث وعد الاستجابة للمؤمنين كان لسائل أن يقول : إنا نرى المؤمن في شدة وبلية وفقر ثم إنه يدعو الله فلا يشاهد أثر الإجابة فلا جرم قال { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } أي ظلم بعضهم بعضاً وعصوا الله . وهذه ليست بقضية كلية دائمة ولكنها أكثرية ، فإن المال معين قوي على تحصيل المطالب ودفع ما لا يلائم النفس ، وإذا كانت الآلة موجودة وداعية الشر في طبع الإنسان مجبولة فقلما لا يقع مقتضاه في الخارج وأيضاً إن أكثر الناس إنما يخدم مثله ويتسخره طمعاً في ماله أو جاهه التابع للمال غالباً ، فهو تساويا في المال استنكف كل منهما من الانقياد لصاحبه فارتفعت رابطة التعاون وانقطعت سلسلة التمدن ، وقيل : إن الآية نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وأغار بعضهم على بعض ولبعضهم شعر
قوم إذا نبت الربيع بأرضهم ... نبتت عداوتهم مع البقل
وقال محمد بن جرير : نزلت في أصحاب الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى .

وقوله { بقدر } أي على قدر المصلحة ووفق حال الشخص كقوله { وما ننزله إلا بقدر معلوم } [ الحجر : 21 ] وحي بين أن حكمته اقتضت عدم توسيع الرزق على كل الخلق أراد أن يبين أنه لا يترك ما يحتاجون إليه وإن بلغ أمرهم إلى حد اليأس والقنوط فقال { وهو الذي ينزل الغيث } الآية . ونشر الرحمة عموم المطر الأرض أو هي عامة في كل رحمة سوى المطر { وهو الولي } الذي يتولى أمور عباده { الحميد } على كل ما يفعله . ولا ريب أن هذه من جملة دلائل القدرة فلذلك عطف عليها قوله { ومن آياته خلق السموات والأرض } ومحل قوله { وما بث } إما مجرور عطفاً على السموات أو مرفوع عطفاً على خلق . وإنما قال { فيهما من دابة } مع أن الدواب في الأرض وحدها لأن الشيء قد ينسب إلى جميع المذكور وإن كان متلبساً ببعضه كما يقال : « بنو فلان فعلوا كذا » ولعله قد فعله واحد منهم فقط . ويجوز أن يكون للملائكة مع الطيران مشى فيتصفوا بالدبيب كالإنسان ، أو يكون في السموات أنواع أخر من الخلائق يدبون كما يدب الحيوان في الأرض . { وهو على جمعهم } أي إحيائهم بعد الموت { إذا يشاء قدير } وإذا يدخل على الماضي ومعنى الاستقبال في { يشاء } يعود إلى تعلق المشيئة لا إلى نفس المشيئة القديمة . ثم بين حال المكلفين وأن ما يصيبهم من ألم ومكروه وبلاء فهو عقوبة للمعاصي التي اكتسبوها ، وأن الله يعفو عن كثير من الذنوب أو الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة رحمة أو استدراجاً . قال الحسن : أراد إقامة الحدود على المعاصي وأنه لم يجعل لبعض الذنوب حداً . وقيل : إن هذه في يوم القيامة فإن الدنيا دار تكليف لا دار جزاء . ولقائل أن يقول : كون الجزاء الأوفى على الإثم مخصوصاً بالقيامة لا ينافي وصول بعض الجزاء إلى المكلف في الدنيا ، ولهذا قال علي رضي الله عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في كتاب الله . وذلك أنه تعالى قسم ذنوب المؤمنين صنفين : صنف يكفره عنهم بالمصائب ، وصنف يعفو وهو كريم لا يرجع في عفوه ، نعم لو عكست القضية وقيل ما كسبت أيديكم فإنه يصيبكم به ألم وعذاب في الدنيا لكان هذا منافياً لكون الجزاء في الآخرة ولحصول العفو أيضاً . روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال : ما عفا الله عنه . فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد عليه العذاب في الآخرة . قال أهل التناسخ : لولا أن الأطفال والبهائم لهم حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة ما كانوا ليتألموا فإنهم لا ذنوب لهم الآن . وأجيب بالتزام أنهم لا يتألمون من المصائب والآلام وفيه بعد ، وبأن الخطاب في الآية لذوي العقول البالغين ، وبأنها في البالغين عقوبة أو زيادة درجة ، وفي الأطفال مثوبة لهم أو لوالديهم .

ثم خاطب المشركين بقوله { وما أنتم بمعجزين } الآية ثم ذكر دليلاً آخر قائلاً { ومن آياته الجواري } أي السفن الجواري { في البحر كالأعلام } أي كالجبال في العظم . ولا شك أن جريانها بواسطة هبوب الرياح فلذلك قال { إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره } أي فيصرن واقفة على ظهر ماء البحر { إن في ذلك لآيات لكل صبار } على البلاء { شكور } على الآلاء أو صبار في السفينة شكور إذا خرج منها { أو } أن يشأ { يوبقهن } أي يهلك السفينة بما فيها بالغرق أو الكسر لعصوف الريح وغيره { بما كسبوا } من كفران نعم الله وعصيانه { ويعف عن كثير } من الذنوب فلا يجازي عليها في الدنيا ولا في الآخرة . والحاصل أنه إن يشأ يسكن الريح فتبقى الجواري واقفة على متن البحر ، أو أن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم . من رفع { ويعلم } فعلى الاستئناف ، ومن نصب فللعطف على تعليل محذوف أي لينتقم منهم ويعلم قاله في الكشاف . وقال الكوفيون ومنهم الزجاج : النصب بإضمار « أن » لأن قبلها جزاء . تقول : ما تصنع أصنع وأكرمك . ووجهه أن هذا في تأويل المصدر المعطوف على مصدر أصنع مقدراً . ثم استأنف قوله { ما لهم من محيص } أي لا مهرب للمجادلين عن عقابه . ثم رغب المكلفين عن الدنيا وفي الدنيا وفي الآخرة وقد مر نظيره في القصص إلا أنه ذكر ههنا أن هذه الخيرية تحصل للموصوفين بصفات إحداها الإيمان ، والثانية التوكل على الرب ، والثالثة الاجتناب عن الكبائر والفواحش كقوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [ النساء : 31 ] { إنما حرم ربي الفواحش } [ الأعراف : 33 ] ومن قرأ { كبير } على التوحيد فللجنس ، وفسره ابن عباس بالشرك ، الرابعة الغفران عند الغضب « وهم » تأكيد للضمير أو مبتدأ ما بعده خبره . قال بعض العلماء : يحتمل أن يراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع والعقائد الفاسدة وهي من فساد القوة العقلية ، وبالفواحش فساد القوة الشهوية ، وبالأخيرة ما يتعلق بالقوة الغضبية . قال المفسرون : نزل قوله { والذين استجابوا لربهم } في الأنصار دعاهم الله ورسوله إلى التوحيد فأطاعوا ورضوا بقضائه وواظبوا على الصلوات الخمس ، وكانوا قبل الإسلام متشاورين في كل أمر دهمهم غير منفردين برأي ، والشورى مصدر كالفتيا ، والمضاف محذوف أي ذو التشاور . وليس بين قوله { هم ينتصرون } أي ينتقمون وبين قوله { يغفرون } منافاة ، فإن هذه أخص من الأولى إذ البغي هو الذي يؤدي إلى الفساد ولا يصير عفوه سبباً لتسكين ثائرة الفتنة ولرجوع الجاني عن جنايته ، ويجوز أن يتوجه المدح في الانتصار إلى كون المظلوم بحيث يراعي حد الشرع ولا يتجاوزه حتى لو زاد عليه لم يكن منتصراً ولا يستحق المدح ، فهذه خمس صفات أخرى للراغبين في الدار الآخرة .

ثم بين أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال { وجزاء سيئة سيئة مثلها } حتى لو قال أخزاه الله لا يزيد في الجواب عليه شيئاً . وسمى الثاني سيئة ازدواجاً للكلام أو لأن السيئة هي التي يكرهها الإنسان طبعاً كالقصاص والقطع وسائر الحدود . وقد لا يمكن رعاية المماثلة كما في قتل الأنفس بنفس واحدة أو كقطع الأيدي بواحدة إذا تعاونوا على قطعها ذلك في الفقه . وإنما عرف ذلك بنص آخر أو بقياس جلي . ثم حث مع ذلك على العفو والصبر قائلاً { فمن عفى وأصلح } ما بينه وبين خصمه بالاغضاء والعفو { فأجره على الله } فإن الانتصار حسن في نفسه ولا سيما إذا كان فيه مصلحة دينية كزجر وارتداع إلا أن العفو أحسن لأنه لا يكاد يؤمن في الانتصار والتجاوز عن حد الاعتدال ولهذا حذر منه بقوله { إنه لا يحب الظالمين } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم فيقوم خلق فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ فيقولون : نحن الذين عفونا عمن ظلمنا . فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله » ثم كرر أن الانتصار لا يؤاخذ به ولا سبيل للوم إليه لئلا يظن أن وعد الأجر على العفو يقتضي قبح الانتصار في نفسه فقال { ولمن انتصر } الآية . وقوله { بعد ظلمه } من إضافة المصدر إلى المفعول والباقي واضح إلى قوله { الأمور } وإنما أدخل اللام في الخبر خلاف ما في لقمان لأن الصبر على المكروه الذي هو ظلم أشد من الصبر على الذي ليس بظلم ، وتكرير الحث على الصبر لمزيد التأكيد أيضاً ، ثم ذكر أن الإضلال والهداية التي هي نقيضه إنما تتعلق بمشيئته . والمعتزلة يتأولون الإضلال بالخذلان أو بالإضلال عن طريق الجنة . ثم حكى أن الكفار عند معاينة عذاب النار يتمنون الرجعة إلى الدنيا ، ثم عقبه بذكر حالهم حين يعرضون على النار . الخشوع بمعنى الهوان ولهذا علق بقوله { من الذل } وقد يعلق ب { ينظرون } أي لهذا السبب يبتدىء نظرهم من تحريك أجفانهم وهو ضعيف فإن الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ، وقد يفسر الطرف الخفي بمعنى البصيرة بناء على أن الكفار يحشرون عمياً فلا ينظرون إلا بقلوبهم والأكثرون أجابوا عنه فقالوا : لعلهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يجعلون عمياً ، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم . ثم حكى قول المؤمنين فيهم { ويوم القيامة } ظرف { لخسروا } كما في « الزمر » فيحتمل أن يكون قول المؤمنين فيه أو في الدنيا . وجوز في الكشاف أن يكون ظرفاً لقال . والنكير الإنكار أي ما لكم من مخلص ولا من قدرة أن تنكروا شيئاً مما دوّن في صحائف أعمالكم أو مالكم من ينكر علينا حتى يغير شيئاً من أحوالكم .

ثم سلى نبيه بقوله { فإن أعرضوا } ثم ذكر سبب إصرارهم على عقائدهم الفاسدة وهو الضعف الذي جبل عليه الإنسان من البطر عند الغنى ، والفراغ في زمن الصحة ، والأمن في زمن الكفران ، ونسيان نعم الله عند البلاء . وإنما جمع قوله { وإن تصبهم } لأن الإنسان جنس يشمل أهل الغفلة كلهم . وقوله { فإن الإنسان } من وضع الظاهر موضع الضمير وفائدته التسجيل على أن هذا الجنس من شأنه ذلك إلا إذا أدّب النفس وراضها . ثم بين كمال قدرته بقوله { لله ملك السموات والأرض } الآية . والمقصود أن الإنسان لا يغتر بما يملكه من الجاه والمال ولا يعتقد أنه حصل بجد أوجده فيعجب به ويعرض عن طاعة ربه . ثم ذكر من أقسام تصرفه في ملكه أنه يخص البعض من الحيوان بالأولاد الإناث ، والبعض بالذكور ، والبعض بالصنفين ، والبعض يجعله عديم الولد . وقدم ذكر الإناث تطييباً لقلوب آبائهن أو لأنهن مكروهات عند العرب فناسب أن يقرن اللفظ الدال عليهن باللفظ الدال على البلاء . أو لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء الإنسان فكان ذكر الإناث التي هي من جملة ما لا يشاء الإنسان أهم . وفيه نقل الإنسان من الغم إلى الفرح . ولا ريب أن هذا أولى من العكس . وفيه أن الإنسان إذا رضي بالأنثى فإذا أعطاه الذكر علم أنه فضل من الله . وفيه أن العجز كلما كان أتم كانت عناية الله بحاله أوفر . ثم أراد أن يتدارك تأخيرهم وهم أحقاء بالتقديم فعرف الذكور لأنه مع رعاية الفاصلة تنويه وتشهير كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام . ثم قال { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } فأعطى كلا الجنسين حقه . ونصبهما على الحال ، والضمير للأولاد أو على المفعولية ، والضمير لمن يشاء أي يجمع لهم كلا الصنفين سواء كانا متساويين في العدد أم لا . وقيل : معناه أن تلد أولاً غلاماً ثم جارية ثم غلاماً ثم جارية وهكذا قاله مجاهد . وقيل أن تلد ذكراً وأنثى في بطن واحد قاله ابن الحنفية : وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأنبياء ، وهب لشعيب ولوط أناثاً ، ولإبراهيم عليه السلام ذكوراً ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم ذكوراً وهم القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم ، وإناثاً هن فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم ، وجعل يحيى وعيسى عقيماً . والحق أن هذا التقسيم وإن كان مطابقاً لحال هؤلاء الأنبياء إلا أن في التخصيص ضيق عطن . وإن صحت الرواية عن ابن عباس فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب ، وحمل بعض أهل التأويل الإناث على أمور الدنيا والذكور على أمور الآخرة ، وتزويج الصنفين على الجامع بين الأمرين ، والعقيم على من لا دين له ولا دنيا ثم أكد كمال القدرة بقوله { وما كان لبشر } أي وما صح لأحد { أن يكلمه الله إلا } على أحد ثلاثة أنحاء : الأول الوحي وهو الإلهام أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده .

وعن مجاهد أن داود عليه السلام ألهمه الزبور فكتبه حفظاً . الثاني التكليم بلا واسطة ولكن من وراء حجاب . والمجسمة استدلوا به على أنه تعالى في جهة فإن الاحتجاب لا يصح إلا من ذي جهة ومكان ، وأجيب بأن هذا مثل لأنه إذا سمع الصوت ولا يرى الشخص كان بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب كما كلم موسى ويكلم الملائكة . وقيل : حجاب عن إدراك ذلك الكلام لا المتكلم . وقيل : حجاب لموضع الكلام . الثالث أن يرسل رسولاً كجبرائيل فيوحي الملك بإذن الله إلى النبي ما يشاؤه الله . والأقسام الثلاثة كلها من قبيل الوحي ولكنه سبحانه جعل الوحي في الآية خاصاً بالأول ، وتقدير الكلام : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً أو إلا وحياً أو إسماعاً أو إرسالاً ، أو إلا أن يوحى أو يسمع أو يرسل . ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف بمعنى أو هو يرسل أو على الحال بمعنى مرسلاً عطفاً على { وحياً } بمعنى موحياً . وقيل : الوحي هو الوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة ، وإرسال الرسل إرسال الأنبياء إلى الأمم ، فإن الصحيح عند أهل الحق أن الشيطان لا يقدر على إلقاء الباطل في أثناء الوحي . وقد يقال : إن توجيه التكليف إلى العبد لا يتم إلا بثلاث مراتب من المعجزات ، وذلك أن التسلسل محال فلا بد من سماع الملك كلام الله بلا واسطة . فالملك يحتاج إلى معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله ، وإذا بلغ الملك ذلك الكلام إلى النبي فلا بد للنبي من مشاهدة معجزة تدل على صدقه ، وإذا بلغ الرسول لأمته فالأمر كذلك . وهذا الثالث مشهور متفق عليه ، وأما الأولان فعلهما يعرفان بنور الباطن ولا يفتقر إلى المعجزة لا في أول الأمر ولا كل مرة . قال أهل التصديق : إن الأقسام الثلاثة اجتمعت لنبينا صلى الله عليه وسلم ، لأنه في بدء الإسلام كان يرى الرؤيا الصادقة كفلق الصبح ، وسمع الكلام من وراء الحجاب ليلة المعراج ، وكان يأتيه جبرائيل إلى آخر عمره فلهذا قال عز من قائل { وكذلك أوحينا إليك } ويحتمل أن يراد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء أوحينا إليك يعني بالطريق الأكثري وهو القسم الثالث . ومعنى { روحاً من أمرنا } قرآنا من عندنا أو من عالم أمرنا كقوله { يلقى الروح من أمره } { غافر : 15 ] و { ما كنت تدري } في المهد أو قبل البلوغ أو قبل الوحي { ما الكتاب ولا الإيمان } يعني ما يتعلق بكمال الإيمان مما لا يكفي في معرفته مجرد العقل والنظر ويتوقف على النقل وإذن الشرع . وقيل : أراد أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن والضمير في { جعلناه } للقرآن أو الإيمان أولهما جميعاً . ووحد كقوله { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] وهداية الله خاصة . وهداية النبي عامة وهي الدعوة ، وصراط الله دينه ، ومصير الكل إليه عبارة عن رجوعهم إلى حيث لا حكم لأحد سواه والله أعلم .


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)

القراآت : { في إم الكتاب } بكسر الهمزة : حمزة وعلي { إن كنتم } بالكسر : أبو جعفر ونافع وعلي وحمزة وخلف . الآخرون : بالفتح أي لأن كنتم { مهداً } : عاصم وحمزة وعلي وخلف وروح . الباقون { مهاد } { ميتاً } بالتشديد : يزيد . { يخرجون } من الخروج : حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان . الآخرون : من الإخراج { ينشأ } من باب التفعيل : حمزة وعلي وخلف وحفص . الباقون : بالتخفيف والياء مفتوحة والنون ساكنة { عباد الرحمن } جمع عبد أو عابد : أبو عمرو وعاصم وحمزة وعلي وخلف ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر { عند الرحمن } بالنون كقوله { فالذين عند ربك } [ فصلت : 38 ] الآخرون : { عبيد الرحمن } { أو شهدوا } بقلب همزة الإشهاد واواً مضمومة : ورش وإسماعيل . وقرأ يزيد وقالون مثله ولكن بالمد . وقرأ المفضل بتحقيق الهمزتين . الباقون : بهمزة واحدة للاستفهام والشين مفتوحة { قال أولو } بالألف : ابن عامر وحفص والمفضل { جئناكم } يزيد .
الوقوف : { حم } ه كوفي { المبين } ه لا ومن لم يقف على { حم } وقف على { المبين } لأن القسم متعلق بما قبله وهو هذه { حم } { تعقلون } ه ج { حكيم } ه ط { مسرفين } ه { الأولين } ه { يستهزؤن } ه { الأولين } ه { العليم } ه لا بناء على أن ما بعده وصف ولو كان نصباً أو رفعاً على المدح فالوقف { تهتدون } ه { بقدر } ج للالتفات مع الفاء { ميتاً } ج لانقطاع النظم مع تعلق التشبيه { تخرجون } ه { تركبون } ه لا { مقرنين } ه لا لأن ما بعده من تمام المقول { لمنقلبون } ه { جزءاً } ط { مبين } ه ط { بالبنين } ه { كظيم } ه { مبين } ه { إناثاً } ط { خلقهم } ط { ويسئلون } ه { ما عبدناهم } ط { يحرصون } ه ط { مستمسكون } ه { مهتدون } ه { مقتدون } ه { آباءكم } ط { كافرون } ه { المكذبين } ه { تعبدون } ه لا { سيهدين } ه { يرجعون } ه { مبين } ه { كافرون } ه .
التفسير : أقسم بجنس الكتاب أو بالقرآن الظاهر الإعجاز أو المفصح عن كل حكم يحتاج المكلف إليه أنه جعل القرآن بلغة العرب ليعقلوه . وفي نسبة الجعل إلى نفسه إشارة إلى أنه ليس بمفترى كما زعمه الكفرة . وقيل : أراد ورب الكتاب وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ . وقال ابن بحر : هو الخط أقسم به تعظيماً لنعمته فيه ، وقال ابن عيسى : البيان ما يظهر به المعنى للنفس عند الإدراك بالبصر والسمع وذلك على خمسة أوجه : لفظ وخط وإشارة وعقد وهيئة ، كالأعراض وتكليح الوجه . وأم الكتاب بكسر الهمزة وبضمها اللوح المحفوظ لأنه أصل كل كتاب والتقدير : وإنه لعلي حكيم في أم الكتاب لدينا . والعلو علو الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك والحكيم المشتمل على الحكمة . ثم أنكر على مشركي قريش بقوله { أفنضرب } قال جار الله : أراد أنهملكم فنضرب { عنكم الذكر } يقال : ضرب عنه الذكر إذا أمسك عنه وأعرض عن ذكره من ضرب في الأرض .

إذا أبعد و { صفحاً } مصدر من غير لفظ الفعل والأصل فيه أن تولي الشيء صفحة عنقك ، وجوز جار الله أن يكون بمعنى جانباً من قولهم : « نظر إليه بصفح وجهه » فينتصب على الظرف ويكون الذكر بمعنى الوعظ والقرآن والفحوى أفننحيه عنكم . وقيل : ضرب الذكر رفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن من بين أظهركم إشراككم مع علمنا بأنه سيأتي من يقبله ويعمل به . قال السدي : أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم وهو قريب من الأول . وقيل : الذكر هو أن يذكروا بالعقاب ولا يخلوا من مناسبة لقوله { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } ومن قرأ { إن كنتم } بالكسر فكقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي . يخيل في كلامه أن تفريطه في الخروج عن عهدة الأجر فعل من يشذ في الاستحقاق مع تحققه في الخارج . ثم سلى نبيه بقوله { وكم أرسلنا } الآيتين . قوله { أشد منهم } قيل : « من » زائدة والمراد أشدهم { بطشاً } كعاد وثمود وقيل : الضمير لقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصله أشد منكم إلا أنه ورد على طريقة الالتفات كقوله { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس : 22 ] قوله { ومضى مثل الأولين } أي سلف ذكرهم وقصتهم العجيبة في القرآن غير مرة ويحتمل أن يكون معناه كقوله { وقد خلت سنة الأولين } [ الحجر : 13 ] ثم بين بقوله { ولئن سألتهم } أن كفرهم كفر عناد ولجاج لأنهم يعرفون الله ثم ينكرون رسوله وكتابه وقدرته على البعث . وهذه الأوصاف من كلام الله لا من قول الكفار بدليل قوله { لكم } ولم يقل « لنا » ولقوله { فأنشرنا } والمراد لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه وقد مر في « طه » مثله . وقوله { تهتدون } أي في الأسفار أو إلى الإيمان بالنظر والاعتبار . وقوله { بقدر } أي بمقدار الحاجة لا مخرباً مغرقاً كما في الطوفان . وقوله { ميتاً } تذكيره بتأويل المكان . والأزواج الأصناف وقد مر في قوله { سبحان الذي خلق الأزواج } [ يس : 36 ] والعائد إلى ما في قوله { ما تركبون } محذوف فلك أن تقدره مؤنثاً أو مذكراً باعتبارين . قال في الكشاف : يقال : ركبت الأنعام وركبت في الفلك إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة على المتعدي بواسطة . قلت : يجوز أن يكون كقوله « ويوم شهدناه » والضمير في ظهوره عائد إلى ما . والاستواء في الآية بمعنى التمكن والاستقرار وذكر النعمة بالقلب ويحتمل كونه باللسان وهو تقديم الحمد لله . يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال : الحمد لله على كل حال { سبحان الذي سخر لنا هذا } إلى قوله { لمنقلبون } وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً . وإذا ركب في السفينة قال { بسم الله مجريها ومرساها أن ربي لغفور رحيم } [ هود : 41 ] ومعنى { مقرنين } مطيقين أو ضابطين مع صعوبة خلقه وخلقه .

وقيل : لا يطيق أن يقرن بعضها ببعض حتى يسيرها إلى حيث يريد { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أي في آخر عمرنا كأنه يتذكر ركوب الجنازة أو عثور الدابة أو انكسار السفينة فليستعد للقاء الله عز وجل بخلاف من يركب الخيول والزوارق لأجل التنزه والاشتغال بالملاهي والمناهي فيكون غافلاً عن المبدأ والمعاد . عن بعضهم أنه أدخل في البحر ههنا خلاف ما في « الشعراء » لأن ركوب الدابة أو السفينة أو الجنازة عام لكل أحد . وما في « الشعراء » خاص بالسحرة .
ثم عاد إلى ما انجر الكلام منه وهو قوله { ولئن سألتهم } والمقصود التنبيه على سخافة عقولهم وقلة محصولهم فإنهم مع الإقرار بأن خالق السموات والأرض هو الله جعلوا له من عباده جزءاً أي أثبتوا له ولداً ، وذلك أن ولد الرجل جزء منه . قال صلى الله عليه وسل : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وفي قوله { من عباده } إشارة إلى أن ما عداه ممكن الوجود فإن الولد متأخر في الوجود عن الأب والمتأخر عن الواجب ممكن ، والممكن مفتقر إلى الواجب في الوجود والبقاء والذات والصفات . وقيل : هو إنكار على مثبتي الشركاء لأنهم جعلوا بعض العبادة لغير الله ، وفيه نوع تكلف . والكفور البليغ الكفران لأنه يجحد ربه وخالقه ولا يجتهد في تنزيهه وتقديسه . وحين وبخهم على إثبات الولد زاد في توبيخهم وتجهيلهم والتعجيب من حالهم حيث جعلوا ذلك الولد بنتاً مع أنها مكروهة عندهم فقال { أم اتخذ مما يخلق } وفائدة تنكير { بنات } وتعريف البنين كما مر في آخر السورة المتقدمة في تنكير { إناثاً } وتعريف { الذكور } [ الشورى : 49 ] وقوله { بما ضرب للرحمن مثلاً } أي بالجنس الذي جعله شبهاً لله لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ، والمراد أنه إذا بشر بالأنثى كما سبق في « النحل » اغتم ويسود وجهه وملىء غيظاً وكرباً . ثم زاد في الإنكار بتعديد طرف من نقصان الإناث قائلاً { أو من ينشأ } والتقدير أهو كضده . قال جار الله : تقديره أو يجعل للرحمن من الولد من له هذه الصفة الدنيئة الذميمة وهي أنه يربى أو يتربى في الزينة والنعومة ، وهو إذا احتاج إلى المخاصمة لا يبين ولا يعرب عما في ضميره لعجزه عن البيان ولقلة عقله . قالت العقلاء : قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تعرب عن حجتها إلا نطقت بما هو حجة عليها . وفيه أن النشء في الزينة والإمعان في التنعم من خصائص ربات الحجال لا من خواص الرجال . وإنما ينبغي أن يكون تلبسهم بلباس التقوى وتزينهم باستعداد الزاد للدار الأخرى . ثم خصص أن البنات التي نسبن إليه تعالى من أي جنس من بعدما عمم في قوله { مما يخلق } فقال { وجعلوا } أي سموا { الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } وفي إثبات العبودية لهم نفي الجزئية عنهم كما مر آنفاً .

وقوله { أشهدوا خلقهم } كقوله { ما أشهدتم خلق السموات والأرض } [ الكهف : 51 ] وفيه تهكم بهم لأنه لم يدل على ذلك عقل ولا نقل صحيح فلم يبق إلا الإخبار عن المشاهدة يعني مشاهدتهم خلق الله إياهم أو مشاهدة صور الملائكة . ثم أوعدهم بقوله { ستكتب شهادتهم } على أنوثية الملائكة { ويسئلون } ثم حكى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم { قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } أي الملائكة والأصنام نظير ما مر في آخر الأنعام { سيقول الذين أشركوا } [ الآية : 148 ] واستدلال المعتزلة به ظاهر لأنه ذمهم بقوله { ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } أجاب الزجاج عنه بأن قوله { ما لهم بذلك من علم } عائد إلى قولهم الملائكة بنات الله ، والمراد لو شاء الرحمن ما أمرنا بعبادتهم كقولهم { والله أمرنا بهم } [ الأعراف : 28 ] فلهذا أنكر الله عليهم قاله الواحدي في بسيطه . وقيل : قالوها استهزاء ، وزيفه جار الله بأنه لا يتمشى في أقوالهم المتقدمة وإلا كانوا صادقين مؤمنين . وجعل هذا الأخير وحده مقولاً على وجه الهزء دون ما قبله تعويج لكتاب الله . وتمام البحث بين الفريقين مذكور في « الأنعام » وإنما قال في الجاثية { إن هم إلا يظنون } لأن هذا كذب محض وهناك خلطوا الصدق بالكذب ، صدقوا في قولهم { نموت ونحيى } وكذبوا في قولهم { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] وكانوا شاكين في أمر البعث ، ثم زاد في الإنكار عليهم بقوله { أم آتيناهم كتاباً من قبله } أي من قبل القرآن أو الرسول { فهم به مستمسكون } ثم أضرب عن ذلك وأخبر أنه لا مستند لهم في عقائدهم وأقوالهم الفاسدة الا التقليد . والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي تقصد . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هذا دأب أسلافهم وداء قديم في جهال بني آدم . وإنما قال أولاً { مهتدون } وبعده { مقتدون } لأن العرب كانوا يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون الاهتداء ، ولعل الأمم قبلهم لم يزعموا إلا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء . ثم أخبر أن النذير { قال } أو أمر النذير أو محمداً أن يقول { أو لو جئتكم } أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم فاصروا على التكذيب ولم يقبلوا فانتقم الله منهم .
ثم بين بقصة إبراهيم عليه السلام أن القول بالتقليد يوجب المنع من التقليد ، وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان أشرف آباء العرب وأنه ترك دين الآباء لأجل الدليل ، فلو كانوا مقلدين لآبائهم وجب أن يتبعوه في الاعتماد على الدليل لا على مجرد التقليد . والبراء بالفتح مصدر أي ذو براء . وقوله { إلا الذي فطرني } قيل : متصل ، وكان فيهم من يعبد الله مع الأصنام . وقيل : منقطع بمعنى لكن ، ويحتمل أن يكون مجروراً بدلاً من ما أي إلا من الذي وجوز في الكشاف أن تكون « إلا » صفة بمعنى غير و « ما » موصوفة تقديره إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني { فإنه سيهدين } أي يثبتني على الهداية أو يرشدني إلى طريق الجنة ، ولا ريب أن قوله { إنني براء مما تعبدون } بمنزلة لا إله وقوله { إلا الذي فطرني } بمثابة « إلا الله » وهي كلمة التوحيد فلذلك أنّث الضمير في قوله { وجعلها } أي وجعل إبراهيم أو الله { كلمة } التوحيد { باقية في عقبه } فلا يزال في ذريته من يوحد الله عز وجل ويدعو إلى توحيده نظيره

{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } [ البقرة : 132 ] { لعلهم } أي لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد أو عن الشرك بدعاء الموحدين منهم . ثم أضرب عن رجاء الرجوع منهم إلى أن تمتيعهم بالعمر وسعة الرزق صار سبباً لعظم كفرهم وشدة عنادهم . قال جار الله : أراد بل اشتغلوا عن التوحيد { حتى جاءهم الحق } وهو القرآن { ورسول مبين } الرسالة واضحها فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها من غفلتهم لاقتضائها التنبيه . ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق قائلاً { ولما جاءهم الحق } جاؤا بما هو شر من غفلتهم وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ومكابرة الرسول وإنكار القرآن والله أعلم .


وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

القراآت : { سقفاً } بالفتح فالسكون : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد . الباقون : بضمتين على الجمع كرهن ورهن . قال أبو عبيدة : لا ثالث لهما ( لما ) بالتشديد : عاصم وحمزة بمعنى إلا ف { إن } نافية . الآخرون : بالتخفيف ف « إن » مخففة واللام فارقة كما مر في آخر هود { يقيض } على الغيبة والضمير للرحمن : يعقوب وحماد . الآخرون : بالنون { جاءنا } على الوحدة والضمير للعاشي : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ويعقوب . الباقون : بألف التثنية والضمير للعاشي والقرين { أنكم في العذاب } بالكسر : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { أيه الساحر } بضم الهاء مثل { أيه المؤمنون } وقد مر في « النور » { تحتي } بفتح الياء : أبو عمرو وابن كثير ونافع وأبو جعفر { أسورة } كأجربة : حفص وسهل ويعقوب . الآخرون { أساورة } كأشاعرة وهو جمع أسوار بمعنى السوار . وأصله أساوير . إلا أنه عوض من الياء هاء في آخره { سلفاً } بضمتين : حمزة وعلي وهو جمع سليف . الباقون : بفتحتين جمع سالف كخادم وخدم .
الوقوف : { عظيم } ه { رحمت ربك } ط { سخرياً } ط { يجمعون } ه { يظهرون } ه لا { يتكئون } ه لا { وزخرفاً } ط { الدنيا } للمتقين ه { قرين } ه { مهتدون } ه { القرين } ه { مشتركون } ه { مبين } ه { منتقمون } ه لا { مقتدرون } ه { إليك } ط لاحتمال التعليل { مستقيم } ه { ولقومك } ج للتعليق مع سين التهديد { تسئلون } ه { يعبدون } ه { العالمين } ه { يضحكون } ه { من أختها } ز لنوع عدول { يرجعون } ه { لمهتدون } ه { ينكثون } ه { تحتي } ج للاستفهام مع اتحاد الكلام { تبصرون } ه لأن « أم » منقطعة { مقترنين } ه { فأطاعوه } ط { فاسقين } ه { أجميعن } ه { للآخرين } ه .
التفسير : هذه حكاية شبهة لكفار قريش ، وذلك أنهم ظنوا أن الفضيلة في المال والجاه الدنيوي فقالوا { لولا نزل هذا القرآن } وفي الإشارة ههنا نوع استخفاف منهم لكتاب الله { على رجل من القريتين } أي من إحداهما يعنون مكة أو الطائف . قال المفسرون : الذي بمكة هو الوليد بن المغيرة ، والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي . ومنهم من قال غير ذلك . وأرادوا بعظم الرجل رياسته وتقدمه في الدنيا فألزمهم الله تعالى بأجوبة أوّلها قوله على سبيل الإنكار { أهم يقسمون رحمة ربك } أي النبوّة فيضعوها حيث شاؤا { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } أي خدماً وتابعاً ومملوكاً . واللام لام العاقبة فإن الإنسان خلق مدنياً بالطبع . وقالت المعتزلة : للغرض وإذا كانت المعايش الدنيوية مع حقارتها وخساستها مفوّضة إلى تدبير الله وتسخيره وتقديره دون أحد من خلقه ، فالأمور الدينية والمناصب الحقيقية الأخروية أولى بذلك . وقيل : الرحمة الرزق . ومعنى الآية إنكار أن الرزق منهم فيكف تكون النبوّة منهم؟ واستدلال السني بالآية ظاهر في أن كل الأرزاق من الله حلالاً كانت أو حراماً .

وقالت المعتزلة : الله تعالى قاسم ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوءتنا ولهم . والجواب أنه كما قسم الرزق عن الجهة التي بها يصل الرزق إليه فكل بقدره . وثانيها قوله { وحمة ربك خير مما يجمعون } لأن الدنيا منقضية فانية ودين الله وما يتبعه من السعادات باقٍ لا يزول ، فكيف يجعل العاقل ما هو الأخس أفضل مما هو الأشرف؟ وثالثها قوله { ولولا } كراهة { أن يكون الناس أمة واحدة } مجتمعين على الكفر { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم } هو بدل اشتمال وقيل : هما كقولك : وهبت له ثوباً لقميصه في أن اللام للغرض . والمعارج المصاعد أو المراقي جمع معرج كمخلب { عليها } أي على المعارج { يظهرون } يعلون السطوح . والزخرف الزينة أي جعلنا لهم زينة عظيمة في كل باب . وقيل : الذهب أي جعلنا لهم مع ذلك ذهباً كثيراً . أو وجه آخر على هذا التفسير وهو أن يكون معطوفاً على قوله { من فضة } إلا أنه نصب بنزع الخافض أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب . والحاصل أنه سبحانه إن وسع على الكافرين كل التوسعة أطبق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها مع حقارة الدنيا عند الله تعالى ، وفي معناه قول نبينا صلى الله عليه وسلم : « لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء » وإنما لم يوسع على المسلمين كلهم لتكون رغبة الناس في الإسلام لمحض الإخلاص لا لأجل الدنيا . ثم بشر المؤمنين بقوله { وإن كل ذلك } إلى آخره . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن اللطف من الله تعالى واجب ، وفيه أنه تعالى لما لم يفعل بالناس التوسعة لئلا يجتمعوا على الكفر ، فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى . والجواب أن وقوع كل الناس في طريق القهر محذور ، وأما وقوع البعض فضروري كما مر في أول البقرة ، فشتان بين الممتنع الوجود والضروري الوجود فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟ ثم بين أن مادة كل الآفات وأصل جميع البليات هو السكون إلى الدنيا والركون إلى أهلها فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر ويصير بالتدريج كالعشى ثم كالعمى فقال { ومن يعش عن ذكر الرحمن } أي عن القرآن أي يعرف أنه الحق ولكنه يتجاهل . قال جار الله : قرىء بفتح الشين أيضاً . والفرق أنه إذا حصلت آفة في بصره يقال عشي بالكسر أي عمى يعشى بالفتح ، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا أي تعامى . وفيه معنى الإعراض فلهذا عدي ب « عن » ومعنى { نقيض } نقدر كما مر في « حم السجدة » { وإنهم } أي الشياطين { ليصدونهم } أي العشي عن دين الله { ويحسبون } أي الكفار أن الشياطين والكافرين { مهتدون } وإنما جمع الضميرين لأن { من } عام و { شيطاناً } تابع له .

ولا شك أن هذا القرين ملازم له في الآخرة لقوله { حتى إذا جاءنا } الآية وأما في الدنيا فمحتمل بل لازم لقوله صلى الله عليه وسلم : « كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون » ويروى أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطان بيده ولم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حيث يقول { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب كالقمرين . وقيل : المغرب أيضاً مشرق بالنسبة إلى الحركة الثانية وهذا قول أهل السنة . وقيل : مشرق الصيف ومشرق الشتاء وفيه ضعف لأنه لا يفيد مبالغة ، فبين الله تعالى أن ذلك التمني لا ينفعهم وعلله بقوله { أنكم } من قرأ بالكسر فظاهر ، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف اللام أي لن ينفعكم تمنيكم لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر ، ويحتمل أن يكون أن في قراءة الفتح فاعل ينفع أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب . وإن قيل : المصيبة إذا عمت طابت وذلك أن كل أحد مشغول في ذلك اليوم عن حال غيره بحال نفسه . { وإذ } بدل من اليوم ومعناه إذ ظلمكم تبين ووضح لكل أحد .
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يتحزن على فقد الإيمان منهم فسلاه بقوله { أفأنت } إلى آخره . وقوله { فأما نذهبن بك } أراد به قبض روحه كقوله في « يونس » وفي « المؤمن » { فأما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك } [ الآية : 77 ] الانتقام إما في الآخرة وهو قول الجمهور أو في الدنيا . عن جابر أنه قال : لما نزلت { فإنا منهم منتقمون } قال النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أورده في تفسير اللباب . وقيل : فأما نذهبن بك من مكة فإنا منهم منتقمون يوم بدر . والحاصل أنه تعالى توعد الكفار بعذاب الدنيا والآخرة جميعاً . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم سواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرناه إلى الآخرة فكن متمسكاً بما أوحينا إليك فإنه الدين الذي لا عوج له ، وإنه لشرف لك ولقومك أي لجميع أمتك أو لقريش وسوف تسألون هل أديتم شكر هذه النعمة أم لا . قال أهل التحقيق : في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان خلاف الحياة المستعارة فإن أثرها لا يجاوز مسكن الحي . قلت : الذكر الجميل جميل ولكن الذكر الحاصل من القرآن أجمل رزقنا الله طرفاً من ذلك بعميم فضله . ثم إن السبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم إنكاره لأصنامهم ، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذه الدعوة وهذا الإنكار ولكنه دين أطبق كل الأنبياء على الدعاء إليه ، وفي الآية أقوال : أحدها أن المضاف محذوف تقديره واسأل يا محمد أمم من أرسلنا .

وقال القفال : المحذوف صلة التقدير واسأل من أرسلنا إليهم من قبلك رسولاً من رسلنا . والمراد أهل الكتابين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في كثير من أمورهم نظيره { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] ثانيها أن حقيقة السؤال ههنا ممتنعة ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم . وثالثها أن التقدير : واسأل جبرائيل عمن أرسلنا . ورابعها أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له الأنبياء ليلة المعراج في السماء أو في بيت المقدس فأمهم . وقيل له صلى الله عليه وسلم : سلهم . فلم يسأل . وقد قال صلى الله عليه وسلم : « إني لا أشك في ذلك » قاله ابن عباس . وعن ابن مسعود « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني ملك فقال : يا محمد سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا علام بعثوا؟ قال : قلت علام بعثوا؟ قال : على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه » رواه الثعلبي . ولكنه لا يطابق قوله سبحانه { أجعلنا } الآية . وجوز بعضهم أن يكون { من } مبتدأ والاستفهامية خبره والعائد محذوف أي على ألسنتهم ، ومعنى الجعل التسمية والحكم . واعلم أن كفار قريش إنما طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة كونه فقيراً خاملاً وكان فرعون اللعين قد طعن في موسى بمثل ذلك حيث قال { أليس لي ملك مصر } إلى قوله { مهين } [ الزخرف : 52 ] فلا جرم أورد قصة موسى ههنا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم قوله { فلما جاءهم } معطوف على محذوف تقديره فقال إني رسول رب العالمين . فطالبوه إقامة البينة على دعواه فلما جاءهم إلى آخره . قال جار الله : فعل المفاجأة مع إذا مقدر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجأ وقت ضحكهم استهزاء أو سخرية . قوله : { وما نريهم } حكاية حال ماضية . وفي قوله { هي أكبر من أختها } وجهان : أحدهما أن كلاً منها مثل شبيهتها التي تقدمت ، وكل من رأى واحدة منها حكم بأنها حكم كبراها لتكافؤ كل منها في الكبر . وإذا كان هذا الحكم صادقاً على كل منها فكلها كبار كما قال الحماسي : من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم . مثل النجوم التي يسري بها الساري وثانيها أن يقال : إن الآية الأولى كبيرة والتي تليها أكبر من الأولى ، والثالثة أكبر من الثانية ، وكذلك ما بعدها . هذا القدر مستفاد من الآية ، وأما تفصيل هذا التفضيل فلعله لا يطلع عليه إلا خالقها ومظهرها . { وأخذناهم بالعذاب } السنين ونقص من الثمرات إلى سائر ما ابتلوا به . قالت المعتزلة : { لعلهم يرجعون } أي إرادة أن يرجعوا فورد عليهم أنه لو أراد رجوعهم لكان .

وأجابوا بأنه لو أراد قسراً لكان ولكنه أراد مختاراً ، وزيف بأنه لو أراد أن يقع طريق الاختيار لزم أن يقع أيضاً مختاراً . أما الفرق فالصواب أن يقال : « لعل » للترجي ولكن بالنسبة إلى المكلف كما مر مراراً { وقالوا يا أيه الساحر } أي العالم الماهر ولم يكن السحر عندهم ذماً بل كانوا يستعظمونه ولهذا قالوا { إننا لمهتدون } وقيل : كانوا بعد على كفرهم فلهذا سموه ساحراً . وقولهم { إننا لمهتدون } وعد منوي إخلافه . وقولهم { ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة وقد مر في « الأعراف » { ونادى فرعون } أي أمر بالنداء { في } مجامع { قومه } أو رفع صوته بذلك فيما بين خواصه فانتشر في غيرهم . والأنهار أنهار النيل . قال المفسرون : كانت ثلثمائة وستين نهراً ومعظمها أربعة : نهر الملك ونهر طالوت ونهر دمياط ونهر منفيس . كانت تجري تحت قصره وقيل : تحت سريره لارتفاعه . وقيل : بين يدي في جناتي وبساتيني . وعن عبد الله ابن المبارك الدينوري في تفسيره : أنه أراد بالأنهار الجياد من الخيل وهو موافق لما جاء في الحديث في فرس أبي طلحة « وإن وجدناه لبحراً » وقال الضحاك : معناه وهذه القواد والجبابرة تحت لوائي . قال النحويون : إما أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر و { تجري } نصب على الحال ، أو الواو للحال وما بعده جملة محلها نصب . وفي « أم » أقوال منها قول سيبويه إنها متصلة تقديره أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله { أنا خير } موضع { تبصرون } لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء ، فهذا من إنزال السبب منزلة المسبب لأن الإبصار سبب لهذا القول بزعمه . ومنها أنها منقطعة لأنه عدد عليهم أسباب الفضل ثم أضرب عن ذلك ثانياً . أثبت عندكم أني خير . ومنها أن التقدير أفلا تبصرون أني خير أم أبصرتم ثم استأنف فقال أنا خير ، والمهين من المهانة أي الحقارة والضعف أراد أنه فقير ولا عدد معه ولا عدد { ولا يكاد يبين } الكلام لأن عقدته لم تزل بالكلية كما شرحنا في « طه » . وإلقاء الأسورة عليه عبارة عن تفويض مقاليد الملك إليه ، كانوا إذا أرادوا تشريف الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب وغيره أي ليس معه آلات الملك والسياسة ، أو ليس معه حلية وزي حسن كما أن الملوك يشهرون رسلهم بالخلع والمكرمات وبأشخاص يتبعونهم فلذلك قالوا { أو جاء معه الملائكة مقترنين } به أو يقترن بعضهم ببعض { فاستخف قومه } أي حملهم على أن يخفوا له في الطاعة أو استخف عقولهم واستجهلهم { فأطاعوه } وهذه من عادة اللئام كما قيل : العبد لا يردعه إلا العصا :
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ... ومعنى { آسفونا } أغضبونا وأغضبوا رسلنا { فجعلناهم سلفاً } أي متقدمين وعبرة للمتأخرين ليعتبروا من حالهم فلا يقدموا على مثل أفعالهم وإليه المآب .


وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

القراآت : { يا عبادي } بالياء في الحالين : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو . وقرأ حماد وأبو بكر بفتح الياء . الباقون بغير ياء في الحالين { تشتهيه } بهاء الضمير : ونافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص . الآخرون : بحذفها { وإليه يرجعون } بياء الغيبة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بتاء الخطاب . { وقيله } بالكسرة : حمزة وعاصم غير المفضل . الآخرون : بالنصب . { تعلمون } على الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الوقوف : { يصدون } ه { أم هو } ط { جدلاً } ط { خصمون } ه { إسرائيل } ه ط { يخلفون } ه { واتبعون } ط { مستقيم } ه { الشيطان } ج للابتداء بان مع اتصال المعنى { مبين } ه { فيه } ج لعطف الجملتين مع الفاء { وأطيعون } ه { فاعبدوه } ط { مستقيم } ه { من بينهم } ج للابتداء مع الفاء { أليم } ه { لا يشعرون } ه { المتقين } ه { تحزنون } ه ج لاحتمال كون ما بعده وصفاً { مسلمين } ه ج لاحتمال أن يكون { الذين } إلى آخر الآية مبتدأ وقوله { ادخلوا } إلى آخره خبراً ، والقول محذوف لا محالة { تحبرون } ه { وأكواب } ج { الأعين } ج للعدول مع العطف { خالدون } ه { تعملون } ه { تأكلون } ه { خالدون } ه ج لإحتمال ما بعده صفة أو حالاً له لا مستأنفاً { مبلسون } ه ج لاحتمال أن يكون ما بعده مستأنفاً أو حالاً { الظالمين } ه { ربك } ط { ماكثون } ه ج { كارهون } ه { مبرمون } ه ج لأن « أم » يصلح جواب الأولى ويصلح استفهاماً آخر { ونجواهم } ط { يكتبون } ه { العابدين } ه { يصفون } ه { يوعدون } ه { وفي الأرض إله } ط { العليم } ه { بينهما } ج { الساعة } ج { ترجعون } ه { يعلمون } ه { يؤفكون } ه ج فالوقف بناء على قراءة النصب ، والوصل بناء على قراءة الجر وسيأتي تمام البحث عن إعرابها { لا يؤمنون } ه لئلا يوهم أن ما بعده من قيل الرسول { سلام } ط للابتداء بالتهديد . قال السجاوندي : من قرأ { تعلمون } على الخطاب فوقفه لازم لئلا يصير التهديد داخلاً في الأمر بقوله { قل } قلت : لا محذور فيه لأن السلام سلام توديع لا تعظيم .
التفسير : هذا نوع آخر من قبائح أقوال كفرة قريش . وفي تفسير المثل وجوه للمفسرين : أحدها أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا : إذا جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بنات الله . وانتصب { مثلاً } على أنه مفعول ثانٍ لضرب أي جعل مثلا فالضارب للمثل كافرو { إذا قومك } أي المؤمنون { منه } أي من المثل أو ضربه { يصدون } أي يجزعون ويضجون { وقالوا } أي الكفار أهذا خير أم هو يعنون الملائكة خير من عيسى . وثانيها ما مر في آخر الأنبياء أنه حين نزل { أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الآية : 98 ] قال ابن الزبعري للنبي صلى الله عليه وسلم : قد علمت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وعزيراً ، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم .

فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج القوم وضحكوا وصيحوا فأنزل الله تعالى قوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] ونزلت هذه الآية أيضاً . والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً إذا قومك قريش من هذا المثل يصدون بالكسر والضم أي يرتفع لهم جلبة وصياح فرحاً وسروراً بما رأوا من سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العادة قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الآخر الفرح . { وقالوا آلهتنا } وهي الأصنام { خير أم } عيسى فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا أهون . وقيل : من قرأ بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يمنعون عن الحق . وثالثها أنه صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح إلهاً وأن مثله عند الله كمثل آدم ، قال كفار مكة : إن محمداً يريد أن نتخذه إلهاً كما اتخذ النصارى المسيح إلهاً وضجروا وضجوا وقالوا : آلهتنا خير أم هو يعنون محمداً ، وغرضهم أن آلهتهم خير لأنها مما عبدها آباؤهم وأطبقوا عليها فأبطل الله تعالى كلامهم بقوله { ما ضربوه لك إلا جدلاً } أي لم يضربوا هذا المثل لأجلك إلا للجدال والغلبة دون البحث عن الحق { بل هم قوم } من عادتهم الخصومة واللدد . ثم قرر أمر عيسى عليه السلام بقوله { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } بأن خلقناه من غير أب وصيرناه عبرة وحاله عجيبة { ولو نشاء لجعلنا منكم } أي بدلاً منكم { ملائكة في الأرض يخلفون } يقومون مقامكم . وقيل : أراد لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم . والغرض بيان كمال القدرة وأن كون الملائكة في السموات لا يوجب لهم الإلهية ولا نسباً من الله . ثم بين مآل حال عيسى عليه السلام بقوله { وأنه } يعني عيسى { لعلم للساعة } لعلامة من علامات القيامة كما جاء في الحديث « أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي وأنه أول نازل يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الإسلام » وقيل : إذا نزل عيسى رفع التكليف . وقيل : أن عيسى كان يحيي الموتى فعلم بالساعة والبعث . وقيل : الضمير في { وإنه } للقرآن أي القرآن يعلم منه وفيه ثبوت الساعة { فلا تمترن بها } فلا تشكن فيها { واتبعوني } هذه حكاية قول النبي صلى الله عليه وسلم ، أو المراد واتبعوا رسولي وشرعي والباقي واضح إلى قوله { هل ينظرون } وقد مر في آل عمران وفي « مريم » . وقوله { أن تأتيهم } بدل من الساعة و { الأخلاء } جمع خليل و { يومئذ } ظرف { عدو } وهو كقوله { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا }

[ البقرة : 166 ] ولكن خلة المتقين ثابتة لأن المحبة في الله لا تزول . ومعنى { تحبرون } تسرون والحبور السرور ، والصحاف جمع صحفة وهي القصعة فيها طعام ، والأكواب جمع كوب وهو الإبريق لا عروة له . وقد يدور في الخلد أن العروة للكوز أمر زائد على مصلحة الشرب وإنما هو لدفع حاجة كتعليق وتعلق وأهل الجنة فيها براء من أمثال ذلك فلهذا كانت أكوازها أكواباً والله أعلم بأسراره . { وفيها } أي في الجنة . قال القفال : جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على تفصيله لم يخرجوا عنه . ثم يقال لهم { وأنتم فيها خالدون } إلى آخره . ثم وصف حال أهل الجرائم من الكفار أو منهم ومن الفساق على اختلاف بين السني والمتعزلي . ومعنى { لا يفتر } لا يخفف من الفتور ومبلسون آيسون ساكتون تحيراً ودهشاً . ولما أيسوا من فتور العذاب { نادوا يا مالك } وهو اسم خازن النار { ليقض علينا ربك } أي ليمتنا كقوله { فقضى عليه } [ القصص : 15 ] قال مالك : بعد أربعين عاماً أو بعد مائة أو ألف أو قال الله بدليل قوله { ولقد جئناكم } فإنه ظاهر من كلام الله وإن كان يحتمل أن يكون قول الملائكة . قال أهل التحقيق : سمى خازن النار مالكاً لأن الملك علقة والتعلق من أسباب دخول النار كما سمى خازن الجنة رضواناً لأن الرضا بحكم الله سبب كل راحة وسعادة وصلاح وفلاح . ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال { أم أبرموا أمراً } والإبرام والإحكام والمعنى أنهم كلما أحكموا أمراً في المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنا نحكم أمراً في مجازاتهم . وقال قتادة : أجمعوا على التكذيب وأجمعنا على التعذيب ، وذلك أنهم اجتمعوا في دار الندوة وأطبقوا على الاغتيال بمحمد صلى الله عليه وسلم وتناجوا في ذلك فكف عنه شرهم وأوعدهم عليه بأنه يعلم سرهم وهو ما حدّث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خالٍ . ونجواهم وهي ما تكلموا به فيما بينهم على سبيل الخفية أيضاً .
ثم أكد علمه بأن حفظة الأعمال يكتبونه ، ثم برهن على نفي الولد عن نفسه فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وهذه قضية شرطية جزآها ممتنعان إلا أن الملازمة صادقة نظيره قولك : إن كانت الخمسة زوجاً فهي منقسمة بمتساويين . وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وبيان الملازمة أن الولد يجب محبته وخدمته لرضا الوالد وتعظيمه ، فلو كان المقدم حاصلاً في الواقع لزم وقوع التالي عادة وإنما ادعى أوليته في العبادة لأن النبي متقدم في كل حكم على أمته خصوصاً فيما يتعلق بالأصول كتعظيم المعبود وتنزيهه ، لكن التالي غير واقع فكذا المقدم وهذا الكلام ظاهر الإلزام ، واضح الإفحام ، قريب من الأفهام ، لا حاجة فيه إلى تقريب المرام .

وأما المفسرون الظاهريون لا دراية لهم بالمعقول فقد ذكروا فيه وجوهاً متكلفة منها : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله . ومنها إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد . يقال : عبد بالكسر يعبد بالفتح إذا اشتد أنفه . ومنها جعل « إن » نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك ، ووحد ثم نزه نفسه عما لا يليق بذاته ، ثم أمر نبيه أن يتركهم في باطلهم واللعب بدنياهم حتى يلاقوا القيامة . ثم مدح ذاته بقوله { وهو الذي في السماء إله } أي معبود كما مر في قوله { وهو الله في السموات وفي الأرض } [ الأنعام : 3 ] والتقدير وهو الذي هو في السماء إله إلا أنه حذف الراجع لطول الكلام . ثم أبطل قول الكفرة إن الأصنام تنفعهم . وقوله { إلا من شهد } استثناء منقطع أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة هو الذي يملك الشفاعة ، ويجوز أن يكون متصلاً لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيراً . وجوز أن تكون اللام محذوفة لأن الشفاعة تقتضي مشفوعاً له أي لمن شهد بالحق وهم المؤمنون قال بعض العلماء { وهم يعلمون } دلالة على أن إيمان المقلد وشهادته غير معتبر . ثم كرر ما ذكر في أول السورة قائلاً { ولئن سألتهم } والغرض التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ثم يجعلون له أنداداً . وقيل : الضمير في { سألتهم } للمعبودين . من قرأ { وقيله } بالنصب فعن الأخفش أنه معطوف على { سرهم ونجواهم } أو المراد وقال قيله أي قوله ، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره بالكناية في قوله { قل إن كان } وعن أبي علي أنه يعود إلى عيسى ، وفيه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم . ويحتمل أن يكون النصب بالعطف على محل الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله كقراءة من قرأ بالجر . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأعمال الخلق الحسن معهم إلى أوان النصر وهو ظاهر والله أعلم بالتوفيق .


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

القراآت : { رب السموات } بالجر على البدل { من ربك } : عاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالرفع { أني آتيكم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { ترجموني } { فاعتزلوني } بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل { لي } بالفتح : ورش { فكهين } بغير الألف : يزيد { يغلي } على التذكير والضمير للطعام : ابن كثير وحفص والمفضل ورويس وابن مجاهد عن ابن ذكوان . الباقون : بتاء التأنيث والضمير للشجرة { فاعتلوه } بضم التاء : ابن كثير ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب . الآخرون : بالكسر { ذق أنك } بفتح الهمزة على حذف لام التعليل . { في مقام } بضم الميم من الإقامة : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الوقوف : { حم } كوفي ه { المبين } ه لا ومن لم يقف على { حم } وقف على { المبين } { منذرين } ه { حكيم } ه ط بناء على أن التقدير أمرنا أمراً { من عندنا } ط { مرسلين } ه ج لاحتمال أن { رحمة } مفعول له أو به أو التقدير رحمنا رحمة { من ربك } ط { العليم } ه لا لمن خفض { رب } { بينهما } ط { موقنين } ه { ويميت } ط { الأولين } ه { يلعبون } ه { مبين } ه ط { الناس } ط { أليم } ه { مؤمنون } ه { مبين } ه لا للعطف { مجنون } ه لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار { عائدون } ه م لئلا يظن أن ما بعده ظرف للعود { الكبرى } ج لاحتمال التعليل { منتقمون } ه { كريم } ه لا { عباد الله } ط { أمين } ه { على الله } ج { مبين } ه ج { ترجمون } ه { فاعتزلون } ه { مجرمون } ه { متبعون } ه لا { رهوا } ط { مغرقون } ه { وعيون } ه لا { كريم } ه لا { فاكهين } ه لا لأن المعنى تركوها مهيأة كما كانت { آخرين } ه { منظرين } ه { المهين } ه لا { من فرعون } ط { المفسرين } ه { العالمين } ه ج { مبين } ه { ليقولون } ه لا { بمنشرين } ه { صادقين } ه { تبع } لا للعطف { من قبلهم } ط لتناهي الاستفهام إلى ابتداء الأخبار { أهلكناهم } ج لأن التعليل أوضح { مجرمين } ه { لاعبين } ه { لا يعلمون } ه { أجمعين } ه لا لأن ما بعده بدل { ولا هم ينصرون } ه لا { رحم الله } ط { الرحيم } ه { الأثيم } ه ج لاحتمال أن يكون { كالمهل } خبراً بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف { في البطون } لا { الحميم } ه { الجحيم } ه { الحميم } ه ط لأن التقدير قولوا أو يقال له ذق { الكريم } ه { تمترون } ه { أمين } ه لا { وعيون } ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { متقابلين } ه ج لاحتمال أن يراد كما ذكرنا من حالهم قبل أو يكون التقدير الأمر كذلك { عين } ه ج لئلا يوهم أن ما بعده صفة للحور { آمنين } ه لا لأن ما بعده صفة فإن الأمن لا يتم إلا به { الأولى } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً بإضمار قد { الجحيم } ه لا لأن { فضلاً } مفعول به { من ربك } ط { العظيم } ه { يتذكرون } ه { مرتقبون } ه .

التفسير : أقسم بالقرآن { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب وإنما أنزل في هذه الليلة خصوصاً لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية ، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة فالجملتان - أعني قوله { إنا كنا منذرين فيها يفرق على أمر حكيم } كالتفسير لجواب القسم قال صاحب النظم : ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه فجواب القسم { إنا كنا منذرين } وقوله { إنا أنزلناه } اعتراض . والجمهور على الأول ولا بأس لأن المعنى إنا أنزلنا القرآن على محمد ولم يتقوله ، ويحتمل أن القسم وقع على إنزاله في ليلة مباركة . وأكثر المفسرين على أنها ليلة القدر لقوله { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] وليلة القدر عند الأكثرين من رمضان . ونقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست ليال منه ، والزبور لاثنتي عشرة مضت ، والإنجيل لثمان عشرة منه ، والفرقان لأربع وعشرين مضت ، والليلة المباركة هي ليلة القدر . وزعم بعضهم كعكرمة وغيره أنها ليلة النصف من شعبان . وما رأيت لهم دليلاً يعوَّل عليه . قالوا : وتسمى ليلة البراءة أيضاً وليلة الصك لأن الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة من النار في هذه الليلة . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشراً يدفعون عنه مكايد الشيطان . » وقال « إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب » وقال : « إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو ساخر أو مدمن خمر أو عاق للوالدين أو مصر على الزنا » ومما أعطى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الشفاعة وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر منها فأعطى الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير . ومن عادة الله عز وجل في هذه الليلة أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة . وبعضهم أراد أن يجمع بين القولين فقال : ابتدىء بانتساخ القرآن من اللوح المحفوظ ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر . والمباركة الكثيرة الخير ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة . ومعنى { يفرق } يفصل ويكتب { كل أمر } هو ضد النهي أو كل أمر له شأن من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى العام القابل ، فيدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسوف إلى جبرائيل ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت .

وقيل : يعطي كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته . وفي انتصاب { أمراً } وجوه : إما أن يكون حالاً من { أمر حكيم } لأنه قريب من المعرفة أو من الهاء في { أنزلناه } أو من الفاعل أي آمرين ، أو على المصدر لأمر ، أو على الاختصاص لأن كونه من عند الله يوجبه مزيد شرف وفخامة ، أو يكون مصدراً من غير لفظ الفعل وهو { يفرق } لأنه إذا حكم بالشيء وفصله وكتبه فقد أوجبه وأمر به قوله { إنا كنا مرسلين } يجوز أن يكون بدلاً من قوله تعالى { إنا كنا منذرين } أي أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل وإنزال الكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة ، ويحتمل كونه تعليلاً ليفرق ، أو لقوله { أمراً من عندنا } وقوله { من ربك } وضع للظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة . ثم حقق ربوبيته بقوله { إنه هو السميع العليم } إلى قوله الأولين . ومعنى الشرط في قوله { إن كنتم موقنين } نظير ما هو في أول الشعراء وذلك أنهم كانوا مقرين بأنه رب السموات والأرض . قيل لهم : إن كنتم على بصيرة وإيقان من ذلك فلا تشكوا فيه ، أو إن كنتم موقنين بشيء فأيقنوا بما أخبرتكم ، أو إن كنتم تريدون اليقين فاعلموا ذلك . وقيل : إن نافية ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله { بل هم في شك يلعبون } في الدنيا أو يستهزؤون بنا فلا جرم أوعدهم بقوله { فارتقب } و { يوم } مفعول به أي انتظره . والأكثرون على أن هذا الدخان من أمارات القيامة فإن الدنيا ستصير كبيت لاخصاص له مملوء دخاناً يدخل في أنوف الكفار وآذانهم فيكونون كالسكارى ، ويصيب المؤمن فيه كالزكام فيبقى ذلك أربعين . وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر » أبين بكسر الهمزة وفتحها اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها . وقيل : الدخان يكون في القيامة إذا خرجوا من قبورهم يحيط بالخلائق ويغشاهم . وقيل : الدخان الشر والفتنة . وعن ابن مسعود : خمس قد مضت الروم والدخان والقمر والبطشة واللزام . وذلك أن قريشاً لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني ويوسف . فأصابهم اللزام وهو القحط حتى أكلوا الجيف ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان فيسمع كلام صاحبه ولا يراه من الدخان . فمشى إليه صلى الله عليه وسلم أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم ، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا .

فلما كشف عنهم من الدخان رجعوا إلى شركهم وذلك قوله { هذا عذاب } أي قائلين هذا إلى آخره .
ثم استبعد منهم الاتعاظ بقوله { أنى لهم الذكرى وقد جاءهم } ما هو أعظم من كشف الدخان وهو القرآن المعجز وغيره فلم يتذكروا { وتولوا عنه } واتهموه صلى الله عليه وسلم بأنه إنما يعلمهن بشر ونسبوه إلى الجنون . ومعنى « ثم » تبعيد الحالتين . ثم بين أنهم يعودون إلى الكفر عقيب كشف العذاب عنهم زماناً قليلاً . واعلم أن ارتدادهم إلى الكفر أمر ممكن سواء يجعل الدخان من أمارات القيامة أو يقال إنه قد مضى . والبطشة الكبرى القيامة أو يوم بدر على التفسيرين . و { يوم } ظرف لما دل عليه منتقمون فإن ما بعد « أن » لا يعمل فيما قبله . وقيل : بدل من { يوم تأتي السماء } ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقصة موسى . ومعنى { فتنا } امتحنا وقد وصفه بالكرم لأنه كان حبيباً في قومه أو بكرم خلقه ، أو المراد أنه لم يخاشنهم في التبليغ كما قال { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] « وأن » مفسرة لأن مجيء الرسول يتضمن القول ، أو مخففة من الثقيلة ، أو مصدرية والياء محذوف . و { عباد الله } مفعول به لقوله { أرسل معنا بني إسرائيل } [ طه : 47 ] أو منادى والمعنى أدوا إليَّ يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان والطاعة . والقصة مذكورة في « الشعراء » وغيرها و { وأن ترجمون } أن تقتلون أو تشتمون بالنسبة إلى الكذب والسحر { وإن لم تؤمنوا لي } أي لم تصدقوني فقارقوني وكونوا بمعزل عني لا عليّ ولا لي { فدعا ربه } شاكياً { أن هؤلاء قوم مجرمون } مصرون على الكفر { فأسر } أي فأجبنا دعاءه وقلنا له أسر وكان من دعائه اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم . ويحتمل أن يكون الدعاء وهو ما في « يونس » { ربنا اطمس على أموالهم } [ الآية : 88 ] وفي { رهواً } وجهان : أحدهما ساكناً أي لا تضربه . ثانياً واتركه على هيئته من انتصاب الماء وكون الطريق يبساً . وذلك أن موسى أراد أن يضربه ثانياً حتى ينطبق ويزول الانفلاق خوفاً من أن يدركهم قوم فرعون ، والله تعالى أراد أن يدخل القبط البحر ثم يطبقه عليهم ، وثانيهما أن الرهو الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحاً منفرجاً على حاله . والنعمة بفتح النون التنعم والباقي مذكور في « الشعراء » . وقوله { فما بكت } كان إذا مات الرجل الخطير قالوا في تعظيم مصيبته بكت عليه السماء والأرض وأظلمت الدنيا ، ومنه الحديث « وما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء » وفيه تمثيل وتخييل وتهكم بهم أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك ، فأخبر ما كانوا في هذا الحد بل كانوا أنهم دون ذلك .

وجوز كثير من المفسرين أن يكون البكاء حقيقة وجعلوا الخسوف والكسوف والحمرة التي تحدث في السماء وهبوب الرياح العاصفة من ذلك . قال الواحدى في البسيط : روي أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية » ثم إن هؤلاء الكفار لم يكن لهم عمل صالح يصعد إلى السماء فلا جرم لم تبك عليهم . وعن الحسن : أراد أهل السماء والأرض أي ما بكت عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين { وما كانوا إذا منظرين } أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى الآخرة بل عجل لهم في الدنيا . قوله { من فرعون } بدل من العذاب بل جعل في نفسه عذاباً مهيناً لشدة شكيمته وفرط عتوه . وقيل : المضاف محذوف أي من عذابه . وقيل : تقديره المهين الصادر من فرعون ، وفي قراءة ابن عباس { من فرعون } على الاستفهام أي ما ظنكم بعذاب من تعرفونه أنه عال قاهر عات مجاوز حد الاعتدال . ثم ثنى على بني إسرائيل بقوله { ولقد اخترناهم } بإيتاء الملك والنبوة { على علم } منا باستحقاقهم ذلك وقيامهم بالشكر عليه على عالمي زمانهم . ولا ريب أن هذا قبل التحريف . وقيل : أي على علم منا بأنه يبدو منهم بوادر وتفريطات والبلاء النعمة أو المحنة ، والآيات هي التسع وغيرها .
ثم عاد إلى ما انجر الكلام فيه وهو قوله { بل هم في شك يلعبون } فقال { إن هؤلاء } يعني كفار قريش { ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى } قال المفسرون : يؤل إلى ما حكى عنهم في موضع آخر { إن هي إلا حياتنا الدنيا } [ المؤمنون : 37 ] وذلك أن النزاع إنما وقع في موتة تعقبها حياة فأنكروا أن تكون موتة بهذا الوصف إلا الموتة الأولى وهو حال كونهم نطفاً . ويحتمل أن يراد إن هي أي الصفة أو النهاية أو الحالة أو العاقبة إلا الموتة الأولى ، وليست إثباتاً لموتة ثانية إنما هو كقولك : حج فلان الحجة الأولى ، ومات { وما نحن بمنشرين } أنشر الله الموتى أحياهم { فأتوا } أيها النبي والذين آمنوا معه { بآبائنا إن كنتم صادقين } يروى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم إحياء الموتى فينشر كبيرهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة البعث ، فلم يجبهم الله تعالى إلى ذلك ولكنه أوعدهم بقوله { أهم خير أم قوم تبع } أي ليسوا بخير منهم في العدد والعز والمنعة . ابن عباس : تبع نبي . أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا أدري تبع نبياً كان أم غير نبي »

رواه الثعلبي عن عائشة كان رجلاً صالحاً ذم الله قومه ولم يذمه . وإنما خصهم بالذكر لقربهم من العرب زماناً ومكاناً . وعن سعيد بن جبير كسا البيت . وقال قتادة : كان من حمير سار فبنى الحيرة وسمرقند . وقال أبو عبيدة : هم ملوك اليمن يسمى كل واحد منهم تبعاً لكثرة تبعه ، أو لأنه يتبع صاحبه وهو بمنزلة الخليفة للمسلمين ، وكسرى للفرس ، وقيصر للروم ، وجمعه تبابعة ، وكان يكتب إذا كتب بسم الذي ملك براً وبحراً . ثم برهن على صحة البعث بقوله { وما خلقنا } إلى آخره ، وقد مر في « الأنبياء » وفي « ص » نظيره . وإنما جمع السموات ههنا لموافقة قوله في أول السورة { رب السموات } وسمى يوم القيامة يوم الفصل لأنه يفصل بين عباده في الحكم والقضاء ، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار ، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون وللكافرين بينهم وبين وما يشتهونه فيفصل بين الوالد وولده والرجل وزوجته والمرء وخليله . والمولى في الآية يحتمل الولي والناصر والمعين وابن العم ، والمراد أن أحداً منهم بأي معنى فرض لا يتوقع منه النصرة . والضمير في { لا ينصرون } للمولى الثاني لأنه جمع في المعنى لعمومه وشياعه . وقوله { إلا من رحم الله } في محل الرفع على البدل أو في محل النصب على الاستثناء { إنه هو العزيز } الغالب على من عصى { الرحيم } لمن أطاع . ثم أراد أن يختم السورة بوعيد الفجار ووعد الأبرار فقال { إن شجرت الزقوم } وقد مر تفسيرها في الصافات . و { الأثيم } مبالغة الآثم ولهذا يمكن أن يقال : إنه مخصوص بالكافر . والمهمل دردي الزيت وقد مر في « الكهف » . ولعل وجه التشبيه هو بشاعة الطعم كما أن الوجه في قوله { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } [ الصافات : 65 ] هو كراهة المنظر ثم وصفه بشدة الحرارة قائلاً { يغلي } إلى آخره . ثم أخبر أنه سبحانه يقول للزبانية { خذوه } أي خذوا الأثيم { فاعتلوه } جروه بعنف وغلظة كأن يؤخذ بتلبيبه فيجر إلى وسط النار . ومنه العتل للجافي الغليظ . وقوله { من عذاب الحميم } دون أن يقول « من الحميم » تهويل سلوك لطريق الاستعارة لأنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته . يروي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أمنع مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي « شيئاً » فنزلت الآية . أي يقال له ذق لأنك أنت العزيز الكريم عند نفسك وفيه من التهكم ما فيه { إن هذا } العذاب { ما كنتم به تمترون } تشكون . ثم شرع في وعد الأبرار والمقام الأمين ذو الأمن ، أو أصله من الأمانة لأن المكان المخيف كأنما يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره .

وقوله { وزوجناهم } اختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزوج أم لا . والأكثرون على نفيه ، وأن المراد قرناهم بهن . وقيل : زوجته امرأة وزوجته بامرأة لغتان . وهكذا اختلفوا في الحور . فعن الحسن : هن عجائزكم ينشئهن الله خلقاً آخر . وقال أبو هريرة : لسن من نساء الدنيا . { يدعون } أي يحكمون ويأمرون في الجنة بإحضار ما يشتهون من الفواكه في أي وقت ومكان { آمنين } من التخم والتبعات ، ثم أخبر عن خلودهم بقوله { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } قال جار الله : هو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها . وقيل : الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها . وقال أهل التحقيق : إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله وبمحبته . فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة . وفي الآخرة أيضاً في الجنة فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى . ثم ختم الكلام بفذلكته والمعنى ذكرناهم بالكتاب المبين فأسهلناه حيث أنزلناه بلغتك إرادة تذكرهم فانتظر ما يحل فإنهم يتربصون بك الدوائر .


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

القراآت : { وفي خلقكم } مدغماً : عباس . { آيات } بالنصب في الموضعين : حمزة وعلي ويعقوب { الريح } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف { يؤمنون } على الغيبة : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل وحفص { أليم } مذكور في « سبأ » { لنجزي } بالنون : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف { ليجزي } بالياء مبنياً للمفعول { قوم } بالرفع : يزيد . الباقون : مبنياً للفاعل { قوماً } سواء بالنصب : حمزة وعلي وخلف وحفص وروح وزيد { غشوة } بفتح الغين وسكون الشين من غير ألف : حمزة وعلي وخلف 3 { كل أمة تدعي } بالنصب على الإبدال من الأول : يعقوب { الساعة } بالنصب : حمزة { لا يخرجون } من الخروج حمزة وعلي وخلف .
الوقوف : { حم } كوفي ه { الحكيم } ه { للمؤمنين } ه ط ومن نصب ، { آيات } لم يقف لأنها عطف المفردين على المفردين وهما الخبر واسم أن المفردين { يوقنون } ه لا للعطف على { عاملين } كما يجيء { يعقلون } ه { بالحق } ج للاستفهام مع الفاء { يؤمنون } ه { أثيم } ه { يسمعها } ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب { أليم } ه { هزواً } ط { مهين } ه ط لأنه لو وصل اشتبه بأنها وصف { عذاب جهنم } ج لعطف المختلفين { أولياء } ج لذلك { عظيم } ه { هدى } ط لأن ما بعده مبتدأ مع العاطف { أليم } ه { تشكرون } ه ج للآية مع العطف { منه } ط { يتفكرون } ج { يكسبون } ه { فلنفسه } ج { فعليها } ز لأن « ثم » لترتيب الأخبار مع اتحاد القصة { ترجعون } ه { العالمين } ه ج للآية والعطف { من الأمر } ج لعطف المختلفتين { بينهم } ط { يختلفون } ه { لا يعلمون } ه { شيئاً } ج { بعض } ج للتمييز بين الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين { المتقين } ه { يوقنون } ه { الصالحات } قف ومن نصب { سواء } لم يقف . { ومماتهم } ط { يحكمون } ه { لا يظلمون } ه { غشاوة } ط { من بعد الله } ط { تذكرون } ه { الدهر } ج لاحتمال الواو الحال { من علم } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { يظنون } ه { صادقين } ه { لا يعلمون } ه { والأرض } ط { المبطلون } ه { جاثية } قف لمن قرأ { كل } بالرفع { كتابها } ط { تعملون } ه { بالحق } ه ط { تعملون } ه { في رحمته } ط { المبين } ه { مجرمين } ه { ما الساعة } لا تحرزاً عن الابتداء بقول الكفار { بمستيقنين } ه { يستهزؤون } ه { ناصرين } ه { الدنيا } ج للعدول عن الخطاب إلى الغيبة { يستعتبون } ه { العالمين } ه { والأرض } ص لعطف الجملتين المتفقتين { الحكيم } ه .
التفسير : إعراب أول السورة وتفسيرها كإعراب أول « المؤمن » وتفسيره وقوله { إن في السموات } إما أن يكون على ظاهره وآياتها الشمس والقمر والنجوم وحركاتها وأوضاعها وكذا العناصر والمواليد التي في الأرض مما يعجز الحاصر عن إدراك أعدادها ، وإما أن يراد إن في خلق السموات والأرض فالآيات تشمل ما عددنا مع زيادة هيئتهما وما يتعلق بتشخيصهما .

استدل الأخفش بالآية الثالثة على جواز العطف على عاملين . مختلفين وهما في قراءة النصب « أن » وفي أقيمت الواو مقامها فعملت الجر في اختلاف الليل ، والنصب في آيات وهما في قراءة الرفع الابتداء وفي . وخرج لسيبويه في جوابه وجهان : أحدهما أن قوله { آيات } تكرار محض للتأكيد فقط من غير حاجة إلى ذكرها كما تقول : إن في الدار زيداً وفي الحجرة زيداً والمسجد زيداً ، وأنت تريد أن في الدار زيداً والحجرة والمسجد . والثاني إضمار في لدلالة الأول عليه ، ويحتمل أن ينتصب { آيات } على الاختصاص . ويرتفع بإضمار هي . وتفسير هذه الآيات قد مر في نظائرها مراراً ولا سيما في أواسط « البقرة » ومما يختص بالمقام أنه خص المؤمنين بالذكر أولاً ثم قال { لقوم يوقنون } ثم { يعقلون } فما سبب هذا الترتيب؟ قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : أراد إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإلا فإن كنتم طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين ، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل ، وقال جار الله : معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال . وفي خلق ما بث من الدواب على ظهر الأرض ، ازدادوا إيماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس ، وإذا نظروا في سائر الحوادث كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار التي هي سبب الأرزاق وحياة الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم عقلهم وخلص يقينهم . وأقول : الدلائل المذكورة في هذه الآيات قسمان : نفسية وخارجية . فالنفسية أولى بالإيقان لأنه لا شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه ، والخارجية بعضها فلكية وبعضها آثار علوية . فالفلكية لبعدها عن الإنسان اكتفى فيها بمجرد التصديق ، وأما الآثار العلوية فكانت أولى بالنظر والاستدلال لقربها وللإحساس بها فلا جرم خصت بالتعقل والتدبر ، وأما تقديم السموات على الأرض فلشمولها ولتقدمها في الوجود . { تلك } مبتدأ والتبعيد للتعظيم والمشار إليها الآيات المتقدمة و { نتلوها } في محل الحال . وقوله { بعد الله وآياته } كقولهم : أعجبني زيد وكرمه . وأصله بعد آيات الله . والمعنى أن من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث سواه . وقيل : معناه القرآن آخر كتب الله ، ومحمد آخر رسله . فإن لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون ولا كتاب بعده ولا نبي . ثم أوعد الناس المبالغين في الإثم وقد مر ما في الآية في سورة لقمان . قوله { وإذا علم } أي شعر وأحس بأنه من جملة القرآن المنزل خاض في الاستهزاء ، وإذا وقف على آية لها محل في باب الطعن والقدح افترضه وحمله على الوجه الموجب للطعن كافتراض ابن الزبعري في قوله

{ إنكم وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء : 98 ] وإنما أنّث الضمير في قوله { اتخذها } لأن الشيء في معنى الآية أو لأنه أراد أن يتخذ جميع الآيات هزواً ولا يقتصر على الاستهزاء بما بلغه . قوله { من ورائهم جهنم } كل ما توارى عنك فهو وراء تقدم أو تأخر ، وقد مر في سورة إبراهيم عليه السلام { هذا هدى } أي هذا القرآن كامل في باب الهداية والإرشاد . ثم ذكر دليلاً آخر على الوحدانية وهو تسخير البحر لبني آدم وقد سبق وجه الدلالة مراراً . وقوله { ولتبتغوا } أي بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو باستخراج اللحم الطري . ثم عمم بعد التخصيص وقوله { منه } في موضع الحال أي سخر جميع ما في السموات والأرض كائنة منه ، يريد أنه أوجدها بقدرته وحكمته ثم سخرها لخلقه ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه . عن ابن عباس برواية عطاء أن الصحابة نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر - يقال لها المريسيع - فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له : ما حبسك؟ قال : غلام عمر قعد على رأس البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه . فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى { قل للذين آمنوا } يعني عمر { يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } لا يتوقعون وقائعه بأعداء الله أو لا يأملون قوة المؤمنين في أيام الله الموعودة لهم ، والمراد الصفح والإعراض . عن عبد الله بن أبي وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس : لما نزلت { من ذا الذي يقرض الله } [ البقرة : 245 ] قال اليهودي فنحاص بن عازوراء : احتاج رب محمد فبلغ ذلك عمر فأخذ سيفه فخرج في طلبه ، فجاء جبرائيل وأنزل الآية هذه . وليس المقصود أن لا تقتلوا ولا تقاتلوا حتى يلزم نسخها بآية القتال كما ذهب إليه كثير من المفسرين ، ولكن الأولى أن يحمل على ترك المنازعة في المحقرات وفي أفعالهم الموحشة المؤذية ، وإنما أنكر { قوماً } مع أنه أراد بقوم الذين آمنوا وهم معارف ليدل على مدحهم والثناء عليهم كأنه قيل : لنجزي قوماً كاملين في الصبر والإغضاء على أذى الأعداء { بما كانوا يكسبون } من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ، وقيل : القوم هم الكافرون الكاملون في النفاق . ثم فصل الجزاء وعمم الحكم بقوله { من عمل صالحاً } الآية .
ثم بين أن للمتأخرين من الكفار أسوة بالمتقدمين منهم والكتاب التوراة والحكم بيان الشرائع والبينات من الأمر أدلة أمور الدين . وقال ابن عباس : يريد أنه تبين لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مهاجر من تهامة إلى يثرب .

وقيل : هي المعجزات القاهرة على صحة نبوة موسى { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } فيه احتمالان : أحدهما علموا ثم عاندوا ، والثاني جاءهم أسباب المعرفة التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ولكنهم أظهروا النزاع حسداً . { ثم جعلناك على شريعة } أي منهاج وطريقة { من الأمر } أمر الدين وقيل : من الأمر الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا . قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك وهم كانوا أفضل منك وأسن فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله { ولا تتبع } إلى آخره أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب وهم لا يقدرون على دفعه عنك . ثم أشار بعد النهي عن اتباع أهوائهم بقوله { ولا تتبع } أتباعهم إلى الفرق بين ولاة الظالمين وهم أشكالهم من الظلمة ، وبين ولي المتقين وهو الله سبحانه . ومن جملة آثار ولايته وبركة عنايته { هذا } القرآن . وقيل : ما تقدم من اتباع الشريعة وترك طاعة الظالم وجعل القرآن مشاراً إليه أولى لقوله { بصائر من ربكم } إلى آخره . وقد مر في آخر « الأعراف » مثله . ثم بين الفرق بين الظالمين والمتقين من وجه آخر قائلاً { أم حسب } قال جار الله : « أم » منقطعة والآية نظيرة ما سلف في « ص » { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين } [ الآية : 28 ] والاجتراح الاكتساب . من قرأ { سواء } بالنصب فمعناه مستوياً والظاهر بعده فاعله ويكون انتصابه على البدل من ثاني مفعولي { نجعل } وهو الكاف . من قرأ بالرفع بخبر { ومحياهم } مبتدأ والجملة بدل أيضاً لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً . والمعنى إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتاً ، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة وإنهم عاشوا على المعصية ومات أولئك على البشرى والرحمة ، ومات هؤلاء على الضد . وقيل : معناه إنكار أن يستويا في الممات كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق ، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن . فالفرق المتقضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة . وقيل : إنه كلام مستأنف ، والمراد أن كلاً من الفريقين يموت على حسب ما عاش عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : « كما تعيشون تموتون » وحين أفتى بأن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادات استدل على صحة هذه الدعوى بقوله { وخلق الله } الآية . قال جار الله : { ولتجزى } معطوف على { بالحق } لأنه في معنى التعليل أي للعدل ، أو ليدل بها على قدرته وللجزاء . ويجوز أن يكون المعلل محذوفاً وهو فعلنا ونحوه . والحاصل أن الغاية من خلق السماء والأرض كان هو الإنسان الكامل فكيف يترك الله جزاءه وجزاء من هو ضده والتميز بينهما بموجب العدالة .

ثم قرر أسباب ضلال المضلين قائلاً { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } أي يتبع ما تدعو إليه نفسه الأمارة وقد مر في الفرقان { وأضله الله على علم } بحالة أنه من أهل الخذلان والقهر ، أو على علم الضلال في سابق القضاء ، أو على علم بوجوه الهداية وإحاطته بالألطاف المحصلة لها . وقيل : أراد به المعاند لأن ضلاله عن علم { فمن يهديه من بعد } إضلال { الله } قال بعض العلماء : قدم السمع على القلب في هذه الآية وبالعكس في « البقرة » لأن كفار مكة كانوا يبغضونه بقلوبهم وما كانوا يستمعون إليه وكفار المدينة ، كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة ، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه . ففي هذه الصورة على هذا التقدير كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس ، وفي الصورة الأولى كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن ، فورد ما في كل سورة على ترتيبه . ثم ذكر من أسباب الضلال سبباً آخر وهو إنكارهم البعث معتقدين أن لا حياة لا هذه . وليس قولهم الدنيا تسلماً لثانية وإنما هو قول منهم على لسان المقرين وبزعمهم { نموت ونحيى } فيه تقديم وتأخير على أن الواو لا توجب الترتيب . وقيل : يموت الآباء وتحيا الأبناء وحياة الأبناء حياة الآباء ، أو يموت بعض ، ويحيا بعض ، أو أرادوا بكونهم أمواتاً حال كونهم نطفاً ، أو هو على مذهب أهل التناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في بدن آخر . ثم إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكار المبدأ قائلين { وما يهلكنا إلا الدهر } اعتقدوا أن تولد الأشخاص وكون الممتزجات وفسادها ليس إلا بسبب مزاوجات الكواكب . ولا حاجة في هذا الباب إلى مبدىء المبادىء فأجاب الله عن شبهتهم بقوله { وما لهم بذلك من علم } أي ليس لهم على ما قالوه دليل وإنما ذكروا ذلك ظناً تخميناً واستبعاداً فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى قولهم ، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مراراً وأطوراً . وليس قولهم { ائتوا بآبائنا } من الحجة في شيء لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال بدليل الحادث اليومي الممتنع حصوله في الأمس ، فوجه الاستثناء أنه في أسلوب قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع ... وحين بكتهم وسكتهم صرح بما هو الحق وقال { قل الله يحييكم } إلى آخره . ثم أراد أن يختم السورة بوصف يوم القيامة وما سيجري على الكفار فيه فقال { ويوم تقوم الساعة } العامل فيه يخسر وقوله { يومئذ } بدل من { يوم } وفيه تأكيد للحصر المستفاد من تقديم الظرف . قال ابن عباس : الجاثية المجتمعة للحساب المترقبة لما يعمل بها . وقيل : باركة جلسة المدعي عند الحاكم .

وقيل : مستوفزاً لا يصيب الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله . والجثو للكفار خاصة . وقيل : عام بدليل قوله بعد ذلك { فأما الذين آمنوا } { وأما الذين كفروا } { تدعى إلى كتابها } يريد كتاب الحفظة ليقرؤه . وقال الجاحظ : إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا . ويقال : يا أهل التوراة يا أهل القرآن . { اليوم تجزون } بتقدير القول ومما يؤيد القول الأول قوله { هذا كتابنا } إلى قوله { إنا كنا نستنسخ } أي نأمر بالنسخ . وإضافة الكتاب تارة إليهم وأخرى إلى الله عز وجل صحيحة لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ، فأضيف إليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه ، وأضيف إلى الله سبحانه لأنه أمر ملائكته بكتبه . قوله { أفلم تكن } القول فيه مقدر أي فيقال لهم ذلك قوله { إن نظن إلا ظناً } قال أبو علي والأخفش : هذا الكلام جار على غير الظاهر لأن كل من يظن فإنه لا يظن إلا الظن ، فتأويله أن ينوي به التقديم أي ما نحن إلا نظن ظناً . وقال المازني : تقديره إن نظن نحن إلا ظناً منكم أي أنتم شاكون فيما تزعمون وما نحن بمستيقنين أنكم لا تظنون . وقال جار الله : أصله نظن ظناً ومعناه إثبات الظن فحسب . فأدخل أداة الحصر ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه وأقول : الظن قد يطلق على ما يقرب من العلم ، ولا ريب أن لهذا الرجحان مراتب وكأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه وأكدوا هذا المعنى بقوله { وما نحن بمستيقنين } وباقي السورة واضح مما سلف والله أعلم .


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

القراآت : { لتنذر } على الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب . الباقون : على الغيبة . والضمير للكتاب { إحساناً } : حمزة وعلي وخلف وعاصم . الباقون : { حسناً } { كرهاً } في الموضعين بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وجبلة وهشام . الباقون : بالضم وفصله يعقوب . الآخرون { وفصاله } { أوزعني أن } بالفتح : إبن كثير غير القوّاس والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني { نتقبل } بالنون { أحسن } بالنصب { ونتجاوز } بالنون : حمزة وعلي وخلف وحفص . الآخرون بياء الغيبة مبنياً للمفعول في الفعلين { أحسن } بالرفع { أف } بالكسر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص والمفضل . وقرأ ابن كثير بالفتح من غير تنوين . الباقون : بالكسر ولا تنوين { أتعدانني أن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وقرأ هشام مدغمة النون { وليوفيهم } بالياء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم . الباقون : بالنون { أءذهبتم } بتحقيق الهمزتين : ابن ذكوان { آذهبتم } بالمدّ : ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وهشام . الباقون : بهمزة واحدة .
الوقوف : { حم } ه كوفي { الحكيم } ه { مسمى } ط { معرضون } ه { السموات } ه لانتهاء الاستفهام إلى الخطاب { صادقين } ه { غافلون } ه { كافرين } ه { مبين } ه لأن « أم » تتضمن استفهام إنكار { افتراه } ط { شيئاً } ط { فيه } ط { وبينكم } ط { الرحيم } ه { بكم } ط { مبين } 5 ط { واستكبرتم } ط { الظالمين } 5 { إليه } ط { قديم } 5 { ورحمة } ط { للمحسنين } ه { يحزنون } ه { فيها } ج لأن { جزاء } يصلح مفعولاً له ومفعول فعل محذوف أي يجزون جزاء { يعملون } ه { إحساناً } ط { ووضعته كرهاً } ط { شهراً } ط { سنة } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { ذرّيتي } ط للابتداء بإن مع اتحاد الكلام { المسلمين } ه { الجنة } ط لأن التقدير وعد لله وعداً صدقاً وهو مصدر مؤكد لأن قوله { نتقبل } في معنى الوعد { يوعدون } ه { الأوّلين } ه { والإنس } ط { خاسرين } ه { عملوا } ج لأن الواو تكون مقحمة ويتصل اللام بما قبله وقد يكون المعلل محذوفاً كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم { لا يظلمون } ه ط لتقدير القول وهو العامل في يوم { بها } ج لابتداء التهديد مع الفاء { تفسقون } ه .
التفسير : إنما كرر تنزيل الكتاب لأنه بمنزلة عنوان الكتب ثم ذكر ما أنزل فقال { ما خلقنا } إلى قوله { وأجل مسمى } وقد مر في أوّل « الروم » أنه الوقت الذي عينه لإفناء الدنيا . وحين بين الدليل على وجود الإله ووقوع الحشر فرع عليه الردّ على عبدة الأوثان بقوله { قل أرأيتم } وقد مر في « فاطر » . والمراد أنهم لا يستحقون العبادة أصلاً لأنهم ما خلقوا شيئاً في هذا العالم لا في الأرض ولا في السماء ، ولم يدل وحي من الله على عبادتهم لأن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك وما من كتاب قبله إلا هو ناطق بمثل ذلك .

فقوله { ائتوني } من باب إرخاء العنان وتوسيع المجال على الخصم أي إن كنتم في شك مما قلت فقد أمهلتكم حتى تأتوني بعد الاستقراء { بكتاب } فيه شيء من ذلك { أو أثارة من علم } قال الواحدي : كلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أوجه : أحدها البقية من قولهم « سمنت الناقة على إثارة من شحم » أي على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب . والثاني أنه من الأثر بمعن الرواية . والثالث من الأثر بمعنى العلامة والمراد ما بقي أو روي عن أسلافهم ويعدّونه علماً . عن ابن عباس مرفوعاً أنه الخط . قال : كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم علمه . ثم زاد في تبكيتهم وتوبيخهم بقوله { ومن أضل } الآية . وبالجملة فالدليل الأوّل دل على نفي القدرة عنهم من كل الوجوه ، وهذا الدليل دل على نفي العلم عنهم من كل الوجوه ، فإذا انتفى العلم والقدرة عن الجسم لم يكن إلا جماداً وعبادة الجماد محض الضلال . وقوله { إلى يوم القيامة } تأبيد على عادة العرب ، ويحتمل أن يكون توقيتاً بدليل قوله { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء } وهذا التبري والتخاطب نوع من الاستجابة . ثم قرر غاية عنادهم بقوله { وإذا تتلى } ثم عجب من حالهم بقوله { أم يقولون افتراه } الآية أي إن كذبت على الله كما زعمتم عاجلني بالعقوبة فلا تقدرون على دفع عذابه عني فأي فائدة لي في الافتراء . ثم فوّض أمرهم إلى الله قائلاً { هو أعلم بما تفيضون } أي تتدفعون فيه من القدح في الوحي ، وتسميته سحراً تارة وافتراء أخرى وفي قوله { وهو الغفور الرحيم } إشارة إلى أنهم لو رجعوا إلى الحق وتابوا عن الشرك قبل الله توبتهم ، وفيه إشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوه . ثم أراد أن يزيل شبهتهم بنوع آخر من البيان فقال { قل ما كنت بدعاً } هو بمعنى البديع كالخف بمعنى الخفيف أي لست بأوّل رسول أرسله الله ولا جئتكم بأمر بديع لم يكن إلى مثله سابق . وفيه إن اقتراح الآيات الغريبة فيه غير موجه لأنه لا يتبع إلا الوحي وما هو إلا نذير وليس إليه أن يأتي بكل ما يقترح عليه ، وفيه أنه غير عالم بالمغيبات إلا بطريق الوحي فلا وجه لاستدعاء الغيوب عنه سواء تتعلق بأحوال الدنيا أو بأحوال الآخرة من الأحكام والتكاليف وما يؤل أمر المكلفين إليه ، وفيه أنه لا وجه لتعييره بالفقر وبأكل الطعام والمشي في الأسواق والرسل كلهم أو جلهم كانوا كذلك . قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما أشتدّ البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا : يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله الآية .

وعنه في رواية أخرى أنه لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بأمته ، فأنزل الله تعالى { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] إلى قوله { فوزاً عظيماً } [ الفتح : 5 ] فبين الله تعالى ما يفعل به وبأمته ونسخت هذه الآية . والأصح عند العلماء أنه لا حاجة إلى التزام النسخ ، فإن الدراية المفصلة غير حاصلة ، وعلى تقدير حصولها فإنه لم ينف إلا الدراية من قبل نفسه ، وما نفي الدراية من جهة الوحي . وقوله { ولا بكم } في حيز النفي ولا أدري ما يفعل بكم . و « ما » موصولة أو استفهامية ، ومحل الأولى نصب ، والثانية رفع .
ثم قرر أنه لا أظلم منهم فقال { قل أرأيتم } الآية . وقد مر نظيره في آخر « حم السجدة » إلا أنه زاد ههنا حديث الشاهد وفيه أقوال : أحدها أنه عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر فآمن به . وعن سعد بن أبي وقاص : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزل { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } على مثل القرآن . والمعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة للقرآن من التوحيد والمعاد . وعلى هذا فقوله { على مثله } يتعلق بشاهد أي ويشهد على صحة القرآن . ويجوز أن يعود الضمير في { مثله } إلى المذكور وهو كونه من عند الله ، فيكون الجار متعلقاً ب { شهد } قال جار الله : الواو الأخيرة عاطفة { لاستكبرتم } على { شهد } وأما الواو في { وشهد } فقد عطفت جملة قوله { وشهد } إلى آخره على جملة قوله { كان من عند الله وكفرتم به } والمعنى أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به مع استكباركم عنه ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } قلت : هذا كلام حسن . ويجوز أن يكون قوله { واستكبرتم } معطوفاً على قوله { فآمن } . ويجوز أن يكون الواو في { وشهد } للحال بإضمار « قد » . قال : وقد جعل الإيمان في قوله { فآمن } مسبباً عن الشهادة لأنه لما علم أن مثله أنزل على موسى وأنصف من نفسه اعترف بصحته وآمن . القول الثاني ما ذكر الشعبي في جماعة أن السورة مكية وقد أسلم ابن سلام بالمدينة ، فالشاهد هو موسى وشهادته هو ما في التوراة من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانه تصديقه ذلك .

القول الثالث أن الشاهد ليس شخصياً معيناً وتقدير الكلام لو أن رجلاً منصفاً عارفاً بالتوراة أقر بذلك واعترف به ثم آمن بمحمد واستكبرتم أنتم ، ألم تكونوا ظالمين ضالين؟ والمقصود أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب هو من عند الله ، وثبت بشهادة الثقات أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ثبوت هذين الأمرين كيف يليق بالعاقل إنكار نبوته؟ ثم ذكر شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا { للذين آمنوا } أي لأجلهم وفي حقهم { لو كان } ما أتى به محمد { خيراً ما سبقونا إليه } وقيل : اللام كما في قولك « قلت له » . وضعف بأنه لو كان كذلك لقيل ما سبقتمونا إليه . وأجيب بأنه وارد على طريقة الالتفات ، أو المراد أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين بأنه لو كان هذا الدين خيراً لما سبقنا إليه أولئك الغائبون . قال المفسرون : لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع : لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيراً ما سبقونا إليه ، ونحن أرفع منهم حالاً وأكثر مالاً وهؤلاء رعاة الغنم . وقيل : قاله أغنياء قريش للفقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود . وقيل : هم اليهود قالوه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه . والعامل في قوله { وإذ لم يهتدوا به } محذوف وهو ظهر عنادهم وذلك أن « إذ » للمضي ، والسين للاستقبال وبينهما تدافع . والإفك القديم كقولهم أساطير الأوّلين . وقيل : كذب ككذب عيسى عليه السلام قوله { ومن قبله كتاب موسى } خبر ومبتدأ وقوله { إماماً } أي قدوة يؤتم به في أصول شرائع الله ، نصب على الحال كقولك « في الدار زيد قائماً » . وقوله { لساناً عربياً } حال من ضمير الكتاب في { مصدّق } أي لما بين يديه وهو العامل فيه ويجوز أن يكون حالاً من { كتاب } لأنه موصوف والعامل معنى الإشارة . وجوز أن يكون مفعولاً { لصدّق } على حذف المضاف أي يصدّق ذا لسان عربي هو الرسول . قوله { وبشرى } معطوف على محل { لتنذر } لأنه مفعول له . وحين قرر دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبه المنكرين مع أجوبتها ، أراد أن يذكر طريقة المحقين فقال { إن الذين قالوا } الآية . وقد مر في « حم السجدة » إلا أنه رفع واسطة الملائكة ههنا من البين . ثم إن أعظم أنواع الاستقامة كان هو الشفقة على خلق الله ولا سيما على الوالدين فلذلك قال { ووصينا } الآية . وقد مرّ في « الروم » و « لقمان » .

والكره بالضم ، والفتح المشقة أي ذات كره أو حملاً ذاكره . والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى ، والمقصود بيان مدّة الرضاع . ولما كان منتهياً بالفصال صح التعبير عن آخر الرضاع بالفصال ، والفائدة فيه الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال . وقد يستدل من هذه الآية ومن قوله { والوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] أن مدة الحمل ستة أشهر . وعن عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فرفعت إليه فأمر برجمها ، فأخبر علياً رضى الله عنه بذلك فمنعه محتجاً بالآية فصدّقه عمر وقال : لولا عليّ لهلك عمر . قال جالينوس : إني كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة . وزعم أبو علي بن سينا أنه شاهد ذلك . وذكر أهل التجارب قاعدة كلية قالوا : إن لتكوّن الجنين زماناً مقدّراً ، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين ، ثم إذا انضاف إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين . وعلى هذا فلو تمت خلقة الجنين في ثلاثين يوماً فإذا أتى عليه مثل ذلك أي تصير مدة علوقه ستين تحرك ، فإذا انضاف إلى هذا المقدار مثلاه وهو مائة وعشرون وصار المبلغ مائة وثمانين انفصل ، ولو تمت خلقته في خمسة وثلاثين يوماً تحرك في سبعين وانفصل في مائتين وعشرة وهو سبعة أشهر ، ولو تمت خلقته في أربعين تحرك في ثمانين وانفصل في مائتين وأربعين وهو ثمانية أشهر ، وقلما يعيش هذا المولود إلا في بلاد معينة مثل مصر ، وقد مرّ هذا المعنى في هذا الكتاب . ولو تمت في خمسة وأربعين تحرك في تسعين وأنفصل في مائتين وسبعين وهي تسعة أشهر وهو الأكثر ، أما أكثر مدّة الحمل فليس يعرف له دليل من القرآن . وذكر أبو علي بن سينا في كتاب الحيوان من الشفاء في الفصل السادس من المقالة التاسعة ، أن امرأة ولدت بعد الرابع من سني الحمل ولداً قد نبتت أسنانه وعاش . وعن أرسطا طاليس أن زمان الولادة لكل الحيوان مضبوط سوى الإنسان . هذا وقد روى الواحدي في البسيط عن عكرمة أنه قال : إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحداً وعشرين شهراً . وعلى هذا قوله { حتى إذا بلغ أشدّه } أكثر المفسرين كما مر في آخر « الأنعام » وأوّل « يوسف » و « القصص » . على أن وقت الأشد هو زمان الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء وهو ثلاث وثلاثون سنة تقريباً ، وإن في الأربعين يتم الشباب وتأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتفاص ، والقوّة العقلية والنطقية في الاستكمال ، وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن ومن جملة الكمال أنه حينئذ يقول { رب أوزعني } أي ألهمني ووفقني كما مر في « النمل » .
قال علماء المعاني : قوله { في ذرّيتي } كقوله « يجرح في عراقيبها نصلي » فكأنه سأل أن يجعل ذرّيته موقعاً للصلاح ومظنة له .

وقوله { أحسن ما عملوا } إما بمعنى الحسن أو المراد الواجب والندب دون المباح . وقوله { في أصحاب الجنة } في موضع الحال أي معدودين فيهم . عن ابن عباس وجم غفير من المفسرين أن الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق ، وفيه أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير ، وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم ، ولم يكن أحد من الصحابة المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر . قالوا : ومما يؤيد هذا القول أنه سبحانه حكى عن ذلك الإنسان أنه قال بعد أربعين سنة رب أوزعني الخ . ومعلوم أنه ليس كل إنسان قد يقول هذا القول . والأظهر أن هذا عام لهذا الجنس ، وأن الإنسان قد يقول هذا القول ولا أقل من أن يكون وارداً على طريقة الإرشاد والتعليم . سلمنا ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . قوله { والذي قال } مبتدأ خبره { أولئك } والمراد بالذي جنس القائل فلذلك أورد الخبر مجموعاً . ويجوز أن يكون الخبر عاماً في القائل وفي أمثاله فيندرج فيه القائل . وقيل : تقديره واذكر الذي ومن القائل . عن الحسن وقتادة : هو الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث . وذهب السدّي إلى أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وأنه كان يقول { لوالديه أف لكما } وهي كلمة تضجر وتبرم كما مر في « سبحان » و « الأنبياء » { أتعدانني أن أخرج } من القبر { وقد خلت القرون من قبلي } فلم يرجع أحدهم { وهما } يعني أبويه { يستغيثان الله } أي بالله فحذف الجار وأوصل الفعل والمراد يسألانه أن يوقفه للإيمان ويقولان له { ويلك آمن } بالله وبالبعث . والمراد بالدعاء عليه الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك . قال السدّي : فاستجاب الله دعوة أبي بكر فيه فأسلم وحسن إسلامه ولما أسلم نزل فيه { ولكل درجات مما عملوا } وأكثر المفسرين ينكرون هذا القول لأنه سبحانه قال فيه { أولئك الذين حق عليهم القول } كائنين { في أمم } إلى آخره . وأن عبد الرحمن لم يبق كافراً بل كان من سادات المسلمين . وروي عن عائشة إنكاره إيضاً . وذلك أنه حين كتب معاوية إلى مروان بن الحكم ابن أبي العاص بأن يبايع الناس ليزيد ، ردّ عليه عبد الرحمن وقال مروان : يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه { والذي قال لوالديه } فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه . ثم ميز حال المؤمن من حال الكافر بقوله { ولكل } أي من الجنسين { درجات } من جزاء ما عملوا فغلب أهل الدرجات على أهل الدركات ، أو الدرجات هي المراتب متصاعدة أو متنازلة ، والباقي واضح مما مرّ . والاستكبار عن قبول الحق ذنب القلب ، والفسق عمل الجوارح ، والأوّل أولى بالتقديم لعظم موقعه .

وقد يحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع . قال مؤلف الكتاب : والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها لقوله تعالى { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ولكن التقشف وترك التكلف دأب الصالحين لئلا يشتغل بغير المهم عن المهم ، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له وقد يجر بعضه بعضاً إلى أن يقع المرء في حدّ البعد عن الله . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال : « أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر البيت كما تستر الكعبة؟ قالوا : نحن يومئذ خير . قال : بل أنتم اليوم خير . » وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكنني أستبقي طيباتي لأن الله وصف قوماً فقال { أذهبتم طيباتكم } وعنه أن رجلاً دعاه إلى طعام فأكل ثم قدّم شيئاً حلوا فامتنع وقال : رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال { أذهبتم } الآية . فقال الرجل : اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها { ويوم يعرض الذين كفروا } ولست منهم فأكل وسرّه ما سمع . والتحقيق أن المراد هو أنه ما كتب للكافر حظ من الطيبات إلا الذي أصابه في دنياه ، وليس في الآية إن كل من أصاب الطيبات في الدنيا فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة والله أعلم بالصواب .


وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

القراآت : { إني أخاف } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف . { لا يرى } بالياء التحتانية مبنياً للمفعول { إلا مساكنهم } بالرفع : عاصم وحمزة وخلف وسهل ويعقوب . والباقون { لا ترى } على خطاب كل راء { مساكنهم } بالنصب { بل ضلوا } بإدغام اللام في الضاد : عليّ . { وإذا صرفنا } بإدغام الذال في الصاد وكذا ما يشبهه : أبو عمرو وعليّ وهشام وحمزة في رواية خلاد وابن سعدان وأبي عمرو { يقدر } فعلاً مضارعاً من القدرة : سهل ويعقوب .
الوقوف : { عاد } ط لأن « إذ » يتعلق بأذكر محذوفاً وهو مفعول به . هذا قول السجاوندي ، وعندي أن لا وقف . وقوله « إذ » بدل الاشتمال من { أخا عاد } . { إلا الله } ط { عظيم } ه { آلهتنا } ج لتناهي الاستفهام مع تقيب الفاء { الصادقين } ه { عند الله } ز لاختلاف الجملتين لفظاً ولكن التقدير وأنا أبلغكم { تجهلون } 5 { ممطرنا } ط لتقدير القول { به } ط لأن التقدير هذه ريح { أليم } ه لا لأن ما بعده صفة { مساكنهم } ط { المجرمين } ه { وأفئدة } ز لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى للفاء واتحاد الكلام { يستهزؤون } ه { يرجعون } ه { آلهة } ج لتمام الاستفهام { عنهم } ج لعطف الجملتين { يفترون } ه { القرآن } ج لكلمة المجازاة مع الفاء { أنصتوا } ج لذلك { منذرين } ه { مستقيم } ه { أليم } ه { أولياء } ط { مبين } ه { الموتى } ط { قدير } ه { النار } ط لتقدير القول { بالحق } ط { وربنا } ط { تكفرون } ه { لهم } ط { يوعدون } ه لا لأن ما بعده خبر « كأن » { نهار } ط { بلاغ } ج للاستفهام مع الفاء { الفاسقون } ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد حكاية شبه المكذبين والأجوبة عنها ، وبعد إتمام ما انجر الكلام إليه ، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر قومه بقصة هود أعني أخا عاد لأنه واحد منهم . والأحقاف جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج ، ويقال له الشحر من بلاد اليمن . وقيل : بين عمان ومهرة . والنذر جمع نذير مصدر أو صفة . الواو في قوله { وقد خلت } إما أن تكون للحال والمعنى أنذرهم وهم عالمون بإنذار الرسل من قبل ومن بعده ، وإما أن يكون اعتراضاً والمعنى واذكروا وقت إنذار هود قومه { ألا تعبدوا إلا الله } وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك فأذكرهم قوله { لتأفكنا } أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا . قوله { إنما العلم عند الله } أي لا علم لي بالوقت الذي عينه الله لتعذيبكم فلا معنى لاستعجالكم ولهذا نسبهم إلى الجهالة ، وأيّ جهل أعظم من نسبة نبي الله إلى الكذب . ومن ترك طريقة الاحتياط ومن استعجال ما فيه هلاكهم ، والضمير في قوله { فلما رأوه } عائد إلى الموعود ، أو هو مبهم يوضحه قوله { عارض } أي سحاب عرض في نواحي السماء .

والإضافة في قوله { مستقبل أوديتهم } و { ممطر } لفظية ولهذا صح وقوعها صفة للنكرة . والتدمير الإهلاك والاستئصال . وفي قوله { بأمر ربها } إشارة إلى إبطال قول من زعم أن مثل هذه الآثار مستند إلى تأثيرات الكواكب بالاستقلال . ثم زاد في تخويف كفار مكة وذكر فضل عاد في القوة الجسمانية وفي الأسباب الخارجية عليهم فقال { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } قال المبرد : « ما » موصولة و « إن » نافية أي في الذي لم نمكنكم فيه . وقال ابن قتيبة : « إن » زائدة وهذا فيه ضعف لأن الأصل حمل الكلام على وجه لا يلزم منه زيادة في اللفظ ، ولأن المقصود فضل أولئك القوم على هؤلاء حتى يلزم المبالغة في التخويف ، وعند تساويهما يفوت هذا المقصود . وقيل : « إن » للشرط والجزاء مضمر أي في الذي إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر . وقوله { من شيء } أي شيئاً من الإغناء وهو القليل منه . وقوله { إذ كانوا } ظرف لما أغنى وفيه معنى التعليل كقولك « ضربته إذ أساء » قوله { من القرى } يريد من قريات عاد وثمود ولوط وغيرهم بالشام والحجاز واليمن ، وتصريف الآيات أي تكريرها . قيل : للعرب المخاطبين والأظهر أنه للماضين لقوله { لعلهم يرجعون } عن شركهم ، والأوّلون حملوه على الالتفات . ثم وبخهم بأن أصنامهم لم يقدروا على نصرتهم وشفاعتهم . فقوله { آلهة } مفعول ثانٍ { لا تخذوا } والمفعول الأول محذوف وهو الراجع إلى { الذين } و { قرباناً } حال أو مفعول له أي متقربين إلى الله ، أو لأجل القربة بزعمهم . والقربان مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل . ويجوز أن يكون { قرباناً } مفعولاً ثانياً و { آلهة } بدلاً أو بياناً . قوله { وذلك إفكهم } أي عدم نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم وقت الحاجة محصول إفكهم وافترائهم ، أو عاقبة شركهم وثمرة كذبهم على الله .
وحين بّين أن الإنس من آمن وفيهم من كفر ، أراد أن يبين أن نوع الجن أيضاً كذلك . وفي كيفية الواقعة قولان : أحدهما عن سعيد بن جبير وعليه الجمهور : كانت الجن تسترق فلما رجموا قالوا : هذا إنما حدث في السماء لشيء حدث في الأرض . فذهبوا يطلبون السبب فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يصلي بأصحابه أو منفرداً . فمنهم من قال صلاة العشاء الآخرة ومنهم من قال صلاة الصبح ، فقرأ فيها سورة « اقرأ » فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب . وعلى هذا لم يكن ذلك بعلم منه صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه . والقول الثاني « أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال لأصحابه : إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني؟ فأتبعه ابن مسعود ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب الحجون وخط على ابن مسعود وقال : لا تبرح حتى آتيك . قال : فسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم علا بالقرآن أصواتهم . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن اللغط فقال : اختصموا إليّ في قتيل كان بينهم فقضيت فيهم . »

وفي رواية أخرى « عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمعك ماء؟ قلت : يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر . فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ فقال : تمرة طيبة وماء طهور . » واختلفوا في عددهم : عن ابن عباس : كانوا تسعة من جن نصيبين أو نينوى . وقال عكرمة : كانوا عشرة من جزيرة الموصل ، وزر بن حبيش : كانوا تسعة ومنهم زوبعة . وقيل : اثني عشر ألفاً .
ولنرجع إلى التفسير . قوله { وإذ صرفنا } معطوف على قوله { أذكر أخا عاد إذ أنذر } ومعنى صرفنا أملناهم إليك ، والنفر ما دون العشرة ويجمع على أنفار . والضمير في { حضروه } للنبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن { قالوا } أي قال بعضهم لبعض { أنصتوا } والإنصات السكوت لاستماع الكلام { فلما قضى } أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة . وإنما قالوا { أنزل من بعد موسى } لأنهم كانوا يهوداً أو لأنهم لم يسمعوا أمر عيسى قاله ابن عباس { أجيبوا داعي الله } عنوا رسول الله أو أنفسهم بناء على أنهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومهم ، ومنه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن أيضاً وهذا من جملة خصائصه . وحين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم { وآمنوا به } لأن الإيمان أشرف أقسام التكاليف . و « من » في قوله { من ذنوبكم } للتبعيض فمن الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم وقد مر في « إبراهيم » . واختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار بقوله { ويجركم من عذاب أليم } وهو قول أبي حنيفة . والصحيح أنهم في حكم بني آدم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون . وقد جرت بين مالك وأبي حنيفة مناظرة في هذا الباب . قوله { فليس بمعجز } أي لا يفوته هارب . قوله { ولم يعي } يقال : عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه . قوله { بقادر } في محل الرفع لأنه خبر « أن » وإنما دخلت الباء لاشتمال الآية على النفي كأنه قيل : أليس الله بقادر؟ والمقصود تأكيد ما مر في أول السورة من دلائل البعث والنبوّة . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { فاصبر كما صبر أولوا العزم } وقوله { من الرسل } بيان لأن جميع الرسل أرباب عزم وجد في تبليغ ما أمروا بأدائه ، أو هو للتبعيض فنوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحق على الذبح ، ويعقوب على فراق الولد ، ويوسف على السجن ، وأيوب على الضر ، وموسى على سفاهة قومه وجهالاتهم ، وأما يونس فلم يصبر على دعاء القوم فذهب مغاضباً ، وقال الله تعالى في حق آدم { ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] { ولا تستعجل لهم } أي لا تدع لكفار قريش بتعجيل العذاب فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى ظنوا أنها ساعة من نهار { هذا } الذي وعظهم به كفاية في بابه وقد مر في آخر سورة « إبراهيم » عليه السلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...