Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج19وج20.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج19وج20.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وأقسامهم إما بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأملوا بعيداً ، وإما بلسان المقال أشراً وبطراً وجهلاً وسفهاً . و { ما لكم من زوال } جواب القسم . ولو قيل « ما لنا من زوال » على حكاية لفظ المقسمين لجاز من حيث العربية . والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء أو لا تنتقلون إلى دار أخرى هي دار الجزاء كقوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } [ النحل : 38 ] .
ثم زادهم توبيخاً بقوله : { وسكنتم } استقررتم { في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم { وتبين لكم } بالأخبار والمشاهدة والبيان والعيان { كيف فعلنا بهم } من أصناف العقوبات { وضربنا لكم الأمثال } قال جار الله : أراد صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم . وقال غير : المراد ما أورد في القرآن من دلائل القدرة على الإعادة والإبداء وعلى العذاب المعجل والمؤجل . ثم حكى مكر أولئك الظلمة فقال : { وقد مكروا مكرهم } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم . وقيل : الضمير عائد إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم كما قال : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك } [ الأنفال : 30 ] وقيل : أراد ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربع نسور ، وكان قد جوعها ورفع من الجوانب الأربعة على التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منها قطعة من اللحم ، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت . فلما أبصرت النسور ذلك اللحم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الأرض عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها ، فعكس تلك العصيّ التي عليها اللحوم فهبطت النسور إلى الأرض . وضعفت هذه الرواية لأنه لا يكاد يقدم عاقل على مثل هذا الخطر . { وعند الله مكرهم } إن كان مضافاً إلى الفاعل فالمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فيجازيهم عليه بأعظم من ذلك ، وإن كان مضافاً إلى المفعول فمعناه وعنده مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه فيأتيهم به من حيث لا يشعرون . أما قوله : { وإن كان مكرهم لتزول } من قرأ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية فوجهان : أحدهما أن تكون « إن » مخففة من الثقيلة فزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته أي وإن الشأن كان مكرهم معداً لذلك . وثانيهما أن تكون « إن » نافية واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها أبد الدهر . ومن قرأ بفتح اللام الأولى ورفع الثانية فإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة ، والمعنى كما مر .

ثم إنه سبحانه أكد كونه مجازياً لأهل المكر على مكرهم بقوله : { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } قال جار الله : قدم المفعول الثاني - وهو الوعد - على المفعول الأول ليعلم أنه غير مخلف الوعد على الإطلاق . ثم قال : { رسله } تنبيهاً على أنه إذا لم يكن من شأنه إخلاف الوعد فكيف يخلفه رسله الذين هم صفوته . والمراد بالوعد قوله : { إنا لننصر رسلنا } [ غافر : 51 ] { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] ونحوهما من اللآيات . قوله : { إن الله عزيز ذو انتقام } قد مر في أول « آل عمران » { يوم تبدل الأرض } قال الزجاج : انتصاب يوم على البدل من { يوم يأتيهم } أو على الظرف للانتقام . والأظهر انتصابه باذكر كما مر في الوقوف . ومعنى قوله : { والسموات } أي وتبدل السموات قال أهل اللغة : التبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك « بدلت الدراهم دنانير » وفي الأوصاف كقولك « بدلت الحلقة خاتماً » إذا أذبتها وسوّيتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل . وتفسير ابن عباس يناسب الوجه الثاني قال : هي تلك الأرض وإنما تغير فتسير عنها جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت ، وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبواباً . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً » وهذا القول يناسب مذهب الحكماء في أن الذوات لا يتطرق إليها العدم وإنما تعدم صفاتها وأحوالها . نعم جوزوا انعدام الصور مع أنها جواهر عندهم . وتفسير ابن مسعود يناسب الوجه الأول قال : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة . وعن علي كرم الله وجهه : تبدل أرضاً من فضة وسموات من ذهب وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف . وقيل : لا يبعد أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة . { وبرزوا لله } قد ذكرناه في أول السورة . وتخصيص { الواحد القهار } بالموضع تعظيم وتهويل وأنه لا مستغاث وقتئذ إلى غيره ولا حكم يومئذ لأحد إلا له يتفرد في حكمه ويقهر ما سواه .
ومن نتائج قهره قوله : { وترى المجرمين يومئذ مقرنين } قرن بعضهم مع بعض لأن الجنسية علة الضم أو مع الشياطين الذين أضلوهم . قالت الحكماء : هي الملكات الذميمة والعقائد الفاسدة التي اكتسبوها في تعلق الأبدان . وقوله : { في الأصفاد } أي القيود إما أن يتعلق بمقرنين وإما أن يكون وصفاً مستقلاً أي مقرنين مصفدين . وقيل : الأصفاد الأغلال . والمعنى قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال . وحظ العقل فيه أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء . { سرابيلهم } جمع سربال وهو القميص { من قطران } هو ما يتحلب أي يسيل من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدّته ، وقد تبلغ حرارته الجوف ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ، وقد يستسرج به وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلأوه لهم كالسرابيل فيجمع عليهم اللذع والحرقة والاشتعال والسواد والنتن ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين والوجه العقلي فيه أن البدن بمنزلة القميص للنفس ، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن ، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس بنفوذ الشهوة والحرص والغضب وسائر آثار الملكات الردية فيه .

ومن قرأ { من قطرآن } فالقطر النحاس والصفر المذاب والآني المتناهي حره . قال ابن الأنباري : وتلك النار لا تبطل ذلك السربال ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم { وتغشى وجوههم النار } خص الوجه بالذكر لأنه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه فعبر به عن الكل . قوله : { ليجزي } اللام متعلقة ب { تغشى } أو بجميع ما ذكر كأنه قيل : يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي { الله كل نفس ما كسبت } قال الواحدي : أراد نفوس الكفار لأن ما سبق لا يليق إلا بهم . ويحتمل أن يراد كل نفس مجرمة ومطيعة لأنه تعالى إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم . ثم أشار إلى القرآن إلى ما في السورة أو إلى ما مر من قوله : { ولا تحبسن الله غافلاً } إلى ههنا فقال { هذا بلاغ } كفاية { للناس } في التذكير والموعظة لينصحوا { ولينذروا به } بهذا البلاغ . ثم رمز إلى استكمال القوّة النظرية بقوله : { وليعلموا أنما هو إله واحد } وإلى استكمال القوة العملية بقوله : { وليذكر أولوا الألباب } لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى استكمال النفس بحسب القوتين والله ولي التوفيق .
التأويل : { وإذ قال إبراهيم } الروح { رب اجعل } بلد القلب { آمناً } من وسوسة الشيطان وهواجس النفس وآفات الهوى { واجنبني وبني } هم الفؤاد والسر والخفى { أن نعبد الأصنام } وهو كل ما سوى الله . فصنم النفس الدنيا ، وصنم القلب العقبى ، وصنم الروح الدرجات العلى ، وصنم السر العرفان والقربات ، وصنم الخفى الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات { ومن عصاني فإنك غفور } فيه نكتتان : إحداهما لم يقل « ومن عصاك » إشارة إلى أن عصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة ، والثانية لم يقل « فأنا أغفره وأرحم عليه » لأن عالم الطبيعة البشرية يقتضي المكافأة وإنما المغفرة والرحمة من شأن الغني المطلق { أسكنت من ذريتي } هم صفات الروح والعقل والسر والخفى { بواد غير ذي زرع } وهو وادي النفس { عند بيتك المحرم } على ما سواك وهو كعبة القلب حرام أن يكون بيتاً لغير الله « لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن » .

وفيه أنه توسل في أجابة الدعاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكأنه قال : إن ضيعت هاجر وإسماعيل فقد ضيعت محمداً . وفي قوله : { ليقيموا الصلاة } إشارة إلى أنه لو لا تعلق الروح بالجسد وحلوله بأرض القالب لم يمكن استكمال الروح بالأعمال البدنية ، وأنه لولا غرض هذا الاستكمال لم يحصل ذلك التعلق { فاجعل أفئدة } الفات الناسوتية { تهوي } إلى الصفات الروحانية { وارزقهم من } ثمرات الصفات اللاهوتية { لعلهم يشكرون } هذه النعمة الجسيمة التي ليس ينالها الملائكة المقربون ، وفي هذا سر عظيم لا يمكن إنشاؤه { ربنا إنك تعلم ما نخفي } من حقائق الدعاء { وما نعلن } من ظاهر القصة { وما يخفى على الله من شيء } في أرض المعاملات الصورية ولا في سماء القلوب من الغيوب { على الكبر } أي بعد تعلق الروح بالقالب { إسماعيل } السر { وإسحق } الخفي { مقيم الصلاة } دائم العروج فإن الصلاة معراج المؤمن { ربنا اغفر لي } استرني وامنحني بصفة معرفتك { ولوالدي } من الآباء العلوية والأمهات السفلية لئلا يحجبوني عن رؤيتك يوم يقوم حسابك بكمالية كل نفس ونقصانها لأكون في حساب الكاملين لا في حساب الناقصين . { ولا تحسبن } أي لم يكن { الله غافلاً } في الأزل بل الكل بقضائه وقدره { وإنما يؤخرهم } ليبلغوا إلى ما قدر لهم من الأعمال فإنها مودعة في الأعمار ، وبذلك يصل كل من أهل السعادة والشقاوة إلى منازلهم { ما لكم من زوال } فيه من إبطال مذهب التناسخية . زعموا أن نفوسهم لا تزال تتعلق بالأبدان { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا } تعلقتم بأبدان مثل أبدانهم منهمكين في ظلمات الأخلاق الذميمة { وعند الله } مقدار { مكرهم وإن كان مكرهم } بحيث يؤثر في إزالة الجبال عن أماكنها ولكنه لا تحرك شعرة إلا بإذن الله بقضائه { يوم تبدل } أرض البشرية بأرض القلوب فتضمحل ظلماتها بأنوار القلوب ، وتبدل سموات الأسرار بسموات الأرواح فإن شموس الأرواح إذا تجلت لكواكب الأسرار انمحت أنوار كواكبها بسطوة أشعة شموسها ، بل تبدل أرض الوجود المجازي عن إشراق تجلي أنوار هويته بحقائق أنوار الوجود الحقيقي كما قال : { وأشرقت الأرض بنور ربها } [ الزمر : 69 ] وحينئذ { برزوا لله الواحد القهار } فإن شموس الأرواح تصير مقهورة في تجلي نور الألوهية . { وترى المجرمين } يوم التجلي { مقرنين } في قيود الصفات الذميمة لا يستطيعون البروز لله . { سرابيلهم من قطران } المعاصي وظلمات النفوس فهم محجوبون بهما عن الله { وتغشى وجوههم } نار الحسرة والقطيعة { هذا بلاغ للناس } الذين نسوا عالم الوحدة { وليذروا به } قبل المفارقة فإن الانتباه بالموت لا ينفع { وليعلموا أنما هو إله واحد } فيعبدوه ولا يتخذوا إلهاً غيره من الدنيا والهوى والشيطان { وليتذكر أولوا الألباب } علام الشهود فيخرجوا من قشر الوجود ، والله أعلم .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)

القراآت : { ربما } بفتح الباء مخففة : أبو جعفر ونافع وعاصم غير الشموني . و { ربما } بضم الباء خفيفة : الشموني . الباقون بالفتح والتشديد { ما ننزل } بالنون { الملائكة } بالنصب : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . { ما تنزل } بضم التاء وفتح الزاي المشددة { الملائكة } بالرفع : أبو بكر وحماد الباقون مثله ، ولكن بفتح التاء { ما تنزل } بالإدغام : البزي وابن فليح { سكرت } خفيفة : ابن كثير { فتحنا } بالتشديد : يزيد { الريح } على التوحيد : حمزة وخلف { صراط على } بكسر اللام ورفع الياء على النعت : يعقوب الآخرون { عليّ } جاراً ومجروراً { وعيون } بكسر العين : حمزة وعلي وابن كثير وابن ذكوان والأعشى ويحيى وحماد . الباقون بضمها { نبىء عبادي } مثل نبئنا عبادي أني بالفتح فيهما : { أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . والآخرون بالإسكان .
الوقوف { آلر } قف كوفي { مبين } 5 { مسلمين } { يعلمون } 5 { معلوم } 5 { وما يستأخرون } 5 { لمجنون } 5 ط لأن التحضيض له صدر الكلام { الصادقين } 5 { منظرين } 5 { لحافظون } 5 { الأولين } 5 { يستهزءُون } 5 { المجرمين } 5 { الأولين } 5 { يعرجون } 5 { مسحورون } 5 { للناظرين } لا { رجيم } لا 5 { مبين } 5 { موزون } 5 { برازقين } 5 { خزائنه } ز لاتفاق الجملتين مع الفصل بي معنيي الجمع في التقدير والتفريق في التنزيل . { فأسقيناكموه } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال { بخازنين } 5 { الوارثون } 5 { المستأخرين } 5 { يحشرهم } ط { عليم } 5 { مسنون } 5 ج لاتفاق الجملتين مع تقدم المفعول في الثانية { السموم } 5 { مسنون } 5 { ساجدين } 5 { أجمعون } 5 لا { إلا إبليس } ط { الساجدين } 5 { مسنون } 5 { رجيم } 5 { الدين } 5 { يبعثون } 5 { من المنظرين } لا 5 { المعلوم } 5 { أجمعين } لا 5 { المخلصين } 5 { مستقيم } 5 { الغاوين } 5 { أجمعين } 5 { أبواب } ط { مقسوم } 5 { وعيون } 5 لإرادة القول بعده { آمنين } 5 { متقابلين } 5 { بمخرجين } 5 { الرحيم } لا { الأليم } 5 .
التفسير قال جار الله : { تلك } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي والكتاب والقرآن المبين السورة . وتنكير القرآن للتفخيم وقال آخرون : الكتاب والقرآن المبين هو الكتاب الذي وعد الله محمداً صلى الله عليه وسلم والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتاباً وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان . أما قوله { ربما يود } فذكر السكاكي أن فيه سبع لغات أخر بعد المشهورة : رب بالراء مضمومة ، والباء مخففة مفتوحة أو مضمومة أم مسكنة ، ورب بالراء مفتوحة والباء كذلك مشددة ، وربة بالتاء مفتوحة والباء كذلك أي مفتوحة مخففة أو مشددة ، وإنما دخل على المضارع مع أنه مختص بالماضي لأن المترقب في أخبار الله بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل : ربما ود . و « ما » هذه كافة أي تكف رب عن العمل فتتهيأ بذلك للدخول على الفعل .

وقيل : إن « ما » بمعنى شيء أي رب شيء يوده الذين كفروا . ورب للتقليل فأورد عليه أن تمنيهم يكثر ويتواصل فما معنى التقليل؟ وأجيب بأنه على عادة العرب إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظاً وضع لأجل التقليل كما إذا أرادوا اليقين ذكروا لفظاً وضع للشك . والمقصود إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالتعريض فيقولون : ربما ندمت على ما فعلت ، ولعلك تندم على فعلك . وإن كان العلم حاصلاً بكثرة الندم ووجوده بغير شك أرادوا لو كان الندم قليلاً أو مشكوكاً فيه لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من الغم القليل كما يحذرون من الكثير ، ومن الغم المظنون كما من المتيقن . فمعنى الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة كان جديراً بالمسارعة إليه فكيف وهو يودونه في كل ساعة . وقوله { لو كانوا مسلمين } إخبار عن ودادتهم كقولك « حلف بالله ليفعلن » . ولو قيل « لو كنا مسلمين » جاز من حيث العربية كقولك « حلف بالله لأفعلن » . ومتى تكون هذه الودادة؟ قال الزجاج : إن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب أو رأى أحوالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً . وعلى هذا فقد قيل في وجه التقليل : إن العذاب يشغلهم عن كثير التمني فلذلك قلل . وقال الضحاك : هي عند الموت إذا شاهد أمارات العذاب . وقيل : إذا اسودت وجوههم . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا كان يوم القيامة اجتمع أهل النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة . فقال الكفار لهم : ألستم مسلمين؟ قالوا : بلى قالوا : فما أغنى عنكم من إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم فيأمر لكل من كان من أهل القبلة بالخروج فحينئذٍ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية » وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الملائكة والأنبياء حتى إنه تعالى في آخر الأمر يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة فهناك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين { ذرهم } ظاهره أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يخليهم وشأنهم ، فاحتجت الأشاعرة به على أنه سبحانه وتعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون مفسدة في الدين . وقالت المعتزلة : ليس هذا إذناً وتجويزاً وإنما هو تهديد ووعيد وقطع طمع النبي عن ارعوائهم ، وفيه أنهم من أهل الخذلان ولا يجيء منهم إلا ما هم فيه ، ولا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ . وفي الآية تنبيه على أن إيثار التلذذ والتمتع وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين { و } معنى { يلههم الأمل } يشغلهم الرجاء عن الإيمان والطاعة .

لهيت عن الشيء بالكسر ألهى لهياً إذا سلوت عنه وتركت ذكره وأضربت عنه . وألهاني غيره . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً وقال : هذا الإنسان . وخط آخر إلى جنبه وقال : هذا أجله . وخط آخر بعيداً منه فقال : هذا الأمل . فبينما هو كذلك إذا جاءه الأقرب { فسوف يعلمون } سوء صنيعهم مزيد تأكيد للتهديد .
ثم ذكر ما هو نهاية في الزجر والتحذير فقال { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب } أي مكتوب { معلوم } وهو أجلها الذي كتب في اللوح . قال جار الله : قوله { ولها كتاب } جملة واقعة صفة لقرية والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف . وذكر السكاكي في المفتاح أن هذا سهو لأن الفصل بين الموصوف والصفة لا يجوز ولكن الجملة حال من قرية ومثل هذا جائز ، ولو كان ذو الحال نكرة محضة كقولك « جاءني رجلٌ وعلى كتفه سيف » لعدم التباس الحال بالوصف لمكان الفاصلة بالواو ، وكيف وقد زادت الفاصلة في الآية بكلمة { إلا } وذو الحال قريب من المعرفة إذ التقدير : وما أهلكنا قرية من القرى من قبل إفادة من الاستغراق . قال قوم : المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان ينزله الله بالمكذبين المعاندين من الأمم السالفة . وقال آخرون : أراد الموت والأول أقرب لأنه في الزجر أبلغ وكأنه قيل : إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر . وقيل : أراد مجموع الأمرين . قال صاحب النظم : إذا كان السبق واقعاً على شخص فمعناه جاز وخلف كقولك « سبق زيد عمراً » أي جازه وخلفه وأنه قصر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعاً على زمان فعلى العكس كقولك « سبق فلان عام كذا » معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه . فمعنى الآية أنه لا يحصل أجل أمة قبل وقته ولا بعده كما في كل حادث ، وقد مر بحث الأجل في أول سورة الأنعام . وأنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً في قوله { وما يستأخرون } حملاً على اللفظ والمعنى ، وحذف متعلق { يستأخرون } وهو عنه للعلم به . ولما بالغ في تهديد الكفار شرع في تعديد بعض شبههم ومطاعنهم في النبي . فالأولى أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون لأنهم كانوا يسمعون منه صلى الله عليه وسلم . ما لا يوافق آراءهم ولا يطابق أهواءهم وإنما نادوه { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } مع أنهم كانوا لا يقرون بنزول الوحي عليه تعكيساً للكلام استهزاءً وتهكماً ، وأرادوا يا أيها الذين نزل عليه الوحي في زعمه واعتقاده وعند أصحابه وأتباعه ، الثانية . { لو ما تأتينا بالملائكة } « لو ما » حرف تحضيض مركب من « لو » المفيدة للتمني ومن « ما » المزيدة ، فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخل هو عليه والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك ويعضدوك على إنذارك؟ والمراد هلا تأتينا بملائكة العذاب إن كنت صادقاً في أن تكذيبك يقتضي التعذيب العاجل؟ فأجاب الله سبحانه عن شبههم بقوله { ما ننزل الملائكة إلا بالحق } قالت المعتزلة : أي تنزيلاً متلبساً بالحكمة والمصلحة والغاية الصحيحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً فإن أمر التكليف حينئذٍ يؤول إلى الاضطرار والإلجاء ، ولا فائدة تعود عليكم لأنه تعالى يعلم إصراركم على الكفر فيصير إنزالهم عبثاً ، أو لا حكمة في إنزالهم لأنهم لو نزلوا ثم لم تؤمنوا وجب عذاب الاستئصال وذلك قوله { وما كانوا إذاً منظرين } فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة وقد علم الله من المصلحة أن لا يهلك هذه الأمة ويمهلهم لما علم من إيمان بعضهم أو إيمان أولادهم .

وقالت الأشاعرة : إلا بالحق أي إلا بالوحي أو العذاب . قال صاحب النظم : لفظ « إذن » مركبة من « إذ » بمعنى « حين » ومن « أن » الدالة على مجيء فعل بعده ، فخففت الهمزة بحذفها بعد نقل حركتها وكأنه قيل : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا . وقال غيره : « إذن » جواب وجزاء تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم . ثم أنكر على الكفار استهزاءهم في قولهم { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } فقال على سبيل التوكيد { إنا نحن نزلنا الذكر } ثم دل على كونه آي منزلة من عنده فقال { وإنا له لحافظون } لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لم يبق محفوظاً من التغيير والاختلاف . وقيل : الضمير في { له } لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] والقول الأول أوضح . ووجه حفظ القرآن قيل : هو جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر حتى لو زادوا فيه شيئاً ظهر ذلك للعقلاء . ولم يخف ، فلذلك بقي مصوناً عن التحريف . وقيل : حفظ بالدرس . والبحث ولم يزل طائفة يحفظونه ويدرسونه ويكتبونه في القراطيس باحتياط بليغ وجد كامل حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن في حرف من كتاب الله لقال له بعض الصبيان : أخطأت . ومن جملة إعجاز القرآن وصدقه أنه سبحانه أخبر عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وكان كما أخبر بعد تسعمائة سنة فلم يبق للموحد شك في إعجازه . وههنا نكتة هي أنه سبحانه تولى حفظ القرآن ولم يكله إلى غيره فبقي محفوظاً على مر الدهور بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم ووقع التحريف . ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء كذلك ، والغرض تسلية النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي الكلام إضمار والتقدير { ولقد أرسلنا من قبلك } رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه . ومعنى { في شيع الأولين } في أممهم وأتباعهم وقد مر معنى الشيعة في آخر « الأنعام » قال جار الله : معنى أرسلنا فيهم جعلناهم رسلاً فيما بينهم . قال الفراء : إضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله { حق اليقين } [ الواقعة : 95 ] و { بجانب الغربي } [ القصص : 44 ] وقوله { وما يأتيهم } حكاية حال ماضية . وإنما كان الاسهزاء بالرسل عادة الجهلة في كل قرن لأن الفطام عن المألوف شديد وكون الإنسان مسخراً لأمر من هو مثله أو أقل حالاً منه في المال والجاه والقبول أشد ، على أن السبب الكلي فيه هو الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه ووقوعهم مظاهر القهر في الأزل . قوله { كذلك نسلكه } السلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط . وقالت الأشاعرة : الضمير في { نسلكه } يجب عوده إلى أقرب المذكورات وهو الاستهزاء الدال عليه { يستهزءُون } وأما الضمير في قوله { لا يؤمنون به } فيعود إلى الذكر لأنه لو عاد إلى الاستهزاء وعدم الإيمان بالاستهزاء حق وصواب لم يتوجه اللوم على الكفار ، ولا يلزم من تعاقب الضمائر عودها على شيء واحد وإن كان الأحسن ذلك . والحاصل أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى الأقرب إلا إذا منع مانع من اعتباره . وقال بعض الأدباء منهم : قوله { لا يؤمنون به } تفسير للكناية في قوله { نسلكه } أي نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به فثبتت دلالة الآية على أن الكفر والضلال والاستهزاء ونحوها من الأفعال كلها بخلق الله وإيجاده . وقالت المعتزلة : الضميران يعودان إلى الذكر لأنه شبه هذا السلك بعمل آخر قبله وليس إلا تنزيل الذكر . والمعنى مثل ذلك الفعل نسلك الذكر في قلوب المجرمين . ومحل { لا يؤمنون به } نصب على الحال أي غير مؤمن به أو هو بيان لقوله { كذلك نسلكه } والحاصل أنا نلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأً به غير مقبول نظيره ما إذا أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية . واعتراض بأن النون إنما يستعمله الواحد المتكلم إظهاراً للعظمة والجلال ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلاً يظهر له أثر قويّ كامل ، أما إذا فعل بحيث يكون منازعه ومدافعه غالباً عليه فإنه يستقبح ذكره على سبيل التعظيم ، والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك استماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به ، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله كالهدر الضائع وصار الشيطان كالغالب المدافع فكيف يحسن ذكر النون المشعر بالتعظيم في هذا المقام؟ أما قوله { وقد خلت سنة الأولين } فقيل : أي طريقتهم التي بينها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم ، وهذا يناسب تفسير المعتزلة ، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم .

وقيل : قد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا قول الزجاج ، ويناسب تفسير الأشاعرة . ثم حكى إصرارهم على الجهل والتكذيب بقوله { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا } أي هؤلاء الكفار { فيه يعرجون } يتصاعدون { لقالوا إنما سكرت أبصارنا } هو من سكر الشراب أو من سكر سدّ الشق يقال : سكر النهر إذا سدّه وحبسه من الجري . والتركيب يدل على قطع الشيء من سننه الجاري عليه ومنه السكر في الشراب لأنه ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو . فمعنى الآية حيرت أبصارنا ووقع بها من فساد النظر ما يقع بالرجل السكران ، أو حبست عن أفعالها بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها . عن ابن عباس : المراد لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عباده الملائكة الذين هم من خشية ربهم مشفقون لتشككوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس ان يأتوا بمثله . قال في الكشاف : ذكر الظلول يعني أنه قال { فظلوا } ولم يقل « فباتوا » ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون . وقال : إنما سكرت ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار . وقيل : الضمير في { فظلوا } للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا : إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها . وههنا سؤال وهو أنه كيف جاز من جم غفير أن يصيروا شاكين فيما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح؟ وأجيب بأنهم قوم مخصوصون لم يبلغوا مبلغ التواتر وكانوا رؤساء قليلي العدد فجاز تواطؤهم على المكابرة والعناد لا سيما إذا جمعهم غرض معتبر كدفع حجة أو غلبة خصم .
ولما أجاب عن شبه منكري النبوة بما أجاب وكان القول بالنبوة مفرعاً على القول بالصانع أتبعه دلائل ذلك فقال { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } وهي اثنا عشر عند أهل النجوم ، وذلك أنهم قسموا نطاق الفلك الثامن عندهم باثني عشر قسماً متساوية ، ثم أجيز بمنتهى كل قسم وبأوله مبتدأة من أول الحمل نصف دائرة عظيمة مارة بقطبي الفلك فصار الفلك أيضاً منقسماً باثنتي عشرة قطعة كل منها تشبه ضلعاً من أضلاع البطيخ تسمى برجاً . ولا شك أن هذه البروج مختلفة الطباع ، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة فلذلك يسمى الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية .

ثم إن كانت أجزاء الفلك مختلفة في الماهية على ما يجوّزه المتكلمون ، أو كانت متساوية ثم تمام الماهية مختلفة في التأثير كما يقول به الحكيم ، فعلى التقديرين يكون اختصاص كل جزء بطبيعة معينة أو بتأثير معين مع تساوي الكل في حقيقة الجسمية دالاً على صانع حكيم ومدبر قدير . الدليل الآخر قوله { وزيناها } أي بالشمس والقمر والنجوم { للناظرين } بنظر الاعتبار والاستبصار . وقال المنجمون . إن الكواكب الثابتة كلها على الفلك الثامن وهذا لا ينافي الآية على ما يمكن أن يسبق إلى الوهم ، لأنها سواء كن في سماء الدنيا أو في سموات أخر فوقها فلا بد أن يكون ظهورها في السماء الدنيا فتكون السماء الدنيا مزينة بها ، والآية لا تدل إلا على هذا القدر . ونظير هذه الآية قوله تعالى في « حم السجدة » { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } [ فصلت : 12 ] ومثله في سورة الملك . الدليل الثالث قوله { وحفظناها } أي البروج أو السماء { من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع } نصب عل الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق وجائز أن يكون مخفوضاً أي إلا ممن استرق . وعن ابن عباس : يريد الخطفة اليسيرة { فاتبعه } أي أدركه ولحقه { شهابٌ مبين } ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطع ، وقد يسمى الكوكب شهاباً لأجل لمعانه وبريقه . قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون من السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة ، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها وهذا هو المراد بحفظ السموات كما لو حفظ أحدنا منزله ممن يتجسس ويخشى منه الفساد . والاستراق السعي في استماع الكلام مستخفياً . قال الحكماء : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس ، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها واشتعل لدهنية فيه فيحدث منها أنواع النيران من جملتها الشهب ، فلا ريب أنها كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها لم تكن مسلطة على الشياطين . وإنما قيض كونها رجوماً للشياطين في زمن عيسى عليه السلام ثم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم .
أسئلة : كيف يجوز أن يشاهد هؤلاء الجن واحداً كان أو أكثر من جنسهم يسترقون السمع فيحرقون ، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم؟ والجواب : إذا جاء القضاء عمي البصر ، فإذا قيض الله لطائفة منهم الحرق لطغيانها قدر له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضي الى الهلاك والبوار . آخر : قد ورد في الأخبار أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، فهؤلاء الجن إن قدروا على خرق السماء ناقض قوله سبحانه { هل ترى من فطور }

[ الملك : 3 ] وإن لم يقدروا فكيف يمكنهم استماع أسرار الملائكة من ذلك البعد البعيد ، ولم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض؟ وأجيب بأنا سلمنا أن بعد ما بين كل سماء ذلك القدر إلا أن نحن الفلك لعله قدر قليل ، وقد روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال : ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟ قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، ويتخطف الجن فيرمون فما جاءُوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون » آخر : الشياطين مخلوقون من نار فكيف تحرق النار النار؟ والجواب : أن الأقوى قد يبطل الأضعف وإن كان من جنسه . آخر : إن هذا الرجم لو كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بقي بعد وفاته؟ الجواب : هذا من المعجزات الباقية والغرض منه إبطال الكهانة . آخر : إن الشهب قد تحدث بالقرب من الأرض وإلا لم يمكن الإحساس بها فكيف تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك حين الاستراق؟ وأجيب بأن البعد عندنا غير مانع من السماع فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة .
آخر : لو كان يمكنهم نقل أخبار الملائكة إلى الكهنة فكيف لم يقدروا على نقل أسرار المؤمنين إلى الكفار؟ وأجيب بأنه تعالى أقدرهم على شيء وأعجزهم عن شيء ولا يسأل عما يفعل . وأقول : لعل السبب فيه أن نسبتهم إلى الروحانيات أكثر .
آخر : إذا جوّزتم في الجملة اطلاع الجن على بعض المغيبات فقد ارتفع الوثوق عن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الغيوب فلا يكون دليلاً على صدقه . لا يقال : إنه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم لأنا نقول : صدق هذا الكلام مبني على صحة نبوّته ، فلو أثبتنا صحة نبوّته به لزم الدور؟ والجواب : أنا نعرف صحة نبوّته بدلائل أخر حتى لا يدور ، ولكن لا ريب أن إخباره عن بعض المغيبات مؤكد لنبوّته وإن لم يكن مثبتاً لها .
الدليل الرابع : قوله { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي } وقد مرّ تفسير مثله في أوّل سورة الرعد . الدليل الخامس قوله : { وأنبتنا فيها } أي في الأرض أو في الجبال الرواسي { من كل شيء موزون } بميزان الحكمة ومقدر بمقدار الحاجة ، وذلك أن الوزن سبب معرفة المقدار فأطلق اسم السبب على المسبب .

وقيل : أي له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة . وقيل : أراد أن مقاديرها من العناصر معلومة وكذا مقدار تأثير الشمس والكواكب فيها . وقيل : أي مناسب أي محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة . يقال : كلام موزون أي مناسب ، وفلان موزون الحركات . وقيل : أراد ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس وغيرها من الموزونات كأكثر الفواكه والنبات . { وجعلنا لكم فيها } أي في الأرض أو في تلك الموزونات { معايش } ما يتوصل به إلى المعيشة وقد مر في أول « الأعراف » . { ومن } عطف على معايش أي جعلنا لكم من { لستم له برازقين } أو عطف على محل لكم لا على المجرور فقط فإنه لا يجوز في الأكثر إلا بإعادة الجار والتقدير : وجعلنا لكم معايش لمن لستم له برازقين . وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين رازقهم في الحقيقة هو الله تعالى وحده لا الآباء والسادات المخاديم ، ويدخل فيه بحكم التغليب غير ذوي العقول في الأنعام والدواب والوحش والطير كقوله : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] وقد يذكر من يعقل بصفة من يعقل بوجه ما من الشبه كقوله : { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] والدواب تشبه ذوي العقول من جهة أنها طالبة لأرزاقها عند الحاجة . يحكى أنه قلت مياه الأودية في بعض السنين واشتد عطش الوحوش فرفعت رأسها إلى السماء فأنزل الله المطر . ثم بين غاية قدرته ونهاية حكمته فقال : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } قال جمع من المفسرين : أراد بالشيء ههنا المطر الذي هو سبب لأرزاق بني آدم وغيرهم من الطير والوحش ، وذلك أنه لما ذكر معايشهم بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره . قوله : { وما ننزله إلا بقدر معلوم } عن ابن عباس : يريد قدر الكفاية . وقال الحكم : ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون ، وربما كان في البحر ، واعلم أن لفظ الآية لا يدل على هذين القولين فلو ساعدهما نقل صحيح أمكن أن يقبلهما العقل والا كان شبه تحكم والظاهر عموم الحكم ، وإن ذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور . والمعنى إن جميع الممكنات مقدورة ومملوكة له يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء ، وهي إن كانت غير متناهية بالقوّة لأن كلاً منها يمكن أن يقع في أوقات غير محصورة على سبيل البدل ، وكذا الكلام في الأحياز وسائر الأعراض والأوصاف . فاختصاص ذلك الخارج إلى الوجود بمقدار معين وشكل معين وحيز ووقت معين إلى غير ذلك من الصفات المعينة دون أضدادها لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو المراد من قوله : { وما ننزله إلا بقدر معلوم } وقد يتمسك بالآية بعض المعتزلة في أن المعدوم شيء .

قيل : المراد أن تلك الذوات والماهيات كانت مستقرة عند الله بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات ، ثم إنه تعالى نزل أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود .
الدليل السادس : قوله { وأرسلنا الرياح } ومن قرأ الريح فاللام للجنس { لواقح } قال ابن عباس : معناه ملاقح جمع ملقحة لأنها تلقح السحاب بمعنى أنها تحمل الماء وتمجه في السحاب ، أو لأنها تلقح الشجر أي تقوّيها وتنميها إلى أن يخرج ثمرها . قاله الحسن وقتادة والضحاك . وقد جاء في كلام العرب « فاعل » بمعنى « مفعل » قال :
ومختبط مما تطيح الطوائح ... يريد المطاوح جمع مطيحة . وقال ابن الأنباري : تقول العرب : أبقل النبت فهو باقل أي مبقل . وقال الزجاج : معناه ذوات لقحة لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة كما يقال رامح أي ذو رمح - ولابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر . وقيل : إن الريح في نفسها لاقح أي حالة للسحاب أو للماء من قوله تعالى : { حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً } [ الأعراف : 57 ] أو حاملة للخير والرزق كما قيل لضدها الريح العقيم { فأسقيناكموه } أي جعلناه لكم سقياً قال أبو عليّ : يقال سقيته الماء إذا أعطاه قدر مما يروى ، وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له . والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله : { نسقيكم مما في بطونه } [ النحل : 66 ] ولم يختلفوا في قوله : { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } [ الدهر : 21 ] ويقال : سقيته لشفته وأسقته لماشيته وأرضه . { وما أنتم له بخازنين } نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } أي نحن الخازنون للماء لا أنتم أراد عظيم قدرته وعجز من سواه . الدليل السابع : قوله { وإنا لنحن نحيي ونميت } والغرض الاستدلال بانحصار الإحياء والإماتة فيه على أنه واحد في ملكه . قال أكثر المفسرين : إنه وصف النبات فيما قبل فهذا الإحياء مختص بالحيوان ، ومنهم من يحمله على القدر المشترك بين إحياء النبات وبين إحياء الحيوان { ونحن الوارثون } مجاز عن بقائه بعد هلاك ما عداه كما مر في آخر « آل عمران » في قوله : { ولله ميراث السموات والأرض } [ الآية : 180 ] قوله : { ولقد علمنا } عن ابن عباس في رواية عطاء { المستقدمين } يريد أهل طاعة الله ، والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعته . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم رغب الناس في الصف الأول في الجماعة فازدحم الناس عليه فأنزل الله الآية . والمعنى إنا نجزيهم على قدر نياتهم . وقال الضحاك ومقاتل : يعني في صف القتال . وقال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء : كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها ، وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها ، وكان قوم إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فنزلت .

وقيل : المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء . وهذا القول شديد المناسبة لما قبل الآية ولما بعدها . وقيل : المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عكرمة : المستقدمون من خلق ، والمستأخرون من لم يخلق بعد . والظاهر العموم وأن علمه تعالى شامل لجميع الذوات والأحوال الماضية والمستقبلة فلا ينبغي أن تخص الآية بحالة دون أخرى . ثم نبه على أن الحشر والنشر أمر واجب ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو فقال : { وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم } فلحكمته بني أمر العباد على التكليف والجزاء ، ولعلمه قدر على توفية مقادير الجزاء .
الدليل الثامن : الاستدلال على خلق الإنسان خاصة وذلك أنه لا بد من انتهاء الناس إلى إنسان أول ضرورة امتناع القول بوجود حوادث لا أول لها . وقد أجمع المفسرون على أنه آدم عليه السلام ، ورأيت في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أنه قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر ، وكيف كان فلا بد من إنسان هو أول الناس . والأقرب أنه تعالى خلق آدم من تراب ثم من طين ثم من حمإٍ مسنون ثم من صلصال كالفخار . وقد كان قادراً على خلقه من أيّ جنس من الأجسام كان ، بل كان قادراً على خلقه ابتداء . وإنما خلقه على هذا الترتيب لمحض المشيئة . أو لما كان فيه من زلة الملائكة والجن ، أو لغير ذلك من المصالح ، ولا شك أن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه ، والصلصال الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوّت وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار . وقيل : هو تضعيف صل إذا أنتن . والحمأ الأسود المتغير من الطين ، وكذلك الحمأة بالتسكين . المسنون المصوّر من سنة الوجه أي صورته قاله سيبويه . وقال أبو عبيدة : المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصورة من الجواهر المذابة . وقال ابن السكيت : سمعت أبا عمرو يقول : معنا متغير منتن وكأنه من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل منهما سنين ولا يكون إلا منتناً . قال في الكشاف : قوله : { من حمإٍ } صفة صلصال أي خلقه من صلصال كائن من حمإ . قلت : ولا يبعد أن يكون بدلاً أي خلقه من حم. قال : وحق مسنون بمعنى مصوّر أن يكون صفة لصلصال كأنه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غيره بعد ذلك الى جوهر آخر . قوله : { والجانّ } قال الحسن ومقاتل وقتادة وهو رواية عطاء عن ابن عباس يريد إبليس - وعن ابن عباس - في رواية أخرى : هو أبو الجن كآدم أبي الناس وهو قول الأكثرين .

والتركيب يدل على السبق والتواري عن الأعين وق مر فيما سلف ولا سيما في تفسير الاستعاذة في أول الكتاب { خلقناه من قبل } قال ابن عباس : أي من قبل خلق آدم و { السموم } الريح الحارة النافذة في السمام تكون في النهار وقد تكون بالليل . ومسام البدن الخروق الخفية التي يبرز منها العرق وبخار الباطن ، ولا شك أن تلك الريح فيها نار ولها لفح على ما ورد في الخبر أنه لفح جهنم . قال ابن مسعود : هذه السموم جزءاً من سبعين جزءاً من سموم النار التي خلق . الله منها الجان . ولا استبعاد في خلق الله الحيوان من النار فإنا نشاهد السمندل قد يتولد فيها . على قاعدة الحكيم : كل ممتزج من العناصر فإنه يمكن أن يغلب عليه أحدها ، وحينئذٍ يكون مكانه مكان الجزء الغالب والحرارة مقوية للروح لا مضادة لها . ثم إنه لما استدل بحدوث الإنسان الأول على كونه قادراً مختاراً ذكر بعده واقعته . والمراد بكونه بشراً أنه يكون جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي ، والملائكة والجن لا يباشرون للطاقة أجسامهم .
والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان . { فإذا سوّيته } عدلت خلقته وأكملتها أو سويت أجزاء بدنه بتعديل الأركان والأخلاط والمزاج التابع لذلك اعتدالاً نوعياً أو شخصياً . { ونفخت فيه من روحي } النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر . فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر ، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به . قال جار الله : ليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه . وتمام الكلام في الروح سوف يجيء إن شاء الله في قوله : { يسألونك عن الروح } [ الإسراء : 85 ] . ولا خلاف في أن الإضافة في قوله : { روحي } للتشريف والتكريم مثل « ناقة الله » و « بيت الله » والفاء في قوله : { فقعوا } تدل على أن وقوعهم في السجود كان واجباً عليهم عقيب التسوية والنفخ من غير تراخ . قال المبرد : قوله { كلهم } أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجدوا . وقوله : { أجمعون } أزال احتمال أنهم سجدوا متفرقين ، وقال سيبويه والخليل { أجمعون } توكيد بعد توكيد ، ورجح الزجاج هذا القول لأن أجمع معرفة فلا يقع حالاً ، ولو صح أن يكون حالاً وكا منتصباً لأفاد المعنى الذي ذكره المبرد ، ثم استثنى إبليس من الملائكة وقد سلف وجه الاستثناء في أول البقرة . ثم استأنف على تقدير سؤال سائل هل سجد؟ فقال : { أبى أن يكون مع الساجدين } يعني إباء استكبار .
ثم قال سبحانه وتعالى خطاب تقريع وتعنيف لا تعظيم وتشريف { يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين } وقال بعض المتكلمين : خاطبه على لسان بعض رسله لأن تكليم الله بلا واسطة منصب شريف فكيف يناله اللعين؟ قال جار الله : حرف الجر مع أن محذوف ومعناه أيّ غرض لك في الامتناع من السجود { قال لم أكن لأسجد } اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد { لبشر } وحاصل شبهة اللعين أنه روحاني لطيف وآدم جسماني كثيف ، وأصله نوراني شريف وأصل آدم ظلماني خسيس ، فعارض النص بالقياس فلا جرم أجيب بقوله : { فاخرج منها } أي من الجنة أو من السماء أو من جملة الملائكة .

وضرب يوم الدين أي يوم الجزاء حداً للعنة جرياً على عادة العرب في التأبيد كما في قوله : { ما دامت السموات والأرض } [ هود : 107 ] أو أراد اللعن المجرد من غير تعذيب حتى إذا جاء ذلك اليوم عذب بما ينسى اللعن معه . قال صاحب الكشاف : وأقول : هذا إن أريد باللعن مجرد الطرد عن الحضرة . أما إن أريد به الإبعاد عن كل خير فيتعين الوجه الأول إلا عند من أثبت لإبليس رجاء العفو . وإنما ذكر اللعنة ههنا بلام الجنس لأنه ذكر آدم بلفظ الجنس حيث قال : { إني خالق بشراً } ولما خصص آدم بالإضافة إلى نفسه في سورة « ص » حيث قال : { لما خلقت بيدي } [ الآية : 75 ] خصص اللعنة أيضاً بالإضافة فقال : { وإن عليك اللعنة } فافهم . { قال رب فأنظرني } قد مر مثله في أول « الأعراف » . ومعنى { الوقت المعلوم } أن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار كالمعلوم والمراد منه الوقت القريب من البعث الذي يموت فيه الخلائق كلهم ليشمل الموت اللعين أيضاً . وقيل : لم يجب إلى ذلك وأنظر إلى يوم لا يعلمه إلا الله { قال رب بما أغويتني } قد مر مباحثه في « الأعراف » . ومفعول { لأزينن } محذوف أي أزين لهم المعاصي في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور ، أو أراد أنه قدر على الاحتيال لآدم وهو في السماء فهو على التزيين لأولاده وهم في الأرض أقدر ، أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض بأن أزين الأرض في أعينهم وأحدثهم أن الزينة هي في الأرض وحدها كقوله :
وإن يعتذر بالمحل من ذي ضروعها ... من الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
أراد يجرح عراقيبها نصلي ثم استثنى اللعين عباد الله المخلصين لأنه علم أن كيده لا يؤثر فيهم . قال بعض الحذاق : احترز إبليس بهذا الاستثناء من الكذب فيعلم منه أن الكذب في غاية السماحة والإخلاص فعل الشيء خالصاً لله من غير شائبة الغير لا أقل من أن يكون حق الله فيه راجحاً أو مساوياً . ولما ذكر إبليس من الاستثناء ما ذكر { قال } الله سبحانه { هذا } يعني الإخلاص طريق مستقيم عليّ ان أراعيه أو عليّ مروره أي على رضواني وكرامتي .

وقيل : لما ذكر اللعين أنه يغوي بني آدم لا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى مشيئته تعالى فأشير إليه بقول : { هذا } أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي . { صراط عليّ } تقريره وتأكيده ، ومن قرأ { عليّ } بالتوين فهو من علو الشرف أي الإخلاص أو طريق التفويض إلى الله والإيمان بقضائه طريق رفيع . { مستقيم } لا عوج له . وقال جار الله : هذا إشارة إلى ما بعده وهو قوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } قال الكلبي : المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس وذلك أنه لما ذكر { إلا عبادك } بين به أنه لا يقدر على إغواء المخلصين فصدقه الله تعالى في الاستثناء قائلاً { إن عبادي ليس عليهم سلطان إلا من اتبعك } أي ولكن من اتبعك من الغواة فلك تسلط عليهم وهذا يناسب أصول الأشاعرة . وقال آخرون : هذا تكذيب لإبليس وذلك أنه أوهم بما ذكر أن له سلطاناً على عباد الله الذين لا يكونون من المخلصين فبين تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً إلا الغواة ، لا بسبب الجبر والقسر بل من جهة الوسوسة والتزيين نظيره قوله : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم } [ إبراهيم : 22 ] وهذا يناسب أصول الاعتزال { وإن جهنم لموعدهم أجميعن } قال ابن عباس : يريد إبليس ومن تبعه من الغاوين . { لها سبعة أبواب } أي سبع طبقات بعضها فوق بعض أعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين . وعن ابن عباس في رواية ابن جريج : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام ، وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين . وقيل : إن قرار جهنم مقسوم بسبعة أقسام لكل قسم باب معين لكل باب جزء من أتباع إبليس مقسوم في قسمة الله سبحانه . والسبب في أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة . فلا جرم صارت مراتب العقاب أيضاً متفاوته بحسبها .
ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : { إن المتقين في جنات وعيون } فزعم جمهور المعتزلة أنهم الذين اتقوا جميع المعاصي وإلا لم يفد المدح . وقال جمهور : الصحابة والتابعين هم الذين اتقوا الشرك بالله واحتجوا عليه بأنه إذا اتقى مرة واحدة صدق عليه أنه اتقى ، وكذا الكلام في الضارب والكاتب فليس من شرط صدق الوصف كونه آتياً بجميع أصنافه وأفراده إلا أن الأمة أجمعوا على أن التقوى عن الشرك شرط في حصول هذا الحكم . والآية أيضاً وردت عقيب قوله : { إلا عبادك منهم المخلصين } { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } فلزمه اعتبار الإيمان في هذا الحكم . والظاهر أن لا يراد شرط آخر لأن التخصيص خلاف الظاهر فكلما كان أقل كان أوفق لمقتضى الأصل ، فثبت أن المتقين يتناول جميع القائلين بكلمة الإسلام وهي « لا إله إلا الله محمد رسول الله » قولاً واعتقاداً سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية .

ثم إن الجنات أقلها أربع لقوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ثم قال { ومن دونهما جنتان } [ الرحمن : 62 ] وأما العيون فإما أن يراد بها الأنهار المذكورة في قوله : { فيها أنهار من ماء غير آسن } [ محمد : 15 ] الآية وإما أن يراد بها منابع غير ذلك . ثم إن كل واحد من المتقين يحتمل أن يختص بعين وينتفع بها كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهوتهم . ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون من كل حقد وحسد . فإن قيل : إذا كانوا في جنات فكيف يعقل أن يقول لهم الله تعالى وبعض الملائكة { ادخلوها } فالجواب لعل المراد أنهم لما ملكوا الجنات فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ذلك . ومعنى { بسلام } أي مع السلامة من آفات النقص والانقطاع . قوله : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } قد مر تفسيره في « الأعراف » { إخواناً } نصب على الحال . وكذلك { على سرر متقابلين } والمراد بالإخوة . إخوة الدين والتعاطف . والسرر جمع سرير . قيل : هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور . وقال الليث : سرير العيش مستقره الذي يطمئن عليه حال سروره وفرحه . والتركيب يدور على العزة والنفاسة ومنه قوله : « سر الوادي لأفضل موضع منه » ومنه السر الذي يكتم . عن ابن عباس : يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، وعن مجاهد : تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين . والتقابل التواجه نقيض التدابر ، وتقابل الإخوان يوجب اللذة والسرور ليكون كل منهم مقبلاً على الآخر بالكلية ، وتقابل الأعداء يكون تقابل التضاد التمانع فيكون موجباً للتباغض والتخالف ، واعلم أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خالصة من الآفات آمنة من الزوال . فقوله : { إن المتقين } إشارة إلى المنفعة وقوله : { ادخلوها } رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم ، وقوله : { ونزعنا } إلى قوله : { لا يمسهم فيها نصب } أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خاصة من الآفات آمنة من الزوال . فقوله : { إن للمتقين } إشارة إلى المنفعة وقوله : { ادخلوها } رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم ، وقوله { ونزعنا } إلى قوله : { لا يمسهم فيها نصب } أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن قوله : { ونزعنا ما في صدورهم } إشارة إلى نفي المضار الروحانية ، وقوله : { لا يمسهم } إشارة إلى نفي المضار الجسدانية ، وقوله : { وما هم بمخرجين } مفيد لمعنى الخلود . ثم لما ذكر الوعيد والوعد زاده تقريراً وتمكيناً في النفوس فقال : { نبىء عبادي } وفيه من التوكيدات ما لا يخفى : منها إشهاد رسوله وإعلامه ، ومنها تشريفهم بإطلاق لفظ العباد عليهم ثم بإضافتهم إلى نفسه ، ومنها التوكيد ب « أن » وبالفضل وبصيغتي الغفور والرحيم مع نوع تكرر كل ذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال : « سبقت رحمتي غضبي » .

التأويل : { ربما يود الذين كفروا } أي النفوس الكافرة { لو كانوا } مستسلمين لأوامر الله ونواهيه ، وذلك إنما يكون عند استيلاء سلطان الذكر على القلب والروح ، وتنور صفاتها بنور الذكر فيغلب النور على ظلمة النفس وصفاتها وتبدلت أحوالها من الأمّارية إلى الاطمئنان فتمنت حين ذاقت حلاوة الإسلام وطعم الإيمان لو كانت من بدء الخلق مسلمة مؤمنة كالقلب والروح . ثم هدد النفس التي ذاقت حلاوة الإسلام ثم عادت الميشوم إلى طبعها واستحلت المشارب الدنيوية بقوله : { ذرهم يأكلوا } { وما أهلكنا من قرية } من القرى البدنية بإفساد استعدادها { إلا ولها كتاب } مكتوب في علم الله من سوء أعماله وأحواله { ما تسبق من أمة أجلها } متى يظهر منها ما هو سبب هلاكها { وما يستأخرون } لحظة بعد استيفاء أسباب هلاكها { وقالوا } يعني النفوس المتمردة مخاطباً للقلب الذاكر { لو ما تأتينا } بصفات الملائكة المنقادين ، وفيه إشارة إلى أن النفس الأمارة لا تؤمن بما أنزل الله إلى القلوب من أنوار الإلهية حتى تصير مطمئنة مستعدة لهذه الصفات ، ولو أنزلت قبل أوانها وكمال استعداد القلوب ما كانوا إذاً منظرين مؤخرين من الهلاك لضيق نطاق طاقتهم { إنا نحن نزلنا } كلمة لا إله إلا الله في قلوب المؤمنين { كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] والمنافق يقول ذلك ولكن لم ينزل في قلبه ولم يحفظ . { ولو فتحنا } على من أسلكنا الكفر في قلوبهم { باباً من } سماء القلب لأنكروا فتح الباب . ولقد جعلنا في سماء القلب بروج الأطوار ، فكما أن البروج منازل السيارات فكذلك الأطوار منازل شموس المشاهدات وأقمار المكاشفات وسيارات اللوامع والطوالع { وزيناها } لأهل النظر السائرين إلى الله { وحفظناها من } وساوس الشيطان وهواجس النفس الأمارة ، ولكن من استرق السمع من النفس والشيطان فأدركه شعلة من أنوار تلك الشواهد فيضمحل الباطل ويتبين الحق { والأرض مددناها } فيه أن أرض البشرية تميل كنفس الحيوانات إلى أن أرساها الله بجبال العقل وصفات القلب { وجعلنا لكم فيها معايش } هي أسباب الوصول والوصال { ومن لستم له برازقين } وهو جوهر المحبة وإن غذاءه من مواهب الحق وتجلي جماله فقط ، ولكل شيء خزانة فلصورة الأجسام خزانة ، ولاسمها خزانة ، ولمعناها خزانة ، وكذا للونها ولطعمها ولخواصها من المنافع والمضار ، وكذا لظلمتها ونورها ولملكها وملكوتها ، وما من شيء إلا وفيه لطف الله وقهره مخزون ، وقلوب العباد خزائن صفات الله تعالى بأجمعها { وأرسلنا } رياح العناية { لواقح } لأشجار القلوب بأنهار الكشوف وبأثمار الشواهد كما قال بعضهم : إذا هبت رياح الكرم على أسرار العارفين أعتقهم من هواجس أنفسهم ورعونات طبائعهم ، وظهر في القلوب نتائج ذلك وهي الاعتصام بالله والاعتماد عليه .

{ فأنزلنا من } سماء الهداية { ماء } الحكمة { وما أنتم له بخازنين } في أصل الخلقة فإن المخلوق لا يوصف بالحكمة إلا مجازاً . وإنا لنحن نحيي قلوب أوليائينا بأنوار جمالنا ، ونميت نفوسهم بسطوة جلالنا { ونحن الوارثون } بعد إفناء وجودهم ليبقوا ببقائنا { وإن ربك هو } يحشر المستقدمين إلى حظائر قدسه والمستأخرين إلى أسفل سافلين الطبيعة ، خاطب إبليس النفس بقوله : { وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين } أي إلى أن تطلع شمس شواهدنا من مشرق الروح وتصير أرض النفس مشرقة وتتبدل صفاتها الذميمة المظلمة بالأخلاق الروحانية الحميدة { إلى يوم يبعثون } أي يبعث الأرواح في قيامة العشق وهو الوقت المعلوم الذي يتجلى الرب فيه لأرواح العشاق ، فينعكس نور التجلي من الأرواح إلى النفوس فتجعلها مطمئنة . { بما أغويتني } أضللتني من طريق الأمارية { لأزينن } للأرواح في أرض البشرية من الأعمال الصالحات التي تورث الأخلاق الحميدة وبها تربية الأرواح وترقيها { ولأغوينهم أجمعين } عما كانا عليه من الأعمال الروحانية الملكية التي لا تتأتى إلا لعبادك الذين خلصوا من حبس الوجود بجذبات الألطاف . { هذا صراط } أي هو طريق أهل الاستقامة في السير في الله المنقطعين عن غيره { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } حجة تتعلق بتلك الحجة لهدايتهم وإغوائهم فإنهم بلاهم ، وإن من خصوصية العبودية المضافة إلى الحضرة الحرية عما سواه { لها سبعة أبواب } من الحرص والشره والحقد والحسد والغضب والشهوة والكبر ، أو الأبواب السبعة إشارة إلى الحواس الخمس الظاهرة وإلى الوهم والخيال فإنهما أصلا الحواس الباطنية ، لأن الأول يدرك المعاني والثاني يدرك الصور ، والباقية - أعني المفركة والحافظة والذاكرة - من أعوانهما ، وأكثر ما يستعمل الإنسان هذه المشاعر إنما يستعملها في الأحوال الدنيوية المفضية إلى الهلاك ، فلا جرم صارت أبواباً لجهنم . فإذا استعملها في تحصيل السعادات الباقية بحسب تصرف العقل الغريزي صرن مع العقل أبواباً بل أسباباً لحصول الجنة . { ادخلوها بسلام } والسلام من الله الجذبات { آمنين } من موانع الخروج والدخول بعد الوصول فإن السير في الله لا يمكن إلا بالله وجذباته ولهذا قال جبرائيل ليلة المعراج : لو دنوت أنملة لاحترقت . { ونزعنا } فيه أن نزع الغل من الصدور لا يكون إلا بنزع الله ، وأن الأرواح القدسية مطهرات عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبرءات من حوادث الوهم والخيال ، ومعنى تقابلهم أن النفوس المصفاة عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام إذا وقع عليها أنواع جمال الله أو جلاله انعكست منها إلى من في مثل درجاتها كما تتعاكس المرايا الصافية ، المتحاذية ، فيزداد كل منها في نفسها بخفاء صفاتها . وفي قوله : { نبىء عبادي } إشارة إلى أن سلوك السالكين وطير الطائرين يجب أن يكون على قدمي الرجاء والخوف وجناحي الإنس والجن والله الموفق للصواب .
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

القراآت : { إذ دخلوا } وبابه مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف غير هشام { إنا نبشرك } بسكون الباء وضم الشين : حمزة . الآخرون بالتشديد { تبشرون } بالتشديد وكسر النون المخففة : نافع مثله . ولكن مشددة النون : ابن كثير . الباقون بفتح النون على أنها علامة رفع { يقنط } بكسر النون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وخلف وكذلك بابه . الآخرون بالفتح { آل لوط } مدغماً حيث كان شجاع { لمنجوهم } بالتخفيف : يعقوب وحمزة علي وخلف . الباقون بالتشديد { قدرنا } بالتخفيف حيث كان : أبو بكر وحماد { بناتي إن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع { أني أنا } بفتح ياء المتكلم : جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو .
الوقوف : { إبراهيم } 5 ج لئلا يصير { إذا دخلوا } ظرفاً { لنبئهم } فإنه محال { سلاماً } ط { وجلون } 5 { عليم } 5 { تبشرون } 5 { القانطين } 5 { الضالون } 5 { المرسلون } 5 { مجرمين } 5 لا للاستثناء . { آل لوط } ط { أجمعين } 5 لا { قدرنا } لا لأن الجملة بعده مفعول والكسر لدخول اللام في الخبر { الغابرين } 5 { المرسلون } 5 لا لأن ما بعده جواب « لما » { منكرون } 5 { يمترون } 5 { لصادقون } 5 { تؤمرون } 5 { مصبحين } 5 { يستبشرون } 5 { فلا تفضحون } 5 لا للعطف { ولا تخزون } 5 { العالمين } 5 { فاعلين } 5 ط لابتداء القسم { يعمهون } 5 { مشرقين } 5 لا لاتصال انقلابها بالصيحة { من سجيل } ط { للمتوسمين } 5 { مقيم } 5 { للمؤمنين } 5 ط لتمام القصة { لظالمين } 5 لا لاتصال الانتقام بظلمهم { منهم } 5 ط لأن الواو للابتداء فلو وصل لشابه الحال وهو محال { مبين } 5 ط لتمام قصتهم { المرسلين } 5 لا لأن الواو بعده للحال وقد آتيناهم { معرضين } 5 لا للعطف { آمنين } 5 ط { مصبحين } 5 ط للاتصال معنى { يكسبون } 5 م لتمام القصص { إلا بالحق } ط { الجميل } 5 { العليم } 5 { العظيم } 5 { للمؤمنين } 5 { المبين } 5 ج لجواز تعلق الكاف بقوله : { فأخذتهم } أو بقوله : { فانتقمنا } ولجواز تعلقها بمحذوف أي أنزلنا عليهم العذاب كما أنزلنا ، وتمام البحث سيجيء في التفسير . { المقتسمين } 5 لا { عضين } 5 { أجمعين } 5 لا { يعملون } 5 { المشركين } 5 { المستهزئين } 5 لا { آخر } ج لابتداء التهديد مع الفاء { يعلمون } 5 { يقولون } 5 لا لاتصال الأمر بالتسبيح تسلية { الساجدين } 5 لا للعطف { اليقين } 5 .
التفسير : إنه سبحانه عطف { ونبئهم } على { نبىء عبادي } ليكون سماع هذه القصص مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ، ومحذراً من المعصية المستتبعة لدركات الأشقياء ، ولما في قصة لوط من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين ، وكل ذلك يقوّي ما ذكر من أنه غفور رحيم للمؤمنين ، وأن عذابه عذاب أليم للكافرين . وعند المعتزلة غفور للتائبين معذب لغيرهم . وقد مر تفسير أكثر هذه القصة في سورة هود فنذكر الآن ما هو مختص بالمقام .

فقوله : { وجلون } معناه خائفون خافهم لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وفي غير وقت . { إنا نبشرك } استئناف في معنى تعليل النهي عن الوجل . بشروه بالولد الذكر بكونه عليماً فقيل : أرادوا بعلمه نبوته . وقيل : العلم مطلقاً . وقوله : { على أن مسني } في موضع الحال أي مع هذه الحالة استفهم منكراً للولادة في حالة الهرم أنها أمر عجيب عادة لا لأنه شك في قدرة الله تعالى ولذلك قال : { فبم تبشرون } « ما » استفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني أي أو أنكم لا تبشروني بشيء في الحقيقة لأن ذلك أمر غير متصور في العادة؟ وأحسن ما قيل فيه أن لا يكون قوله : « بما » صلة للتبشير بل يكون سؤالاً عن الوجه والطريقة يعني إذا كان الطريق . المعتاد ممتنعاً فبأي طريق تبشرونني بالولد ، فلذلك قالوا في جوابه { بشرناك بالحق } أي باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بشرناك بالولد بطريق هو حق وذلك قول الله تعالى ووعده وأنه قادر على خلق الولد من غير أبوين فضلاً من شيخ فانٍ وعجوز عاقر . قال أبو حاتم : حذف نافع ياء المتكلم مع النون وإسقاط الحرفين لا يجوز . وأجيب بأنه لم يحذف إلا الياء اكتفاء بالكسرة ونون الوقاية لم يوردها كما أوردت في قراءة التشديد ، وإنما كسر نون الجمع لأجل الياء وكلتا اللغتين فصيحة . قيل : عظم فرحه بتلك البشارة فدهش عن الجواب المنتظم فتكلم بالكلام المضطرب . وقيل : طلب مزيد الطمأنينة كقوله : { ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] عن ابن عباس : يريد بالحق ما قضى الله أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق ومن صلب إسحق أكثر الأنبياء . وقوله : { فلا تكن من القانطين } لا يدل على أنه كان قانطاً فق ينهى عن الشيء ابتداء كقوله : { ولا تطع الكافرين } [ الأحزاب : 48 ] . ولذلك أنكر إبراهيم نهيهم بقول : { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } أي المخطئون طريق الصواب أو الكافرون نظيره { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] وفيه أنه لم يستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله هما لغتان : قنط يقنط مثل ضرب يضرب ، وقنط يقنط مثل علم يعلم . وزعم الفارسي أن الأولى أعلى اللغتين . ثم سأل عما لأجله أرسلهم الله حيث قال : { فما خطبكم } والخطب الشأن العظيم . فسئل أنهم لما بشروه بالولد الذكر العليم فما وجه السؤال عن مجيئهم؟ وأجاب الأصم بأن المراد ما الأمر الذي وجهتم فيه سوى البشرى؟ . وقال القاضي : إنه علم أن المقصود لو كان التبشير فقط لكان الملك الواحد كافياً . وقيل : علم أنه لو كان تمام الغرض البشارة لذكروها أول ما دخلوا قبل أن يوجس إبراهيم منهم خيفة . قلت : لعله استصغر أمر التبشير إما لأجل التواضع وإما لأنه واقعة خاصة فسألهم عن الأمر الذي هو أعظم من ذلك وأعم تعظيماً لشأنهم { قالوا إنا أرسلنا } زعم صاحب الكشاف أن الإرسال ههنا في معنى التعذيب والإهلاك كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمى .

وأقول : كأنه لا حاجة إلى هذا التجوز لقوله في سورة الذاريات { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين } [ الآيتان : 32 ، 33 ] فالتقدير إنا أرسلنا إليهم لنهلكهم { إلا آل لوط } وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً لاختلاف الجنسين ، فإن القوم موصوفون بالإجرام دون آل لوط . يكون قوله : { إنا لمنجوهم } جارياً مجرى خبر « لكن » كأنه قيل : لكن قوم لوط منجون ، ويكون قوله : { إلا امرأته } استثناء من الاستثناء أي أرسلنا إليهم لنهلكهم إلا آل لوط { إلا امرأته } كقول المقر : لفلان علي عشرة إلا ثلاثة واحداً . وجوز في الكشاف أن يكون قوله : { إلا آل لوط } مستثنى من الضمير في { مجرمين } حتى يكون الاستثناء متصلاً أي إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم . ولم لا يجوزالاستثناء من الاستثناء بناء على أن { آل لوط } مستثنى من معمول { أرسلنا } أو { مجرمين } و { إلا امرأته } من معمول { منجوهم } وقد عرفت ما فيه على أنه إذا جعل الإرسال بمعنى الإهلاك كما قرره هو آل الأمر إلى ما ذكرنا فلا أدري لم استبعده مع وفور فضله . قال أهل اللغة : قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل جعلت الشيء على مقدار غيره ، ومنه قدر الله الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية ، وقدر الأمور أي جعلها على مقدار ما يكفي في أبواب الخير والشر . وقيل : في معنى قدرنا : كتبنا . وقال الزجاج : دبرنا . وقيل : قضينا . والكل متقارب ، والمشدد في هذا المعنى أكثر استعمالاً وأنه جواب سؤال كأنه قيل : ما بالها استثنيت من الناجين؟ فقيل : { قدرنا إنها لمن الغابرين } أي الباقين في الهوالك . ويقال للماضي أيضاً غابر وهو من الأضداد . قال في الكشاف : علق فعل التقدير مع أن التعليق من خصائص أفعال القلوب لأنه في معنى العلم . وإنما أسندوا الفعل إلى أنفسهم مع التقدير لله عز وجل بياناً لاختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا أو أمرنا بكذا ولعل المدبر والآمر هو الملك وحده .
ثم إن الملائكة لما بشروا إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وذلك قوله : { فلما جاء آل لوط المرسلون قال } أي لوط { إنكم قوم منكرون } تنكركم نفسي وتنفر منكم . وذلك أنهم هجموا عليه فلم يعرفهم وخاف أن يطرقوه بشر فلذلك { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } أي ما جئناك بما توهمت بل جئناك بما فيه فرجك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تخوفهم به وهم يشكون في وقوعه . { وأتيناك بالحق } باليقين الثابت .

وقال الكلبي : بالعذاب الذي لا شك فيه { وإنا لصادقون } فيما أخبرناك به { فأسر بأهلك بقطع من الليل } أي في آخره وقدم في سورة هود وزاد ههنا قوله : { واتبع أدبارهم } لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم علم بنجاتهم ، ولا يخفى حالهم . ففي الآية زيادة بيان لكيفية الإسراء ثم زاد في البيان فقال : { ولا يلتفت منكم أحد } ولم يستثن امرأته اكتفاء بما مر في السورة من قوله : { إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته } قال جار الله : إنما أمر باتباع أدبارهم ونهى عن الالتفات ليكون فارغ البال من حالهم فيخلص قلبه لشكر الله ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، ولئلا يشاهدوا عذاب قومهم فيرقوا لهم مع أنهم ليسوا من أهل الرقة عليهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ولا يتحسروا على ما خلفوا . وجوز أن يكون النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني ، لأن من يلتفت لا بد أن يقع له أدنى وقفة { وامضوا حيث تؤمرون } قال الجوهري : مضى الشيء مضياً ذهب ، ومضى في الأمر مضياً أنفذه . وقال في الكشاف : عدى { وامضوا } إلى { حيث } تعديته إلى الظرف المبهم لأن { حيث } مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في { تؤمرون } قلت : حاصل الكلام يرجع إلى قوله : اذهبوا إلى المكان الذي تؤمرون بالذهاب إليه ، أو أنفذوا أمر الذهاب إلى هنالك . عن ابن عباس : إنه الشام . وقيل : مصر . وقال المفضل : حيث يقول لكم جبرائيل وكانت قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط . ثم أخبر عن حالهم مجملاً فقال : { وقضينا } ضمن معنى أوحينا ولذلك عدي بإلى كأنه قيل : وأوحينا . { إليه ذلك الأمر } مقتضياً مبتوتاً . ثم فسر ذلك الأمر بقوله : { أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } أي يستأصلون عن آخرهم حال ظهور الصبح ودخولهم فيه . وفي هذا الإجمال والتفسير تفخيم لشأن الأمر وتعظيم له .
ثم حكى ما أبدى قوم لوط من الفعال بعد نزول الملائكة فقال : { وجاء أهل المدينة } أي أهل سذوم التي ضرب بقاضيها المثل فقيل أجور من قاضي سذوم . { يستبشرون } بظهور السرور بمجيء الملائكة لأنهم رأوهم مرداً حسان الوجوه { قال } لوط لما قصدوا أضيافه { إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون } بفضيحة ضيفي لأن الضيف يجب إكرامه فإذا أسيء إليه في دار المضيف كان ذلك إهانة وفضيحة للمضيف . يقال : فضحه يفضحه فضحاً وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار { واتقوا الله ولا تخزون } مر في « هود » { قالوا } في جواب لوط { أو لم ننهك عن العالمين } أي ألسنا نهيناك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وكانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان لوط عليه السلام ينهاهم عن ذلك فأوعدوه نظيره { لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين } { الشعراء : 116 ] وقيل : نهوه عن ضيافة الناس وإنزالهم { قال هؤلاء بناتي } من الصلب أو أراد نساء أمته كما مر في « هود » .

قال جار الله { إن كنتم فاعلين } شك في قبولهم لقوله كأنه قال وما أظنكم تفعلون . وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فبما أحل الله دون ما حرم . ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام { لعمرك } مبتدأ محذوف الخبر لكثرة الاستعمال أي قسمي أو هو ما أقسم به . والعمر والعمر بالفتح والضم واحد إلاّ أنهم خصوا القسم بالمفتوح اتباعاً للأخف ، فإن الحلف كثير الدور على ألسنتهم { إنهم لفي سكرتهم } غوايتهم التي أذهبت عقولهم حتى لم يميزوا بين خطئهم وصوابك { يعمهون } يتحيرون فكيف يقبلون قولك الذي تأمرهم به من ترك البنين إلى البنات؟ وقيل : إنه سبحانه خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقسم بحياته صلى الله عليه وسلم كرامة له صلى الله عليه وسلم وما أقسم بحياة أحد قط وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله { فأخذتهم الصيحة مشرقين } داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس كان اتبداء العذاب من أو الصبح لقوله : { مصبحين } أليس الصبح بقريب؟ وغلبته كانت عن طلوع الشمس قال المفسرون : هي صيحة جبرائيل . قلت : ويحتمل أن تكون صيحة قلب المدائن وإرسال الحجارة عليهم . قال بعض المفسرين : إنما قال : { وأمطرنا عليهم } وفي سورة هود { وأمطرنا عليها } [ الآية : 82 ] لأنه أراد ههنا من شذ من القرية منهم . وقيل : سبب تخصيص هذه السورة بجمع المذكر هو بناء القصة على قوله : { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } للمتفرسين . وحقيقة التوسم التثبت في النظر حتى يعرف حقيقة سمة الشيء فعبر به عن التأمل والتفكر { وإنها } يعني تلك القرى وآثارها { لبسبيل مقيم } ثابت يسلكه الناس المارة من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثار قهر الله وغضبه هنالك . قال بعضهم : إنما جميع الآيات في قوله : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } لأنه أشار إلى ما تقدم عن ضيف براهيم وقصة لوط وقلب المدينة وإمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم . وقال في الثانية { وإنها } أي القرية { لبسبيل } وهذه واحدة من تلك الآيات فلذلك قال : { إن في ذلك لآية للمؤمنين } وقيل : ما جاء من القرآن من الآيات فلجمع الدلائل ، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه ، فلما ذكر عقيبه المؤمنين وهم مقرون بوحدانيته وحد الآية نظيره في « العنكبوت » { خلق الله السموات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين } [ الآية : 44 ] . ثم أجمل قصة قوم شعيب فقال : { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين } « إن » مخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبرها . كانوا أصحاب غياض ومواضع ذات شجر فنسبوا إليها . والآيكة الشجر الملتف . والضمير في قوله : { وإنهما } يعود إلى قرى قوم لوط وإلى الأيكة .

وقيل : بل إلى الآيكة ومدين لأن شعيباً كان مبعوثاً إليهما فدل بذكر أحد الموضعين ههنا - وهو الأيكة - على الآخر { لبإمام مبين } لبطريق واضح . قال الفراء والزجاج : سمي الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع . وقال ابن قتيبة : لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده . ثم ختم القصص بقصة ثمود فقال : { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } وهو واد بين الشأم والمدينة . وجمع المرسلين لأن تكذيب نبي واحد- وهو صالح - كتكذيب جميع الأنبياء ، أو لأن القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين ، { وآتيناهم } أي أعطينا رسولهم { آياتنا } أراد الناقة وكانت فيها آيات خروجها من الصخر وعظم خلقها وكثرة لبنها إلى غير ذلك كما حكينا في « الأعراف » { فكانوا عنها } أي عن النظر فيها والاعتبار بها { معرضين } وفيه أن التقليد مذموم والاستدلال واجب { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين } من أن تنهدم ويتداعى بنيانها أو يقع سقفهم عليهم ، أو آمنين من عذاب الله أو من حوادث الدهر . { فما أغنى عنهم } لم يدفع عنهم شيئاً من عذاب الله { ما كانوا يكسبون } من بناء البيوت الوثيقة ومن جمع الأموال والعدد . ولم فرغ من القصص قال : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } أي متلبسة بالفوائد والغايات والحكم الصحيحة منها : اشتغال المكلفين بالعبادة والطاعة حتى لو تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم ، وهذا النظم يناسب أصول الاعتزال ، قال الجبائي : فيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلق الله بين السموات والأرض من الكفر والمعاصي باطل . وأجيب بأن أفعال العباد من جملة ما بين السموات والأرض فوجب أن يكون الله خالقها . ويمكن أن يقال في وجه النظم : إن هذا ابتداء شروع في تسلية النبي صلى الله عليه و سلم وتصبيره على أذيات قومه بعد اقتصاص أحوال الأمم السالفة ومعاملاتهم مع أنبيائهم ، ويؤيد هذا النظم قوله : { وإن الساعة لآتية } معناه أن الله سينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل فكيف يليق بحكمته وفضله إهمال أمرك؟ ولما صبره على أذى قومه رغبه في الصفح فقال : { فاصفح الصفح الجميل } أي فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء إن كان اللام الجنس فالمراد هذا النوع من الصفح لا الذين يشتمل على حقد واجتهال ومكر ، وإن كان للعهد فلعل المراد ما أمر به في نحو قوله : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وقيل : هذا منسوخ بآية السيف والأظهر أن حسن المعاشرة والمخالقة مأمور به ما أمكن فلا حاجة إلى ارتكاب النسخ { إن ربك هو الخلاق } كثير الخلق { العليم } الكامل العلم يعلم ما يجري بين الخلائق من الأحوال والأخلاق وإن كثروا وكثرت فيجازيهم يوم القيامة على حسب ذلك .

وقيل : أراد أنه الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، فاليوم الصفح أصلح فاصفحوا إلى أن يكون السيف أصلح .
ثم حثه على الصفح والتجاوز بذكر النعم العظام التي خصه بها فقال : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } أكثر المفسرين على أن المراد بها فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة . وذلك أنها سبع آيات . والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية لأنها تثنى في كل صلاة . وقال الزجاج : تثنى بما يقرأ بعدها معها . وأيضاً قسمت بنصفين قسم ثناء وقسم دعاء ، وقد ورد الحديث في هذا المعنى « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين » وقد مر في أول الكتاب . وأيضاً كلماتها مثناة مثل : { الرحمن الرحيم } { إياك } و { إياك } { الصراط } { صراط } { عليهم } { عليهم } واشتمالها على ثناء الله تعالى وتحميده مقرر ومما يتفرع على هذا القول ما نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال : كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب . فقيل : كأنه رأى أنه تعالى عطف عليه قوله : { والقرآن العظيم } والعطف يوجب المغايرة فوجب أن تكون السبع المثاني غير القرآن . والجواب أنه قد يكون بعطف الجزء على الكل كقوله : { وملائكته وجبريل } [ البقرة : 98 ] أو بالعكس كما في الآية . والمقصود في الوصفين تميز البعض عن الكل تنبيهاً على مزية ذلك البعض وشرفه . فإن قلت : ليس لعطف لكل على البعض نظير ، والاستدلال بالآية استدلال بصورة النزاع من غير دليل . قلنا : يكفي بقوله : { ولقد آتيناك } دليلاً على أنه من القرآن . وعن ابن عمر وسعيد بن جبير في رواية : أن السبع المثاني هي السبع الطوال سميت بذلك لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، أو لأنها تثني على الله بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى . وأنكر الربيع هذا القول لأن هذه السورة مكية وأكثر تلك السورة مدنية . وأجيب بأن المراد من الإيتاء إنزالها إلى السماء الدنيا ، والمكية والمدنية في ذلك سيان ، وضعف بأن إطلاق لفظ الإيتاء على ما لم يصل بعد إليه خلاف الظاهر . وقال قوم : السبع المثاني هي التي دون الطول والمئين وفوق المفصل ، واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل » قال الواحدي : والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني . وروي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس أنها هي القرآن لقوله سبحانه : { كتاباً متشابهاً مثاني } [ الزمر : 23 ] وأنها سبعة أسباع كرر فيها دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف .

ومعنى العطف على هذا القول الجمعية كقوله : إلى الملك القرم وابن الهمام . وكأنه قيل : آتيناك ما هو الجامع لكونه سبعاً مثاني ولكونه قرآناً عظيماً . قال الزجاج ووافقه صاحب الكشاف : و « من » في { من المثاني } للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطول ، وللبيان إذا أردت الأسباع .
ولما عرف رسوله نعمه الدينية ورغبه فيها نفره من اللذات العاجلة الزائلة لأن كل نعمة وإن عظمت فإنها بالنسبة إلى نعمة القرآن ضيئلة حقيرة ، ومنه الحديث « من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به - فليس منا » وقول أبي بكر : من أوتي القرآن فرآى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً . فمن حق قارىء القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا وزهرتها . قال الواحدي : إنما يكون مادّاً عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه ، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه . وقال في الكشاف : معنى { لا تمدن } لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له { إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } أي أصنافاً من الكفار قاله ابن قتيبة . وقال الجوهري : الأزواج القرناء . وقال بعضهم : لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحداً على ما أوتي من الدنيا . وضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقاً فكيف يحسن تخصيص الرسول به؟ ويمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله : { ولا تكونن من المشركين } [ الأنعام : 14 ] أو المراد الغبطة فهي محظورة عليه صلى الله عليه وسلم لجلالة منصبه وإن كانت جائزة لأمته . ويروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله . فقال لهم الله عز وجل : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع . وإنما قال في هذه السورة { لا تمدن } بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه . ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم وإن لم يحصل لهم في قلبه قدر ووزن فقال : { ولا تحزن عليهم } أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون ، وكما أمره بالتكبر على الأغنياء والترفع عنهم إذا كانوا كفاراً أمره بالتواضع للفقراء ، إذا كانوا مؤمنين فقال : { واخفض جناحك للمؤمنين } الخفض نقيض الرفع ، وجناحا الإنسان يداه ، وخفضهما كناية عن اللين والرفق . وإنما قال في سورة الشعراء بزيادة { لمن اتبعك } [ الآية : 215 ] لأنه قال قبله { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الآية : 214 ] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصاً بالأقربين من عشيرته فزيد { لمن اتبعك } [ الشعراء : 215 ] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة .

ولما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال : { وقل إني أنا النذير المبين } ويدخل تحت كونه نذيراً كونه مبلغاً لجميع التكاليف ، لأن كل ما كان واجباً ترتب على تركه عذاب ، وكل ما كان حراماً ترتب على فعله عقاب . ويدخل في كونه مبيناً كونه شارحاً لجميع مراتب أهل التكاليف من الجنة والنار . فالإنذار بالنار والإحذار بالجنة هو الإخبار عن موجب الحرمان عنها .
وفي متعلق قوله : { كما أنزلنا } وجهان بعد ما مر به في الوقوف : أحدهما أن يتعلق بقوله : { ولقد آتيناك } أي أنزلنا } أي أنزلنا عليك ما أنزلنا { على المقتسمين } ومن هم؟ قيل : أهل الكتاب { الذين جعلوا القرآن عضين } أي أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة « فعلة » من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء وأعضاء ، أو « فعلة » من عضهته إذا بهته فالمحذوف منها الهاء لا الواو . وعن عكرمة : العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة عاضهة . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة فينقصانها الهاء أيضاً . وجمعت العضة بالمعاني جمع العقلاء لما لحقها من الحذف ، فجعلوا الجمع بالواو والنون عوضاً عما لحقها من الحذف كسنين . فمعنى الآية أن اليهود اقتسموا القرآن إلى حق وباطل وجزؤه فقالوا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما . ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وتكذيبهم ، والإقرار بالبعض والتكذيب بالبعض كقوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 85 ] وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه وعداوتهم ، ولهذا وسط بين المتعلق بقوله : { لا تمدن } الآية لأنه مدد للتسلية لما فيه من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الإقبال بالكلية على المؤمنين . الوجه الثاني أن يتعلق بقوله : { النذير المبين } وعلى هذا لا يكون بد من التزام إضمار أو زيادة ، أما الإضمار فأن يكون التقدير : أنا النذير عذاباً كما أنزلنا كقولك رأيت كالقمر في الحسن أي وجهاً كالقمر ، وأما الزيادة فأن تكون الكاف زائدة كقوله : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] ويمكن أن يقال : الكاف بمعنى مثل ولا حاجة إلى الالتزام والتقدير : أنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم إما اليهود ويراد بالعذاب ما جرى على قريظة والنضير فيكون قد جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ، وإما غيرهم من أهل مكة أو من قوم صالح . قال ابن عباس : هم الذين اقتسموا طرق مكة ومداخلها أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان بالله ورسوله . يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ، ويقول الآخر كذاب ، والآخر شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات وكانوا قريباً من أربعين ، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب .

وقال عكرمة : اقتسموا القرآن استهزاء وكان يقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول الآخر سورة آل عمران لي وقال مقاتل : اقتسموه . قال بعضهم سحر ، وبعضهم شعر ، وبعضهم كذب ، وبعضهم أساطير الأولين . وقال ابن زيد : المقتسمون هم الذين تقاسموا بالله ليبيتن صالحاً كما سيجيء في سورة النمل ، فرمتهم الملائكة بالحجارة وقتلوهم ، وعلى هذا يكون قوله : { الذين جعلوا } منصوباً بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين .
ثم أقسم على سبيل الوعيد فقال : { فوربك لنسألنهم } الآية وقد مر تفسير مثله في أول « الأعراف » وذلك قوله { فلنسألن الذين أرسل إليهم } [ الأعراف : 6 ] . والأظهر أن الضمير عائد إلى جميع المكلفين المنذرين ، وأن السؤال يكون عن جميع الأعمال ، وقد يخص الضمير بالمقتسمين والسؤال بالاقتسام . ثم شجع نبيه قائلاً { فاصدع } أي اجهر { بما تؤمر } وأظهره وفرق بين الحق والباطل . وأصل الصدع الشق والفصل ومنه سمي الصبح صديعاً كما سمي فلقاً . وصدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً . قال النحويون : الجار محذوف والمعنى بالذي تؤمر به من الشرائع مثل « أمرتك الخير » . وجوز أن تكون « ما » مصدرية أي بأمرك وشأنك مصدر من المبني للمفعول . وقالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية . ثم قال : { وأعرض عن المشركين } أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وهذا لا ينافي آية القتال حتى يلزم النسخ على ما ظن بل يؤكدها . ثم أكد النهي عن الاكتراث بهم وقوّى قلبه فقال : { إنا كفيناك المستهزئين } ولا ريب أنهم طبقة ذو شوكة قدروا على الاستهزاء بالرسول مع جلالة قدره . والآية لا تفيد إلا هذا القدر لكن المفسرين ذكروا عددهم وأسماءهم مع اختلاف بينهم . والأشهر على ما رواه عروة بن الزبير أنهم خمسة نفر من الأشراف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن الطلاطلة . وعن ابن عباس : ماتوا كلهم قبل يوم بدر . وقال جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظماً لأخذه فأصابه عرقاً في عقبة فقطعه فمات . وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال : لدغت لدغت فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي ، وأشار إلى أنف الحرث فامتخط قيحاً فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجر ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، ثم زاد في تسلية نبيه صلى الله عليه وسلم { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } من المطاعن فيك وفي القرآن لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك .

ثم أمره لكشف ما نابه بأربعة أشياء : بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة إلى إتيان اليقين . عن ابن عباس : هو الموت سمي بذلك لأنه أمر متيقن ولا يجب الإخلال بالعبادة ما دام المكلف حياً وهذا كما قيل في تحديد مدة طلب العلم : إنه من المهد إلى اللحد . وكيف يصير الإقبال على الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب؟ قال المحققون : لأنه ينكشف له أضواء عالم الربوبية فيهون في نظره المصالح الدنيوية فلا يستوحش من فقدانها ولا يستأنس بوجدانها . وقال أهل السنة : إذا نزل بالعبد بعض المكاره فعليه أن يفزع إلى الله بالذكر الدائم والسجود وسائر أنواع العبادة فكأنه يقول : وجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكاره . وقالت المعتزلة : من اعتقد تنزيه الله عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق لأنه يعلم أنه تعالى عدل منزه عما لا فائدة فيه ولا غرض فيطيب قلبه .
التأويل : في بشارة إبراهيم إشارة إلى أن الطالب الصادق وإن كان مسناً ضعيف القوى كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد . فأنه ينبغي أن لا يقنط من رحمة الله ، ويتقرب إليه بالأعمال القلبية ليتقرب إليه ربه بأصناف الألطاف وجذبات الأعطاف ، فيخرج من صلب روحه ورحم قلبه غلاماً عليماً بالعلوم اللدنية وهو واعظ الله الذي في قلب المؤمن { إن في ذلك لآيات } لأصحاب القلوب المتوسمين بشواهد أحكام الغيب . وما خلقنا سموات الأرواح وأرض الأشباح ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار والخفيات { إلا بالحق } أي إلا لمظهر الحق ، ومظهره هو الإنسان المخصوص بذلك من بين سائر المخلوقات { وإن الساعة } يعني قيامة العشق { لآتية } لنفوس الطالبين الصادقين من أصحاب الرياضات لأن أنفسهم تموت بالرياضة ومن مات فقد قامت قيامته { فاصفح } أيها الطالب الصادق عن النفس المرتاضة بأن تداويها وتواسيها ، فإن في قيامة العشق يحصل من تزكية النفس في لحظة واحدة ما لا يحصل بالمجاهدة في سنين كثيرة ومن هنا قيل : جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين . { إن ربك هو الخلاق } لصور المخلوقات ولمعانيها ولحقائقها { العليم } بمن خلقه مستعداً لمظهرية ذاته وصفاته ومظهريتهما وليس ذلك في السموات والأرض وما بينهما إلا الإنسان الكامل وغيره مختص بمظهرية الصفات دون الذات وان كان ملكاً فلهذا قال : { ولقد آتيناك سبعاً } أي سبع صفات ذاتية لله تبارك وتعالى : السمع والبصر والكلام والحياة والعلم والإرادة والقدرة { من المثاني } أي من خصوصية المظهرية ، والمظهرية الذات والصفات . { والقرآن العظيم } ولهذا صار خلقه عظيماً لأنه كان خلقه القرآن { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً } من أهل الدنيا والآخرة { واخفض جناحك للمؤمنين } بهذا المقام ليصلوا بجناح همتك إليه { على المتقسمين } الذين قسموا قهر الله على أنفسهم فصاروا مظاهر القهر { الذين جعلوا القرآن عضين } أي جزؤوه في الاستعمال فقوم قرأوه ليقال لهم القراء وبه يأكلون ، وقوم حفظوه ليقال لهم الحفاظ وبه يجرّون الرزق ، وقوم حصلوا تفسيره وتأويله إظهاراً للفضل وطلباً للشهرة ، وقوم استنبطوا معانيه وفقهه على وفق آرائهم ومذاهبهم فكفروا إذ فسروا القرآن برأيهم .

{ إنا كفيناك المستهزئين } الذين يستعملون الشريعة بالطبيعة استهزاء بدين الله { الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر } من الهوى والدنيا { فسبح بحمد ربك } لأنك لست منهم { وكن من الساجدين } سجدة الشكر { واعبد ربك } بالإخلاص { حتى يأتيك اليقين } أي إلى الأبد لأن كل مقام يحصل فيه اليقين بالعيان بعد العرفان فإنه يحصل فوقه مقام آخر مشكوك فيه إلى أن يحصل برد اليقين فيه أيضاً ، فهناك مراتب لا تتناهى فاليقين يكون إشارة إلى الأبد والله أعلم .
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

القراآت : { تشركون } وما بعده بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف . والآخرون على الغيبة { تنزل } بالفتحات الثلاث { الملائكة } بالرفع : سهل وروح وزيد وأبو زيد مثله لكن بضم التاء الفوقانية : جبلة { ينزل } من الإنزال { الملائكة } بالنصب : ابن كثير وأبو عمرو ورويس : والباقون بالتشديد من التنزيل . { بشق الأنفس } بفتح الشين : يزيد . الباقون بكسرها { ننبت } بالنون : يحيى وحماد . الآخرون بياء الغيبة { والشمس والقمر والنجوم مسخرات } كلها مرفوعات : ابن عامر وافق حفص والمفضل { في النجوم مسخرات } الباقون : بنصب الجميع على أن { مسخرات } حال . { يسرون ويعلنون } بالياء التحتانية فيهما : الخزاز عن هبيرة . الآخرون بتاء الخطاب { يدعون } على الغيبة : سهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى . الباقون على الخطاب .
الوقوف : { فلا تستعجلوه } ط { يشركون } 5 { فاتقون } 5 { بالحق } ط { يشركون } 5 { مبين } 5 ج { خلقها } ج لاحتمال تمام الكلام واحتمال أن يكون { لكم } متعلقاً به والوقف حينئذٍ على { لكم } { تأكلون } 5 ص للعطف { تسرحون } 5 ص لذلك { الأنفس } ط { رحيم } 5 لا لأن { الخيل } مفعول { خلق } { وزينة } ط { ما لا تعلمون } 5 { جائر } ط { أجمعين } 5 { تسيمون } 5 { الثمرات } ط { يتفكرون } 5 { والنهار } ط لمن قرأ { والشمس } وما بعده بالرفع ومن نصب { الشمس والقمر } ورفع { النجوم } وقف على { القمر } ومن نصب الكل وقف على { بأمره } { بأمره } ط { يعقلون } 5 لا لأن ما بعده مفعول { سخر } { ألوانه } ط { يذكرون } 5 { تلبسونها } ج لأن قوله { وترى } فعل مستأنف مع اتصال المعنى . { تشكرون } 5 لا { تهتدون } 5 لا لأن قوله { وعلامات } عطف على { سبلاً } { وعلامات } ط { يهتدون } 5 { لا يخلق } ط { تذكرون } 5 { لا تحصوها } ط { رحيم } 5 { وما تعلنون } 5 { وهم يخلقون } 5 ط لأن التقدير : هم أموات { غير أحياء } ج لاختلاف الجملتين { وما يشعرون } 5 لا لأن ما بعده مفعول { يبعثون } 5 { واحد } ط لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء { مستكبرون } 5 { وما يعلنون } 5 { المستكبرين } 5 .
التفسير : هذه السورة تسمى سورة النعم أيضاً ، وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية . وقال الآخرون : من أولها إلى قوله : { كن فيكون } مدنية وما سواه مكي . وعن قتادة بالعكس منه . قال أهل النظم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر ، وتارة بعذاب القيامة . ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئاً من ذلك أقبلوا على تكذيبه وكانوا يستعجلون ما وعدوا به استهزاء . وروي أنه لما نزلت { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن . فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً فنزلت

{ اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا وانتظروا قربها ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت { أتى أمر الله } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت { فلا تستعجلوه } فاطمأنوا . والحاصل أن قوله : { أتى أمر الله } جواب عن شبهتهم إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع كما يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها : جاءك الغوث فلا تجزع . أو المراد أن { أمر الله } بذلك وحكمه قد وقع وأتى . فأما المحكوم به فإنما لم يقع لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود فلا تسعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت . ثم إن المشركين كأنهم قالوا : هب يا محمد أنا سلمنا صحة ما تقول من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام لأنها شفعاؤنا عند الله فكيف نستحق العذاب بسبب هذه العبادة؟ فأجاب الله عن هذه الشبه بقوله : { سبحانه وتعالى عما يشركون } كما مر في أول سورة يونس . والمراد تنزيه نفسه عن الأضداد والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجساد أن يشفع عنده إلا بإذنه ، أو يستعجل في حكم من أحكامه ، أو قضية قبل أوانه . ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا أنه تعالى أن يقضي على طائفة باللطف وعلى الآخرين . بالقهر ولكن كيف صرت واقفا على أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته دوننا ، من أين حصل لك هذا الفضل علينا؟ فأزال الله سبحانه شبهتهم بقوله : { ينزل الملائكة } الآية . والمراد أن له بحكم المالكية أن يختص بعض عبيده بإنزال الوحي عليه ويأمره بأن يكلف سائر العباد بمعرفة توحيد الله وبعبادته ، فظهر بهذا البيان أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه . قال الواحدي : روى عطاء عن ابن عباس أنه أراد بالملائكة ههنا جبرائيل وحده ، وتسمية الواحد بالجمع إذا كان رئيساً مطاعاً جائزة . وعلى هذا التفسير فالمراد بالروح كلام الله تعالى كقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] قال المحققون : الروح الأصلي هو القرآن الذي فيه بيان المبدأ والوسط والمعاد ، فبه يحصل إشراق العقل ، وبالعقل يكمل ضياء جوهر الروح ، وبالروح يكمل حال الجسد فهو الأصل والباقي فرع عليه وبهذه المناسبة يسمى جبرائيل روحاً وعيسى روحاً . وعن أبي عبيدة أن الروح ههنا جبرائيل ، والباء بمعنى « مع » أي تنزل الملائكة مع جبرائيل . وذلك أنه في أكثر الأحوال كان ينزل ومعه أقوام من الملائكة كما في يوم بدر وحنين ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وملك البحار وخزان الجنة وغيرهم . قال في الكشاف : { بالروح من أمره } أي بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه ، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد وقال غيره : من أمره معناه أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله كقوله

{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } [ مريم : 64 ] قال الزجاج : { أن أنذروا } بدل من « الروح » أي ينزلهم بأن أنذروا . و « أن » إما مفسرة لأن تنزيل الوحي فيه معنى القول ، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا أي أعلموا الناس قولي : { لا إله إلا أنا } وهو إشارة إلى استكمال القوة النظرية . وقوله : { فاتقون } رمز إلى استكمال القوة العملية ومنه يعلم أن النفس متى كملت من هاتين الجهتين حصل لها روح حقيقي وحياة أبدية وسعادة سرمدية . قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا لا نعلم كون جبريل صادقاً ولا معصوماً من الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية ، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله لا من قبل شيطان خبيث ، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبرائيل صادق مبرأ عن التلبيس وأفعال الشياطين ، وحينئذٍ يلزم الدور وهذا مقام صعب . أقول : قد ذكرنا مراراً أن الفرق بين المعجز والسحر هو أن صاحب المعجز يدعو إلى الخير ، وصاحب السحر يدعو إلى الشر ، والفرق بين الملك والشيطان هو أن الملك يلهم بالخير ، والشيطان يوسوس بضده وإذا كان الأمر كذلك فكيف تشتبه المعجزة بالسحرة وجبرائيل بإبليس ومن أين يلزم الدور؟
ولما بين الله سبحانه أن روح الأرواح وروح الأجسام هو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به ، أتبعه دلائل التوحيد مبتدئاً من الأشرف وهو السماويات إلى الأدون - وهو الأرضيات - فقال : { خلق السموات والأرض بالحق } وقد مر تفسير مثله مراراً . وقوله : { تعالى عما يشركون } تنزيه لذاته عمن يشاركه في الأزلية والقدم والتدبير والتأثير والصنع والإبداع . فالفائدة المطلوبة من هذا الكلام غير الفائدة المطلوبة من مثله في أول السورة كما ذكرنا فلا تكرار . ثم إن أشرف الأجسام بعد الفلكيات بدن الإنسان فلهذا عقب المذكور بقوله : { خلق الإنسان من نطفة } قالت الأطباء : إن الغذاء إذا وصل إلى المعدة حصل له هناك هضم ، وإذا وصل إلى الكبد حصل له فيها هضم ثانٍ ، وفي العروق له هضم ثالث ، وفي جواهر الأعضاء هضم رابع ، وحينئذٍ يصير جزءاً من العضو المغتذى شبيهاً به ، ثم عند استيلاء الحرارة على البدن وقت هيجان الشهوة يحصل ذوبان لجملة الأعضاء وتجتمع منه النطفة في أوعيتها ، وعلى هذا تكون النطفة جسماً مختلفة الأجزاء والطبائع ، وإن كانت تخيل في الحس أنها متشابهة الأجزاء . وكيفما كان فالمقتضي لتولد البدن منها ليس هي الطبيعة الحاصلة لجوهر النطفة ودم الطمث ، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوّة الطبيعة إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة .

وعلى هذا الحرف عول الحكماء في قولهم : البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعة في الكرة ، وإذا عملت في مادة مختلفة الأجزاء وكل مركب فإنه ينحل إلى بسائط فإنه يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض ، وكلا الأمرين غير مطابق للواقع ، فعلمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس بالطبيعة وإنما هو بتدبير الفاعل المختار وهو الله سبحانه ، وكيف لا والنطفة رطوبة سريعة الاستحالة؟ فالأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل ، والجزء الذين هو مادة القلب قد يحصل في الفوق ، فلا يكون حدوث أعضاء الحيوان على هذا الترتيب الخاص دائماً ولا أكثرياً ، وحيث كان كذلك علمنا أن حدوثها بإحداث مدبر مختار . ثم إن نزلنا عن جميع هذه المراتب فلا خلاف بين الحكم وبين المتكلم أن الطبيعة خرقاء وأنها ليست واجبة الوجود لذاتها فلا بد من الانتهاء الى الصانع الحكيم الخبير . أما قوله : { فإذا هو خصم مبين } فقد ذكروا فيه وجهين : الأول فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مبين للحجة بعد أن كان نطفة لا حس به ولا حراك . وتقرير ذلك أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهماً وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من البيضة يعرف الصديق من العدو فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه . وحال الطفل بخلاف ذلك فانتقاله من تلك الحالة الخسيسة إلى أن يقوى على معرفة الإلهيات والفلكيات والعنصريات وعلى إيراد الشكوك والشبهات على النتائج والمقدمات إنما يكون بتدبير إله مختار قدير ينقل الأرواح من النقصان إلى الكمال ومن الجهالة إلى المعرفة . الوجه الثاني أن المراد فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيي العظام وهي رميم . فعلى الوجه الأول جوز أن يكون الخصيم « فعيلاً » بمعنى « مفاعل » كالأكيل والشريب ، وأن يكون بمعنى مختصم ، وعلى الوجه الثاني تعين كونه بمعنى « مفاعل » والترجيح من الوجهين للأول بناء على أن هذه الآيات مسوقة لتقرير الدلائل على وجود الصانع الحكيم وقدرته لا لأجل وصف الإنسان بالتمادي في القحة والكفران . وقد يرجح الثاني بما روي أن أبيّ بن خلف الجمحي جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلى الله عليه فقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم؟ فنزلت .
ثم أردف تكوين الإنسان بتكوين الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في ضروراته من الأكل والركوب وجر الأثقال وفي غير الضروريات من الأغراض الصحيحة كالتزيين والجمال فقال : { والأنعام خلقها } هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام وهي : الضأن والمعز والإبل والبقر .

وإن شئت قلت : الإبل والبقر والغنم . قال في الكشاف : وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل : قلت : ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله بعد ذلك : { وتحمل أثقالكم } لأن هذا الوصف لا يليق إلا بالإبل . وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر . ويجوز أن يكون معطوفاً على { الإنسان } أي خلق الإنسان والأنعام . ثم قال : { خلقها لكم } أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان . قال صاحب النظم : وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : { خلقها } بدليل أنه عطف عليه قوله : { ولكم فيها جمال } والدفء اسم ما يدفأ به كالملء اسم ما يملأ به وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر . قال الجوهري : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ، والدفء أيضاً السخونة . وقوله : { ومنافع } قالوا : المراد نسلها ودرّها ، والمنافع بالحقيقة أعم من ذلك فقد ينتفع بها في البيع والشراء بالنقود والأثواب وبسائر الحاجات . أما قوله : { ومنها تأكلون } بتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص فلأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في مآكلهم عادة ، وأما الأكل من غيرها كالدجاج وصيد البر والبحر فكغير المعتد به الجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أن يراد أن غالب أطعمتكم إنما يحصل منها لأنكم تحرثون بالبقر وتكتسبون بإكراء الإبل وتشترون بنتاجها وألبانها وجلودها جميع ما تشتهون من الأطعمة . قوله : { حين تريحون } الإراحة رد الإبل إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ويقال : سرح القوم إبلهم سرحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى . وقدم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر حين تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها . قوله : { بشق الأنفس } من قرأ بفتح الشين فمعناه المشقة فيكون مصدر شق الأمر عليه شقاً وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع . ومن قرأ بالكسر فمعناه النصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد . قال جار الله . معنى المضي في قوله : { لم تكونوا } راجع إلى الفرض والتقدير : أي لو لم يخلق الإبل لم تكونوا إلا كذلك . وإنما لم يقل « لم تكونوا حامليها إلى ذلك البلد » ليطابق قوله : { وتحمل أثقالكم } لأجل المبالغة كأنه قيل : قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة وذهاب قوة فضلاً أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم ويجوز أن يكون العائد إلى الأثقال محذوفاً أي لم تكونوا بالغيها إلا بالشق ، أو المراد بالأثقال الأجساد ، عن ابن عباس أنه فسر البلد بمكة إلى اليمن وإلى الشام وإلى مصر ، قال الواحدي : هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل شق عليكم . وخص ابن عباس هذه البلاد لأنها أكثر متاجر أهل مكة { إن ربكم لرءُوف رحيم } وإلا لم يخلق هذه الحوامل لأجل تيسير هذه المصالح .

احتج منكرو الكرامات بالآية على امتناع طي الأرض كما ينقل عن بعض الأولياء . والجواب أن الامتناع العادي لا ينافي الإمكان الذاتي .
{ والخيل والبغال والحمير } معطوفات على الأنعام أي وخلق هؤلاء للركوب والزينة فانتصب على أنه مفعول له معطوف على محل { لتركبوها } وإنما لم يقل و « لتتزينوا بها » ليكون المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد لأن الركوب فعل المخاطبين ، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق . والتحقيق فيه أن الركوب أحد الأمور المعتبرة في المقصود بخلاف التزين بالشيء فإنه قلما يلتفت إليه أرباب الهمم العالية لأنه يورث العجب والتيه غالباً وكأنه قال : خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة ، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات . احتجت المعتزلة القائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح بأن قوله : { لتركبوها } يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لهذه المصلحة . والجواب أن استتباع الغاية والفائدة مسلم ولكن التعليل ممنوع ، واحتج الحنفية بالآية على تحريم لحوم الخيل من وجوه : أحدها إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر فيجب اشتراك الكل في الحكم ، لكن البغال والحمير محرمان فكذا الخيل . ثانيها أن منفعة الأكل أعظم منة من الركوب والتزين فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر . وثالثها أن قوله فيما قبل : { ومنها تأكلون } يقتضي الحصر فيجب أن لا يجوز أكل ما عدا الأنعام إلا بدليل منفصل والأصل عدمه ورابعها أن قوله : { لتركبوها } يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة ، فلو كان حل أكلها مقصوداً لزم أن يكون ما فرض تمام المقصود بعض المقصود هذا محال . والجواب أن تحريم الخيل محل النزاع وتحريم الحمير بنص الكتاب ممنوع لما روي عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن لحوم الحمر الأهلية . فلو كان للآية دلالة على تحريم لحم الخيل لفهموه منها قبل ذلك العام لأن الآية مكية عند الأكثرين ، ولو فهموا التحريم قبل ذلك لم يبقَ لتخصيص التحريم بهذه السنة فائدة . وإذا لم يكن الحمير والخيل محرمين لم يكن لتحريم البغال المتولدة منهما وجه . وأيضاً كون معظم المنة في الأكل بالنسبة إلى هذه الأنواع ممنوع بل الركوب والزينة هما أعظم المنافع فيها ولهذا جعلا تمام المقصود منها ، فكأنما أعطى الأكثر والمعظم حكم الكل . واقتضاء الحصر في قوله : { ومنها تأكلون } ممنوع بل لعل الظرف قدم لرعاية الفاصلة . ثم إن أنواع الغرائب والعجائب المخلوقة في هذا العالم لا حد لها ولا حصر فلهذا أشار إلى ما بقي منها على سبيل الإجمال فقال : { ويخلق ما لا تعلمون } أي كنهه وتفاصيله بل نوعه وجنسه فإن مركبات العالم السفلي وغرائب العالم العلوي لا يعلمها إلا موجدها .

روى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال : إن عن يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة ، يدخل فيه جبرائيل عليه السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نقطة تقع من رأسه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور ، وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة . وقيل : المراد ما خلق في الجنة والنار مما لم يبلغه فيهم أحد ولا وهمه .
ولما ذكر بعض دلائل التوحيد بين أنه إنما ذكرها إزاحة للعذر وإزالة للشبهة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فقال : { وعلى الله قصد السبيل } ذكر صاحب الكشاف أن السبيل للجنس والقصد مصدر بمعنى الفاعل يقال : قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، والجور الميل عن الاستقامة . احتجت المعتزلة بالآية على مسألتين من أصولهم : إحداهما أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية لأن كلمة ، « على » للوجوب والمضاف محذوف أي وعلى الله بيان قصد السبيل؛ فالمعنى أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه . والثانية أنه لا يضل أحداً ولا يغويه وإلا لقيل وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر فلما غير أسلوب الكلام قائلاً : { ومنها جائر } دل على أنه أراد أن يبين ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز . والجواب عن الأول بعد تسليم إفادة كلمة « على » الوجوب أنه وجوب بحسب الفضل والكرم لا بمعنى استحقاق الذم على الترك . وعن الثاني أن دلالة قوله : { ومنها جائر } على ما ذكرتم ليست دلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ، لأن قول القائل « من السبيل سبل منحرفة » لا يفيد إلا الإخبار بوجود الانحراف في بعض السبيل ، فأما أن فاعل تلك السبيل من هو فلا دلالة للكلام عليه أصلاً على أن قوله : { ولو شاء لهداكم أجمعين } يناقض ما ادعيتم . وتفسير المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر أو بالهداية إلى الجنة خلاف الظاهر كما مر مراراً . ولما استدل على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال : { هو الذي أنزل من السماء ماء } وقوله : { لكم } متعلق بأنزل أو بشراب خبراً له . والشراب ما يشرب كالطعام لما يطعم والمراد أن الماء النازل من السماء قسمان : بعضه يبقى لأجل الشرب كما هو ويحتمل أن يكون الماء المحتبس في الآبار والعيون منه كقوله : { فأسكناه في الأرض } [ المؤمنون : 18 ] وبعضه يحصل منه شجر يرعاه المواشي . قال الزجاج : كل ما ينبت من الأرض فهو شجر لأن التركيب يدل على الاختلاط ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق .

وقال ابن قتيبة : المراد بالشجر في الآية الكلأ . وفي حديث عكرمة « لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت » أراد الكلأ . وقيل الشجر كل ما له ساق كقوله : { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمن : 6 ] والعطف يقتضي التغاير ، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق ، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز ، وبأن قوله : { فيه تسيمون } من سامت الماشية إذا رعت وأسامها صاحبها وهو من السومة العلامة لأنه تؤثر بالرعي علامات في الأرض يقتضي أن يكون الشجر هو العشب ليمكن الرعي . ورد بأن الإبل قد تقدر على رعي الأشجار الكبار . وحين ذكر مرعى الحيوان أتبعه ذكر غذاء الإنسان فقال : { ينبت لكم به الزرع } الذي هو الغذاء الأصلي { والزيتون } الذي هو فاكهة من وجه وغذاء من وجه لكثرة ما فيه من الدهن { والنخيل والأعناب } اللتين هما أشرف الفواكه . ثم أشار إلى الثمرات بقوله : { ومن كل الثمرات } كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها بقوله : { ويخلق ما لا تعلمون } قال في الكشاف : إنما لم يقل و « كل الثمرات » بل زاد « من » التبعيضية لأن كلها لا يكون إلا في الجنة . واعلم أنه قدم الغذاء الحيواني على الغذاء النباتي لأن النعمة فيه أعظم لأنه أسرع تشبيهاً ببدن الإنسان ، وفي ذكر الغذار النباتي قدم غذاء الحيوان - وهو الشجر - على غذاء الإنسان - وهو الزرع وغيره - بناء على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بحال من تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه ، وإنما عكس الترتيب في قوله : { كلوا وارعوا أنعامكم } بناء على ما هو الواجب في نفس الأمر كقوله صلى الله عليه وسلم : « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول »
قوله : { وسخر لكم الليل والنهار } معنى تسخيرهما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب مصالحهم على سنن واحد يتعاقبان دائماً كالعبد المطواع ، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم كما في « الأعراف » وفي سورة إبراهيم . وهذا حسم لمادة شبهة من يزعم أن حركات الأفلاك هي المقتضية لتعاقب الليل والنهار ومسيرات الكواكب هي المستدعية للحوادث السفليات ، فإنه إن سلم لهم ذلك فلا بد لتلك الحركات والمسيرات من الانتهاء إلى صانع قديم منزه عن التغير والإمكان مبرإ عن الحدوث والنقصان وهو الله سبحانه . { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } قال جار الله : جمع الآية وذكر العقل لأن آثار العلو أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة . وقال غيره : إنما جمع الآيات لتطابق قوله : { مسخرات } ومثله في هذه السورة في موضع آخر { مسخرات في جوّ السماء ما يمكسهن إلا الله إن في ذلك لآيات }

[ النحل : 79 ] وأقول : إنما جمع لأن كلاً من تسخيراً الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها لتباين الليل والنهار وتخالف مسيرات الكواكب كما هو مقرر في علم الهيئة بخلاف قوله { ينبت لكم } فإن مطلق الإنبات آية واحدة . وكذا قوله : { وما ذرأ لكم في الأرض } أي خلق لكم فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك : { مختلفاً ألوانه } فإن ذرء هذه الأشياء على حالة اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكل في الطبيعة الجسمية وفي تأثير الفلكيات فيها ، آية واحدة على وجود الصانع تعالى شأنه ، ولست أدعي إلا إمكان هذه الاعتبارات وإلا : ففي كل شيء آية تدل على أنه واحد . وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة ، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة ، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له . وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة فمن شك بعد ذلك فلا حس له . ومن جملة الآيات التي هي في الحقيقة إنعامات على الإنسان تسخير البحر بالركوب عليه والانتفاع به أكلاً ولبساً . والمراد باللحم الطريّ السمك . قال ابن الأعرابي : لحم طريّ غير مهموز ومصدره طراوة . يقال : شيء طريّ أي غض بين الطراوة . وقال قطرب : طرو اللحم وطري طراوة والمراد في الآية السمك وما في معناه . قال في الكشاف : وصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه فيسارع إلى أكله خيفة الفساد عليه . وقال المتكلمون : إنه لما خرج من البحر المالح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة ، علم أنه لم يحدث بحسب الطبع بل حدث بقدرة الله تعالى وحكمته بحيث أظهر الضد من الضد . قال أكثر الفقهاء ومنهم أبو حنيفة والشافعي : من حلف أن لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث لأن اللحم لا يتناوله عرفاً . ومبنى الأيمان على العرف والعادة . ولهذا لو قال لغلامه : اشتر لحماً فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار عيله . ورد عليهم الإمام فخر الدين الرازي بأنه إذا قال لغلامه : اشتر لحماً فجاء بلحم العصفور كان حقيقاً بالإنكار مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور . فثبت أن العرف مضطرب والرجوع إلى نص القرآن متعين فليس فوق بيان الله بيان . ولقائل أن يقول : لعل الإنكار في هذه الصورة بعد تسليمه إنما جاء من قبل ندرة شراء العصفور أو شراء لحمه فإنه إنما يشترى كله ولم يجىء من إطلاق اللحم على لحمه . ومن منافع البحر استخراج الحلية منه قالوا : أراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان ، والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأن تزيينهن لأجلهم . ولقائل أن يقول : لا مانع من تزيين الرجال باللآلىء ونحوها شرعاً فلا حاجة إلى هذه التكلف . استدل الإمام فخر الدين بالآية في إبطال قول الشافعية إنه لا زكاة في الحلى قال : لأن اللام فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« لا زكاة في الحلى » تنصرف إلى المعهود السابق ولا معهود إلا ما في الآية من الحلية فصار معنى الحديث : لا زكاة في اللآلىء . وهذا باطل بالاتفاق . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن تكون اللام للجنس فتشمل المصوغ من الذهب والفضة أيضاً فيكون الحديث مخصصاً بالآية إن ثبت صحته؟
ومن عجائب البحر ومنافعه قوله سبحانه : { وترى الفلك مواخر فيه } قال أهل اللغة : مخر السفينة شقها الماء بصدرها . وعن الفراء صوت دويّ الفلك بالرياح . وقال ابن عباس : مواخر أي جواري . وإنما حسن هذا التفسير لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية : وقوله : { لتبتغوا من فضله } أي تتجروا فيه فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضله وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره . واعلم أن قوله : { مواخر فيه } جاء على القياس لأن موضع الظرف المتعلق بمواخر بعد مضي مفعولي « ترى » ، وأما في سورة الملائكة فقدم الظرف ليكون موافقاً لقوله : { ومن كل تأكلون } ولتقدم الجار في قوله : { ومن كل تأكلون } حذف لفظة « منه » هناك . الواو في { ولتبتغوا } في هذه السورة للعطف على لام العلة في { لتأكلوا } وقوله : { وترى الفلك مواخر فيه } اعتراض في السورتين يجري مجرى المثل ولهذا وحد الخطاب في قوله : { وترى } وقبله وبعده جمع « أي لو حضرت أيها المخاطب لرأيته بهذه الصفة . ويمكن أن يقال : إنما قال في الملائكة { فيه مواخر } بتقديم الظرف لئلا يفصل بين لام العلة وبين متعلقها وهو مواخر ، وليكتنف المتعلق المتعلقان . وإنما بنينا الكلام على أن قوله : { فيه } متعلق ب { مواخر } لا ب { ترى } لقرب هذا وبعد ذاك والله أعلم . قوله : { أن تميد بكم } أي كراهة أن تميد الأرض بكم والباء للتعدية أو للمصاحبة . والميد الحركة والاضطراب يميناً وشمالاً . يروى أنه تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت . قال جمهور المفسرين : إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء فإنها تميل من جانب إلى جانب وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فهكذا الأرض تستقر على الماء بسبب ثقل الجبال . واعترض عليه بأن السفينة إنما تضطرب على الماء لتخلخلها وخفتها بسبب الهواء الداخل في تجاويف الخشب ومسامها ، أما الأرض فجسم كثيف ثقيل من شأنها الرسوب في الماء على ما هو مشاهد من حال أجزائها المنفصلة عنها . فإن كان طبيعة الكل كذلك فكيف يعقل طفوّها حتى توجب الجبال إرساءها وثباتها ، وإن لم تكن طبيعة الكل كذلك حتى تكون طافية مائدة وقد أرساها الله تعالى بالجبال ، فالرسو والرسوخ إنما يتصور على جسم واقف وليس إلا الماء فينقل الكلام إلى وقوف الماء في حيزه المعين .

فإن كان بحسب الطبيعة فهذا خلاف التقدير لأنا نفينا القول بالطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، وإن لم يكن بالطبع بل كان واقفاً بتخليق الفاعل المختار وتسكينه في حيزه المخصوص فلم لا نقول مثله في تسكين الأرض؟ هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي ، ونسب المقام إلى الصعوبة والإشكال واستخرج لحله وجهاً مبنياً على قوانين الحكمة ، وهو أن الأرض جسم كروي ، والكرة إذا كانت صحيحة الاستدارة فإنها تتحرك بأدنى سبب ، فلما أحدث الله سبحانه على وجه الكرة هذه الخشونات الجارية مجرى الأوتاد منعتها عن السلاسة والحركة . قلت : في هذا الحال خلل . أما أولاً فلكونه مبنياً على غير قواعد أهل التفسير ، وأما ثانياً فلما ثبت في الحكمة أن نسبة أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى جميع الأرض كنسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ، ولا ريب أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج الكرة المذكورة عن صحة الاستدارة بحيث يمنعها عن سلاسة الحركة ، فكذا ينبغي أن يكون حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض . والجواب الصحيح على قاعدة أهل الشرع أن يقال : لا نسلم أن الأرض بكليتها لها طبيعة موجبة لحالة من الأحوال ، وعلى تقدير التسليم فلا نسلم أن لها طبيعة الرسوب بل لعل طبيعتها الطفوّ فلهذا احتاجت إلى الرواسي . وأما قوله : « لم أوقف الله الماء في حيزه ولم يوقف الأرض من غير إرساء » فلا يخفى سقوطه مع القول بالفاعل المختار ، فللوسائط والأسباب مدخل في الأمور العادية ، وإن لم نقل بتأثيرها ، هذا وإن حركة الأرض عند الزلازل لا تنافي حكم الله بعدم اضطرابها لأن إثبات الحركة لجزء الشيء لا ينافي نفيها عن كله . وشبهوا الزلزلة وهي حركة قطعة من الأرض لاحتقان البخارات في داخلها وطلبها المنفذ باختلاج يحصل في جزء معين من بدن الحيوان .
قوله سبحانه : { وأنهاراً } معطوف على { رواسي } أي وجعل فيها رواسي وأنهاراً لأن الإلقاء ههنا بمعنى الجعل والخلق كقوله : { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] وكذا قوله { وسبلاً } أي أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم . ولما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلاً معينة ذكر أنه أظهر في تلك السبل علامات مخصوصة وهي كل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك . يحكى أن جماعة يشمون التراب فيعرفون به الطرقات . قال الأخفش : تم الكلام عند قوله : { وعلامات } وقوله { وبالنجم هم يهتدون } كلام منفصل عن الأول . والمراد بالنجم الجنس كما يقال : كثر الدرهم في أيدي الناس . وعن السدي هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي . قال بعض المفسرين : أراد بقوله { هم يهتدون } أهل البحر لتقدم ذكر البحر ومنافعه ، وقيل : أراد أعم من ذلك فأهل البر أيضاً قد يحصل لهم الاهتداء بالنجوم في الطرق والمسالك ، وفي معرفة القبلة ، وإنما جيء بالضمير الغائب لعوده إلى السائرين الدال عليهم ذكر السبل .

وقال في الكشاف : كأنه أراد قريشاً فقد كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا بتقديم النجم . وإقحام لفظ { هم } كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء يهتدون . ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } أي كالأصنام التي لا تخلق شيئاً إلا أنه أجراها مجرى أولي العلم فأطلق عليها لفظ « من » التي هي لأولي العقل بناء على زعمهم أنها آلهة ، أو لأجل المشاكلة بينه وبين من يخلق ، أو أراد أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده ، أو أراد كل ما عبد من دون الله مغلباً فيه أولو العلم منهم . واعلم أنه أهل البيان يقولون : إن المشبه به يجب أن يكون أقوى وأتم في وجه الشبه من المشبه ليلتحق الأضعف بالأقوى في وجه الشبه كقولك « وجهه كالقمر » . ولا ريب أن الخالق أقوى من غير الخالق فكان حق النظم في الظاهر أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق . والقرآن ورد على العكس . ووجهه عند العلماء زيادة التوبيخ ليكون كأنهم جعلوا غير الخالق أقوى حالاً وأعرف من الخالق . قال في الكشاف : إنهم جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبهوه بها حين جعلوا غيره مثله في التسمية والعبادة فأنكر عليهم ذلك ، ولوضوح كون هذا الأمر منكراً عند من له أدنى عقل بل حس قال { أفلا تذكرون } وفيه مزيد توبيخ وتجهيل لأنه لجلائه كالحاصل الذي يحصل عند العقل بأدنى تذكر ومع ذلك هم عنه غافلون . قال بعض الأشاعرة . في الآية دلالة على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه لأن الآية سيقت لبيان امتيازه بصفة الخالقية . أجابت المعتزلة بأن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والجبال والنجوم . أو نقول : معنى الآية أن كل ما كان خالقاً يكون أفضل ممن لا يكون خالقاً ، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقاً فإنه يجب أن يكون إلهاً نظيره قوله : { ألهم أرجل يمشون بها } [ الأعراف : 195 ] أراد به أن الإنسان أفضل من الصنم والأفضل لا يليق به عبادة الأخس فكذا ههنا . وقال الكعبي في تفسيره : نحن لا نطلق لفظ الخالق على العبد ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله : { وإذ تخلق من الطين } [ المائدة : 110 ] فعلى هذا لا يتوجه عليهم السؤال إلا أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حتى إن أبا عبد الله البصري قال : إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز لأن الخلق عبارة عن التقدير وهو الظن والحسبان .

ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى الملكلفين نعم قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وقد مر تفسيره في سورة إبراهيم . قال العقلاء : إن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لنغص العمر على الإنسان وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل . ثم إنه سبحانه يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الملائم له غالباً مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بمصالحه ومفاسده ، فليكن هذا المثال حاضراً في ذهنك وقس عليه سائر نعم الله تعالى حتى تعرف تقصيرك وقصورك عن شكر أدنى نعمة فضلاً عن جميعها ، ولهذا ختم الآية بقوله : { إن الله لغفور رحيم } يغفر التقصير الصادر عنكم في أداء شكر النعمة ويرحمكم حيث لا يقطعها عنكم بالتفريط ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها . كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرون ضروباً من الكفر والمكايد في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فأوعدهم بقوله : { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } وفيه أيضاً تعريض وتوبيخ بسبب أن الإله يجب أن يكون عالماً بالسر والعلانية ، والأصنام التي عبدوها جمادات لا شعور لها أصلاً فكيف يحسن عبادتها .
ثم زاد في التوبيخ فقال : { والذين يدعون } أي الآلهة الذين يدعونهم الكفار { من دون الله لا يخلقون شيئاً } وقد ذكر هذا المعنى في قوله : { كمن لا يخلق } وزاد ههنا قوله : { وهم يخلقون } أي بخلق الله أو بالنحت والتصوير وهم لا يقدرون على نحو ذلك فهم أعجز من عبدتهم ، ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه نفى عنهم صفة الكمال وأثبت صفة النقصان . وكذلك قوله : { أموات غير أحياء } يستلزم ذمهم مرتين لأن من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطفة والجسد الإنساني الذي فارقه الروح ، وأما الحجارة فأموات لا تقبل الحياة أصلاً . وفيه أن الإله الحق يجب أن يكون حياً لا يعقبه موت وحال هذه الأصنام بالعكس . وفيه أن هؤلاء الكفار في غاية الغباوة وقد يقرر المعنى الواحد مع الغبي الجاهل بعبارتين مختلفتين تنبيهاً على بلادته { وما يشعرون } الضمير فيه للآلهة . أما الضمير في { أيان يبعثون } فإما للآلهة أيضاً ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار ، وإما للداعين أي لا يشعر الآلهة متى يبعث عبدتهم فيكون فيه تهكم بالمشركين من حيث إن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟! وفيه أنه لا بد من البعث وأنه من لوازم التكليف ، وإما للأحياء أي لا يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكماً بحلها لأن شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحي القيوم سبحانه؟ وجوز في الكشاف أن يراد بالذين يدعوهم الكفار الملائكة ، لأن ناساً منهم كانوا يعبدونهم .

ومعنى أنهم { أموات } أي لا بد لهم من الموت { غير أحياء } أي غير باقية حياتهم ولا علم لهم بوقت بعثهم . ولما زيف طريقة عبدة الأصنام صرح بما هو الحق في نفس الأمر فقال : { إلهكم إله واحد } ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة } للوحدانية أو لكل كلام يخالف هواهم { وهم مستكبرون } عن قبول الحق وذلك أن المؤمن بالعبث والجزاء يؤثر فيه الترغيب والترهيب فينقاد للحق أسرع ، وأما الجاحد للمعاد فلا يقبل إلا ما يوافق رأيه ويلائم طبعه فيبقى في ظلمة الإنكار { لا جرم } أي حقاً { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } فيجازيهم على ما أسروا من الاستكبار وأعلنوا من العناد { إنه لا يحب المستكبرين } عن التوحيد فيختص بالمشركين أو كل مستكبر فيدخل هؤلاء دخولاً أوّلياً لأن الكلام فيهم .
التأويل : الناس طبقات ثلاث : الغافلون والخطاب معهم بالعتاب إذا كانوا مشتاقين إلى الدنيا . وزخارفها وهم أصحاب النفوس ، والعاقلون والخطاب معهم بوعد الثواب لرغبتهم في الطاعات والأعمال الصالحات وهم أرباب العقول ، والعاشقون والخطاب معهم بوصل رب الأرباب لاشتياقهم إلى جمال ذي الجلال . فحين قال في الأزل { أتى أمر الله } استعجل أرواح كل طبقة منهم للخروج من العدم إلى الوجود لنيل المقصود وطلب المفقود فخاطبهم بقوله : { فلا تستعجلوه } فإنه سيصيب في كل طبقة منكم ما كتب له في القسمة الأزلية : والله سبحانه منزه عن أن يشاركه في الحكم أحد فلا مبدل لكلماته . { بالروح من أمره } أي بما يحيي القلوب من المواهب الربانية من أمره الوارد على الجوارح بالتكاليف الشرعية وعلى النفوس بآداب الطريقة ، وعلى القلوب بالإشارات ، وعلى الأرواح بملازمة الحضرة للمكاشفات ، وعلى الأسرار بالمراقبات للمشاهدات وعلى الخفيات بتجلي الصفات لإفناء الذوات . { على من يشاء من عباده } من الأنبياء والأولياء { أن أنذروا } أعلموا أوصاف وجودكم ببذلها في أنانيتي { أنه لا إله إلا أنا فاتقون } عن أنانيتكم بأنانيتي . { خلق } سموات الأرواح وأرض الأشباح وجعلها مظهراً لأفاعيله . فهو الفاعل لما يظهر على الأرواح والأشباح { تعالى عما يشركون } الأرواح والأشباح في إحالة أفاعيله إلى غيره { خلق الإنسان من نطفة } لا علم لها ولا فعل { فإذا هو خصيم مبين } يدعي الشركة معه في الوجود . والأفاعيل والأنعام أي الصفات الحيوانية { خلقها لكم فيها دفء } لأنها المودعة في جبلتكم { ومنافع ومنها تأكلون } باستفادة بدل ما يتحلل { ولكم فيها جمال } في أوقات الفترات وأزمنة الاستراحات { وتحمل } أثقال أرواحكم وهي أعباء الأمانة إلى بلد عالم الجبروت { إن ربكم لرءُوف رحيم } .

إذا أفنيتم أنفسكم في جبروته يبقيكم ببقاء عظموته { والخيل والبغال والحمير } أي صفاتها خلقت فيكم لأنها مراكب الروح عند السير إلى عالم الجبروت { وزينة } عند رجوعه بالجذبة إلى مستقره الذي أهبط منه { ويخلق } فيكم حينئذٍ { ما لا تعملون } وهو قبول فيض الله بلا واسطة . وعلى الله قصد السبيل } بجذبة { ارجعي } { ومنها جائر } يعني نفوسكم تحيد عن الفناء وبذل الوجود { هو الذي أنزل } من سماء الكرم ماء الفيض { منه شراب } المحنة لقلوبكم { ومنه شجر } القوى البشرية ودواعيها { فيه } ترعون مواشي نفوسكم { ينبت لكم } زرع الطاعات وزيتون الصدق ونخيل الأخلاق الحميدة وأعناب الواردات الربانية ، ومن كل ثمرات المعقولات والمشاهدات والمكاشفات . { وسخر لكم } ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس الروح وقمر القلب ونجوم الحواس والقوى ، وتسخيرها استعمالها على وفق الشريعة وقانون الطريقة { وما ذرأ لكم } في أرض جبلتكم من الاستعدادات يتلون في كل عالم بلونه من عوالم الملكية والشيطانية والحيوانية { وسخر لكم } بحر العلوم { لتأكلوا منه } الفوائد الغيبية السنية الطرية { وتستخرجوا منه } جواهر المعاني فيلبس بها أرواحكم النور والبهاء . وترى فلك الشرائع والمذاهب جواري في بحر العلوم لتبتغوا الأسرار الخفية عن الملائكة . وألقى في أرض البشرية جبال الوقار والسكينة لئلا تميد بكم صفات البشرية عن جادّة الشريعة والطريقة ، وأنهاراً من ماء الحكمة وسبلاً إلى الهداية والعناية ، وعلامات من الشواهد والكشوف ، وبنجم الجذبة الإلهية هم يهتدون فيخرجون من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي . أفمن يخلق الله فيه هذه الكمالات كمن لا يخلقها فيه من الملائكة وغيرهم { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وهي قسمان : نعمة الأعطاف وهي ما يتعلق بوجود النعمة ظاهرة وباطنة ، ونعمة الألطاف وهي ما يتعلق بوجود المنعم من الذوات والصفات { والله يعلم ما تسرون } من أداء شكر نعمه بالقلوب { وما تعلنون } من أداء الشكر بالأجساد { والذين يدعون من دون الله } من الهوى والدنيا { لا يخلقون شيئاً } من المنافع { وهم يخلقون } بتعب الطالب في تحصيلها ولهذا قال : { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان } يبعثها دواعي البشرية { فالذين لا يؤمنون بالآخرة } بما في عالم الغيب { قلوبهم منكرة } لأهل الحق لأنهم لا يتجاوزون عالم الحس { يعلم ما يسرون } من الإنكار { وما يعلنون } من الاستكبار . . الله حسبي .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

القراآت : { شركاي } مثل { هداي } زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي . وقرأ الخزاز عن هبيرة { شركائي الذين } مرسلة الياء ، الباقون بفتح الياء وكذلك في « الكهف » و « القصص » . { تشاقون } بكسر النون : نافع ، الآخرون بفتحها { تتوفاهم } وما بعده بالإمالة : حمزة وخلف { لا يهدي } بفتح الياء وكسر الدال : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، الباقون بضم الياء وفتح الدال . { كن فيكون } بالنصب : ابن عامر وعلي ، الباقون بالرفع .
الوقوف : { ربكم } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { الأولين } 5 لا لتعلق اللام { يوم القيامة } لا لأن قوله { ومن أوزار } مفعول { ليحملوا } ط { بغير علم } ط { ما يزرون } 5 { لا يشعرون } 5 { فيهم } ط { الكافرين } 5 لا بناء على أن ما بعده صفة { أنفسهم } ص لطول الكلام { من سوء } ط { تعملون } 5 { خالدين فيها } ط { المتكبرين } 5 { أنزل ربكم } ط { خيراً } ط { حسنة } ط { خير } ط { المتقين } 5 لا لأن ما بعده بدل { يشاءُون } ط { المتقين } 5 { طيبين } 5 لا لأن ما بعده حال آخر . { سلام عليكم } لا لأن قوله : { ادخلوا } مفعول { يقولون } { تعملون } 5 { أمر ربك } ط { من قبلهم } ط { يظلمون } 5 { يستهزءُون } 5 { من شيء } الثاني ط { من قبلهم } ج للاستفهام مع الفاء { المبين } 5 { الطاغوت } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { الضلالة } ط { المكذبين } 5 { ناصرين } 5 { أيمانهم } لا لأن ما بعده جواب القسم { يموت } ط { لا يعلمون } 5 لا لتعلق لام كي { كاذبين } 5 { فيكون } 5 { حسنة } ط { أكبر } م لأن جواب « لو » محذوف أي لو كانوا يعلمون لما اختاروا الدنيا على الآخرة ، ولو وصل لصار قوله : { ولأجر الآخرة } متعلقاً بشرط « أن » { لو كانوا يعلمون } وهو محال { يعلمون } 5 لا بناء على أن { الذين صبروا } بدل { الذين هاجروا } { يتوكلون } 5 .
التفسير : لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد أراد أن يذكر شبهات منكري النبوة مع أجوبتها . فالشبهة الأولى أنهم طعنوا في القرآن وعدّوه من قبيل الأساطير . قال النحويون : « ماذا » منصوب بأنزل بمعنى أي شيء أنزله ربكم ، أو « ما » مبتدأ و « ذا » موصولة ، والجملة صلتها ، والمجموع خبر المبتدأ ، وعلى التقديرين : فقوله : { أساطير الأوّلين } بالرفع ليس بجواب للكفار وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرون بالإنزال فهو إذن كلام مستأنف أي ليس ما تدّعون إنزاله منزلاً بل هو أساطير الأولين . وقال في الكشاف : معناه المنزل أساطير الأوّلين وذكر في دفع التناقض أنه على السخرية كقوله : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] وجوز كونه منصوباً ولم يقرأ به . واختلفوا في السائل فقيل : هو كلام بعضهم لبعض .

وقيل : هو قول المسلمين لهم وقيل : هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أحاديث الأوّلين وأباطيلهم ، ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والحقائق والدقائق . ثم إنه تعال اقتصر في جواب شبههم على محض الوعي لأنه قد ثبت بالتحدي كما مر ذكره مراراً أن القرآن معجز تحدوا بالقرآن جملة ثم بعشر سور ثم بسورة فعجزوا عن المعارضة فكان طعنهم فيه بعد ذلك مجرد المكابرة والعناد فلم يستحقوا في الجواب إلا التهديد والوعيد . واللام في قوله : { ليحملوا } ليس لام الغرض لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لغرض حمل الأوزار ، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن التعليل به فكان لام العاقبة ، وقوله : { كاملة } معناه أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئاً ، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين لأن هذا المعنى لو كان حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة . قال الواحدي : لفظة « من » في قوله : { ومن أوزار الذين } ليست للتبعيض فإنه لا يخفف عن الأتباع بعض أوزارهم لقوله صلى الله عليه وسلم « أيما داع دعا إلى الضلال فاتبع كان عليه وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء » ولكنها للابتداء أي لحملوا ما قد نشأ من أوزار الاتباع ، أو للبيان أي ليحملوا ما هو من جنس أوزار تبعهم . ومعنى { بغير علم } أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يتسحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال . وقال في الكشاف : { بغير علم } حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال . وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل . ثم أوعدهم بما هو النهاية في التهديد فقال : { ألا ساء ما يزرون } وزرهم . ثم حكى حال أضرابهم من المتقدين فقال : { قد مكر الذين من قبلهم } ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان بنى صرحاً عظيماً ببابل طوله خمسة آلاف ذراع - وقيل فرسخان - ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا ، وألقت رأس الصرح في البحر فأحدث نمروذ وتبلبلت يومئذٍ ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وتسعين لساناً ولذلك سميت ببابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، وابتلاه الله ببعوضة دخلت دماغه والحكاية مشهورة . والأصح أن الآية عامة في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحق الضرر بالمحقين . وعلى القول الأوّل معنى قوله : { فأتى الله } أي أمره وحكمه { بنيانهم من القواعد } وهي أساطين البناء التي تعمده أو الأساس أنه أسقط السقف عليهم بعد هدم القواعد .

وفائدة زيادة قوله : { من فوقهم } التنصيص على أن الأبنية تهدمت وهم ماتوا تحتها ، وعلى الثاني يكون الكلام محض التمثيل والمراد أنهم سوّوا منصوبات وحيلاً ليمكروا بها رسل الله ، فجعل الله هلاكهم في تلك الحيل كحيل قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين ، فأتي البنيان من الأساطين بأن ضعفت فسقط عليهم السقف فهلكوا ونحوه « من حفر بئراً لأخيه فقد وقع فيه » وبعبارة أخرى « من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً » .
ثم بين أن عذابهم ير مقصور على عذاب الدنيا بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة بإدخالهم النار { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } [ آل عمران : 192 ] { ويقول } مع ذلك لأجل الإهانة والتوبيخ { أين شركائي } الإضافة لأدنى الملابسة أو هي حكاية لإضافتهم استهزاء وتوبيخاً { الذين كنتم تشاقون } تخاصمون المؤمنين في شأنهم . ومن قرأ بكسر النون فعلى حذف يا المتكلم لأن مشاقة المؤمنين مشاقة الله . ثم ذكر على سبيل الاستئناف { قال الذين أوتوا العلم } عن ابن عباس هم الملائكة . وقال الآخرون : هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إليهم فيقولون ذلك يوم القيامة شماتة بهم . قالت المرجئة قولهم : { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } يدل على أن ماهية الخزي والسوء مختص بالكافرين فينتفي عن غيرهم . أما قوله : { فألقوا السلم } فعن ابن عباس : المراد أنهم أسلموا وأقروا بالعبودية عند الموت . وقيل : إنه في يوم القيامة وقولهم : { ما كنا نعمل من سوء } أرادوا الشرك قالوه على وجه الكذب والجحود ، ومن لم يجوز الكذب على أهل القيامة قال : أرادوا في اعتقادهم وظنونهم فرد عليهم أولو العلم أو الملائكة بقوله : { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب وإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم . قال في الكشاف : وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك { فادخلوا أبواب جهنم } وفي ذكر الأبواب إشارة إلى تفاوت منازلهم في دركات جهنم . ثم قال : { فلبئس مثوى المتكبرين } عن قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء . والفاء للعطف على فاء التعقيب في { فادخلوا } واللام للتأكيد يجري مجرى القسم موافقة لقوله بعد ذلك { ولنعم دار المتقين } ولا نظير لهما في كل القرآن . ثم أتبع أوصاف الأشقياء أحوال السعداء فقال : { وقيل للذين اتقوا } الآية . وإنما ذكر الجواب ههنا بالنصب ليكون الجواب مطابقاً مكشوفاً بيناً من غير تلعثم أي أنزل خيراً أو { قالوا خيراً } لا شراً كما قاله الكفار ، أو قالوا قولاً خيراً ولو رفعوا لأوهم أنه كلام مستأنف كما في جواب الكفار وليس بمنزل . روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف كما مر ، فكان الوافد يقول : كيف أرجع إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه .

فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث فهم الذين قالوا خيراً . وجوّز في الكشاف أن يكون { للذين أحسنوا } وما بعده بدلاً من { خيراً } كأنه فسر الخبر بهذا القول ، وجوّز أن يكون كلاماً مبتدأ على سبيل الوعد فيكون قولهم الخير من جملة إحسانهم . أما قوله { في هذه الدنيا } فإما أن يتعلق بما قبله فالمعنى : الذين جاءُوا بالإحسان في هذه الدنيا لهم في الآخرة { حسنة } هي الثواب العظيم أو المضاعف إلى سبعمائة أو أكثر ، وإما أن يتعلق بما بعده والتقدير : الذين أحسنوا لهم الحسنة في الدنيا باستحقاق المدح والثناء ، أبو بالظفر على أعداء الدين باللسان والسنان وفتح البلاد ، أو بفتح أبواب المكاشفات والمشاهدات . والحاصل أن لهم في الدنيا مكافأة بإحسانهم . { ولدار الآخرة خير } منها . ثم بين الخيرية بقوله : { ولنعم دار المتقين } دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره .
ثم قال : { جنات عدنٍ } أي هي هذه فيكون المبتدأ محذوفاً أو الجنات مبتدأ وما بعدها خبر أو { جنات عدن } هي المخصوص بالمدح . فالجنات يدل على القصور والبساتين ، والعدن على الدوام والإقامة . وقوله : { تجري من تحتها الأنهار } على أنه حصل هناك أبنية مرتفعة هم عليها والأنهار تجري من تحتهم . وقوله : { لهم فيها ما يشاءُون } أبلغ من قوله في موضع آخر { فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } [ الزخرف : 71 ] وفي تقديم الظرف دلالة على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده إلا في الجنة ، وقوله : { الذين تتوفاهم الملائكة } أكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح . وقوله : { طيبين } أي طاهرين عن دنس الكفر والمعاصي أو دنس الكفر وحده ، وهذه كلمة جامعة تشمل أنواع البراءة عن العلائق الجسمانية فلا يكون لصاحب هذه الحالة تألم بالموت دليله قوله : { يقول سلام عليكم } يروى أنه إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فيقول : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة فذلك قوله : { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } وعن الحسن أن المراد بهذا التوفي هو وفاة الحشر لأنه لا يقال عند قبض الروح في الدنيا ادخلوا الجنة . والأولون قالوا : البشارة بالجنة بمنزلة الدخول فيها .
قوله سبحانه : { هل ينظرون } قيل : إنه جواب شبهة أخرى لمنكري النبوة فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوة فقال تعالى : هل ينظرون في تصديق نبوتك { إلا أن تأتيهم الملائكة } شاهدين بذلك . ويحتمل أن يقال : إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أوعدهم الله تعالى بما أوعد ، ثم وصف القرآن بكونه حقاً وصدقاً وذكر جزاء المتقين ثم ذكر أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم بسبب البيانات التي ذكرناها إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد أو لقبض الأرواح أو أتاهم أمر ربك وهو العذاب المستأصل أو القيامة { كذلك فعل الذين من قبلهم } فأصابهم الهلاك المعجل { وما ظلمهم الله } بتدميرهم فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم { فأصابهم سيئات ما عملوا } أي جزاء سيئات أعمالهم أو هو من باب الطباق والمشاكلة كقوله

{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] { وحاق بهم } . أي نزل بهم على وجه الإحاطة عقاب استهزائهم . الشبهة الثالثة لمنكري النبوة أنهم تشبثوا بمسألة الجبر فقالوا : { لو شاء الله ما عبدنا } الآية . وقد مر في تفسير مثلها في آخر سورة الأنعام ، وذكرنا أسرار المتشابه هناك وكذا استدلال المعتزلة بها وجواب الأشاعرة عنها . وزاد بعض الأشاعرة فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على وجه الاستهزاء كما قال قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] ولو قالوا ذلك معتقدين كانوا مؤمنين . وقال آخرون : إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم وهي أنه لما كان الكل من الله كان بعثه الأنبياء عبثاً بقوله : { كذلك فعل الذين من قبلهم } يعني أنهم اعترضوا على أحكام الله وطلبوا لها العلة فعل من تقدمهم من الكفرة { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } أي ما عليهم إلا التبليغ فإما تحصيل الإيمان فليس إليهم . ثم إنه أكد هذا المعنى بقوله : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } إلى قوله : { ومنهم من حقت عليه الضلالة } وفيه دلالة على أن أمر الله قد لا يوافق إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ولا يريد الهداية إلا للبعض إذّ لو أرادها للكل لم يكفر أحد ولم ينزل العذاب على قوم لكنه كفر ونزل لقوله : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ النحل : 36 ] . ثم خصص الخطاب قائلاً لرسوله { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } لا يرشد أحداً أضله ، قال ابن عباس : وقال الفراء : لا يهدي معناه لا يهتدي : ومن قرأ على البناء للمفعول فمعناه لا تقدر أنت ولا أحد على هداية من أضله الله فلن يكون مهدياً منصوراً ، ولا يخفى أن أول الآية ظاهره يوافق مذهب المعتزلة . أما قوله : { كذلك فعل الذين من قبلهم } إلى آخر الآيات فإنهم قد صاروا فيه إلى التأويل فقالوا : معناه أن متقدميهم أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم أسندوه إلى الله { فهل على الرسل إلا } أن يبلغوا الحق وأن الله بريء من الظلم وخلق القبائح والمنكرات ، وما من أمة إلا وقد بعث الله فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو عبادة الله وينهاهم عن الشر الذي هو طاعة الطاغوت . { فمنهم من هدى الله } لأنه من أهل اللطف ، ومنهم من ثبت عليه الخذلان لأنه عرفه مصمماً على الكفر ، أو المراد منهم من حكم الله عليه بالاهتداء ومنهم من صار محكوماً عليه بالضلال لظهور ضلاله ، أو منهم من هداه الله إلى الجنة ومنهم من أضله عنها .

{ فسيروا في الأرض فانظروا } ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدر الشر ولا أشاؤه . ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة ، وأنه لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث والله تعالى متعال عن العبث . فهذا تفسير الفريقين لاشتمال آيات مسألة الجبر والقدر على الجهتين وعليك الاختيار بعقلك دون هواك . الشبهة الرابعة قدحهم في الحشر والنشر ليلزم إبطال النبوة وذلك أنهم { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } أي أغلاظ الأيمان كما في « المائدة » كأنهم ادّعوا علماً ضرورياً بأن الشيء إذا فني وصار عدماً محضاً فإنه لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئاً آخر فأكدوا ادعاءهم بالقسم الغليظ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله : { بلى } وهو إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم وقوله : { وعداً } مصدر مؤكد لما دل عليه « بلى » لأن يبعث موعد من الله أي وعد البعث { وعدا عليه حقاً } لا خلاف فيه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنهم يبعثون أو أن وعد الله حق . ثم ذكر لمية حقية البعث فقال { ليبين } أي يبعث كل من يموت من المؤمنين والكافرين ليبين { لهم } الحق الذي اختلفوا فيه بياناً عيانياً لا يشتبه فيه المطيع بالمعاصي والمحق بالمبطل والمظلوم بالظالم والصادق بالكاذب . وجوز بعضهم أن يكون قوله : { ليبين } متعلقاً بقوله : { ولقد بعثنا } أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا به وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب في ادعاء الشريك له وفي قولهم بمجرد هواهم هذا حلال الله وهذا حرام .
ثم برهن على إمكان البعث بقوله : { إنما قولنا } وهو مبتدأ خبره { أن نقول } وقد فسرنا مثل هذه الآية في سورة البقرة ، وذكرنا فيه مباحث عميقة لفظية ومعنوية فلا حاجة إلى الإعادة . والغرض أنه سبحانه لا مانع له من الإيجاد والإعدام ولا تتوقف آثار قدرته إلا على مجرد الإرادة والمشيئة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو أهون من الإبداء؟! قال في الكشاف : قرىء { فيكون } بالنصب عطفاً على { نقول } قلت : ولا مانع من كونه منصوباً بإضمار « أن » لوقوعه في جواب الأمر بعد الفاء وقد مر في « البقرة » . احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم القرآن قال : إنه لو كان حادثاً لافتقر إلى أن يقال له « كن » . ثم الكلام في هذا اللفظ كالكلام في الأوّل وتسلسل ، والجواب بعد تسليم أن هذا ليس مثلاً وأن ثم قولاً أن « إذا » لا تفيد التكرار فلا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى إلى أن يقول له « كن » .

وكيف يتصور أن تكون لفظة « كن » قديمة والكاف مقدم على النون بزمان محصور ، ولو سلم فلا يجوز من قدم لفظة « كن » قدم القرآن . على أن قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه } يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث وأنه علق القول بكلمة « إذا » ولا شك أنها للاستقبال وكذا قوله : { أن نقول } ثم إن كلمة { كن } متقدمة على المكون بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان يكون محدثاً ، فتلخص من هذه الدلائل أن الكلام المسموع لا بد أن يكون محدثاً . هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي ، ولعل لنا فيه نظراً . ولما حكى الله سبحانه عن الكفار ما حكى من إنكار البعث والجزاء لم يبعد منهم - والحالة هذه - إيذاء المسلمين وإنزال الضرر والهوان بهم وحينئذٍ يلزمهم أن يهاجروا تلك الديار فذكر ثواب المهاجرين قائلاً { والذين هاجروا في الله } أي في حقه وسبيله { من بعد ما ظلموا لنبوّئنهم في الدنيا } مثوبة { حسنة } أو مباءة حسنة هي المدينة أوهم أهلها ونصروهم قاله الحسن والشعبي وقتادة . وقيل : لننزلنهم منزلة حسنة هي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، بل على العرب قاطبة بل على أهل المشرق والمغرب . قال ابن عباس : نزلت الآية في جماعة - منهم صهيب وبلال وعمار وخباب- جعل المشركون يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فقال صهيب : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر ، فلما رآه أبو بكر قال له : ربح البيع يا صهيب ، وقال له عمر : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه . أما الضمير في قوله : { لو كانوا يعلمون } فإما أن يرجع إلى الكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين خير الدارين لرغبوا في دينهم ، وإما أن يعود إلى المهاجرين أي لو علموا أن أجر الآخرة أكبر لزادوا في اجتهادهم وصبرهم . ثم مدحهم بقوله : { الذين صبروا } على هم الذين أو أعني الذين . والمراد صبرهم على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله ، وعلى المجاهدة في سبيل الله بالنفوس والأموال . قال المحققون : الصبر حبس النفس على خلاف ما تشتهيه من اللذات العاجلة وهو مبدأ السلوك ، والتوكل هو الانقطاع بالكلية عما سوى الحق وهو آخر الطريق والله ولي التوفيق . فإن العارفين بالصبر ساروا وبالتوكل طاروا ثم في الله حاروا حسبي الله ونعم الوكيل .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

القراآت : { نوحي } بالنون : حفص غير الخزاز . الباقون بالياء مجهولاً { أو لم تروا } بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف { تتفيؤ } بتاء التأنيث : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، الآخرون على الغيبة .
الوقوف : { لا تعلمون } 5 لا لتعلق الباء { والزبر } ط { يتفكرون } 5 { لا يشعرون } 5 لا للعطف { بمعجزين } 5 لا كذلك { على تخوّف } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار { رحيم } 5 { داخرون } 5 { لا يستكبرون } 5 { ما يؤمرون } 5 { اثنين } ج للابتداء بانما مع اتحاد القائل { واحد } ج للعدول مع الفاء { فارهبون } 5 { واصباً } ط { تتقون } 5 { تجأرون } 5 ج لأن « ثم » لترتيب الأخبار مع شدة اتصال المعنى { يشركون } 5 لا لتعلق لام كي { آتيناهم } ط للعدول والفاء للاستئناف { تعلمون } 5 { رزقناهم } ط { تفترون } 5 { سبحانه } لا لأن ما بعده من جملة مفعول { يجعلون } و { سبحانه } معترض للتنزيه { يشتهون } 5 { كظيم } 5 ج لاحتمال أن ما بعد وصف { لكظيم } أو استنئاف . { ما بشر به } ط لأن التقدير يتفكر في نفسه المسألة { في التراب } ط { ما يحكمون } 5 { السوء } ج لتضاد الجملتين معنى مع العطف لفظاً { الأعلى } ط { الحكيم } 5 .
التفسير : الشبهة الخامسة أن قريشاً كانوا يقولون الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله بشراً فأجاب سبحانه بقوله : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً } والمراد أن هذه عادة مستمرة من أوّل زمان الخلق والتكليف . وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة . قال القاضي : ولعله أراد الملك الذي يرسل إلى الأنبياء بحضرة أممهم كما روي أن جبرائيل عليه السلام كان يأتي في صورة دحية وفي صورة سراقة ، وإنما قيدنا بحضرة الأمم لأن الملائكة قد يبعثون على صورتهم الأصلية عند إبلاغ الرسالة من الله إلى نبيه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم رآى جبرائيل على صورته التي هو عليها مرتين . وعليه تأوّلوا قوله : { ولقد رآه نزلة أخرى } [ النجم : 13 ] ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله - أعني قريشاً - بأن يرجعوا إليهم في هذه المسألة ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها وذلك قوله : { فاسئلوا أهل الذكر } قال بعض الأصولين : فيه دليل على أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر فيما يشتبه عليه . واحتج نفاة القياس بالآية قالوا : لو كان حجة لما وجب على المكلف السؤال بل كان عليه أن يستنبط ذلك الحكم بواسطة القياس . وأجيب بأنه قد ثبت العمل بالقياس لإجماع الصحابة ، والإجماع أقوى من ظاهر النص . أما قوله : { بالبينات } ففي متعلقه وجوه منها : أن يتعلق ب { أرسلنا } داخلاً تحت حكم الاستثناء مع { رجالاً } وأنكر الفراء ذلك قال : إن صلة ما قبل « إلا » لا تتأخر على ما بعد « إلا » لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته كما لو قيل : ما أرسلنا بالبينات إلا رجالاً .

ولما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه . ومنها أن يتعلق ب { رجالاً } صفة له أي رجالاً متلبسين بالبينات . ومنها أن يتعلق ب { أرسلنا } مضمراً نظيره « ما مر إلا أخوك » ، ثم تقول « مرَّ بزيد » قاله الفراء . ومنها أن يتعلق ب { بيوحى } أي يوحى إليهم بالبينات . ومنها أن يتعلق بالذكر بناء على أنه بمعنى العلم . ومنها أن يتعلق ب { لا تعلمون } أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات وبالزبر فاسألوا . وقال في الكشاف : الشرط ههنا في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي . قلت : أراد أن عدم علمهم مقرر كما أن عمل الأجير ثابت . وسلم جار الله أن مثل قوله : { فاسألوا } جواب الشرط على هذا الوجه . وأما على الوجوه المتقدمة فجزم أنه اعتراض بناء على أن جواب الشرط هو ما دل عليه قوله { وما أرسلنا } الخ . وعندي أن هذا الجزم ليس بحتم ويجوز على كل الوجوه أن يكون مثل { فاسألوا } جواباً والله أعلم . وأهل الذكر أهل التوراة . كقوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } [ الأنبياء : 105 ] يعني التوراة . وقال الزجاج : سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق . وقوله : { بالبينات والزبر } لفظ جامع لكل ما تتكامل به الرسالة لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات ، وعلى التكاليف التي تعتبر في باب العبادة وهي للزبر . ثم قال : { وأنزلنا إليك الذكر } أي القرآن الذي هو موعظة وتنبيه وتذكير لأهل الغفلة والنسيان ، وبيّن الغاية المترتبة على الإنزال وهي تبيين الأحكام والشرائع بالنسبة إلى الرسول وإرادة التأمل والتفكر في المبدإ والمعاد بالإضافة إلى المكلفين . وفي ظاهر هذا النص دلالة على أن القرآن كله مجمل ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنه متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والخبر مبين له . وأجيب بمنع الكلية فمن القرآن ما هو محكم ، وقوله : { لتبين } محمول على المتشابهات المجملات . قال بعض من نفى القياس : لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول أن يبين للمكلفين ما أنزل الله عليه من الأحكام بل كان له أن يفوض بعضها إلى رأي القائس ، وأجيب بأنه لما بيّن أن القياس من جملة الحجج فالقياس أيضاً راجع إلى بيان الرسول .
ثم لما ذكر شبهات المنكرين مع أجوبتها شرع في التهديد والوعيد والإنذار والتنبيه فقال { أفأمن الذين مكروا السيئات } أي المكرات السيئات أراد أهل مكة ومن حول المدينة . قال الكلبي : عنى بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله ، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على سبيل الخفية { أن يخسف الله بهم الأرض } كما خسف بقارون { أو يأتيهم العذاب } أو ملائكة العذاب من السماء { من حيث لا يشعرون } كما فعل بقوم لوط { أو يأخذهم في تقلبهم فيما هم بمعجزين } فائتين الله ، وذكر المفسرون في هذا التقلب وجوهاً منها : أنه تعالى يأخذهم في أسفارهم ومتاجرهم فإنه قادر على أن يهلكهم في السفر كما أنه قادر على أن يهلكهم في الحضر وهم لا يفوتون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة .

ومنها أنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم ، وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم . ومنها أنه أراد في حال ما يتقلبون في قضاء أوطارهم بوجوه الحيل فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم . والتقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } [ آل عمران : 196 ] وبالمعنى الثالث من قرأ { وقلبوا لك الأمور } { التوبة : 48 ] . { أو يأخذهم على تخوف } على حالة تخوفهم وتوقعهم للبلاء بأن يكون قد أهلك قوماً قبلهم فكان أثر الخوف باقياً فيهم ظاهراً عليهم فهو خلاف قوله : { من حيث لا يشعرون } وقيل : التخوف التنقص والمعنى أنه يأخذهم بطريق النقص شيئاً بعد شيء في ديارهم وأموالهم وأنفسهم حتى يأتي الفناء على الكل . عن عمر أنه قال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا : فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص فقال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم قال شاعرنا زهير :
تخوّف الرحل منها تامكاً قرداً ... كما تخوف عود النبعة السفن
قوله تامكا قرداً أي سناماً مرتفعاً متراكماً ، والسفن ما ينحت به الشيء ومنه السفينة لأنها تسفن وجه الماء بالمر في البحر . فقال عمر : أيها الناس عليكم بديوانكم . قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم . ثم ختم الآية بقوله : { فإن ربكم لرءُوف رحيم } فذهب المفسرون إلى أن معناه أنه يمهل في أكثر الأمر لأنه رءُوف رحيم فلا يعجل بالعذاب . وأقول : يحتمل أن يكون قوله « فإن » تعليلاً لقوله { أفأمن } كقوله : { ما غرك بربك الكريم } [ الانفطار : 6 ] .
ولما خوف الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وسكانهما فقال { أو لم يروا إلى ما خلق الله } قال جار الله : « ما » مبهمة بيانه { من شيء } وقال أهل المعاني : قوله : { يتفيؤ ظلاله } إخبار عن شيء وليس بوصف له . ويتفيأ « يتفعل » من الفيء وأصله الرجوع ومنه فيئة المولى . وقال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار . فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشيّ ، وما انصرف عنه الشمس والقمر والذي يكون بالغداة ظل .

وقال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل . وقوله : { ظلاله } أضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ووجه حسنه كون المرجوع إليه واحداً في اللفظ وإن كان كثيراً في المعنى وهو قوله : { إلى ما خلق } نظيره { لتستووا على ظهوره } [ الزخرف : 13 ] أضاف الظهور - وهو جمع - إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو ما تركبون . قال الجوهري : تفيأت الظلال أي تقلبت . وقوله { عن اليمين والشمائل } قال أهل التفسير ومنهم الفراء : إنه وحد اليمين لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال ، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها لأن قوله { ما خلق الله } لفظ مفرد ومعناه جمع ، وقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] { وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [ الأنعام : 46 ] وقيل : المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وإنها واحدة ، والشمائل عبارة عن الانحراف الواقع في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة . وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ومنه تظهر الحركة القوية ، وكذا جانب الشرق أقوى جوانب الفلك ومنه تظهر الحركة اليومية التي هي أسرع الحركات وأقواها . ويمكن أن يقال : إن الإنسان إذا توجه إلى الشرق الذي هو أولى الجوانب بالاعتبار لشرفه كان الجنوب يمينه والشمال شماله ، ولا ريب أن وصول الشمس إلى فلك نصف النهار يختلف بحسب البلاد . وقد يتفق انتقالها من الجنوب إلى الشمال وبالعكس في بلد واحد إذا كان عرضه ناقصاً عن الميل الكلي . ومن المعلوم أن الشمس حين وصولها إلى نصف النهار إن كانت في جنوب سمت الرأس وقع ظلها إلى جانب الشمال ، وإن كانت في شماله وقع ظلها إلى الجنوب ، فيحتمل أن يراد بتفيؤ الأظلال تقلبها في هاتين الجهتين والله أعلم . أما قوله { سجداً لله } فإنه حال من الظلال ، ومعنى سجودها انقيادها لأمر الله منتقلة من جانب إلى جانب حسب تحرك النير على نسب مخصوصة ومقادير معلومة ذكرنا بعضها في كتبنا النجومية . وقد نبى المتأخرون على الأظلال مسائل كثيرة منها : الشكل الموسوم بالظلي مع فروعه ، وذكر بعضهم في تفسير هذا السجود أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملصقة بها على هيئة الساجد . وقوله { وهم داخرون } حال أخرى من الظلال . وإنما جمع بالواو والنون لأنهم أشبهوا العقلاء من حيث طاعتها لله سبحانه . وقال جار الله : اليمين والشمائل استعارة عن يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ . والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة } قال الأخفش : أي من الدواب : وأخبر بالواحد كما تقول : ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله .

وقال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض ، والوجه في تخصيص الدابة والملائكة بالذكر أنه علم من آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة له ، فبين في هذه الآية أن الحيوانات بأسرها أيضاً كذلك . ثم عطف عليها الملائكة إما لشرفها وإما لأنها ليست مما يدب ولكنها تطير بالجناحين ، وبين النوعين مغايرة لقوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] وعلى قاعدة الحكماء : وجه المغايرة أنها أرواح مجردة ليست من شأنها الحركة والدب . قال جار الله : ومن دابة يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً ، على أن في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما يدب الأناسيّ في الأرض ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الملائكة . وكرر ذكرهم على معنى والملائكة خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعدلهم ، ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهن ، وبقوله : { والملائكة } ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم انتهى كلامه . ثم شرع سبحانه في صفة الملائكة وذكر عصمتهم قال : { وهم لا يستكبرون يخافون } على أنه حال منهم أو بيان لنفي استكبارهم لأن الخوف أثره عدم الاستكبار . وقوله { من فوقهم } إما أن يتعلق ب [ يخافون } والمعنى يخافون ربهم أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإما أن يكون حالاً من الرب أي يخافونه غالباً قاهراً . وبحث الفوقية قد تقدم في الأنعام في قوله : { وهو القاهر فوق عباده } { الأنعام : 18 ] زعم بعض الطاعنين في عصمة الملائكة أنه تعالى وصفهم بالخوف وحصول الخوف نتيجة تجويز الإقدام على الذنوب ، وهب أنهم فعلوا كل ما أمروا به فمن أين علم أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟ والجواب عن الأوّل أنهم إنما يخافون من العذاب لقوله تعالى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] فمن هذا الخوف يتركون الذنب . وعن ابن عباس أن هذا الخوف خوف الإجلال كقوله : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] ولا ريب أنه كلما كانت معرفة جلال الله أتم كانت الهيبة والحيرة أعظم . وعن الثاني أن النهي عن الشيء أمر بتركه ، وفي الآية دلالة على أن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه أبى واستكبر وإنهم لا يستكبرون . وقد يستدل بها على أن الملك أفضل من البشر بل من كل المخلوقات وإلا لما خصهم بالذكر من بينها ، ولخلو بواطنهم وظواهرهم عن الأخلاق الذميمة وانغماس البشر في الدواعي الشهوية والغضبية ، ولهذا ورد في حقه

{ قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « ما منا إلا من قد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا » وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم « الشيخ في قومه كالنبي في أمته » فضل الشيخ على الشاب لتقادم عهده وطول مدته ، ولا شك أن الملائكة خلقوا قبل البشر بسنين متطاولة وقرون متمادية ، وأنهم سنوا الطاعة والعبودية ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها . وتمام البحث في هذه المسألة مذكور في أول سورة البقرة . وفي قوله : { ما يؤمرون } دلالة على أن الملائكة مكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد راجين خائفين .
ولما بين أن كل ما سواه في عالمي الأرواح والأجسام فإنه منقاد خاضع لجلاله وكبريائه أتبعه النهي عن الشرك قائلاً { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد } فسئل أن التثنية والواحد حيث كانا يدلان على العدد الخاص ، فما الفائدة في وصف إلهين باثنين ووصف إله بواحد؟ وأجيب بوجوه منها : قول صاحب النظم أن فيه تقديماً وتأخيراً أي لا تتخذوا اثنين إلهين . ومنها أنه كررت العبارة لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك . ومنها قول لأهل المعاني إن فائدة الوصف والبيان هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية ، ولهذا لو قلت : إنما هو إله ولم تؤكده بواحد سبق إلى الوهم إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية . وكيف لا يحتاج المقام إلى التوكيد والأثنينية منافية للإلهية لاستلزام تعدد الواجب كون كل منهما مركباً من جزأين ما به الاشتراك في الوجوب الذاتي ، وما به الامتياز ولكن التركيب يوجب الافتقار إلى البسائط والافتقار ينافي الوجوب . ودليل التمانع أيضاً يعين على المطلوب كما لو أراد أحدهما تحريك جسم معين وأراد الآخر تسكينه ، أو قوي أحدهما على مخالفة الآخر أو لا يقوى ، أو قدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر . ثم نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات قائلاً : { فإياي فارهبون } وقد مر مثله في أوّل « البقرة » ثم لما قرر وحدته وأنه يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه ذكر أن الكل ملكه فقال : { وله ما في السموات والأرض } فقالت الأشاعرة : ليس المراد من كونها لله أنها مفعولة لأجله ولغرض طاعته لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة لا لغرض الطاعة ، فالمراد أن كلها بتخليقه وتكوينه ومن جملة ذلك أفعال العباد ، ثم قال { وله الدين واصباً } فالدين الطاعة ، والواصب الدائم ، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها . ويقال للمريض وصب لكون ذلك المرض لازماً له . وانتصابه على الحال والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل . قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو الموت إلا الحق سبحانه ، فإن طاعته واجبة أبداً .

ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الملة أي وله الدين ذا كلفة ومشقة ولذلك سمي تكليفاً ، أو وله الجزاء سرمداً لا يزول يعني الثواب والعقاب . وقال بعض المتكلمين المحققين : قوله { وله ما في السموات والأرض } إشارة إلى احتياج الكل إليه في حال حدوثه . وقوله : { وله الدين } أي الانقياد { واصباً } إشارة إلى أن جميع الممكنات مفتقرة إلى فيض وجوده في حال وجوده لأن الصحيح أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرحج .
ثم أنكر أن يكون الممكن مع شدة افتقاره إليه يخشى غيره فقال { أفغير الله تتقون } ثم منّ عليهم بقوله : { وما بكم من نعمة فمن الله } « ما » بمعنى « الذي » وبكم صلته و { من نعمة } حال من الضمير في الجار ، أو بيان لما وقوله : { فمن الله } الخبر . وقيل : « ما » شرطية وفعل الشرط محذوف أي ما يكن . وقال جار الله : معناه أي شيء حل بكم أو اتصل بكم من نعمة فهو من الله ، قال الأشاعرة : أفضل النعم نعمة الإيمان والآية تفيد العموم فهو من نعم الله . والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإما دنيوية نفسانية أو بدنية أو خارجة كالسعادات المالية وغيرها ، وكل واحدة من هذه جنس تحتها أنواع لا حصر لها والكل من الله ، فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه . ثم بين تلون حال الإنسان بعد استغراقه في بحار نعم الله قائلاً { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } ما تتضرعون إلا إليه . والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة . { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون } قال جار الله : يجوز أن يكون الخطاب في قوله : { وما بكم } عاماً ، ويريد بالفريق فريق الكفرة وأن الخطاب للمشركين و { منكم } للبيان لا للتبعيض كأنه قال : فإذا فريق كافر وهم أنتم ، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله : { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } [ لقمان : 32 ] أقول : وأظهر الوجهين الأول والمعنى أن فريقاً منكم يبقى على ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى لله ، وفريقاً يتغير عن حاله فيشرك بالله ، ولعل هذه صفة لازمة لجوهر الإنسان ولهذا قال : { ليكفروا } كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ، ويجوز أن تكون لام العاقبة يعني عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفران . والمراد بقوله : { بما آتيناهم } كشف الضر وإزالة المكروه ، أو القرآن والشرائع ، أو جميع النعم الظاهرة والباطنة التي أنعم الله بها على الإنسان . ثم قال على سبيل التهديد وبطريقة الالتفات نظراً إلى أوّل الكلام { فتمتعوا فسوف تعلمون } عاقبة كفركم ومثله في « الروم » كما سيجيء ، وأما في « العنكبوت » فإنه قال :

{ ليكفروا بما أتيناهم وليتمتعوا } [ الآية : 66 ] بالعطف على القياس . ثم حكى نوعاً آخر من قبائح أعمال بني آدم فقال { ويجعلون لما لا يعلمون } الضمير الأوّل للمشركين والثاني قيل لهم وقيل للأصنام التي لا توصف بالعلم والشعور ، ورجح الأوّل بأن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز ، وبأن جمع السلامة بالعقلاء أليق ، وقد يرجح الثاني بأن الأوّل يفتقر إلى الإضمار كما لو قيل : ويجعلون لما لا يعلمون في طاعته نفعاً ولا في الإعراض عنه ضراً . وقال مجاهد : يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم { نصيباً } أو يجعلون لما لا يعلمون إلاهيتها ، أو السبب في صيرورتها معبودة . والمراد بجعل النصيب ما مر في « الأنعام » في قوله : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } [ الأنعام : 136 ] وقيل : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . عن الحسن : وقيل هم المنجمون الذين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون لزحل كذا وكذا من المعادن والنبات والحيوان ، وللمشتري كذا إلى آخر الكواكب . ثم أوعدهم الله بقوله : { تالله لتسئلن عما كنتم تفترون } على الله من أن له شريكاً وأن الأصنام أهل للتقرب إليها مع أنه لا شعور لها بشىء أصلاً ، أو المراد بالافتراء قولهم هذا حلال وهذا حرام من غير إذن شرعي ، أو قولهم أن لغير الله تأثيراً في هذا العالم . ومتى يكون هذا السؤال؟ قيل : عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل : في القبر . والأقرب أنه في الآخرة وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة كقوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [ الحجر : 29 ] في الأمم عامة .
قوله : { ويجعلون لله البنات } نوع آخر من القبائح وكانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله . قال الإمام فخر الدين الرازي : أظن أن ذلك لأن الملائكة يستترون عن العيون كالنساء ، ومنه إطلاق التأنيث على الشمس لاستتارها عن أن تدرك بالأبصار لضوئها الباهر ونورها القاهر . { سبحانه } تنزيه لذاته عن نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم . ومحل « ما » في قوله { ولهم ما يشتهون } إما الرفع على الابتداء ، أو النصب أي وجعلوا لهم ما يشتهون يعني البنين . وأبى الزجاج جواز النصب وقال : لأن العرب لا تقول جعل له كذا وهو يعني نفسه وإنما تقول جعل لنفسه كذا . فلو كان منصوباً لقيل : و « لأنفسهم ما يشتهون » . ثم ذكر غاية كراهتهم للإناث التي جعلوها لله تعالى فقال : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه } أي صار { مسودّاً } ويحتمل أن يكون استعمل « ظل » لان وضع الحمل يتفق بالليل غالباً فيظل نهاره مسود الوجه { وهو كظيم } مملوء غماً وحزناً وغيظاً على المرأة . قال أهل المعاني : جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم والكآبة لأن الإنسان إذا قوي فرحه انبسط الروح من قلبه ووصل إلى الأطراف ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فاستنار الوجه وأشرق ، وإذا قوي غمه انحصر الروح في داخل القلب ولم يبق منه أثر قويّ على الوجه فيتربد الوجه لذلك ويصفر أو يسود { يتوارى } يستخفي { من القوم من سوء ما بشر به } من أجل سوء المبشر به ولم يظهر أياماً يحدث نفسه ويدبر فيها ماذا يصنع بها وذلك قوله : { أيمسكه } أي يحبسه { على هون } ذل وهوان .

والظاهر أن هذا صفة المولود أي يمسكها على هوان منه لها . وقال عطاء عن ابن عباس : إنه صفة الأب أي يمسكها مع الرضا بهوان نفسه { أم يدسه في التراب } أي بيده . والدس إخفاء الشيء في الشيء . وإنما ذكر الضمير في { يمسكه } و { يدسه } باعتبار ما بشر به . كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، ومنها من يذبحها . وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية ، وأخرى خوفاً من الفقر والفاقة ولزوم النفقة . روي أن رجلاً قال : يا رسول الله والذين بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام وقد كانت لي في الجاهلية ابنة وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها ، فلما انتهيت إلى وادٍ بعيد القعر ألقيتها فقال : يا أبتي قتلتني . فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء . فقال صلى الله عليه وسلم : ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار . ولا ريب أن الأنثى التي هذا محلها عندهم كانت في غاية الكراهية والتنفير ومع ذلك أثبتوها لله المتعالي عن الصاحبة والولد فلذلك قال : { ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة } ولهذا يقدمون على القتل والإيذاء { مثل السوء } وصفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق والتزام الشح البالغ { ولله المثل الأعلى } وهو أضداد صفات المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل { وهو العزيز } الذي لا يغالب فلا يستضر بأن ينسب إليه ما لا يليق به { الحكيم } في خلق الذكور والإناث أو في الوعيد على قتل البنات . قال القاضي : إن هؤلاء المشركين استحقوا الذم بإضافة النبات إلى الله وإنه أسهل من إضافة الفواحش والقبائح كلها إليه وهذا شأن المجبرة . وأجابت الأشاعرة بأنه ليس كل ما قبح منافي العرف فإنه يقبح من الله . ألا ترى أن رجلاً لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن وتقوية الشهوة فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل الخلق ، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية ، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله تعالى فعلى جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية .

أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى والله أعلم .
التأويل : أن يخسف الله بهم أرض البشرية ودركات السفل أو يأتيهم العذاب بالمكر والاستدراج من حيث لا يشعرون ، أنه من أين أتاهم من قبل الأعمال الدنيوية أو من قبل الأعمال الأخروية أو يأخذهم في تقلبهم من أعمال الدنيا إلى أعمال الآخرة بالرياء ، ومن أعمال الآخرة إلى أعمال الدنيا بالهوى { أو يأخذهم على تخوّف } تنقص من مقاماتهم ودرجاتهم بلا شعورهم { فإن ربكم لرءُوف } بالعباد إذ أعطاهم حسن الاستعداد { رحيم } حين لا يأخذهم بعد إفساد الاستعداد في الحال لعلهم يتوبون في المآل فيقبل توبتهم بالفضل والنوال . ما خلق الله من شيء وهو عالم الأجسام فإن عالم الأرواح خلق من لا شيء يتفيأ ظلاله ، فإن الأجسام ظلال الأرواح فتارة تميل بعمل أهل السعادة إلى أصحاب اليمين ، وأخرى تميل بعمل أهل الشقاء إلى أصحاب الشمال { سجداً لله } منقادين لأمره مسخرين لما خلقوا لأجله . وإنما وحد اليمين وجمع الشمال لكثرة أصحاب الشمال ، وسجود كل موجود يناسب حاله كما أن تسبيح كل منهم يلائم لسانه { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } أراد بالإله الآخر الهوى لقوله صلى الله عليه وسلم : « ما عبد إله أبغض على الله من الهوى » { ويجعلون } يعني أصحاب النفوس والأهواء { لما لا يعلمون } لمن لا علم لهم بأحوالهم { نصيباً } بالرياء { مما رزقناهم } من الطاعات { تالله ليسئلن عما كنتم تفترون } والسؤال عن المعاملات إنما هو بتبديل الصفات وتغير الأحوال من سمة السعادة إلى سمة الشقاوة وبالعكس { ويجعلون لله البنات } أظن أن البنات إشارة إلى صفات فيها نوع نقص كالتجسيم والتشبيه والحلول والاتحاد ، ونسبته إلى الظلم والجور والتعطيل وعدم الاستقلال بالتأثير وغير ذلك مما لا يليق بغاية جلاله ونهاية كماله فلهذا قال سبحانه : { ولهم ما يشتهون } يعني أن كل أحد يجب أن يوصف بغاية الكمال ويتغير وجهه إذا نبه على عيب فيه ولا يعلم أن مطلق الكمال لا يليق إلا بالواجب بالذات ، ونفس الإمكان نقصان يستلزم جميع النقصانات والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

القراآت : { لا جرم } في المد مثل { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] { مفرطون } بكسر الراء المشددة : يزيد { مفرطون } بكسر الراء المخففة : نافع وقتيبة . الباقون بفتحها مخففة . { نسقيكم } بفتح النون : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد . الآخرون بضمها .
الوقوف : { مسمى } ج للظرف مع الفاء { ولا يستقدمون } 5 { الحسنى } ط { وقيل علي } لا ثم يبدأ بجرم وهو تكلف . { مفرطون } 5 { أليم } 5 { فيه } لا للعطف على موضع { لتبين } تقديره إلا تبياناً وهدى { يؤمنون } 5 { موتها } ط { يسمعون } 5 { لعبرة } ط لأنه لو وصل اشتبه ما بعده بالوصف { للشاربين } 5 { حسناً } ط { يعقلون } 5 { يعرشون } 5 ج للعطف { ذللاً } ط للعدول { للناس } ط { يتفكرون } 5 { شيئاً } ط { قدير } 5 .
التفسير : لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وفظيع قولهم بين غاية كرمه وسعة رحمته حيث إنه لا يعاجلهم بالعقوبة فقال : { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } الآية . فزعم بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء أنه أضاف الظلم إلى ضمير الناس والأنبياء من جملة الناس فوجب أن يكونوا ظالمين عاصين ويؤكد هذا قوله : { ما ترك عليها من دابة } فإنه لو لم يصدر من الأنبياء ذنب لم يكن لإفنائهم وجه وحينئذ لم يصدق أنه لم يبق على الأرض واحد . والجواب لا نسلم عموم الناس في الآية لقوله سبحانه في موضع آخر { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ لقمان : 32 ] ولا ريب أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين ، فإذن المراد بالناس إما كل العصاة الذين استحقوا العقاب ، أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين . وأما قوله : { من دابة } فعن ابن عباس أنه أراد من مشرك يدب عليها نظيره قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] ولو سلم أن المراد بها كل من يدب عليها فلعل الهلاك في حق الظلمة يكون عذاباً وفي غيرهم امتحاناً فقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام . وأيضاً من المعلوم أنه لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العذاب ، فلو أهلكوا لبطل نسلهم ولأدى إلى إفناء الناس ، بل الدواب كلها لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم . عن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . وقيل : لو يؤاخذهم لانقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت وفي انقطاع النبت فناء الدواب . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الظلم والمعاصي ليست من أفعال الله تعالى وإلا لم يؤاخذهم بها فرضاً ، ولم يضف الظلم إليهم ولم يذمهم على ذلك . وفي قوله : { بظلمهم } دليل على أن الظلم هو المؤثر في العقاب ، فإن الباء للعلية .

وجواب الأشاعرة معلوم وهو أنه لا يسأل عما يفعل ، وأيضاً المعارضة بالعلم والدواعي ووجوب انتهاء الكل إليه . قال بعض الأصوليين : الأصل في المضار الحرمة لأن الضرر لا يجوز أن يكون مشروعاً ابتداء بالإجماع ولقوله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] { يريد الله بكم اليسر } [ البقرة : 185 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » في الإسلام « ملعون من ضر مسلماً » ولا أن يكون مشروعاً على وجه يكون جزاء عن جرم سابق بهذه الآية لأن كلمة « لو » وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره . فالآية تقتضي أنه تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة كما هو المشاهد إذا ثبت هذا الأصل فنقول : إذا وقعت حادثة مشتملة على المضار فإن وجدنا نصاً على كونها مشروعة قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا قضينا عليها بالحرمة بناء على هذا الأصل . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الضرر مشروعاً على وجه يقع جزاء عن جرم سابق والآية لا تنافي ذلك لأنها لا تدل إلا على أنه سبحانه لا يؤاخذ بكل ظلم . أما على أنه لا يؤاخذ ببعض أنواع الظلم فلا ، دليلة قوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى : 30 ] ومنهم من قال : بناء على القاعدة المذكورة إن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعاً في حقه لأن المنع منه ضرر والضرر غير مشروع ، وكل ما يكرهه الإنسان لزم أن يكون محرماً لأن وجوده ضرر وأنه غير مشروع . فالذي يتمسك به في إثبات الأحكام من القياس إما أن يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها والأول باطل ، لأن هذا الأصل يغني عنه ، وكذا الثاني لأن النص راجح على القياس . ولقائل أن يقول : توارد الأدلة على المدلول الواحد غير ممتنع . أما قوله : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه يريد أجل القيامة لأن معظم العذاب يوافيهم يومئذ . وقيل : أراد منتهى العمر لأن المشركين يؤاخذون بالذنوب إذا خرجوا من الدنيا ، وباقي الآية قد مر تفسيرها في أوائل سورة الأعراف .
واعلم أنه سبحانه قال في هذه السورة { ما ترك عليها من دابة } وفي سورة الملائكة { ما ترك على ظهرها } [ فاطر : 45 ] فالهاء كناية عن الأرض ولم يتقدم ذكرها ههنا والعرب تجوّز ذلك في كلمات لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع منها الأرض والسماء : « فلان أفضل من عليها وأكرم من تحتها » ، ومنها الغداة « إنها اليوم لباردة » . ومنها الأصابع يقول : « والذي شقهن خمساً من واحدة » يعني الأصابع من اليد . وإنما لم يذكر الظهر في هذه السورة لئلا يلتبس بظهر الداب فكثيراً ما يستعمل الظهر بمعنى الدابة بخلاف سورة « الملائكة » فإنه قد تقدم ذكر الأرض في قوله :

{ أو لم يسيروا في الأرض } [ الآية : 44 ] وفي قوله : { ولا في الأرض } [ الآية : 44 ] فلم يكن ملتبساً . ويمكن أن يقال : لما قال ههنا { بظلمهم } لم يقل : { على ظهرها } وحين قال هنالك { بما كسبوا } قال : { على ظهرها } احترازاً عن الجمع بين الظاءين لأنها تقل في الكلام وليست لأمة من الأمم سوى العرب ، فلم يجمع بينهما في شرطية واحدة . ثم عاد إلى حكاية كلمتهم الحمقاء فقال : { ويجعلون لله ما يكرهون } لأنفسهم من البنات ولا يبعد أن يندرج فيه سائر ما يكرهون من الشركاء في الرياسة ومن الاستخفاف والتهاون برسلهم ورسالتهم ، وأنهم يجعلون أرذل أموالهم لله وأكرمها للأصنام . وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة ، وإذا قال هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له ، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ ثم قال : { وتصف ألسنتهم الكذب } قال الفراء والزجاج : أبدل منه قوله : { أن لهم الحسنى } عن مجاهد أن الحسنى البنون كانت قريش يقولون لله البنات ولنا البنون . وقال غيره : هي الجنة أي إنهم مع جعلهم لله ما يكرهون حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله ، وأنهم يفوزون برضوان الله بسبب هذا القول زعماً منهم أنهم على الدين الحق والمذهب الحسن . وكيف يحكمون بذلك وكانوا منكرين للقيامة؟ الجواب أنه كان فيهم من يقر بالبعث ولذلك كانوا يربطون البعير على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ظناً منهم أن الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه ، وبتقدير أنهم كانوا منكرين فلعلهم قالوا إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً في دعوى الحشر والقيامة فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه نظيره { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [ فصلت : 50 ] ومن الناس من رجح هذا القول لأنه تعالى ردّ عليهم بعد ذلك بقوله : { لا جرم أن لهم النار } قال الزجاج : لا ردّ لقولهم أي ليس الأمر كما وصفوا . جرم أي كسب ذلك القول أن لهم النار ف « أنَّ » مع ما بعده في محل النصب لوقوع الكسب عليه . وقال قطرب : « أن » في موضع رفع والمعنى حق أن لهم الافتراء على الله . وجوّز أبو علي الفارسي أن يكون من أفرط أي صار ذا فرط مثل أجرب أي صار ذا جرب ، ومن قرأ بفتحها مخففة فهو من أفرطت فلاناً خلفى إذا خلفته ونسيته ، فالمعنى أنهم متروكون في النار منسيون . ومن قرأ بكسر الراء المشددة فهو من التفريط في الطاعات .

وقرىء بفتح الراء المشددة من فرّطته في طلب الماء إذا قدمته وجاء أفرطته بمعناه أيضاً ، فالمراد أنهم مقدمون إلى النار معجلون إليها .
ثم بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد صدر عن سائر الأمم فقال : { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } أي رسلاً { فزين لهم الشيطان أعمالهم } قالت المعتزلة : لو كان خالق الأعمال هو الله تعالى فما معنى تزيين الشيطان ، ومن أي وجه توجه عليه الذم ، وأن خالق ذلك العمل أجدر بأن يكون ولياً لهم من الداعي إليه؟ وأجيب بأن الوسائط معتبرة وانتهاء الكل إليه ضروري . قال جار الله : { فهو وليهم اليوم } حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها ، والمراد فهو وليهم أي قرينهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا أو اليوم عبارة عن يوم الآخرة الذي يعذبون فيه في النار ، فهو حكاية للحال الآتية ، والولي الناصر أي هو ناصرهم يوم القيامة فقط ، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلاً ، وإذا كان الناصر منحصراً فيه لزم أن لا نصرة بالضرورة . قال : ويجوز أن يرجع الضمير في { وليهم } إلى مشركي قريش وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم ، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم . ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة وإزاحة العلة فقال : { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } كالشرك والتوحيد والجبر والقدر والإقرار بالبعث والإنكار له ، وكتحريم الأشياء المحللة كالبحيرة والسائبة وتحليل الأشياء المحرمة كالميتة والدم . { وهدى ورحمة } انتصبا على أنهما مفعول لهما ولا حاجة إلى اللام لأنهما فعلا فاعل ، والفعل المعلل بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ولهذا دخل عليه اللام ، قال الكعبي : وصف القرآن بكونه هدى ورحمة { لقوم يؤمنون } لا ينافي كون كذلك في حق الكل . وخص المؤمنون بالذكر من حيث إنهم قبلوه وانتفعوا به . ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقال : { والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } وفي العنكبوت : { من بعد موتها } [ الآية : 63 ] لأن هنالك سؤال تقرير والتقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف ب « من » للاستيعاب . وأيضاً حذف « من » في هذه السورة موافقة لقوله عما قريب : { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } وإنما حذف « من » هنا بخلاف ما في الحج لأنه أجمل الكلام في هذه السورة فقال : { والله خلقكم ثم يتوفاكم } وأطنب في الحج فقال : { خلقناكم من تراب ثم من نطفة } [ الحج : 5 ] الآية . فاقتضى الإيجاز الحذف والإطناب الإثبات { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } سماع تأمل وتدبر فمن لم يسمع متدبراً فكأنه أصم ، ثم استدل بعجائب أحوال الحيوانات قائلاً : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه } وفي سورة المؤمنين :

{ مما في بطونها } [ الآية : 21 ] فذكر النحويون أن الأنعام من جملة الكلمات التي لفظها مفرد ومعناها جمع كالرهط والقوم والنعم . فجاز تذكيره حملاً على اللفظ وتأنيثه حملاً على المعنى . قال المبرد : هذا شائع في القرآن قال تعالى : { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } [ الأنعام : 78 ] بمعنى هذا الشيء الطالع . وقال : { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره } [ عبس : 11 ] أي ذكر هذا الشيء . وعند سيبويه الأنعام من الأسماء المفردة الواردة على أفعال . وجوّز في الكشاف أن يكون تأنيثه على أنه تكسير نعم . وقيل : إن الأنعام بمعنى النعم لأن الألف واللام تلحق الآحاد بالجمع والجمع بالآحاد .
قلت : ما ذكره الأئمة حسن إلا أنه لا يقع جواباً عن التخصيص . ولعل السر فيه أن الضمير في هذه السورة يعود إلى البعض وهو الإناث ، لأن اللبن لا يكون للكل فالتقدير : وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ، وأما في « المؤمنين » فإنه لما عطف عليه ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض وهو قوله : { ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها } [ المؤمنون : 22 ] لم يتحمل أن يكون المراد به البعض فأنث ليكون نصاً على أن المراد بها الكل . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إذا استقر العلف فى الكرش صار أسفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه لبناً خالصاً فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث كما هو فذاك هو قوله تعالى : { من بين فرث ودم لبناً خالصاً } لا يشوبه الدم ولا الفرث . وأنكر الأطباء هذا القول لأنه على خلاف الحس والتجربة . أما الحس فلأن الأنعام تذبح ذبحاً متوالياً ولا يرى في كرشها دم ولا لبن ، وأما التجربة فلأن الدم لو كان في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم وليس كذلك ، بل الحق أن الحيوان إذا تناول العلف حصل له في معدته أو كرشه هضم أوّل ، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء . ثم الذي يحصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وذلك هو الهضم الثاني . ويكون مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية . أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة . وأما الدم فإنه يدخل في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث . وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله الدم هناك إلى صورة اللبن ، وإنما اختص هذ المعنى بالحيوان الأنثى لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به ، والذكر من كل حيوان أسخن واجف ، والأنثى أبرد وأرطب لأن بدن الأنثى يحتاج إلى مزيد رطوبة لتصير مادة لتولد الولد ويتسع بدنها له .

ثم إن تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في الرحم تنصب بعد انفصال الجنين إلى الثدي لتصير مادة لغذاء الطفل . واعلم أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل فهذا الانطباق والانتفاح بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلى بتقدير الفاعل الحكيم . وأيضاً إنه أودع في الكبد قوّة جاذبة للأجزاء اللطيفة التي في ذلك المأكول والمشروب طابخة لها حتى تنقلب دماً دون الأجزاء الكثيفة وفي المعدة بالعكس ، وأودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بفعله الخاص به لا يمكن إلا بتدبير العليم الخبير . وكذا الكلام في انصباب مادة اللبن إلى الثدي في وقت يحتاج الطفل إلى الغذاء وتوزعها على جميع البدن في غير ذلك الوقت . ثم إنه تعالى أحدث في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة يخرج اللبن الخالص منها وقت المص أو الحلب فهي بمنزلة المصفاة للبن يخرج اللطيف منها ويبقى الكثيف ، فبهذا الطريق يصير خالصاً سائغاً للشاربين أي سهل المرور في الحلق حتى قيل إنه لم يغص أحد باللبن قط . ومن عجائب حال اللبن اجتماعه من أجسام مختلفة الطبائع مع أنها واحدة في الحس . فمنها الدهن وهو حار رطب ، ومنها الأجزاء المائية وهي باردة رطبة ، ومنها الجبن وهو بارد يابس وكلها حاصلة من عشب واحد . ثم إنه تعالى ألهم الطفل الصغير مص الثدي عند انفصاله من الأم وكل ذلك دليل على عناية كاملة ورحمة شاملة وعلم تام وقدرة باهرة . قال المحققون : في تقليب العشب في هذه الأطوار إلى أن يصير لبناً خالصاً سائغاً دليل على أنه تعال قادر على تقليب الإنسان في أطواره إلى أن يصير مستعداً للبقاء الأبدي واللقاء السرمدي . قال جار الله : و « من » في { مما في بطونه } للتبعيض و « من » في قوله : { من بين فرث } لابتداء الغاية فهو صلة { لنسقيكم } كقولك : « سقيته من الحوض » . وجوز أن يكون حالاً من قوله : { لبناً } مقدماً عليه فيتعلق بمحذوف أي كائناً من بين كذا وكذا . وإنما قدم لأنه موضع العبرة فهو جدير بالتقديم . قالت الشافعية : ليس بمستنكر أن يسلك المني مسلك البول وهو طاهر كما أنه يخرج اللبن من بين الفرث والدم طاهراً .
وأما قوله : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } فإما أن يتعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب إذا عصرت وحذف لدلالة ما تقدم عليه فيكون قوله : { تتخذون منه } بياناً وكشفاً عن كنه حقيقة الاستقاء ، وإما أن يتعلق ب { تتخذون } فيكون قوله : { منه } تكريراً للظرف لأجل التأكيد نظيره قولك : « زيد في الدار فيها » وإنما ذكر الضمير في { منه } لأنه يعود إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كأنه قيل : ومن عصير ثمرات النخيل ومن عصير الأعناب تتخذون منه ، واحتمل أن يكون { تتخذون } صفة موصوف محذوف كقوله :

{ وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] أي وما منا إلا ملك فالتقدير : ومن ثمرات النخيل ومن الأعناب ثمر . { تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر وهو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً . وعلى هذا التفسير ففي الآية قولان : أحدهما - ويروى عن الشعبي والنخعي - أنها منسوخة فإن السورة مكية وتحريم الخمر نزل في المائدة وهي مدنية ، وثانيهما أنها جامعة بين العتاب والمنة . وذكر المنفعة لا ينافي الحرمة على أن في الآية تنبيهاً على الحرمة أيضاً لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب في السكر أن لا يكون رزقاً حسناً لا بحسب الشهوة بل بحسب الشريعة . هذا ما عليه الأكثرون . وقيل : السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر . واحتج بأن الآية دلت على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ، ودل الحديث على أن الخمر حرام لعينها وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر ، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ . ويحكى عن أبي علي الجبائي أنه صنف كتاباً في تحليل النبيذ ، فلما آخذت منه السن العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوّى به فأبى فقيل له : فقد صنفت في تحليله . فقال : تناولته أيدي الشيطان فقبح عند ذوي المروءات والأقدار . وقيل : السكر الطعم قاله أبو عبيدة . وقيل : السكر والرزق الحسن واحد كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن . ومن أعجب أحوال الحيوان حال النحل المناسب عسلها اللبن في موافقة اللذة وفي الخروج من البطن فلذلك أفردها بالذكر عقيب ذلك قائلاً : { وأوحى ربك } يا محمد أو يا إنسان إلى النحل أي ألهمها وعلمها على وجه هو أعلم به ، ولقد حق لغريب أمرها وعجيب صنعتها أن يطلق عليه لفظ الإيحاء وذلك أنها تبني البيوت المسدسة من الأضلاع المتساويات التي لا يمكن للعقلاء تركيب أمثالها إلا بالمساطر والفرجارات ، وقد علم من الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بما سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بينها فرج خالية ضائعة .

فاهتداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الدقيقة من الأعاجيب . ومن غرائب أمرها أن لها رئيساً هو أعظم جثة من الباقين وهم يخدمونه ويتبعون نهيه وأمره ، ومنها أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول والملاهي وآلات الموسيقى وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها . وبالجملة فإن غرائب هذا الحيوان أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تخفى ، والغرض أن امتياز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على الذكاء والكياسة حالة شبيهة بالوحي بمعنى الإلهام . قال الزجاج : يجوز أن يقال سميت نحلاً لأنه تعالى نحل الناس العسل بواستطها وهي مؤنثة في لغة أهل الحجاز ولذلك قال تعالى : { أن اتخذي } وهي « أن » المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول .
ومعنى « من » في قوله : { من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون } أي يبنون ويرفعون البعضية لأنها لا تبني بيوتاً في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولكنها تبني في مساكن توافقها وتليق بها وكثيراً ما يتعهدها الناس وتصلح أحوالها { ثم كلي من كل الثمرات } أي بعضاً من كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها { فاسلكي سبل ربك } أي الطريق التي ألهمك وفهمك في عمل العسل { ذللاً } جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله ذللها لها وسهلها عليها ، أو من الضمير في { فاسلكي } أي وأت ذلك منقادة لما أمرت به غير ممتنعة ، أو المراد فاسلكي ما أكلت في سبل ربك المذللة أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المن عسلاً وهي أجوافك ومنافذ مأكلك ، أو أراد أنك إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها . فقد يحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة . ويجوز أن يريد بقوله : { ثم كلي } اقصدي أكل الثمرات { فاسلكي } في طلبها من مظانها { سبل ربك } . واعلم أن ظاهر قوله : { أن اتخذي } { ثم كلي } { فاسلكي } أمر . فمن الناس من قال لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول يتوجه بها عليها من الله أمر ونهي ، ومنهم من أنكر ذلك وقال : المراد أنه سبحانه خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال . وتمام الكلام فيه سيجيء في سورة النمل . أما حدوث العسل من النحل فالأصح عند الأطباء أن الله تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد يكون كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة وهي الترنجبين ونحوه ، وقد يكون قليلاً متفرقاً على الأوراق والأزهار وهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل فتلتقط تلك الذرّات بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت مرة أخرى وذهبت بها ووضعتها في بيوتها ادخاراً لنفسها ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء محسوس من تلك الأجزاء الطلية فذاك هو العسل .

ولا يبعد أن يحصل لتلك الأجزاء في أفواهها نوع هضم وتغير ونضج لخاصية فيها فلذلك قال : { يخرج من بطونها } أي من أفواهها . ومن الناس من زعم أن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرية ما شاءت ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنه عسلاً ، ثم إنه يقيء مرة أخرى فذلك هو العسل . قال العقلاء : والقول الأول أقرب إلى التجربة والقياس : فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل محدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا العسل . وأيضاً النحل إنما تغتذي بالعسل ولهذا يترك منه بقية في بيوتها بعد الأشتيار . ولكن قوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب } أي ما يشرب يعضد القول الثاني .
وقوله : { مختلف ألوانه } أي منه أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف الأماكن وأمزجة النحل واختلاف الأزهار والأعشاب التي ترعى فيها . ثم وصفه بقوله : { فيه شفاء الناس } لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ولذا يقع في أكثر المعاجين . وتنكير { شفاء } لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء فإن كل دواء كذلك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه . فقال : اسقه العسل . فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع . فقال : اذهب فاسقه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطن أخيك . فسقاه فشفاه الله فبرأ كأنما نشط من عقال . قال أهل المعاني : إنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنه سيظهر نفعه فلهذا قال : كذب بطن أخيك حين لم يظهر النفع في الحال . وعن عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل . واعلم أنه سبحانه ختم الآية الأولى بقوله : { لقوم يسمعون } لأن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بسببه أمر مشاهد محسوس فمنكر ذلك فاقد الحس ، وإنما خص بالذكر حس السمع لأن لفظ القرآن المنبه على هذه الآية مسموع . وختم الآية الثانية بالعقل لأنه يحتاج إلى نوع تدبر فالمعرض عنه فاقد العقل دون الحس . وختم الثالثة بالتفكر لأن أمر النحل وقصتها العجيبة من انقيادها لأميرها واتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق منا ، ثم تتبعها الزهر والطل ثم خروج ذلك من بطونها لعاباً أو قيئاً يقتضي فكرة بليغة . ولما ذكر بعض عجائب أحوال الحيوان أتبعه عجيب خلق الإنسان فقال : { والله خلقكم } ولم تكونوا شيئاً { ثم يتوفاكم } عند انقضاء آجالكم { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } إلى أخسه وأحقره .

عن علي رضي الله عنه هو خمس وسبعون سنة . وعن قتادة تسعون سنة . وقال السدي : هو حالة الخرف دليله قوله : { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفل في النسيان وعدم التذكر وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئاً أي لا يعلم زيادة علم على علمه . وقيل : إن الرد إلى أرذل العمر ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب العمر إلا كرامة على الله تعالى ونظير الآية قوله : { ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ التين : 5 ، 6 ] .
واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع : أوّلها سن النشوء ، وثانيها سن الوقوف وهو سن الشباب ، وثالثها الانحطاط الخفي اليسير وهو سن الكهولة ، ورابعها سن الانحطاط الظاهر وهو سن الشيخوخة . وذكر الأطباء وأصحاب الطبيعي أن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث وهما جوهران حارّان رطبان ، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلت رطوبته فلا يزال في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما في العضو من الرطوبة حتى يتصلب ويظهر العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء ، فإذا تم تكوين البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم وتكون رطوبة البدن بعد زائدة على حرارته ، فتكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء وهو سن النشو وغايته إلى ثلاثين أو إلى خمس وثلاثين سنة ، ثم تصير رطوبات البدن أقل وتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر وهو سن الوقوف والشباب وغايته وحينئذ يظهر النقصان قليلاً إلى ستين سنة وهي سن الكهولة ، ثم يظهر جداً إلى تمام مائة وعشرين سنة . قال المتكلمون : هذا التعليل ضعيف لأن رطوبات البدن في حال كونه منياً ودماً كانت كثيرة ولذلك كانت الحرارة الغريزية مغمورة ، ثم إنها مع ذلك كانت قوية على تحليل أكثر الرطوبات حتى نقلتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظماً وغضروفاً وعصباً ورباطاً ، فعندما تولدت الأعضاء وكمل البدن وقلت الرطوبات وجب أن تقوى الحرارة الغريزية قوّة أزيد مما كانت قبل ذلك فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أكثر من تحليلها قبل تولد البدن وليس الأمر كذلك ، لأنه قبل تولد البدن انتقل جسم الدم والمني إلى أن صار عظماً وعصباً ، أما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشيره ، فعلمنا أن البدن إنما يتولد بتدبير قادر حكيم لا لأجل ما قالوه . وبوجه آخر الحرارة الحاصلة في بدن الإنسان الكامل الغريزة إما أن تكون هي عين ما كان حاصلاً في جوهر النطفة ، أو صارت أزيد مما كانت . والأول باطل لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطقة كان بمقدار جرم النطفة ، فإذا كبر البدن وجب أن لا يظهر منه في هذا البدن تأثير أصلاً .

وأما الثاني ففيه تسليم أن الحرارة تتزايد بحسب تزايد الجثة ، ولا ريب أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة فيلزم أن لا ينهدم البدن الحيواني أبداً وليس كذلك . وبوجه ثالث هب أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت حتى ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان؟ قالوا : السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تجفيف الرطوبة الغريزية فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تفي بحفظ الحرارة الغريزية ، وإذا حصلت هذه الحال ضعفت الحرارة الغريزية أيضاً لأن الرطوبات الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية ، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي فينتهي الأمر إلى أن لا يبقى من الرطوبة شيء ، لأن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية فيلزم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى فتنطفىء الحرارة أيضاً ويحصل الموت . وأورد عليهم أن الحرارة إذا أثرت في تجفيف الرطوبة وقلتها فلم لا يجوز أن تورد القوة الغاذية بدلها؟ فأجابوا بأن القوة الغاذية لا تفي بإيراد البدل . قال الإمام فخر الدين الرازي راداً عليهم . إن القوة الغاذية إنما تعجز عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة وذلك ممنوع ، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية ، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل وهذا دور محال ، فيثبت أن إسناد هذه الأحوال إلى الطبائع والقوى غير ممكن فيعين إسنادها إلى القادر المختار الحكيم ، ولهذا ختم الآية بقوله : { إن الله عليم قدير } يعلم مقادير المصالح والمفاسد ويقدر على تحصيلها كما يريد . وأما الطبيعة فجاهلة عاجزة . قلت : لا شك أن نسبة هذه الأمور إلى مجرد الطبيعة كفر وجهل ، لأنها ليست واجبة الوجود بالاتفاق ولكن إنكار القوى والطبائع أيضاً بعيد عن الإنصاف . والحق أنها وسائط وآلات لما فوقها من المبادىء والعلل إلى أن ينتهي الأمر إلى مسبب الأسباب ومبدأ الكل ، وقد ثبت عند الحكيم أن كل قوة جسمانية فإنها متناهية الأثر فلا محالة تعجز القوة الغاذية آخر الأمر عن إيراد بدل ما يتحلل فيحل الأجل بتقدير العليم القدير .
التأويل : { ولو يؤاخذ الله } النفوس الناسية { بما ظلمت } على القلوب والأرواح { ما ترك على } أرض البشرية صفة من صفات الحيوانية . ولكن يؤخر أهل السعادة إلى أجلهم وهو إفناء صفات النفس بصفات القلب والروح في حينه وأوانه ، ويؤخر أهل الشقاء إلى أوان العكس من ذلك . { ويجعلون لله ما يكرهون } أي يعاملون الله بأعمال يكرهون أن يعاملهم بها غيرهم وتسوّل لهم أنفسهم أن تلك المعاملة حسنة . والله أنزل من سماء العزة ماء بيان القرآن فأحيا به أرض قلوب الأمم بعد موتها باختلافهم على أنبيائهم { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } كلام الله من الله { وإن لكم في الأنعام } النفوس { لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث } الخاطر الشيطاني { ودم } الخاطر النفساني { لبناً خالصاً } من الإلهام الرباني { سائغاً للشاربين } جائزاً لأهل هذا الشرب { ومن ثمرات } نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات { تتخذون منه سكراً } هو ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران ، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأحوال رياء وسمعة وشهوة .

والرزق الحسن ما يكون منه شرب القلب والروح فيزداد منه الشوق والمحبة والصدق والطلب :
شربت الحب كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت
{ وأوحى ربك إلى النحل } إشارة إلى حال السالك السائر { أن اتخذي من الجبال بيوتاً } أراد الاعتزال عن الخلق والتبتل إلى الله . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء أسبوعاً وأسبوعين وشهراً ، ولا بد أن يتنظف كما أن النحل يحترز عن التلوث . وفيه أن نحل الأرواح اتخذت من جبال النفوس بيوتاً ومن شجر القلوب ومما يعرشون من الأسرار { ثم كلي من الثمرات فاسلكي سبل ربك } نظير قوله : { كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً } [ المؤمنون : 51 ] فثمرات البدن الأعمال الصالحات ، وثمرات النفوس الرياضيات ومخالفات الهوى ، وثمرات القلوب ترك الدنيا والتوجه إلى المولى ، وثمرات الأسرار شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله ، وهذه كلها أغذية نحل الأرواح فإنها بقوّة هذه الأغذية تسلك السبل إلى أن تصل إلى المقعد الصدق عند مليكها ، فيكون غذاؤها مكاشفات الحق ومشاهداته فتبيت عند ربها يطعمها ويسقيها ، فحينئذ يخرج من بطونها شراب الحكم والمواعظ مختلف الألوان من المعاني والأسرار والدقائق والحقائق { فيه شفاء } للقلوب الناسية القاسية عن ذكر الله { والله خلقكم } أخرجكم من العدم إلى الوجود { ثم يتوفاكم } عن الوجود المجازي { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو مقام الفناء في الله { لكيلا يعلم } بعد فناء علمه شيئاً يعلمه بل يعلم بربه الأشياء كما هي والله أعلم بالصواب .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

القراآت : { تجحدون } بتاء الخطاب : أبو بكر وحماد . الآخرون على الغيبة . { من بطون إمهاتكم } ونحوها بكسر الهمزة وفتح الميم : عليّ . { إمهاتكم } بكسرهما : حمزة . الباقون بضم الهمزة وفتح الميم . { ألم تروا } على الخطاب : ابن عامر وحمزة وخلف وسهل ويعقوب { ظعنكم } بسكون العين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر الباقون بفتحها .
الوقوف : { في الرزق } ج لاختلاف الجملتين مع الفاء { سواء } ط { يجحدون } 5 { من الطيبات } ط { يكفرون } 5 لا للعطف { ولا يستطيعون } 5 ج لابتداء النهي مع فاء التعقيب { الأمثال } ط { لا تعلمون } 5 { وجهراً } ط { هل يستوون } ط { الحمد لله } ط لأن « بل » للإعراض عن الأول . { لا يعلمون } 5 { مولاه } لا لأن الجملة بعده صفة أحدهما { بخير } ط ثم لا وقف إلى مستقيم لاتحاد الكلام { والأرض } ط { أقرب } ط { قدير } 5 { شيئاً } لا للعطف { والأفئدة } لا لتعلق { لعلكم تشكرون } 5 { السماء } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار { إلا الله } ط { يؤمنون } 5 { إقامتكم } لا لوقوع { جعل } على { أثاثاً } { إلى حين } 5 { باسكم } ط { تسلمون } 5 { المبين } 5 { الكافرون } 5 .
التفسير : لما بين خلق الإنسان وتقلبه في أطوار مراتب العمر أراد أن يذكره طرفاً من سائر أحواله لعله يتذكر فقال : { والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق } ولا ريب أن ذلك أمر مقسوم من قبل القسام وإلا لم يكن الغافر رخي البال والعاقل ردي الحال ، وليس هذا التفاوت مختصاً بالمال وإنما هو حاصل في الحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك ، فلرب ملك تقاد الجنائب بين يديه ولا يمكنه ركوب واحدة منها ، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده ولا يقدر على تناول شيء منها ، وربما نرى إنساناً كامل القوة صحيح المزاج شديد البطش ولا يجد ملء بطنه طعاماً . وللمفسرين في الآية قولان : أحدهما أن المراد تقرير كون السعادة والنحوسة والغنى والفقر بقسمة الله تعالى ، وأنه جعل بعض الناس موالي وبعضهم مماليك وليس المالك رازقاً للعبد وإنما الرازق للعبد والمولى هو الله ، فلا تحسبن الموالي المفضلين أنهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق وإنما ذلك رزقي لهم أجريته لهم على أيديهم . وثانيهما أن المراد الرد على من أثبت لله شريكاً كالصنم أو كعيسى ، فضرب له مثلاً فقال : أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ولا تردّون رزقكم عليهم حتى تتساووا في المطعم والملبس . فالفاء في قوله : { فهم فيه سواء } للتعليل . ولك أن تقول بمعنى « حتى » أي حتى يكون عبيدهم معهم سواء في الرزق ، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟! « عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في العبيد : » إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون «

فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت { أفبنعمة الله } وهي أنه جعلهم موالي مفضلين لا عبيداً مفضولين { يجحدون } أو جعل عدم التسوية بينهم وبين عبيدهم من جملة جحود النعمة ، أو جعل اعتقاد أهلية العبادة لغير الله كفراً بنعمة الله والجحود في معنى الكفران فلذلك عداه بالباء . قال أبو عبيدة وأبو حاتم . قراءة الغيبة - وهي الكثرى - أولى لقرب المخبر عنه ، ولأنه لو كان خطاباً كان ظاهره للمسلمين وإنهم لا يخاطبون بجحد نعمة البتة . الحالة الأخرى من أحوال الإنسان قوله عم طوله : { والله جعل لكم من أنفسكم } أي من جنسكم { أزواجاً } ليكون الأنس به أتم . ولا ريب أن تخليق الذكور والإناث مستند إلى قدرة الله وتكوينه . والطبيعيون قد يذكرون له وجهاً قالوا : إن المني إذا انصب من الخصية اليمنى إلى الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة بناء على أن الذكر أسخن مراجاً وكذا الجانب الأيمن ، وإن انصب من الخصية اليسرى إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد تاماً في الأنوثية ، وإذا انصب من اليمنى إلى الأيسر كان ذكراً في طبيعة الإناث ، وإن كان بالعكس كان بالعكس . قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه العلة ضعيفة فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان في غاية البرودة . ولقائل أن يقول : الكلام في المزاج الصنفي لا في المزاج الشخصي ، وهذا الإمام لم يفرق بينهما فاعترض بأحدهما على الآخر . { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } أصل الحفد الإسراع في الخدمة . والفاعل حافد والجمع حفدة . فقيل : أراد بها في الآية الأختان على البنات . وقيل : أولاد الأولاد . وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأوّل وقيل : الخدم والأعوان . وقيل : البنون أنفسهم الجامعون بين الأمرين البنوّة والخدمة . وقيل : الأولى دخول الكل فيه . ثم ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة لأن لذة المنكوح لا تهنأ إلا بعد الفراغ من لذة المطعوم أو بعد الفراغ من تحصيل أسبابها . وأورد « من » التبعيضية لأن لذة كل الطيبات لا تكون إلا في الجنة . ثم ختم الآية بقوله : { أفبالباطل يؤمنون } فقيل : الباطل هو ما اعتقدوه من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ونعمة الله ما عدده في الآيات السابقة . وقيل : الباطل ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله ما أحل لهم . وإنما قال ههنا : { وبنعمة الله هم يكفرون } وفي آخر « العنكبوت » { وبنعمة الله يكفرون } [ الآية : 67 ] لأن تلك الآيات استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب . وأما في الآية فقد سبق مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب .

ولما عدّد بعض الآيات الدالة على الإقرار بالتوحيد أنكر صنيع أهل الشرك عليهم قائلاً { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً } قال جار الله : إن كان بمعنى المصدر نصبت به شيئاً أي لا يملك أن يرزق شيئاً ، وإن أردت المرزوق كان شيئاً بدلاً منه بمعنى قليلاً أو يكون تأكيداً للا يملك أي لا يملك شيئاً من الملك . و { من السموات والأرض } صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى لا يرزق من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً وصفة إن كان اسماً لما يرزق . أما الضمير في { ولا يستطيعون } فعائد إلى ما بعد أن قيل لا يملك على اللفظ المفرد وجمع بالواو والنون بناء على زعمهم أن الأصنام آلهة . والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق ، فبيّن تعالى أنها لا تملك ولا تستطيع تحصيل الملك . وجوّز في الكشاف أن يكون الضمير للكفار أي لا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد الذي لا حس له؟ { فلا تضربوا لله الأمثال } أي لا تشبهوه بخلقه فإن ضارب المثل مشبه حالاً بحال وقصة بقصة . وقال الزجاج : لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له . وكانوا يقولون إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن غير الحنيفية والإخلاص . وعلل النهي بقوله : { إن الله يعلم } ما عليكم من العقاب { وأنتم لا تعلمون } ما في عبادتها من العذاب . وفيه أن القياس الذي توهموه ليس بصحيح والنص يجب تقديمه على ذلك . وقيل : إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون . ثم علمهم كيف تضرب فقال : { ضرب الله مثلاً } ثم أبدل من المثل قوله : { عبداً مملوكاً } لا حراً فإن جميع الناس عبيد لله فلا يلزم من كونه عبداً كونه مملوكاً . وقوله : { لا يقدر على شيء } ليخرج العبد المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف . احتج الفقهاء بالآية على أن العبد لا يملك شيئاً وإن ملكه السيد لأن قوله : { لا يقدر } حكم مذكور عقيب الوصف المناسب ، فدل على أن العبدية أينما وجدت فهي علة للذل والمقهورية وعدم القدرة ، فثبت العموم وهو أن كل عبد فهو لا يقدر على التصرف . وأيضاً قوله : { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } يقتضي أن لا يحصل للقسم الأوّل هذا الوصف . فلو ملك العبد شيئاً ما صدق عليه أن الله قد آتاه الرزق الحسن فلم يثبت الامتياز ، والأكثرون على أن عدم اقتدار العبد مخصوص بماله تعلق بالمال . وعن ابن عباس أنه لا يملك الطلاق أيضاً .

قال جار الله : الظاهر أن « من » في قوله : { ومن رزقناه } موصوفة كأنه قيل : وحراً رزقناه ليطابق عبداً . ولا يمتنع أن تكون موصولة . وجمع قوله : { هل يستوون } لأنه أراد الأحرار والعبيد . وللمفسرين في مضرب المثل أقوال : فالأكثرون على أنه أراد أنا لو فرضنا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ، وفرضنا حراً كريماً غنياً كثير الإنفاق سراً وجهراً ، فصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة ، فكيف يجوز للعاقل أن يسوّى بين الله القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر ألبتة؟! وقيل : العبد المملوك هو الكافر المحروم عن طاعة الله وعبوديته ، والآخر هو المؤمن المشتغل بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله . والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف والقرب من رضوان الله . وقيل : العبد هو الصنم لقوله : { إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً } [ مريم : 93 ] . والثاني عابد الصنم . والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف . لأن الأوّل جماد وهذا إنسان فكيف يجوز الحكم بأن الأول مساوٍ لرب العالمين؟! .
{ الحمد لله } قال ابن عباس : أراد الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد . وقيل : معناه كل الحمد لله وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد { بل أكثرهم لايعلمون } أن كل الحمد لي . وقيل : أراد قل الحمد لله . والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم وإما لمن رزقه الله رزقاً حسناً وميزه بالقدرة والاختيار والتصرف من العبد الذليل الضعيف . وقيل : لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود قال : { الحمد لله } أي على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة { بل أكثرهم لا يعلمون } قوّتها وظهورها . ثم ضرب مثلاً ثانياً لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع بل يصل منها إلى من يعبدها أعظم المضار . أما تفسير الألفاظ فالأبكم العي المفحم وقد بكم بكماً وبكامة . وقيل : هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام . وروى ثعب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر . وقوله : { وهو كلٌّ على مولاه } أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة . يقال : كَلَّ السكين إذا غلظت شفرته ، وكَلَّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكَلَّ فلان عن الكلام إذا ثقل عليه ولم ينبعث فيه ، وفلان كَلٌّ على مولاه أي ثقيل وعيال على من يلي أمره . وقوله : { أينما يوجهه } حيثما يرسله { لا يأت بخير } لم ينجح في مطلبه . والتوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق { هل يستوي هو } أي الموصوف بهذه الصفات المذكورة . { ومن يأمر } الناس { بالعدل وهو } في نفسه { على صراط مستقيم } على سيرة صالحة ودين قويم غير منحرف إلى طرفي الإفراط والتفريط .

ولا شك أن الآمر بالعدل يجب أن يكون عالماً حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور . قادراً حتى يتأتى منه الإتيان بالخير والأمر به ، وكلا الوصفين يناقض كونه أبكم لا يقدر . قال مجاهد : هذا مثل لإله الخلق وما يدعى من دونه . أما الأبكم فمثل الصنم لأنه لا ينطق ألبتة ولا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه وإلى أيّ مهم يوجه الصنم لا يأتي بخير ، وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه . وروى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت الآية المتقدمة في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سراً وجهراً ، ومولاه أبو الحوار الذي كان ينهاه عنه . وهذه الآية نزلت في سعيد بن أبي العيص وفي عثمان بن عفان مولاه . والأصح أن المقصود من الآية الأولى كل عبد موصوف بالصفات الذميمة وكل حر موصوف بالخصال الحميدة . ومن الآية الثانية كل رجل جاهل عاجز وكل من هو بضد ذلك من كونه شامل العلم كامل القدرة وليس إلا الله سبحانه فلذلك مدح نفسه بقوله : { ولله غيب السموات والأرض } أي يختص به علم ما غاب عنه العباد فيهما ، أو أراد بغيبهما يوم القيامة لأن علمه غائب عن غير الله ويؤيد هذا التفسير قوله : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر } اللمح النظر بسرعة ولا بد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة فلذلك قال : { أو هو أقرب } وليس هذا من قبيل المبالغة وإنما هو كلام في غاية الصدق لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية ، ومنها إلى الأبد غير متناه ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . وقيل : معنى أمر الساعة أن إماتة الأحياء وإحياء الأموات كلهم يكون في أقرب وقت وأقله . ثم أكده بقوله : { إن الله على كل شيء قدير } .
ثم زاد في التأكيد بذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } قال جار الله : هو في موضع الحال أي غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون وسوّاكم وصوّركم ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة . وقوله : { وجعل لكم } معناه وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم . { والأفئدة } في فؤاد كالأغربة في غراب ، وهو من جموع القلة التي تستعمل في مقام الكثرة أيضاً لعدم ورود غيرها . واعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدأ فطرته خال عن المعارف والعلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات وحضرت صورها في ذهنه ، ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافياً في جزم الذهب بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الأحكام علوم بديهية ، وإن لم تكن كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعاً للدور أو التسلسل فهي علوم كسبية .

وظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أن الله تعالى أعطى الحواس والقوى الدرّاكة للصور الجزئية . وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة وهي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات ، وإنما لا يظهر آثارهاعليها عند انفصال الجنين من الأم لضعف البدن واشتغالها بتدبيره ، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئاً فشيئاً وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية . فالمراد بقوله : { لا تعلمون شيئاً } أنه لا يظهر أثر العلم عليكم . ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب العلوم المتوقفة على التعلق . ومعنى { لعلكم تشكرون } إرادة أن تصرفوا كل آلة فيما خلقت لأجله . وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف { جعل } على { أخرج } أن يكون جعل السمع والبصر متأخراً عن الإخراج من البطن ، وقد مر في أول البقرة في تفسيره قوله : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [ البقرة : 7 ] أنه لم وحد السمع وجمع غيره؟ ثم ذكر دليلاً آخر على كمال قدرته فقال : { ألم يروا إلى الطير مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة وسائر الأسباب المواتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامهن بسط الجناح وقبضه فيه عمل السابح في الماء . وفي { جوّ السماء } أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو وهو مضاعف عينه ولامه واو { ما يمسكهن إلا الله } بقدرته أو بإعطاء الآلات التي لأجلها يتسهل عليها الطيران . ومن جملة أحوال الإنسان قوله : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } هو ما يسكن إليه من بيت أو إلف { جعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع { تستخفونها } أي تعدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يوم ظعنكم } أي في وقت ارتحالكم . والظعن بفتح العين وسكونها سير أهل البادية لنجعة ، ثم استعمل في كل شخوص لسفر . { ويوم إقامتكم } لا يثقل عليكم حفظها ونقلها من مكان إلى مكان ، ويمكن أن يكون اليوم على حقيقته أي يوم ترجعون خف عليكم حملها ونقلها ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها { ومن أصوافها } وهي للضأن { وأوبارها } وهي للإبل { وأشعارها } وهي للمعز { أثاثاً } وهو متاع البيت . قال الفراء لا واحد له . وقال أبو زيد : الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع الواحدة أثاثة . قال ابن عباس : أراد طنافس وبسطاً وثياباً وكسوة .

وقال الخليل : أصله من أن النبات والشعر يئث إذا كثر . قيل : إنه تعالى عطف قوله : { ومتاعاً } على { أثاثاً } فوجب أن يتغايرا فما الفرق؟ وأجيب بأن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله من الغطاء والوطاء . والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به . قلت : لا يبعد أن يراد بالأثاث والمتاع ما هو الجامع بين الوصفين كونه أثاثاً وكونه مما يتمتع به { إلى حين } أي إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن تبلى وتفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة .
ثم إن المسافر قد لا يكون له خيام وأبنية يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام ونحوها فذلك قال : { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } وقد يحتاج المسافر إلى حصن يأوي إليه في نزوله وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد وسائر المكاره وكذا المقيم فلذلك منّ بقوله : { وجعل لكم من الجبال أكناناً } هي جمع « كن » وهو ما يستكن به ويتوقى بسببه الأمطار كالبيوت المنحوته في الجبال وكالغيران والكهوف { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها . وإنما لم يذكر البرد لأن الوقاية من الحر أهم عندهم لغلبة الحرارة في بلادهم على أن ذكر أحد الضدين يغني في الأغلب عن ذكر الآخرة لتلازمهما في الخطور بالبال غالباً بشهادة الوجدان . قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال فعلى هذا يشمل الرقيق والكثيف والساذج والمحشوّ من الثياب { وسرابيل تقيكم بأسكم } كالدروع والجواشن { كذلك يتم نعمته } أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعم الدين والدنيا { لعلكم تسلمون } قال ابن عباس : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات سواه . وعنه أنه قرأ بفتح التاء واللام من السلامة أي تسلم قلوبكم من الشرك ، أو تشكرون فتسلمون من العذاب . وقيل : تسلمون من الجرح بلبس الدروع { فان تولوا } فقد تمهد عذرك { فإنما عليك البلاغ المبين } وليس إليك الهداية . ثم ذمهم بأنهم { يعرفون نعمة الله } التي عددناها حيث يعترفون بها وبأنها من عند الله { ثم ينكرونها } بعبادة غير من أنعم بها وبقولهم هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا . ومعنى « ثم » تبعيد رتبة الإنكار عن العرفان : وقيل : إنكارها قولهم ورثناها من آبائنا أو وصل إلينا بتربية فلان ، أو أنهم لا يستعملونها في طلب رضوان الله . وقيل : نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوّته عناداً . وإنما قال : { وأكثرهم الكافرون } لأنه استعمل الأكثر مقام الكل أو أراد البالغين العقلاء منهم دون الأطفال والمجانين ، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان فيهم من كفر للجهل بصدق الرسول ، أو لأنه لم تقم الحجة عليه بعد هذا ما قاله المفسرون .

قلت : ويحتمل أن يراد بالكافرين المصرين الثابتين على كفرهم وقد علم الله أن في مطلق الكفرة من يؤمن فلهذا استثناهم والله تعالى أعلم .
التأويل : فضل الأرواح على القلوب في رزق المكاشفات والمشاهدات بعد الفناء والرد إلى البقاء ، وفضل القلوب على النفوس في رزق الزهد والورع والتقوى والصدق واليقين والإيمان والتوكل والتسليم والرضا ، وفضل النفوس على الأبدان في رزق التزكية والتخلية والتحلية ، وفضل أبدان المؤمنين على أبدان الكافرين بحمل أعباء الشريعة . فما الأرواح برادّي رزقهم على القلوب ، ولا القلوب على النفوس ، ولا النفوس على الأبدان . أفبنعمة الله التي أنعم بها على أوليائه تجحدون يا منكري هذا الحديث { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يعني ازدواج الأرواح والأشباح { وجعل لكم من أزواجكم بنين } وهم القلوب { وحفدة } وهن النفوس { أفبالباطل } وهو الزخارف والوساوس { يؤمنون وبنعمة الله } التي أنعم بها على أرباب القلوب { يكفرون } ويعبدون من دون الله كالدنيا والهوى { ما لا يملك لهم زرقاً } من سموات القلوب وأرض النفوس شيئاً من الكمالات التي أودع الله فيهن ، ولا يستخرج منها إلا بعبادة الله ولا يستطعيون استخراجها بعبادة غير الله { فلا تضربوا لله الأمثال } بأن تريدوا أن تصلوا إلى المقاصد بغير طريق الله { ضرب الله مثلاً عبداً ممولكاً } للهوى وللدنيا { ومن رزقناه } ولاية كاملة يتصرف بها في بواطن المستعدين وظواهرهم . { بل أكثرهم لا يعلمون } أولياء الله لأنهم تحت قباب الله لا يعرفهم غيره . { أحدهما أبكم } هو النفس الحيوانية التي لا تقدر على شيء من العلم والعقل والإيمان وهو ثقل على مولى الروح المسمى بالنفس الناطقة . { لا يأت بخير } لأنها أمارة بالسوء { ولله غيب } سموات الأرواح النفوس لا يقف على خاصيتهما غيره ، ولو وكل كلاً منهما إلى طبعها لم ترجع إلى ربها ، ورجوعها يكون بالإماتة والإحياء ويميتها عن أوصافها ويحييها بصفاته وهو المراد بأمر الساعة لأن الإماتة بتجلي صفات الجلال والإحياء بتجلي صفات الجمال ، وإذا تجلى الله لعبد لم يبق له زمان ولا مكان فلذلك قال : { أو هو أقرب } وحنيئذ يكون فانياً عن وجوده باقياً ببقائه { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } من أمور الدنيا والآخرة ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح ولا مما كانت تعلم ذراتكم من فهم خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] وجواب { بلى } [ الأعراف : 172 ] وجعل لأجسادكم السمع والأبصار والأفئدة كما للحيوانات ولأرواحكم كما للملائكة . ولأسراركم سمعاً يسمع به من الله وبصراً يبصر به الله وفؤاداً يعرف به الله . وبوجه آخر : { والله أخرجكم من العدم وهو الأم الحقيقي ، لا تعلمون شيئاً قبل أن يعلمكم الله سبحانه أسماء كل شيء ، فتجلى لكم بربوبيته فبنور سمعه أعطاكم سمعاً تسمعون به خطاب ألست بربكم ، وبنور بصره أعطاكم بصراً تبصرون به جماله ، وبنور علمه أعطاكم فؤاداً تعرفون به كماله ، وبنور كلامه أعطاكم لساناً .

تجيبونه بقولكم « بلى » { لعلكم تشكرون } فلا تسمعون بهذا السمع إلا كلامه ، ولا تبصرون بهذا البصر إلا جماله ، ولا تحبون بهذا الفؤاد إلا ذاته ، ولا تكلمون بهذا الكلام إلى معه { ألم يروا إلى } طير الأرواح { مسخرات في جوّ } سماء القلوب { ما يمسكهن } في سفل الأجساد { إلا الله } بحكمته فلذلك قال : { والله جعل لكم } أيها الأرواح { من بيوتكم } وهي الأجساد { سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام } التي هي أجساد اشتركت فيها سائر الحيوانات { بيوتاً } تستخف أرواحكم إياها وهي النفوس الحيوانية ، وقواها وقت السير إلى الله والوقفة للاستراحة والتربية { ومن أصوافها } هي الصفات الحيوانية والحواس والقوى { أثاثاً } آلات للسير { ومتعاً } ينتفع بها { إلى حين } الوصول والوصال . { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } أي جعل عالم الخلق ظل عالم الأمر تستظل أيها الأرواح به عند طلوع شمس التجلي وإلا لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره . و { وجعل لكم من } جبال القلوب ما يكن به الأرواح ، وجعل لأرواحكم سرابيل من الصفات البشرية تقيكم حر نار المحبة ، وسرابيل من الصفات الروحانية تقيكم من سهام الوساوس والهواجس كذلك يحفظكم من الآفات من الصفات بالكرامات حتى يتم نعمة الوصول عليكم وتسلموا من قطع الطريق { يعرفون نعمة الله } بتعريفك { وأكثرهم الكافرون } بك وبنعمة الله إظهاراً للقهر والله أعلم .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

القراآت : { ولنجزين } بالنون : ابن كثير وعاصم ويزيد وعباس والنقاش عن ابن ذكوان . الآخرون بالياء . { قرأت القرآن } مثل { أنشأنا } .
الوقوف : { يستعتبون } 5 { ولا هم ينظرون } 5 { من دونك } ج لاختلاف الجملتين مع الفاء { لكاذبون } 5 ج للعطف مع أنه رأس آية { يفترون } 5 { يفسدون } 5 { على هؤلاء } ط لواو الاستئناف { للمسلمين } 5 { والبغي } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { تذكرون } 5 ط { كفيلاً } 5 ط { تفعلون } 5 { أنكاثاً } ط بناء على أن التقدير أتتخذون { من أمة } ط { به } ط { تختلفون } 5 { ويهدي من يشاء } ط { تعملون } 5 { عن سبيل الله } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { عظيم } 5 { قليلاً } ط { تعلمون } 5 { باق } ط { يعلمون } 5 { طيبة } ج للعدول عن الوحدان إلى الجمع مع أنهما ضميراً من { يعملون } 5 { الرحيم } 5 { يتوكلون } 5 { مشركون } 5 .
التفسير : لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وأن أكثرهم كافرون أتبعه أصناف وعيد يوم القيامة والتقدير { و } اذكر { يوم نبعث من كل أمة شهيداً } أو يوم وقعوا فيما وقعوا فيه . وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق والكفر والتكذيب { ثم لا يؤذن للذين كفروا } أي في الاعتذار إذ لا حجة لهم ولا عذر ، أو في كثرة الكلام ، أو في الرجوع إلى دار الدنيا ، أو إلى التكليف ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى ، أو المراد أن يسكت أهل الجمع كلهم حتى يشهد الشهود . { ولا هم يستعتبون } لأن العتاب إنما بطلب لأجل العود إلى الرضا ، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب فلهذا قيل :
إذا ذهب العتاب فليس ود ... ويبقى الود ما بقي العتاب
وقال في الكشاف : أي لا يقال لهم أرضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل . ومعنى « ثم » أن المنع من الكلام أصعب من شهادة الأنبياء عليهم . { وإذا رأى الذين ظلموا } وهم المشركون { العذاب } بعينهم وثقل عليهم { فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون } ليتوبوا فإن التوبة هناك غير موجودة أو غير مقبولة وفيه أنت عذابهم خالص عن النفع دائم كما يقوله المتكلمون . { وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } وهي الأصنام أو الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر وكانوا قرناءهم في الغي . قاله الحسن . { قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا } أي نعبدهم من دونك . قال أبو مسلم الأصبهاني : مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ظناً منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو ينقص منه ، وزيفه القاضي بأن الكفار يعلمون في الآخرة علماً ضرورياً أن العذاب ينزل بهم ولا نصرة ولا شفاعة فما الفائدة في هذا القول؟ والإنصاف أن الغريق يتعلق بكل شيء والمبهوت قد يقول ما لا فائدة فيه ، على أن العلم الضروري الذي ادعاه القاضي ممنوع .

وقيل : إن المشركين يقولون هذا الكلام تعجباً من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافاً بأنهم كانوا خاطئين في عبادتها . { فألقوا إليهم القول } أي قال الأصنام أو الشياطين للكفار { إنكم لكاذبون } فإن قيل : إن المشركين أشاروا إلى الأصنام أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم من دونك وقد كانوا صادقين في ذلك فكيف كذبتهم الأصنام؟ فالجواب أن المراد من قولهم : { هؤلاء شركاؤنا } هؤلاء شركاء الله في المعبودية فكذبتهم الأصنام في إثبات هذه الشركة وفي قولهم إنها تستحق العبادة . قال جار الله : إن أراد بالشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في قوله : { إنكم لكاذبون } كما يقول الشيطان { إني كفرت بما أشركتموني من قبل } [ إبراهيم : 22 ] . { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } عن الكلبي : استسلم العابد والمعبود وأقروا لله الربوبية والبراءة من الشركاء والأنداد . وقال آخرون : الضمير اللذين ظلموا . وإلقاء السلم والاستسلام لأمر الله بعد الإباء في الدنيا { وضل } أي غاب { عنهم ما كانوا يفترون } من أن لله شريكاً أو أن آلهتهم تشفع لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم .
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } قيل : معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح العموم { زدناهم عذاباً } لأجل الإضلال . { فوق العذاب } الذي استحقوه للضلال . وأيضاً عذاب الاستنان « من سن سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها » . ومن المفسرين من فصل تلك الزيادة؛ فعن ابن عباس : هي خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ، ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار . وقيل : حيات أمثال البخت وعقارب أشباه البغال أنيابها كالنخل الطوال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفاً . وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار . ثم علل زيادة عذابهم بكونهم مفسدين أمور الناس بالصد والإضلال فيعلم منه أن من دعا إلى الدين القويم باليد واللسان فإنه يزيده الله تعالى أجراً على أجر . ثم أعاد حكاية بعث الشهداء لما نيط بها من زيادة فائدتين : إحداهما كون الشهداء من أنفسهم لأن كل نبي فهو من جنس أمته ، والأخرى أن الشيهد يكون وقتئذ في الأمة لا مفارقاً إياهم . وفسر الأصم الشهيد في هذه الآية بأنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى تشهد عليه وهن : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان . ولهذا ذكر لفظة « في » ووصف الشيهد بكونه من أنفسهم . ثم شرف نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله : { وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } أي على أمتك . . ولا ريب أن في تخصيصه بعد التعميم دلالة على فضله نظيره قوله في سورة النساء : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }

[ النساء : 41 ] قال الإمام فخر الدين الرازي . الأمة عبارة عن القرن والجماعة فيعلم من الآية أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم ويكونون شهداء على غيرهم وهم أهل الحل والعقد فيكون إجماعهم حجة . ولقائل أن يقول : الأمة في الآية هي الجماعة الذين بعث النبي إليهم وإلى من سيوجد منهم إلى آخر زمان دينه ، فيكون نبي تلك الأمة وحده شهيداً عليهم . ولا دلالة للآية إلا على هذا القدر فمن أين حل لك أن إجماع أهل الحل والعقد في كل عصر حجة؟ ثم بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فيه فلا حجة لهم ولا معذرة فقال : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } أي بياناً له والتاء للمبالغة ونظيره من المصادر « التلقاء » ولم يأت غيرهما وقد مر في « الأعراف » . قال الفقهاء . إنما كان القرآن بيان جميع الأحكام لأن الأحكام المستنبطة من السنة والإجماع والقياس والاجتهاد كلها تستند إلى الكتاب حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته ، وورد فيه : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] وجاء { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] .
وقال آخرون : إن علم أصول الدين كلها في القرآن . وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد به نص القرآن فإذن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام ، والقياس ضائع ولعل التبيان إنما هو للعلماء خاصة ، والهدى لجميع الخلق في أوّل أحوالهم ، والرحمة في وسطها وهو مدة العمر بعد الإسلام ، والبشرى في أوان الأجل كما قال سبحانه : { إن الذين قالوا ربنا الله } [ فصلت : 30 ] إلى قوله : { وأبشروا } [ فصلت : 30 ] والله أعلم بمراده .
وِلما ذكر أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقيبه آية جامعة لأصول التكاليف كلها تصديقاً لذلك فقال : { أن الله يأمر } الآية ، عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أوّلاً إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتقرر الإسلام في قلبي . فحضرته ذات يوم فبينا هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال : بينا أنا أحدثك إذا جبرائيل عليه السلام نزل عن يميني فقال : يا محمد { إن الله يأمر بالعدل } الآية . قال عثمان : فمن وقته استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم . وعن ابن مسعود : هي أجمع آية في القرآن . وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحسن إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية ، وليس من خلق سيء إلا وقد نهى الله تعالى عنه فيها . قال المفسرون : العدل هو أداء الفرائض . وعن ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله { والإحسان } هو الإتيان بالمندوبات والمستحسنات شرعاً وعرفاً وأقربها صلة الرحم بالمال فلذلك أفردها بالذكر بقوله : { وإيتاء ذي القربى } والفحشاء هي الأمور المتزايدة في القبح فلذلك أفردها بالذكر وهي الكبائر .

وقد يخص بالزنا أو بالبخل والمنكر ما تنكره العقول ولا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي هو الاستطالة . قال جار الله : حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى نبينا الصلاة والسلام أقيمت هذه الآية مقامها . واعلم أن العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأنه واجب الرعاية في جميع الأشياء ولنذكر له أمثلة : أما في الاعتقادات فالقول بنفي الإله تعطيل محض ، وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتعجيز ، والعدل هو قول : « لا إله إلا الله » . كما نقل عن ابن عباس ، هذا ما اتفق عليه أرباب المذاهب . ثم إن الأشعري يقول : القول بنفي الصفات عنه سبحانه تعطيل ، والقول بإثبات المكان والأعضاء تشبيه ، والعدل إثبات صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام ونفي غيرها . وبوجه آخر . نفي الصفات تعطيل ، وإثبات الصفات الحادثة تشبيه ، العدل إثبات صفات أزلية قديمة غير متغيرة . وأيضاً القول بأن العبد لا قدرة له أصلاً جبر محض ، والقول بأنه مستقل في التصرف قدر محض وتفويض ، والعدل أمر بين الأمرين وهو أن العبد يفعل الأفعال ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها الله تعالى فيه . وأيضاً القول بأن الله لا يؤاخذ عبده بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول بأنه يخلد في النار عبده العارف به بالمعصية الواحدة تشديد عظيم ، والعدل أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان . والمعتزلي يقول : العدل في هذه الأصول بنوع آخر وقد مر مراراً . وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فإن قوماً من نفاة التكليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا الاحتراز عن شيء من المعاصي . وقال : قوم من الهند وطائفة من المانوية : يجب على الإنسان أن يجتنب عن أكل الطيبات ويبالغ في تعذيب نفسه ، وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى التزوّج ، والأولى بالمرء أن يختصي فهذان الطريقان مذمومان والوسط هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لأن التشديد غالب في دين موسى فليس في شرعه على القاتل إلا القصاص ويحرم مخالطة الحائض ، والتساهل في دين عيسى غالب فلا قصاص على القاتل ولا يحرم وطء الحائض ، والعدل ما حكم به شرعنا من جواز العفو وأخذ الدية وحرمة وطاء الحائض دون مخالطتها ، ولذلك قال : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] ، وقال : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } [ الفرقان : 67 ] ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات قيل له : { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى }

[ طه : 1 ] ولما أخذ قوم في المساهلة نزل : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } [ المؤمنون : 115 ] والمراد رعاية الوسط في كل الأمور وقد ورد في شرعنا الختان فقال بعض العقلاء : الحكمة فيه أن رأس ذلك العضو جسم شديد الحس فإذا قطعت تلك الجلدة بقي رأسه عارياً فيصلب بكثرة ملاقاة الثياب وغيرها فيضعف حسه ويقل شعوره فتقل لذة الوقاع فتقل الرغبة فيه . فالاختصاء وقطع الآلات كما ذهب إليه المانوية مذموم ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة مذموم ، والوسط العدل هو الختان . هذا ما قيل . وعندي أن الحكمة في الختان بعد التعبد هو التنظيف وسهولة غسل الحشفة وإلا فلعل اللذة بعد الختان أكثر لملاقاة الحاس والمحسوس بلا حائل . ومن الكلمات المشهورة قولهم : « بالعدل قامت السموات والأرضون » . ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية لا ستولى الغالب على المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحتراق كل ما في هذا العالم ، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وإبطائها فإن كلاً منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه . فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل .
وأما الإحسان فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ومن هنا قال : « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه » فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال فلا جرم أفرد بالذكر كما مر . ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعاً : الشهوية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية . وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب لأنها من نتائج الأرواح القدسية ، وأما الثلاث الأول فتحتاج إلى التأديب والتهذيب بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة . والنهي عن الفحشاء عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة ، والنهي عن المنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق ، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية كالاستعلاء على الناس والترفع وحب الرياسة والتقدم ممن ليس أهلاً لذلك ، واخس هذه المراتب عند العقلاء القوة الشهوانية ، وأوسطها الغضبية ، وأعلاها الوهمية فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي ، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية لا جرم ختمها بقوله : { يعظكم لعلكم تذكرون } لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة . قال الكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم؟ وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً .

واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد - والتذكر من فعل الله بالاتفاق لا من فعل العبد - أن يطلب الله منه التذكر فإن طلب ما ليس في وسعه محال . فمعنى { لعلكم تذكرون } إرادة أن تكونوا على حالة التذكر لا إرادة أن تحصلوا التذكر .
ثم خص من جملة المأمورات الوفاء بالعهد فقال : { وأوفوا بعهد الله } خصصه جار الله بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] . وقال الأصم : المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الشرائع . وقيل : هو اليمين والأصح العموم وهو كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره بدليل قوله : { إذا عاهدتم } وقوله من قال : العهد هو اليمين يلزم منه أن يكون قوله سبحانه : { ولا تنقضوا الأَيمان بعد توكيدها } أي بعد توثيقها باسم الله تكراراً . وأكد ووكد لغتان فصيحتان . قال الزجاج : الأصل الواو والهمزة بدل . وفي الآية دلالة على الفرق بين الأيمان المؤكدة وبين لغو اليمين كقولهم « لا والله » و « بلى والله » . وأيضاً الآية من العمومات التي دخلها التخصيص لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فيأت بالذي هو خير ثم ليكفر » وقد مر بحث الأيمان في « البقرة » وفي « المائدة » في قوله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [ الآية : 225 ] الآية . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } أي شاهداً ورقيباً لأن الكفيل مراع لحال المكفول به . { إن الله يعلم ما تفعلون } فيجازيكم بحسب ذلك خيراً وشراً . وفيهترغيب وترهيب . ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض بقوله : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة } أي من بعد قوّة الغزل بإمرارها وفتلها . قال الزجاج : انتصب { أنكاثاً } على المصدر لأن معنى نقضت نكثت . وزيف بأن { أنكاثاً } ليس مصدراً وإنما هو جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله . وقال الواحدي : هو مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء أي جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا أي جعلت غزلها أنكاثاً . قلت : ويحتمل أن يكون حالاً مؤكدة . قال ابن قتيبة : هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير : وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً . فعلى هذا المشبه به امرأة غير معينة ، ولا حاجة في التشبيه إلى أن يكون للمشبه به وجود في الخارج . وقيل : المراد امرأة معينة من قريش ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء ، اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن .

قال جار الله : { تتخذون } حال و { دخلاً } مفعول ثان لتتخذ أي لا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً بينكم أي مفسدة ودغلاً . وقال الواحدي : أي غشاً وخيانة . وقال الجوهري : أي مكراً وخديعة . وقال غيره : الدخل ما أدخل في الشيء على فساد . وقوله : { أن تكون } أي لأن تكون { أمة } يعني جماعة قريش هي أربى أزيد وأوفر عدداً ومالاً { من أمة } هي جماعة المؤمنين . قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون الذين هم أعز وأمنع . { إنما يبلوكم الله به } أي بما يأمركم وينهاكم . وقد تقدم ذكر الأمر والنهي . وقال جار الله : الضمير لقوله : { أن تكون } لأنه في معنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء مع قلة المؤمنين وفقرهم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم .
ثم حذرهم من مخالفة ملة الإسلام وأنذرهم بقوله : { وليبينن لكم يوم القيامة } بإظهار الدرجات والكرامات للأولياء وتعيين الدركات والبليات للأشقياء . { ما كنتم فيه تختلفون } حيث تدعون أنكم على الحق والمؤمنون على الباطل فتنقضون عهودهم . ثم بين أنه سبحانه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء وسائر أبواب الإيمان ولكنه بحكم الإلهية { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } والمعتزلة حملوا المشيئة على مشيئة الإلجاء بدليل قوله : { ولتسئلن عما كنتم تعملون } ولو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عبثاً . أجابت الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل . روى الواحدي أن عزيراً قال : يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء . فقال : يا عزير أعرض عن هذا فأعاده ثانياً فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوّة . قال المفسرون : لما نهاهم عن نقض مطلق الأيمان أراد أن ينهاهم عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها وهو نقض بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والدليل على هذا التخصيص قوله : { فتزلَّ قدم بعد ثبوتها } لأن هذا الوعيد لا يليق بنقض عهد قبيله وإنما يليق بنقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم . قال جار الله : وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة . وهذا مثل يضرب لمن وقع في بلاء بعد عافية ، ولا ريب أن من نقض عهد الإسلام وزلت قدمه عن محجة الدين القويم فقد سقط من الدرجات العالية إلى الدركات الهاوية بيانه قوله : { وتذوقوا السوء } في الدنيا { بما صددتم } بصدودكم أو بصدكم غيركم { عن سبيل الله } لأن المرتد قد يقتدي به غيره . { ولكم عذاب عظيم } في الآخرة . ويحتمل أن يراد أن ذلك السوء الذي تذوقونه هو عذاب عظيم . قال جار الله : كان قوم أسلموا بمكة ثم زين لهم الشيطان نقض البيعة لكونهم مستضعفين هناك فأوعدهم الله على ذلك ، ثم نهاهم عن الميل إلى ما كان يعدهم قريش من عرض الدنيا إن رجعوا عن الإسلام فقال : { ولا تشتروا } الآية .

ثم ذكر دليلاً قاطعاً على أن ما عند الله خير فقال : { ما عندكم ينفد وما عند الله } من خزائن رحمته { باق } وفيه دليل على أن نعيم الجنة باقٍ لأهلها لا ينقطع . وقال جهم بن صفوان : إنه منقطع والآية حجة عليه { ولنجزين الذين صبروا } على ما التزموه من شرائع الإسلام { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } أي بالواجبات والمندوبات لا بالمباحات فإنه لا ثواب على فعلها ولا عقاب ، أو نجزيهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] . ثم عمم الوعد على أي عمل صالح كان فقال : { من عمل صالحاً } ولا كلام في عمومه إلا أنه زاد قوله : { من ذكر أو أنثى } تأكيداً وإزالة لوهم التخصيص ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم .
ثم جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح منتجاً للثواب حيث قال : { وهو مؤمن } فاستدل به على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح فإن شرط الشيء مغاير لذلك الشيء . واختلف في الحياة الطيبة فقيل : هي في الجنة . عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة ، لأن الإنسان في الدنيا لا يخلو من مشقة وأذية ومكروه لقوله تعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } [ الانشقاق : 6 ] بيّن أن هذا الكدح - وهو التعب في العمل - باقٍ إلى أن يصل إلى ربه ، وأما بعد ذلك فحياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا انتقال . وقال السدي : إن هذه الحياة في القبر . والأكثرون على أنها في الدنيا لقوله بعد ذلك { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كان يعملون } وعلى هذا فما سبب طيب الحياة قيل : هو الرزق الحلال . وقيل : عبادة الله مع أكل الحلال . وقيل : القناعة أو رزق يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو : « اللَّهم اجعل رزق آل محمد كفافاً » قال المحققون : وهذا هو المختار لأن المؤمن الذي صلح عمله إن كان موسراً فذاك ، وإن كان معسراً فمعه من القنوع والعفة والرضا بالقضاء ما يطيب عيشه . لأنه الكافر والفاجر فإن الحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه أبداً ويعظم أسفه على ما يفوته لأنه عانق الدنيا معانقة العاشق لمعشوقه ، بخلاف المؤمن المنشرح قلبه بنور المعرفة والجمال فإنه قلما ينزع لحب الدنيا مالها وجاهها ويستوي عنده وجودها وفقدها وخيرها وشرها ونفعها وضرها . وبركة الصلاح والقنوع مما لا ينكرها عاقل اللَّهم اجعلنا من أهلها . ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن العلم الصالح إنما يفيد الأثر المخصوص بشرط الإيمان وظاهر قوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره }

[ الزلزلة : 7 ] يدل على أن العمل الخير مطلقاً يفيد أثراً مطلقاً فلا منافاة بينهما . ثم ذكر الاستعاذة التي هي من جملة الأعمال الصالحة وبها تخلص الأعمال عن الوساوس فقال : { وإذا قرأت القرآن } أي أردت قراءته إطلاقاً لاسم المسبب على السبب . وقد مر بحث الاستعاذة مستوفى في أول هذا الكتاب . { إنه ليس له سلطان } تسلط وولاية { على الذين آمنوا على ربهم يتوكلون } وهذا معنى الاستعاذة . فإن معناها بالحقيقة راجع إلى التبري عما سوى الله والتوجه بالكلية إليه والاعتماد في جميع الأمور عليه . { إنما سلطانه على الذين يتولونه } عن ابن عباس : أي يطيعونه . يقال : توليته أي أطعته . وتوليت عنه أي أعرضت عنه . أما الضمير الواحد في قوله : { والذين هم به مشركون } فقيل : راجع إلى الرب . وقيل : إلى الشيطان أي بسببه .
التأويل : { ويوم نبعث } فيه إشارة إلى أن لأرواح الأنبياء إشرافاً على أممهم في حال حياتهم وبعد وفاتهم ، وفيه أن الدينا مزرعة الآخرة فلا يقبل في القيامة اعتذار { وإذا رأى الذين ظلموا } أي وضعوا الكفر وأعمال الطبيعة موضع الإيمان وأعمال الشريعة { فلا يخفف } عن أرواحهم أثقال الأخلاق المذمية { ولا هم ينظرون } لتبديل مذمومها بمحمودها { وإذا رأى الذين أشركوا } وهم عبدة الدنيا والهوى { إنكم لكاذبون } في أنا دعوناكم إلى عبادتنا فإنا كنا مشغولين بتسبيح الله سبحانه وطاعته { وصدوا عن سبيل الله } منعوا الأرواح والقلوب عن طلب الله { زدناهم } عذاب الحرمان عن الكمال فوق خسران النسيان بإفساد الاستعداد الفطري . { وجئنا بك شهيداً } لأن روحه شاهد على جميع الأرواح والقلوب والنفوس لقوله : « أول ما خلق الله روحي » { تبياناً لكل شيء } يحتاج إليه السالك في أثناء سلوكه { إن الله يأمر بالعدل } وهو وضع الآلات وأسباب تحصيل الكمال في مواضعها بحيث يؤدي إلى مقام الوصال والكمال { والإحسان } وهو أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله كقوله : { وأحسن كما أحسن الله إليك } [ القصص : 77 ] . وفي قوله : { وإيتاء ذي القربى } إشارة إلى أن من جملة العدالة رعاية حال الأقرب فالأقرب . فيبدأ بتكميل نفسه ثم بما هو أقرب إليه قرباً معنوياً لا صورياً { وينهى عن الفحشاء } وهو صرف ما آتاه الله في غير مصرفها { والمنكر } وهو ضد المعروف وهو أن لا يحسن إلى غيره { والبغي } وهو أن لا يراعي الترتيب المذكور في باب الإرشاد والتكميل . { وأوفوا بعهد الله } يوم الميثاق . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } بجزاء وفائكم { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } فيه إشارة إلى حال المريد المرتد { أن تكون أمة } هي أهل الدنيا في الدنيا أعلى حالاً من أمتهم أهل الآخرة . { ولا تتخذا أيمانكم } عهودكم مع المشايخ شبكة تصطادون بها الدنيا . وقبول الخلق فتزل أقدامكم عن صراط الطلب { من ذكر أو أنثى } هما القلب والنفس . والعمل الصالح من النفس استعمال الشريعة والطريقة ، ومن القلب التوجه إلى الله بالكلية ، والحياة الطيبة للنفس أن تصير مطمئنة مستعدة لقبول فيض

{ ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] وللقلب أن يصير فانياً عن أنانيته باقياً بشهود الحق وجماله ، وحينئذ يطيب عن دنس الاثنينية ولوث الحدوث . { فاستعذ بالله } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وآله ظاهراً وبالحقيقة هو لأمته ، لأن شيطانه أسلم على يده فلم يحتج إلا الاستعاذة من شياطنه بل هو وخواص أمته كقوله : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا } [ النحل : 99 ] وفيه أن الشيطان ليس له تسلط على أولياء الله إلا بالوسوسة ، وفيها صلاح المؤمن فإن إبريز إخلاص قلبه لا يتخلص عن غش صفات نفسه إلا بنار الوسوسة ، لأن المؤمن يطلع على بقايا صفات نفسه . بما تكون الوسوسة من جنسه فيزيد في الرياضة وملازمة الذكر حتى تنمحي تلك البقايا والله تعالى أعلم بالصواب .
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

القراآت : { بما ينزل } من الإنزال . ابن كثير وأبو عمرو { يلحدون } بفتح الياء والحاء : حمزة وعلي وخلف . { فتنوا } مبنياً للفاعل : ابن عامر . { والخوف } بالنصب : عباس { إبراهام } هشام وما بعده والأخفش عن ابن ذكوان . { في ضيق } بالكسر : ابن كثير وكذلك في « النمل » . الآخرون بالفتح .
الوقوف : { مكان آية } لا لأن جواب « إذا » هو « قالوا » وقوله : { والله أعلم بما ينزل } جملة معترضة { مفتر } ط { لا يعلمون } 5 { للمسلمين } 5 { بشر } ط { مبين } 5 { بآيات الله } لا لأن ما بعده خبر « إن » { أليم } 5 { بآيات الله } ج لاختلاف الجملتين مع العطف { الكاذبون } 5 { غضب من الله } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى . { عظيم } 5 { على الآخرة } لا للعطف { الكافرين } 5 { وأبصارهم } ط لاختلاف الجملتين { الغافلون } 5 { الخاسرون } 5 { وصبروا } لا لأن « إن » الثانية تكرار الأولى لطول الكلام بصلته وخبرهما واحد { رحيم } 5 { لا يظلمون } 5 { يصنعون } 5 { ظالمون } 5 { طيباً } ص لعطف المتفقتين { تعبدون } 5 { لغير الله به } ج { رحيم } 5 { على الله الكذب } ط { لا يفلحون } ط ، 5 { قليل } ص لعطف المتفقتين ولا سيما إذا قدر لهم متاع { أليم } 5 { من قبل } ج لابتداء النفي مع العطف { يظلمون } 5 { وأصلحوا } لا لما مر { رحيم } 5 { حنيفاً } ط { من المشركين } 5 لا لأن { شاكر } وصف آخر أو بدل من { حنيفاً } { لا نعمة } ط { مستقيم } 5 { حسنة } ط { الصالحين } ط 5 لأن « ثم » لترتيب الأخبار { حنيفاً } ط 5 { المشركين } ط 5 { اختلفوا فيه } ط { يختلفون } 5 { أحسن } ط { بالمهتدين } 5 { عوقبتم به } ط { للصابرين } 5 { يمكرون } 5 { محسنون } 5 .
التفسير : هذا شروع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : كان إذا أنزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها قالت كفار قريش : إن محمداً يسخر من أصحابه يأمره اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فنزل : { وإذا بدلنا } ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها . { والله أعلم بما ينزل } شيئاً فشيئاً على حسب المصالح مغلظاً ثم مخففاً أو بالعكس { بل أكثرهم لا يعلمون } فوائد النسخ والتبديل . قال أبو مسلم : أراد تبديل آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . وسائر العلماء أطبقوا على أن المراد بهذا التبديل النسخ . ونقل عن الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لأنه تعالى أخبر بتبديل مكان الآية .

وضعف بأنه لا يلزم من وجود التبديل بالآية نفي التبديل بغيرها كالسنة المتواترة إذ لا دلالة في الآية على الحصر ، وقد مر مباحث النسخ مفصلة مستوفاة في سورة البقرة . { قل نزله } أي القرآن { روح القدس } هو جبرائيل والإضافة للمبالغة مثل « حاتم الجود » . والمراد الروح المقدس المطهر عن دنس المأثم { من ربك } صلة نزله أي ابتداء تنزيله من عنده . وقوله : { بالحق } حال أي متلبساً بالحكمة والصواب . { ليثبت الذين آمنوا } كقوله : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } [ الأنفال : 2 ] فيقول كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا وكل منهما في وقته خير وصلاح لأن الذي نزله حكيم لا يفعل إلا ما هو خير في أوانه وصواب بالنسبة إلى المكلف حين ما يكلف به . { وهدى وبشرى } معطوفان على محل { ليثبت } أي تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم . ثم حكى شبهة أخرى عنهم . كانوا يقولون : إن محمداً يستفيد القصص والأخبار من إنسان آخر ويتعلمها منه . واختلف في ذلك البشر فقيل كان غلاماً لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش ويعيش وكان صاحب كتب . وقيل : هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي . وقيل : عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر وقف عليهما يسمع ما يقرآن فقالوا يعلمانه . وقيل : هو سلمان الفارسي . ثم أجاب عن شبهتهم فقال مستأنفاً { لسان الذي } واللسان اللغة والمعنى لسان الرجل الذي { يلحدون } يميلون قولهم عن الاستقامة { إليه } لسان { أعجمي } غير بيّن { وهذا } القرآن { لسان عربي مبين } ذو بيان وفصاحة وقد مر في آخر « الأعراف » أن تركيب الإلحاد يدل على الإمالة ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها . قال أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج م يدل على الإبهام والخفاء ضد البيان والإفصاح ، ومنه « عجم الزبيب » لاستتاره وخفاته ، والعجماء البهيمة ، وصلاة الظهر والعصر عجماوان لأن القراءة فيهما سرية ، وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته . ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لسانهم ولا يتكلم بلغتهم أعجمياً وقالوا : زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان عربياً . وحاصل الجواب هبوا أن محمداً يتعلم المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح في المقصود لأن القرآن بفصاحته اللفظية أيضاً معجز . ولما ذكر جوابهم وبخهم وهددهم بقوله : { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله } يعني أن سبب عدم إيمانهم هو أن الله لا يهديهم كقوله : { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] . وفسره الإمام فخر الدين بأن الله لا يهديهم إلى طريق الجنة بل يسوقهم إلى النار . وهذا التفسير يناسب أصول المعتزلة فلا أدري كيف مال إليه .

ثم لما بين أنهم ليسوا مظاهر اللطف وكان قد بنى الأمر في جوابهم على تسليم ما ادعى الخصم من أنه يتعلم من ذلك البشر ، أراد أن يبين أن الذي قالوا غير صحيح ولا صادق في نفس الأمر فقال : { إنما يفتري الكذب } وفيه أيضاً رد لقولهم { إنما أنت مفتر } الافتراء { وأولئك } إشارة إلى قريش أو إلى الذين لا يؤمنون أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون أي هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب ، أو هم الذين من شأنهم الكذب وذلك هجيراهم لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين ، أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : { إنما أنت مفتر } [ النحل : 101 ] ومما يدل على كذبهم عقلاً أنهم أعداء له وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم . وأيضاً إن أمر التعليم والتعلم لا يتم في مجلس واحد ولكنه يحتاج إلى أزمنة متمادية ، ولو كان كذلك لاشتهر وانتشر . وأيضاً إن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة ، والمعلم يجب أن يكون أعلى حالاً من المتعلم . فلو كان مثل هذا العالم الذي يتعلم منه مثل النبي صلى الله عليه وسلم موجوداً في ذلك العصر لم يخف حاله ومال الناس إليه دون النبي . قال بعض علماء المعاني : عطف الجملة الاسمية التي هي قوله : { وأولئك هم الكاذبون } على ما قبلها وهي فعلية ، دالة على أن من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر تنبيهاً على أن صفة الكفر فيهم ثابتة راسخة كما تقول : كذبت وأنت كاذب . زيادة في الوصف بالكذب على سبيل الاستمرار والاعتياد . ولا افتراء أعظم من إنكار الإلهية والنبوة . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن؟ قال : لا . وقرأ هذه الآية . ثم إنه سبحانه من كمال عنايته أراد أن يفرق بين الكفر اللساني وحده وبين اللساني المنضم إليه القلبي فقال : { من كفر بالله } اختلف العلماء في إعرابه؛ فالأكثرون على أنه بدل إما من { الذين لا يؤمنون بآيات الله } وما بينهما اعتراض والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر . واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، ثم قال : { ولكن من شرح بالكفر صدراً } أي طاب منه نفساً واعتقده { فعليهم غضب } وإما من المبتدأ الذي هو { أولئك } أو من الخبر الذي هو { الكاذبون } . وقيل : منصوب على الذم أي أخص وأعني من كفر . وجوّز بعضهم أن تكون « من » شرطية والجواب محذوف لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل : من كفر فعليه غضب إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب . وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً فلهذه المشاكلة صح الاستثناء .

قال ابن عباس : نزلت في عمار بن ياسر ، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسراً وأمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذوبهم . فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربة وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام . وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر فقال : كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه . فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال صلى الله عليه وسلم : « إن عادوا لك فعد لهم بما قلت . » فمن هنا حكم العلماء بأن الإكراه يجوّز التلفظ بكلمة الكفر . وحدّ الإكراه أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به كالتخويف بالقتل والضرب الشديد وسائر الإيلامات القوية . وأجمعوا على أن قلبه عند ذلك يجب أن يكون متبرئاً عن الرضا بالكفر وأن يقتصر على التعريض ما أمكن مثل أن يقول : إن محمداً كذاب يعني عند الكفار . أو يعني به محمداً آخر ، أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار . وإذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوماً وعفو الله متوقع . ولو ضيق المكره عليه حتى صرح بالكفر من غير تورية وطلب منه أن يقول لا أريد بقلبي سوى ما أذكره بلساني فههنا يتعين إما الكذب وإما توريط النفس للعذاب . فمن الناس من قال : يباح له الكذب حينئذ . ومنهم من قال : ليس له ذلك . واختاره القاضي لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً فوجب أن يقبح على كل حال . ولو خرج الكذب عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله الكذب لمصلحة ما فلا يبقى وثوق بوعده وبوعيده . وللإكره مراتب منها : أن يجب الفعل المكره عليه كما لو أكرهه على شرب الخمر وأكل الميتة لما فيه من صون النفس مع عدم إضرار بالغير ولا إهانة لحق الله . ومنها أن يصير الفعل مباحاً لا واجباً كما لو أكره على التلفظ بكلمة الكفر لما روي أن بلالاً صبر على العذاب وكان يقول : أحد أحد حتى ملوه وتركوه ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئسما فعلت بل عظمه ، ولأن في ترك التقية والصبر على القتل أو التعذيب إعزازاً للإسلام . ومنها أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم كما إذا أكره على قتل إنسان أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية . وحينئذ لو قتل فللعلماء قولان : أحدهما لا يلزم القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لأنه قتل دفعاً عن نفسه فأشبه قتل الصائل ، ولأنه كالآلة للمكره ولذلك وجب القصاص على المكره وثانيهما - وبه قال أحمد والشافعي في أصح قوليه - أن عليه القصاص لأنه قتله عدواناً لاستبقاء نفسه فصار كما لو قتل المضطر إنساناً فأكله .

ومن الأفعال ما لا يمكن الإكراه عليه وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة ، فلو دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا بالإكراه . والأصح أن الإكراه فيه متصوّر ، وأن الحد يسقط حينئذ ، وعن أبي حنيفة أنه إن أكرهه السلطان لم يجب الحد ، وإن أكرهه بعض الرعية وجب .
قال بعض الأصوليين : في قوله : { وقلبه مطمئن بالإيمان } دلالة على أن محل الإيمان هو القلب فهو إما الاعتقاد إن كان الإيمان معرفة ، وإما كلام النفس إن كان تصديقاً . وانتصاب { صدراً } على التمييز وأصله . ولكن من شرح بالكفر صدره . فعدل إلى النصب للمبالغة ولبناء الكلام على الإبهام ثم التفسير . قوله : { ذلك بأنهم } أي ذلك الارتداد بسبب أنهم رجحوا { الدنيا على الآخرة } ولأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان ولم يعصمهم عن الكفر . وقال جار الله : ذلك الوعيد والغضب والعذاب بسبب استحقاقهم خذلان الله بكفرهم . وهذا البحث وكذا بحث الطبع والختم والخلاف في تفسيره بين الأشاعرة والمعتزلة قد مر في أول سورة البقرة وفي غيرها فلا حاجة إلى الإعادة . { وأولئك هم الغافلون } أي الكاملون في الغفلة إذ غفلوا عن تدبر العواقب { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } وقال في أوائل سورة هود { هم الأخسرون } [ الآية : 22 ] لأن أولئك صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم فضلوا وأضلوا لذلك ضوعف لهم العذاب فهم الأخسرون ، وهؤلاء صدوا بأنفسهم فهم الخاسرون . ويمكن أن يقال : إن ما قبل الفواصل في تلك السورة لم يعتمد على ألف قبلها مثل « يبصرون » « يفترون » . وفي هذه السورة اعتمدت على الألف مثل « الكافرين » الكاذبون « فجاء في كل سورة على ما يناسبها . ولما ذكر حال من أكره أتبعه حال من هاجر من بعد ما فتن . قال جار الله : معنى { ثم إن ربك } تباعد حال هؤلاء من حال عمار وأصحابه . ومعنى { إن ربك لهم } أنه لهم لا عليهم فينصرهم ولا يخذلهم . ويحتمل أن يكون الجار متعلقاً بالخبر على نية التأخير . وتكرير » إن « لطول الكلام .
من قرأ { من بعد ما فتنوا } بفتح الفاء مبنياً للفال فوجهه أن فتن وافتتن بمعنى واحد والمراد أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت بعد ، أو أراد أن أكابر المشركين الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم ، ومعنى » ثم « على هذا التفسير ظاهر .

ومن قرأ بضم الفاء مبنياً للمفعول فالمراد أن المستضعفين المعذبين الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان إن هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر . وقال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ثم أسلموا وهاجروا فنزلت الآية فيهم . فمعنى « ثم » تبعيد حالة الغفران والرحمة عن حالة الارتداد والشك في أمر الرسول إلا أنه سبحانه بكرمه يغفر لهم إذا تابوا . وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي سرح ارتد ، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه . وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا الآية مدنية . ومثله ما روي عن قتادة أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ، فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت : { ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 1-2 ] فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزلت هذه الآية . والضمير في قوله : { من بعدها } يرجع إلى الأفعال المذكورة من الهجرة والجهاد والصبر . فالحاصل أن الآية إما نازلة فيمن عذب فلم يرتد ومع ذلك هاجر وجاهد ، وإما نازلة فيمن أظهر الكفر تقية فبين تعالى أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكن كذلك ، وإما نازلة فيمن ارتد ثم تاب وقام بما يجب القيام به فوعده الله المغفرة والرحمة . قال الزجاج { يوم تأتي } منصوب بقوله : { رحيم } أو بإضمار « اذكر » أو « ذكرهم وأنذرهم » ومعنى الآية ظاهر إلا أن في قوله : { عن نفسها } إشكالاً من حيث إضافته النفس إلى ضمير النفس . وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الحي ، وبالنفس الثانية الذات فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره . ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم { هؤلاء أضلونا } [ الأعراف : 38 ] { ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] ونحو ذلك . عن بعضهم : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول : يا رب نفسي حتى إن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك .
ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضاً فقال : { وضرب الله مثلاً قرية } يحتمل أن تكون مقدرة وأن تكون معينة موجودة إما مكة أو غيرها . وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة والأقرب أنها غيرها لأن مثل مكة يكون غير مكة فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها .

قال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية . فوصف الله تعالى تلك القرية بالأمن ثم بالاطمئنان إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلباً للصحة . ثم قال : { يأتيها رزقها رغداً من كل مكان } دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه . قال الكشاف : الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس . قلت : لعله حمله على ذلك طلب الضبط وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف . وكذا أطلق الأكثرون أن جمع « فعلة » يجيء على « أفعل » . قيل : إنما ذكر جمع القلة تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة . وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - فكفروا بها وبالغوا في إيذائه فسلط الله عليهم البلاء . عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم . نقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس هب أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان نبياً أما كان عربياً؟ كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل : « فكساها الله لباس الجوع » أو « فأذاقها الله طعم الجوع » فردّ عليه ابن الأعرابي . والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف ، لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره . فكانت الاستعارة مجردة . ولو قال : « فكساها » كانت مرشحة ، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب . وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحاً من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحاً . وقيل : إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرّف والاختبار فتقول : أناظر فلاناً فأذوق ما عنده .
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
فمعنى ذقت لباس الجوع والخوف على فلان تعرفت ما ظهر عليه من الضمور وشحوبة اللون وتغير الحال وكسوف البال . ففحوى الآية عرفها الله أثر لباس الجوع . وقيل : حمل اللباس على المماسة والتقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .

قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب والهم بقتله والإخراج من مكة . قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله : { يصنعون } تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها .
ولما ذكر المثل ذكر الممثل فقال : { ولقد جاءهم } يعني أهل مكة { رسول منهم } من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه { فكذبوه فأخذهم العذاب وهم } متلبسون بالظلم . قال ابن عباس : يعني بالعذاب الجوع الذي كان بمكة . وقيل : القتل يوم بدر . وقيل : إن قول ابن عباس أولى . والمراد أن ذلك الجوع بسبب كفركم فاتركوا الكفر . { فكلوا مما رزقكم الله } من الغنائم . فأكل الغنائم مسبب عن ترك الكفر فلذلك وصله بالفاء . وقال الكلبي : إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا : عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الحمل فحمل الطعام إليهم فذلك قوله : { فكلوا } . ورجح قول ابن عباس بأنه تعالى قال بعد ذلك : { إنما حرم عليكم الميتة } فالمراد أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب - وهو الغنيمة - واتركوا الخبائث - وهو الميتة والدم - أو أنه سبحانه أعاد تحريم هذه الأشياء في « البقرة » وفي « المائدة » و « الأنعام » وفي هذه السورة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة ، ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة ، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } قال الكسائي والزجاج « ما » مصدرية وانتصاب { الكذب } ب { لا تقولوا } أي ولا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم . وقوله : { هذا حلال وهذا حرام } بدل من الكذب ولك أن تنصب { الكذب } ب { تصف } وتجعل « ما » مصدرية أيضاً أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب . ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ودليل . ويجوز أن تكون « ما » موصولة أي ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام ، فحذف لفظ فيه لكونه معلوماً . وقوله : { تصف ألسنتكم الكذب } من فصيح الكلام وبلغيه كأن ماهية الكذب مجهولة وكلامهم يكشف عن حقيقته نظيره قوله : « وجهه يصف الجمال وعينه تصف السحر » . واللام في قوله : { لتفتروا } لام العاقبة لا الغرض . والمقصود من ذكره بيان أنه كذب على الله فإن قوله : { لما تصف ألسنتكم الكذب } لم يكن فيه هذا البيان .
ثم أوعد المفترين بقوله : { إن الذين يفترون } الآية . وقوله : { متاع } قال الزجاج : أي متاعهم . وعن ابن عباس : أراد أن متاع كل الدنيا قليل . والمعنى أن منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية ، أو أن نعيم الدنيا كلها يزول عنهم عما قريب ويبقى العقاب الدائم الأليم .

ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال : { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } يعني في سورة الأنعام عند قوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } { الأنعام : 146 ] ثم قال : { وما ظلمناهم } كقوله هناك : { ذلك جزيناهم ببغيهم } [ الأنعام : 146 ] . ثم بين أن الافتراء على الله ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة . وقوله : { بجهالة } في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه أو غير متأملين في وخامة عاقبته لغلبة الشهوة عليهم . { إن ربك من بعدها } من بعد تلك السيئة أو التوبة أو الجهالة . ولما بالغ في إبطال مذاهب المشركين وفي الجواب عن شبههم ومطاعنهم وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم رئيس الموحدين وقدوة أكابر النبيين ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة قائلاً : { إن إبراهيم كان أمة } أي هو وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير :
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار فلهذا قيل : إنه أمة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل : يبعثه الله أمة وحده . وعن شهر بن حوشب : لم يكن زمن إلا وفيه أربعة عشر يدفع بهم الله عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه وحده . وقيل : أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه أفعال الخير أو بمعنى مؤتم به كقوله : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] وقيل : إنه من باب إطلاق المسبب على السبب لأنه حصل لأمته الامتياز عمن سواهم { قانتاً لله } قائماً بما يأمره الله . وعن ابن عباس : مطيعاً لله { حنيفاً } مائلاً إلى ملة الإسلام ميلاً لا يزول عنه . وقال ابن عباس : المراد أنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى . { ولم يك من المشركين } قط لا في الصغر ولا في الكبر { شاكراً لأنعمه } وإن كانت قليلة فضلاً عن النعم الكثيرة . يروى أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخلا غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاماً فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم { اجتباه } اختصه واصطفاه للنبوّة { وهداه إلى صراط مستقيم } إلى ملة الإسلام { وآتيناه في الدنيا حسنة } عن قتادة : هي أن الله تعالى حببه إلى أهل الأديان كلها . وقيل : الأموال والأولاد . وقيل قول المصلي منا « كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم » . { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } في أعلى مقاماتهم من الجنة تحقيقاً لدعائه { وألحقني بالصالحين } [ يوسف : 101 ] .
قال في الكشاف : معنى « ثم » في قوله : { ثم أوحينا إليك } تبعيد هذا النعت من بين سائر النعوت التي أثنى الله بها على إبراهيم ، ليعلم أن أجل ما أوتي خليل الله اتباع نبينا ملته في الأصول من التوحيد والمعاد وغيرهما كاختيار يوم الجمعة للفراغ وترك العمل .

قال أهل النظم : كان لسائل أن يسأل : لم اختار اليهود السبت مع أن إبراهيم كان اختار الجمعة؟ فأجاب الله سبحانه بقوله : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } فاختاره بعضهم للفراغ واختار بعضهم الجمعة . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا في كل سبعة أيام يوماً واحداً فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق وهو يوم السبت . فجعل عليهم السبت وشدد عليهم . ثم جاءهم عيسى بالجمعة أيضاً فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع اليهود غداً والنصارى بعد غدٍ » وقال صاحب الكشاف : السبت مصدر سبت اليهود إذا عظمت سبتها . والمعنى { إنما جعل } وبال { السبت } وهو المسخ { على الذين اختلفوا فيه } واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة . وضعف القول الأول بأن اليهود متفقون على تعيين يوم السبت للفراغة . ويمكن أن يقال : لعل فيهم من اختار الجمعة في قديم الدهر ثم وقع الاختلاف . سؤال : النصارى يقولون : إن يوم الأحد مبتدأ الخلق ، والتكوين على ما اتفق عليه أهل الملل أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام أوّلها الأحد فجعله عيداً معقول . واليهود قالت : إن يوم السبت هو اليوم الذي قد فرغ الله فيه من الأعمال فنحن نوافق ربنا . فما وجه جعل الجمعة عيداً؟ والجواب بعد التعبد هو أن يوم الجمعة يوم التمام والكمال وذلك يوجب الفرح والسرور فجعله عيداً أولى . ثم أوعد اليهود بقوله : { وإن ربك ليحكم } الخ . ولما أمر محمداً باتباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم بين وجه المتابعة فقال : { ادع إلى سبيل ربك } الآية . وفيه أن طريقة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الدعوة كانت هكذا . وتقرير ذلك أن الداعي إلى مذهب ونحلة لا بد أن يكون قوله مبنياً على حجة وهي إما أن تكون يقينية قطعية مبرأة من شائبة احتمال النقيض ، وإما أن تكون مفيدة للظن القوي والإقناع التام وإلا لم يكن ملتفتاً إليها في العلوم ، وقد يكون الجدال والخصام غالباً على المدعو فيحتاج حينئذ إلى إلزامه وإفحامه بدليل مركب من مقدمات مشهورة مسلمة عند الجمهور ، أو مقدمات مسلمة عند الخصم . فقوله : { بالحكمة } إشارة إلى استعمال الحجج القطعية المفيدة لليقين ، والمكالمة بهذا الطريق إنما تكون مع الطالبين البالغين في الاستعداد إلى درجة الكمال .

ج20. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


وقوله : { والموعظة الحسنة } إشارة إلى استعمال الدلائل الإقناعية الموقعة للتصديق بمقدمات مقبولة ، وأهل هذه المكالمة أقوام انحطت درجتهم عن درجة الطائفة الأولى إلا أنهم باقون على الفطرة الأصلية طاهرون عن دنس الشغب وكدورات الجدال وهم عامة الخلق . وليس للدعوة إلا هذان الطريقان ، ولكن الداعي قد يضطر مع الخصم الألد إلى استعمال الحجج الملزمة المفحمة كما قلنا فلهذا السبب عطف على الدعوة قوله : { وجالهم بالتي } أي بالطريقة { التي هي أحسن } فكان طريق الجدال لم يكن سلوكه مقصوداً بالذات وإنما اضطر الداعي إليه لأجل كون الخصم مشاغباً . وإنما استحسن هذا الطريق لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً . فإن كان مبطلاً وأراد تغليط السامع لم يكن جداله حسناً ويسمى دليله مغالظة . هكذا ينبغي أن يتصوّر تفسير هذه الآية فإن كلام المفسرين الظاهريين فيه غير مضبوط . وجوّز في الكشاف أن يريد القرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف .
ولما حث على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الهداية والرشد ليس إلى النبي وإنما ذلك إلى الله تعالى فقال : { إن ربك هو أعلم } الآية . أي هو العالم بضلال النفوس واهتدائها وكدورتها وبمن جعل الدعوة سبباً لسعادتها أو واسطة لشقائها . ثم إن الدعوة تتضمن تكليف المدعوّين بالرجوع عن الدين المألوف ، والفطام منه شديد وربما تنجر المقاولة إلى المقاتلة ، فحينئذ أمر الداعي وأتباعه برعاية العدل والإنصاف في حال القتال قائلاً { وإن عاقبتم } أي إن رغبتم في استيفاء القصاص إن وقع قتل فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه . والآية عامة وقد يخصصها رواة أسباب النزول بقصة حمزة قالوا : إن المشركون مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب . فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به . وروي فرآه مبقور البطن فقال : أما والذي أحلف به إن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده . قاله ابن عباس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب . ومن هذا ذهبوا إلى أن خواتيم سورة النحل مدنية . ولا خلاف في تحريم المثلة ، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور ، وقيل : نزلت حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدأوا بالقتال فهو كقوله : { وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا . وقال مجاهد والنخعي وابن سيرين : إنه نهى المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم . وفي قوله : { إن عاقبتم } رمز إلى أن الأولى له أن لا يفعل كقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح .

ثم انتقل من التعريض إلى بعض التصريح قائلاً . { ولئن صبرتم لهو خير } أي صبركم خير لكم . فوضع المظهر موضع المضمر ثناء من الله عليهم أو وصفاً لهم بالصفة التي تحصل لهم أو جنس الصبر خير { للصابرين } من جنسهم . ثم صرح كل التصريح فقال : { واصبر } ثم ذكر ما يفيد سهولة الصبر على النفس فقال : { وما صبرك إلا بالله } أي بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبه وهذا سبب كلي مفيد للصبر . وأما السبب الجزئي القريب فذلك قوله : { ولا تحزن عليهم ولا تك } وذلك أن إقدام الإنسان على الانتقام لا يكون إلا عند هيجان الغضب وإنه لا يهيج إلا عند فوات نفع . وأشار إليه بقوله : { ولا تحزن عليهم } قيل : أي على قتلى أحد . وقيل : على الكافرين كقوله : { فلا تأس على القوم الكافرين } [ المائدة : 68 ] وإلا حين توقع مكروه في المستقبل وأشار إلى ذلك بقوله : { ولا تك في ضيق } من قرأ بكسر الضاد فظاهر وهو من الكلام المقلوب الذي يشجع عليه أمن الإلباس ، لأن الضيق وصف فهو يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه . وفيه لطيفة أخرى وهي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب ، ومن قرأ بفتحها فإما على أنه مصدر أيضاً أو على أنه مخفف ضيق فمعناه في أمر ضيق ، وإنما لم يقل « ولا تكن » بالنون كما في آخر النمل موافقة لما قبله { ولم يك من المشركين } ولأن الحزن ههنا أكثر بناء على أنها وردت في قتل حمزة فبولغ بالحذف في النهي عن الحزن .
ثم ختم السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال : { إن الله مع الذين اتقوا } المعاصي كلها { والذين هم محسنون } في الطاعات بأن يعبدوا الله مخلصين عن شوائب الرياء : وقيل : { إن الله مع الذين اتقوا } استيفاء الزيادة { والذين هم محسنون } في ترك أصل الانتقام . فإن أردت أن أكون معك بالنصر والتأييد فكن من المتقين ومن المحسنين ، وفيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون بالرفق واللين مرتبة مرتبة . وقيل : الذين اتقوا إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، والذين هم محسنون إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومنه قال بعض المشايخ : كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق . واحتضر هرم بن حبان فقيل له : أوص . فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي أوصيكم بخواتيم سورة النحل .
التأويل : { وإذا بدلنا آية } إنه تعالى يعالج بدواء القرآن أمراض القلوب في كل وقت بنوع آخر على حسب ما يعلمه من المصالح فلذلك قال : { والله أعلم بما ينزل } { وبشرى للمسلمين } الذين استسلموا للطبيب ومعالجته حتى صارت قلوبهم سليمة . { إنما يعلمه بشر } ففيه إنكار أن طب القلوب وعلاجها من شأن البشر بنظر العقل لأنه مبني على معرفة الأمراض وكميتها وكيفيتها ، ومعرفة الأدوية وخواصها وكيفية استعمالها ، ومعرفة الأمزجة واختلاف أحوالها ، وأن القلوب بيد الله يقلبها هو كيف يشاء فيضيق عن معالجتها نطاق عقول البشر ولهذا قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم :

{ وإذا مرضت فهو يشفين } [ الشعراء : 80 ] اللَّهم إلا إذا علم بتعليم الله كقوله : { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ] ومع هذا كان يقول نحن نحكم بالظاهر { يلحدون إليه أعجمي } هو الذي لا يفهم من كلام الله أسراره وحقائقه والعربي ضده كما قال : { فإنما يسرناه بلسانك } [ مريم : 97 ] { إنما يفتري الكذب } لأن الافتراء من شأن النفس الأمارة الكافرة التي لا تؤمن بآيات الله . { وأولئك هم الكاذبون } أي هم الذين استمروا على الكذب لأن المؤمن قد يكذب في بعض الأحوال إلا أنه لا يصر على ذلك ، وهكذا في جميع المعاصي ولهذا لا يخرج من الإيمان بالكلية ولكن ينقص الكذب إيمانه ويرجع بالتوبة إلى أصله . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً » { من كفر بالله من بعد إيمانه } إشارة إلى المريد المرتد بنسيم روائح نفحات الحق بمشام قلبه عند هبوبه ، واصطكاك أهوية عوالم الباطن ، وانخراق سحب حجب البشرية فلمع له برق أضاءت به آفاق سماء القلب وأشرقت أرض النفس ، فآمن بحقية الطلب واحتمال التعب فاستوقد نار الشوق والمحبة ، فما أضاءت ما حوله وبذل في الاجتهاد جده وحوله هبت نكباء النكبات فصدئت مرآة قلبه ، وذهب الله بنوره وانخمدت نار الطلب وآل المشؤوم إلى طبعه { إلا من أكره } على مباشرة فعل أو قول يخالف الطريقة من معاملات أهل الطبيعة فيوافقهم فيها في الظاهر ويخالفهم بالباطن حتى يخلص من شؤم صحبتهم { استحبوا } اختاروا محبة الدنيا وشهواتها على محبة الله { وإن الله لا يهدي } إلى حضرته { القوم الكافرين } بنعمته { وأولئك هم الغافلون } عما أعدّ الله لعباده الصالحين . { هم الخاسرون } لأن الإغضاء عن العبودية يورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية { ثم إن ربك للذين هاجروا } نفوسهم وهواهم { من بعد ما فتنوا } بمخالفة أوامر الحق ونواهيه { ثم جاهدوا } النفوس بسيوف الرياضات { وصبروا } على تزكيتها وتحليتها متمسكين بذيل إرادة الشيخ { يوم تأتي } أرباب النفوس { تجادل على نفسها } على قدر بقاء وجودها دفعاً لمضارّها وجذباً لمنافعها حتى إن كل نبي يقول نفسي نفسي إلا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه فانٍ بالكلية عن نفسه باقٍ ببقاء ربه فيقول : أمتي أمتي لأنه مغفور ذنب وجوده المتقدم في الدنيا والمتأخر في الآخرة بما فتح الله له ليلة المعراج إذ واجهه بخطاب « سلام عليك أيها النبي » ففني عن وجوده بالسلام وبقي بوجوده بالرحمة ، فكان رحمة مهداة ببركاته إلى الناس كافة ، ولكن رفع الذلة من تلك الضيافة وجب لمتابعيه فلهذا قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

يعني الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود { قرية } هي قرية شخص الإنسان { كانت آمنة } أي آهلة وهو الروح الإنساني { مطمئنة } بذكر الله { يأتيها رزقها } من المواهب { من كل مكان } روحاني وجسماني { فكفرت } النفس الأمارة { فأذاقها الله لباس الجوع } وهو انقطاع مواد التوفيق فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات { والخوف } وهو خوف الانقطاع عن الله { ولقد جاءهم رسول } الوارد بالرباني فما تخلقوا بأخلاقه { وكلوا مما رزقكم الله } من أنوار الشريعة وأسرار الطريقة { هذا حلال وهذا حرام } على عادة أهل الإباحة { وعلى الذين هادوا } أي تابوا { حرمنا } من موانع الوصول { ما قصصنا عليك } في بدوّ نبوتك حتى كنت محترزاً عن صحبة خديجة وتنحيت إلى حراء أسبوعاً أو أسبوعين . { وما ظلمناهم } بتحريم ذلك عليهم بل أنعمنا به عليهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالإعراض عنا بعد الإقبال علينا { ولم يك من المشركين } ممن له شركة مع الله في الوجود { اتبع ملة إبراهيم } في الظاهر حتى يتبعك هو في الباطن ولهذا ذهب إلى ربه ماشياً { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] وأسري بمحمد راكباً { سبحان الذي أسرى بعبده } [ الإسراء : 1 ] فهو خليل وأنت حبيب ، اتبعت الخليل في الدنيا فيتبعك الخليل في الآخرة « الناس محتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم عليه السلام » . { وإن عاقبتهم } النفس الأمارة { فعاقبوا } أي بالغوا في عقابها بالفطام عن مألوفاتها { بمثل ما عوقبتم به } من الانقطاع عن مواد التوفيق والمواهب . { ولئن صبرتم } على معاقبتهم { لهو خير } لأن عقاب الحبيب على قدر عقاب العدو وأعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك . { واصبر } على معاقبة النفس ومخالفة الهوى . { وما صبرك إلا بالله } لأن الصبر من صفات الله ولا يقدر أحد أن يتصف بصفاته إلا به بأن يتجلى بتلك الصفة له . { ولا تحزن } على النفس وجنودها عند المعاقبة فإن فيها صلاح حالهم ومآلهم . { ولا تك في ضيق مما يمكرون } فإن مكرهم يندفع بمعونة الله عند الفرار إليه والله أعلم .


سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

القراآت : { يتخذوا } بياء الغيبة . أبو عمرو وعباس مخيراً . الباقون بتاء الخطاب { أساتم } بالمد : أبو عمرو ويزيد الأصبهاني عن ورش والأعشى وحمزة في الوقف . { ليسوء } بياء الغيبة على التوحيد : ابن عامر وحمزة وأبو بكر وحماد و { لنسوء } بالنون : علي . الباقون { ليسؤوا } على الجمع { ويبشر } مخففاً : حمزة وعلي . { ويخرج } بالياء مجهولاً : يزيد { ويخرج } لازماً : يعقوب الآخرون بالنون متعدياً { تلقاه } مشدداً : ابن عامر ويزيد ، وروى النقاش عن ابن ذكوان بالإمالة . الباقون مخففة ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة { قرأ كتابك } بغيرهم : الأعشى وأوقية وحمزة في الوقف : { أمرنا } من باب المفاعلة : يعقوب .
الوقوف : { آياتنا } ط { البصير } 5 { وكيلاً } ط لمن قرأ { تتخذوا } بتاء الخطاب لإمكان أن يجعل { ذرية } منادى { نوح } ط { شكوراً } 5 { كبيراً } 5 { الديار } ط { مفعولاً } 5 { نفيراً } 5 { فلها } ط لأن ما بعد عائد إلى قوله { فإذا جاء وعد أولادهما } مع اعتراض العوارض { تتبيراً } 5 { يرحمكم } 5 للابتداء بالشرط مع العطف { عدنا } 5 حذراً من توهم العطف { حصيراً } 5 { كبيراً } 5 لا للعطف { أليما } 5 { بالخير } ط { عجولاً } 5 { والحساب } ، ط { تفصيلاً } 5 { عنقه } ط { منشوراً } 5 { كتابك } ط { حسيباً } 5 ط للابتداء بعد بالشرط { لنفسه } ج للشرط مع العطف { عليها } ط { أخرى } ط { رسولاً } 5 { تدميراً } 5 { نوح } ط { بصيراً } 5 { جهنم } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { مدحوراً } 5 { مشكوراً } 5 { عطاء ربك } ط { محظوراً } 5 { بعض } ط { تفصيلاً } .
الوقوف : لما عزم على نبيه في خواتيم النحل جوامع مكارم الأخلاق حكى طرفاً مما خصة به من المعجزات فقال : { سبحان الذي } وهو اسم علم للتسبيح وقد مر إعرابه في قوله : { سبحانك لاعلم لنا إلاَّ ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] والمراد تنزيه الله من كل مالا يليق بجلاله { وأسرى } وسرى لغتان . يروى أنه لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المراتب العلية في معراجه في معراجه أوحى الله إليه يا محمد : بم أشرِّفك؟ فقال : يا رب تنسيني إلى نفسك بالعبودية . فأنزل فيه : { سبحان الذي أسرى بعبده } وقوله : { ليلاً } نصب على الظرف وفيه تأكيد الإسراء ، وفي تنكيره تقليل مدة الإسراء لأن التنكير فيه معنى البعضية ، أخبر أنه أسرى به في بعض الليل { من المسجد الحرام } عن النبي صلى الله عليه وسلم : بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق . وقيل : المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد وإلى هذا القول ذهب الأكثرون . قالوا : إنه أسرى به من دار أم هانيء بنت أبي طالب قبل الهجرة بسنة . وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة .

{ إلى المسجد الأقصى } هو بيت المقدس بالإتفاق سمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد . { الذي باركنا حوله } يري بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى عليه السلام ، ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة . وقوله : { أسرى } مع قوله : { باركنا } سلوك لطريقة الالتفات { لنريه من آياتنا } بيان لحكمة الإسراء .
سؤال : أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض ، وأرى محمداً صلى الله عليه وسلم بعض آياته فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل؟
الجواب : لعل بعض الآيات المضافة إلى الله تعالى أشرف وأجل من ملكوت السموات والأرض كلها ولهذا ختم الآية بقوله : { إنه هو السميع } لأقوال محمد { البصير } بأفعاله المهذبة الخالصة فيكرمه على حسب ذلك .
واعلم أن الأكثرين من علماء الإسلام اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأقلون على أنه ما أسرى إلا بروحه . حكى محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن حذيفة أنه قال : كان ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه عرج بروحه . وحكى هذا القول عن عائشة أيضاً . وقد احتج بعض العقلاء على هذا القول بوجوه منها : أن الحركة الجسمانية البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة : ومنها أن صعوده إلى السموات يوجب انخراق الفلك . ومنها أنه لو صح ذلك لكان من أعظم معجزاته فوجب أن يكون بمحضر من الجم الغفير حتى يستدلوا بذلك على صدقه ، وما الفائدة في إسراته ليلاً على حين غفلة من الناس . ومنها أن الإنسان عبارة عن الروح وحده لأنه باقٍ من أول عمره إلى آخره ، والأجزاء البدنية في التغير والانتقال والباقي مغاير للمتغير ، ولأن الإنسان يدرك ذاته حين ما يكون غافلاً عن جميع جوارحه وأعضائه . ومنها قوله سبحانه . { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاَّ فتنة للناس } [ الإسراء : 60 ] وما تلك الرؤيا إلاَّ حديث المعراج . وإنما كانت فتنة للناس لأن كثيراً ممن آمن به حين سمعها ارتد وكفر به . ومنها أن حديث المعراج الجسماني اشتمل على أشياء بعيدة عن العقل كشق بطنه وتطهيره بماء زمزم وركوب البراق وإيجاب خمسين صلاة ، فإن ذلك يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته ، وأنه يوجب البداء .
أجاب الأكثرون عن الأول بأنه حركة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى فوق الفلك الأعظلم لم يكن إلاّ نصف قطر الفلك ، ونسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة أمثال وسبع هي نصف حركة الفلك في يوم بليلته ، وإذا كان الأكثر واقعاً فالأقل بالإمكان أولى ، ولو كان القول بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ممتنعاً لكان القول بنزول جبريل من العرش إلى مكة في لحظة واحدة ممتنعاً ، لأن الملائكة أيضاً أجسام عند جمهور المسلمين ، وكذا القول في حركات الجن والشياطين وقد سخر الله تعالى لسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر ، وقد

{ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } [ النمل : 40 ] . وكان عرش بلقيس في أقصى اليمن وسليمان في الشام . وعلى قول من يقول إن الإبصار بخروج الشعاع فإنما ينتقل شعاع العين من البصر إلى الكواكب الثابتة في آن واحد ، فيثبت أن المعراج أمر ممكن في نفسه . أقصى ما في الباب الاستبعاد وخرق العادة ولكنه ليس مخصوصاً بهذه الصورة وإنما ذلك أمر حاصل في جميع المعجزات . وعن الثاني أن انخراق الأفلاك عند حكماء الإسلام جائز . وعن الثالث أن فائدة الإسراء قد عادت إليه حيث شاهد العالم العلوي والعرش والكرسي وما فيها وعليها فحصل في قلبه زيادة قوة وطمأنينة ، بها انقطعت تعلقاته عن الكونين ولم يبق مشغول القلب بشيء من أمور الدنيا والآخرة . وعن الرابع أن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد . وعن الخامس أن تلك الرؤيا هي غير حكاية المعراج كما سيجيء في تفسيره ، ولو سلم أنها هي المعراج فالرؤيا بمعنى الرؤية . وعن السادس أنه لا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله وأنه على كل شيء قدير . واعلم أنه ليس في الآية دلالة على العروج من بيت المقدس إلى السموات وإلى ما فوق العرش إلاَّ أنه ورد الحديث به ، ومنهم من استدل على ذلك بأول سورة النجم أو بقوله { لتركبن طبقاً عن طبق } [ الانشقاق : 19 ] وتفسيرهما مذكور في موضعه .
يروى أنه صلى الله عليه وسلم نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال : مثل لي النبيون وصليت بهم . وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : مالك؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم قال : وإن كذبوني . فخرج فجلس إليه أبو جهل فأجهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء به وأنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ومنه عرج إلى السماء ورأى ما فيها من العجائب ولقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى . فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم ، فمن بين مصفقٍ وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً ، وارتد ناس ممن كان آمن به . وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : إن كان قال ذلك لفد صدق . قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق . وكان فيهم من سافر إلى الشام فاستنعتوه المسجد فجلى له صلى الله عليه وسلم بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا : أما النعت فقد أصاب . فقالوا : أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالهم وأحوالها وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت ، وقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلاَّ سحر مبين .

ولما حكى طرفاً من إكرام محمد صلى الله عليه وسلم ذكر شيئاً من إكرام موسى فقال : { وآتينا موسى الكتاب } أي التوراة { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } أخرجناهم بواسطته من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين { ألا تتخذوا } من قرأ على الغيبة ف « أَنْ » ناصبة ولام العاقبة محذوفة أي لئلا يتخذوا ، ومن قرأ على الخطاب فَ « أَنْ » مفسرة معناها أي لا تتخذوا كقولك : كتبت إليه أن افعل كذا ، وزائدة والقول مضمر يعني قلنا لهم لا تتخذوا { من دوني وكيلاً } رباً تكلون إليه أمركم يا { ذرية من حملنا مع نوح } قال قتادة : الناس كلهم ذرية نوح عليه السلام لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين : سام وحام ويافث ، والناس كلهم من ذرية أولئك . فقوله « يا ذرية » قائم مقام قوله : { يا أيها الناس } وعلى القراءة الأولى انتصب { ذرية } على الاختصاص ، وعلى القراءتين احتمل أن ينتصب على أنه مفعول آخر ليتخذوا أي لا تجعلوهم أرباباً كقوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } [ آل عمران : 80 ] من ذرية المحمولين مع نوح وعيسى وعزير . ثم علل النهي عن الإشراك بقوله : { إنه كان عبداً شكوراً } أي أنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم في الشكر لله وعدم اتخاذ الشريك له . ويجوز أن يكون تعليلاً لاختصاص بني إسرائيل والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح فهم متصلون به ، فلهذا استأهلوا الاختصاص . وجوز في الكشاف أن يكون ثناء على نوح بطريق الاستطراد . يروى من شكره أنه كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني ، وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني ، وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني ، وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه ، وكان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجاً آثر به . ثم ذكر أن كثيراً من بني إسرائيل ما اهتدوا بهدى التوراة فقال : { وقضينا إلى بني إسرائيل } أوحينا إليهم وحياً مقضياً مقطوعاً به في الكتاب الذي هو التوراة . وقول : { لتفسدن } جواب قسم محذوف ، أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل : وأقسمنا لتفسدن { في الأرض } أرض مصر { مرتين ولتعلن } لتعظمن وتستولن على الناس { علواً كبيراً } تسلطاً عظيماً وبغياً شديداً { فإذا جاء وعد } عقاب { أولاهما } أولى المرتين { بعثنا } أرسلنا وسلطنا { عليكم عباد لنا أولي بأس شديد } أصحاب نجدة وشدة قتال { فجاسوا } ترددوا للمارة { خلال الديار } أوساطها وفرجها يعني ديار بيت المقدس { وكان } وعد العقاب { وعداً مفعولاً } لا بد من وقوعه { ثم رددنا لكم الكرة } الدولة والغلبة { عليهم } على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو : { وجعلناكم أكثر نفيراً } مما كنتم .

والنفير من ينفر مع الرجل من قومه . احتجت الأشاعرة بقوله سبحانه : { قضينا } بعثنا { وكان وعداً مفعولاً } على صحة القضاء والقدر وأن الفساد والنهب والقتل والأسر كلها بفعله . وأجابت المعتزلة بأن المراد أنه خلى بينهم وبين ما فعلوا ولم يمنعهم عن تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظها . وضعف بأن تفسير البعث بالتخلية وعدم المنع خلاف الظاهر ، على أن الدليل الكلي العقلي قد دل على وجوب انتهاء الكل إليه .
ولما حكى عنهم أنهم حين عصوا سلط عليهم أعداءهم مهد قاعدة كلية في الإحسان والإساءة قائلاً { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } لم يقل فعليها أو فإليها للتقابل ، مع أن حروف الإضافة بعضها يقوم مقام البعض . قال أهل الإشارة : إنه أعاد الإحسان ولم يذكر الإساءة إلا مرة ففيه دليل على أن جانب الرحمة أغلب { فإذا جاء وعد } عقاب المرة { الآخرة } بعثناهم حذف جواب « إذاً » لدلالة ذكره أولاً عليه . ومعنى { ليسوؤا وجوهكم } ليجعلها الله ، أو الوعد ، أو البعث ، أو ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه { وليتبروا ما علوا } ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ، ويجوز أن يكون « ما » بمعنى المدة أي ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل . وقوله : { تتبيراً } ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر . وروى أن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين ، فسلط الله عليهم بختنصر أو سنجاريب وجنوده أو جالوت . عن ابن عباس : قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وسبوا منهم سبعين ألفاً وبقوا في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر من أهل بابل وتزوج بامرأة من بني إسرائيل وطلبت من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه ، ثم أقدموا على قتل زكريا ويحيى عليهما السلام وقصدوا قتل عيسى ابن مريم عليه السلام ، وهذا ثاني الإفسادين فانتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك . وقال صاحب الكشاف : المرة الأولى قتل زكريا وحبس أرميا ، والآخرة قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى . واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام ، والمقصود الأصلي الذي دل عليه القرآن هو أنهم كلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم أعداءهم .

وفيه تحذير للعقلاء من مخالفة أوامر الله ونواهيه ، ثم قال : { عسى ربكم } يا بني إسرائيل { أن يرحمكم } بعد إنتقامه منكم في المرة الثانية { وإن عدتم } للثالثة { عدنا } لها . قال أهل السير : ثم إنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي . وهو تكذيب محمد وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل . فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب ، فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والإجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا حشمة لهم ولا عزة فيهم إلى يوم القيامة ، وأما بعد ذلك فهو قوله { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } أي محبساً حاصراً ومحصوراً لا يتخلصون منه أبداً . وعن الحسن : بساطاً كما يبسط الحصير المنسوج .
ثم لما شرح فعله في حق عباده المخلصين كمحمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام وفي حق عبيدة العاصين كأكثر بني إسرائيل ، وكان في ذلك تنبيه على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته تقتضي كل شر وغرامة ، عظم شأن القرآن المبين للأحكام الهادي للأنام فقال : { إن هذا القرآن يهدي للتي } أي للحالة أو الشريعة أو الطريقة التي { هي أقوام } وفي حذف الموصوف فخلفه بعرفها أهل البلاغة لعموم الاعتبار وذهاب الوهم كل مذهب . قيل : هذا الشيء أقوم من ذلك . إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ، ثم يكون للأول على الآخر . وكيف يتصور في غير هذا الدين شيء من الاستقامة حتى يستقيم هذا التفضيل؟ وأجيب بأن « أفعل » ههنا بمعنى الفاعل كقولنا « الله أكبر » هو الكبير . وكقولهم « الناقص والأشج أعدلا بني مروان » أي عادلا بني مروان . ويمكن أن يقال : لا شيء من الأديان إلا وفيه نوع من الاستقامة كالاعتراف بالله الواجب بالذات ، والالتزام لأصول الأخلاق ومكارم العادات وقوانين السياسات إلا أن بعض الخلل أبطل الكل فالكل ينهدم بانهدام الجزء . ثم إن كون القرآن هادياً إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح له نتيجة وأثر وذلك هو البشارة بالأجر الكبير لأهل الإيمان والعمل الصالح وبالعذاب الأليم لغيرهم ، وأنت خبير بأن لفظ البشارة بمعنى الإنذار يستعمل للتهكم إذ البشارة مطلق الخبر المغير للبشرة فكأنه قيل : ويخبر الذي لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذاباً . ويجوز أن يبشر المؤمنين ببشارتين : إحداهما بثوابهم والأخرى بعذاب أعدائهم . قال في الكشاف : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ وأجاب على أصول الاعتزال بأن الناس كانوا حينئذ إما من أهل التقوى وإما من أهل الشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك . قلت : هذا الجواب منه عجيب ، فإن هذا الصنف لو سلم أنه لم يكن موجوداً في ذلك العصر إلا أن حكمه يجب أن يذكر في القرآن الذي فيه أصول الأحكام ، على أن ذكر الفساق من الأمة في القرآن المكي والمدني موجودة قال تعالى :

{ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد } [ لقمان : 32 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 52 ] { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم } [ آل عمران : 135 ] . وإذا كان ذكرهم في القرآن وارداً وأنه تعلى يعدد ههنا أوصاف القرآن على جهة المدح فأي مقام أدعى إلى ذكر هذا الوصف من ههنا . والجواب الحق أن الفسقة جعلوا بالعين أهل الإيمان والله أعلم . قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة . والجواب المنع من الخصوص ولو سلم فإيمانهم بالآخرة كلا إيمان ، فبعضهم أنكروا المعاد الجسماني وبعضهم قالوا : لن تمسنا النار إلاَّ أياماً . واعلم أنه سبحانه قال ههنا : { أجراً كبيراً } وفي أول الكهف { أجراً حسناً } [ الآية : 2 ] ، رعاية للفاصلة وإلا فالأجر الكبير والأجر الحسن كلاهما الجنة .
ولما بين أن القرآن كافٍ في الهداية ذكر أن الإنسان قد يعدل عن التمسك بأحكامه فقال : { ويدع الإنسان } أي جنس الكافر . وقد ذكر جمع من المفسرين أنه النضر بن الحرث دعا { اللَّهم إن كان هذا هو الحق من عندك } [ الأنفال : 32 ] ، الآية فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته صبراً . وكان بعضهم يقول : ائتنا بعذاب الله ، وآخرون متى هذا الوعد جهلاً منهم واعتقاداً أن محمداً صلى الله عليه وسلم كاذب . وقيل : المراد أنه يدعو الله عند غضبه وضجره فيعلن نفسه وولده وماله ، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئن بالليل فقالت له : مالك تئن؟ فشكا ألم القد فأرخت من كتافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب . فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه فقال صلى الله عليه وسلم : اللَّهم اقطع يديها فرفعت سودة يديه تتوقع الإجابة وأن يقطع الله يديها قال النبي صلى الله عليه وسلم : إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلترد سودة يديها . { وكان الإنسان عجولاً } يستعجل بالعذاب مع أنه آتيه أو يتسرع إلى طلبه كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله معتقداً أن خيره فيه وإن كان ذلك عند التأمل مضراً له . وقيل : أراد بهذا الإنسان آدم ، وذلك أنه لما انتهى الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى فذهب لينهض فلم يقدر . وليس هذا القول بالحقيقة مغايراً للأول لأن أصل الآدمي إذا كان كذلك كان كل فرد منه متصفاً به لا محالة . قال أهل النظم : لما ذكر نعمة الدين وهو القرآن أردفها بنعمة الدنيا فقال : { وجعلنا الليل والنهار آيتين } وفيه أن القرآن لا يتم المقصود منه إلا بنوعية المحكم والمتشابه ، فكذا الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بجزئيه الليل والنهار .

فالمحكم كالنهار في وضوحه ، والمتشابه بمنزلة الليل في خفائه . وبوجه آخر لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب الزمان . وبوجه آخر لما وصف الإنسان بكونه عجولاً أي منتقلاً من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك فينتقل الهواء من الإنارة إلى الظلام وبالعكس ، وينتقل القمر من النقصان إلى الامتلاء وبالضد . { فمحونا آية الليل } هي من إضافة الشيء إلى نفسه للبيان كقولك « نفس الشيء أو ذاته » أي فمحونا الآية التي هي الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموساً مظلماً لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو { وجعلنا } الآية . التي هي { النهار مبصرة } ذات إيصار وذلك باعتبار من فيها أي تبصر فيها الأشياء وتستبان ، أو أريد بالإبصار الإضاءة لأنها سببه . وقيل : المضاف محذوف والتقدير وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية غير بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء { لتبتغوا فضلاً من ربكم } لتتواصلوا ببياض النهار أو بشعاع الشمس المستلزم للنهار إلى التصرف في وجوه معايشكم . { ولتعلموا } باختلاف الجديدين أو بزيادة ضوء القمر ونقصانه { عدد السنن } الشمسية أو القمرية المركبة من الشهور { و } لتعلموا جنس { الحساب } المبني على الساعات والأيام والشهور والسنين والأدوار . وقيل : أراد بمحو القمر الكلف الذي هو وجهه . وسببه في الشرع ما روي أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء فأرسل الله تعالى جبريل فأمر جناحه على وجه القمر فأذهب عنه أثر الضياء . وسببه عند الفلاسفة أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء كارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ، ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءاً من جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان . ونحن قد ذكرنا له وجهاً آخر في الهيئة ، قال أهل التجارب : إن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه لا سيما في أحوال البحار والبحارين على ما يذكره الأطباء ، إلا أن الكلف ليس له مدخل في ابتغاء فضل الله وفي معرفة الحسابات تفصيلاً . نعم لو قيل : إن الكلف نقص من نور القمر حتى لم يقو على إزالة ظلام الليل بالكلية فبقي في وقت السكون والراحة بحالة ووقت التردد في طلب المعاش بحالة ، وصار تعاقب الليل والنهار سبباً لمعرفة الأيام وما يتركب منها كان متجهاً .
ثم قال : { وكل شيء } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فصلناه تفصيلاً } بيناه بياناً غير ملتبس حتى انزاحت العلل وزالت الأعذار فلا يهلك من يهلك إلا عن بينة فلذلك قال : { وكل إنسان ألزمناه طائره } أي عمله { في عنقه } وبوجه آخر لما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل لابتغاء المعاش وللدعة والراحة ولمعرفة المواقيت ، وكان الغرض الأصلي من الكل هو الاشتغال بخدمة المعبود وتهذيب الأفعال وإصلاح الأقوال ، ذكر أن الإنسان مؤاخذ في عرصة القيامة بأقواله وأفعاله وسائر أحواله ليظهر أنه هل أتى بما هو المقصود من خلقه أم لا .

قال أكثر أهل اللغة : إن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال اعتبروا أحوال الطائر أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً في الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على ما يسوقهم عملهم إليه من خير أو شر ، فإطلاق الطائر على العمل تسمية للنبي باسم لازمه . وقال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ ويقال له البخت . فالطائر ما وقع للشخص في الأزل مما هو نصيبه من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كأنه طائر يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيراناً لا نهاية له ولا غاية إلا إن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص وفي هذا دليل على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل ، والكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية . وإنه سبحانه أكد هذا المعنى بإضافة الإلزام على نفسه ثم بقوله : { في عنقه } . يقال : جعلت هذا الأمر في عنقك أي قلدتكه والزمتك الاحتفاظ به . فإن كان خيراً يزينه كان كالطوق ، وإن كان شراً يشينه كان كالغل . ومن أمثال العرب « تقلدها طوق الحمامة » { ونخرج له } من قرأ بالنون فظاهر . وقوله : { يلقاه منشوراً } صفتان للكتاب أو { يلقاه } صفة { منشوراً } حال من مفعول يلقاه . ومن قرأ بالياء مجهولاً أو لازماً فالضمير للطائر { وكتاباً } حال منه ، يقال : لقيت الشيء ولقانيه غيري . عن الحسن : يا ابن آدم بسطت الصحيفة وطويت في قبرك معك ، ثم إذا بعثت قلدتها في عنقك { اقرأ كتابك } على إضمار القول . قال قتادة : يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئاً و { وبنفسك } فاعل كفى و { حسيباً } تمييز بمعنى حاسب وإنه كثير من فعل بالضم كقريب وبعيد ، ولكنه من فعل بالفتح غريب ، منه ما قال سيبويه : ضريب القداح بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم . « وعلى » متعلق بحسيب من قولك حسب عليه كذا ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي ثم وضع . موضع الشهيد فعدي بعلى لأن الشاهد يكفي المدعي ما أهمه .

وذكر حسيباً بمعنى رجلاً حسيباً لأنه بمنزلة الشهيد ، والغالب أن الشهادة يتولاها الرجال كالقضاء والإمارة والنفس مؤوّل بالشخص ، أو حمل « فعيل » بمعنى « فاعل » على « فعيل » بمعنى « مفعول » كقتيل ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب . قال الحسن : عدل الله في حقك من جعلك حسيب نفسك . وقال السدي : يقول الكافر يومئذٍ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } وروي أن يؤتى المؤمن يوم القيامة صحيفته وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها ، حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى له : فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره ويصير من الذين قال الله في حقهم { وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة } [ عبس : 38 ، 39 ] قال الحكيم : التكرار يوجب تقرير الآثار ، فكل عمل يصدر من الإنسان خيراً أو شراً فإنه يحصل منه في جوهر روحه أثر مخصوص إلا أن ذلك الأثر يخفى ما دام الروح متعلقاً بالبدن مشتغلاً بواردات الحواس والقوى ، فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كأنها كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلا العالم العلوي ، فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره ، وهذا معنى الكتابة والقرآءة بحسب العقل ، وإنه لا ينافي ما ورد في النقل .
ثم بين أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده مختص بفاعله لا يتعدى منه إلى غيره فقال : { من اهتدى } إلى قوله : { وزر أخرى } . قال الجبائي : فيها دلالة على أن الأطفال لا يعذبون بكفر آبائهم ، وأن الوزر والإثم ليس من فعل الله وإلا لم يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره بل كان يجب أن لا وزر أصلاً لأن الصبي لا يوصف بالوزر لأنه غير مختار . وجواب الأشاعرة أن الوزر مختص بأفعال المكلفين من الثقلين ، وقدَحَت عائشة بذلك في صحة ما رواه ابن عمر « إنَّ الميت ليعذب ببكاء أهله » واستدل به جماعة من الفقهاء في الامتناع من ضرب الدية على العاقلة . ويمكن أن يجاب بأنه ما من عام إلا وقد خصص . أما قوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } فقد استدل به الأشاعرة في أن وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع لأن الوجوب لا تتقرر ما هيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية . أجاب الخصم بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي لأن النبي إذا جاء وادعى المعجزة فهل يجب على المستمع قبول قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب ، والثاني باطل بالاتفاق ، وعلى الأوّل إن وجب بالعقل فهو المدعي ، وإن وجب بالشرع فذلك الشارع إن كان ذلك النبي لزم إثبات الشيء ، وإن كان غيره دار أو تسلسل .

وبوجه آخر إذا أوجب النبي بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى لذلك إلا ترتب العقاب على الترك أو الفعل . ثم إنه يجب على المكلف أن يحترز عن العقاب أو لا يجب لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق ، وعلى الأول يلزم الوجوب العقلي وإلا لزم الدور أو التسلسل . ثم إن مذهب أهل السنة جواز العفو عن عقاب الكبيرة فتكون ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب ، ولا ذم مع جواز العفو فلم يبق إلا أن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب ، ولا يكون هذا الخوف إلا بمحض العقل فثبت أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه . فأما أن تجري الآية على ظاهرها يقال : العقل هو رسول الله إلى الخلق ، بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الرسل ومجيء الأنبياء كالتنبيه على النظر وكالإيقاظ من رقدة الغفلة والحجة وإن كانت لازمة لهم قبل بعثة الرسل إلا أنها بعد البعثة ألزم . وإما أن يخصص عموم الآية فيقال : المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع . ومما ارتضاه الإمام فخر الدين الرازي أن مجرد العقل سبب في أنه يجب عليها فعل ما ينتفع به وترك ما يستضر به ، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله شيء وذلك أنا مجبولين على طلب النفع والاحتراز عن الضرر ، والله تعالى منزه عن ذلك . ولقائل أن يقول : إنه سبحانه منزه عن الانتفاع والاستضرار إلا أنه حكيم جواد فلم لا يقبح من الحكيم الجواد ترك ما ينتفع به غيره وفعل ما يستضر به ، وإذا قبح منه ذلك حسن منه ضده ، والحكيم لا يترك الأحسن . فصدور ذلك الأحسن منه ألبته هو الذي لك أن تسميه وجوباً كما وصف به نفسه في قوله : { كان على ربك حتماً مقضياً } [ مريم : 71 ] ولكم من آية في القرآن دالة على أن الفعل قد يصدر منه صدوراً لا يحتمل النقيض من ذلك قوله : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } .
وللمفسرين في معنى { أمرنا } قولان : الأول أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي وعلى هذا اختلفوا في المأمور به ، فالأكثرون على أن الطاعة والخير . وقال في الكشاف : معناه وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم بالفسق ففسقوا . ولما كان من أصول الاعتزال أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ذكر أن الأمر بالفسق ههنا مجاز ، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكان إيتاء النعمة سبباً لإيثارهم الفسوق على الائتمار فكأنهم مأمورون بذلك .

ثم إنه جعل تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا عن قبيل التكاليف بعلم الغيب ، ولم يجوّز أن تكون من قبيل « أمرته فعصاني » فإنه يفهم منه أن المأمور به طاعته ولكنه حكم بأنه مثل أمرته فقام أو أمرته فقرأ فإنه لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة . ولقائل أن يقول : كما أن قوله « أمرته فعصاني » يدل على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله : « أمرته ففسق » يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها ، وهذا ظاهر فلا أدري لم أصرّ جار الله على قوله مع ضعفه ومخالفته أصله . القول الثاني إن معنى : { أمرنا مترفيها } أكثرنا فساقها . قال الواحدي : تقول العرب : أمر القوم . إذا كثروا ، وأمرهم الله إذا كثرهم ، وآمرهم أيضاً بالمد واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى الله عليه وسلم « خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة » فالسكة النخيل المصطفة ، والمهرة المأمورة كثيرة النتاج . وقد حمل بعضهم الحديث على الأمر ضد النهي أي قال الله لها : كوني كثيرة النسل فكانت ، « وروي أن رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى أمرك هذا حقيراً . فقال صلى الله عليه وسلم : إنه سيأمر » أي سيكثر وسيكبر . والمترف في اللغة المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش : { ففسقوا فيها } خرجوا عما أمرهم الله { فحق عليها القول } استوجبت العذاب { فدمرناها تدميراً } أهلكناها على سبيل الاستئصال . قال الأشاعرة : ظاهرة الآية يدل على أنه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق ويؤيده قوله : { فحق عليها القول } أي بالكفر ثم التعذيب . وقال الكعبي : إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب كقوله : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [ الرعد : 11 ] وقوله : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } فتلك الآيات محكمة وهذه المتشابهات فيجب حمل هذه على تلك .
قال في التفسير الكبير : أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية القفال فإنه ذكر وجهين : الأول أخبر الله أنه لا يعذب أحداً بما علمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره حتى يظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه ومعنى الآية وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم . الثاني أن نقول : وإذا أردنا إهلاك قوم بسبب ظهور العصيان منهم لم نعالجهم بالعذاب في أوّل ظهور المعصية منهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي .

وخص المترفين بذلك لأن نعمة الله عليهم أكثر فكان الشكر عليهم أوجب ، فإذا لم يرجعوا وأصروا صب عليهم البلاء صباً . وزعم الجبائي أن المراد بالإرادة الدنو والمشارفة كقولك إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة ، وإذا أراد التاجر يريد ان يفتقر أتاه الخسران من كل جهة . ليس المعنى أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر ، وإنما عنيت أنه سيصير إلى ذلك ، فمعنى الآية وإذا قرب وقت إهلاك قرية . وقد نقلنا مثله عن صاحب الكشاف ، ولا يخفى أنه عدول عن الظاهر . ثم ذكر عادته الجارية مع القرون الخالية فقال : { وكم أهلكنا } ف { كم } مفعول { أهلكنا } و { من القرون } بيان لكم وتمييز له أراد بهم عاداً وثمود ونحوهما . ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة قائلاً { وكفى بربك } الآية . قال الفراء : إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك « كفاك به » « وأكرم به رجلاً » « وطاب بطعامك طعاماً » ولا يقال : قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك . وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وإنذار شديد لغيرهم لأن العلم التام مع القدرة الكاملة والحكمة الشاملة يقتضي إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه . ثم أكد المعاني المذكورة من قوله : { وكل إنسان ألزمناه طائره } ومن قوله : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } بقوله : { من كان يريد العاجلة } أي المنفعة أو الدار العاجلة { عجلنا له فيها } ثم قيد المعجل بقيدين : أحدهما قوله : { ما نشاء } ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه . وثانيهما قوله : { لمن نريد } وهو بدل من { له } بدل البعض من الكل لأن الضمير يرجع إلى « من » وهو للمعلوم ، ولهذا ترى كثيراً منهم يتمنون البعض اليسير من الدنيا ولا يؤتون فيجتمع عليهم فقر الدنيا وحرمان الآخرة بل عذابها لقوله : { ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً } مطروداً من رحمة الله . { ومن أراد الآخرة } بأن يعقد بها همته ويتجافى عن دار الغرور { وسعى لها سعيها } أي حق السعي لأجلها وذلك أن يكون العمل الذي يتوسل به إلى الفوز بثواب الآخرة من جملة القرب والطاعات وعلى قوانين الشرع والعقل لا البدعة والهوى { وهو مؤمن } لأن شيئاً من صور الأعمال الصالحة لا يوجب الثواب إلا بعد تقديم الإيمان { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } قال العلماء : الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة : اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً عند ذلك الشاكر . والله سبحانه تعالى ، يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة لأنه يعلم كونهم محسنين في تلك الأعمال وأنه يثنى عليهم بكلامه ويعاملهم المعاملات الدالة على كونهم معظمين عند الله .

وفي قوله : { من كان يريد العاجلة } دون أن يقول : « من أراد العاجلة » كما قال : { ومن أراد الآخرة } إشارة إلى أن مريد نفع الدنيا لا يكون مذموماً إلا إذا كان غالباً في ذلك ثابت القدم فسيح الأمل ، ومريد الآخرة يكون محموداً بأدنى التفاتة بعد وجود الشرط . قالت الأشاعرة : إن مجموع القدرة مع الداعي هو الموجب للفعل ونحن نشكر الله على الإيمان لأنه أعطى القدرة والداعية ، ولكنه حين حصل الإيمان للعبد واستتبع السعادات الباقية صار العبد أيضاً مشكوراً ، ولا منافاة بين الأمرين . وقالت المعتزلة : نحن لا نشكر الله على الإيمان لأن المدح على عمل لم يعمله الممدوح قبيح . قال تعالى : { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } ولكنا نشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل . واعلم أنه تعالى ذكر صنفين من الناس : قاصد خيرات الدنيا وقاصد خيرات الآخرة . وههنا ثلاثة أقسام أخر : الأوّل أن يكون طلب الآخرة في عمله راجحاً فقيل إنه غير مقبول أيضاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حكاية عن رب العزة : « أنا أغنى الأغنياء عن الشكر من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه » وقيل : يعارض المثل بالمثل ويبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فيقع في حيز القبول . الثاني أن يكون طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين . الثالث أن يكون طلب الدنيا راجحاً . واتفقوا على أن هذين القسمين أيضاً لا يقبلان إلا أنهما على كل حال خير من الرياء المحض . ثم بين كمال رأفته وشمول رحمته فقال : { كلا } أي كل واحد من الفريقين { نمد } أي نزيدهم من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع بالمعصية . وقوله : { هؤلاء وهؤلاء } بدل من كل و { من عطاء ربك } متعلق ب { نمد } { وما كان عطاء ربك محظوراً } ممنوعاً من المكلف بسبب عصيانه { أنظر } يا محمد أو يا من له أهلية النظر والاعتبار إلى عطائنا المباح للفريقين في الدنيا { كيف فضلنا بعضهم على بعض } فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر ، وأوصلناه إلى كافر وقبضناه عن كافر آخر ليكون بعضهم تحت تسخير بعض . { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا . وقيل : المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين . وعن بعضهم : أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا ، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟! .
التأويل : نزه نفسه بقوله : { سبحان } عن الاتحاد الكلي ، ولكن أخبر عن مقام وصول حبيبه . فقوله : { أسرى } إشارة إلى الجذبة الخفية عن الأغيار ، وقوله { بعبده } إشارة إلى مقام تصحيح نسبة العبدية التي هي آخر مقامات السالكين ، وقوله : { ليلاً } رمز إلى أن ذلك الجذب كاد يكون خفياً عن المجذوب إذا كان ذاهلاً عن أنانيته .

وقوله : { من المسجد الحرام } هو مقام يحرم فيه الالتفات إلى ما سوى الله . { إلى المسجد الأقصى } هو مقام الفناء في الله { الذي باركنا حوله } بالبقاء بالله { لنريه من آياتنا } التي لم تسمع إذن ولا أبصرت عين { إنه هو السميع البصير } فلا يصل أحد إليه إلا إذا سمع به وأبصر به . هذا ما خطر ببال هذا الضعيف في تأويل هذه الآية فإن كان صواباً فمن فضل الله وعطائه ، وإلا فمني ومن الشيطان { فجاسوا خلال الديار } الجسدانية بالقتل وفك التركيب وخلال الديار المعنوية حين استولت الصفات الذميمة على الخصال الحميدة لتخريب بيت مقدس القلب { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } باستيلاء داود القلب وقتل جالوت النفس { وأمددناكم بأموال } الطاعات { وبنين } الإيمان والإيقان { وإذا جاء وعد الآخرة } حين ارتد عن الطريقة { ليسوؤا } وجوه قلوبكم بحجب سوء أعمالكم { وإن عدتم } إلى الجهل { عدنا } إلى الفضل ، أو وإن عدتم إلى الندم عدنا إلى الكرم ، أو إن عدتم إلى العبودية عدنا إلى الربوبية ، أو إن عدتم إلى التقربات عدنا إلى الجذبات { وجعلنا ليل } البشرية ونهار الروحانية { فمحونا آية الليل } وهي قمر القلب فني في نور العقل حين تطلع شمس شهود الحق وهي آية النهار ، فإذا طلع الصباح استغنى عن المصباح { لتبتغوا فضلاً من ربكم } وهو تجلي ذاته وصفاته ، وقد اختص الإنسان به من بين المخلوقات . { ولتعلموا } أيام الطلب وحساب الترقي من مقام إلى مقام وكل شيء يحتاج إليه السالك بيناه بالإشارات { من كان يريد العاجلة } فيه أن قلب الإنسان بين أصبعي قهر الرحمن ولطفه وبحسب ذلك يحوّل وجه الى الدنيا حتى يؤل أمره إلى درجات البعد أو يحوّله إلى الآخرة حتى يصل إلى درجات الوصال والله المستعان على ما تصفون .


لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)

القراآت : { يبلغان } مثنى : حمزة وعلي وخلف { أف } بالجر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص { أف } بالفتح : ابن كثير وابن ذكوان وابن عامر وسهل ويعقوب غير مجاهد والمفضل . والباقون بالكسر . { تبصطها كل البصط } مثل : { بصطة } { خطأ } بفتحتين من غير مد : يزيد وابن ذكوان غير ابن مجاهد { خطأ } بالفتح ثم السكون : ابن مجاهد عن ابن ذكوان { خطاء } بالكسر والمد : ابن كثير . الباقون بالكسر ثم السكون { فلا تسرف } على الخطاب : حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . { بالقسطاس } مكسور القاف حيث كان : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل . وقرأ أبو نشيط والشموني غير النقاد بالصاد { سيئه } على إضافة سيء إلى ضمير { كل } : حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر وسهل . الآخرون { سيئة } علم التأنيث .
الوقوف : { مخذولاً } 5 { إحساناً } ، ط { كريماً } 5 { صغيراً } ، ط { في نفوسكم } ط { غفوراً } 5 { تبذيراً } 5 { الشياطين } ط { كفوراً } ، { ميسوراً } 5 { محسوراً } 5 { ويقدر } ، ط { بصيراً } 5 { إملاق } ط { وإياكم } ط { كبيراً } 5 { فاحشة } ط { سبيلاً } 5 { إلا بالحق } ط لأن الشرط في أمر قد يقع نادراً خارجاً عن النهي . { في القتل } ط { منصوراً } 5 { أشده } ز { بالعهد } ج على تقدير فإن . { مسئولاً } 5 { المستقيم } ط { تأويلا } 5 { به علم } ط { مسئولاً } 5 { مرحاً } ج لاحتمال إضمار الفاء أو اللام { طولا } 5 { مكروهاً } 5 { الحكمة } ط { مدحوراً } 5 { إناثاً } ط { عظيماً } .
التفسير : لما أجمل أعمال البر في قوله : { وسعى لها سعيها وهو مؤمن } أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال : { لا تجعل مع الله إلهاً آخر } والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ولكنه في الحقيقة عام للمكلفين ، ويحسن أن يقال : إن الخطاب للإنسان كأنه قيل : يا أيها الإنسان لا تجعل أو القول مضمر أي قل لكل مكلف لا تجعل ومما يؤيد ذلك قوله : { وقضى ربك } فإن ذلك الخطاب لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده . وانتصب قوله : { فتقعد } على أنه جواب للنهي والفاء في التحقيق عاطفة والتقدير : لا يكن منك جعل فقعود . وفيه وجوه منها . أن المراد به المكث يقال : ما يصنع فلان فيقال هو قاعد بأسوأ حال أي ماكث سواء كان قائماً أو جالساً . ومنها أن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه ، فالقعود على هذا حقيقة . ومنها أنه كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يبقى قاعداً عن الطلب . ومنه أنه بمعنى الصيرورة من قولهم : « شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة » بمعنى صارت .

ولا ريب أن المشرك جامع على نفسه الذم والخذلان لأنه بشركه يضيف بعض النعم الحاصلة في حقه من الله إلى غيره فيستوجب الذم بالكفران ويستحق الخذلان من حيث إنه لما فوض أمره إلى الشريك المعدوم أو العاجز الناقص بقى بلا ناصر ومعين . وأيضاً الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة ، فمثبت الشريك واقع في جانب النقصان فيورثه الذم والخذلان .
ولما ذكر ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال : { وقضى ربك } أي أمر أمراً جزماً وحكم حكماً قطعاً { ألا تعبدوا } أي بأن لا تعبدوا ف « أن » ناصبة ويجوز أن تكون مفسرة ، والفعل النهي معناه أي لا يعبدوا . وقد روى الضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران عن ابن عباس أنه كان الأصل في هذه الآية « ووصى ربك » وبه قرأ علي وعبد الله فالتصقت الواو بالصاد فقرىء : { وقضى ربك } ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع . وضعف هذا القول بأنه يوجب تجويز وقوع التحريف والتصحيف في القرآن . أمر بعبادة نفسه ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين وتقدير الكلام بأن تحسنوا بالوالدين أو وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، ولا يجوز أن يتعلق الباء في { بالوالدين } بالإحسان على ما ذهب إليه الواحدي ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته وقد مر في أوائل البقرة تفسير قوله : { وبالوالدين إحساناً } وأنه لم يجعل الإحسان إليهما تالياً لعبادة الله . يحكى أن واحداً من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للفقر والعمى والزمانة . وقيل لأبي العلاء المعري : ماذا نكتب على قبرك؟ قال : اكتبوا عليه :
هذا ما جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج والولد :
وتركت فيهم نعمة العدم التي ... سبقت وصدّت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة ... ترمى بهم في موبقات الآجل
وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منَّة عليك أم والدك؟ فقال : الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعلمي حتى أرتعني في نور العلم ، فأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد . ومن هنا قيل : « خير الآباء من علمك » . وقال العقلاء : وهب أن الوالد في أول الأمر طلب لذة الوقاع إلا أن اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد ودفع الآفات عنه من أول دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره لا ينكر ولا يكفر ، ولهذا نكر { إحساناً } أي أحسنوا إليهما إحساناً عظيماً كاملاً جزاء على وفور إحسانهما إليك ، على أن البادىء بالبر لا يكافأ لأنه أسبق منه .
ثم فصل طرفاً من الإحسان المأمور به فقال : { أما يبلغن } هي « إن » الشرطية زيدت عليها « ما » الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ، ثم أدخلت النون المشددة لزيادة التقرير والتأكيد كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة فليكن هذا الجزاء مرتباً عليه وإلا فالتقرير والتأكيد ليس يليق بالشرط الذي مبناه على تردد الحكم .

وقال النحويون : إن الشرط أشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت فلهذا صح دخول النون المؤكدة فيه . من قرأ الفعل على التوحيد فقوله : { أحدهما أو كلاهما } فاعل له لكن الأول بالاستقلال والثاني بتبعية العطف ، ومن قرأ على التنبيه فأحدهما يدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين ، وكلاهما عطف علىلبدل فهو بدل مثله . ولا يصح أن يكون توكيد للضمير معطوفاً على البدل لاستلزام العطف المشاركة دون المباينة . { وكلاهما } مفرد لفظاً مثنى معنى ، وألفه عن واو عند الكوفيين وأصله كل المفيد للإحاطة فخفف بحذف إحدى اللامين وزيد ألف التثنية ليعرف أن المراد الإحاطة في المثنى لا في الجمع . وضعف بأنه لو كان كذلك لوجب أن يقال في الخفض والنصب « مررت بكلي الرجلين » بكسر الياء كقوله { طرفي النهار } [ هود : 114 ] { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 41 ] قال في الكشاف : معنى { عندك } هو أن يكبرا ويعجزا وكانا كلاً على ولدهما لا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه . وفي { أف } لغات : ضم الهمزة مع الحركات في الفاء الثلاث بالتنوين وبدونه . وأف بكسرتين بلا تنوين . وأفى ممالاً كبشرى ، وأف كخذ ، وأفة منونة وغير ممنونة وقد تتبع المنونة تفة فيقال : أفة وتفة وهي من أسماء الأفعال . وفي تفسيرها وجوه : قال الفراء : تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول : أف أف . وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار . يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به . وقيل : معنى « أف » القلة من الأفيف وهو الشيء القليل ، وتف اتباع له نحو شيطان ليطان وحيث بيث وخبيث نبيث . وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأف الضجر . وقال القتيبي : أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله ، فالصوت الحاص عند تلك النفخة هو القائل أف ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم ، قال الزجاج : معناه النتن وبه فسر مجاهد الآية أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تخر أو تبول . وفي رواية أخرى عن مجاهد : إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف أي لا تقل تضجرت أو أتضجر .
قال بعض الأصوليين : منع التأفيف يدل على المنع من سائر أنواع الأذية دلالة لفظية . ومعنى الآية لا تتعرض لهما بنوع من أنواع الإيذاء والإيحاش كما أن قولك لا يملك فلا نقيراً ولا قطميراً يدل في العرف على أنه لا يملك شيئاً أصلاً ، وقال الأكثرون منهم : إن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن صورة أخرى ، فإذا أردنا إلحاق المسكوت عنها بالمنصوص عليها فإما أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكثر القياسات ، وإما أن يتساويا كقوله صلى الله عليه وسلم :

« من أعتق نصيباً من عبد حرم عليه الباقي » فإن الحكم في الأمة والعبد يتساويان . وإما أن يكون الحكم في محل المسكوت أظهر وهو القياس الجلي ومثاله المنع من التأفيف فإنه مغاير للمنع من الضرب عقلاً ، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكاً آخر عدواً له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته . فهذا معقول في الجملة إلا أن قرينة تعظيم الوالدين صيره من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى ، فدل على المنع من جميع أنواع الإيذاء .
ثم أكد هذا المعنى بقوله : { ولا تنهرهما } والنهر والنهي أخوان يقال : نهره وانتهره وإذا استقبله بكلام يزجره . { وقل لهما } بدل التأفيف والنهر { قولاً كريماً } جميلاً مشتملاً على حسن الأدب ورعاية دقائق المروة والحياء والاحتشام . وقال عمر بن الخطاب القول الكريم أن يقول له : « يا أبتاه » « يا أماه » دون أن يسميهما باسمهما . وقول إبراهيم لأبيه آزر بالضم على النداء ، تقديم لحق الله على حق الأبوين . قالوا : ولا بأس به في الغيبة كما قالت عائشة : نحلني أبو بكر كذا ، أو سئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظ { واخفض لهما جناح الذل } ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين : الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحيه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في حال صغرك . والثاني أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد النزول خفض جناحه ، فصار خف الجناح كناية عن فعل التواضع وترك الارتفاع . وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان : الأول أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك : « حاتم الجود » فالأصل فيه الجناح الذليل أو الذلول . والثاني سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحاً ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً كقول لبيد : إذ أصبحت بيد الشمال زمامها . فأثبت للشمال يداً ثم وضع زمام الريح في يد الشمال . وقوله : { من الرحمة } في « من » معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها { و } لكن { قل رب ارحمهما كما ربياني } ليس المراد رحمة مثل رحمتهما عليّ .

وأما الكاف فلاقتران الشيئين في الوجود أي كما وقع تلك فتقع هذه . والتربية التنمية ربا الشيء إذا انتفخ وزاد . قال بعض المفسرين : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] وقيل : مخصوصة لأن التخصيص أولى من النسخ ، وقيل : لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو فله أن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان . ثم إن ظاهر الأمر للوجوب من غير تكرار فيكفي في العمر مرة واحدة { رب ارحمهما } وسئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي كل يوم مرة أو في كل شهر أو في كل سنة؟ فقال : نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قد قال : { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } [ الأحزاب : 56 ] . وكانوا يرون الصلاة عليه في التشهد . وكما قال الله تعالى : { واذكروا الله في أيام معدودات } [ البقرة : 203 ] فهم يذكرون في أدبار الصلاة . قلت : ويشبه أن يدعو لهما أيضاً كلما ذكرهما أو ذكر شيئاً من إنعامهما . وسئل أيضاً عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع له من الاستغفار ، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما » وروى سعيد بن المسيب أن البارَّ لا يموت ميتة سوء . وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبويّ بلغا من الكبر أنّى ، ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما؟ قال : لا ، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقائك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما . وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قوي ، وفقيراً وأنا غني ، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي . واليوم أنا ضعيف وهو قوي ، وأنا فقير وهو غني ويبخل عليّ بماله ، فبكى صلى الله عليه وسلم وقال : ما من حجر ولا مدر يسمع ذلك إلا بكى ، ثم قال للولد : أنت ومالك لأبيك . مرتين . وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر . قال : إنها سيئة الخلق . قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين . قال : إنها سيئة الخلق . قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها . قال : لقد جازيتها . قال : ما فعلت؟ قال : حججت بها على عاتقي . قال : ما جازيتها . وقال الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة وإذا بعث إليه واحد منهما ليحمله فعل ، ولا يناوله الخمر ويأخذ الإناء منه إذا شرب بها .
ثم قال سبحانه : { ربكم أعلم بما في نفوسكم } أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات { أن تكونوا صالحين } قاصدين الصلاح والبر إلى الوالدين ثم فرطت منكم بادرة في حقهما فأنبتم إلى الله واستغفرتم منها { وإنه كان للأوابين غفوراً } اللام للعهد كما روي عن سعيد بن جبير هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير ، أو للجنس فيشمل كل من فرطت منه جناية ثم تاب منها ، ويندرج تحته عن أبي علي الجانويه النائب من جنايته لوروده على أثره .

ثم وصى بغير الأبوين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال : { وآت ذا القرى حقه } قيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤتى أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة ، وأوجب عليه إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضاً من هذين المالين . والأظهر أنه خطاب لكل إنسان كل في قوله : { وقضى ربك } وأما الحق المأمور به للأقارب فهو إذا كانوا محارم كالأبوين والولد وكانوا فقراء عاجزين عن الكسب وكان الرجل موسراً أن ينفق عليهم بقدر الحاجة . وعند الشافعي : لا ينفق إلا على الولد والوالدين وإن كانوا مياسير ولم يكونوا محارم كأبناء العم فحقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة على السراء والضراء . وفي عطف المسكين وابن السبيل على ذي القربى دليل على أن المراد بالحق الحق المالي ، وقد تقدم وصف المسكين وابن السبيل في « البقرة » وفي « التوبة » . ثم نهى عن التبذير وهو تفريق المال كما يفرق البذر وهو الإسراف المذموم . كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتنفق أموالها في الفخر والسمعة كما ذكروا ذلك في أشعارها فنهوا عن ذلك وأمروا بالإنفاق فيما يقرب إلى الله . قال ابن مسعود : التبذير إنفاق المال في غير حقه . وعن مجاهد : لو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً . ثم بالغ في تفظيع شأن التبذير قائلاً : { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } أي أمثالهم في الشرارة وأصدقاءهم من حيث إنهم يطيعونهم في الأمر بالإسراف ، أوهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد { وكان الشيطان لربه كفوراً } لأنه يستعمل قواه البدنية في المعاصي والإفساد والإضلال ، وكذلك من رزقه الله مالاً أو جاهاً فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفوراً لنعمة الله .
ثم علم أدباً حسناً في رد السائل إن أفضى الأمر إلى ذلك ضرورة فقال : { وإما تعرضن عنهم } وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء . والقول الميسور الرد بالطريق الأحسن . وقيل : اللين السهل . قال الكسائي : يسرت أيسر له القول أي لينته . وقيل : القول المعروف كقوله : { قول معروف ومغفرة خير } [ البقرة : 263 ] وذلك أن القول المتعارف لا يحتاج إلى تكلف . وقيل : ادع لهم بأن يسهل الله عليهم أسباب الرزق أي دعاء فيه يسرة .

قال جار الله قوله : { ابتغاء رحمة } أما أن يتعلق بجواب الشرط متقدماً عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً ابتغاء رحمة من الله { ترجوها } بسبب رحمتك عليهم ، وإما أن يتعلق بالشرط أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجوا أن يفتح لك فردهم رداً جميلاً ، فسمى الرزق رحمة وضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له . فالفقد سبب الابتغاء فأطلق المسبب على السبب وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم الإعطاء ، فإن من أبى أن يعطى أعرض بوجهه ، ولما ذكر أدب المنع ونهى عن التبذير صرح بأدب الإنفاق فقال : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } وهو مثل لغاية الإمساك بحيث يضيق على نفسه وأهله في سلوك سبيل الإنفاق { ولا تبسطها كل البسط } أي لا توسع في الإنفاق بحيث لا يبقى في يدك شيء . وحين نهى عن طرفي التفريط والإفراط المذمومين بقي الخلق الفاضل المسمى بالجود وهو العدل والوسط ، ثم بين غاية استعمال الطرفين قائلاً : { فتقعد ملوماً } عند الناس بالبخل { محسوراً } بالإسراف أي منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر . فقير محسور منقطع عن السير . ولا شك أن المال مطية الحوائج والآمال وكثيراً ما يلام الرجل على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة . وعن جابر : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبي فقال : إن أمي تستكسيك درعاً فقال صلى الله عليه وسلم : « من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا . » فذهب إلى أمه فقالت له : قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك . فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت الآية . وقيل : أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن فجاء عباس بن مرداس وأنشأ يقول : أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع . وما كان حصن ولا حابس ، يفوقان مرادس في مجمع وما كنت دون أمرىء منهما ، ومن تضع اليوم لا يرفع . فقال صلى الله عليه وسلم : « ياأبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل » فنزلت .
ثم إنه تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن الذي يرهقه من الإضافة ليس لهوان منه على الله ولا لبخل به عليه ولكنه تاب لمشيئة الخالق الرازق فقال : { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يضيق { أنه كان بعباده } وبمصالحهم { خبيراً بصيرا } فالتفاوت في الأرزاق ليس لأجل البخل ولكن لرعاية الصلاح . ويمكن أن يكون مراد الآية أن البسط الكلي والقبض الكلي من شأن الرب الخبير والبصير وليس للعباد الاقتصاد . ويحتمل أن يراد أنه تعالى مع غاية قدرته وسعة جوده يراعي أوسط الحالين . فلا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه ، فاستنوا بسنته وتخلقوا بأخلاقه .

وفي الآية دلالة على أنه هو المتكفل بأرزاق العباد فلذلك قال بعده : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } وأيضاً لما علم كيفية البر بالوالدين أراد أن يعلم كيفية البر بالأولاد ، فبر الآباء مكافأة وبر الأبناء ابتداء اصطناع . وفيه نظام العالم وبقاء النوع الإنساني لأن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو لسوء الظن بالله ، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم . والأول ضد التعظيم لأمر الله الثاني ضد الشفقة على خلق الله ، ومن رغب عن محبة الوالد فكأنه رغب عن جزئه قال :
ولد المرء منه جزء وما حا ... ل امرىء يودع الثرى منه جزءاً
وكانوا يقتلون البنات لعجز عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على القتل والغارة . وأيضاً كانوا يخافون أن فقرها ينفر أكفاءها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديد ، فبين الله سبحانه أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً فلهذا قال : { أولادكم } وبين أن الخوف من الفقر لا وجه له لأن الله هو الرزاق للكل ، وكثيراً ما يكون لابن أخرق من البنت بعد البلوغ ، وكلا الصنفين يشتركان في الإنفاق عليهما قبل البلوغ . ولما نهى عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى مثل ذلك ولا أقل من اختلاط النسب فقال : { ولا تقربوا الزنا } وهذ آكد من أن يقال « لا تزنوا » ثم علل النهي بقوله : { إنه كان فاحشة } أي خصلة متزايدة في القبح { وساء سبيلاً } سبيله فاستدل القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بهذا التعليل في الأشياء لا تحسن ولا تقبح لذواتها بل لوجوه عائد إليها في أنفسها ، وأن تكاليف العباد واقعة على وفق مصالحهم في المعاش والمعاد . ومن مفاسد الزنا اختلاط الأنساب وتضييع الأولاد وإهمال تربيتهم؟ فإن الولد إذا لم يكن منسوباً إلى شخص معين لم يكن أحد بالتزام تربيته أولى من الآخرة كذا المرأة التي ولدته إذا لم يوجد سبب شرعي للزاني صارت هي به أولى بالرجل فلا يحصل الألف والمحبة ، ولا يتم السكون والازدواج . ويتواثب كل رجل على امرأة أراد بحسب شهوته ومقتضى طبعه ، فتهيج بالفسوق الحروب بعد التشبه بالبهائم . وأيضاً ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة ولكن المقصود الكلي هو أن تكون شريكة له في ترتيب المنزل وإعداد مهماته والقيام بأمور الأولاد والعبيد ، ولن تتم هذه المقاصد إلا إذا كانت مقصورة الهمة على رجل واحد منقطعة الطمع عن غيره . وأيضاً الوطء يوجب الذل والعار ولهذا لا يرتكب إلا في الأماكن المستورة وفي الأوقات المعلومة . فاقتصار المرأة على الواحد من الرجال سعي في تقليل ذلك العمل ، وكفى في قبح الزنا مرتكبه من الرجال والنساء يستقذره كل عقل سليم وينحط بذلك عن درجة الاعتبار .

وقد زعم في التفسير الكبير أنه تعالى وصف الزنا في آية أخرى بكونه مقتاً لأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة وهو وهم ، لأن ذلك قد ورد في أول سورة النساء في نكاح منكوحات الأب قال : { ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً } [ النساء : 22 ] . وإنما نبهناك عليه لئلا يقتدي به غيره في السهو .
ولما فرغ من التكليف بالاحتياط في مبدأ حال الإنسان شرع بالتكليف بالاحتياط في آخر عمره فقال : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله } وفي التصريح بالتحريم بعد النهي تأكيد للخطر . ولا ريب أن الأصل في قتل الإنسان هو التحريم لأنه ضرر ، والأصل في المضار الحرمة ، ولأن الإنسان خلق للاشتغال بالعبادة وإنه لا يتم إلا بالحياة وكمال البنية ، ولكن الحل إنما يثبت لأسباب عرضية فلهذا قال : { إلا بالحق } وهذا بحمل فبين ذلك الحق بقوله : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } أي تسلطاً على استيفاء القصاص . فظاهر الآية دل على أنه لا سبب لحل القتل إلا إذا قتل مظلوماً ، وظاهر قوله عليه السلام « لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان؟ وقتل نفس بغير حق » يقتضي ضم شيئين آخرين إليه فرعاً على القول بتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد . ويحتمل أن يقال قوله : { ومن قتل مظلوماً } . كلام مستأنف ، والحديث بتمامه تفسير لقوله : { إلا بالحق } فلا يلزم التفريع المذكور . ثم إنه دلت آية أخرى على حصول سبب رابع هو قوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } { المائدة : 33 ] وآية أخرى على سبب خامس وهو الكفر الأصلي : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } [ البقرة : 191 ] هذا وقد أبدى الفقهاء أسباباً أخر منها : أن تارك الصلاة يقتل عند الشافعي دون أبي حنيفة ، وكذا اللائط . ومنها الساحر إذا قال : قتلت فلاناً بسحري . وجوز بعضهم قتل من يمنع الزكاة أو يأتي البهيمة ، والذين منعوا القتل في هذه الصور قالوا : الأصل حرمة القتل كما بيناه فلا يترك هذا الدليل إلا لمعارض أقوى لا أقل من المساوي وهو النص المتواتر . ثم إنه سبحانه أثبت لوليّ الدم سلطاناً . ولم يبين أن هذه السلطنة تحصل فيماذا فقيل : إنه قال : { فلا يسرف في القتل } عرف أن تلك السلطنة إنما تحصل في استيفاء القتل . وقيل : معنى قوله : { فلا يسرف في القتل } إنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص وسلطنة استيفاء الدية بقوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } إلى قوله : { فمن عفى } [ البقرة : 178 ] الآية . فالأولى به أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بالعفو وأخذ الدية ، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص . وعن الشافعي أن التنوين في قوله : { مظلوماً } للتنكير فيدل على أن المقتول ما لم يكن كاملاً في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص ، فيعلم منه أن المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك فإن ذنبه غير مغفور كالمشرك ، ولأن النصارى قائلون بالتثليث وقد قال تعالى :

{ اقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] فثبت أن الذمي غير كامل في المظلومية فلا يندرج في الآية . وأيضاً ليس فيها دلالة على أن الحر يقتل بالعبد لأنها وإن كانت عامة إلا أن قوله { الحر بالحر والعبد بالعبد } [ البقرة : 178 ] خاص والخاص مقدم على العام . من قرأ { فلا تسرف } بالتاء الفوقانية فعلى خطاب الولي أو قاتل المظلوم ، ومن قرأ على الغيبة فالضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة الجاهلية . وعن مجاهد أن الضمير الأول للقاتل ، أما الضمير في قوله : { إنه كان منصوراً } فإما للولي أي حسبه أن الله قد نصره بإيجاب القصاص فلا يستزاد عليه ، أو نصره بمعونة السلطان والمؤمنين فلا يتبع ما وراء حقه ، وإما للمظلوم فإن الله نصره في الدنيا بإيجاب القصاص على قاتله ، وفي الآخرة بإعطاء الثواب . وأما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف .
ولما ذكر النهي عن إتلاف النفوس في المبادىء وفيما وراءها أتبعه النهي عن إتلاف الأموال وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال اليتيم فقال : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي } بالطريقة التي { هي أحسن } وهي تثميره وإنماؤه . وروى مجاهد عن ابن عباس : إذا احتاج الولي أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه وإن لم يوسر فلا شيء عليه ويتصرف الولي في مال اليتيم على الوجه المذكور { حتى يبلغ } اليتيم { أشده } بأن تكمل قواه العقلية والحسية كما مر في آخر « الأنعام » { وأوفوا بالعهد } يتناول كل عهد جري بين إنسانين على وفق الشرع وقانونه في المعاملات والمناكحات وغيرها إلا إذا دلّ دليل خاص على ضده . { إن العهد كان مسئولا } أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به ، أو هو على حذف المضاف والمراد أن صاحب العهد مسؤول أو هو تخييل كأنه يقال للعهد : لم نكثت تبكيتاً للناكث كقوله : { وإذا الموءودة سئلت } [ التكوير : 8 ] ثم أمر بإيفاء الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن . والقسطاس بضم القاف وكسرها هو القبان المسمى بالقرسطون . وقيل : كل ميزان صغير أو كبير والأصح أنه لغة العرب من القسط النصيب المعدل ، وقيل رومي أو سرياني { ذلك } الإيفاء والوزن المعدل { خير } من التطفيف { وأحسن تأويلاً } عاقبة من آل إذا رجع . أما في الدنيا فلانة إذا اشتهر بالاحتراز عن الخيانة مالت القلوب إليه . وعول الناس عليه فينفتح عليه أبواب المعاملات ، وأما في الآخرة فظاهر . وقال الحكيم : إن نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد عليه شديد والعار فيه عظيم فيجب على العاقل أن يحترز عنه .

ثم أمر بإصلاح اللسان والقلب فقال : { ولا تقف } أي لا تتبع من قولك « فقوت فلاناً » أي اتبعت أثره ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت ، والقبيلة المشهورة بالقافة لأنه يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوالهم في النسب . والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به ، وهذه قضية كلية ولكن المفسرين حملوها على صور مخصوصة فقيل : نهى المشركين عن تقليد أسلافهم في الإلهيات والنبوات والتحليل والتحريم والمعاد كقوله : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } [ النجم : 23 ] { هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن } [ الأنعام : 148 ] وعن محمد بن الحنفية : المراد شهادة الزور . ومثله عن ابن عباس : لا تشهد إلا رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك . وقيل : أراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب . وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه . وقال قتادة : معناه لا تقل سمعت ورأيت وعملت ولم تسمع ولم تر ولم تعلم . وقيل : القفو هو البهت وهو في معنى الغيبة لأنه قول يقال في قفاه ومن الحديث : « من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج » أي يتوب . وردغة الخبال بفتح الدال وسكونها هي غسالة أهل النار من القيح والصديد .
احتج نفاة القياس بالآية زعماً منهم أن الحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم . وأجيب بأن العلم قد يراد به الظن قال تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } [ الممتحنة : 10 ] ولا ريب أنه إنما يمكن العلم بإيمانهن بناء على إقرارهن ، وإنه لا يفيد إلا الظن . سلمنا لكن الظن وقع في الطريق لأن الشرع قد أقام الظن الغالب مقام العلم وأمر بالعمل به ، وزيف بأنه لا دليل قاطعاً على وجوب العمل بالظن الغالب لأن ذلك الدليل ليس عقلياً بالاتفاق ، ولا نقلياً لأنه إنما يكون قطعياً لو كان منقولاً نقلاً متواتراً وكانت دلالته على ثبوت هذا الطلب دلالة قطعية غير محتملة للنقيض ، ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولم يبق خلاف ، ونوقض بأن الدليل الذي عولتم عليه - وهو هذه الآية - تمسك بعام مخصوص للاتفاق على أن العمل بالشهادة عمل بالظن وهو جائز . وكذا الاجتهاد في القبلة وفي قيم المتلفات وأروش الجنايات ، وكذا الفصد والحجامة وسائر المعالجات ، وكذا الحكم بكون الشخص المعين كالذبائح مؤمناً لتحل ذبيحته ، أو الوارث لحصول التوارث ، أو الميت ليدفن في مقابر المسلمين . وبالحقيقة أكثر الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المعينة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة . وقال صلى الله عليه سلم : نحن نحكم بالظاهر . والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن .

فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لزم أن لا يجوز التمسك بهذه الآية ، وكل ما يفضي ثبوته إلى نفيه يسقط الاستدلال به . وأجيب بأنا نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التمسك بآيات القرآن جائز . ورد بأن كون العالم المخصص حجة غير معلوم بالتواتر ، ثم علل النهي بقوله : { إن السمع والبصر وكل أولئك } إشارة إلى الأعضاء الثلاثة وإن لم تكن من ذوات العقول كقوله : والعيش بعد أولئك الأيام . { كان عنه مسئولاً } قال في الكشاف : { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية مثل { غير المغضوب عليهم } [ الفاتحة : 7 ] وفيه نظر لأن المسند إليه الفعل أو شبهه لا يتقدم عليه . والصواب أن يقال : إنه فاعل { مسئولاً } المحذوف والثاني مفسر له . وكيف يسأل عن هذه الجوارح؟ قيل : يسأل صاحبهما عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني ، فإن استعملها في الخيرات استحق الثواب وإلا فالعقاب . وقيل : إنه تعالى ينطق الأعضاء ثم يسألها عن أفعالها . { ولا تمش في الأرض مرحاً } نصب على الحال مع أنه مصدر أي ذا مرح وهو شدة الفرح . وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع من التأكيد مثل « أتاني ركضاً » ونهي عن مشية أهل الخيلاء والكبر . { إنك لن تخرق الأرض } لن تثقبها بشدة وطأتك { ولن تبلغ الجبال طولاً } مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ، أو تمييز ، أو مفعول له ، أو مصدر من معنى تبلغ . بيّن ضعف الآدمي بأنه في حال انخفاضه لا يقدر على خرق الأرض ، وحال ارتفاعه لا يقدر على الوصول إلى رؤوس الجبال ، فلا يليق به أن يتكبر . وبوجه آخر كأنه قيل له : إنك خلق ضعيف محصور بين حجارة من فوقك وتراب من تحتك ، فلا تفعل فعل المقتدر القوي . وقيل : إنه مثل ومعناه : كما أنك لن تخرق الأرض في مشيتك ولن تبلغ الجبال طولاً فكذلك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك وفيه يأس للإِنسان من بلوغ إرادته .
{ كل ذلك كان سيئه } من قرأ بالإضافة فظاهر لأن المذكور من قوله : { لا تجعل مع الله إلهاً آخر } بعضها أحسن وهو المأمورات وبعضها سيىء وهو المنهيات ، فالمعنى أن ما كان من تلك الأشياء سيئاً فإنه مكروه عند الله . ويمكن أن يراد بسيىء تلك الخصال طرف الإفراط أو التفريط . ومن قرأ { سيئة } على التأنيث فقوله : { كل ذلك } إشارة إلى المنهيات خاصة . وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : { وأحسن تأويلاً } وقوله : { كل ذلك } إشارة إلى ما نهى عنه في قوله : { ولا تقف } { ولا تمش } وإنما قال : { سيئة } على التأنيث مع قوله : { مكروهاً } على التذكير لأنه جعل السيئة في معنى الذنب والإثم . قالت المعتزلة : الكراهة نقض الإرادة ففي الآية دلالة على أن المنهيات لا تكون مرادة لله تعالى لأنها مكروهة عنده .

وإذا لم تكن مرادة لم تكن مخلوقة له لأن الخلق بدون الإرادة محال . أجابت الأشاعرة بأن المراد من كراهتها كونها منهياً عنها ، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع لزوم التكرار لأن كونها سيئة يدل على كونها منهية . وأجيب بأنه لابأس بالتكرار لأجل التأكيد { ذلك } الذي ذكر من قوله : { لا تجعل } إلى هذه الغاية وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً { مما أوحى إليك ربك من الحكمة } سمي حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه . روي عن ابن عباس أنها كانت في ألواح موسى عليه السلام . وباصطلاح الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به . لا ريب أن الأمر بالتوحيد رأس الحكمة النظرية وسائر التكاليف مشتملة على أصول مكارم الأخلاق وهي الحكمة العملية ، ولقد جعل الله سبحانه فاتحة هذه التكاليف النهي عن الشرك وكذا خاتمتها لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها ، ومن فقده لم ينفعه شيء من العلوم وإن بذ فيها الأقران والأكفاء وحك بيافوخه السماء . وقد راعى في هذا التكرار دقيقة فرتب على الأول كونه مذموماً مخذولاً وذلك إشارة إلى حال المشرك في الدنيا ، ورتب على الثاني أنه يلقى في جهنم ملوماً مدحوراً وأنا حاله في الآخرة . وفي القعود هناك والإلقاء ههنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة والله أعلم بمراده . وقد يفرق بين الذم واللوم فيقال : الذم هو أن يذكر أن الفعل الذي قدم عليه قبيح منكر ، واللوم هو أن يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا العمل إلاَّ إلحاق الضرر بنفسك . ويفرق بين المخذول والمدحور بأن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت . والمدحور والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة . ثم أنكر على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله فقال : { أفأصفاكم } أي أفخصكم { ربكم } على وجه الخلوص والصفاء { بالبنين } الذين هم أفضل الأولاد { واتخذ من الملائكة } أولاداً { إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً } بإضافة الأولاد إلى من لا يصح له الولد لقدمه وتنزهه عن صفات الأجسام ، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون ما تكرهون وهذا خلاف معقولكم وعادتكم فإن العبيد لا يؤثرون بالأجود والأصفى والسادة بالأدون والأردأ ، ثم بجعلكم الملائكة الذين هم أعلى خلق الله على الإطلاق أو التقييد على المذهبين أخس الصنفين وهو الإناث .
التأويل : خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ليقطع تعلقه عن الكونين من بين الثقلين فقال : { لا تجعل مع الله إلها آخر } من الدنيا والآخرة ، ثم شرف أمته بتبعيته قائلاً : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلاَّ إياه } وإنما قال : { ربك } لأنه أصل في التربية والأمة تبع له ، فمن حكم في الأزل أنه لا يعبد غير الله لم يعبد غير الله { وبالوالدين } والد الروح ووالدة البدن .

والإحسان بهما أن يراقبهما في العبودية ليعبد الله كأنهما يريانه { أما يبلغن عندك } يخاطب القلب ويوصيه بأن يواسي والد الروح عند كبره وهو بلوغه أعلى مراتب القرب وعجزه عند سطوات تجلي صفا الألوهية ، ويداري والدة البدن حينئذ فلا يستعملها عند العجز { ولا تنهرهما } عند الاستراحة وأرفق بهما عند استعمالهما في العبودية ، ولا تتكبر عليهما فإنك أخذت التربية منهما لأن القلب طفل تولد بازدواج الروح والبدن ، وقد وجد التربية منهما صورة ومعنى إلى أن صار قابلاً للتجلي والخلافة { ربكم أعلم بما في نفوسكم } من الاستعداد { أن تكونوا صالحين } مستعدين للخلافة { فإنه كان للأوابين } الراجعين من أنانيته إلى هويته دون من كان مقيداً بنفسه { غفوراً } سائراً بأنوار جماله . ثم أخبر عن أداب الخلافة قائلاً { وآت ذا القربى } وهو النفس حقه فإن لنفسك عليك حقاً من غير إسراف وتقتير .


وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

القراآت : { ليذكروا } من الذكر وكذلك في « الفرقان » : حمزة وعلي وخلف . الآخرون بتشديد الذال والكاف من التذكر . { كما يقولون } على الغيبة : ابن كثير وحفص { عما تقولون } على الخطاب : حمزة وعلي وخلف . { تسبح } بتاء التأنيث : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل والخزاز عن هبيرة . الآخرون على التذكير { أئذا } { أئنا } القول فيه كما مر في « الرعد » وكذلك في آخر هذه السورة وفي سورة « قد أفلح » وفي سورة السجدة .
الوقوف : { ليذكروا } ط { نفوراً } 5 { سبيلاً } 5 { كبيراً } 5 { فيهن } ط { تسبيحهم } ط { غفوراً } 5 { مستوراً } لا للعطف { وقرأ } ط { نفوراً } ط { مسحوراً } 5 { سبيلاً } 5 { جديداً } 5 { حديداً } لا { صدوركم } ج للفاء مع أن السين للاستئناف { بعيدنا } ط { أوَّل مرة } ج لما قلنا { متى هو } ط { قريباً } 5 { قليلاً } 5 { أحسن } ط { بينهم } ط { مبيناً } 5 { أعلم بكم } 5 { يعذبكم } ط { وكيلاً } ط { والأرض } ط { زبوراً } 5 { شديداً } ط 5 { مسطوراً } 5 { الأوّلون } ط لأن الواو للاستئناف { فظلموا بها } ط { تخويفاً } 5 { بالناس } ط { في القرآن } ط الكل لما مر . { ونخوّفهم } لا لصحة عطف المستقبل على المستقبل { كبيراً } 5 .
التفسير : لما بين أنواع الحكم ومكارم الأخلاق ذكر غاية مظلومية الإنسان وجهوليته فقال : { ولقد صرفنا } أي بينا أحسن بيان لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع ومن مثال إلى مثال حتى ينتهي به إلى ما هو مراده من الإيضاح . ومفعول التصريف متروك أي أوقعنا التصريف { في هذا القرآن } أو محذوف للعمل به والمراد صرفنا فيه ضروباً { من كل مثل } وأراد بهذا القرآن إبطال إضافتهم البنات إلى الله لأنه مما كرر ذكره ، والمقصود ولقد صرفنا القول في هذا المعنى . وقيل : لفظة « في » زائدة كقوله { وأصلح لي في ذريتي } [ الأحقاف : 15 ] قال الجبائي : في قوله : { ليذكروا } دلالة على أنه أراد منهم فهمها والإيمان بها . والمراد بالذكر ههنا فيمن قرأ مخففاً هو التذكر والتأمل لا الذكر الذي هو نقيض النسيان . وقالت الأشاعرة : قوله : { وما يزيدهم إلا نفوراً } دلت على عكس ذلك لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سبباً لعسره وتعذره والنفرة عنه يقبح منه الأمر بذلك الفعل ، ولما أخبر أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم . عن سفيان الثوري أنه كان إذا قرأها قال : زادني ذلك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً . ثم دل على التوحيد الذي أمر به في قوله : { ولا تجعل مع الله إلهاً آخر } فقال : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } أي كما يقول المشركون من إثبات آلهة من دونه أو كما تقولون أيها المشركون .

وفي قوله { إذا } دلالة على أن ما بعدها وهو { لابتغوا } جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل « لو » قاله في الكشاف . قلت : ولعل { إذا } ههنا ظرف لما دل عليه { لابتغوا } أي لطلبوا إذ ذاك { إلى ذي العرش سبيلاً } بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم ببعض ومثله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] ويسمى في عرف المتكلمين دليل التمانع وسيجيء بحثه في سورة الأنبياء إن شاء الله العزيز . وقيل : معنى الآية لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الرفيعة ، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تهديكم إلى الله . ثم نزه نفسه عن أقوالهم فقال { سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً } فوضع الثلاثة وهو العلوّ موضع المتشعبة وهو التعالي كقوله { أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] ثم وصف العلو بالكبر مبالغة في النزاهة وتنبيهاً على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين الغني المطلق والفقير المطلق مباينة لا تعقل الزيادة عليها .
ثم بين غاية ملكه ونهاية عظمته بقوله : { تسبح له } الآية . قالت العقلاء : تسبيح الحي المكلف يكون تارة باللسان بأن يقول « سبحان الله » وأخرى بدلالة أحواله على وجود الصانع الحكيم ، وتسبيح غيره لا يكون إلا من القبيل الثاني . وقد تقرر في أصول الفقه أن اللفظ المشترك لا يحمل على معنييه معاً في حالة واحدة فتعين حمل التسبيح ههنا على المعنى الثاني ليشمل الكل هذا ما عليه المحققون . وأورد عليه أنه لو كان المراد بالتسبيح ما ذكرتم لم يقل { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } لأن التسبيح بهذا الوجه مفقوه معلوم ، وأجيب بأن دلالة كل شيء على وجود الصانع معلومة على الإجمال دون التفصيل لأنك إذا أخذت تفاحة واحدة فلا شك أنها مركبة من أجزاء لا تتجزأ ، ولكن عدد تلك الأجزاء وصفة كل منها من الطبع والطعم واللون والحيز والجهة وغيرها لا يعلمها إلا الله . وأيضاً الخطاب للمشركين ، وإنهم وإن كانوا مقرين بالخالق ، إلا أنهم لما أثبتوا له شريكاً وأنكروا قدرته على البعث والإعادة ولم ينظروا في المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنهم لم يفقهوا التسبيح إذ لم يتوسلوا به إلى نتيجة النظر الصحيح ولهذا ختم الآية بقوله : { إنه كان حليماً غفورا } حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم ، وزعم بعض الظاهريين أن ما سوى الحي المكلف يسبح الله باللسان أيضاً كل بلغته ولسانه الذي لا نعرفه نحن ولا نفقهه . وزعم أيضاً أن الحيوان إذا ذبح لا يسبح وكذا غصن الشجرة إذا كسر ، فأورد عليه أن كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له عن التسبيح .

وكذا كسر الغصن ، ويمكن أن يجاب بأن تسبيح كل شيء لعله يختص بتركيبه الذي خلق عليه فإذا أبطل ذلك التركيب وفك ذلك النظم لم يبق مسبحاً مطلع مطلقاً ولا على ذلك النحو . واعترض عليه أيضاً بأنه إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله سبحانه وبصفاته مسبحة له مع أنها ليس بأحياء انسدّ علينا باب العلم بكونه تعالى حياً لأنا نستدل بكونه عالماً قادراً على كونه حياً . ويمكن أن يجاب بأنا نستدل على حياته تعالى بالإذن الشرعي ، ولو سلم أن العلم يستلزم الحياة عقلاً فقد قيل : إن لكل موجود حياة تليق به .
ولما فرغ من الإلهيات شرع في النبوّات فقال : { وإذا قرأت القرآن } قيل : نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن عليهم . يروى أنه كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار . وعن أسماء . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ومعه أبو بكر إذا أقبلت امرأة أبي لهب ومعها حجر فهر تريد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول : مذمماً أتينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا . فقال أبو بكر : يا رسول الله إن معها حجراً أخشى عليك . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات . فجاءت وما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالت : إن قريشاَ قد علمت أني ابنة سيدها وإن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : ورب هذه الكعبة ما هجاك . وعن ابن عباس : أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمعون حديثه . فقال النضر يوماً : ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان بشيء . وقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقوله حقاً . وقال أبو جهل : هو مجنون . وقال أبو لهب : كاهن . وقال حويطب بن عبد العزى : هو شاعر نزلت . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات وهن في سورة الكهف { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } [ الآية : 57 ] وفي النحل : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } { الآية : 108 ] وفي « حم الجاثية » { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الآية : 23 ] . وكان الله تعالى يجحبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وذلك قوله : { جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } أي ذا ستر وقد جاء مفعول بمعنى ذا كذا كما جاء فاعل على ذلك كثير نحو « لابن وتامر » من ذلك قولهم « رجل مرطوب » أي ذو رطوبة ، و « مكان مهول » و « ذهول » و « سبل مفعم » ذو إفعام .

وجوّز الأخفش مجيء مفعول بمعنى فاعل مثل « مشؤوم » و « ميمون » . وقيل : إنه حجاب يخلقه الله في عيونهم بحيث يمنعهم الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فهو مستور . وعلى هذا يصح قول الأشاعرة إنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة والمرئي حاضراً والرؤية غير حاصلة لأجل أنه تعالى يخلق في العيون شيئاً يمنعهم من الرؤية ، ويحتمل أن يراد حجاب من دونه حجاب أو حجب فهو مستور بغيره أو حجاب يستر أن يبصر فكيف يبصر المحتجب به . والقول الثاني في الآية أن المراد بالحجاب الطبع والختم فاستدلت الأشاعرة به وبقوله : { وجعلنا على قلوبهم } [ الأنعام : 25 ] الآية . على صحة مذهبهم في خلق الكفر والإيمان كما مر في سورة الأنعام في قوله : { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا } { الأنعام : 35 ] . وأجاب الجبائي بأن المراد أنهم يطلبون موضعه بالليالي ليقتلوه ويستدلون عليه باستماع قراءته فأمنه الله من شرهم بأن جعل في قلوبهم ما شغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما منعهم عن سماع صوته . وقال الكعبي : أراد به الخلية والخذلان كالسيد إذا لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول : أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك ورآيك . وقال جار الله : هذه حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . ومن قبائح أهل الشرك أنهم كانوا يحبون أن تذكر آلهتهم كلما ذكر الله فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا وانهزموا عن المجلس فلذلك قال تعالى : { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } وهو مصدر سدّ مسد الحال والتقدير يحد وحده مثل « وأرسلها العراك » { ولوا على أدبارهم نفوراً } مصدر من غير لفظ التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود فأوعدهم الله على ذلك بقوله : { نحن أعلم بما يستمعون به } من الهزء بك وبالقرآن . قاتل جار الله { به } في موضع الحال كما تقول يستمعون بالهزء أي مصاحبين الهزء أو هازئين و { إذ يستمعون } نصب بما دل عليه أعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون { وإذ هم نجوى } أي يتناجون به إذ هم ذوو نجوى { إذ يقول الظالمون } « إذ » بدل من « إذ هم » { إن تتبعون } أي على تقدير الإتباع لأنهم لم يتبعوا رسول الله { إلا رجلاً مسحوراً } سحر فاختلط عقله وزال على حد الاعتدال . وقيل : المسحور الذي أفسد من قولهم « طعام مسحور » إذا أفسد عمله « أرض مسحورة » أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها . وقال مجاهد { مسحوراً } مخدوعاً لأن السحر حيلة وخديعة ، زعموا أن محمداً يتعلم من بعض الناس وأولئك الناس كانوا يخدعونه بهذه الحكايات ، أو زعموا أن الشيطان يخدعه فيتمثل له بصورة الملك .

وقال أبو عبيدة : يريد بشراً ذا سحر وهو الرئة . قال ابن قتيبة : لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستنكر مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة . { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } شبهك كل منهم بشيء آخر فقالوا : إنه كاهن وشاعر وساحر ومعلم ومجنون { فضلوا } في جميع ذلك عن طريق الحق { فلا يستطيعون سبيلاً } إلى الهدى والبيان ضلال من تحير في التيه الذي لا منار به .
وحين فرغ من شبهات القوم في النبوّات حكى شبهتهم ، في أمر المعاد . وأيضاً لما ذكر أن القوم وصفوه بأنه مسحور فاسد العقل ذكر ما كان في زعمهم دالاً على اختلاط المفتتة من كل شيء ينكسر وهو اسم كالرضاض والفتات ويقال منه : رفت عظام الجزور رفتاً إذا كسرها . وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتاثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر ، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع؟ فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بأن إعادة بدن الميت إلى حالة الحياة أمر ممكن ، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي وغضاضته ومن جنس ما ركب منه البشر كالحجارة أو الحديد فهو كقول القائل : أتطمع فيّ وأنا فلان؟ فيقول : كن ابن الخليفة أو من شئت فسأطلب منك حقي . أما قوله : { خلقاً مما يكبر في صدوركم } . فالمراد فرضوا شيئاً آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث تستبعد عقولكم كونه قابلاً لوصف الحياة ، وعلى هذا لا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء . وقال مجاهد : أراد به السموات والأرض . وعن ابن عباس أنه الموت أي لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله يعيد الحياة إليها . وهذا إنما يحسن على سبيل المبالغة كما يقال : هو روح مجسم أو وجود محض وإلا فالموت عرض وانقلاب الجسم عرضاً محال . وبتقدير التسليم فالموت كيف يقبل الحياة لأن الضد يمتنع أن يقبل الضد . وفي قوله : { قل الذي فطركم أول مرة } بيان كافٍ وبرهان شافٍ لأنه لما سلم أن خالق الحيوان هو الله فتلك الأجسام في الجملة قابلة للحياة والعقل وإله العالم عالم بجميع الجزئيات والكليات فلا يشتبه عليه أجزاء بدن كل من الأموات ، وإذا قدر على جعلها متصفة بالحياة في أول الأمر فلأن يقدر على إعادتها إلى الحياة في ثاني الحال أولى . ألزمهم أوّلاً بأن البعث أمر ممكن وإن فرضتم بدن الميت أي شيء أردتم فكأنهم سلموا إمكانه ولكن تجاهلوا وتغافلوا عن تعيين المعيد فقالوا : { من يعيدنا } فأجاب بأنه الفاطر الأول . ثم زادوا في الاعتراض فسألوا عن تعيين الوقت يقيناً وذلك قوله : { فسينغضون إليك رؤوسهم } أي فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاء .

قال أبو الهيثم : يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إلى فوق وإلى أسفل إنكاراً له أنغض رأسه . قال المفسرون « عسى » من الله واجب فعلم منه قرب وقت البعث ، ولكن وقته على التعيين مما استأثر الله بعلمه . لا يقال كيف يكون قريباً وقد انقرض أكثر من سبعمائة سنة ولم يظهر لأنا نقول : كل ما هو آتٍ قريب ، وإذا كان ما مضى أكثر مما بقي فإن الباقي قليل . قوله : { يوم يدعوكم } منتصب ب { اذكروا } والمراد يوم يدعوكم كان ما كان ، أو هو بدل من { قريباً } والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة . يروى أن إسرافيل ينادي : أيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت . والاستجابة موافقة الداعي فبما دعا إليه وهو مثل الإجابة بزيادة تأكيد لما في السين من طلب الموافقة ، قال في الكشاف : الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز ، والمعنى يوم يبعثكم فتبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون .
وقوله : { بحمده } حال منهم أي حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بأمر يشق عليه : ستأتي به وأنت حامد شاكر أي متهيء إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل ، وهذا يذكر في معرض التهديد . وقال سعيد بن جبير : { يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللَهم وبحمدك . وقال قتادة : بحمده أي بمعرفته وطاعته لأن التسبيح والتحميد معرفة وطاعة ومن هنا قال بعضهم : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد . وقال آخرون : الخطاب مختص بالمؤمنين لأنهم الذين يليق بهم الحمد لله على إحسانه إليهم { وتظنون إن لبثتم إلاَّ قليلاً } عن قتادة : تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة ومثله قول الحسن : معناه تقريب وقت البعث وكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل . وقال ابن عباس : يريد ما بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزول عنهم هول العذاب في ذلك الوقت . وقيل : أراد استقصار لبثهم في عرصة القيامة حين عاينوا هول النار . ثم أمر المؤمنين بالرفق والتدريج عند إيراد الحجة على المخالفين فقال : { وقل لعبادي } أي المؤمنين لأن لفظ العباد يختص بهم في أكثر القرآن { فبشر عبادي الذين يستمعون القول } [ الزمر : 17 ] { عيناً يشرب بها عباد الله } [ الدهر : 6 ] { فادخل في عبادي } [ البقرة : 29 ] ، { يقولوا } الكلمة أو الحجة { التي هي أحسن } وألين وهي أن لا تكون مخلوطة بالسب واللعن والغلظة . ثم نبه على وجه المنفعة بهذا الطريق فقال : { إن الشيطان ينزغ بينهم } أي بين الفريقين جميعاً فيزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود . ثم قال : { ربكم أعلم بكم أن يشأ يرحمكم } أيها المؤمنون بالإنجاء من كفار مكة إيذائهم { أو إن يشأ يعذبكم } بتسليطهم عليكم { وما أرسلناك } يا محمد عليهم وكيلاً أي حافظاً موكولاً إليك أمرهم إنما أنت بشير ونذير .

والهداية إلى الله .
وقال جار الله : الكلمة التي هي أحسن مفسرة بقوله : { ربكم أعلم بكم } إلى آخره أي قولوا لهم الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم إنكم من أهل النار ، وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يزيد غيظهم . وقوله : { إن الشيطان ينزغ بينهم } اعتراض . وقيل : المراد بالعباد الكفار أي قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباد إلي يقولوا الكلمة التي هي أحسن وهي كلمة التوحيد والبراءة من الشركاء والأضداد ، لأن ذلك أحسن بالبديهة من الإشراك . ووصفه بالقدرة على الحشر أحسن من وصفه بالعجز عنه ، والحامل على مثل هذه العقائد هو الشيطان المعادي . ثم قال لهم : { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم } بتوفيق الهداية ، وإن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فلا تقصروا في الجد والطلب . ثم قال لرسوله : { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } حتى تقسرهم على الإسلام وما عليك إلا البلاغ على سبيل الرفق والمداراة وهذا قبل نزول آية السيف . وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل فأمره الله بالعفو . وقيل : أفرط إيذاء المشركين للمسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . وحين قال : { ربكم أعلم بكم } عمم الحكم فقال : { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } يعني أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات وبما يليق بكل منها وبذلك حصل التمايز والتفاضل كما قال : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } وفيه رد على أهل مكة في إنكارهم أن يكون يتيم أبي طالب مفضلاً على الخلائق ونبياً دون صناديد قريش وأكابرهم . وأنما ختم الآية بقوله : { وآتينا داود زبوراً } ليعلم أن التفضيل ليس بالمال والملك وإنما هو بالعلم والدين فإن داود كان ملكاً عظيماً ولم يذكره الله سبحانه إلا بمزية إيتاء الكتاب . وفيه أيضاً إشارة إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم بدليل قوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] أي محمد وأمته . ومعنى التنكير في « زبور » أنه كامل في كونه كتاباً . والزبور وزبور كالعباس وعباس والحسن وحسن ، أو المراد بعض الزبر أو الزبور كما يسمى بعض القرآن قرآناً . وقيل : إن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدال بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات ، وكانت اليهود تقول : إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ، فنقض الله كلامهم بإنزال الزبور على داود بعد موسى .
ثم رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة ، أو على طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بآلهية عيسى ومريم وعزير فقال : { قل ادع الذين زعمتم من دونه } وقيل : أراد بالذين زعمتم نفراً من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا .

وإنما خصصت الآية بإحدى هؤلاء الطوائف لأن قوله بعد ذلك { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } لا يليق بالجمادات . قال ابن عباس : كل موضع في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم فهم بمعنى الكذب . وتقرير الرد أن المعبود الحق هو الذي قدر على إزالة الضر وتحويله من حال إلى حال أو مكان إلى مكان ، وهذه التي زعمتم أنها آلهية لا تقدر على شيء من ذلك فوجب القطع بأنها ليست بآلهة . سؤال : ما الدليل على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر؟ فإن قلتم لأنا نرى أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها ولا تحصل الإجابة قلنا : إن المسلمين أيضاً يتضرعون إلى الله ولا يجابون ، وبتقدير الإجابة في بعض الأوقات فالكفار أيضاً يحصل مطلوبهم أحياناً فيقولون إنه من الملائكة . جوابه أن الملائكة مقرّون بأن الإله الأعظم خالق العالم ، فكمال قدرته معلوم متفق عليه وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه ، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله قليلة حقيرة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الإله الأعظم أولى وأجدر أخذاً بالمعلوم المتيقن دون المظنون الموهوم . على أن أهل السنة قاطعون بأنه لا تأثير لشيء في الوجود إلا لله تعالى . يقول مؤلف هذا التفسير : أضعف عباد الله تعالى وأحوجهم إليه الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه . رأيت في بعض الكتب مروياً عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : من وقع في ملمة أو طلب كفاية مهم فليسجد في خلوة وليقل في سجدته إلهي أنت الذي قلت : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً } فيا من يملك كشف الضر عنا وتحويله اكشف ما بي ، فإنه إذا قال ذلك كشف الله عنه ضره وكفى مهمه . وقد جرب فوجد كذلك .
ثم إنه تعالى أكد عدم اقتدار معبوديهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله تعالى في جذب المنافع ودفع المضار فقال : { أولئك } وهو مبتدأ و { الذين يدعون } صفته { ويبتغون } خبره يعني أولئك المعبودين يطلبون { إلى ربهم الوسيلة } أي القربة في الحوائج و { أيهم } بدل من واو { ويبتغون } وهو موصول وصدر صلته محذوف أي يبتغي من هو أقرب الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟ والدليل على هذا الافتقار إقرار جميع الكفار بإمكانهم الذاتي وجوز في الكشاف أن يضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بازدياد الخير والطاعة والصلاح ، ويرجون ويخافون كغيرهم من العباد . وقيل : أولئك الذين يدعون هم الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله : { لقد فضلنا بعض النبيين } أي الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء الدعوان للأمم إلى الله ، لا يعبدون إلا الله ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم أحق بالعبادة .

واحتج هذا القائل على صحة قوله بأن الله تعالى قال : { يخافون عذابه } والملائكة لا يعصون الله فكيف يخافون عذابه؟ وأجيب بأنهم يخافون عذابه لو أقدموا على الذنب لقوله : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] ، { إن عذاب ربك كان محذوراً } أي حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم ، فإن لم يحذره بعض الجهلة فإنه لا يخرج من كونه واجب الحذر . ثم بين مآل حال الدنيا وأهلها فقال : { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } بالموت والاستئصال { أو معذبوها } بالقتل وأنواع العذاب كالسبي والاغتنام . وقيل : الهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة { كان ذلك في الكتاب } وهو اللوح المحفوظ { مسطوراً } فلا يوجد له تبديل قط .
ثم ذكر نوعاً آخر من سننه فقال : { وما منعنا } استعار المنع للترك من أجل لزوم خلاف الحكمة والمشيئة . عن سعيد بن جبير أن كفار قريش اقترحوا منه آيات باهرة كإحياء الموتى ونحوه . وعن ابن عباس أنهم سألوا الرسول أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي ، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى ذلك فقال : إن شئت فعلت لكنهم إن كفروا بعد ذلك أهلكتهم . فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : لا أريد ذلك وأنزل الله الآية . والمعنى وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات { إلا أن كذب بها } الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما أجرى الله تعالى به عادته . والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي ، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعث إليهم إلى يوم القيامة ، ويحتمل أن يراد أنهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون ألبتة كما لم يؤمنوا فيكون إرسال الآيات ضائعاً . ثم استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة يبصرها صادرهم وواردهم وهذا معنى قوله { مبصرة } أو المراد حال كون الناقة آية بينة يبصر المتأمل بها رشده { فظلموا } أنفسهم بقتلها أو فكفروا { بها } بمعنى أنهم حجدوا كونها من الله قاله ابن قتيبة { وما نرسل بالآيات } المقترحة { إلا تخويفاً } من نزول العذاب العاجل بمعنى أن من أنكرها وقع عليه ، أو المراد وما نرسل بآيات القرآن وغيرها من المعجزات إلا إنذاراً بعذاب الآخرة على المعنى المذكور . وحين امتنع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للمصارف المذكورة قوى قلبه بوعد النصر بالغلبة فقال : { وإذ قلنا لك إن ربك } أي واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك { أحاط بالناس } أي أنهم في قبضته وقدرته فلا يقدرون على خلاف إرادته فينصرك ويقويك حتى تبلغ الرسالة .

عن الحسن : حال بينهم وبينه أن يقتلوه كما قال : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] وقيل : أراد بالناس أهل مكة ، وأحاط في معنى الاستقبال إلا أن خبر الله تعالى لما كان واجب الوقوع عبر عنه بلفظ الماضي ، وعد نبيه بأنه سيهلك قريشاً في وقعة بدر .
أما قوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ففيه أقوال : الأول أنه تعالى أراه في المنام مصارع كفار قريش حتى قال : والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يأتي الأرض ويقول : هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد . الثاني : أنه رؤياه التي رأى أن يدخل مكة وبذلك أخبر أصحابه ، فلما منع من البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم . وقال عمر لأبي بكر : قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ندخل البيت فنطوف به . فقال أبو بكر : إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى . فلما جاء العام القابل دخلها وأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] . الثالث : قول سعيد بن المسيب وابن عباس في رواية عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك . الرابع وهو قول أكثر المفسرين : أن المراد بهذه الرؤيا هي حديث الإسراء . ثم اختلفوا ، فالأكثرون على أن الرؤيا بمعنى الرؤية يقال : رأيت بعيني رؤية ورؤيا ، أو سماها رؤيا على قول المكذبين حين قالوا لعلها رؤيا رأيتها وخيال خيل إليك . والأقلون على أن الإسراء كان في المنام وقد مر هذا البحث في أول السورة . قوله : { والشجرة } فيه تقديم وتأخير ، والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس قال الأكثرون : إنها شجرة الزقوم لقيت في القرآن حيث لعن طاعموها . قال عز من قائل : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } أو وصفت باللعن لأنه إلا بعاد وهي في أصل الجحيم أبعد مكان من الرحمة ، أو العرب تقول لكل طعام مكروه ضارّ ملعون . والفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول ينبت فيها الشجر فأنزل الله تعالى هذه الآية . ونظيره قوله : { إنا جعلناها فتنة للظالمين } [ الصافات : 63 ] . ومن شاهد حال السمندل والنعامة كيف يتعجب من قدرة الله على إنبات الشجرة من جنس لا تعمل فيه النار . وعن ابن عباس : الشجرة الملعونة بنو أمية . وعنه هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب . وقيل : هي الشيطان . وقيل : اليهود سؤال : أي تعلق لحديث الرؤيا والشجرة إلى ما قبله من الكلام؟ جوابه كأنه قيل : إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا ينبغي أن يكون سبباً في توهين أمرك .

ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا والشجرة صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة ، ثم إنها ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك . ثم ذكر سبباً آخر في أنه تعالى لا يظهر المقترحات عليهم فقال : { ونخوفهم } بمخاوف الدنيا والآخرة { فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً } متمادياً .
التأويل : { لا تبتغوا إلى ذي العرش سبيلاً } يشتمل معنيين لأنهم إن كانوا أكبر منه أو أمثالاً له طلبوا طريقاً إلى إزعاج صاحب العرش ونزع الملك منه قهراً ، وإن كانوا أدون منه طلبوا إليه الوسيلة بالخدمة والعبودية على أن الناقص لا يصلح للإلهية وهذا قريب من التفسير : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوت لقوله : { فسبحان الذين بيده ملكوت كل شيء } [ يس : 83 ] والملكوت باطن الكون وهو الآخرة ، والآخرة حيوان لا جماد لقوله : { إن الدار الآخرة لهي الحيوان } [ العنكبوت : 64 ] فلكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح والحمد تنزيهاً لصانعه وحمداً له على ما أولاه من نعمه ، وبهذا اللسان يطق الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وبه تنطق الأرض يوم القيامة { يومئذ تحدث أخبارها } { الزلزلة : 4 ] وبه تنطق الجوارح { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } [ فصلت : 21 ] وبه نطق السموات والأرض { قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] { وإنه كان حليماً } في الأزل إذا أخرج من العدم من يكفر به ويجحده { غفوراً } لمن تاب عن كفره . { وإذا قرأت القرآن } فيه إشارة إلى أن من قرأ القرآن بتمامه وصل إلى أعلى معارج القدس وأقصى مدارج الأنس كما جاء في الحديث « يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق » قال أبو سليمان الخطابي : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى درجات الجنة . قال المحققون : استيفاء جميع آي القرآن هو أن يتخلق بأخلاقه وصفاته بل بأخلاق الله وصفات الله . وهذا يكون بعد العبور عن الحجب الظلمانية والنورانية فيكون بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً . لم يقل « ساتراً » لأن الحجاب يستر الواصل عن المنقطع ولا يستر المنقطع عن الواصل فيكون الواصل مستوراً بالحجاب المنقطع . { ولّوا على أدبارهم } لأنهم من سوء مزاجهم لا يكادون يقبلون الغذاء الصالح ، فالحلاوة في مذاقهم مرارة { إذ يقول الظالمون } من ظلمهم لأنهم وضعوا المسحور مكان المبعوث أي { خلقاً مما يكبر في صدوركم } أي لو كانت قلوبكم التي في صدوركم أشد من الحجارة والحديد فالله قادر على إحيائه وتليينه في قيام قيامة العشق { يقولوا التي هي أحسن } من شرف من عبيده ، فبتشريف الإضافة يظهر منه القول الأحسن وهو الدعاء إلى الله بلا إله إلا الله مخلصاً ، والفعل الأحسن وهو أن يكون متأدباً بآداب الشريعة والطريقة ، والخلق الأحسن وهو أن يكون محسناً إليهم بلا طمع الإحسان والشكر منهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويعيش فيهم بالنصيحة ، يأمرهم بالمعروف بلا عنف وينهاهم عن المنكر بلا فضيحة { إن الشيطان ينزغ بينهم } إذ لم يعيشوا بالنصيحة .

{ وآتينا داود زبوراً } فيه أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم على داود كفضل القرآن على الزبور . { وإن من قرية } من قرى قالب الإنسان { إلا نحن مهلكوها } بموت قلبه وروحه قبل موت قالبه فمن مات فقد قامت قيامته { أو معذبوها } بأنواع الرياضات والمجاهدات ففي السير إلى الله ذوبان الأفعال ، وفي السير بالله ذوبان الصفات ، وفي السير في الله ذوبان الذات : { أحاط بالناس } علم مقتضى كل نفس من الخير والشر { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك } كان الوحي يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ أمره بطريق المنام وكان في ذلك اختبار للناس ، فمن وقته يظهر الموافق من المنافق والصديق من الزنديق ، وهكذا كان في شجرة وجود إبليس ابتلاء للناس ولم يكن للمحيط بأحوال الناس حاجة إلى الابتلاء ولكنه يعامل معاملة المختبر والله أعلم بالصواب .


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

القراآت : { اخرتني } بالياء في الحالين : ابن كثير غير الهاشمي عن ابن فليح وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل . الباقون بالحذف { ورجلك } بكسر الجيم : حفص وأبو زيد عن المفضل الآخرون بسكونها . { أن نخسف } ، { أونرسل } ، { أن نعيدكم } ، { فنرسل } ، { فتغركم } كلها بالنون : ابن كثير وأبو عمرو . والباقون على الغيبة إلا يعقوب ويزيد فإنهما قرأ { فتغرقكم } بالتاء الفوقانية على أن الضمير للريح من الرياح على الجميع يزيد : { هذه أعمى } بالإمالة { أعمى } بالتفخيم : أبو عمرو ونصير والبرجمي ورويس . وقرأ حمزة وعلي غير نصير وخلف ويحيى وحماد جميعاً بالإمالة . الباقون جميعاً بالتفخيم .
الوقوف : { إبليس } ط { طيناً } 5 لاتحاد فاعل فعل قبله وفعل بعده بلا حرف عطف { عليّ } ز لحق القسم المحذوف مع اتحاد الكلام { قليلاً } 5 { موفوراً } 5 { وعدهم } ط للعدول { غروراً } 5 { سلطان } ط { وكيلاً } 5 { من فضله } ط { رحيماً } 5 { الا إياه } ج { أعرضتم } ط { كفوراً } 5 { وكيلاً } 5 لا للعطف { تبيعاً } 5 { تفضيلاً } 5 { بإمامهم } ج { فتيلاً } 5 { سبيلاً } .
التفسير : قال أهل النظم : إنه لما ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من قومه في بلية عظيمة ومحنة شديدة ، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك حتى آدم عليه السلام . وأيضاً إن القوم كان منشأ نزاعهم واقتراحاتهم الفاسدة أمرين : الكبر والحسد . فبين الله سبحانه أن هذه عادة قديمة سنها إبليس لعنة الله عليه . وأيضاً لما وصف القوم بزيادة الطغيان عقيب التخويف أراد أن يذكر السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس { لأحتنكن ذريته } وهذه القصة ذكرها الله تعالى في سبع سور : البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص . ونحن قد استقصينا القول فيه فلا حاجة إلى الإعادة فلنقتصر على تفسير الألفاظ ، قال جار الله { طيناً } حال إما من الموصول والعامل فيه { أسجد } معناه أأسجد له وهو طين في الأصل؟ وإما من الراجع إلى الموصول من الصلة تقديره أأسجد لمن كان في وقت خلقه طيناً؟ ومعنى الاستفهام إنكار أمر الأشرف على زعمه بخدمة الأدون ولذلك { قال أرأيتك } أي أخبرني عن { هذا الذي كرمته } أي فضلته { عليّ } لم كرمته وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام لكونه معلوماً . ويمكن أن يقال : هذا مبتدأ والاستفهام فيه مقدر معناه أخبرني أهذا الذي كرمته عليّ؟ والإشارة هنا تفيد الاستحقار . وقيل : إن هذا مفعول : { أرأيت } لأن الكاف لمجرد الخطاب كأنه قال على وجه التعجب والإنكار : أبصرت أو علمت هذا بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا يكرّم عليّ . ثم ابتدأ فقال { لئن أخرتني } واللوم موطئة للقسم المحذوف وجوابه { لأحتنكن ذرّيته } لأستأصلنهم بالإغواء من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلاً من الحنك .

ومنه ما ذكر سيبويه « أحنك الشاتين » أي آكلهما . وقال أبو مسلم : هو افتعال من الحنك يقال منه حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه . وإنما ظن إبليس بهم ذلك لأنه سمع قول الملائكة في حقهم { تجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] أو نظر إليه فتوسم أنه خلق شهواني إلى غير ذلك من قواه السبعية والوهمية والبهيمية . أو قاس ذرية آدم عليه حين عمل وسوسته فيه . وضعفه جار الله بأن الظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة { قال } أي الله تعالى { اذهب } ليس المراد منه نقيض المجيء وإنما المراد امض لشأنك اذي اخترته خذلاناً وتخيلة وإمهالاً . ثم رتب على على الإمهال قوله : { فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم } أراد جزاؤهم وجزاؤك فغلب المخاطب على الغائب لأنه الأصل في المعاصي وغيره تبع له . وجوز في الكشاف أن يكون الخطاب لتابعيه على طريقة الالتفات . وانتصب { جزاء موفوراً } على المصدر والعامل فيه معنى تجازون المضمر ، أو المدلول عليه بقوله : { فإن جهنم جزاؤكم } أو على الحال الموطئة . والموفور الموفر من قولهم « فر لصاحبك عرضه فرة » . وقيل : هو بمعنى الوافر .
ثم أكد الإمهال والخذلان بقوله : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } أفزه الخوف واستفزه أزعجه واستخفه ، وصوته دعاؤه إلى معصية الله . وقيل : الغناء واللهو واللعب { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } قال الفراء وأبو عبيدة : أجلب من الجلبة والصياح أي صح عليهم . وقال الزجاج : أي أجمع عليهم كل من تقدر عليه من مكايدك . فالإجلاب الجمع والباء في { بخيلك } زائدة . وقال ابن السكيت : الإجلاب الإعانة ، والخيل يقع على الفرسان قال صلى الله عليه وسلم : « يا خيل الله اركبي . » وعلى الأفراس جميعاً . والرجل بسكون الجيم جمع راجل كتاجر وتجر وصاحب وصحب . وبكسر الجيم صفة معناه وجمعك الرجل . تضم جيمه أيضاً مثل ندس وندس وحذر وحذر . عن ابن عباس : كل راكب وراجل في معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده . وقيل : يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضها راكب وبعضها راجل ، والأقرب أن هذا كلام ورد تمثيلاً فقد يقال للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك . قال في الكشاف : مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى إذا استأصلهم . أما المشاركة في الأموال فهي كل تصرف في المال لا على وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير عوض أو وضعاً في غير حق كالربا والغضب والسرقة . وقيل : هي تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة .

والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب وتحصيله بالدعاء إلى الزنا ، أو تسميتهم بعبد اللات وعبد العزى ، أو تربيتهم لا كما ينبغي حتى ينشأوا غير راشدين ولا مؤدبين ولا متدينين بدين الحق . { وعدهم } بتزيين المعاصي في أعينهم وترغيبهم فيها وتثقيل الطاعات والعبادات عليهم وتنفيرهم عنها ، وهذه قضية كلية وربما يخصه المفسرون ، فعن بعضهم أن المراد وعدهم بأنه لا جنة ولا نار . وقيل : تسويف التوبة . وقيل : بالكرامة على الله بالأنساب والأحساب . وقيل : بشفاعة الأصنام والأماني الباطلة وإيثار العاجل على الآجل . ثم نفى أن يكون لوعد الشيطان عاقبة حميدة فقال : { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } لأنه إنما يدعو إلى اللذات البهيمية أو السبعية أو الخيالية ، وأكثرها دفع الآلام وكلها لا أصل لها ولا دوام . ومن أراد الاستقصاء في هذا الباب فعليه بمطالعة باب « ذم الغرور من كتاب إحياء علم الدين » للشيخ الإمام محمد الغزالي رحمه الله .
ولما قال للشيطان على سبيل الوعيد والتهديد افعل ما تقدر عليه ربط جأش سائر المكلفين بقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الحجر : 42 ] قال الجبائي : المراد كل عباده لأنه استثنى متبعيه في غير هذا الموضع قائلاً : { إلاَّ من تبعك } [ الحجر : 42 ] وقال أهل السنة : المراد عباد الله المخلصين . ثم زاد في تقوية جانب المكلف فختم الآية بقوله : { وكفى بربك وكيلاً } فهو يدفع كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه . ثم عدد على بني آدم بعض ما أنعم به عليهم ليكون تذكيراً لهم وتحذيراً فقال : { ربكم الذي يزجى لكم } أي يسير لأجلكم { الفلك في البحر } والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حال { لتبتغوا من فضله } الربح بالتجارة { إنه كان بكم رحيماً } فلذلك هداكم إلى مصالح المعاش المؤدية إلى منافع المعاد { وإذا مسكم الضر } أي خوف الغرق { في البحر ضل من تدعون } ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم { إلا إياه } وحده فإنكم تعقدون برحمته رجاءكم ، أو المراد ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله هو الذي ترجونه وحده فكان الاستثناء منقطعاً { فلما نجاكم } من ذلك الضر وأخرجكم { إلى البر أعرضتم } عن الإخلاص { وكان الإنسان كفوراً } لنعمة الله لأنه عند الشدة يتمسك برحمة الله وفي الرخاء يعرض عنه . ثم أنكر عليهم سوء معاملتهم قائلاً : { أفأمنتم } تقديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض { أن يخسف } أصله دخول الشيء في الشيء ومنه عين خاسفة للتي غارت حدقتها في الرأس ، وخسف القمر دخل تحت الحجاب وهو دائرة الظل عند الحكماء { بكم } حال ، وإنما قال : { جانب البر } لأنه ذكر البحر في الآية الأولى وهو جانب والبر جانب ، وخسف جانب البر بهم قلبه وهم عليه فالخسف تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء ، فهبوا أنكم نجوتم من هول البحر فهل أمنتم من هول البر فإنه قادر على تسليط آفات البر عليكم .

إما من جانب التحت بالخسوف ، وإما من جانب الفوق بإمطار الحجارة وذلك أن { يرسل عليكم } حاصباً وهي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء . وقال الزجاج : الحاصب التراب الذي فيه حصباء ، فالحاصب ذو الحصباء كاللابن والتامر . ولا يخفى أن هذين العذابين أشد من غرق البحر . { ثم لا تجدوا لكم وكيلاً } يصرف ذلك عنكم { أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى } بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوب البحر { فيرسل عليكم قاصفاً } وريحاً لها قصيف أي صوت شديد أو القاصف الكاسر . وقوله : { من الريح } بيان له { فيغرقكم بما كفرتم } بسبب كفركم { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً } مطالباً يتبعنا لإنكار ما نزل بكم أو لنصرفه عنكم فهو كقوله : { ولا يخاف عقباها } [ الشمس : 16 ] .
ثم أجمل ذكر النعمة بقوله : { ولقد كرمنا بني آدم } وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوهاً منها : الخط فيه يقدر الإنسان على إيداع العلوم التي استنبطها - هو أو غيره - الدفاتر فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس محفوظة عن الانطماس { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم } [ العلق : 3 ، 4 ] ومنها الصورة الحسنة { وصوركم فأحسن صوركم } [ غافر : 64 ] ، ومنها القامة المعتدلة { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] ومنها أن كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم . يحكى عن الرشيد أنه حضر لديه طعام فأحضرت الملاعق - وعنده أبو يوسف - فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه . ومنها ما قال الضحاك : إنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوان ، ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة ، ويخرج الببغاء ونحوه لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال . ومنها تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم ، فالأرض لهم كالأم الحاضنة { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } [ طه : 55 ] وهي لهم فراش ومهاد ، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة وماء البحر ينتفع به في التجارة واستخراج الحلي منه ، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على المعمورة ، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك ، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية ظاهر . وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة أو خوان معد ، والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع ، فأي تكريم يكون أزيد من هذا؟ ولا شك أن الإنسان - لكونه مستجمعاً للقوة العقلية القدسية وللقوتين الشهوية البهيمية والغضبية السبعية ولقوّتي الحس والحركة الإرادية وللقوى النباتية وهي الاغتذاء والنموّ والتوليد - يكون أشرف مما لم يستجمع الجميع سوى المجردات المحضة . وقال بعضهم : إن هذا التكريم هو أنه تعالى خلق آدم بيده وأبدع غيره بواسطة « كن » .

يروى عن زيد بن أسلم أن الملائكة قالت : ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة . فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له « كن » فكان .
ثم خص بعض أنواع التكريم بالذكر فقال : { وحملناهم في البر والبحر } قال ابن عباس : في البر أي على الخيل والبغال والحمير وفي البحر أي على السفن { ورزقناهم من الطيبات } من كل غذاء نباتي أو حيواني ألطفه وأذله . واعلم أن التكريم لا يدل على التفضيل لأن تكريم زيد لا ينافي تكريم غيره بأزيد من ذلك ولذلك ختم التكريم بقوله : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } فسر بعض الأشاعرة الكثير ههنا بمعنى الجميع فشنع عليه جار الله بأنه شجى في الحلق وقذى في العين لبشاعة قول القائل : وفضلناهم على جميع ممن خلقنا . والإنصاف أن كون الكثير مفيداً لمعنى الجميع لا يوجب هذا التشنيع ، لأنه لا يلزم من إفادة اللفظ معنى لفظ آخر بمعنى أنه يرجع الحاصل إلى ذلك بدلالة الالتزام ، أو بحكم العرف أن يوضع ذلك اللفظ موضعه وينطق به على أن التفسير لا يقوم مقام المفسر ألبتة ، لأن هذا معجز دون ذلك فكيف يبقى الذوق بحاله؟ وأيضاً فالحاصل هو قولنا على جميع من خلقنا لا على جميع ممن خلقنا ، فإن الدعوى هو أن كثيراً من الشيء أقيم مقام كل ذلك الشيء لا كل من ذلك الشيء حتى تلزم البشاعة من قبل الجمع بين لفظي الكل و « من » التبعيضية . هذا وإن الحق في المسألة هو إجراء الكلام على ظاهره ، وإن الآية تدل على أنه حصل في مخلوقات الله شيء لا يكون للإنسان تفضيل عليه ، لأنه سبحانه ذكر في هذا الكلام في معرض المدح ، ولو كان الإنسان مفضلاً على الكل لم يقع من الله تعالى الاقتصار على ذكر البعض ، وكل من أثبت هذا القسم قال : إنه هو الملائكة : فلزم القول بأن كل الإنسان ليس أفضل من كل الملائكة بل بعض الملائكة أفضل من أكثر الإنسان وإن كان يوجد في خواص الإنسان من هو أفضل من عوام الملائكة بل من خواصهم ، وإلى هذا ذهب ابن عباس واختاره الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط . وأما أن كل الملائكة أفضل من كل البشر - على ما زعم جار الله وأمثاله - فإنه تحكم محض .
ولما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة فقال : { يوم ندعو } وهو منصوب بإضمار « اذكر » أو بقوله : { فضلناهم } على عادة الله في الإخبار أي ونفضلهم في هذا اليوم بما نعطيهم من الكرامة والثواب ، وعلى هذا يكون التكريم في الدنيا والتفضيل في الآخرة ولا وقف على { تفضيلاً } والإمام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين .

والباء في قوله : { بإمامهم } للإلصاق كما تقول أدعوك باسمك . عن أبي هريرة مرفوعاً أنه ينادى يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد ، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ، ثم ينادى يا أتباع فرعون وفلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر . ويجوز أن يتعلق الباء بمحذوف وهو الحال والتقدير : تدعو كل أناس متلبسين بإمامهم أي يدعون وإمامهم في نحو « ركب بجنوده » . وروى الضحاك وابن زيد أنه ينادى في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل . وقال الحسن : يدعون بكتابهم الذي فيه أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر . وهو قول الربيع وأبي العالية أيضاً . قال صاحب الكشاف : ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع « أن » وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم . والحكمة في ذلك في رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين عليهما السلام وأن لا يفتضح أولاد الزنا . ثم قال : وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته؟ وقال في التفسير الكبير : كل خلق يظهر من الإنسان حسن كالعفة والشجاعة والعلم ، أوقبيح كأضدادها فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن كالإمام له وكالمنبع والمنشأ ، ويوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق { فمن أوتى } هو في معنى الجمع ولذلك قيل في جزائه { فأولئك يقرؤن } وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لأن قراءة أصحاب الشمال كلا قراءة لما يعرض لهم فيه من الحياء والخجل والتتعتع { ومن كان في هذه } الدنيا { أعمى } لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب . وأما قوله : { فهو في الآخرة أعمى } فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً } [ طه : 25 ] وفي هذا زيادة العقوبة . ويحتمل أن يراد عمى القلب . قال ابن عباس : المراد ومن كان أعمى في هذه النعم التي عددها من قوله : { ربكم الذي يزجى } إلى قوله : { تفضيلاً } فهو في الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى بالطريق الأولى ، لأن الضلال عن معرفة أحوال الآخرة أقرب وقوعاً ، فعلى هذا يكون الأعمى في الموضعين في الدنيا ، ومثله ما روى أبو روق عن الضحاك . من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرته في خلق السماء والأرض والبحار والجبال والناس والدواب ، فهو عن أمر الآخرة وتحصيل العلم به أعمى . قال المفسرون : لا يبعد أن يكون أعمى على هذا التفسير « أفعل » التفضيل ودليله قراءة أبي عمر وبإمالة الأول وتفخيم الثاني ، لأن الأول ألفه واقعة في الطرف فكانت عرضة للإمالة ومظنة لها بخلاف الثاني فإن تمامه بمن فكانت ألفه في حكم وسط الكلمة .

هذا قول صاحب الكشاف تابعاً لأبي علي الفارسي . وأقول : في هذا الوجه نظر ، لأن الإمالة ليست مختصة بآخر الكلمة مثل « شيئان » « والكافرين » ونحوهما ولهذا قرىء بإمالة كليهما مع قيام هذا الاحتمال في الثاني ، ولعل من لم يمل الثاني راعى المشاكلة بينه وبين أضل والله أعلم . قال الحسن : في الآخرة أي في الدار الآخرة وذلك أنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل . وقيل : المراد بالعمى في الآخرة أنه لا يهتدي إلى طريق الجنة وإلى طيباتها والابتهاج ، بها ولا يمكن أن يراد بها الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة . التأويل : { من استطعت منهم بصوتك } أي بكلمات المبتدعة ومقالات أهل الطبيعة { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } لأنهم بخصوصية العبودية تخلصوا عن رق الكونين وتعلق العالمين { وكفى بربك وكيلاً } في تربيتهم وتهيئة صلاح أحوالهم . { ربكم الذي يزجى لكم } فلك الشريعة في بحر الحقيقة { لتبتغوا من فضله } جذبة العناية { فلما نجاكم } إلى بر الوصول والوصال { أعرضتم } بحجب العجب ورؤية الأعمال { حاصباً } من مطر القهر { قاصفاً } من ريح الابتلاء ببليات البدع والأهواء { فيغرقكم } في بحر الشهوات { ولقد كرمنا بني آدم } بالكرامات البدنية العامة للمؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده وتصويره في الرحم بنفسه ، وبالكرامات الروحانية العامة وهي أن نفخ فيه من روحه وشرفه بخطاب { ألست بربكم } وأنطقه بجواب { بلى } وأولده على الفطرة وأرسل الرسل وأنزل الكتب ، وبالكرامات الروحانية الخاصة من النبوة والولاية والهداية والجذبة كما قال : { وحملناهم في البر والبحر } أي عبرنا بهم من بر البشرية وبحري الروحانية إلى ساحل الربانية { ورزقناهم من } طيبات المواهب ونوال الكشوف { وفضلناهم على كثير } أي على الملائكة لأنهم الخلق الكثير من مخلوقات الله . وبيان تفضيله حسن استعداده في قبول فيض نور الله بلا واسطة وهو المراد بالأمانة في قوله : { إنا عرضنا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] { ندعو كل أناس بإمامهم } من الدنيا والآخرة وغيرهما فيقال : يا أهل الدنيا ويا أهل الآخرة ويا أهل الله { فمن أوتى كتابه بيمينه } فيه إشارة إلى أن أهل الله لا يؤتون كتابهم كما لا يحاسبون حسابهم ، وأهل الشمال يؤتون الكتاب ولكنهم لا يقدرون على القراءة لأنهم عمي والقراءة تحتاج إلى الإبصار بالأبصار وبالبصائر والله أعلم .


وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)

القراآت : { خلفك } ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وأبو بكر وحماد . الآخرون { خلافك } بكسر الخاء بالألف { وننزل من } مخففاً : أبو عمرو ويعقوب الياقوت بالتشديد وياء تحتانية { وناء بجانبه } مثل « ناع » : يزيد وابن ذكوان { ونأى } يفتح النون وإمالة الهمزة مثل « رمى » . حمزة غير خلف والعجلي وحماد ويحيى وعباس وأبو شعيب ونصير مثله ولكن بكسر النون على غير نصير ، وخلف والعجلي وخلف لنفسه . الباقون بفتحتين كرمى .
الوقوف : { خليلاً } 5 { قليلاً } 5 لا لتعلق « إذا » { بصيراً } 5 { قليلاً } 5 { تحويلاً } 5 { وقرآن } 5 { الفجر } ط { مشهوداً } 5 { نافلة لك } قف والوصل أولى لأن « عسى » وعد على التهجد { محموداً } 5 { نصيراً } 5 { وزهق الباطل } ط { زهوقاً } 5 { للمؤمنين } 5 لا لأن ما بعده من صلة « ما » { خساراً } 5 { بجانبه } ج لعطف حملتي الظرف { بؤساً } 5 { شاكلته } ط { سبيلاً } 5 { عن الروح } ط { قليلاً } 5 { وكيلاً } 5 لا { من ربك } ط { كبيراً } 5 { ظهيراً } 5 { مثل } ز لعطف المتفقين معنى المختلفين لفظاً { كفوراً } 5 .
التفسير : لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على بني آدم وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس الأشقياء . عن ابن عباس في رواية عطاء أن وفد ثقيف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب ، لا نعشر - أي لا تؤخذ عشور أموالنا - ولا نحشر ولا نجبي في صلاتنا أي لا نسجد ، وكل رباً لنا فهو لنا ، وكل رباً علينا فهو موضوع عنا ، وأن تمتعنا باللات سنة ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول ، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره فإذا سألتك العرب لم فعلت ذلك؟ فقل : إن الله أمرني به وجاؤا بكتابهم فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا : ولا يجبون ، فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب : اكتب « ولا يجبون » والكاتب ينظر إلى رسول الله . فقام عمر بن الخطاب فسل سيفه وقال : أسعرتم قلب نبينا با معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم ناراً . فقالوا : لسنا نكلمك إنما نكلم محمداً . وقال عمر : أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله الآية . وهذه القصة وقعت بعد الهجرة فلهذا قال المفسرون إنها ليست بمكية . وروي أن قريشاً قالوا له اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة فنزلت . وقال الحسن : إن الكفار أخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فقالوا : كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها ، ولو كان ذلك حقاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك .

فوقع في قلب رسول الله أن يكف عن شتم آلهتهم . وعن سعيد بن جبير أنه صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون : لا ندعك حتى تستلم بآلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية فنزلت . قال القفال : من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه ، فتارة كانوا يقولون : لو عبدت آلهتنا عبدنا آلهك فنزلت : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } [ الكافرون : 1 ، 2 ] وقوله : { ودّوا لو تدهن فيدهنون } [ القلم : 9 ] وتارة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فنزلت { ولا تمدّن عينيك إلى ما متعنا } [ طه : 131 ] وأخرى دعوه إلى طرد المؤمنين فنزل : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } [ الأنعام : 52 ] وكل ذلك دليل على أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ويزيلوه عن منهجه . فلو لم يكن شيء من الروايات المذكورة موجوداً لكان للآية محمل صحيح . والمعنى وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين . وأصل الفتنة الاختبار ومنه فتن الصائغ الذهب ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حده وجهته ، وذلك في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك { وإذا لاتخذوك } أي لو اتبعت مرادهم لاتخذوك { خليلاً } ولكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي { ولولا أن ثبتناك } لولا تثبيتنا وعصمتنا لك { لقد كدت تركن إليهم } لقاربت أن تميل إلى مرادهم { شيئاً قليلاً } أي ركوناً قليلاً . قال ابن عباس : يريد حيث سكت عن جوابهم .
قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللَّهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين . » ثم توعده في ذلك أشد الوعيد فقال : { إذا لأذقناك } أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون لأذقناك { ضعف الحياة وضعف الممات } أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . والضعف عبارة عن ضم الشيء إلى مثله . وقال صاحب الكشاف : المراد عذاب الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب الحياة وهو عذاب حياة الآخرة أي عذاب النار . والعذاب يوصف بالضعف كقوله : { فزده عذابا ضعفاً في النار } [ ص : 61 ] بمعني مضاعفاً فكان أصل الكلام عذاباَ ضعفاً في الحياة الدنيا وعذاباً ضعفاً في الممات ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، ثم أضيفت الصفة كإضافة الموصوف فقيل : ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل : لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات . وقال التفسير الكبير : حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ، ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة . والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء أكثر فكانت ذنوبهم وكذا عقوبتهم أعظم نظير

{ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] ثم إن إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه لأن دليل الخطاب لا حجة فيه فقد يرتقى الضعف إلى مالا حد له كما جاء في الحديث : « من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » { ثم لا تجد لك علينا نصيراً } يعني لو أذقناك ذلك لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا . واعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها . والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها فلا يلزم من الآية طعن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه أنه لا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله وتثبيته على الحق . وقالت المعتزلة : المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة عن ذلك وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده كونه نبياً من عنده . وأجيب بأنه لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك الفعل المحذور لم يكن إلى إيجاد المانع حاجة ، وليس ذلك المقتضي إلا القدرة مع الداعي ولا ذلك المانع إلا داعية أخرى معارضة للداعي الأول وقد أوجدها الله تعالى عقيب ذلك .
ثم ذكر طرفاً آخر من مكايدهم فقال : { وإن كادوا ليستفزونك } « إن » مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة كما في الآية الأولى ومعنى { ليستفزونك } ليزعجونك كما مر في قوله : { واستفزز } [ الآية : 64 ] والأرض إما أرض مكة ، كما قال قتادة ومجاهد ويرد عليه أن « كاد » للمقاربة لا للحصول لكن الإخراج قد حصل قوله : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } [ محمد : 13 ] ويمكن أن يقال : إنهم هموا بإخراجه ولكن الله منعهم من ذلك حتى هاجر بأمر ربه ، فأطلق الإخراج على إرادة الإخراج مجوزاً يؤيده قوله : { وإذا لا يلبثون } وهو معطوف على { يستفزونك } أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زماناً قليلاً أي لو أخرجوك لاستؤصلوا لكنه لم يقع الاستئصال فدل ذلك على عدم وقوع الإخراج . ومن جوز وقوع الإخراج قال : المراد بعدم اللبث أنهم أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل . واما أرض المدينة على ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم وقالوا : يا أبا القاسم إن الأنبياء بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مهاجر إبراهيم ، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك . وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم ، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة أو بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشأم لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت الآية فرجع .

وعلى هذا القول تكون هذه الآية أيضاً مدنية ، والخلاف في معنى الخلف كما مر في قوله : { بمقعدهم خلاف رسول الله } [ التوبة : 81 ] وقرىء : { وإذا لا يلبثوا } بحذف النون على إعمال « إذن » فتكون الجملة برأسها معطوفة على جملة قوله : { وإن كادوا ليستفزونك } . ثم بين أن عادته تعالى جارية بأن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فإنه يهلكهم { فقال سنة من قد أرسلنا } وهو منصوب على المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة { ولا تجد لسنتنا تحويلاً } لأن الأسباب الكلية في الأزل اقتضت توزع كل من أجزاء الزمان على حادث معين بسبب معين ، فتبيدل إحدى الحوادث وتحويلها إلى وقت آخر يقتضي تغيير الأسباب عن أوضاعها وهو محال عقلاً وعادة .
وقال أهل النظم : لما قرر الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة . وأيضاً لما قال : { وإن كادوا ليستفزونك } أمره بالاشتغال بعبادته تفويضاً للأمور إلى الله وتعويلاً على فضله في دفع شر أعدائه نظيره قوله في سورة طه : { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } [ طه : 130 ] ذهب كثير من المفسرين كابن قتيبة وسعيد بن جبير منقولاً عن ابن عباس ، أن دلوك الشمس هو غروبها . وعلى هذا لا تشمل الآية صلاتي الظهر والعصر . وأكثر الصحابة والتابعين على أن دلوك الشمس زوالها عن كبد السماء ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أتاني جبرائيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر . » قالوا : واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه إذ ينظر إليها وهي في كبد السماء . وعلى هذا التفسير تشمل الآية جميع الصلوات الخمس . وحمل كلام الله على ما هو أكثر فائدة أولى واللام بمعنى الوقت أو للتعليل أي أدم الصلاة في هذا الوقت أو لأجل دخول هذا الوقت { إلى غسق الليل } أي ظلمته . قال الكسائي : غسق الليل غسوقاً أي أظلم ، والاسم الغسق بفتح السين والتركيب يدور على السيلان ومنه يقال : غسقت العين إذا هملت وكأن الظلام انهمل على الدنيا وتراكم . وهذا عند سيبويه الشفق الأبيض ، فاستدل به بعض الشافعية على أن أول وقت العشاء الآخرة يدخل بغروب الشفق الأحمر لأن المحدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية . وهذا الاستدلال مبني على أن الغاية لا تدخل في ذي الغاية ، وعلى أن الآية يجب أن تشمل جميع الصلوات ، وللخصم المنع في المقامين . ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد بقرآن الفجر هو صلاة الصبح تسمية للشيء ببعض أجزائه ، ومثله تسمية الصلاة ركوعاً وسجوداً وقنوتاً . قال جار الله : إنه حجة علي ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن .

قلت : أجزاء الصلاة أعم من أركانها ولهذا قسمت الفقهاء الصلاة إلى أركان وأبعاض وهيئات فلا يتم هذ الاعتراض .
وفي الآية مسائل : الأولى : استدل بعض الشيعة بها على جواز الجميع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً . وأجيب بأن الآية مخصوصة بفعل الرسول أو بقوله : « صلوا كما رأيتموني أصلي » ويستثنى منه عذر السفر والمطر لعدم الدليل المخصص في تلك الصورة فلزم إبقاؤها على الجواز الأصلي .
الثاني : استدل بعض الشافعية بها على أن التغليس في صلاة الصبح أفضل من التنوير لوجوه منها : أنه أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير : أقم قرآن الفجر . وظاهر الآية للوجوب فلا أقل من الندب حتى لا تكثر مخالفة الدليل . والفجر انفجار ظلمة الليل فيلزم أن تكون إقامة الفجر في أول الوقت أفضل . ومنها أنه خص الفجر بإضافة القراءة إليه فدل ذلك على أن طول القراءة في هذه الصلاة مطلوب ، ولن يتم هذا المطلوب إلا إذا شرع في أدائه في أول الوقت ، ومنها أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهوداً فقيل : أي يشهده الكثير من المصلين في العادة ، أو من حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة . وقال أكثر المفسرين : معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح تنزل هؤلاء وتصعد هؤلاء في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار . وقيل : إنهم يجتمعون خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الصبح قبل أن تعرج ملائكة الليل . فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار . ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت : يا رب إنا تركنا عبادك لك ، وتقول ملائكة النهار : ربنا لقينا عبادك وهم يصلون . فيقول الله لملائكته : اشهدوا فإني قد غفرت لهم . والغرض أن المكلف إذا شرع في صلاة الصبح في آخر الظلمة الذي هو أول الفجر كانت ملائكة الليل حاضرين بعد . ثم إذا امتدت هذه الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة بالكل أو بالأكثر وحضرت ملائكة النهار ، وهذا المعنى لا يحصل إذا ابتدىء بها وقت التنوير . قال أهل التحقيق : إذا شرع في صلاة الصبح في أول وقتها شاهد في أثنائها انقلاب العالم من الظلمة - التي هي نظيره الموت - إلى الضياء الذي هو نظير الحياة ، فإنه يفيء عقله من هذه الحالة إلى عجيب صنع الخلاق المدبر للأنفس والآفاق ، فيزداد بصيرة وإيقاناً ومعرفة وإيماناً ، وتنفتح عليه أبواب المكاشفة والمشاهدة . وإذا كان هذا المعنى في الجماعة الكثيرة صارت نفوسهم كالمرايا المشرقة المتقابلة المتعاكسة أضواؤها الواقعة على كل منها ، فيزداد كل منهم نورية وبهاء . فيحتمل أن يكون قوله : { مشهوداً } إشارة إلى هذه الأحوال المشاهدة . ولا ريب أنه إذا شرع في الصلاة أول انتباهه من النوم قبل أن يرد على لوح عقله وفكره النقوش الفاسدة من الأمور الدنيوية الدنية ، كان أولى فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لإزالة مثل هذه الأمراض عن النفوس .

ثم حث على قيام الليل فقال : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } قال أبو عبيدة وابن الأعرابي : هذا من الأضداد لأنه يقال : هجد الرجل إذا نام وهجد أيضاً إذا صلى من الليل ، وبوسط الأزهري فقال : الهجود في الأصل هو النوم بالليل ، ولكن تاء التفعل فيه لأجل التجنب به ومنه « تأثم » « وتحرج » وإذا ألقى الإثم والحرج عن نفسه . فكأن به المتهجد يدفع الهجود عن نفسه . وبوجه آخر لما كان غرض المصلي بالليل أن يطيب رقاده وهجوده بعد الموت سمي بذلك الاعتبار متهجداً . وربما يقال : سمي تهجداً لأن الأصل فيه أن يرقد ثم يصلي ثم يرقد ثم يصلي ، فهو صلاة بعد رقاد كما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولداود كما جاء في الحديث : « أفضل القيام قيام داود كان ينام ثلثه ويقوم سدسه ثم ينام ثلثه ويقوم سدسه » قال جار الله : معنى { ومن الليل } وعليك بعض الليل { فتهجد به } وقال في التفسير الكبير : تقديره وأقم الصلاة في بعض الليل فتهجد به أي بالقرآن ومعنى نافلة زائدة كما مر في أول « الأنفال » . ثم من ذهب إلى أن صلاة الليل كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم . زعم أن معناها كونها فريضة له زائدة على الصلوات الخمس ، أو المراد أن فرضيتها نسخت عنك فصارت تطوعاً زائدة على الفرائض . ويرد عليه أن الأمر ظاهره الوجوب فيكون بين قوله : { فتهجد } وبين قوله { نافلة } تعارض ، وكذا الاعتراض على قول من يقول إن صلاة الليل لم تكن واجبة عليه . ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله : { نافلة } قرينة صارفة للوجوب إلى الندب . وعن مجاهد والسدي أن كل طاعة يأتي بها النبي سوى المكتوبة فإن تأثيرها لا يكون في كفارة الذنوب لأنه غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر ، وإنما تكون مؤثرة في زيادة الدرجات وكثرة الثواب ولا كذلك حال الأمة فكأنه قيل للنبي : إن هذه الطاعات زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك ، لأن غيرك يحتاج إليها في تكفير السيئات ومن تقييد التهجد بقوله : { نافلة لك } يعلم أن قوله : { أقم الصلاة } عام له ولكل أمته وإن كان ظاهره خطاباً معه .
ثم وعده على إقامة الفرائض والنوافل بقوله : { عسى أن يبعثك ربك } ولا ريب أن « عسى » من الكريم أطماع واجب قال في الكشاف : انتصب { مقاماً محموداً } على الظرف أي عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاماً محموداً ، أو ضمن يبعثك معنى يقيمك ، أو هو حال أي يبعثك ذا مقام محمود ، وقيل : إنه مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات .

والأولى أن يخص ذلك بالشفاعة لأنه الحمد إنما يكون بإزاء إنعام ولا إنعام للنبي على أمته في الآخرة إلا إنعام الشفاعة ، أو لا إنعام أجل منها لأن السعي في تخليص الغير من العقاب أهم من السعي في إيصال الثواب إليه ، ويؤيده رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي . » وأما ما روى عن حذيفة أن المقام المحمود هو أن يجمع الناس في صعيد واحد ولا تتكلم نفس ، فأول مدعو محمد فيقول : لبيك وسعديك والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت . فليس بقوي لأن هذا القول من محمد لا يوجب حمداً له من أمته إلا أن يكون من مقامات الشفاعة فيرجع إلى الأول . وقيل : أراد مقاماً تحمد عاقبته . وروى الواحدي عن ابن مسعود أن ذلك حين يقعد محمد معه على العرش وزيف بلزوم التحيز له تعالى . قوله : { مدخل صدق } و { مخرج صدق } مصدران بمعنى الإدخال والإخراج ، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو « حاتم الجود » أي إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً ولا يرى فيه ما يكره . قال الحسن وقتادة : نزلت حين أمر بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة ، وقيل : إن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء وعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد { وما النصر إلا من عند الله } فداوم على الصلاة وارجع إلى مقرك ومسكنك . { وقل رب أدخلني } في المدينة { مدخل صدق وأخرجني } منها إلى مكة { مخرج صدق } أي افتحها لي فعلى هذين القولين يكون الكلام عوداً إلى الواقعة المذكورة في قوله { وإن كادوا ليستفزونك } والأولى أن يقال إنه عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه ثم يتركه من أمر ومكان . وقيل : أراد إدخاله مكة ظاهراً عليها الفتح وإخراجه منها آمناً من المشركين . وقيل : إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً . وقيل : إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر وهو النبوّة ، وإخراجه منه مؤدياً لما كلفه من غير تفريط . وقيل : أراد رب أدخلني الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص والقيام بلوازم الحضور ، أو أدخلني في مجاري دلائل التوحيد وأخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول . وقال صاحب الكشاف : أدخلني القبر إدخالاً مرضياً وأخرجني منه عند البعث ملقى بالكرامة . يدل على هذا التفسير ذكره على أثر ذكر البعث { واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } حجة ظاهرة تنصرني بها جميع من خالفني أو ملكاً وعزاً ناصراً للإسلام وذويه .
ثم شرفه باستجابة دعائه بقوله : { وقل جاء الحق } أي الإسلام { وزهق الباطل } اضمحل الشرك من زهقت نفسه إذا خرجت { إن الباطل كان زهوقاً } غير ثابت في كل وقت وإن اتفقت له دولة وصولة كانت كنار العرفج .

عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً لقبائل العرب . صنم كل - قوم بحيالهم - فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل . فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة - وكان من قوارير صفر - فقال : يا علي ارم به . فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره ، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون : ما رأينا رجلاً أسحر من محمد فلا جرم كذبهم الله وصدق نبيه بقوله : { وننزل من القرآن } « من » للبيان كقوله : { من الأوثان } [ الحج : 30 ] أو للتبعيض أي ننزل ما هو شفاء . وهو هذا القرآن أو بعض هذا الجنس . وقيل : زائدة ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ذكر كون القرآن شفاء من الأمراض الروحانية كالعقائد الفاسدة والأخلاق الدميمة ومن الأمراض الجسمانية أيضاً لما في قراءته من التيمن والبركة وحصول الشفاء للمرض كما قال صلى الله عليه وسلم : « من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله » ثم بين أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من كيفية اقتناص العلوم الجليلة والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار الملائكة المقرّبين بل إلى جناب رب العالمين ، ولما كان قبول القابل شرطاً في ظهور الأثر من الفاعل فلا جرم { لا يزيد } القرآن { الظالمين } الذي وضعوا التكذيب مقام التصديق والشك موضع الإيقان والاطمئنان { إلا خساراً } لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شراً فلا يزال سماع القرآن يزيد المشركين غيظاً وحنقاً ويدعوهم ذلك إلى زيادة ارتكاب الأعمال القبيحة وهلم جراً إلى أن يدفع الله مكرهم ونكرهم .
ثم ذكر قبح شيمة الإنسان الذي جبل عليه فقال : { وإذا أنعمنا على الإنسان } أي على هذا الجنس بالصحة والغنى . وعن ابن عباس أنه الوليد بن المغيرة . وفي التخصيص نظر إلا أن يكون سبب النزول { أعرض ونأى بجانبه } النأي البعد ، والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحيته . والنأي بالجانب أن يلوي عن عطفه ويوليه ظهره ، أو أراد الاستكبار لأن هذا الفعل من شأن المستكبرين . ومن قرأ { ناء } فإما من النوء بمعنى النهوض مستثقلاً . وإما مقلوب كقولهم : « راء » في رأى . { وإذا مسه الشر } من مرض أو فقر { كان يؤساً } شديد اليأس من روح الله . والحاصل أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود الدني نسي المنعم الحقيقي ، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف حتى كاد يتلف أو يدنف ، وكلتا الخصلتين مذمومة ولا مقتضى لهما إلا العجز والطيش وكل بقدر كما قال : { قل كل يعمل على شاكلته } أي كل واحد من الخلائق إنما يتيسر له أن يعمل على سيرته وطريقته التي تشاكل حاله التي جبل عليها من قولهم « طريق ذو شواكل » وهي الطرق التي تتشعب منه .

{ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } لأنه الذي خلق كل شيء ورباه وهو عالم بخاصية كل نفس وبمقتضى جوهرها المشرق ، أو المظلم سواء قلنا إن النفوس مختلفة بالماهيات ، أو هي متساوية الحقائق واختلاف أحوالها لاختلاف أمزجة أبدانها ، كما أن الشمس تعقد الملك وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه .
ولما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل هو عليه لزم البحث عن ماهية الروح فلذلك قال : { ويسألونك عن الروح } ذكر المفسرون في سبب نزوله أن اليهود قالوا لقريش : سلوا محمداً عن ثلاث : عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح . فإن أجاب عن الأولين وأبهم الثالثة فهو نبي لأن ذكر الروح مبهم في التوراة ، وإن أجاب عن الكل أو سكت فليس بنبي . فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح إذا قال : { قل الروح من أمر ربي } أي مما استأثر الله بعلمه فندموا على سؤالهم . ومن الناس من طعن في هذه الرواية لوجوه منها : أن الروح ليس أعلى شأناً من الله تعالى ، وإذا كانت معرفة الله تعالى . ممكنة بل حاصلة فما المانع من معرفة الروح : ومنها أن هذه المسألة تعرفها الفلاسفة والمتكلمون فكيف يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول إني لا أعرفها مع وفور علمه وكمال معرفته؟ وكيف يصح ما روي عن ابن أبي بريدة لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح . ومنها أن جعل الحكاية دليلاً على النبوة غير معقول . ونحن نتقصى عن المسألة فنقول : السؤال عن الروح إما أن يكون عن حقيقته أو عن حال من أحواله ككونة متحيزاً أو غير متحيز ، أو قديماً أو حادثاً أو باقياً بعد البدن أو فانياً ، وعلى تقدير البقاء ما سعادته وشقاوته . وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة . وقوله تعالى : { وسألونك عن الروح } ليس فيه ما يدل على تعيين شيء من هذه المسائل ، فالأولى أن يحمل السؤال على السؤال عن الحقيقة لأن معرفة حقيقة النبي أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله ، فيكون قوله : { قل الروح من أمر ربي } رمز إلى أن الروح جوهر بسيط مجرد حصل بمجرد الأمر وهو قوله : { كن فيكون } [ يس : 82 ] لأن الآية دلت على أن الروح من أمر الرب . وقال في آخر سورة يس { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] ينتج أن الروح إذا أراده فإنما يقول له كن فيكون ، ومنه يعلم أنه شيء مغاير للأجسام المتوقعة على المادة والمدة وللأعراض الموقوفة على الأجسام ، وأنه بسيط محض وإلا لتوقف على انضمام أجزائه .

ولا يلزم من كون الروح كذلك كونه مشاركاً للباري تعالى في الحقيقة ، فإن الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في الملزومات . وليس في الآية دلالة على حدوث الروح إلا بحسب الذات ، بل لمستدل أن يستدل بها على قدمه بالزمان إذا لو كان متوقفاً على الزمان لم يكن حاصلاً بمجرد الأمر والمفروض خلافه .
ولما كان أمر الروح مشتبهاً على الناس كلهم أو جلهم ختم الآية بقوله : { وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً } وذلك أن الإنسان وإن كمل علمه وكثرت معرفته بحقائق الأشياء ودقائقها فإن ما علم يكون أقل ما لم يعلم ، فإذا نسب معلومه إلى معلومات الله المشار إليها بقوله : { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام } [ لقمان : 27 ] { قل لو كان البحر مداد الكلمات ربي } [ الكهف : 109 ] كان كلا شيء فإنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلاً . وقال بعض المفسرين : هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله ، وذكر الإمام فخر الدين الرازي أن قوله : { قل الروح من أمر ربي } يدل على أن الروح حادث لأن الأمر قد جاء بمعنى الفعل . قال تعالى : { وما أمر فرعون برشيد } [ هود : 97 ] أي فعله وقال : { ولما جاء أمرنا } [ هود : 94 ] أي فعلنا . وإذا حصل الروح بفعل الله وتكوينه كان من المحدثات . ثم ذكر حجة أخرى على حدوث الروح مستنبطة من قوله سبحانه : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ووجه تقريرها أن الإنسان بل روحه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم والمعارف ، ثم لا يزال يحصل له المعارف فهو دائماً في التبدل والتغير من النقصان إلى الكمال وكل متغير محدث . ومنع كلية هذه القضية عند الخصم مشهور على أن حمل وقت قلة العلم على أول الفطرة تخصيص من غير دليل ، مع أن ظاهر الآية يدل على أن الإنسان وإن أوتي حظاً من العلم وافراً ، فإنه قليل بالإضافة إلى علم عالم الذات . وقيل : الروح المذكور في الآية هو القرآن الذي تسبب لحياة الروح كأن القوم استعظموا أمره فسألوا إنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله . وقيل : هو ملك في غاية العظم والشرف وهو المراد من قوله تعالى : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [ النبأ : 38 ] ونقل عن علي عليه السلام أن له سبعين ألف وجه ، ولكل وجه سبعون ألف لسان ، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة يوم القيامة ولم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش ، ولو شاء الله أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع بلقمة واحدة لفعل .

وأمثال هذه الروايات مسرحة إلى بقعة الإمكان ولا وجه للاعتراض عقلاً عليه . وقال الحسن وقتادة : هذا الروح جبرائيل كأنهم سألوا الرسول كيف جبرائيل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي؟ فأمر بأن يقول الروح من أمر ربي أن نزوله بأمر الرب كقوله : { ما نتنزل إلا بأمر ربك } [ مريم : 64 ] وقال مجاهد : الروح خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون كما يأكل الناس ، وليسوا بالناس . وزيفت هذه الأقوال بأن صرف السؤال عن الروح الإنساني الذي تتوفر دواعي العقلاء على معرفته إلى أشياء مجهولة الوجود مستنكر .
واعلم أن للعقلاء في حقيقة الإنسان اختلافات كثيرة ، وإذا كان حال العلم بأقرب الأشياء إلى الإنسان وهو نفسه هكذا ، فمنا ظنك بما هو الأبعد! ولنذكر بعض تلك المذاهب فلعل الحق يلوح في تضاعيف ذلك فنقول : العلم الضروري حاصل بوجود شيء يشير إليه كل واحد بقوله « أنا » فذلك المشار إليه إما أن يكونه جوهراً مفارقاً ، أو جسماً هو هذه البنية ، أو جسماً داخلاً فيها أو خارجاً عنها أو عرضاً . أما المتكلمون فالجمهور منهم ذهبوا إلى أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، وزيف بأن البدن دائماً في التغير والتبدل . والمشار إليه بأنا واحد من أول العمر إلى آخره ، وبأن الإنسان غير غافل عن نفسه حين ما يكون ذاهلاً عن أجزاء بدنه ، بأن النصوص الواردة في القرآن والخبر كقوله عز من قائل : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً بل أحياء } [ البقرة : 154 ] ، { يا أيتهالنفس المطمئنة ارجعي } [ الفجر : 28 ] { النار يعرضون عليها غدواً أو عشياً } { الزمر : 46 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم : « أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار » « القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران » وقوله في خطبة طويلة : « حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالهناء لغيري والتبعة عليّ فاحذر وامثل ما حل بي » توجب مغايرة النفس للبدن ، وبأن جميع فرق الدنيا من أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم يزورونهم ويدعون لهم بالخير ، وبأن الميت قد يرى في المنام فيخبر عن أمور غائبه وتكون كما أخبر ، وبأن الإنسان قد يقطع عضو من أعضائه ويعلم يقيناً أنه هو الذي كان قبل ذلك ، وبثبوت المسخ في حق طائفة من أهل الكتاب وليس المسخ إلا تغيير البنية مع بقاء الحقيقة ، وبأن جبرائيل قد رؤي في صورة دحية ، وإبليس رؤي في صورة الشيخ النجدي ، فعلم أن لا عبرة بالبنية ، وبأن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره ، فعلم أن المتلذذ والمتألم شيء آخر سوى العضوين ، وبأنا نعلم ضرورة أن العالم الفاهم للخطاب إنما هو في ناحية القلب ليس جملة البدن ولا شيئاً من الأعضاء .

أما إن قيل : الإنسان جسم هو في داخل البدن . فاعلم أن أحداً من العقلاء لم يقل بأن الإنسان عبارة عن الأعضاء الكثيفة الصلبة التي غلبت عليها الأرضية كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ، ولكن منهم من قال : إنه الجسم الذي غلب عليه المائية من الأخلاط الأربعة ، أعني الدم بدليل أنه إذا خرج لزم الموت . ومنهم من قال : إنه الذي غلب عليه الهوائية والنارية وهو الروح الذي في القلب ، أو جزء لا يتجزأ في الدماغ ، ومنهم من يقول : اختلطت بهذه الأرواح القلبية والدماغية أجزاء نارية مسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان . ومنهم من قال : إذا تكوّن بدن الإنسان وتم استعداده نفذت فيه أجرام سماوية نورانية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس غير قابلة للتبديل والتحويل ولا للتفرق والتمزق ، نفوذاً يشبه نفوذ النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورد . وهذا النفوذ هو المراد بقوله : { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] ثم إذا تولد في البدن من أخلاط غليظة منعت من سريان تلك الأجسام فيها ، فانفصلت لذلك عن البدن فحينئذ يعرض الموت للجوهر .
وقال الإمام فخر الدين الرازي : هذا مما ذهب إليه ثابت بن قرة وغيره وهو مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت . قلت : أما نفوذ الجوهر النوري في البدن كنفوذ الدهن في السمسم فمسلم ، وأما أنه أجرام وأجسام ففيه نظر ، واعلم أنه لم يذهب أحد إلى أن الإنسان جسم خارج عن البدن ، ولا إلى أنه عرض حال في البدن إلا ما نقل عن الأطباء ، وعن أبي الحسين البصري من المعتزلة ، أن الإنسانية عبارة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص وعلى نسبة معلومة تخص هذا الصنف . ومن شيوخ المعتزلة من قال : الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بأعراض مخصوصة هي الحياة والعلم والقدرة . ومنهم من قال : إنه يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه . والصحيح من المذاهب عند أكثر علماء الإسلام - كالشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي ، من قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ، ومن الشيعة الشيخ المفيد رضي الله عنه ، ومن الكرامية جماعة ، ومن الفلاسفة الإلهيين كلهم - أن الروح الإنساني جوهر مجرد ليس داخل العالم الجسماني ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير ، ومهما انقطعت علاقته عن البدن بقي البدن معطلاً ميتاً ، واستدلوا على هذا المطلوب بحجج منها ما اختاره الإمام فخر الدين الرازي وهي لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان كونه متحيزاً عن ذاته المخصوصة إذ لو كان صفة قائمة بها لزم كون الشيء الواحد متحيزاً مرتين ولزم اجتماع المثلين .

وأيضاً لم يكن جعل أحدهما ذاتاً والآخر صفة أولى من العكس . وأيضاً التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود ، وإن كان صفة لزم التسلسل ، وإذا كان التحيز عين ذاته لزم أنه متى عرف ذاته عرف تحيزه لكنا قد نعرف ذاتنا مع الجهل بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاث وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان ، وإذا كان اللازم باطلاً فالملزوم منتفٍ وعورض بأنه لو كان الإنسان جَوهراً مجرداً لكان كل من عرف ذاته عرف تجرده وليس كذلك . وأجيب بالفرق بين التحيز - وهو صفة ثبوتية - وبين التجرد وهو صفة سلبية ، ومنها أن الشيء الذي يشير إليه كل واحداً بقوله : « أنا واحد » بالبديهة ، ولأن الغضب مثلاً حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي مشروطاً بالشعور بكون الشيء منافياً . فالذي يغضب لا بد أن يكون هو بعينه مدركاً ، ولأن اشتغال الإنسان بالغضب وانصبابه إليه يمنعه من الاشتغال بالشهوة والانصباب إليها . فعلمنا أنهما صفتان مختلفتان لجوهر واحد إذ لو كان لكل منهما مبدأ مستقل لم يكن اشتغال أحدهما بفعله مانعاً للآخر ، وأيضاً شيئاً فقد يكون الإدراك سبباً لحصول الشهوة ، وقد يكون سبباً للغضب ، فعلمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة والغضب . وأيضاً النفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه ، وهذا يقتضي أن المتحرك بالإرادة هو بعينه المدرك للخير والشر واللذيذ والمؤذي والنافع والضار ، وهو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخّيل والمتفكر والمشتهي والغاضب بوساطة آلات مختلفة وقوى متغايرة . وإذا ثبت ذلك فلو كانت النفس عبارة عن جملة البدن كان للكل أثر واحد ، ولو كانت جزءاً من أجزاء البدن كانت قوة سارية في جميع أجزاء البدن ، والوجود بخلاف الكل فحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لكل البدن ولكل جزء من أجزائه . ومنها أن الاستقراء يدل على أحوال النفس بالضد من أحوال الجسد لأن الجسم إذا قبل شكل التثليث مثلاً امتنع أن يقبل حينئذ شكل التربيع ولا كذلك حال النفس ، فإن إدراك كل صورة يعينها على إدراك ما عداها ولذلك يزداد الإنسان فهماً وذكاء بازدياد العلوم . وأيضاً كثرة الأفكار توجب قوة للنفس وتستدعي استيلاء النفس على الدماغ وقد تصير أبدان أرباب الرياضة في غاية النحافة والهزال وتقوى نفوسهم بحيث لا يلتفتون إلى السلاطين وأصحاب الشوكة والقوة ، ومما يختص بهذه الآية التي نحن في تفسيرها أن الروح لو كان جسماً منتقلاً من حالة إلى حالة لكان مساوياً للبدن في كونه متولداً من أجسام متغيرة من صفة إلى صفة ، فحيث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح كان الأنسب أن يقول : إنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا كما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم صار علقة ثم مضغة إلى آخره .

والأحاديث الواردة في أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد تؤكد ذلك الرأي الذي ادعينا من أن النفس شيء مغاير للبدن ولأجزائه والله أعلم بحقائق الأمور .
قال أهل النظم : لما بين أنه ما أتاهم من العلم إلا القليل أراد يبين أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل لقدر عليه فقال : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } قلت : في نسبة علم القرآن إلى القلة خروج من الأدب فالأولى في وجه النظم أن يقال : إنه لما كشف لهم الغطاء عن مسألة الروح ، وبين أن ذلك من العلوم الإلهية التي لا نهاية لها لا من العلوم الإنسانية القليلة ، وكان فيه بيان كمال علمه تعالى ونقصان علم الإنسان ، أراد أن يبين غاية قدرته ونهاية ضعف الإنسان أيضاً فبين أنه قادر على ذهاب القرآن ونحوه عن الصدور والمصاحف ، وسيكون ذلك في آخر الزمان كما جاء في الروايات ثم لا يجد النبي - الذي هو أكمل أنواع الإنسان - من يتوكل عليه باسترداده فضلا عن غيره { إلاَّ رحمة من ربك } استثناء متصل أي إلا أن يرحمك بربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد ، أو منقطع معناه ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به { إن فضله } بإيحاء القرآن إليك ثم إبقائه عليك أو بهذا وبسائر الخصائص والمزايا { كان عليك كبيراً } وفيه أن نعمة القرآن وبقاءه محفوظاً في الصدور مسطوراً في الدفاتر من أجلّ النعم وأشرفها ، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن شكرها والقيام بمواجبها جعلنا الله ممن يراعي حق القرآن ويعمل بمقتضاه . واحتج الكعبي بالآية على أن القرآن مخلوق لن ما يمكن إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديماً ، وأجيب بأن إزالة العلم عن القلوب والذهاب بالنقوش الدالة عليه في المصاحف لا يوجب حدوث الكلام النفسي الذي هو محل النزاع . ثم دل على أن الذي أوحى إليه ليس من جنس كلام المخلوقين فقال : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } الآية . وقد مرّ وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة . فإن قيل : هب أنه ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف يعرف عجز الجن عن معارضته ، ولم لا يجوز أن يقال : إن الجن أعانوه على هذا التأليف سعياً في إضلال الخلق؟ وإخبار محمد بأنه ليس من كلام الجن يوجب الدور وليس لأحد أن يقول : إن الجن ليسوا بفصحاء ، فكيف يعقل أن يكون القرآن كلامهم لأنا نقول : التحدي مع الجن إنما يحسن لو كانوا فصحاء؟ فالجواب أن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزاً .

ثم إن الصادق لذي ثبت صدقه بظهور المعجز على وفق دعواه أخبر أن الجن أيضاً عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن فسقط السؤال بالكلية . على أنه سبحانه قد أجاب عنه في آخر سورة الشعراء بقوله : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } [ الشعراء : 221 ] وسوف يجيء تفسيره إن شاء الله تعالى . قالت المعتزلة : التحدي بالقديم محال . وأجيب بمثل ما مر أن محل النزاع هو الكلام النفس لا الألفاظ التي يقع التحدي بها وبفصاحتها . ثم بين أنهم مع ظهور عجزهم بقوا مصرين على كفرهم فقال : { ولقد صرفنا } رددنا وكررنا { للناس في هذا القرآن من كل مثل } « من كل » معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه وذلك كدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وكالقصص اللائقة وغيرها من المواعظ والنصائح . { فأبى أكثر الناس } فيه معنى النفي كأنه قيل : فلم يرضوا { إلا كفوراً } وجحوداً . قال أهل البرهان : إنما لم يذكر الناس في أوائل السورة حين قال : { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا } [ الآية : 41 ] لتقدم ذكرهم في السورة . وذكرهم في « الكهف » إذا لم يجر ذكرهم وذكر الناس ههنا وإن جرى ذكرهم دفعاً للالتباس ، لأن ذكر الجن أيضاً قد جرى وقدم للناس على قوله : { في هذا القرآن } كما قدمه في قوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } وأما في « الكهف » فعكس الترتيب لأن اليهود سألته عن قصة أصحاب الكهف وغيرها . وقد أوحاها الله تعالى إليه في القرآن فكانت العناية بالقرآن أكثر فكان تقديمه أجدر .
التأويل : { وإن كادوا ليفتنونك } أي من عمى قلوبهم { ولولا أن ثبتناك } بالقول الثابت وهو قول « لا إله إلا الله » إلى أن بلغت حقيقة « لا إله إلا الله » { شيئاً قليلاً } وإنما وصفه بالقلة لأن بشريته مغلوبة وروحانيته غالبة . { ضعف الحياة وضعف الممات } أي نحيي نفسك وأذقناك عذاب حياتها واستيلائها على الروح ونميت قلبك . وأذقناك عذاب مماته وضعف روحك وبعده عن الحق . { سنة من قد أرسلنا } أي جرت عادة الله تعالى بأن يجعل لكل نبي عدواً يؤذيه ويمكر به . ثم بين طريق خلاص الأنبياء والأولياء عن ورطة الابتلاء فقال : { أقم الصلاة } أي أدّها بالقلب الحاضر نهاراً وليلاً . { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } بشواهد الحق بل الحق مشهود له . ثم { أدخلني مدخل صدق } يعني السير في الله بالله { وأخرجني مخرج صدق } من حولي وأنانيتي { واجعل لي من لدنك } لا من لدن غيرك .

وفيه أن كل ذي مقام فإنه لا يصل إلى مقام إلا بسعي يلائم الوصول إلى ذلك المقام كقوله : { وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] . « روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرض حاجة فقال صلى الله عليه وسلم : ما تريد؟ فقال : مرافقتك في الجنة . فقال صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك؟ فقال الرجل : بلى مرافقتك في الجنة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأعني على نفسك بكثرة السجود » { جاء الحق } من الواردات والشواهد وتجلي صفات الجمال والجلال { وزهق الباطل } وهو كل ما خلا الله من الموجودات ومن الخواطر كقوله :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... { وننزل من القرآن ما هو شفاء } لأن كلام الحبيب طبيب القلوب
إن الأحاديث من سلمى تسليني ... { قل الروح من أمر ربي } قال العارفون : لله تعالى عالمان : عالم الأمر الذي خلق لا من شيء ، وعالم الخلق الذي خلق من شيء ويعبر عنهما بالآخرة والدنيا والملكوت والملك والغيب والشهادة . والمعنى والصورة والباطن والظاهر والأرواح والأجسام ، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أول ما خلق الله جوهرة » - وفي رواية - « درّة فنظر إليها فذابت » « أول ما خلق الله اللوح » « أول ما خلق الله روحي » وفي رواية « نوري » « وأول ما خلق الله العقل » « وأول ما خلق الله القلم » وما قيل عن بعض السلف إن أول ما خلق الله على الإطلاق ملك كروبي . فالأسماء مختلفة والمسمى واحد وهو روح النبي صلى الله عليه وسلم . فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمي درة وجوهرة ، وباعتبار نورانيته سمي نوراً ، وباعتبار وفور عقله سمي عقلاً ، إذ قال له أقبل إلى الدنيا رحمة للعالمين فأقبل . ثم قال له : أدبر أي ارجع إلى ربك فأدبر عن الدنيا ورجع إلى المعراج ، ثم قال له : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحب إليّ منك ، بك أعرف ، وبك آخذ ، يعني طاعة من أخذ منك الدين والشريعة ، وبك أعطي أي بشفاعتك أعطي الدرجات العالية ، وبك أعاقب الكافرين وبك أثبت المؤمنين . وباعتبار جريان الأمور على وفق متابعته والاقتداء به سمي قلماً ، وباعتبار غلبات صفات الملائكة عليه سمي ملكاً كروبياً ، ولأن كل الأرواح خلقت من روحه كان أم الأرواح وروحها فلهذا قيل له « أمي » . وقد ورد في الحديث : « آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة » ولما كان الروح خليفة الله تعالى اتصف بالأزلية دون الأبدية ، ولما كان الجسد خليفة الروح فبالروح قوامه وقيامه لم يكن الجسد أزلياً ولا أبدياً إلا بتبعية الروح . ثم أخبر عن عزة القرآن وغيرة الرحمن بقوله : { ولئن شئنا لنذهبن } الآية . وفيه أنه لا يقدر على الإتيان والذهاب به إلا الله تعالى لكنه أكد هذا المعنى بقوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } والمراد بالجن كل ما هو مستور عن العيون فيتناول الملائكة أيضاً . وفيه أنه لا مثل لصفاته حتى الكلام كما أنه لا مثل لذاته والله تعالى أعلم بالصواب .


وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

القراآت : { تفجر } من الفجر : يعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف سوى المفضل وابن الغالب . الآخرون من التفجير تكثيراً للفعل وإن كان الفاعل والمفعول مفرداً { حتى تنزل } بالتخفيف : أبو عمرو ويعقوب . الآخرون بالتشديد { كسفاً } بفتح السين : أبو جعفر ونافع وعاصم وابن ذكوان . الباقون بالإسكان { قال سبحان } بلفظ الماضي : ابن كثير وابن عامر الباقون { قل } على الأمر { هو المهتدي } بإثبات الياء في الحالين : سهل ونافع وأبو عمرو وفي الوصل . الباقون بحذف الياء { ربي إذا } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { خبت زدناهم } بإدغام التاء في الزاي : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل . { لقد علمت } بضم التاء ، على التكلم : عليّ . الآخرون بالفتح على الخطاب { قل ادعو } بكسر اللام للساكنين : عاصم وحمزة وسهل ويعقوب وعباس : الآخرون بضمها للإتباع { أو ادعوا } بكسر الواو : عاصم وحمزة وسهل . الباقون بالضم { أيامّاً } حمزة ورويس يقفان على { أيا } ثم يبتدئان { ما تدعوا } ويسمى هذا الوقف وقف البيان . الباقون على كلمة واحدة .
الوقوف : { ينبوعاً } 5 لا { تفجيراً } 5 لا { قبيلاً } 5 لا { في السماء } ط لابتداء النفي بعد طول القصة . وقيل : الأصح الوصل لأن قوله : { ولن نؤمن لرقيك } من كلامهم { نقرؤه } ط { رسولاً } 5 { رسولاً } 5 { رسولاً } 5 { وبينكم } ط { بصيراً } 5 { المهتد } ج لعطف جملتي الشرط مع التضاد { من دونه } لا لأن الواو لا يحتمل الاستئناف { وصماً } 5 { جهنم } ط { سعيراً } 5 { جديداً } 5 { لا ريب فيه } ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار { كفوراً } 5 { الإنفاق } ط { قتوراً } 5 { مسحوراً } 5 { بصائر } ط للابتداء بأن مع اتحاد القائل { مثبوراً } 5 { جميعاً } 5 لا للعطف { لفيفياً } ، ط لانقطاع النظام والمعنى . { نزل } ط لابتداء النفي { ونذيراً } ، احترازاً من إيهام العطف { تنزيلاً } 5 { أولا تؤمنوا } ط { سجداً } ، لا { لمفعولاً } 5 { خشوعاً } 5 { الرحمن } ط لتصدير الشرط { الحسنى } ج لانقطاع نظم الشرط إلى النهي مع اتحاد المراد . { سبيلاً } 5 { تكبيراً } 5 .
التفسير : ليس من شرط كون النبي صادقاً تواتر المعجزات وتتالي الآيات ، لأن فتح هذا الباب يوجب نقيض المقصود وهو أن لا تثبت نبوته أبداً ، ولكن المعجز الواحد يكفي في صدق النبي ، واقتراح الزيادة من جملة العناد فلا جرم لما بين الله سبحانه إعجاز القرآن حكى مقترحات المعاندين بياناً لتصميمهم على الكفر . قال ابن عباس : إن رؤساء مكة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهم جلوس عند الكعبة - فأتاهم فقالوا : يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لتتسع وفجر لنا ينبوعاً نزرع فيها . فقال : لا أقدر عليه . فقال قائل منهم : أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا .

فقال : لا أقدر عليه . فقيل له : أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا . فقال : لا أقدر عليه . فقيل له : فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً . فقال عبد الله ابن أمية المخزومي - وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا والذي يحلف به لا أؤمن بك حتى تتخذ سلماً فتصعد عليه ونحن ننظر فتأتي بأربعة من الملائكة فيشهدون لك بالرسالة ، ثم بعد ذلك لا أدري أؤمن بك أم لا . فأنزل الله هذه الآيات . ولنشرع في تفسير اللغات . فقوله : { ينبوعاً } أي عيناً غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع ، والياء زائدة كيعبوب من عب الماء . وقوله : { أو تكون لك جنة } معناه هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك . وقوله : { كما زعمت } إشارة إلى قوله سبحانه : { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } [ سبأ : 9 ] أو إشارة إلى ما مرّ في السورة من قوله : { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً } [ الإسراء : 68 ] أي أجعل السماء قطعاً متفرقة كالحاصب واسقطها علينا . وقال عكرمة : كما زعمت يا محمد أنك نبي فاسقط السماء علينا . وقيل : كما زعمت أن ربك إن شاء فعل . قال في الكشاف : الكسف بسكون السين وفتحها جمع « كسفة » بالسكون كسدرة وسدر وسدر . وقال أبو علي : الكسف بالسكون الشيء المقطوع كالطحن للمطحون . واشتقاقه - على ما قال أبو زيد - من كسفت الثوب كسفا إذا قطعته . وقال الزجاج : من كسفت الشيء إذا غطيته كأنه قيل : أو تسقطها طبقاً علينا ، وهو نصب على الحال في القراءتين . ومعنى { قبيلاً } كفيلاً بما تدعي من صحة النبوة والمراد أو تأتي بالله قبيلاً وبالملائكة قبيلاً فاختصر ، أو المراد المقابل كالعشير بمعنى المعاشر . وفيه دليل على غاية جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى لا يجوز عليه المعاينة نظير قولهم : { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [ الفرقان : 21 ] وقال ابن عباس : أراد فوجاً بعد فوج . وقال الليث : كل جند من الجن والإنس قبيل وقد مر في تفسير قوله : { إنه يراكم هو وقبيله } [ الأعراف : 27 ] .
قوله : { بيت من زخرف } قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأينا في قراءة عبد الله « أو يكون لك بيت من ذهب » . وقال الزجاج : هو الزينة ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب . { أو ترقى في السماء } أي في معارجها فحذف المضاف . يقال : رقي في السلم وفي الدرجة . والمصدر « رقى » وأصله « فعول » كقعود { و } معنى { لن نؤمن لرقيك } لن نؤمن لك لأجل رقيك { حتى تنزل علينا كتاباً } من السماء فيه تصديقك . قال الرسول : متعجباً من اقتراحاتهم أو تنزيهاً لله من تحكماتهم أو من قولهم : { أو تأتي بالله } { سبحان ربي هل كنت } أي لست { إلا بشراً رسولاً } فإن طلبتم هذه الأشياء أن آتي بها من تلقاء نفسي فالبشر لا يقدر على أمثال ذلك فكيف أقدر أنا عليها؟ وإن أردتم أن أطلب من الله إظهارها على يدي فالرسول إذا أتى بمعجز واحد وجب الاكتفاء به ، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله بما ليس بضروري في الدعوة .

ثم حكى عنهم شبهة أخرى فقال : { وما منع الناس أن يؤمنوا } أي الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد { إذ جاءهم الهدي } وهو الوحي المعجز الهادي إلى طريق النجاة { إلا أن قالوا } منكرين { أبعث الله بشراً رسولاً } ثم أجاب عن شبهتهم بقوله : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون } على الأقدام كما يمشي الإنس { مطمئنين } ساكنين فيها { لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } لأن الرسول لا بد أن يكون من جنس المرسل إليهم . فكأنه اعتبر لتنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين : أحدهما كون سكان الأرض ملائكة ، والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا أو سمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملك إليهم فائدة . وجوز في الكشاف أن يكون قوله : { بشراً } و { ملكاً } منصوبين على الحال من { رسولاً } بل زعم أن المعنى له أجوب ، ولعل ذلك لأن الإنكار توجه إلى كون الرسول متصفاً بحالة البشرية لا الملكية ، وإذا كان أحد الصنفين المقابلين حالاً لزم أن يكون الآخر كذلك .
ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد قائلاً : { قل كفى بالله } الآية . وذلك أن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله تعالى له على الصدق . فإذا لم تسمع هذه الشهادة وهو عليم ببواطن الأمور وخفيات الضمائر فكيف بظواهرها؟ علم أن هذا مجرد الحسد والعناد من العباد فيجزيهم على حسب ذلك . ثم بين أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته وتقديره فقال : { ومن يهد الله } الآية . وقد مر خلاف المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة في مثله في آخر « الأعراف » وغيره . وقوه : { فهو المهتد } حمل على اللفظ وقوله : { فلن تجد } حمل على المعنى . والخطاب في { لن تجد } إما للنبي أو لكل من يستحق الخطاب . والأولياء الأنصار ، والحشر على الوجوه إما بمعنى السحب عليها كقوله : { يوم يسحبون في النار على وجوههم } [ القمر : 48 ] وإما بمعنى المشي عليها كما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال : « إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم » وقيل لابن عباس : قد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يرون وينطقون ويسمعون حيث قال : { رأى المجرمون النار } { دعوا هنالك ثبوراً } { سمعوا لها } الجمع بين ذاك تغيظاً وزفيراً فكيف وبين قوله : { عمياً وبكماً وصماً } ؟ فأجاب بأنهم لا يرون ما يسرهم ، ولا ينطقون بحجة تقبل منهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم .

وفي رواية عطاء أنهم عمي عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه ، بكم عن مخاطبة الله ، ومخاطبة الملائكة المقربين ، صم عن ثناء الله على أوليائه ، وقال مقاتل : هذه الأحوال بعد قوله تعالى لهم : { اخسئووا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] أو بعد أن يحاسبوا فيذهب بهم إلى النار . وإنما جعلوا مؤوفي الحواس جزاء على ما كانوا عليه في الدنيا من التعامي والتصامم عن الحق ومن عدم النطق به { كلما خبت } أي سكن لهبها . خبت النار تخبوا خبواً وأخباها غيرها أي أخمدها { زدناهم سعيراً } قال ابن قتيبة : أي تسعراً وهو التهلب . ولا ريب أن خبو النار تخفيف لأهليها فكيف يجمع بينه وبين قوله : { لا يخفف عنهم العذاب } [ البقرة : 162 ] وأجيب بأنه يحصل لهم في الحال الأولى خوف حصول الحالة الثانية فيستمر العذاب ، أو يقال : لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في الوقتين غير مشعور به ، ويحتمل أن يقال : المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس أو معتد به بين الخبو والتعسر . وقال في الكشاف : لأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجرامهم تأكلها وتفنيها . ثم يعيدها . وفيه زيادة في تحسرهم وفي الانتقام منهم . ومما يدل على هذا التفسير قوله : { ذلك جزاؤهم } الآية .
ثم أبدى للجاحدين حجة يستبصر المذعن للحق إذا تأمل فقال : { أو لم يروا } الآية . وذلك أن من قدر على خلق السموات والأرض كان على إعادة من هو أدون منها أقدر ، وعلى هذا فالمراد من خلق مثلهم إعادتهم بعد الإفناء كما يقول المتكلمون من أن الإعادة مثل الابتداء . ومن قال : أراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم بصورتهم ليوحدوه ويتركوا الاتعراض عليه كقوله : { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [ فاطر : 16 ] أي يبعثهم . وحين بيّن أن البعث أمر ممكن في نفسه ذكر أن لوقوعه وقتاً معلوماً ما عنده فقال : { وجعل لهم } أي لبعثهم { أجلاً لا ريب فيه } قال جار الله : قوله : { وجعل } معطوف على قوله : { أو لم يروا } والمعنى قد علموا بدليل العقل أنه قادر على خلق أمثالهم وجعل لهم . وأقول : يحتمل أن يكون الواو للاستئناف ووجه النظم كما مر لما طلبوا إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله وهي رزقه وسائر نعمه على خلقه التي لا نهاية لها لبقوا على بخلهم وشحهم فضلاً أن يملكوا خزائن هن بصدد الفناء والنفاد . قال النحويون : كلمة « لو » حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء ، لأنها حين تكون على معناها الأصلي تفيد انتفاء الشي لانتفاء غيره .

والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال لا الذوات . وأيضاً إنها ههنا بمعنى « إن » الشرطية وهي مختصة بالفعل فلا بد من تقدير فعل بعدها ، فأصل الكلام : لو تملكون تملكون مرتين : فأضمر « تملك » إضماراً على شريطة التفسير فصار الضمير المتصل منفصلاً لسقوط ما كان يتصل هو به ف { أنتم } فاعل الفعل المضمر { تملكون } تفسيره . وقال علماء البيان : فائدة هذا التصرف الدال على الاختصاص أنهم هم المختصون بالشح المتبالغ ، وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر من حيث إنه لا يقصد الفعل بل الفاعل كما في قول حاتم : لو ذات سوار لطمتني . لا يقصد اللطمة بل اللاطمة أي لو حرة لطمتني وقوله : { خشية الإنفاق } أي خوف الفقر من أنفق ماله إذا ذهب وأمسكتم متروك المفعول معناه لبخلتم { وكان الإنسان قتوراً } أي بخيلاً شحيحاً ، والقتر والإقتار والتقتير والتقصير في الإنفاق . وهذا الخبر لا ينافي ما قد يوجد في الإنسان من هو كريم جواد لأن اللام للجنس أي هذا الجنس من شأنه الشح إذ كان باقياً على طبعه لأنه خلق محتاجاً إلى ضرورات المسكن والملبس والمطعوم والمنكوح ، ولا بد له في تحصيل هذه الأشياء من المال فيه تندفع حاجاته وتتم الأمور المتوقفة على التعاون ، فلا جرم يحب المال ويمسكه لأيام الضرورة والفاقة . ومن الناس من يحب المال محبة ذاتية لا عرضية فإذاً الأصل في الإنسان هو البخل والجود منه إنما هو أمر تكلفي أو عرضي طلباً للثناء أو الثواب . وقيل : المراد بهذا الإنسان المعهود السابق ممن قالوا { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا } بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن الأرض لبخلوا بها .
ثم قال : { ولقد آتينا موسى تسع آيات } فكأنه أراد أنا آتيناه معجزات مساوية لهذه الأمور التي اقترحتموها بل أقوى منها وأعظم ، فليس عدم الاستجابة إلى ما طلبتموه من البخل ولكن لعدم المصحلة أو لعدم استتباع الغاية لعلمنا بإصراركم والختم على قلوبكم ، عن ابن عباس : أن الآيات التسع هن : العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل . وعن الحسن : الطوفان والسنون ونقص الثمرات . مكان الحجر والبحر والطور . وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب عنهن فذكر من جملتها : حل عقدة اللسان والطمس على أموالهم . فقال له عمر : لا يكون الفقيه إلا هكذا . أخرج يا غلام الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة . وعن صفوان بن عسال أن بعض اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : « أوحى الله إلى موسى أن قل لبني إسرائيل : لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تفشوا سر أحد إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت ، فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالا : » إنك نبي ولولا أنا نخاف القتل لاتبعناك «

قال الإمام فخر الدين الرازي : هو أجود ما قيل في الآيات التسع . وأقول : عد الأحكام من الآيات البينات فيه بعد ، اللَّهم إلا أن يقال : النهي عن مساوىء الأخلاق والعادات من جملة علامات النبوة . قال بعد العلماء : أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بتسع وزاد واحدة تختص بهم . وروى أبو داود هذا الحديث ولم يذكر : « ولا تقذفوا محصنة » وشك شعبة في أنه صلى الله عليه وسلم : « ولا تقذفوا محصنة » أو قال : « تولوا الفرار » وقيل : إنه كان لموسى آيات أخر كإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه ، وكالآيات التي عدها بعضهم من التسع وتركها بعضهم . إلا أن تخصيص العدد بالذكر لا يقدح في الزيادة عليه . هكذا قال الأصوليون ، ولكن الذوق يأبى أن لا يكون للتخصيص فائدة .
والذي يدور في خلدي أن سبب التخصيص هو أن مرجع جميع معجزاته إلى تسع أنواع كلمتين ونقص الثمرات مثلاً فإنهما نوع واحد وهو القحط وقد يعسر إبداء ما به الاشتراك ولكن لا بد عندي من اعتقاد الانحصار في التسع لأجل خبر الصادق . أما قوله : { فاسأل بني إسرائيل } فالخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان ، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت . والمسؤولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه . وقوله : { إذا جاءهم } يتعلق ب { آتينا } . وينتصب بإضمار « اذكر » ، أو هو للتعليل . والمراد فاسألهم يخبروك لأنه جاءهم أي جاء أباهم . ويحتمل أن يكون الخطاب لموسى بتقدير القول أي فقلنا له حين جاءهم سل بني إسرائيل أي سلهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل ، أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم أو سلهم عن أن يعاضدوك ويساعدوك في الأمور والمسحور الذي سحر فخولط عقله . وقيل : هو بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون قاله الفراء . وعن محمد بن جرير الطبري أن معناه أعطى علم السحر . ومن قرأ « علمت » بضم التاء فظاهر لأن موسى كان علماً بصحة الأمر وأن هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض ، فأراد أني لا أشك في أمري بسبب تشكك مكذب مثلك . ومن قرأ بفتحها فالمراد تبين أن كفر فرعون كفر جحود وعناد كقوله { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [ النمل : 14 ] . وقوله للآيات : { هؤلاء } كقوله :
والعيش بعد أولئك الأيام ... ومعنى { بصائر } بينات مكشوفات وانتصابها على الحال كأنه أشار بقوله : { ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض } إلى أنها أفعال خالقة للعادة ، وبقوله : { بصائر } إلى أن فاعله إنما فعله لغرض تصديق المدعي فتم حد المعجز بمجموع القيدين .

ثم قارع موسى ظن فرعون بظنه فقال : { إني لأظنك يا فرعون مثبوراً } قال الفراء : أي ملعوناً محبوساً عن الخير من قولهم « ما ثبرك عن هذا » أي ما منعك وصرفك . وقال مجاهد وقتادة ، أي هالكاً من الثبور الهلاك . ولا ريب أن ظن موسى أصح من ظنه لأن إنكار ما علم صحته يستعقب لا محالة ويلاً وثبوراً وحسرة وندامة ، ولهذا قال : { فأراد } أي فرعون { أن يستفزهم من الأرض } أي يستخف موسى وقومه من بسيط الأرض أو من أرض مصر بالقتل والاستئصال أبو بالنفي والإخراج . والحاصل أن فرعون عورض بنقيض المقصود فأغرق هو وقومه وأسكن بنو إسرائيل مكانه تحقيقاً لقوله : { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } [ فاطر : 34 ] ثم أخبر عن المعاد قائلاً { فإذا جاء وعد الآخرة } وهو قيام الساعة { جئنا بكم } يعني معشر المكلفين كلهم { لفيفاً } جماعات من قبائل شتى ذوي أديان ومذاهب مختلفة ، وذلك لأجل الحكم والجزاء والفصل والقضاء .
ولما بين إعجاز القرآن وأجاب عن شبهات القوم أراد أن يعظم شأن القرآن ويذكر جلالة قدره فقال : { وبالحق أنزلناه } التقديم للتخصيص أي ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق في مركزه وتمكين الصواب في نصابه . قال جار الله : أي ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبساً بالحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظ بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين . وقال آخرون : الحق هو الثابت كما أن الباطل هو الزاهق ، ولا ريب أن هذا الكتاب الكريم يشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام ، وعلى تعظيم الملائكة وإقرار النبوات وإثبات المعاد ، وعلى أصول الأديان والملل التي لا يتطرق إليها النسخ والتبديل ، وكل هذه الأمور تدل على المعنى المذكور لأنها مما تبقى ببقاء الدهور . قال أبو علي الفارسي : بالباء في الموضعين بمعنى « مع » كما في قولك « خرج بسلاحه » أي أنزل القرآن مع الحق ونزل هو مع الحق . ويحتمل أن تكون الباء الثانية بمعنى « على » كما في قولك « نزلت بزيد » فيكون الحق عبارة عن محمد صلى الله عليه وسلم لأن القرآن نزل به أي عليه { وما أرسلناك إلا مبشراً } بالجنة { ونذيراً } من النار ليس إليك وراء هذين شيء من إكراه على الدين والإتيان بشيء مما اقترحوه . ثم إن القوم كأنهم من تعنتهم طعنوا في القرآن من جهة أنه لم ينزل دفعة واحدة فأجاب عن شبهتهم بقوله : { وقرآناً } وهو منصوب بفعل يفسره { فرقناه } أي جعلنا نزوله مفرقاً منجماً .

وعن ابن عباس أنه قرأه مشدداً وقال : إنه لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة يعني أن فرق بالتخفيف يدل على فصل مقارب . وقال أبو عبيدة : التخفيف أعجب إليّ لأن تفسيره بيناه وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقاً . فالفرق يتضمن التبين ويؤكده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام . وأقول : إن ابن عباس اعتبر الفصل بين أول نزوله وبين آخره ، فرأى التشديد أولى . ولعل المراد الفصول المتقاربة التي فيما بين المدة بدليل قوله : { لتقرأه على الناس على مكث } بضم الميم أي على مهل وتؤدة ولقوله : { ونزلناه تنزيلاً } أي على حسب المصالح والحوادث .
ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمقترحين { آمنوا به أو لا تؤمنوا } وهو أمر وعيد وتهديد وخذلان . قال جار الله : قوله : { إن الذين أوتوا العلم من قبله } إما أن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية كأنه قيل : تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء الذي قرأوا الكتب من قبل نزول القرآن . قال مجاهد : هم أناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم خروا وسجدوا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام ، وفي قوله : { يخرون للأذقان سجداً } دون أن يقول « يسجدون » مبالغة من وجهين : أحدهما إنه قيد الخرور وهو السقوط بالذقن . فقال الزجاج : لأن الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي به الأرض من وجهه الذقن . قلت : هذا تصحيح للمعنى ولا يظهر منه لتغيير العبارة فائدة . وقال غيره . المراد تعفير اللحية في التراب فإن ذلك غاية الخضوع وإن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض مغشياً عليه . وثانيهما أنه لم يقل « يخرون على الأذقان » كما هو ظاهر وإنما قال { للأذقان } لأن اللام للاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور ، أو خصوا الخرور بأذقانهم . ثم حكى أنهم في سجودهم أنهم يراعون شرائط التنزيه والتعظيم قائلين { سبحان ربنا إن كان وعد ربنا } بإنزال القرآن وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبنا { لمفعولاً } أي منجراً « وإن » مخففة من الثقيلة ولهذا دخلت اللام في خبر كان ، ثم ذكر أنهم كما خروا لأذقانهم في حال كونهم ساجدين فقد خروا لها حال كونهم باكين ، ويجوز أن يكون التكرير لأجل الدلالة على تكرير الفعل منهم بدليل قوله { ويزيدهم } أي القرآن { خشوعاً } لين قلب ورطوبة عين ، ثم أرد أن يعلمهم كيفية الخشوع والدعاء فقال : { قل ادعوا } عن ابن عباس : سمعه أبو جهل يقول : يا الله يا رحمن .

فقال : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر . وقيل : أن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت . قال جار الله : الدعاء بمعنى التسمية لا النداء وهو يتعدى إلى مفعولين . تقول : دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناء عنه فتقول : دعوت زيداً و « أو » للتخيير والمعنى على السبب الأول سموه بهذا الاسم أو بهذا ، وعلى السبب الثاني اذكروا إما هذا وإما هذا { أياماً تدعوا } يعني أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فالتنوين عوض عن المضاف إليه « وما » صلة زيدت لتأكيد الإبهام . والضمير « في { فله } لا يرجع إلى أحد الاسمين ولكن إلى مسماهما ، وكان أصل الكلام أن يقال : فهو أي ذلك الاسم حسن فوضع موضعه . قوله : { فله الأسماء الحسنى } . لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان . ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام وقد مر في آخر » الأعراف « .
ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال : { ولا تجهر بصلاتك } أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت لا الصلاة أفعالها فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء ، ومنه يقال : خفت صوته خفوتاً إذا انقطع كلامه أو ضعف وسكن ، وخفت الزرع إذا ذبل ، وخافت الرجل بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته لعله أو من إطلاق الصلاة على بعض أفعالها فهو ألح تأمل . مصححه بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله إليه { ولا تجهر بصلاتك } فيسمعه المشركون فيسبوا الله عدواً بغير علم { ولا تخافت بها } فلا تسمع أصحابك { وابتغ بين ذلك } الذ ذكر من الجهر المخافتة { سبيلاً } وسطاً ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالليل دور الصحاغبة فكان أبو بكر يخفي صوته في صلاته ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي . وكان عمر يرفع صوته ويقول : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً ، وأمر عمر أن يخفض قليلاً فنزلت الآية على حسب ذلك . وقيل : معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ، ولا تخافت بها كلها . وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النهار ، وعن عائشة وأبي هريرة ومجاهد أن الصلاة ههنا الدعاء . وقد يروى هذا مرفوعاً قال الحسن : لا يرائي بعلانيتها ولا يسيء بسريرتها ، وأيضاً في الجهر إسماع غيره الذنوب وهو الموجب للتغيير والتوبيخ ، وعلى هذا ذهب قوم إلى أن الآية منسوخة بقوله : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } [ الأعراف : 55 ] قال جار الله : ابتغاء السبيل مثل لابتغاء الوجه الوسط في القراءة .

ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى نبه على كيفية التحميد بقوله : { وقل الحمد لله } الآية قال في الكشاف : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ وأجاب بأن هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة ، فهو الذي يستحق جنس الحمد ، وأقول : الولد يتولد من جزء من أجزاء الوالد ، فالوالد مركب وكل مركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد ، وأيضاً الولد مبخلة لا يستحق الحمد والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يستقل بالمالكية فيفتقر إلى من يتم بمشاركته أمور مملكته ومصالح تمدنه ، وكل من كان كذلك كان عاجزاً بالنظر إلى ذاته ، فلا يتم فيضانه فلا يستحق الحمد على الإطلاق ، وهكذا حكم من كان له لي من الذل أي اتخذ حبيباً من أجل ذل به واستفادة لا من عزة وقوة إفاضة ، أو الولي بمعنى الناصر أي ناصر من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته . وأيضاً قد يمنعه الشريك من إصابه الخير إلى أوليائه ، والذي يكون له ولي من الذل يكون محتاجاً إليه فينعم عليه دون من استغنى عنه . أما إذا كان منزهاً عن الولد وعن الشريك وعن أن يكون له ولي ينصره ويلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأجلّ أقسام الشكر . قال الإمام فخر الدين الرازي : التكبير أنواع منها : تكبير الله في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته غني عن كل ما سواه . ومنها تكبيره في صفاته بأن يعتقدها كلها من صفات الجلال والإكرام وفي غاية العظمة ونهاية الكمال وأنها منزهة عن سمات التغير والزوال والحدوث والانتقال . ومنها تكبيره في أفعاله وعند هذا تعود مسألة الجبر والقدر . قال : سمعت أن الأستاذ أبا إسحق الإسفرايني كان جالساً في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني . فلما رآه قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء . فقال الأستاذ : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء . ومنها تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أن أحكامه كلها جارية على سنن الصواب وقانون العدالة وقضية الاستقامة . ومنها تكبيره عن هذا التكبير وتعظيمه عن هذا التعظيم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية والله أعلم .
التأويل : { وقالوا لن نؤمن لك } كانوا أرباب الحس فلم يبصروا شواهد الحق ودلائل النبوة ولم يطلبوا منه ما كان هو عليه من تزكية النفوس وتصفية القلوب وتجلية الأرواح وتفجير ينابيع الحكمة من أرض القلوب لإنبات نخيل المشاهدات وأعناب المكاشفات في جنات المواصلات . { أبعث الله بشراً رسولاً } تعجبوا من كون البشر رسولاً حين ظن أن الملك أعلى حالاً من البشر ، وغفلوا عن رتبة الإنسان الكامل حيث جعل سجود الملائكة المقربين وأودع فيه سر الخلافة { مأواهم جهنم } الحرص والشهوات ، كلما سكنت نار شهوة باستيفاء حظها { زدناهم سعيراً } باشتعال طلب شهوة أخرى { تسع آيات بينات } قال الشيخ المحقق نجم الحق : والدين المعروف بداية أرادة الآيات التي تدل على نبوته فيما يتعلق بنفسه خاصة كإلقائه في اليم وإخراجه منه وتربيته في حجر العدوة وتحريم المراضع عليه ونحو ذلك : { وبالحق أنزلناه } لأن الأرواح المتعلقة بالعالم السفلي احتاجت في الرجوع إلى عالم العلو إلى حبل متين هو القرآن كقوله :

{ واعتصموا بحبل الله جميعاً } { آل عمران : 103 ] { وبالحق نزل } التميز بين أهل السعادة والشقاوة بالاتباع وعدمه { إن الذين أوتوا العلم من } قبل نزوله في الأزل { إذا يتلى عليهم } في الأزل عند خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] { يخرون للأذقان سجداً } للإجابة يقولون « بلى » { ويخرون للأذقان } في عالم الصورة يبكون . فالتواضع والسجود من شأن الأرواح والبكاء والخشوع عن شأن الأجساد . ثم بين أن الأرواح إنما أرسلت إلى الأبدان للعبودية وذكر الله فقال : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } أي كل اسم من أسمائه حسن فادعوه حسناً وهو الدعاء بالإخلاص { ولا تجهر بصلاتك } رياء وسمعة { ولا تخافت بها } أن تخفيها بالكلية فيحرموا المتابعة والأسوة الحسنة { وابتغ بين ذلك سبيلاً } بإظهار الفرائض وإخفاء النوافل والله تعالى أعلم .


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

القراآت : { من لدنه } بإشمام الدال { شيئاً } بالضم وكسر النون ووصل الهاء بالياء : يحيى . الآخرون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء { ويبشر } مخففاً . حمزة وعلي . الباقون بالتشديد . { هيىء لنا } { ويهيىء لكم } بتليين الهمزة فيهما إلا أوقية والأعشى في الوقوف { فاووا } بإبدال الهمزة ألفاً : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف { مرفقاً } بفتح الميم وكسر الفاء : أو جعفر ونافع وابن عامر والأعشى والبرجمي ، الآخرون على العكس { تزاور } خفيفاً بحذف تاء التفاعل : عاصم وحمزة علي وخلف { تزور } بتشديد الراء : ابن عامر مثل « تحمر » ويعقوب . الباقون { تزوار } بتشديد الزاي لإدغام التاء فيه { المهتدي } كما مر في « سبحان » { ولملئت } مشددة للمبالغة : أبو جعفر ونافع وابن كثير ، وقرأ أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف غير مهموز : { بورقكم } بسكون الراء : أبو عمرو وحمزة وحماد وأبو بكر والخزاز عن هبيرة وعباس بكير الراء وإدغام القاف في الكاف الآخرون بكسر الراء مظهراً { ربي أعلم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { أن يهديني } و { أن ترني } و { وأن يؤتيني } و { أن تعلمني } بالياآت في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح . وزمعة . وروى ابن شنبوذ عن قنبل كلها بالياء في الحالين . وعن البزي وابن فليح كلها بغير ياء - في الحالين - وافقهم أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بالياء في الوصل { ثلثمائة سنين } بالإضافة : حمزة وعلي وخلف الباقون بالتنوين { ولا تشرك } بالتاء على النهي : ابن عامر وروح وزيد . الآخرون { ولا يشرك } بياء الغيبة ورفع الكاف .
الوقوف : { عوجاً } ه ط لأن { قيماً } ليس بصفة له ولكنه انتصب بمحذوف دل عليه المتلو وهو أنزل أي أنزله قيما ، وللوصل وجه وهو أن يكون حالاً من الكتاب أو العبد وما بينهما اعتراض { حسناً } ، 5 لا { أبداً } 5 { ولداً } ج 5 ، لأن ما بعده يحتمل الصفة أو ابتداء وإخبار ، والوقف أوضح ليكون ادعاء الولد مطلقاً كما هو الظاهر { لآبائهم } ط { من أفواههم } ط { كذبا } 5 { أسفا } 5 { عملا } 5 { جرزا } ، 5 ط لتمام القصة ما بعده استفهام تقرير وتعجيب { عجباً } 5 { رشدا } 5 { عددا } ، لا للعطف { أمدا } 5 { بالحق } ط { هدى } والوصل أولى للعطف { شططاً } 5 { آلهة } ط لابتداء التحضيض { بين } ط { كذبا } 5 { مرفقاً } 5 { فجوة منه } ط { آيات الله } ط { فهو المهتد } ج { مرشداً } 5 { رقود } قف والأولى الوصل على أن ما بعده حال أي رقدوا ونحن نقلبهم { الشمال } قف والوصل أحسن على أن المعنى نقلبهم وكلبهم باسط { بالوصيد } ط { رعباً } 5 { بينهم } ط { كم لبثتم } ط { بعض يوم } ط { أحداً } 5 { أبداً } 5 { لا ريب فيها } ج لأن « إذا » يصلح أن يكون طرفاً للإعثار عليهم وأن يكون منصوباً بإضمار « اذكر » { بنياناً } ط { بهم } ط { مسجداً } 5 { رابعهم كلبهم } ج فصلاً بين المقالتين مع اتفاق الجملتين { بالغيب } ج لوقوع العارض { كلبهم } ط { قليل } 5 { ظاهراً } ص { أحداً } 5 { يشاء الله } ز لاتفاق الجملتين مع عارض الظرف والاستثناء { رشداً } 5 { تسعاً } 5 { لبثوا } ج لاحتمال أن ما بعده مفعول « قل » أو إخبار مستأنف { والأرض } ط لابتداء التعجب { وأسمع } ط { من ولى } ط لمن قرأ { ولا تشرك } على النهي ، ومن قرأ على الغيبة إخباراً جوز وقفه لاختلاف الجملتين { أحداً } 5 .

التفسير : ألصق الحمد والتكبير المذكورين في آخر السورة المتقدمة بالحمد على أجزل نعمائه على العباد وهي نعمة إنزال الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم . قال بعض العلماء : نزه نفسه في أوّل سورة « سبحان » عمَّا لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته ، وحمد نفسه في أول هذه السورة وهو إشارة إلى كونه مكملاً لغيره ، وفيه تنبيه على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية موافقاً لما ورد في الذكر « سبحان الله والحمد لله » . وفيه أن الإسراء أول درجات كماله من حيث إنه يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب غاية درجات كماله لأن فيه تكميل الأرواح البشرية ونقلها من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ولا شك أن المنافع المتعدية أفصل من القاصيرة كما ورد في الخبر : « من تعلم وعلم وعمل فذاك يدعى عظيماً في السموات » وإنزال الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم نعمة عليه وعلينا . أما أنه نعمة عليه فلأنه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد ونعوت الجلال والإكرام وأحوال الملائكة والأنبياء وسائر النفوس المقدسة ، وعلى كيفية القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفلي بالعالم العلوي والشهادة بالغيب وارتباط أحدهما بالآخر . وأما أنه نعمة علينا فلأنا نستفيد منه أيضاً مثل ذلك ونعرف منه الأحكام الشرعية المفضية إلى إصلاح المعاش والمعاد . وفي انتصاب { قيماً } وجوه فاختار صاحب الكشاف أن يكون منصوباً بمضمر أي جعله وأنزله قيماً . وأبى أن يكون حالاً لأن العطف يدل على تمام الكلام وجعله حالاً يدل على نقصانه . قال جامع الأصفهاني : هما حالان متواليان إلا أن الأولى جملة والثانية مفرد . وقيل : حال من الضمير في قوله : { ولم يجعل له } وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هي التأكيد ، فرب مستقيم في الظاهر لا يخرج عن أدنى عوج في الحقيقة هذا تفسير ابن عباس . ويحتمل أن يراد أنه قيم على سائر الكتب مصدّق لها شاهد بصحتها ، وأنه قيم بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع والأحكام ، وعلى هذا يكون قوله : { ولم يجعل له عوجاً } إشارة إلى أنه كامل في ذاته ، مبرأ عن الاختلاف والتنافض ، مشتمل على كل ما هو في نفس الأمر حق وصدق .

وقوله : { قيماً } إشارة إلى أنه مكمل لغيره مصلح بحسن بيانه وإرشاده لأحوال معاشه ومعاده ، فتكون الآية نظير قوله في أول « البقرة » . { لا ريب فيه هدى للمتقين } ثم أراد أن يفصل ما أجمله في قوله فيما قال : { لينذر بأساً شديداً من لدنه } وحذف المنذر للعلم به بعمومه ولتطهير اللسان عن ذكره أي لينذر الذين كفروا عذاباً إليماً صادراً من عنده . والأجر الحسن الجنة بدليل قوله : { ماكثين فيه } وهو حال من الضمير في { لهم } ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به وهو البأس الشديد لتقدم ذكره . وقد تذكر قضية كلية ثم يعطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي . ففي عطف الإنذار المخصوص على الإنذار المطلق دليل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى على ما زعم بعض كفار قريش من أن الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله . ثم قال : { ما لهم به } أي بالولد أو باتخاذ الله إياه { من علم ولا لآبائهم } وانتفاء العلم بالشي إما بالجهل بالطريق الموصل إليه . وإما لأنه في نفسه محال فلا يتعلق به العلم لذلك وهو المراد في الآية ، أي قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد لآبائهم الذين هم مثلهم في الجهالة . قال جار الله : الضمير في قوله : { كبرت } يعود إلى قولهم « اتخذ الله ولداً » وسميت { كلمة } كما يسمون القصيدة بها . قلت : ويجوز أن يعود إلى مضمر ذهني يفسره الظاهر كقوله « ربه رجلاً ونعمت امرأة عندي » . قال الواحدي : انتصبت { كلمة } على التمييز وذلك أنك لو قلت : كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذباً أو جهلاً أو افتراءً ، فلما قلت : كلمة فقد ميزتها من محتملاتها . وقرىء بالرفع على الفاعلية كما يقال « عظم قولك » . قال أهل البيان : النصب أقوى وأبلغ لإفادته التعب من جهتين : من جهة الصيغة ومن جهة التمييز كأنه قيل : ما أكبرها كلمة . وفي وصف الكلمة بقوله : { يخرج من أفواههم } مبالغة أخرى من وجهين : الأول أن كثيراً من وساوس الشيطان وهواجس القلوب لا يتمالك العقلاء أن يتفوهوا به حياء وخجلاً ، فبين الله تعالى أن هذا المنكر لم يستحيوا من إظهاره والنطق به فما أشنع فعلتهم وما أعظم فحشهم . الثاني أن هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم ألبتة لكونه في غاية البطلان ، وكأنه شيء يجري على لسانهم بطريق التقليد : احتج النظام على مذهبه أن الكلام جسم بأن الخروج عبارة عن الحركة من خواص الأجسام .

والجواب أن الخارج من الفم هو الهواء لأن الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهواء فأسند إلى الحال ما هو من شأن المحل مجازاً . ثم زاد في تقبيح صورتهم بقوله : { إن يقولون إلا كذباً } وفيه إبطال قول من زعم أن الكذب هو الخبر الذي يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق وذلك لأن القيد الأخير غير موجود ههنا مع أنه تعالى سماه كذباً . ثم سلى رسول الله صلى الله عيله وسلم بقوله : { فلعلك باخع } قال الليث : بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً : وقال الأخفش والفراء : أصل البخع الجهد . يروى أن عائشة ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك . وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة إذ جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة ، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها و { أسفاً } منصوب على المصدر أي تأسف أسفاً وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه . وقال الزجاج : هو مصدر في موضع الحال أو مفعول له أي لفرط الحزن شبهه وإياهم حين لم يؤمنوا بالقرآن وأعرضوا عن نبيهم برجل فارقته أحبته فهو يتساقط حسرات عليهم . والحاصل أنه قيل له لا تعظم حزنك عليهم بسبب كفرهم فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، فأما تحصيل الإيمان فيهم فليس إليك . قال القاضي ، أطلق الحديث على القرآن فدل ذلك على أنه غير قديم . وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الحروف والأصوات وإنما النزاع في الكلام النفسي ، قوله سبحانه : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } قال أهل النظم : كأنه تعالى يقول : إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالكاليف ، ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم ، فأنت أيضاً يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم وما على الأرض المواليد الثلاثة أعنى المعادن والنبات والحيوان وأشرفها الإنسان . وقال القاضي : الأولى أن لا يدخل المكلف فيه لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها الغرض الابتلاء ، فالذي له الزينة يكون خارجاً عن الزينة . ومضى أنه مجاز بالصورة والمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان من قبيل الابتلاء والامتحان . وقد مر هذا البحث بتمامه في سورة البقرة في تفسير قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] . واللام في { لنبلوهم } للغرض عند المعتزلة ، أو العاقبة أو استتباع الغاية عند غيرهم حذراً من لزوم الاستكمال . قال الزجاج { أيهم } رفع بالابتداء لأن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنمتحن هذا { أحسن عملاً } أم ذلك . ثم زهد في الميل إلى زينة الأرض بقوله : { وإنا لجاعلون ما عليها } من هذه الزينة { صعيداً جرزاً } أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماتة سكانه .

قال أبو عبيد : الصعيد المستوي من الأرض التي لا نبات فيها من قولهم « امرأة جروز » إذا كانت أكولاً ، « وسيف جراز » إذا كان مستأصلاً وجرز الجراد والشاء والإبل الأرض إذا أكملت ما عليها . ثم إن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان فقال سبحانه { أم حسبت } يعني بل أظننت يا إنسان أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإن من كان قادراً على تخليق السموات والأرض ثم تزيين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ، ثم جعلها بعد ذلك صعيداً خالياً عن الكل كيف تستبعدون قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة . وقال جار الله : يعني أن ذلك التزيين وغيره أعظم من قصة أصحاب الكهف يعني أنه ذكر أولاً عظيم قدرته ، ثم أضرب عن ذلك موبخاً للإنسان . والحاصل أنك تعجب من هذا الأدنى فكيف بما فوقه ، والكهف الغار الواسع في الجبل ، والرقيم اسم كلبهم ، وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف ، فعلى هذا يكون اللفظ عربياً « فعيلاً » بمعنى « مفعول » ومثله ما روي أن الناس رقموا حديثهم نقرأ في الجبل . وعن السدي أنه القرية التي خرجوا منها . وقيل : هو الوادي أو الجبل الذي فيه الكهف . والعجب مصدر وصف به أو المراد ذات عجب . وقوله : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } صاروا إليه وجعلوه مأواهم منصوب بإضمار « اذكر » ب { حسبت } لفساد المعنى ، ولا يبعد أن يتعلق ب { عجباً } والتنوين في { رحمة } إما للتعظيم أو للنوع . وتقديم { من لدنك } للاختصاص أي رحمة مخصوصة بأنها من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء { وهيىء لنا } أي أصلح لنا من قولك هيئات الأمر فتهيأ { من أمرنا } الذي نحن عليه من مفارقة الكفار { رشداً } أي أمر إذا رشد حتى نكون بسببه راشدين غير ضالين فتكون « من » للابتداء . ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك « رأيت منك أسداً » أي اجعل أمرنا رشداً كله . { فضربنا على آذانهم } قال المفسرون : أي أنمناهم والأصل فيه أن المفعول محذوف وهو الحجاب كما يقال : « بنى على امرأته » أي بنى عليها القبة . و { سنين } ظرف زمان و { عدداً } أي ذوات عدد وهو مصدر وصف به والمراد بهذا الوصف إما القلة لأن الكثير قليل عند الله { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] وإما الكثرة . قال الزجاج : إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد وإذا كثر احتاج إلى أن يعدّ { ثم بعثناهم } أيقظناهم { لنعلم } ليظهر معلومنا وفعل العلم معلق لما في « أي » من معنى الاستفهام فارتفع { أي الحزبين } على الابتداء وخبره { أحصى } وهو فعل ماض و « ما » في { لما لبثوا } مصدرية أي أحصى { أحداً } للبثهم فيكون الجار والمجرور صفة للأمد فلما قدم صار حالاً منه .

وقيل : اللام « زائدة » و « ما » بمعنى الذي وأمداً تمييز والتقدير : أحصى لما لبثوه أمداً والأمد الغاية . وزعم بعضهم أن { أحصى } أفعل تفضيل كما في قولهم « أعدى من الجرب » و « أفلس من ابن المذلق » ، ولم يستصوبه في الكشاف لأن الشاذ لا يقاس عليه . واختلفوا في تعيين الحزبين فعن عطاء عن ابن عباس أن أصحاب الكهف حزب والملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك حزب . وقال مجاهد : الحزبان من أصحاب الكهف . وذلك أنهم لما انتبهوا اختلفوا فقال بعضهم : { لبثنا يوماً أو بعض يوم } وقال آخرون : { ربكم أعلم بما لبثتم } وذلك حين حدسوا أن لبثهم قد تطاول . وقال الفراء : إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } أي على وجه الصدق { أنهم فتية } شباب { آمنوا بربهم } أي بي فوضع الظاهر موضع المضمر { وزدناهم هدى } أي بالتوفيق والتثبيت { وربطنا على قلوبهم } قوّيناهم بإلهام الصبر على فراق الخلائق والأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران { إذ قاموا } وفي هذا القيام أقوال : فعن مجاهد أنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم : هو أكبر القوم إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده ، أجد أن ربي رب السموات والأرض . فقالوا : نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعاً { فقالوا ربنا رب السموات والأرض } وقال أكثر المفسرين : إنه كان لهم ملك جبار - يقال له دقيانوس - وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه { فقالوا ربنا رب السموات والأرض } وعن عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم . والشطط الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من شط إذا بعد والمراد قولاً ذا شطط أي بعيد عن الحق . { هؤلاء } مبتدأ و { قومنا } عطف بيان أبو بدل { اتخذوا } خير وهو إخبار في معنى إنكار . وفي اسم الإشارة تحقير لهم { لولا يأتون عليهم } هلا يأتون على حقيقة إلهيتهم أو على عبادتهم { بسلطان بين } بحجة ظاهرة ، استدل بعدم الدليل على عدم الشركاء والأضداد فاستدل بعض العلماء بذلك على أن هذه طريقة صحيحة ، ويمكن أن يجاب بأنه إنما ذكر ذلك على سبيل التبكيت ، فمن المعلوم أن الإتيان بسلطان على عباده الأوثان محال ، وفيه دليل على فساد التقليد ويؤكده قوله { فمن أظلم من افترى على الله كذباً } بنسبة الشريك إليه وخاطب بعضهم بعضاً حين صمم عزمهم على الفرار بالدين .

وقوله : { وما يعبدون } عطف على المضمير المنصوب يعني وإذا اعتزلتموهم ومعبوديهم . وقوله : { إلا الله } استثناء منقطع على الدهر ، ويجوز أن يكون متصلاً بتاءً على أن المشركين يقرون بالخالق الأكبر . وقيل هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله ف « ما » نافية .
قال الفراء { فأووا إلى الكهف } جواب « إذا » ومعناه إذهبوا إليه واجعلوا مأواكم { ينشر لكم ربكم من رحمته } يبسطها لكم و { مرفقاً } على القراءتين مشتق من الارتفاق الانتفاع . وقيل : فتح الميم أقيس وكسرها أكثر . وقيل : المرفق بالكسر ما ارتفعت به ، والمرفق بالفتح الأمر الرافق . وكان الكسائي ينكر في مرفق اليد إلا كسر الميم . قالوا ذلك ثقة بفضل الله وتوكلاً عليه ، وإما لأنه أخبرهم نبي في عصرهم منهم أو من غيرهم . { وترى الشمس } أيها الإنسان { إذا طلعت تزاور } أصله من الزور بفتح الواو وهو الميل ومنه زاره إذا مال إليه . والمراد أن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم . والفجوة المتسع إن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم . والفجوة المتسع من المكان ومنه الحديث « فإذا وجد فجوة نص » وللمفسرين في الآية قولان : أحدهما أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح وإلى هذا الحجب أشار بقوله : { ذلك من آيات الله } وثانيهما أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على يساره فلذلك كانت الشمس لا تصل إليهم . ثم إنهم كانوا مع ذلك في منفسح من الغار ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ، واعترض بأن عدم وصول الشمس إليهم لا يكون آية من آيات الله على هذا التقدير . وأجيب بأن المشار إليه حفظهم في ذلك الغار مدة طويلة ، والمقصود من بيان وضع الغار تعيين مكانهم . ثم بين الله سبحانه لطفه بهم بصون أبدانهم عن الفساد في تلك المدة المديدة كما لطف بهم في أول الأمر بالهداية فكان فيه ثناء عليهم وتذكير لغيرهم إن الهداية وضدها كليهما بمشيئة الله وعنايتها الأزلية وبلطفه وقهره الذي سبق به القلم قال جار الله : فيه تنبيه على أن من سلك طريق الراشدين المهديين فهو الذي أصاب الفلاح ، ومن تعرض للخسران فلن يجد من يليه ويرشده . ثم حكى طرفاً آخر من غرائب أحوالهم فقال { وتحسبهم أيقاظاً } هي جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد في جمع نكد { وهم رقود } جمع راقد كقعود في قاعد . واستبعده في التفسير الكبير . وقيل : عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظاً . وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم . وقيل : لهم تقلبتان في السنة . وقيل : تقلبة واحدة في يوم عاشوراء .

وعن مجاهد : يمكثون رقوداً على أيمانهم سبع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً سبع سنين ، وفائدة تقلبهم ظاهرة وهي أن لا تأكل لحومهم الأرض . قال ابن عباس : وتعجب منه الإمام فخر الدين قال : وإن الله تعالى قادر على حفظهم من غير تقليب . وأقول : لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن الوسائط معتبرة في أغلب الأحوال { وكلبهم باسط } حكاية الحال الماضية ولهذا عمل في المفعول به . والوصيد الفناء وقيل العتبة أو الباب . قال السدي : الكهف لا يكون له عتبة ولا باب وإنما أراد أن الكلب منه موضع العتبة من البيت . عن ابن عباس : هربوا ليلاً من ملكهم فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه . وقال كعب : مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك ثلاث مرات فقال لهم الكلب : ما تريدون مني أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم . وقال عبيد بن عمرو : كان ذلك كلب صيدهم والاطلاع على الشيء الإشراف عليه . قال الزجاج قوله { فراراً } منصوب على المصدر لأنه بمعنى التولية . وسبب الرعب هيبة ألبسهم الله إياهم . وقيل طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم منه يحكى أن معاوية غزا الروم فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس : ليس لك ذلك قد منع الله منه من هو خير منك؟ فقال : { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً } فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث ناساً فقال لهم : اذهبوا فانظروا ففعلوا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأخرجتهم { وكذلك } إشارة إلى المذكور قبله أي وكما أنمناهم تلك النومة وفعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات كذلك { بعثناهم } وفيه تذكير لقدرته على الإنامة والبعث جميعاً ، ثم ذكر غاية بعثهم فقال : { ليتساءلوا } أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث غرض صحيح لما فيه من انكشاف الحال وظهور آثار القدرة { قال قائل منهم كم لبثتم } قال ابن عباس : وهو رئيسهم يمليخارد علم ذلك إلى الله تعالى حين رأى التغير في شهورهم وأظفارهم وبشرتهم . والفاء في { فابعثوا } للتسبيب كأنه قل : واذ قد حصل اليأس من تعيين مدة اللبث فخذوا في شيء آخر مما يهمكم . والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة . وفي تزودهم الورق عند فرارهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان في سفره وحضره لا ينافي التوكل على الله . والمدينة طرسوس . قال في الكشاف : { أيها } معناه أيّ أهلها { أزكى طعاماً } وأقول : يحتمل أن يعود الضمير إلى الأطعمة ذهناً كقوله : « زيد طيب أباً » على أن الأب هو زيد ، ويجوز أن يراد أي أطعمة المدينة أزكى طعاماً على الوجه المذكور . عن ابن عباس : يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون أديانهم .

وقال مجاهد : احترزوا من المغصوب لأن ملكهم كان ظلماً . وقيل : أيها أطيب وألذ . وقيل : الرخص { وليتلطف } وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن . والأظهر أنهم طلبوا اللطف في أمر التخفي حتى لا يعرف . يؤيده قوله { ولا يشعرون بكم أحد } أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويسبب له { إنهم إن يظهروا } يطلعوا على مكانكم أو { عليكم يرجموكم } يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم وكأنه كانت عادتهم { أو يعيدوكم في ملتهم } بالإكراه العنيف . وقال في الكشاف : العود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم يقولون ما عدت أفعل كذا يريدون ابتداء الفعل . قلت : يحتمل أن يكون العود ههنا على معناه الأصلي لاحتمال أن يكون أصحاب الكهف على ملة أهل المدينة قبل أن هداهم الله . وفي « أذن » معنى الشرط كأنه قال : إن رجعتم إلى دينهم فلم تفلحوا أبداً ، قال المحققون : لا خوف على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين . ففي الأول هلاك الدنيا ، وفي الثاني هلاك الآخرة . وإنما نفى الفلاح على التأبيد مع أن كفر المكره لا يضر ، لأنهم خافوا أن يجرهم ظاهر الموافقة إلى الكفر القلبي ، وكما أنمناهم وبعثناهم { أعثرنا عليهم } سمى الإعلام إعثاراً والعلم عثوراً لأن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه وكان الإعثار سبباً لحصول العلم واليقين . وفي سبب الإعثار قولان : أحدهما أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولاً مخالفاً للعادة وتغيرت بشرتهم فعرفوا بذلك . والأكثرون قالوا : إن ذلك الرجل لما ذهب بالورق إلى السوق وكانت دارهم دقيانوسية اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقال له : من أين وجدت هذه الدراهم؟ قال : بعت به أمس شيئاً من التمر . فعرف الملك أنه ما وجد كنزاً وأن الله بعثه بعد موته فقص عليه القصة . ثم ذكر سبحانه غاية الإعثار فقال : { ليعلموا أن وعد الله حق } يروى أن ملك ذلك العصر من كان ينكر البعث إلا أنه كان مع كفره منصفاً فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملك . وقيل : بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم : الجسد والروح يبعثان جميعاً . وقال آخرون : الروح تبعث وأما الجسد فتأكله الأرض . ثم إن ذلك الملك كان يتضرع أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب الكهف حتى تقرر عنده صحة بعث الأجساد ، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث . فالمراد بالتنازع هو اختلافهم في حقيقة البعث . والضمائر في قوله : { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } تعود إلى تلك الأمة . وقيل : أراد إذ يتنازع الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم ، أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم .

{ فقالوا ابنوا } على باب كهفهم { بنياناً } يروى أنه انطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على آياته الدالة على البعث . ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم ، فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوتاً من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجداً . فيكون فيه دليل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله تعالى ومعترفين بالعبادة والصلاة ، وقيل : إن الكفار قالوا : إنهم كانوا على ديننا ونتخذ عليهم بنياناً ، والمسلمين قالوا : بل كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجداً ، وقيل : إنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم . قال جار الله : { ربهم أعلم بهم } من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقته قالوا ذلك ، أو هو من كلام الله عز وجل رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ، أو من الذين تنازعوا عوافيهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب . والذين غلبوا على أمرهم المسلمون وملكهم المسلم لأنهم بنوا عليهم مسجداً يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم وكانوا أولى بهم بالبناء عليهم حفظاً لتربتهم بها وضناً بها { سيقولون } يعنى الخائضين في قصتهم من المؤمنين ومن أهل الكتاب المعاصرين وكان كما أخبر فكان معجزاً ، يروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً هم { ثلاثة رابعهم كلبهم } وقال العاقب وكان نسطورياً هم { خمسة وسادسهم كلبهم } فزيف الله قولهما بأن قال : { رجماً بالغيب } أي يرمون رمياً بالخبر الخفي يقال : فلان يرمي بالكلام رمياً أي يتكلم من غير تدبر . وكثيراً ما يقال رجم بالظن . مكان قولهم ظن . وقال المسلمون . هم سبعة ثامنهم كلبهم . قال العلماء : وهذا قول محقق عرفه المسلمون بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان جبرائيل عليه السلام . والذي يدل عليه أمور منها ما روي عن علي عليه السلام أنهم سبعة تقرأ أسماؤهم . يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا - هؤلاء أصحاب يمين الملك - وكان عن يساره مرنوس ودبرنوش وشادنوش . وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي الذي وافقهم واسمه كفشططوش . واسم مدينتهم أفسوس ، واسم كلبهم قطمير . وقيل ريان . عن ابن عباس : أن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ، ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد ، وللحرث تكتب على القرطاس . وترفع على خشب منصوب في وسط الزرع ، وللضربان وللحمى المثلثة والصداع الغنى والجاه . والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ، ولعسر الولادة تشد على فخذها الأيسر ، ولحفظ المال والركوب في البحار والنجاة من القتل .

ومنها قول صاحب الكشاف إن الواو في قوله { وثامنهم } هي التي تدخل على الجملة والواقعة صفة للنكرة في قولك « جاءني رجل ومعه آخر » كما تدخل على الجملة الواقعة حالاً من المعرفة في قولك « مررت بزيد ومعه سيف » وفائدته توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر لأن الواو مقتضاها الجمعية وكأنهم وصفوا بكونهم سبعة مرتين بخلاف القولين الأولين فإنهم وصفوا بما وصفوا مرة واحدة . ولقائل أن يقول : إن العاطف لا يوسط بين الوصف والموصوف ألبتة لشة الاتصال بينهما ، ومقتضى الواو هو الحالة المتوسطة بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع . بل الواو للعطف عطف الجملة على الجملة وإما للحال وجاز لأنهم لم يسوغوا إذا الحال نكرة ، لا مكان التباس الحال بالصفة في نحو قولك « رأيت رجلاً راكباً » وههنا الالتباس مرتفع لمكان الواو . ومنها بعضهم إن الضمير في قوله : { ويقولون سبعة } لله تعالى والجمع للتعظيم . ومنها قول ابن عباس حين وقعت الواو انقطعت العدّة أي لم تبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات . ومنها أنه خص القولين الأولين بزيادة قوله : { رحيماً بالغيب } وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه ، فمن البعيد أن يذكر الله تعالى جملة الأقوال الباطلة ولا يذكر الحق على أنه سبحانه منعه عن المناظرة معهم وعن الاستفتاء منهم في هذا الباب ، وهذا المنع إنما يصح إذا علمه حكم هذه الواقعة . وأيضاً الله تعالى قال : { ما يعلمهم إلا قليل } ويبعد أن لا يحصل العلم بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ويحصل لغير النبي صلى الله عليه وسلم كعلي وابن عباس حسين قال : أنا من أولئك القليل . وقد عرفت قولهما في هذا الباب . وإذا حصل فالظاهر أنه حصل بهذا الوحي لأن الأصل فيما سواه العدم . وقيل : الضمير في { سيقولون } لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وقوله سبحانه في الموضعين الأخيرين و { يقولون } بغير السين لا ريب أنهما للاستقبال أيضاً إلا أن ذلك يحتمل أن يكون لأجل الصيغة التي تصلح له ، وأن يكون لتقدير السين بحكم العطف كما تقول : قد أكرم وأنعم أي وقد أنعم . أما فائدة تخصيص الواو في قوله : { وثامنهم } فقد عرفت آنفاً وقد يقال : إن لعدد السبعة عند العرب تداولاً على الألسنة في مظان المبالغة من ذلك قوله تعالى : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } [ التوبة : 8 ] لأن هذا العدد سبعة عقودٍ ، فإذا وصلوا إلى الثامنة ذكروا لفظاً يدل على الاستئناف كقوله في أبواب الجنة { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] وكقوله

{ ثيبات وأبكاراً } [ التحريم : 5 ] وزيف القفال هذا الوجه بقوله تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } [ الحشر : 22 ] وذلك لم يذكر الواو في النعت الثامن . والانصاف أن هذا التزييف ليس في موضعه لأن وجود الواو هو الذي يفتقر إلى التوجيه ، وأما عدمه فعلى الأصل وبين التوجيه والإيجاب بون بعيد ، والقائل بصدد الأول دون الأخير . ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ثم قال : { الأمراء ظاهراً } فقال جار الله : أي جد إلا غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل ولا تعنيف . وقال في التفسير الكبير : المراد أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف . ثم نهاه عن الاستفتاء منهم في شأنهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي وههنا الأمر بالعكس ولا سيما في باب واقعة أصحاب الكهف كما بينا . ولنذكر ههنا مسألة جواز الكرامات وما تتوقف هي عليه فنقول : الولي مشتق من الولي وهو القرب . فقيل : « فعيل » بمعنى « فاعل » كعليم وقدير وذلك أنه توالت طاعاته من غير تخلل معصية . وقيل : بمعنى « مفعول » كقتيل وذلك أن الحق سبحانه تولى حفظه وحراسته وقرب منه بالفضل والإحسان ، فإذا ظهر فعل خارق للعادة على إنسان فإن كان مقروناً بدعوى الإلهية كما نقل أن فرعون كانت تظهر على يده الخوارق ، وكما ينقل أن الدجال سيكون منه ذلك فهذا القسم جوزه الأشاعرة لأن شكله وخلقه يدل على كذبه فلا يفضي إلى التلبيس وإن كان مقروناً بدعوى النبوة . فإن كان صادقاً وجب أن لا يحصل له المعارض ، وإن كان كاذباً وجب . ويمكن أن يقال : إن الكاذب يستحيل أن يظهر منه الفعل الخارق وإليه ذهب جمهور المعتزلة ، وخالفهم أبو الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وجوزا ظهور خوارق العادات على من كان مردوداً على طاعة الله وسموه بالاستدراج . وقد يفرق بين النبي الصادق والساحر الخبيث بالدعاء إلى الخير والشر وإن كان مقروناً بدعوى الولاية فصاحبه هو الولي ، ومن المحققين من لم يجوّز للولي دعوى الولاية لأنه مأمور بالإخفاء كما أن النبي مأمور بالإظهار . ثم إن المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء وأثبتها أهل السنة مستدلين بالقرآن والأخبار والآثار والمعقول . أما القرآن فكقصة مريم ونبأ أصحاب الكهف . قال القاضي : لا بد أن يكون في ذلك الزمان نبي تنسب إليه تلك الكرامات . وأجيب في التفسير الكبير بأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأحد ، وأما قيامهم من النوم بعد ثلثمائة سنة فهذا أيضاً لا يمكن جعله معجزة لأن الناس لا يصدقونهم في هذه الواقعة لأنهم لا يعرف كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلثمائة وتسع سنين ، وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء ، فلم يبق إلا أن تجعل كرامة لهم .

ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون نفس بعثهم معجز النبي هذا الزمان؟ وأما أن ذلك البعث بعد نوم طويل فيعرف بأمارات أخر كما مر من حديث الدرهم وغيره . وأما الأخبار فمنها ما أخرج في الصحاح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصبي في زمان جريج وصبي آخر . أما عيسى فقد عرفتموه ، وأما جريج فكان رجلاً عابداً في بني إسرائيل وكانت له أم وكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت : يا جريج فقال : يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى . فدعته ثانياً مثل ذلك حتى كان ذلك ثلاث مرار . وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمة فقالت : اللَّهم لا تمته حتى تريه المومسات . وكانت في بني إسرائيل زانية فقالت لهم : أنا أفتن جريجاً حتى يزني فأتته فلم تقدر عليه شيئاً وكان هناك راع يأوى بالليل إلى أصل صومعته فأرادت الراعي على نفسها فأتاها فولدت غلاماً وقالت : ولدي هذا من جريج . فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام . قال أبو هريرة : كأنى أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال بيده يا غلام من أبوك؟ فقال : فلان الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب وفضة فأبى عليهم وبناها كما كانت . وأما الصبي الآخر فإن امرأة كانت معها صبي ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة فقالت : اللَّهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي : اللَّهم لا تجعلني مثله . ثم مر بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللَّهم لا تجعل ابني مثل هذه . فقال : اللَّهم اجعلني مثلها . فقالت له أمه في ذلك فقال : إن الراكب جبار من الجبابرة وإن هذه قيل لها سرقت ولم تسرق وزنيت ولم تزن هي تقول حسبي الله » ومنها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا إنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوماً فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللَّهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه . ثم قال الآخر اللَّهم إنه كانت في ابنة عم وكانت أحب الناس إليّ فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالاً عظيماً على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا آذن لك أن تفك الخاتم إلا بحقه فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللَّهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه . فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم قال الثالث اللَّهم إني استأجرت أجراء أعطيتهم أجورهم غير رجل واحد منهم ترك الذي له وذهب فثمرت أجرته حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدّ إليّ أجرتي فقلت له كل ما ترى من الإبل والغنم والرقيق من أجرتك فقال يا عبد الله لاتستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بأحد فأخذ ذلك كله اللَّهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون »

وهذا حديث صحيح متفق عليه .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره » ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله . ومنها رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفتت البقرة وقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس : سبحان الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر » ومنها رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « بينا رجل سمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له : ما اسمك؟ قال : فلان ابن فلان . فقلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها؟ قال : ولم تسأل عن ذلك؟ قلت : لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان . قال : أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً » وأما الآثار فمن كرامات أبي بكر الصديق أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد فتح فإذا هاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب .

ومن كرامات عمر ما روي أنه بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية بن حصين . فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته يا سارية الجبل الجبل . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وكتبت تاريخ هذه الكلمة . فقدم رسول ذلك الجيش . فقال : يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فدعمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة . قال بعض العلماء : كان ذلك بالحقيقة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر : أنتما مني بمنزلة السمع والبصر . فلما كان عمر بمنزلة البصر لا جرم قدر على رؤية الجيش من بعد . ومنها ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه فيه جارية حسناء . فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الحالة إلى عمر . فكتب عمر على الخزف : من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا فيك ، وإن كنت تجري بأمر الله فاجر على بركة الله . وأمر أن يلقى الخزف في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك . ووقعت الزلزلة بالمدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله فسكنت . ووقعت النار في بعض دورالمدينة فكتب عمر على خزفة : يا نار اسكني بإذن الله تعالى فألقوها في النار فانطفأت في الحال . ويروى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا : ليس له ذلك إنما هو في الصحراء يضرب اللبن . فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر واضعاً درته تحت رأسه وهو نائم على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال في نفسه : أهل الشرق والغرب يخافون منه وهو على هذه الصفة فسل سيفه ليقتله فأخرج الله أسدين من الأرض فقصداه فخاف فألقى السيف فانتبه عمر وأسلم الرجل . قال أهل السير : لم يتفق لأحد من أول عهد إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ، ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات . وأما عثمان فعن أنس قال : مررت في طريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلت على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا عليكم؟! فقلت : أوحي نزل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا ولكن فراسة صادقة . وقيل : لما طعن بالسيف فأول قطرة سقطت من دمه سقطت على المصحف على قوله : { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [ البقرة : 137 ] . ويروى أن جهجاهاً الغفاري انتزع العصا من يده وكسرها في ركبته فوقعت الآكلة في ركبته .

وأما علي صلوات الله عليه فيروى أن واحداً من أصحابه سرق وكان عبداً أسود فأتي به إلى علي عليه السلام فقال : أسرقت؟ قال : نعم . فقطع يده فانصرف من عند علي رضي الله عنه فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء فقال ابن الكواء : من قطع يدك؟ قال : أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول . فقال : قطع يدك وتمدحه . قال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار . فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً رضي الله عنه فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات ، فسمعنا صوتاً من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعنا الرداء فإذا اليد كما كانت بإذن الله تعالى . وأما سائر الصحابة فعن محمد بن المنذر أنه قال : ركبت البحر فانكسرت السفينة التي كنت فيها فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة فيها أسد ، فخرج إليّ أسد فقلت : يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع . وروى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار خرجاً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب من الليل قطع ، وكانت ليلة مظلمة وفي يد كل واحد منهما عصاه فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها ، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه حتى مشى في ضوئها وبلغ منزله . وقيل لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلاً فطاف في العسكر فرأى رجلاً على فرس ومعه زق من خر فقال : ما هذا؟ فقال : خل . فقال خالد : اللَّهم اجعله خلاً . فذهب الرجل إلى أصحابه وقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها . فلما فتحوا فإذا هي خل . فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل . فقال : هذه والله دعوة خالد . ومن الوقائع المشهورة أن خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وما ضره . وعن ابن عمر أنه كان في بعض أسفاره فلقي جماعة على طريق خائفين من السبع فطرد السبع عن طريقهم ثم قال : إنما يلسط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينه وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم فمشوا على الماء . وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات كثيرة ولا سيما في كتاب تذكرة الأولياء ومن أرادها فليطالعها .
وأما المعقول فهو أن الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب لقوله { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] فإذا بلغ العبد في طاعته مع عجزه إلى حيث يفعل كل ما أمره الله .

فأي بعد في أن يفعل الرب مع غاية قدرته وسعة جوده مرة واحدة ما يريد العبد . وأيضاً لو امتنع إظهار الكرامة فذلك إما لأجل أن الله تعالى ليس أهلاً له فذلك قدح في قدرته ، وإما لأن المؤمن ليس أهلاً له وهو بعيد لأن معرفة الله والتوفيق على طاعته أشرف العطايا وأجزلها ، وإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن لا يبخل بالأدون أولى ومن هنا قالت الحكماء : إن النفس إذا قويت بحسب قوتها العلمية والعملية تصرفت في أجسام العالم السفلي كما تتصرف في جسده . قلت : وذلك أن النفس نور ولا يزال يتزايد نوريته وإشراقه بالمواظبة على العلم والعمل وفيضان الأنوار الإلهية عليه حتى ينبسط ويقوى على إنارة غيره والتصرف فيه ، والوصول إلى مثل هذا المقام هو المعني بقول علي بن أبي طالب صلوات الله عليه . والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية . حجة المنكرين للكرامات أن ظهور الخوارق دليل على النبوة ، فلو حصل لغير النبي لبطلت هذه الدلالة . وأجيب بالفرق بين المعجز والكرامة بأن المعجز مقرون بدعوى النبوة والكرامة مقرونة بدعوى الولاية . وأيضاً النبي يدعي المعجزة ويقطع بها . والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها ، وأيضاً أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة . جميع هذا عند من يجوّز للولي دعوى الولاية ، وأما من لا يجوّز ذلك من حيث إن النبي مأمور بالإظهار لضرورة الدعوة والولي ليس كذلك ولكن إظهاره يوجب طلب الإشهار والفخر المنهي عنهما ، فإنه يفرق بينهما بأن المعجز مسبوق بدعوى النبوة ، والكرامة غير مسبوقة بشيء من الدعاوى قالوا : قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله سبحانه : « لن يتقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم » لكن المتقرب إلى الله بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات ، فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى بأن لا يحصل له ذلك . وأجيب بأن الكلام في المتقرب إليه بأداء الفرائض والنوافل جميعاً . قالوا : قال تعالى : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } [ النحل : 7 ] فالقول بطيّ الأرض للأولياء طعن في الآية وطعن في محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يصل من المدينة إلى مكة إلا في أيام . وأجيب بأن الآية وردت على ما هو المعهود المتعارف وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة من ذلك العموم ، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن قاصراً عن رتبة بعض الأولياء ولكنه لم يتفق له ذلك ، أو لعله اتفق له في غير ذلك السفر قالوا : إذا ادعى الولي على إنسان درهماً فإن لم يطالبه بالبينة كان تاركاً لقوله : « البينة على المدعي . » وإن طالبه كان عبثاً لأن ظهور الكرامة عليه دليل قاطع على أنه لا يكذب ومع الدليل القاطع لا يجوز العمل بالظن .

والجواب مثل ما مر من أن النادر لا يحكم به . قالوا : لو جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء لجاز على كلهم ، وإذا كثرت الكرامات انقلب خرق لعادة وفقاً لها . وأجيب بأن المطيعين فيهم قلة لقوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] والولي فيهم أعز من الكبريت الأحمر ، واتفاق الكرامة للولي أيضاً على سبيل الندرة فكيف يصير ما يظهر عليه معتاداً؟! في الفرق بين الكرامات والاستدراج هو أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وقد يسمى مكراً وكيداً وضلالاً وإملاء ، والفرق أن صاحب الكرامة لا يستأنس بها ولكنه يخاف سوء الخاتمة ، وصاحب الاستدراج يسكن إلى ما أوتي ويشتغل به ، وإنما كان الاستئناس بالكرامات قاطعاً للطريق لأنه حينئذ اعتقد أنه مستحق لذلك وأن له حقاً على الخالق فيعظم شأنه في عينه ويفتخر بها لا بالمكرم ، ولا ريب أن الإعجاب مهلك ولهذا وقع إبليس فيما وقع ، والعبد الصالح هو الذي يزداد تذلله وتواضعه بين يدي مولاه بازدياد آثار الكرامة والولاية عليه ، قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبى علي الدقاق { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] فقال : علامة رفع العمل أن لا يبقى منه في نظرك شيء ، فإن بقي فهو غير مرفوع . واختلف في أن الولي هل يعرف كونه ولياً؟ . قال الأستاذ أبو بكر بن فورك : لا يجوز لأن ذلك يوجب الأمن { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] والأمن ينافي اعتقاد قهارية الله تعالى ويقتضي زوال العبودية الموجب لسخط الله . وكيف يأمن الولي وقد وصف الله عباده المخلصين بقوله : { ويدعوننا رغباً ورهباً } [ الأنبياء : 90 ] وأيضاً إن طاعة العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأنها محدثة متناهية وصفاته قديمة غير متناهية ، والمحدث المتناهي لا يغلب القديم غير المتناهي . فقد يكون العبد في عين المعصية ونصيبه في الأزل هو المحبة وقد يكون في عين الطاعة ونصيبه المبغضية ، ولهذا لا يحصل الجزم بكيفية الخاتمة . قيل : من هنا قال سبحانه : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] ولم يقل من عمل حسنة . ومن كانت محبته لا لعلة امتنع أن يصير عدوّاً لعلة المعصية وبالعكس ، ومحبة الحق وعداوته من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا الله أو من أطلعه عليها الله . وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري : إن للولاية ركنين : أحدهما انقياد للشريعة في الظاهر ، والثاني كونه في الباطن مستغرقاً في نور الحقيقة فإذا حصل هذان الأمران وعرف الإنسان ذلك عرف لا محالة كونه ولياً ، وعلامته أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله . قلت : لا ريب أن مداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة ، ودون الوصول إلى عالم الربوبية حجب وأستار من نيران وأنوار ، فالجزم بالولاية خطر والقضاء بالمحبة عسر والله تعالى أعلم .

قال المفسرون : إن اليهود حين قالت لقريش : سلوا محمداً عن مسائل ثلاثة عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوهن قال صلى الله عليه وسلم : « أجيبكم عنها غداً ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه خمس عشرة ليلة . » وقيل : أربعين يوماً ثم نزل قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً } أي لأجل شيء تعزم عليه ليس فيه بيان أنه ماذا { إلا أن يشاء الله } فقال العلماء : إنه لا يمكن أن يكون من تمام قوله { إني فاعل } إذا يصير المعنى إلا أن يشاء الله أن لا أفعله أي إلا أن تعرض مشيئة الله دون فعله وهذا ليس منهياً عنه . فالصواب أن يقال : إنه من تمام قوله : { ولا تقولن } ثم إن قدر المراد إلا أن يشاء الله أن تقول إني فاعل ذلك غداً أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد بعينه . وقوله : { إلا أن يشاء الله } أن تقوله بأن يأذن لك في ذلك الإخبار كان معنى صحيحاً ، ولكنه لا يكون موافقاً لسبب النزول . فالمعنى الموافق هو أن يكون قوله هذا في موضع الحال أي لا تقولنه إلا متلبساً بأن يشاء الله يعني قائلاً إن شاء الله . وهذا نهي تأديب لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد أو يعوقه عن ذلك عائق ، فلو لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في هذا الوعد والكذب منهي وجوز في الكشاف أن يكون { إن شاء الله } في معنى كلمة تأبيد كأنه قيل : ولا تقولنه أبداً . قال أهل السنة : في صحة الاستثناء بل في وجوبه دلالة على أن إرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة ويؤكده أنه إذا قال المديون القادر على أداء الدين : والله لأقضين هذا الدين غداً ثم قال : إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض لم يحنث بالاتفاق ، وما ذاك إلا لأن الله ما شاء ذلك الفعل مع أنه أمره باداء الدين ، وإنما لم يقع الطلاق في قول الرجل لامرأته : أنت طالبق إن شاء الله ، لأن مشيئة الله غير معلومة فيلزم الدور لتوقف العلم بالمشيئة على العلم بوقوع الطلاق وبالعكس . واستدل القائلون بأن المعدوم شيء بقوله : { ولا تقولن لشيء } وذلك أن الشيء الذي سيفعله غداً معدوم مع أنه سماه شيئاً في الحال . وأجيب بأنه مجاز كقوله : { أعصر خمراً } [ يوسف : 36 ] { واذكر ربك } أي مشيئة ربك { إذا نسيت } كلمة الاستثناء . ثم تنبهت لها ، وللعلماء في مدة النسيان إلى الذكر خلاف ، فعن ابن عباس : يستثني ولو بعد سنة ما لم يحنث .

وعن سعيد بن جبير : ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة وهو قول ابن عباس بعينه . وعن طاوس : هو استثناء ما دام في مجلسه . وعن عطاء : يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة . وعند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً . قالوا : إن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعهد والعقد فإذا أتى بالعهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلاً بناء على أن المستثنى منه مع الاستثناء وأداته كالكلام الواحد ، فإذا كان منفصلاً لم يمكن هذا التوجيه فوجب الرجوع إلى أصل الدليل . وقيل : أراد واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء ، وفيه بعث على الاهتمام بها . وقيل : اذكر إذا اعتراك النسيان في بعض الأمور لتذكر المنسي ، أو اذكره إذا تركت بعض ما أمرك به ليس لهذين القولين شديد ارتباط بما قيل ، وكذا قوله من حمله على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها . واختلفوا في المشار إليه بقوله : { لأقرب من هذا } الظاهر عند صاحب الكشاف أن المراد إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك ، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول : عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه { رشداً } وأدنى خيراً ومنفعة . وقيل : إن ترك قوله « إن شاء الله » ليس بحسن وذكره أحسن . فقوله « هذا » إشارة إلى الترك وأقرب منه ذكر هذه الكلمة ، وقيل : إنه إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبئهم ، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالمغيبات ما هو أعظم وأدل . عن قتادة . أن قوله سبحانه : { ولبثوا في كهفهم } حكاية لأهل الكتاب و { قل الله أعلم بما لبثوا } رد عليه ويؤيده قراءة عبد الله { وقالوا لبثوا } والجمهور على أنه بيان لما أجمل في قوله : { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً } والمراد من قوله { قل الله أعلم } أن لا تتجاوزوا الحق الذي أخبر الله به ولا تلتفتوا إلى ما سواه من اختلافات أهل الأديان نظيره قوله : { قل ربي أعلم بعدّتهم } بعد قوله : { سبعة وثامنهم كلبهم } قال النحويون : سنين عطف بيان لثلثمائة لأن مميز مائة وأخواتها مجرور مفرد . وقيل : فيه تقديم وتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة . ومن قرأ بالإضافة فعلى وضع الجميع موضع الجميع موضع الواحد في التمييز كما مر في قوله : { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً } [ الأعراف : 160 ] قوله : { وازدادوا تسعاً } أي تسع سنين لدلالة لما قبله عليه دون أن يقول « ولبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين » . فعن الزجاج المراد ثلثمائة بحساب السنين الشمسية وثلثمائة وتسع بالسنين القمرية وهذا شيء تقريبي . وقيل : إنهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الانتباه .

ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ، ثم أكد قوله : { الله أعلم بما لبثوا } بقوله : { له غيب السموات والأرض } أي ليس لغيره ما خفى فيهما من أحوالهما وأحوال سكانهما وهو مختص بذلك . ثم زاد في المبالغة فجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات . والضمير في قوله : { مالهم } لأهل السموات والأرض . وفيه بيان لكمال قدرته وأن الكل تحت قهره وتسخيره وأنه لا يتولى أمورهم غيره { ولا يشرك في حكمه } وقضائه قبل أصحاب الكهف { أحداً } منهم ومن قرأ { لا نشرك } على النهي فهو عطف معطوف على { لا تقولن } والمراد أنه لا يسأل أحداً عما أخبره الله به من نبأ أصحاب الكهف . واقتصر على بيانه . وقيل : الضمير في مالهم لأصحاب الكهف أي أنه هو الذي حفظهم في ذلك النوم الطويل وتولى أمرهم . وقيل : ليس للمختلفين في مدة لبثهم من دون الله من يتولى أمورهم فكيف يعلمون هذه الواقعة من دون إعلامه؟! وقيل : فيه نوع تهديد لأنهم لما ذكروا في هذا الباب أقوالاً على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب فبين الله تعالى أنه : { ليس لهم من دونه ولي } يمنع العقاب عنهم . واعلم أن الناس اختلفوا في زمان لبث أصحاب الكهف في مكانهم فقيل : كانوا قبل موسى عليه السلام وأنه ذكرهم في التوراة فلهذا سألت اليهود ما سألوا وقيل : دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبروه بخبرهم ثم لبثوا في الوقت الذي بين عيسى ومحمد عليهما السلام . وحكى القفال عن محمد بن إسحق أنهم دخلوا كهفهم بعد عيسى . وقيل : إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة . وذكر أبو علي بن سينا في باب الزمان من كتاب الشفاء إن أرسطا طاليس الحكيم زعم أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ثم قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف . وأما المكان فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه إلى ملك الروم ليعرف أحوال أصحاب الكهف ، فوجهه مع طائفة إلى ذلك الموضع قال : وإن الرجل الموكل بذلك المقام فزعني من الدخول عليهم ، فدخلت فرأيت الشعور على صدورهم فعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة الحافظة لأبدان الموتى عن البلى كالصبر وغيره . قلت : حين لم يملأ الخوارزمي رعباً من الاطلاع عليهم حصل القطع بأنهم ليسوا أصحاب الكهف والرقيم ، ولو صح ما حكينا عن معاوية حين غزا الروم حصل ظن غالب بأنهم منهم والله تعالى أعلم .
التأويل : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } والعبد الحقيقي من يكون حراً عن الكونين وهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول :

« أمتي أمتي » يوم يقول كل نبي « نفسي نفسي » ، ولأنه هو الذي صحح نسبة العبودية كما ينبغي أطلق عليه اسم العبد مطلقاً وقيد لسائر الأنبياء كما قال : { عبده زكريا } [ مريم : 2 ] ، { واذكر عبدنا داود } [ ص : 17 ] ، ولأنه كان خلقه القرآن قيل : { ولم يجعل له } أي لقلبه { عوجاً } لا يستقيم فيه القرآن ، ومن استقامة قلبه نال ليلة المعراج رتبة { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] بلا واسطة جبرائيل ، ونال قلبه الاستقامة بأمر التكوين بقوله : { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] { أجراً حسناً } . هو التمتع من حسن الله وجماله . { لعلك باخع نفسك } كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يبالغ في المأمور به حتى ينهى عنه ، بالغ في الدعوة والشفقة على أمته حتى قيل له لا تبخع نفسك ، وبالغ في الإنفاق إلى أن أعطى قميصه فقعد عرياناً فنهى عنه بقوله : { ولا تبسطها كل البسط } [ الإسراء : 29 ] { إنا جعلنا ما على الأرض زينة } أي زينا الدنيا وشهواتها للخلق ملائماً لطبائعهم وجعلناها محل ابتلاء للمحب وللسائل { لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } في تركها ومخالفة هوى نفسه طلباً لله ومرضاته . ثم أخبر عن سعادة السادة الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على المولى بقوله : { أم حسبت } ومعناه لا تعجب من حالهم فإن في أمتك من هو أعجب حالاً منهم ، ففيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم بيت الخلوة ، ورقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة فإنهم أووا إلى الكهف خوفاً من لقاء دقيانوس وفراراً منه ، فهؤلاء أووا إلى الخلوة شوقاً إلى لقائي وفراراً إليّ . وإنهم طلبوا النجاة من شر . والخروج من الغار بالسلامة بقولهم { ربنا آتنا } الآية . فهؤلاء طلبوا الخلاص من شر نفوسهم والخروج من ظلمات الغار المجازي للوصول إلى نور الوجود الحقيقي . { فضربنا } على آذان باطنه وحواسهم الآخر في مدة الخلوة لمحو النقوش الفاسدة عن ألواح نفوسهم وانتقاشها بالعلوم الدينية والأنوار الإلهية ليفنيهم الله عنهم ويبقيهم به وهو سر قوله : { ثم بعثناهم } أي أحييناهم بنا { لنعلم أي الحزبين } أصحاب الخلوة أم أصحاب السلوة : { أحصى } أي أكثر فائدة وأتم عائدة لأمد لبثهم في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة { وزدناهم هدى } فإنهم كانوا يريدون الإيمان الغيبي فأنمناهم { ثم بعثناهم } حتى صار الإيمان إيقاناً والغيب عياناً { اتخذوا من دونه آلهة } من الدنيا والهوى . { وترى الشمس إذا طلعت } قال الشيخ المحقق نجم الدين . المعروف : بداية هذا أخبار من أصناف ألطافه بأضيافه ، وفيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم لقول صلى الله عليه وسلم : « إن المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار وتقول : حزباً مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي » { وهم في فجوة منه } في متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضر ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم . قلت : يحتمل أن يراد أن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات - وهو حالة السكر وغلبات الوجد - لا تنصرف في حال خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين { وإذا غربت } أي سكنت تلك الغلبات وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال ، بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في حال دفاع وفراغ ما يشغلهم عن الله { وتحسبهم إيقاظاً } متصرفين في أمور الدنيا { وهم رقود } عنها لأنهم يتصرفون فيها لأجل الحق لا لحظ النفس ، أو تحسبهم أيقاظاً مشغولين بأمور الآخرة لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، وهم رقود متصرفون في أمور الدنيا لأن الناس بهم يرزقون ويمطرون .

وفي قوله : { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } إشارة إلى أنهم في التسليم لمقلب القلوب في الأحوال كلها كالميت بين يدي الغسال . قيل : في الآية دلالة على أن المريد الذي يربيه الله بلا واسطة المشايخ تكامل أمره في ثلثمائة وتسع سنين ، والذي يربيه بواسطتهم تم أمره في أربعينات معدودة ولهذا تكون ثمرة البساتين الزهر وثمرة الجبال وفي قوله : { وكلبهم باسط } إشارة أن أكلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال بها . ربيت القلوب والأرواح معنى أن هذا النوع من التربية من قبيل القدرة الإلهية التي اختصهم بها ، ويمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم في جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم { ولملئت منهم رعباً } بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدناهم ، ولجلاليب الهيبة والعظمة التي ألبسناهم { لبثنا يوماً أو بعض يوم } لأن أيام الوصال قصيرة ، فما رأوا أنهم في دهشة الوصال وحياة الأحوال { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } لأنه كان حاضراً معكم وأنتم غيب عنكم { فابعثوا أحدكم } من العجب أنهم ما احتاجوا مدة ثلثمائة وتسع سنين بما نالوا من غذاء الروح كقوله صلى الله عليه وسلم : { أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني } فلما رجعوا من عند الله الحق إلى عبدية أنفسهم احتاجوا إلى الغذاء الجسماني { أزكى طعاماً } لما رجعوا إلى العالم الجسماني ، تعللوا من جمال الله بمشاهدة كل جميل وتوسلوا إلى تلك الملاطفات بلطافة الأغذية الجسمانية وزكائها . { ولا يشعرنّ بكم أحد } فيه أن أرباب المعرفة والمحبة يجب أن يحترزوا عن شعور أهل الغفلة والسلوة { ليعلموا أن وعد الله حق } بإحياء القلوب الميتة حق قدره ، الأمر فيما أظهر وأبدى أو أسر وأخفى . { سيقولون } أن القوى والأركان الأصلية للإنسان { ثلاثة } الحيوانية والطبيعية والنفسانية التي منشؤهن القلب والكبد والدماغ . { رابعهم كلبهم } هو النفس الناطقة . { ويقولون خمسة } هو الحواس الظاهرة { سادسهم } النفس { ويقولون سبعة } هو الحواس الظاهرة مع الوهم المدرك للمعاني والخيال المدرك للصور { وثامنهم كلبهم } هو النفس المدرك للكليات { قل ربي أعلم بعدتهم } لأن القوى الباطنة والظاهرة وأفاعيلها وغاياتها لا يعلمهن إلا الله سبحانه ومن أطلعه الله عليه وذلك قوله : { ما يعلمهم إلا قليل } والله أعلم بالصواب .


وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

القراآت : { وفجرنا } بالتخفيف : سهل ويعقوب غير رويس { له ثمر } وكذا { بثمره } بفتح الثاء والميم : يزيد . وعاصم وسهل ويعقوب وأبو عامر : بضم الثاء وإسكان الميم . الباقون بضم الثاء والميم جميعاً { منها } على الوحدة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف . الآخرون على التثنية { لكن } بالتشديد من غير ألف في الحالين : قتيبة وابن عامر وابن فليح ويعقوب بالألف في الوصل . الباقون بغير الألف واتفقوا على الألف في الوقف { بربي أحد } مفتوحة الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { أن ترني } فتح الياء : السرانديبي عن قنبل { غوراً } بضم الغين وكذلك في { الملك } البرجمي الباقون بفتحها . { ولم يكن له } بياء الغيبة { الولاية } بكسر الواو : حمزة وعلي وخلف . الآخرون بتاء التأنيث وفتح الواو { لله الحق } بالرفع : أبو عمرو وعلي . الآخرون بالجر { عقباً } بسكون القاف : عاصم وحمزة وخلف . الباقون بضمها { الريح } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف .
الوقوف : { من كتاب ربك } ط لاختلاف الجملتين { ملتحداً } 5 { عنهم } ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستفهاماً محذوف الألف لدلالة حال العتاب . { فرطاً } 5 { فليكفر } لا لأن الأمر للتهديد بدليل { إنا أعتدنا } فلو فصل صار مطلقاً { ناراً } ، لأن ما بعده صفة { سرادقها } ط { الوجوه } ط { الشراب } ط { مرتفقاً } 5 { عملاً } ج 5 لاحتمال كون { أولئك } مع ما بعده خبر { إن الذين } وقوله : { إنا لا نضيف } جملة معترضة { الأرائك } ط { الثواب } ط { مرتفقاً } 5 { زرعاً } 5 ، ط { شيئاً } لا للعطف { نهراً } 5 ط { ثمر } ج للعدول مع الفاء { نفراً } ، ج { لنفسه } ج لاتحاد العامل بلا عطف { أبداً } 5 ط { قائمة } لا لأن ما بعده شك من قول الكافر في البعث { منقلباً } 5 { رجلاً } ، 5 ط لتمام الاستفهام { أحداً } 5 { ما شاء الله } لا لاتمام المقول { إلا بالله } ج لابتداء الشرط المحذوف جوابه مع اتحاد القائل والمقول له { وولداً } 5 ، ج لاحتمال كون ما بعده جواباً للشرط { زلقاً } 5 { طلباً } 5 { أحداً } 5 { منتصرا } ، ط وقيل : يوقف على { هنالك } والأوجه أن يبتدأ ب { هنالك } أي عند ذلك يظهر لكل شاك سلطان الله ونفاد أمره { الحق } ط على القراءتين { عقباً } 5 { الرياح } ط { مقتدراً } 5 { زينة الحياة الدنيا } ج مفصلاً بين المعجل الفاني والمؤجل الباقي مع اتفاق الجملتين { أملاً } .
التفسير : لما أجب عن سؤالهم بما أجاب أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه وعلى الصبر مع الفقراء الذين آمنوا بما أنزل عليه ، واحتمل أن يكون { اتل } أمراً من التلو لا من التلاوة أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل بمقتضاه وقوله : { من كتاب ربك } بيان للذي أوحي إليه .

ثم بين سبب اللزوم فقال : { لا مبدل لكلماته } أي لا يقدر أحد على تغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده فليس لك ولا لغيرك إلا المواظبة على العلم والعمل به يؤكده قوله : { ولن تجد من دونه ملتحداً } أي ملجأ تعدل إليه إن هممت بذلك فرضاً : وأصل اللحد الميل كما مر في قوله : { يلحدون في أسمائه } [ الأعراف : 18 ] نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام عن طرد فقراء المؤمنين بقوله : { ولا تطرد الذين } [ الآية : 52 ] الآية وأمره في هذه السورة بحبس النفس معهم وبمراقبة أحوالهم بقوله : { ولا تعد عيناك } قال جار الله : إنما لم يقل ولا تعدهم عيناك من عداه إذا جاوزه لأنه ضمن عدا معنى نبا وفيه مبالغة من جهة تحصيل المعنيين جميعاً كأنه قيل : ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم . ثم نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء الكفرة الذين التمسوا منه طرد الفقراء حتى يؤمنوا به فقال : { ولا تطع من أغفلنا قلبه } قال أهل السنة : معنى الإغفال إيجاد الغفلة وخلقها فيهم ، أو هو من أغفلها إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ولم نجعله من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، ويؤيد هذا المعنى أن الغفلة عن الذكر لو كانت بإيجاد العبد والقصد إلى إيجاد الغفلة عن الشي لا يتصور إلا مع الشعور بذلك الشيء لزم اجتماع الضدين . وقالت المعتزلة : معنى أغفلناه وجدناه غافلاً بالخذلان والتخلية بينه وبين الأسباب المؤدية إلى الغفلة يؤيده قوله : { واتبع هواه } بالواو دون الفاء إذ لو كان اتباع الهوى من نتيجة خلق الغفلة في القلب لقيل « فاتبع » بالفاء . ويمكن أن يجاب بأنه لا يلزم من كون الشيء في نفس الأمر نتيجة لشيء أن يعتبر كونه نتيجة له والفاء من لوازم الثاني دون الأول ، على أن الملازمة بين الغفلة عن ذكر الله وبين متابعة الهوى غير كلية ، فقد يكون الإنسان غافلاً عن ذكر الله ومع ذلك لا يتبع هواه بل يبقى متوقفاً متحيراً { وكان أمره فرطاً } أي متجاوزاً عن حد الاعتدال من قولهم « فرس فرط » إذا كان متقدماً للخيل ، ويلزم منه أن يكون نابذاً للحق وراء ظهره . وأنت إذا تأملت وجدت حال الأغنياء المتحيرين بخلاف الفقراء المؤمنين ، لأن هؤلاء الفقراء يدعون ربهم بالغداة والعشى ابتغاء وجه الله وطلباً لمرضاته فأقبلوا على الحق وشغلوا عن الخلق ، والأغنياء قد أعرضوا عن المولى وأقبلوا على الدنيا فوقعوا في ظلمة الهوى وبقوا في تيه الجهل والعمى . وإنما لم يجز طرد الفقراء لأجل إيمان الأغنياء لأن إيمان من ترك الإيمان احترازاً من مجالسة الفقراء كلا إيمان فوجب أن لا يلتفت إليه .
ثم بين أن الحق ما هو ومن أين هو قائلاً { وقل الحق من ربكم } أي الدين الحق حصل ووجد من عند الله ، ويحتمل أن يراد بالحق الصبر مع الفقراء .

وقال في الكشاف : الحق خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختيار الإيمان أو الكفر ، وفيه دليل على أن الإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها مفوّضة إلى مشيئة العبد واختياره . وحمله الأشاعرة على أمر التهديد وقالوا : إن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه ، ثم ذلك القصد لا بد أن يقع بالاختيار والقصد فنقل الكلام إليه ولا يتسلسل فلا بد أن ينتهي إلى قصد واختيار يخلقه الله فيه . فالإنسان مضطر في صورة مختار وفي صورة هذا التخيير دلالة على أنه سبحانه لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين . ثم بين وعيد الظالمين الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان وتحقير المؤمنين لأجل فقرهم مكان تعظيمهم لأجل إيمانهم فقال : { إنا أعتدنا } أي أعددنا وهيأنا { للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها } وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط فأثبت تعالى للنار شيئاً شبيهاً بذلك يحيط بهم من جميع الجهات ، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرج . وقيل : هو حائط من نار يطبق بهم . وقيل : هو دخان محيط بالكفار قبل دخولهم النار وهو المراد بقوله { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } [ المرسلات : 30 ] وقوله : { يغاثوا بماء } وارد على سبيل التهكم كقولهم « عتابك السيف » . والمهل كل ما أذيب من المعدنيات كالذهب والفضة والنحاس قاله أبو عبيدة والأخفش . وقيل في حديث مرفوع إنه درديّ الزيت . وقيل : الصديد والقيح أو ضرب من القطران . وهذه الاستغاثة إما لطلب الشراب كقوله : { تسقى في عين آنية } [ الغاشية : 5 ] وإما لدفع الحر ولأجل التبريد كقوله حكاية عنهم { أفيضوا علينا من الماء } [ الأعراف : 50 ] ويروى أنهم إذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص ، وقد يفسر بهذا قوله : { سرابليهم من قطران } [ إبراهيم : 50 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم « هو - يعني المهل - كعكر الزيت إذا قرب إليه سقطت فروة وجهه » وهذا معنى قوله : { يشوي الوجوه بئس الشراب } ذلك لأن المقصود من الشراب إراحة الأحشاء وهذا يحرقها ويشويها { وساءت } أي النار { مرتفقاً } متكئاً لأهلها ومنه المرفق لأنه يتكأ عليه . قال جار الله : هذا لمشاكلة قوله في أهل الجنة { وحسنت مرتفقاً } وإلا فلا ارتفاق لأهل النار إلا أن يقال : معنى ارتفق أنه نصب مرفقه ودعم به خده كعادة المغتمين . وقال قائلون : إن الشياطين رفقاء أهل النار من الإنس والمعنى ساءت النار مجتمعاً لأولئك الرفقاء .
ثم شرع في وعد المؤمنين فقال : { إن الذين آمنوا } الآية فإن جعلت { إنا لا نضيّع } اعتراضاً فظاهر وإن جعلته خبراً و { أولئك } خبراً آخر أو كلاماً مستأنفاً للأجر أو بياناً لمبهم فمعنى العموم في { من أحسن } يقوم مقام الرابط المحذوف والتقدير { من أحسن عملاً } منهم .

وتفسير جنات عدن قد مر في سورتي « التوبة » و « الرعد » . ولأهل الجنة لباسان : لباس التحلي والباس الستر . ولم يسم فاعل { يحلون } للتعظيم وهو الله جل وعلا ، أو الملائكة بإذن . و « من » في { من أساور } للابتداء وفي { من ذهب } للتبيين . وتنكير أساور لإبهام أمرها في الحسن ، وأساور أهل الجنة بعضها ذهب لهذه الآية ، وبعضها فضة لقوله : { وحلوا أساور من فضة } [ الدهر : 21 ] وبعضها لؤلؤ لقوله في الحج { ولؤلؤاً } [ الحج : 23 ] وجمع في لباس الستر بين السندس - وهو مارق من الديباج - وبين الاستبرق - وهو الغليظ منه - جمعاً بين النوعين والاستبرق عند بعضهم معرب استبره . قيل : إنما لم يسم فاعل { يحلون } إشارة إلى أن الحلي تفضل الله بها عليهم كرماً وجوداً ونسب اللبس إليهم تنبيهاً على أنهم استوجبوه بعملهم ، ثم وصفهم بهيئة المتنعمين والملوك من الاتكاء على أسرتهم . والأرائك جمع أريكة وهو السرير المزين بالحجلة ، أما السرير وحده فلا يسمى أريكة . ثم إن الكفار كانوا يفتخرون بخدمهم وحشمهم وأموالهم وأصناف تمتعاتهم على الفقراء المؤمنين فضرب الله مثلاً للطائفتين تنبيهاً على أن متاع الدنيا لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الغني فقيراً والفقير غنياً إنما الفخر بالأعمال الصالحات . والمراد مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر- اسمه فطروس - والآخر مؤمن - اسمه يهوذا - وقيل : هما المذكوران في سورة « والصافات » في قوله : { قال قائل منهم أنى كان لي قرين } [ الصافات : 51 ] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراهما ، فاشترى الكافر أرضاً بألف فقال المؤمن : اللَّهم إن أخي اشترى أرضاً بألف دينار وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به . ثم بنى أخوه داراً بألف فقال : اللَّهم إن أخي بنى داراً بألف وإني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به . ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال : اللَّهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور . ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف فقال : اللَّهم إني إشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به . ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده وبخسه على التصدق بماله . وقيل : هما مثل لأخوين من بني مخزوم مؤمن وهو عبد الله بن الأشد زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد .
أما قوله : { وحففناهما بنخل } فقال صاحب الكشاف : إنه يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء ومعناه جعلنا النخيل محيطاً بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار ولا سيما المثمرة منها وخاصة النخيل إذا أمكن . { وجعلنا بينهما زرعاً } فهما جامعتان للأقوات والفواكه . وفيه أنهما مع سعة أطرافهما وتباعد أكنافهما لم يتوسطهما بقعة معطلة ، وفيه أنهما أتاني كل وقت بمنعفة أخرى متواصلة متشابكة وكل منهما منعوتة بوفاء الثمار لتمام الأكل .

{ وآتت } محمول على لفظ { كلتا } لأن لفظه مفرد . ولو قيل : « آتتا » . على المعنى لجاز . والظلم أصله النقصان وهو المراد ههنا . { وفجرنا } من قرأ بالتخفيف فظاهر لأنه نهر واحد ، ومن قرأ بالتشديد فللمبالغة لأن النهر ممتد في وسطهما فهو كالأنهار { وكان له ثمر } قال الكسائي : الثمرة اسم الواحد والثمر جمع وجمعه ثمار ثم ثمر ككتاب وكتب بالحركة أو بالسكون . وذكر أهل اللغة أن الثمر بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما ، والثمر بالفتح حمل الشجر . وقال قطرب : كان أبو عمرو بن العلاء يقول : الثمر المال والولد أي كان يملك مع الجنتين أشياء من النقود وغيرها وكان متمكناً من عمارة الأرض ومن سائر التمتعات كيف شاء . والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع . والنفر الأنصار والحشم الذين يقومون بالذب عنه . وقيل : الأولاد الذكور لأنهم ينفرون معه دون الإناث .
ثم إن الكافر كأنه أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه وذلك قوله سبحانه { ودخل جنته } فقال جار الله : معنى أفراد الجنة بعد التثنية أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون ، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما . قلت : لا يبعد أن يكون قد دخل مع أخيه جنة واحدة منهما أو جعل مجموع الجنتين في حكم جنة واحدة منهما يؤيده توحيد الضمير على أكثر القراآت في قوله : { لأجدن خيراً منها } وإنما وصفه بقوله : { وهو ظالم لنفسه } لأنه لما اغتر بتلك النعم ولم يجعلها وسيلة إلى الإيمان بالله والاعتراف بالبعث وسائر مقدورات الله كان واضعاً للنعم في غير موضعها ، على أن نعمة الجنة بخصوصها مما يجب أن يستدل بها على أحوال النشور كقوله عز من قائل : { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } [ الحج : 5 ] عكس الكافر القضيتين زعم دوام جنته التي هي بصدد الزوال قائلاً { ما أظن أن تبيد } أي تهلك { هذه } الجنة { أبداً } وذلك لطول أمله واستيلاء الحرص عليه واغتراره بالمهلة حتى أنكر المحسوس وادعى غلبة الظن بامتناع النشور مع قيام الدلائل العقلية والحسية على إمكانه ووجود الدلائل الشرعية على وجوبه قائلاً { وما أظن الساعة قائمة } ثم أقسم على أنه إن رد إلى ره فرضاً وتقديراً وكما يزعم صاحبه أن له رباً وأنه سيرد إليه وجد خيراً من جنته في الدنيا كأنه قاس الغائب على الشاهد أو ادعى أن النعم الدنيوية لن تكون استدراجية أصلاً وإنما تكون استحقاقاً وكرامة . { منقلباً } نصب على التمييز أي مرجع تلك وعاقبتها لكونها باقية بزعمكم خير من هذه لكونها فانية حساً أو في اعتقادكم .

قال بعض العلماء : الرد يتضمن كراهة المردود إليه فلهذا قال : { ولئن رددت } أي عن جنتي هذه التي أظن أن لا تبيد أبداً إلى ربي ، ولما لم يسبق مثل هذا المعنى في « حم » قال هناك : { ولئن رجعت إلى ربي } [ فصلت : 50 ] ، قوله : { أكفرت } زعم الجمهور أن أخاه إنما حكم بكفره لأنه أنكر البعث . وأقول : يحتمل أن يكون كافراً بالله أيضاً بل مشركاً لقوله بعد ذلك : { يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } ولقول أخيه معرضاً به { لكنا هو الله ربي } وليس في قوله : { ولئن رددت إلى ربي } دلالة على أنه كان عارفاً بربه لاحتمال أن يكون قد قال ذلك بزعم صاحبه كما أشرنا إليه . وقوله : { خلقك من تراب } أي خلق أصلك وهو إشارة إلى مادته البعيدة . وقوله : { من نطفة } إشارة إلى مادته القريبة . ومعنى { سوّاك رجلاً } عدلك وكلك حال كونك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال المكلفين ويجوز أن يكون { رجلاً } تمييزاً .
ولعل السر في تخصيص الله سبحانه في هذا المقام بهذا الوصف هو أن يكون دليلاً على وجود الصانع أولاً ، لأن الاستدلال على هذا المطلوب بخلق الإنسان أقرب الاستدلالات ، وفيه أيضاً إشارة إلى إمكان البعث لأن الذي قدر على الإبداء أقدر على الإعادة ، وفيه أنه خلقه فقيراً لا غنياً علم منه أنه خلقه للعبودية والإقرار لا للفخر والإنكار ، ثم استدرك لقوله { أكفرت } كأنه قال لأخيه : أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد . وأصل { لكنا } « لكن أنا » حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على ما قبلها ، ثم استثقل اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية وضمير الغائب للشأن ، والجملة بعده خبر للشأن ، والمجموع خبر « أنا » والراجع ياء الضمير وتقدير الكلام : لكن أنا الشأن الله ربي . قال أهل العربية : إثبات ألف « أنا » في الوصل ضعيف ، ولكن قراءة ابن عامر قوية بناء على أن الألف كالعوض عن حذف الهمزة { ولولا } للتخفيض وفعله . قلت : { وإذ دخلت } ظرف وقع في البين توسعاً . وقوله : { ما شاء الله } خبر مبتدأ محذوف أو جملة شرطية محذوفة الجزاء تقدير الكلام الأمر ما شاء الله أو أي شيء شاء الله كان . استدل أهل السنة بالآية في أنه لا يدخل في الوجود شيء إلا بأمر الله ومشيئته . وأجاب الكعبي بأن المراد ما شاء الله مما تولى فعله لا ما هو من فعل العباد . والجواب أن هذا التقدير مما يخرج الكلام عن الفائدة فإنه كقول القائل « السماء فوقنا » . وأجاب القفال بأنه أراد ما شاء الله من عمارة هذا البستان ويؤيده قوله { لا قوة إلا بالله } أي ما قويت به على عمارته وتدبير أمره فهو بمعونة الله ، وزيف بأنه تخصيص للظاهر من غير دليل على أن عمارة ذلك البستان لعلها حصلت بالظلم والعدوان ، فالتحقيق أنه لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...