Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج25وج26.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج25وج26.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

وسبأ اسم للقبيلة فلا ينصرف أو اسم للحي أو الأب الأكبر فينصرف ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ثم سميت مدينة مارب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث . ويحتمل أن يراد بسبأ المدينة أو القوم . ثم شرع في النبأ وهو قوله { إني وجدت امرأة } واسمها بلقيس بنت شراحيل ملك اليمن كابراً عن كابر إلى تبع الأول ، ولم يكن له ولد غيرها فورثت الملك وكانت هي وقومها مجوساً عبدة الشمس . والضمير في { تملكهم } يعود إلى سبأ إن أريد به القوم وإلى الأهل المحذوف إن أريد به المدينة . { وأوتيت من كل شيء } اي بعض كل ما يتعلق بالدنيا من الأسباب . { ولها عرش عظيم } كأنه استعظم لها ذلك مع صغر حالها إلى حال سليمان ، أو استعظمه في نفسه لأنه لم يكن لسليمان مثله مع علو شأنه ، وقد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله لمن فوقه في الملك ، وقد يطلع بعض الأصاغر على مسألة لم يطلع عليها أحد كما اطلع الهدهد على حال بلقيس دون سليمان . ووصف عرش الله بالعظم إنما هو بالإضافة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض . يحكى من عظم شأنه إنما كان مكعباً ثلاثين في ثلاثين أو ثمانين وكان من ذهب وفضة مكللاً بأنواع الجواهر وكذا قوائمه ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق ، قال بعض المعتزلة : في قوله { وزين لهم الشيطان أعمالهم } دليل على أن المزين للكفر والمعاصي هو الشيطان . وأجيب بأن قول الهدهد لا يصلح للحجة والتحقيق فيه قد مر ولا يبعد أن يلهم الله الهدهد وجوب معرفته والإنكار على من يعبد غيره خصوصاً في زمن سليمان عليه السلام .
قوله { الا يسجدوا } من قرأ بالتشديد على أن الجار محذوف فإن كان متعلقاً بالصد فالتقدير صدهم لأن { لا يسجدوا } وإن كان متعلقاً ب { لا يهتدون } ف { لا } مزيدة أي لا يهتدون إلى أن يسجدوا . ومن قرأ بالتخفيف فقوله { ألا } حرف تنبيه و { يا } حرف النداء والمنادى محذوف والتقدير : ألا يا قوم اسجدوا كقوله :
ألا يا أسلمي يا دارميّ على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
قال الزجاج : السجدة في الآية على قراءة التخفيف دون التشديد . والحق عدم الفرق لأن الذم على الترك كالأمر بالسجود في الاقتضاء . والخبء مصدر بمعنى المخبوء وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه الله عز وجل من غيوبه ، ومن جملة ذلك اطلاع الكواكب من أفق الشرف بعد اختفائها في أفق الغرب ، ومنها الأقضية والأحكام والوحي والإلهام ، ومنها إنزال الملك وكل أثر علوي . وفي تخصيص وصف الله تعالى في هذا المقام بإخراج الخبء إشارة إلى ما عهده الهدهد من قدرة الله تعالى في إخراج الماء من الأرض ، ألهمه هذا التخصيص كما ألهمه تلك المعرفة .

ولما انجر كلام الهدهد إلى هذه الغاية { قال } سليمان { سننظر } أي نتأمل في صفحات حالك { أصدقت أم كنت من الكاذبين } وهذا أبلغ من أن لو قال له « كذبت » لأنه إذا كان معروفاً بالكذب كان متهماً في كل ما أخبر به . ثم ذكر كيفية النظر في أمره فقال { أذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } لم يقل إليها لأنه كان قد قال { وجدتها وقومها } فكأن سليمان قال : فألقه إلى الذين هذا دينهم اهتماماً فيه بأمر الدين . ولمثل هذا قال في الكتاب { ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين } ومعنى { ثم تول عنهم } تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه تسمع ما يقولون { يرجعون } من رجع القول كقوله { يرجع بعضهم إلى بعض القول } [ سبأ : 31 ] يروى أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فدخل من كوة وطرح الكتاب على حجرها وهي مستلقية نائمة . وقيل : نقرها فانتبهت فزعة . وقيل : أتاها والجنود حواليها من فوق والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها . وقيل : كان في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسد تلك الكوة بجناحه ، فلما رأت ذلك قامت إليه فألقى الكتاب إليها . وههنا إضمار أي فذهب فألقى ثم توارى ثم كأن سائلاً سأل فماذا قالت بلقيس؟ فقيل { قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم } مصدر بالتسمية أو حسن مضمونه أو هو من عند ملك كريم أو هو مختوم . يروى أنه طبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه وقال صلى الله عليه وسلم « كرم الكتاب ختمه » وعن ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به . ثم إن سائلاً كأنه قال لها ممن الكتاب وما هو؟ فقالت { إنه من سليمان وإنه } كيت وكيت .
سؤال : لم قدم سليمان اسمه على اسم الله؟ والجواب أنها لم وجدت الكتاب على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد علمت أنه من سليمان وحين فتحت الكتاب رأت التسمية ، ولذلك قالت ما قالت ، أو لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب { إنه من سليمان } فقرأت عنوانه أوّلاً ثم أخبرت بما في الكتاب . أو لعل سليمان قصد بذلك أنها لو شتمت لأجل كفرها حصل الشتم لسليمان لا لله تعالى . و « أن » في { أن لا تعلوا } مفسرة لما ألقي إليها أي لا تتكبروا كما تفعل الملوك . يروى أن نسخة الكتاب : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى . أما بعد ، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين . وكان كتب الأنبياء عليهم السلام جملاً وأنه مع وجازته مشتمل على تمام المقصود لأن قوله { بسم الله الرحمن الرحيم } مشتمل على إثبات الصانع وصفاته ، والباقي نهي عن الترفع والتكبر وأمر بالانقياد للتكاليف ، كل ذلك بعد إظهار المعجز برسالة الهدهد .

قوله { قالت يا ايها الملأ } استئناف آخر وهكذا إلى تمام القصة . ومعنى { أفتوني } أشيروا عليّ بما يحدث لكم من الرأي . والفتوى الجواب في الحادثة وأصلها من الفتاء في السن وقطع الأمر فصله والقضاء فيه ، أرادت بذلك استعطافهم وتطييب نفوسهم واستطلاع آرائهم ، فأجابوا بأنهم اصحاب القوى الجسداينة والخارجية ، ولهم النجدة والبلاء في الحرب ، ومع ذلك فوضوا الأمر إليها فما أحسن هذا الأدب . ويحتمل أن يراد نحن من أبناء الحرب لا من ارباب الرأي والشمروة وإنما الرأي إليكن وحيث كان يلوح من وصفهم أنفسهم بالشجاعة والعلم بأمور الحرب أهم مائلون إلى المحاربة ، ارادت أن تنبههم إلى الأمر الأصوب وهو الميل إلى الصلح فلذلك { قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها } وذلك إذا أرادوا قهرها والتسلط عليها ابتداء وإلا فالإفساد غير لازم ، بل لعل الإصلاح ألزم إذا سلكت سبيل العدل والإنصاف فليس للظلمة في الآية حجة . ومفعول { مرسلة } محذوف اي مرسلة رسلاً مع هدية وهي اسم المهدي كالعطية اسم المعطي . وإنما رأت الإهداء أوّلاً لأن الهدية سبب استمالة القلوب . قال صلى الله عليه وسلم « تهادوا تحابوا » قال في الكشاف : روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج مرصعة اللجم والسروج بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت ، وحقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب : وبعثت رجلين من أشراف قومها- المنذر بن عمرو وآخر ذا رأي وعقل -وقالت : إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقباً مستوياً وسلك في الخرزة خيطاً . ثم قالت : للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك ، وإن رأيته بشاً لطيفاً فهو نبي . فأقبل الهدهد فأخبر سليمان فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على اللبنات ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين وعن اليسار ، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ والأنس كذلك ، ولاوحش والطير كذلك . فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب على اللبنات فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال : ما وراءكم؟ وقال : أين الحق؟ وأخبرهم بما فيه . ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجر ، وأخذت دودة بيضاء الخيط فأدخلته في الجزعة ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ، ثم رد الهدية وذلك قوله على سبيل الإنكار { أتمدونني بمال } ثم قال على سبيل الإعلام وتعليل الإنكار { فما آتاني الله } من الكمالات والقربات والدرجات { خير مما آتاكم } ثم أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون الفرح إلا في أن يهدي إليهم حظ من الدنيا ، فعلى هذا تكون الهدية مضافة إلى المهدي إليه .

والمعنى { بل أنتم بهديتكم } هذه التي أهديتموها { تفرحون } فرح افتخار على الملوك . ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن الرد كأنه قال . بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها ثم قال للرسول أو للهدهد معه كتاب آخر { ارجع إليهم } ومعنى { لا قبل } لا طاقة ولا مقابلة . والذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار أن يقعوا مع ذلك في أسر واستعباد يروى أنه لما رجعت إليها الرسل عرفت أن سليمان نبي وليس لهم به طاقة ، فشخصت إليه في اثني عشر الف قيل . مع كل قيل ألوف . وأمرت عند خروجها أن يجعل عرشها في آخر سبعة أبيات في آخر قصر من قصور سبعة ، وغلقت الأبواب ووكلت به حرساً فلعل سليمن أوحي إليه ذلك فاراد أن يريها بعض ما خصه الله به من المعجزات فلذلك { قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } وعن قتادة : اراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا اسلمت لم يحل له أخذ مالها . وقيل : أراد بذلك اختبار عقلها كما يجيء . وقيل : أراد أن يعرف تجملها ومقدار مملكتها قبل وصولها إليه والعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر اقرانه ، ومن الشياطين الخبيث المارد ، ووزنه « فعليت » . قالوا : كان اسمه ذكوان . و { آتيك به } في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً مضارعاً وأن يكون اسم فاعل . ومعنى . { أن تقوم من مقامك } إما على ظاهره وهو أن يقوم فيقعد ، وإما أن يكون المقام هو المجلس ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت به . وعلى هذا فقيل : المراد مجلس الحكم . وقيل : مقدار فراغه من الخطبة . وقيل : إلى انتصاف النهار . { وإني عليه } أي على حمله { لقوي أمين } آتي به على حاله لا أتصرف فيه بشيء . واختلفوا في الذي عنده علم من الكتاب فقيل : هو الخضر عليه السلام . وقيل : جبرائيل . وقيل : ملك أيد الله به سليمان . وقيل : آصف بن برخيا وزيره أو كاتبه . وقيل : هو سليمان نفسه استبطأ العفريت فقال له : أنا اريك ما هو أسرع مما تقول . وقد يرجح هذا القول بوجوه منها : أن الشخص المشار إليه بالذي يجب أن يكون معلوماً للمخاطب وليس سوى سليمان ، ولو سلم أن آصف أيضاً كان كذلك فسليمان أولى بإحضار العرش في تلك اللمحة والإلزام تفضيل آصف عليه من هذا الوجه .

ومنها قول سليمان . { هذا من فضل ربي } ويمكن أن يقال : الضمير راجع إلى استقرار العرش عنده ، ولو سلم رجوعه غلى الإتيان بالعرش فلا يخفى أن كمال حال التابع والخادم من جملة كمالات المتبوع والمخدوم ، ولا يلزم من أن يأمر الإنسان غيره بشيء أن يكون الآمر عاجزاً عن الإتيان بذلك الشيء . واختلفوا ايضاً في الكتاب فقيل : هو اللوح . وقيل : الكتاب المنزل الذي فيه الوحي والشرائع . وقيل : كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء . وما ذلك العلم؟ قيل : نوع من العلم لا يعرف الآن . والأكثرون على أنه العلم باسم الله الأعظم وقد مر في تفسير البسملة كثير مما قيل فيه . ومما وقفت عليه بعد ذلك أن غالب بن قطان مكث عشرين سنة يسأل الله الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فأري في منامه ثلاث ليال متواليات : قل يا غالب يا فارج الهم يا كاشف الغم يا صادق الوعد يا موفياً بالعهد يا منجز الوعد يا حي يا لا إله إلا أنت صل اللهم على محمد وآل محمد وسلم . والطرف تحريك الأجفان عند النظر فوضع موضع النظر فإِذا فتحت العين توهمت أن نور العين يمتد إلى المرئي وإذا غمضت توهمت أن ذلك النور قد اراتدّ ، فمعنى الآية أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك . يروى أن آصف قال له : مدّ عينك حتى ينتهي طرفك فمدّ عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فغاص العرش في مكانه ثم ظهر عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرتدّ طرفه . ومن استبعد هذا في قدرة الله فليتأمل في الحركات السماوية على ما يشهد به علم الهيئة حتى يزول استبعاده . وقال مجاهد : هو تمثيل لاستقصار مدة الإتيان به كما تقول لصاحبك : افعل هذا في لحظة أو لمحة . وحين عرف سليمان نعمة الله في شأنه وأن ذلك صورة الابتلاء بين أن شكر الشاكر إنما يعود إلى نفس الشاكر لأنه يرتبط به العتيد ويطلب المزيد كما قيل : الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة . وروي في الكشاف عن بعضهم أن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر واستدم راهنها بكرم الجوار . قوله « أقشعت نافرة » أي ذهبت في حال نفارها وراهنها أي ثابتها . { ومن كفر فان ربي غني } عن عبادة كل عابد فضلاً عن شكر شاكر { كريم } لا يقطع إمداد نعمه عنه لعله يتوب ويصلح حاله . زعم المفسرون أن الجن كرهوا أن يتزوّجها سليمان فتفضي إليه بإسرارهم لأنها كانت بنت جنية ، أو خافوا أن يولد له منها ولد تجمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له : إن في عقلها شيئاً وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش وذلك قوله { نكروا لها عرشها } أي اجعلوه متنكراً متغيراً عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل لغيره لئلا يعرفه .

قالوا : وسعوه وجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه اسفله . وقوله { ننظر } بالجزم جواب للأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف . { أتهتدي } لمعرفة العرش أو للجواب الصائب إذا سئلت عنه أو للدين والإيمان بنبوة سليمان إذا رأت تلك الخوارق . وقوله { أم تكون من الذين لا يهتدون } أبلغ من أن لو قال « أم لا تهتدي » كما مر في قوله { أم كنت من الكاذبين } { فلما جاءت قيل أهكذا } أي مثل ذا { عرشك } لئلا يكون شبه تلقين فقالت { كأنه هو } ولم تقل : هو هو مع أنها عرفته ليكون دليلاً على وفور عقلها حيث لم تقطع في المحتمل وتوقفت في مقام التوقف . أما قوله { وأوتينا العلم } فمعطوف على مقدر كأنهم قالوا عند قولها كأنه هو قد اصابت في جوابها وطابقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان بهذه الخوارق . { وأوتينا } نحن { العلم } بالله وبقدرته قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام { وصدّها } عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس وكونها بين ظهراني الكفرة . والغرض تلقي نعمة الله بالشكر على سابقة الإسلام . وقيل : هو موصول بكلام بلقيس . والمعنى وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو الحالة وذلك عند وفدة المنذر . ثم قال سبحانه { وصدها } قبل ذلك عما دخلت فيه { ما كانت تعبد من دون الله } وقيل : الجار محذوف أي وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد ، واختبر ساقها بأن أمر أن يبني على طريقها قصر من زجاج أبيض فأجرى من تحته الماء والقى فيه من دواب البحر السمك وغيره ، ووضع سريره في آخر فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس . ثم { قيل لها ادخلي الصرح } أي القصر أو صحن الدار { فلما رأته حسبته لجة } أي ماء غامراً { وكشفت عن ساقيها } لتخوض في الماء فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها شعراء ، فصرف سليمان بصره وناداها { إنه صرح ممرد } أي مملس { من قوارير } هذا عند من يقول : تزوجها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا له همدان وكان يزورها في الشهر مرّة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له . قالوا : كون ساقها شعراء هو السبب في اتخاذ النورة ، أمر به الشياطين فاتخذوها . وقال آخرون : المقصود من الصرح تهويل المجلس ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع . عن ابن عباس : لما اسلمت قال لها : اختاري من أزوّجكه؟ فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطان .

فقال : النكاح من الإسلام . فقالت : إن كان كذلك فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكاً { قالت رب إني ظلمت نفسي } أي بالكفر في الزمن السالف أو بسوء ظني بسليمان إذ حسبت أنه يغرقني في الماء . وهذا التفسير أنسب بما قبله ولعل في قولها { مع سليمان } أي مصاحبة له إشارة إلى إسلامها تبع لإسلام سليمان وأنها تريد أن تكون معه في الدارين جميعاً والله أعلم .
التأويل : { ولقد آتينا داود } الروح { وسليمان } القلب { علماً } لدنيا { على كثير من عباده } وهم الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية . { وورث سليمان داود } لأن كل إلهام وفيض يصدر من الحضرة الإلهية يكون عبوره على داود الروح إلا أنه للطافته لا يحفظها وإنما يحفظها القلب لكثافته ، ولذلك كان سليمان اقضى من داود . قوله { منطق الطير } يعني الرموز والإشارات التي يحفظها بلسان الحال أرباب الأحوال الطائرين في سماء سناء الفناء . وقيل : أراد الخواطر الملكية الروحانية . قوله { من الجن والإِنس والطير } أي من الصفات الشيطانية والإنسانية والملكية { فهم يوزعون } على طبيعتهم بالشريعة وادي النمل هوى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها { قالت نملة } هي النفس اللوامة { يا أيها النمل } هي الصفات النفسانية { ادخلوا مساكنكم } محالكم المختلفة وهي الحواس الخمس { وهم لا يشعرون } أنهم على الحق وأنتم على الباطل لأن الشمس لا حس عندها من نورها ولا من الظلمة التي تزيلها { نعمتك التي أنعمت عليّ } بتسخير جنودي لي وعلى والديّ وهما الروح والجسد . أنعم على الروح بإفاضة الفيوض ، وعلى الجسد باستعماله في أركان الشريعة . وفي قوله { بنبأ يقين } إشارة إلى أن من أدب المخبر أن لا يخبر إلا عن يقين وبصيرة ولا سيما عند الملوك . وفي قول سليمان { سننظر أصدقت } إشارة إلى أن خبر الواحد وإن زعم اليقين لا يعوّل عليه إلا بأمارات أخر . { كتاب كريم } كأنها عرفت أنها بكرامته تهتدي إلى حضرة الكريم : إن ملوك الصفات الربانية { إذا دخلوا قرية } الشخص الإنساني { أفسدوها } بإفساد الطبيعة الحيوانية { وجعلوا أعزة أهلها } وهم النفس الأمارة وصفاتها { أذلة } بسطوات التجلي { وكذلك يفعلون } مع الأنبياء والأولياء . وفي قوله { أيكم يأتيني بعرشها } إشارة إلى أن سليمان كان واقفاً على أن في قومه من هو أهل لهذه الكرامة وكرامات الأولياء من قوة إعجاز الأنبياء { قيل لها ادخلي الصرح } فيه دليل على أن سليمان أراد أن ينكحها وإلا لم يجوّز النظر إلى ساقيها . { وأسلمت نفسي } للنكاح { مع سليمان لله } وفي الله .
تأويل آخر : { وتفقد الطير } هم أهل العشق الطيارة في فضاء سماء القدس وجوّ عالم الإنس . والهدهد الرجل العلمي الذي عول على فكره وإعمال قريحته في استنباط خبايا الأسرار وكوامن الأستار . { عذاباً شديداً } بالرياضة والمجاهدة . { أو لأذبحنه } بسكين مخالفات الإرادة .

سبأ مدينة الاختلاط والإنس بالإنس والمرأة الدنيا وبهجتها ، وعرشها العظيم حب الجاه والمناصب يسجدون لشمس عالم الطبيعة وهو الهوى ، والهدية عرض الدنيا وزينتها ، والإتيان بالعرش قبل إتيانهم هو إخراج حب الجاه من الباطن حتى تنقاد الأعضاء والجوارح بالكلية لاشتغال العبودية . آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه . والعفرين الرياضة الشديدة والذي عنده علم من الكتاب هو الجذبة التي توازي عمل الثقلين ، وتنكير العرش تغيير حب الجاه للهوى بحبه للحق ، والقصر قصر التصرف في الدنيا للحق بالحق ، وكشف الساق كناية عن اشتداد الأمر عليه ، والقوارير عبارة عن رؤية بواطن الأمور مع الاشتغال بظواهرها ، وهذه من جملة منطق يفهم إن شاء العزيز وحده والله أعلم .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)

القراآت : { لتنبيه } على الجمع المخاطب وهكذا { لتقولن } : حمزة وعلي وخلف . الباقون بالنون فيهما على التكلم { مهلك } بفتح الميم واللام : أبو بكر غير البرجمي وحماد والمفضل . وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام . الباقون بضم الميم وفتح اللام والكل يحتمل المصدر والمكان والزمان { أنا دمرناهم } و { أن الناس } بالفتح فيهما : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ورويس { أئنكم } مذكور في « الأنعام » { يشكرون } بياء الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم { أءله } مثل { أئنكم } { الريح } على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف { يذكرون } بياء الغيبة : ابو عمرو وهشام . الآخرون بتاء الخطاب { بل أدرك } بقطع الهمزة وسكون الدال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد المفضل { بل ادّرك } بهمزة موصولة ودال مشددة : الشموني . الباقون مثله ولكن بألف بعد الدال .
الوقوف : { يختصمون } 5 { الحسنة } ج لابتداء استفهام آخر مع اتحاد القائل . { ترحمون } 5 { معك } ط { تفتنون } 5 { ولا يصلحون } 5 { لصادقون } 5 { لا يشعرون } 5 { مكرهم } ط لمن قرأ . « إنا » بكسر الألف على الاستئناف . { أجمعين } 5 { ظلموا } ط { يعلمون } 5 { يتقون } 5 { تبصرون } 5 { النساء } ط { تجهلون } 5 { قريتكم } ج لاحتمال تقدير لام التعليل { يتطهرون } 5 { إلا أمرأته } ز لاحتمال أن ما بعده مستأنف والأظهر أنه حال تقديره استثناء امرأته مقدرة { في الغابرين } 5 { مطر المنذرين } 5 { اصطفى } ط { يشكرون } 5 ط لأن ما بعده استفهام متسأنف و « أم » منقطعة تقديره بل أمن خلق السموات خير أمّا يشركون وكذلك نظائره { ماء } ج للعدول مع اتحاد المقول { بهجة } ط ولاحتمال الحال أي وقد ورد { خيراً } ط { القتال } ط { عزيزاً } 5 ج للآية والعطف { فريقاً } 5ج لاحتمال أن يكون ما بعده استئنافاً أو حالاً { تطؤها } ط { قديراً } 5 { جميلاً } 5 { عظيماً } 5 { ضعفين } ط { يسيراً } 5 مرتين لا لأن التقدير وقد أعتدنا { كريماً } 5 { معروفاً } ج للعطف { ورسوله } ط { تطهيراً } 5 لوقوع العوارض بين المعطوفين { والحكمة } ط { خبيراً } 5 { عظيماً } 5 { من أمرهم } ط { مبيناً } 5 { الناس } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { تخشاه } ط { منهن وطراً } ط { مفعولاً } 5 { له } ط { من قبل } لا { مقدوراً } 5 لا بناء على أن { الذين } وصف أو بدل { إلا الله } ط { حسيباً } 5 { النبيين } ط { عليماً } 5 .
التفسير : لما فرغ من توبيخ المنافقين حث جمع المكلفين على مواساة الرسول وموازرته كما واساهم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مداحض الأقدام . والأسوة القدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به ، فالمراد أنه في نفسه كما تقول في البيضة عشرون منا حديداً اي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد .

والمراد أن فيه خصلة هي المواساة بنفسه فمن حقها أن يؤتسى بها وتتبع . قال في الكشاف : قوله { لمن كان } بدل من قوله { لكم } وضعف بأن بدل الكل لا يقع من ضمير المخاطب فالأظهر أنه وصفة الأسوة . والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف . وقوله { يرجو الله واليوم الآخر } كقولك : رجوت زيداً وفضله أي رجوت فضل زيد ، أو اريد يرجو ايام الله واليوم الآخر خصوصاً . وقوله { وذكر } معطوف على { كان } وفيه أن المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي واظب على ذكر الله وعمل ما يصلح لزاد المعاد . ثم حكى أن ما ظهر من المؤمنين وقت لقاء الأحزاب خلاف حال المنافقين . وقوله { هذا } إشارة إلى الخطب أو البلاء . عن ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً اي في آخر تسع ليال أو عشر ، فلما رأوهم قد اقبلوا للميعاد قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وقد وقع . { وصدق الله ورسوله } في كل وعد { وما زادهم إلا إيماناً } بمواعيده إلا فساد همهم بقتل نبيهم . والتقاسم التحالف فإن كان أمراً فظاهر وإن كان خبراً فمحله نصب بإضمار « قد » اي قالوا متقاسمين : والتبييت العزم على إهلاك العدوّ ليلاً . وأشير على الإسكندر بالبيات فقال : ليس من آيين الملوك استراق الظفر . قال في الكشاف « كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين . ثم قالوا لولاة دمه : ما شهدنا مهلك أهله فإذا ذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما . قلت : إنما ارتكب هذا التكليف لأنه استقبح أن يأتي العاقل بالخبر على خلاف المخبر عنه . يروى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى الشعب مبادرين وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فهذا مكرهم ، فبعث الله صخرة فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلاً في مكانه ونجى صالحاً ومن معه وهذا مكر الله . وقيل : جاؤا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله الملائكة فدمغوهم بالحجارة يرون الحجارة ولا يرون رامياً . من قرأ { أنا دمرناهم } بالفتح فمرفوع المحل بدلاً من العاقبة أو خبراً لمحذوف أي هي تدميرهم ، أو منصوب على أنه خبر » كان « أي كان عاقبة مكرهم الدمار ، أو مجرور تقديره : لأنا وجوز في الكشاف على هذا التقدير أن يكون منصوباً بنزع الخافض . وانتصب { خاوية } على الحال والعامل معنى الإشارة في تلك . وإنما قال في هذه السورة { وأنجينا الذين آمنوا } موافقة لما بعده { فأنجيناه وأهله } { وأمطرنا } وكله على » أفعل « .

وقال في « حم السجدة » { ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ فصلت : 18 ] موافقة لما قبله وما بعده وزينا وقيضنا والله أعلم .
القصة الخامسة قصة لوط { و } انتصب { لوطاً } بإضمار « اذكر » أو بما دل عليه { ولقد أرسلنا } و « إذ » بدل على الأول بمعنى مجرد الوقت ظرف على الثاني ، و { يبصرون } إما من بصر الحاسة فكأنهم كانوا معلنين بتلك المعصية في ناديهم ، أو أراد ترون آثار العصاة قبلكم ، أو من بصر القلب والمراد تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا بمثلها ، وعلى هذا فمعنى قوله { بل أنتم قوم تجهلون } أنكم تفعلون فعل الجاهلية بأنها فاحشة مع علمكم بذلك ، أو اراد جهلهم بالعاقبة ، أو اراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها . أو الخطاب في قوله { تجهلون } تغليب ولو قرئ بياء الغيبة نظراً إلى الموصوف وهو قوم لجاز من حيث العربية ، وباقي القصة مذكور في « الأعراف » { قل الحمد لله } قيل : هو خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الذنوب وبالنجاة من العذاب . وقيل : أمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم وبالتسليم على الأنبياء وأشياعهم الناجين ، والأكثرون على أنه خطاب مستأنف لأنه صلى الله عيله وسلم كان كالمخالف لمن تقدمه من الأنبياء من حيث إن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه ، فأمره الله سبحانه بأن يشكر ربه على هذه النعمة ويسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة . ثم شرع في الدلالة على الوحدانية والرد على عبدة الأوثان ، وفيه توقيف على أدب حسن وبعث على التيمن بالحمد والصلاة قبل الشروع في كل كلام يعتد به ، ولذا توارثه العلماء خلفاً عن سلف فافتتحوا بهما أمام كل كتاب وخطبة ، وعند التكلم بكل أمر له شأن . قال جار الله : معنى الاستفهام « وأم » المتصلة في قوله { الله خير أمّا يشركون } إلزام وتبكيت وتهكم بحالهم وتنبيه على الخطأ المفرط والجهل المفرط؛ فمن المعلوم أنه لا خير فيما اشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه . قلت : يحمل أن يكون هذا من قبيل الكلام المنصف . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال : بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم . ثم عدل عن الاستفهام بذكر الذات إلى الاستفهام بذكر الصفات مبتدئاً بما هو أبين الحسيات فقال : { أمن خلق السموات } وإنما قال ههنا { وأنزل لكم } واقتصر في إبراهيم على قوله { وأنزل } [ إبراهيم : 32 ] لأن لفظة { لكم } وردت هناك بالآخرة ، وليس قوله { ما كان لكم } مغنياً عن ذكره لأنه نفي لا يفيد معنى الأول . ومعنى الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله { فأنبتنا } تأكيد معنى اختصاص الإنبات بذاته لأن الإنسان قد يتوهم أن له مدخلاً في ذلك من حيث الغرس والسقي .

والحدائق جمع حديقة البستان عليه حائط من الإحداق والإحاطة . والبهجة الحسن والنضارة لأن الناظر يبتهج به . وإنما لم يقل ذوات بهجة على الجمع لأن المعنى جماعة حدائق كما يقال : النساء ذهبت . ومعنى { أءله مع الله } أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له . قال في الكشاف : قوله { بل هم } بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم . قلت : إنما تعين الغيبة ههنا لأن الخطاب في قوله { ما كان لكم } إنما هو لجميع الناس أي ما صح وما ينبغي للإنسان أن يتأتى منه الإنبات . ولو قال بعد ذلك بل أنتم لزم أن يكون كل الناس مشركين وليس كذلك . وقوله { يعدلون } من العدل أو من العدول اي يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد .
ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها . والقرار المستقر اي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها . والحاجز البرزخ كما في « الفرقان » . ثم استدل بحاجة الإنسان إليه على العموم . والمضطر الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله سبحانه ، وإنه افتعال من الضر . وعن ابن عباس : هو المجهود . وعن السدي : الذي لا حول له ولا قوة . وقيل : هو المذنب ودعاؤه استغفاره . والمضطر اسم جنس يصلح للكل وللبعض فلا يلزم من الآية إجابة جميع المضطرين ، نعم يلزم الإجابة بشرائط الدعاء كما مر في « البقرة » وفي ادعوني وقوله { ويكشف السوء } كالبيان لقوله { يجيب المضطر } والخلافة في الأرض إما بتوارث السكنى وإما بالملك والتسلط وقد مر في آخر « الأنعام » . وقوله { قليلاً ما تذكرون } معناه تذكرون تذكراً قليلاً ، ويجوز أن يراد بالقلة العدم . ثم استدل لحاجة الناس وخصوصاً الهداية في البر والبحر بالعلامات وبالنجوم ، ثم استدل باحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وذلك أنهم كانوا معترفين بالإبداء ودلالة الإبداء على الإعادة دلالة ظاهرة فكأنهم كانوا مقرين بالإعادة أيضاً ، فاحتج عليهم بذلك لذلك . والرزق من السماء الماء ومن الأرض النبات . واعلم أن الله سبحانه ذكر قوله { أءله مع الله } في خمس آيات على التوالي وختم الأولى بقوله { بل هم قوم يعدلون } ثم بقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } ثم بقوله { قليلاً ما تذكرون } ثم بقوله { تعالى الله عما يشركون } ثم { هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } والسر فيه أن أول الذنوب العدول عن الحق ، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا ، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال فاشركوا من غير حجة وبرهان . قل لهم يا محمد : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلهاً آخر . وحين بين اختصاصه بكمال القدرة أراد أن يبين اختصاصه بعلم الغيب . قال في الكشاف : هذا على لغة بني تميم يرفعون المستثنى المنقطع على البدل إذا كان المبدل منه مرفوعاً يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار كأن أحداً لم يذكر كقوله :

وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
والمعنى إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب كما أن معنى البيت إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتاً للقول بخلوها عن الأنيس . قلت : لقائل أن يقول : إن استثناء نقيض المقدم غير منتج فلا يلزم من استحالة كون الله سبحانه في كل مكان ممن في السموات والأرض أنهم لا يعلمون الغيب ، ولا من امتناع كون اليعافير أنيساً القطع بخلوّ البلدة عن الأنيس . وقال غيره : إن الاستثناء متصل لأن الله سبحانه في كل مكان بالعلم فيصح الرفع عند الحجازيين ايضاً . وزيفه في الكشاف بأن كونه في السموات والأرض بالعلم مجاز ، وكون الخلق فيهن حقيقة من حيث حصول ذواتهم في تلك الأحياز ، ولا يصح أن يريد المتكلم بلفظ واحد حقيقة ومجازاً معاً . وأجيب بأنا نحمل كون الخلق فيهن على المعنى المجازي أيضاً لأنهم أيضاً عالمون بتلك الأماكن لا أقل من العلم الإجمالي . وضعفه في الكشاف بأن فيه إيهام تسوية بين الله وبين العبد في العلم وهو خروج عن الأدب . ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : « بئس خطيب القوم أنت » لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى . والحق أن وقوع اللفظ على الواجب وعلى الممكن بمعنى واحد لا بد أن يكون بالتشكيك إذ هو في الواجب أدل وأولى لا محالة ، فهذا الوهم مدفوع عند العاقل ولا يلزم منه سوء الأدب ، ولهذا جاز إطلاق العالم والرحيم والكريم ونحوهما على الواجب وعلى الممكن معاً من غير محذور شرعي ولا عقلي ، وليس هذا كالجمع بين الضميرين إذا كان يمكن للقائل أن يفرق بينهما فيزداد الكلام جزالة وفخامة . عن عائشة : من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } وعن بعضهم : أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن الخلق مكره . قال المفسرون : سال المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة فنزلت . وأيان بمعنى متى . إلا أنه لا يسأل به إلا عن أمر ذي بال وهو « فعال » من أن يئين فلو سمي به لانصرف ، وحين ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ولا يشعرون البعث الكائن ووقته بين أن عندهم عجزاً آخر أبلغ منه وهو أنهم ينكرون الأمر الكائن مع أن عندهم أسباب معرفته فقال { بل ادّارك } أي تدارك . ومن قرأ بغير الألف فهو « افتعل » من الدرك أي تتابع واستحكم . ومعنى أدرك بقطع الهمزة انتهى وتكامل علمهم في الآخرة أي في شأنها ومعناها ، ويمكن أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكماً بهم كما يقول لأجل الناس : ما أعلمك .

وإذا لم يعرفوا نفس البعث يقيناً فلأن لا يعرفوا وقته أول . ويحتمل أن تكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولهم « أدركت الثمرة » لأن تلك غايتها التي عندها تعدم . وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك ، وصفهم أوّلاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم أضرب عن ذلك قائلاً إنهم لا يعلمون القيامة فضلاً عن وقتها ثم إن عدم العلم قد يكون مع الغفلة الكلية فأضرب عن ذلك قائلاً إنهم ليسوا غافلين بالكلية ولكنهم في شك ومرية ، ثم إن الشك قد يكون بسبب عدم الدليل فأضرب عن ذلك قائلاً إنهم عمون عن إدراك الدليل مع وضوحه ، وقد جعل الآخرة مبدأ أعمالهم ومنشأه فلهذا عداه بمن دون « عن » والضمائر تعود إلى من في السموات والأرض . وذلك أن المشركين كانوا في جملتهم فنسب فعلهم إلى الجميع كما يقال : بنو فلان فعلوا . وإنما فعله ناس منهم قاله في الكشاف . قلت : قد تقدّم ذكر المشركين في قوله { بل هم قوم يعدلون } وغيره فلا حاجة إلى هذا التكلف ولو لم يتقدّم جاز للقرينة .
التأويل : { ولقد أرسلنا } صالح القلب بالإلهام الرباني إلى صفات القلب وهو الفريق المؤمن ، وإلى النفس وصفاتها وهو الفريق الكافر . والسيئة طلب الشهوات واللذات الفانية ، والحسنة طلب السعادات الباقية . وكان في مدينة القالب الإنساني { تسعة رهط } هم خواص العناصر الأربعة والحواس الخمس { يفسدون } في ارض القلب بإفساد الاستعداد الفطري { تقاسموا } بالموافقة على السعي في إهلاك القلب وصفاته وأن يقولوا لوليه وهو الحق سبحانه . ما أهلكناهم وما حضرنا مع النفس الأمَّارة حين قصدت هلاكهم { ومكروا مكراً } في هلاك القلب بالهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية { ومكرنا مكراً } بتوارد الواردات الربانية وتجلي صفات الجمال والجلال { وهم لا يشعرون } أن صلاحهم في هلاكهم . فمن قتلته فأنا ديته { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } أنا أفنينا خواص التسعة وآفاتها وأفنينا قومهم أجميعن وهم النفس وصفاتها { فتلك بيوتهم } وهي القالب والأعضاء التي هي مساكن الحواس خالية عن الحواس المهلكة والآفات الغالبة { بما ظلموا } أي وضعوا من نتائج خواص العناصر وآفات الحواس في غير موضعها وهو القلب ، وكان موضعها النفس بأمر الشارع لا بالطبع لصلاح القالب وبقائه { وأنجينا الذين آمنوا } وهم القلب وصفاته من شر النفس وصفاتها . ولوط الروح { إذ قال لقومه } وهم القلب والسر والعقل عند تبدل أوصافهم بمجاورة النفس { أتأتون الفاحشة } وهي كل ما زلت به اقدامهم عن الصراط المستيم وأمارتها في الظاهر إتيان المناهي على وفق الطبع ، وفي الباطن حب الدنيا وشهواتها { وأنتم تبصرون } تميزون الخير من الشر .

وإتيان الرجال دون النساء عبارة عن صرف الاستعداد فيما يبعد عن الحق لا فيما يقرب منه { فما كان جواب قومه } وهم القلب المريض بتعلق حب الدنيا والسر المكدر بكدورات الرياء والنفاق والعقل المشوب بآفة الوهم والخيال { أخرجوا } الصفات الروحاينة من قرية الشخص الإنساني { إنهم أناس يتطهرون } من لوث الدنيا وشهواتها { فأنجيناه وأهله } وهم السر والعقل وصفاتهما من عذاب تعلق الدنيا { إلا امرأته } وهي النفس الأمارة بالسوء { وأمطرنا } على النفس وصفاتها مطراً بترك الشهوات { فساء مطر المنذرين } أي صعب فإِن الفطام من المألوفات شديد وهذه حالة مستدعية للحمد والشكر فلهذا قال { قل الحمد لله وسلام } من تعلقات الكونين وآفات الوجود المجازي { على عباده } { أمن خلق } سموات القلوب وأرض النفوس وأنزل من سماء القلب ماء نظر الرحمة { فأنبتنا به حدائق } من العلوم والمعاني والأسرار { أءله مع الله } من الهوى { أمن جعل } أرض النفس { قراراُ } في الجسد { وجعل خلالها أنهاراً } من دواعي البشرية { وجعل لها رواسي } من القوى والحواس { وجعل بين } بحر الروح وبحر النفس { حاجزاً } القلب فإن في اختلاطهما فساد حالهما { أءله مع الله } كما زعمت الطبائعية { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } في العدم بلسان الحال { ويجعلكم } مستعدين لخلافته في الأرض { أءله مع الله } كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد { أمن يهديكم في ظلمات } بر البشرية وبحر الروحانية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية والمراد يهديكم بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية ، ومن ظلمات خلقته الروحانية إلى نور الربوبية وذلك حين يرسل رياح العناية بين يدي سحاب الهداية { أءله مع الله } كما يقول المنجمون : مطرنا بنوء كذا . وكما يقوله قاصروا النظر : هدانا الشيخ والمعلم إلى كذا { من يبدأ الخلق } بالوجود المجازي { ثم يعيده } بالوجود الحقيقي إلى عالم الوحدة { ومن يرزقكم } من سماء الربوبية لتربية الأرواح ومن أرض بشرية الأشباح { أءله مع الله } كائناً من كان دليله أنه لا يعلم الغيب إلا هو ومن جملته علم قيام الساعة والله أعلم .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

القراآت : { أيذا } { أينا } بياء مكسورة بعد همزة مفتوحة : ابن كثير ويعقوب غير زيد . مثله ولكن بالمد : ابو عمرو وزيد { أيذا } بهمزة مفتوحة ثم ياء مكسورة { إنا } بكسر الهمزة وبعدها نون مشددة : سهل { إذا } من غير همزة الاستفهام { آينا } بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة : يزيد وقالون ، مثله ولكن من غير مد : نافع غير قالون { أئذا } بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة { إنا } بهمزة مكسورة بعدها نون مشددة : علي وابن عامر هشام يدخل بينهما مدة { أئذا } { أئنا } بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة فيهما : حمزة وخلف وعاصم . { ولا يسمع } بفتح الياء التحتانية { الصم } بالرفع : ابن كثير وعباس وكذلك في « الروم » . الآخرون بضم التاء الفوقانية وكسر الميم ونصب الصمّ { وما أنت تهدي } على أنه فعل العمى بالنصب وكذلك في « الروم » حمزة . الباقون { بهادي } على أنه اسم فاعل العمى بالجر أتوه مقصوراً على أنه فعل ماض : حمزة وخلف وحفص والمفضل . الآخرون بالمد على أنه اسم فاعل بما يفعلون على الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحماد والأعشى والبرجمي والحلواني عن هشام . { فزع } بالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف { يومئذ } بفتح الميم : حمزة وأبو جعفر ونافع ، الباقون بكسرها { تعملون } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص .
الوقوف : { لمخرجون } 5 { من قبل } لا تحرزاً عن الابتداء بمقول الكفار { الأولين } 5 { المجرمين } 5 { يمكرون } 5 { صادقين } 5 { تستعجلون } 5 { لا يشكرون } 5 { وما يعلنون } 5 { مبين } 5 { يختلفون } 5 { للمؤمنين } 5 { بحكمه } ج تعظيماً للابتداء بالصفتين مع اتفاق الجملتين { العليم } 5 ج للآية واختلاف الجملتين وللفاء واتصال المعنى اي إذا كان الحكم لله فأسرع اتوكل { على الله } ط { المبين } 5 { مدبرين } 5 { ضلالتهم } ط { مسلمون } 5 { تكلمهم } ج لمن قرأ بكسر الألف فإنه يحتمل أن يكون الكسر للابتداء ولكونها بعد التكليم لأنه في معنى القول ، ومن فتح فلا وقف إذ التقدير تكلمهم بأن { لا يوقنون } 5 { يوزعون } 5 { تعملون } 5 { لا ينطقون } 5 { مبصراً } ط { يؤمنون } 5 { من شاء الله } ط { داخرين } 5 { السحاب } ط { كل شيء } ط { تفعلون } 5 { خير منها } لا لأن ما بعده من تتمة الجزاء { آمنون } 5 لا لعطف جملتي الشرط { في النار } 5 { تعملون } 5 { شيء } ز للعارض وطول الكلام مع العطف { المسلمين } 5 لا للعطف { القرآن } ج { لنفسه } ج { المنذرين } 5 { فتعرفونها } ط { تعملون } 5 .
التفسير : لما ذكر أن المشركين في شك من أمر البعث عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين عامة شبهتهم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم تراباً عند الحس . قال النحويون : العامل في « إذا » ما دل عليه { أئنا لمخرجون } وهو نخرج والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة .

وإنما ذهبوا إلى هذا التكلف بناء على أن ما بعد همزة الاستفهام وكذا ما بعد « أن » واللام لا يعمل فيما قبلها لأن هذه الأشياء تقتضي صدر الكلام ، وتكرير حرف الاستفهام في « إذا » و « أن » جميعاً إنكار على إنكار . والضمير في « أنا » لهم ولآبائهم جميعاً وقد مر في سورة المؤمنين تفسير قوله { لقد وعدنا } وبيان المتشابه فليدّكر . ثم أوعدهم على عدم قبول قول الأنبياء بالنظر في حال الأمم السالفة المكذبة . ولم تؤنث « كان » لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي ، أو لأن المراد كيف كان عاقبة أمرهم . والمراد بالمجرمين الكافرون لأن الكفر جرم مخصوص وفيه تنبيه على قبح موقع الجرم اياماً كان؛ فعلى المؤمن أن يتخوّف عاقبتها ويترك الجرائم كلها كيلا يشارك الكفرة في هذا الاسم الشنيع . ومعنى قوله { ولا تحزن عليهم } الآية . قد مر في آخر « النحل » . وفي هذه الآي تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يناله من قومه . ثم إنهم استعجلوا العذاب الموعود على سبيل السخرية فأمره أن يقول لهم { عسى أن يكون } وهذه على قاعدة وعد الملوك ووعيدهم يعنون بذلك القطع بوقوع ذلك الأمر مع إظهار الوقار والوثوق بما يتكلمون . وإن كان على سبيل الرجاء والطمع ولمثل هذا قال { ردف لكم بعض الذي } دون أن يقول « ردف لكم الذي » . واللام زائدة للتأكيد كالباء في { ولا تلقوا بأيديكم } [ البقرة : 195 ] أو أريد أزف لكم ودنا لكم يتضمن فعل يتعدى بالام ومعناه تبعكم ولحقكم . وقال بعضهم : المقتضي للعذاب والمؤثر فيه حاصل في الدنيا إلا أن الشعور به غير حاصل كما للسكران أو النائم ، فتمام العذاب إنما يحصل بعد الموت وإن كان طرف منه حاصلاً في الدنيا فلهذا ذكر البعض . ثم ذكر أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة في الدنيا ولكنهم لا يشكرون هذه النعمة فيتسعجلون وقوع العقاب بجهلهم ، وفيه دليل على أن نعمة الله تعم الكافر والمؤمن . ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم مما يخفون كالقصود والدواعي وعلى ما يظهرون من أفعال الجوارح وغيرها ، ولعل الغرض أنه يعلم مايخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك . ثم أكد ذلك بأن المغيبات كلها ثابتة في اللوح المحفوظ ، والعاقبة إما مصدر كالعافية ، وإما اسم غير صفة كالذبيحة والربيئة ، وإما صفة والتاء للمبالغة كالرواية في قولهم « ويل للشاعر من راوية السوء » كأنه قيل : وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وهو مثبت في الكتاب الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة .

ثم بين لدفع شبه القوم إعجاز القرآن المطابق قصصه لما في التوراة والإنجيل مع كونه صلى الله عليه وسلم أمياً ، والمطابق غرضه لما هو الحق في نفس الأمر ، وقد حرفه بنوا إسرائيل وجهه كاختلافهم في شأن المسيح في كثير من الشرائع والأحكام ، وذكر أنه هدى ورحمة لمن آمن منهم وأنصف أو منهم ومن غيرهم .
ثم ذكر أن من لم ينصف منهم فالله يقضي بينهم بحكمة أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً { وهو العزيز } الذي لا يغالب فيما يريد { العليم } بما يحكم وبمن يحكم لهم أو عليهم . ثم أمره بالتوكل وقلة المبالاة بأعداء الدين وعلل ذلك بأمرين : أحدهما أنه على الحق الأبلج وفيه أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بنصرة الله ، وثانيهما قوله { إنك لا تسمع الموتى } لأنه إذا علم أن حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون والعمي الذين لا يبصرون ولا يهتدون ، صار ذلك سبباً قوياً في إظهار مخالفتهم وعدم الاعتداد بهم . وقوله { إذا ولوا مدبرين } تأكيد لأن الأصم إذا توجه إلى الداعي لم يرج منه سماع فكيف إذا ولى مدبراً وهداه عن الضلالة كقولك « سقاه عن العيمة » . ثم بين أن إسماعه لا يجدي إلا على الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته { فهم مسلمون } أي مخلصون منقادون لأمر الله بالكلية . ثم هدد المكلفين بذكر طرف من اشراط الساعة وما بعدها فقال { وإذا وقع القول } اي دنا وشارف أن يحصل مؤاده ومفهومه { عليهم } وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب { أخرجنا لهم دابة من الأرض } وهي الجساسة . وقد تكلم علماء الحديث فيها من وجوه : أحدها في مقدار جسمها . فقيل : إن طولها ستون ذراعاً . وقيل : إن راسها يبلغ السحاب . وعن أبي هريرة : ما بين قرنيها فرسخ للراكب . وثانيها في كيفية خلقتها فروي لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان . وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هر وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً . وثالثها في كيفية خروجها؛ عن علي رضي الله عنه أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها . وعن الحسن : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام . ورابعها مكان خروجها ، « سئل النبي صلى الله عليه وسلم من اين تخرج الدابة؟ فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله » يعني المسجد الحرام . وقيل : تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية . وخامسها في عدد خروجها؛ روي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ، ثم تكمن دهراً طويلاً فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة .

وسادسها فيما يصدر عنها من الآثار والعجائب فظاهر الآية أنها تكلم الناس ، وفحوى الكلام { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } قال جار الله : معناه أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات . ومن قرأ ( إن ) مكسورة فقولها حكاية قول الله فلذلك قالت { بآياتنا } أو المعنى بآيات ربنا فحذف المضاف أو سبب الإضافة اختصاصها بالله كما يقول بعض خاصة الملك : خيلنا وبلادنا . وإنما هي خيل مولاه وبلاده . عن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام . وعن ابن عمر : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشأم ثم اليمن فتفعل مثل ذلك . روي بينا عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون وإذ تضطرب الرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ويكتب بين عينيه « مؤمن » وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه ويكتب بين عينيه « كافر » . وروي أنها تقول لهم : يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار . وقيل : تكلمهم من الكلم على معنى التبكيت والمراد به الجرح وهو الوسم بالعصا والخاتم .
ثم ذكر طرفاً مجملاً من أهوال يوم القيامة قائلاً { ويوم } أي واذكر يوم { نحشر من كل أمة فوجاً } أي جماعة كثيرة { ممن يكذب } هذه للتبيين والأولى للتبعيض وقوله { بآياتنا } يحتمل معجزات جميع الرسل أو القرآن خاصة . وقد مر معنى قوله { فهم يوزعون } في وصف جنود سليمان أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار . وعن ابن عباس : الفوج أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة ، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار . والواو في قوله { ولم تحيطوا } للحال كأنه قيل : أكذبتم بآياتي بادي الرأي من غير الوقوف على حقيقتها وأنها جديرة بالتصديق أو بالتكذيب . ويجوز أن تكون الواو للعطف والمعنى أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتفهمها ، فقد يجحد المكتوب إليه كون الكتاب من عند من كتبه ومع ذلك لا يدع تفهم مضمونه وأن يحيط بمعانيه . قال جار الله : { أمّاذا كنتم تعملون } للتبكيت لا غير لأنهم لم يعملوا إلا التكذيب ولم يشتهر من حالهم إلا ذلك . وجوّز أن يراد ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك كأنكم لم تخلقوا إلا لأجله .

وقال غيره : أراد لما لم يشتغلوا بذلك العمل المهم وهو التصديق فأيّ شيء يعملونه بعد ذلك؟ لأن كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل . قال المفسرون : يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها وذلك قوله { ووقع القول عليهم } أي العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار . ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة وأحوالها ذكر ما يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال { ألم يروا } الآية . ووجه دلالته على التوحيد أن التقليب من النور إلى الظلمة وبالعكس لا يتم إلا بقدرة قاهرة ، ودلالته على الحشر أن النوم يشبه الموت والانتباه يشبه الحياة ، ودلالته على النبوّة أن كل هذا لمنافع المكلفين وفي بعثة الرسل إلى الخلق ايضاً منافع جمة ، فما المانع لمفيض الخيرات من إيصال بعض المنافع دون البعض ، أو من رعاية بعض المصالح دون البعض؟ ووصف النهار بالإبصار إنما هو باعتبار صاحبه وقد مر في « يونس » . والتقابل مراعى في الآية من حيث المعنى كأنه قيل : ليسكنوا فيه وليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب . ثم عاد إلى ذكر علامة أخرى للقيامة فقال { ويوم ينفخ في الصور } وقد تقدم تفسيره في « طه » و « المؤمنين » . وقوله { ففزع } كقوله { ونادى } [ الأعراف : 48 ] { وسيق } [ الزمر : 73 ] والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون { إلا من شاء الله } قال أهل التفسير : إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة . وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل . وقيل : هم الشهداء . وعن الضحاك : الحور وخزنة النار وحملة العرش . وعن جابر أن منهم موسى لأنه صعق مرة . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة { ففزع } موافقة لقوله { وهم من فزع يومئذ آمنون } وفي « الزمر » قال { فصعق } [ الزمر : 68 ] لأن معناه فمات وقد سبق { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] .
ومعنى { داخرين } صاغرين أذلاء . وقيل : معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية . وجوّز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له . قال أهل المناظرة : إن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً ، فأخبر الله سبحانه أن حال الجبال يوم القيامة كذلك تجمع فتسير كما تسير الريح السحاب ، فإذا نظر الناظر حسبها جامدة أي واقفة في مكان واحد . { وهي تمرّ مرّ السحاب } قال جار الله { صنع الله } من المصادر المؤكدة كقوله « وعد الله » إلا أن مؤكدة محذوف وهو الناصب ل { يوم ينفخ } والمعنى يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين صنع الله ، فجعل الإثابة والمعاقبة من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب .

قلت : لا يبعد أن يكون الناصب ل { يوم ينفخ } هو « اذكر » مقدراً ، ويكون { صنع الله } مصدراً مؤكداً لنفسه أي صنع تسيير الجبال ومرها صنع الله . قال القاضي عبد الجبار : في قوله { أتقن كل شيء } دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه . وأجيب بأن الاية مخصوصة بغير الأعراض فإن الأعراض لا يمكن وصفها بالإتقان وهو الإحكام لأنه من أوصاف المركبات . قلت : ولو سلم وصف الأعراض بالإتقان فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ، ولو سلم فالإجماع المذكور لعله ممنوع يؤيده قوله { إنه خبير بما تفعلون } وإذا كان خبيراً بكل أفعال العباد على كل نحو يصدر عنهم وخلاف معلومه يمتنع أن يقع فقد صحت معارضة الشعري ، وعلى مذهب الحكيم وقاعدته صدور الشر القليل من الحكيم لأجل الخير الكثير لا ينافي الإتقان والله أعلم . ثم فصل أعمال العباد وجزاءها بقوله { من جاء بالحسنة فله خير منها } إلى آخر الآيتين . وبيان الخيرية بالأضعاف وبأن العمل منقض والثواب دائم ، وبأن فعل السيد بينه وبين فعل العبد بون بعيد على أن الأكل والشرب إنما هو جزاء الأعمال البدنية ، وأما الأعمال القلبية من المعروفة والإخلاص فلا جزاء لها سوء الالتذاذ بلقاء الله والاستغراق في بحار الجمال والجلال جعلنا الله أهلاً لذلك . وقيل : المراد فله خير حاصل منها . وعن ابن عباس : أن الحسنة كلمة الشهادة التني هي أعلى درجات الإيمان . واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يعاقب مسلم . وأجيب بأنه يكفي في الخيرية أن لا يكون عقابه مخلداً . ثم وعد المحسنين أمراً آخر وهو قوله { وهم من فزع يومئذ آمنون } وآمن يعدّى بالجار وبنفسه . والتنوين في فزع في إحدى القراءتين إما للنوع وهو فزع نوع العقاب فإن فزع الهيبة والجلال يلحق كل مكلف وهو الذي أثبته في قوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } وإما للتعظيم أي من فزع شديد لا يكتنهه الواصف وهو خوف النار آمنون . وأما حال العصاة فأن تكب في النار فعبر عن الجملة بالوجه لأنه أشرف أو لأنهم يلقون في الجحيم منكوسين . وقوله { هل تجزون } الخطاب فيه إما على طريقة الالتفات وإما على سبيل الحكاية بإضمار القول أي يقال لهم عند الكب هذا القول . ثم ختم السورة بخلاصة ما أمر به رسوله وذلك أشياء منها : عبادة الرب سبحانه . ثم وصف الرب بأمرين احترازاً من ارباب أهل الشرك أولهما كونه رباً لما هو أقرب في نظر قريش وهو بلدة مكة حرسها الله . وفيه نوع منة عليهم كقوله { حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم }

[ العنكبوت : 67 ] وثانيهما عام وهو قوله { وله كل شيء } ومنها أمره بالإسلام وهو الإذعان الكلي لأوامر الله بجميع أعضائه وجوارحه . ومنها أمره بتلاوة القرآن أي بتلوّه اي أتباعه وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما أمر به أتم قيام حتى خوطب بقوله { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] ثم لما بين سيرته ذكر أن نفع الاهتداء وبال الضلال لا يعود إلا إلى المكلف أو عليه وليس على الرسول إلا البلاغ والإنذار . ثم جعل ختم الخاتمة الأمر بالحمد كما هو صفة أهل الجنة وبعد أمره بالحمد على نعمة النبوة والرسالة هدّد أعداءه بما سيريهم في الآخرة من الآيات الملجئة إلى الإقرار وذلك حين لا ينفعهم الإيمان . قاله الحسن . وعن الكلبي : هي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من العقوبات في الدنيا . { وما ربك بغافل عما تعملون } ولكنه من وراء جزاء العاملين .
التأويل : { قل سيروا } في أرض البشرية { فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين } لأن خواص نفوسهم انموذج من جهنم كما أن خواص أهل القلوب انموذج من الجنة { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم } لأنه خمر طينة آدم بيديه اربعين صباحاً ونفخ فيه من روحه فهو مطلع على قالبه وعلى قلبه ولهذا قال { وما من غائبة } من الخواص في سماء القلب وأرض القالب { إلا في كتاب مبين } وهو علم الله تعالى أن هذا القرآن يقص لأن كل كتاب كان مشتملاً على شرح مقام ذلك النبي ولم يكن لنبي مقام في القرب مثل نبينا ، فلا جرم لم يكن في كتبهم من الحقائق مثل ما في القرآن ولهذا قال { إن ربك يقضي بينهم } اي بين هذه الأمة وبين أمة كل نبي بحكمه أي بحكمته بأن يبلغ متابعي كل نبي إلى مقام نبيهم ويبلغ متابعي نبينا صلى الله عليه وسلم إلى مقام المحبة . فاتبعوني يحببكم الله { وهو العزيز } الذي لعزته لا يهدي كل مثمن إلى مقام حبيبه { العليم } بمن يستحق هذا المقام . { فتوكل على الله إنك على الحق المبين } في دعوة الخلق إلى الله { وإذا وقع القول عليهم } وذلك بعد البلوغ ومضى زمان الرعي في مراتع البهيمية { أخرجنا لهم } من تحت أرض البشرية { دابة تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } وهي النفس الناطقة فإنها إلى الآن كانت موصوفة بصفة الصمم والبكم بتبعية النفس الأمارة التي لا توقن هي وصفاتها بالدلائل . { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون } من كلامه وهي صفات الروح والقلب وذلك بعد التصفية والمداومة على الذكر والفكر ، حتى إذا رجعوا إلى الحضرة { قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أماذا كنتم تعملون } بعد أن كنتم مصدقيها عند خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] وهذا خطاب فيه استبطاء وعتاب وقع قول يحبهم عليه بدل ما ظلموا فهم لا ينطقون كقوله « من عرف الله كل لسانه » { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً } جعلنا ليل البشرية سبباً لاستجمام القلب ونهار الروحانية بتجلي شمس الربوبية مبصراً يبصر به الحق من الباطل .

{ ويوم ينفخ } إسرافيل المحبة في صور القلب { ففزع } من في سموات الروح من الصفات الروحانية ومن في أرض البشرية من الصفات النفسانية { إلا من شاء الله } من أهل البقاء الذين أحيوا بحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء وهي النفخة الأولى في بداية تأثير العناية للهداية وإلقاء المحبة التي تظهر القيامة في شخص المحب . وفزع الصفات هيجانها للطلب بتهييج أنوار المحبة { إلا من شاء الله } وهو الخفي وهي لطيفة في الروح بالقوة وإنما تصير بالفعل عند طلوع شموع الشواهد وآثار التجلي فلا يصيبه الفزع بالنفخة الأولى ولا تدركه الصعقة بالنفخة الثانية { وترى } جبال الأشخاص { جامدة } على حالها { وهي تمر } بالسير في الصفات وتبديل الأخلاق { مر السحاب } { رب هذه البلدة } وهي القلب والرب هو الله كما أن رب بلدة القالب هو النفس الأمارة وأنه تعالى حرم بلدة القلب على الشيطان كما قال { يوسوس في صدور الناس } [ الناس : 5 ] دون أن يقول « في قلوب الناس » { سيريكم آياته فتعرفونها } فيه إذا لم ير الآيات لم يمكن عرفانها اللهم اجعلنا من العارفين واكشف عنا غطاءنا بحق محمد وآله صلى الله وسلم عليهم .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)

القراآت : { ويرى } بفتح الياء وإمالة الراء { فرعون وهامان وجنودهما } مرفوعات : حمزة وعلي وخلف وهكذا قرؤوا قوله { وحزناً } بضم الحاء وسكون الزاي الباقون بفتحها .
الوقوف : { طسم } كوفي . { المبين } 5 { يؤمنون } 5 { نساءهم } ط { المفسدين } 5 { الوارثين } 5 لا للعطف { يحذرون } 5 { أرضعيه } ج للفاء مع احتمال الابتداء بإذا الشرطية { ولا تحزني } ج للابتداء بإن مع أن التقدير فإنا . { من المرسلين } 5 { وحزنا } ط { خاطئين } 5 { ولك } ط { لا تقتلوه } ق والوجه الوصل لأن الرجاء بعده تعليل للنهي . { لا يشعرون } 5 { فارغاً } ط { المؤمنين } 5 { قصيه } ز بناء على أن التقدير فتبعته فبصرت { لا يشعرون } 5 لا بناء على أن الواو للحال أي وقد حرمنا وقوله { فقالت } عطف على قوله { فبصرت } والحال معترض { ناصحون } 5 { لا يعلمون } 5 { وعلماً } 5 { المحسنين } 5 { يقتتلان } لا لأن ما بعده صفة الرجلين ظاهراً ولكن مع إضمار أي يقال لهما هذا من شيعته وهذا من عدوّه ، وليس ببعيد أن يكون مستأنفاً من { عدوّه } الأول ج لأن ما يتلوه معطوف على قوله فوجد مع اعتراض عارض من { عدوّه } الثاني لا للعطف عليه مع عدم اتحاد القائل { الشيطان } ط { مبين } 5 { فغفر له } ط { الرحيم } 5 { للمجرمين } 5 { يستصرخه } ط { مبين } ط { لهما } لا لأن ما بعده جواب « لما » { بالأمس } ط للابتداء بالنفي والوصل أوجه لاتحاد القائل { المصلحين } 5 { يسعى } ز لعدم العاطف مع اتحاد القول { من الناصحين } 5 { يترقب } ز لما قلنا في { يسعى } { الظالمين } 5 .
التفسير : فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة الشعراء . { نتلو عليك } على لسان جبرائيل { من نبأ موسى وفرعون } أي طرفاً من خبرها متلبساً { بالحق } أو محقين { لقوم يؤمنون } لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء . ثم شرع في تفصيل هذا المجمل وفي تفسيره كأن سائلاً سأل : وكيف كان نبؤهما؟ فقال مستأنفاً { إن فرعون علا في الأرض } أي طغى وتكبر في أرض مملكته { وجعل أهلها شيعاً } فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه أو جعلهم أصنافاً في استخدامه فمن بان وحارث وغير ذلك ، أو فرقاً مختلفة بينهم عداوة ليكونوا له أطوع وهم بنو إسرائيل والقبط . وقوله { يستضعف } حال من الضمير في { جعل } أو صفة { شيعاً } أو مستأنف . و { بذبح } بدل منه . وقوله { إنه كان من المفسدين } بيان أن القتل من فعل أهل الفساد لا غير لأن الكهنة إن صدقوا فلا فائدة في القتل ، وإن كذبوا فلا وجه للقتل اللهم إلا أن يقال : إن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا ، وضعفه ظاهر لأن المقدر كائن ألبتة { ونريد } حكاية حال ماضية معطوفة على قوله { إن فرعون علا } فهذه أيضاً تفسير للنبأ .

وجوز أن يكون حالاً من الضمير في { يستضعف } اي يستضعفهم هو ونحن نريد أن نمنّ عليهم في المآل ، فجعلت إرادة الوقوع كالوقوع . { ونجعلهم أئمة } مقدمين في أمور الدين والدنيا . وعن ابن عباس : قادة يقتدى بهم في الخير . وعن مجاهد : دعاة إلى الخير وعن قتادة : ولاة أي ملوكاً . ومعنى الوراثة والتمكين في ارض مصر والشأم هو أن يرثوا ملك فرعون وينفذ فيه أمرهم ، والذي كانوا يحذرون منه هو ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم . يروى أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد . قال ابن عباس : إن أم موسى لما قربت ولادتها أرسلت إلى قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بالحبالى وكانت مصافية لأم موسى وقالت لها : قد نزل بي ما نزل ولينفعني حبك ، فعالجتها فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك هذا حباً شديداً فاحفظيه . فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها نفر من بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعقل ما تصنع لما طاش من عقلها . فدخلوا فإذا التنور مسجور وإذا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا : لم دخلت القابلة عليك؟ قالت : إنها حبيبة لي دخلت للزيارة . فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت : يا أخت موسى أين الصبي؟ فقالت : لا أدري سمعت بكاءه في التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً . فلما ألح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها أن يذبح فألهمها الله تعالى أن تتخذ له تابوتاً ثم تقذف التابوت في النيل . فجاءت إلى النجار وأمرته بنجر تابوت طوله خمسة أشبار في عرض خمسة فعلم النجار بذلك فجاء إلى موكل بذبح الأبناء فاعتقل لسانه فرجع ثم عاد مرات فعلم أنه من الله فأقبل على النجر .
وقيل : لما فرغ من صنعة التابوت ثم أتى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينيه وقلبه بألم فلم يعرف الطريق ، وأيقن أنه من الله وأنه هو المولود الذي يخافه فرعون فآمن في القوت وهو مؤمن آل فرعون . وانطلقت أم موسى وألقته في النيل ، وكانت لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها ، وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا : يا أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبيه الإنس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك في يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس .

فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومع آسية زوجته ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأرياح والأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون : ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا هو صبي صغير في مهده يمص إبهامه لبناً ، وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم ، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها . فقال الأعزة من قوم فرعون : إنا نظن أن هذا هو الذي تحذر منه ، فهمّ فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله .
قال علماء البيان : اللام في قوله { ليكون لهم عدوّاً } لام العاقبة وأصلها التعليل إلا أنه وارد هنا على سبيل المجاز استعيرت لما يشبه التعليل من حيث إن العداوة والحزن كان نتيجة التقاطهم كما أن الإكرام مثلاً نتيجة المجيء في قولك « جئتك لتكرمني » وبعبارة أخرى ، إن مقصود الشيء والغرض منه هو الذي يؤل إليه أمره فاستعملوا هذه اللام فيما يؤل إليه الأمر على سبيل التشبيه وإن لم يكن غرضاً . ومعنى كونهم خاطئين هو أنهم أخطؤا في التدبير حيث ربوا عدوّهم في حجرهم أو أنهم اذنبوا وأجرموا ، وكان عاقبة ذلك أن يجعل الله في تربيتهم من على يديه هلاكهم . قال النحويون { قرة عين } خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولا يقوى أن يجعل مبتدأ و { لا تقتلوه } خبراً لأن الطلب لا يقع خبراً إلا بتأويل ، ولو نصب لكان أقوى لأن الطلب من مظان النصب . روي في حديث أن آسية حين قالت { قرة عين لي ولك } قال فرعون : لك لا لي ، ولو قال هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها . ثم إنها رأت فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وتوسمت فيه أمارات النجابة فقالت { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } فإنه أهل للتبني وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء . قال في الكشاف { وهم لا يشعرون } حال من آل فرعون . وقوله { إن فرعون } الآية . جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم والتقدير : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً . وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه . قلت : لا يبعد أن تكون الجملة حالاً من فاعل { قالت } أي قالت كذا وكذا في حال عدم شعورهم بالمآل وهو أن هلاكهم على يده وبسببه . وقال الكلبي : اي لا يشعرون بنو إسرائيل وأهل مصر أنا التقطناه .

قوله سبحانه { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } قال الحسن : اي فارغاً من كل هم إلا من هم موسى . وقال أبو مسلم : فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله { وأفئدتهم هواء } [ إبراهيم : 43 ] أي جوف لا عقول فيها وذلك أنها حين سمعت بوقوعه عند فرعون طار عقلها جزعاً ودهشاً . وقال محمد بن إسحاق والحسن في رواية : أي فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها وذلك قولنا { فألقيه في اليم ولا تخافي } الغرق وسائر المخاوف { ولا تحزني } والخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع ، والحزن غم يلحقه لواقع فنهيت عنهما جميعاً ، فجاءها الشيطان وقال لها : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت هلاكه . ولما أتاها خبر موسى أنه وقع إلى يد فرعون أنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها . وقال أبو عبيدة : فارغاً من الخوف فالله تعالى يقول { لولا أن ربطنا على قلبها } وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون؟ أما من فسر الفراغ بحصول الخوف فعنده معنى قوله { إن كادت لتبدي به } هو أنها كادت تحدث بأن الذي وجدتموه ابني قاله ابن عباس . وفي رواية عكرمة كادت تقول واإبناه من شدة وجدها به ، وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع . وقال الكلبي : ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون . ثم قال { لولا أن ربطنا على قلبها } بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن { لتكون من المؤمنين } المصدّقين بوعد الله وهو قوله { إنا رادوه إليك } . وأما من فسره بعدم الخوف فالمعنى عنده أنها صارت مبتهجة مسرورة حين سمعت أن فرعون تبناه وعطف عليه ، وأن الشأن أنها قاربت أن تظهر أنه ولدها لولا أن ألهمناها الصبر لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لتبني فرعون وتعطفه . والأول أظهر بدليل قوله { وقالت لأخته قصيه } اي اقتفي اثره وانظري أين وقع وإلى من صار ، وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم { فبصرت به } أي أبصرته { عن جنب } عن بعد أي نظرت إليه مزورّة متجانفة { وهم لا يشعرون } بحالها وغرضها . والتحريم ههنا لا يمكن حمله على النهي والتعبد ظاهراً فلذلك قيل : إنه مستعار للمنع لأن من حرم عليه شيء فقد منعه . وكان لا يقبل ثدي مرضع إما لأنه تعالى منع حاجته إلى اللبن وأحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء ، وإما لأنه أحدث في ألبانهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه . وعن الضحاك : أن أمه أرضعته ثلاثة اشهر فعرف ريحها . و { المراضع } جمع مرضعة وهي المرأة التي تصلح للإرضاع ، أو جمع مرضع وهو الثدي ، أو الرضاع ، فالأول مكان والثاني مصدر و { من قبل } أي من قبل قصصها أثره ، أو من قبل أن رددناه إلى أمه ، أو من قبل ولادته في حكمنا وقضائنا .

روي أنها لما قالت { وهم له ناصحون } قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون . والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد . والمراد أنهم يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه ولا يمنعون ما ينفعه في تربيته وغذائه . فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي يعلله فرعون شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها . فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد ابى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وعين أجرها . قال في الكشاف : إنما أخذت الأجر على إرضاع ولدها لأنه مال حربي استطابته على وجه الاستباحة . قلت : ولعل ذلك لدفع التهمة فإن مال الحربي لم يكن مستطاباً بدليل قوله { وأحلت لي الغنائم } قالوا : كانت عالمة بأن الله تعالىة سينجز وعده ولكن ليس الخبر كالعيان فلهذا قال سبحانه { ولتلعم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم } أي أكثر الناس { لا يعلمون } حقية وعده في ذلك العهد وبعده لإعراضهم عن النظر في آيات الله . وقال الضحاك ومقاتل : يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعد رده إليها . قلت : ويؤيد هذا القول أنه اقتصر على الضمير دون أن يقول « ولكن أكثر الناس » كما قال في سورة يوسف { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ يوسف : 21 ] وقيل : هذا تعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً . وعلى هذا يحتمل أن يكون قوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } من جملة ما يعلمها أي ولتعلم حقية وعد الله وهذا الاستدراك . وجوز في الكشاف أن يتعلق الاستدراك بقوله { ولتعلم } المقصود أن الرد به إنما كان لهذا الغرض الديني وهو العلم بصدق وعد الله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له من قرة العين وذهاب الحزن .
ثم بين سبحانه كمال عنايته في حقه كما بين في قصة يوسف قائلاً : { ولما بلغ أشده } وزاد ههنا قوله { واستوى } فقيل : بلوغ الأشد والاستواء بمعنى واحد . والأصح أنهما متغايران . والأشد عبارة عن البلوغ ، والاستواء إشارة إلى كمال الخلقة . وعن ابن عباس : الأشد ما بين الثمانية عشر إلى ثلاثين ، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين . وهو عند الأطباء سن الوقوف . فلعل يوسف أعطى النبوة في سن النمو وأعطى موسى إياها في سن الوقوف . والعلم التوراة ، والحكم السنة ، وحكمة الأنبياء سنتهم - قيل : ليس في الآية دلالة على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله { ودخل المدينة } لا تفيد الترتيب . قلت : يشبه أن يستدل على أن النبوة كانت بعد قتل القبطي بأنها كانت بعد تزوجه بنت شعيب ، والتزوج كان بعد فراره منهم إلى مدين كما قرره تعالى في هذه السورة .

وقد أجمل ذلك في الشعراء حيث قال حكاية عن موسى { فعلتها إذا وأنا من الضالين ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً } [ الشعراء : 2021 ] وعلى هذا يمكن أن يراد بالواو الترتيب ويكون المعنى : آتيناه سيرة الحكماء والعلماء قبل البعث فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه . أما المدينة فالجمهور على أنها القرية التي كان يسكنها فرعون عن فرسخين من مصر . وقال الضحا : هي عين شمس . وقيل : هي مصر . وحين غفلتهم بين العشاءين أو وقت القائلة أو يوم عيد اشتغلوا فيه باللهو . وقيل : أراد غفلتهم عن ذكر موسى وأمره ، وذلك أنه حين ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته في الصغر أمر فرعون بقتله فجيء بجمر فأخذه في فيه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره . قاله السدي . وقيل : إن الغفلة لموسى من اهلها وذلك أنه لما بلغ أشده وآتاه الله الرشد علم أن فرعون وقومه على الباطل فكان يتكلم بالحق ويعيب دينهم وينكر عليهم ، فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل وتستر . قال الزجاج : قوله { هذا } { وهذا } وهما غائبان على جهة الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه . عن مقاتل : أن الرجلين كان كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط . واحتج عليه بأن موسى قال له { إنك لغويّ مبين } والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلماً كأنه قال ممن شايعه على دينه . وإنما وصفه بالغي لأنه كان سبب قتل رجل وهو يقاتل آخر على أن بني إسرائيل فيهم غلظة الطباع فيمكن أن ينسبوا إلى الغواية بذلك الاعتبار ، ألا ترى أنهم قالوا بعد مشاهدة الآيات : اجعل لنا إلهاً . يروى أن القبطي أراد أن يتسخر الإسرائيلي في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون . وقيل : إن الإسرائيلي هو السامري { فاستغاثه } سأله أن يخلصه منه { فوكزه } أي دفعه بأطراف الأصابع أو بجمع الكف { فقضى عليه } أي أماته وقتله . الطاعنون في عصمة الأنبياء قالوا : إن كان القبطي مستحق القتل فلم قال { هذا من عمل الشيطان } وقال { رب إني ظلمت نفسي } وإن لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنباً؟ وأيضاً قوله { هذا من عدوّه } يدل على أنه كان كافراً حربياً وكان دمه مباحاً والاستغفار من القتل المباح غير جائز .
وأجيب أنا نختار أنه للكفرة كان مباح الدم إلا أن الأولى تأخير قتله إلى زمان آخر . فقوله { هذا من عمل الشيطان } معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان ، أو هذا إشارة إلى عمل المقتول وهو كونه مخالفاً الله ، أو هو إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان هذا الكافر ولو عرف ذلك فرعون لقتلني به { فاغفر لي } فاستره على هذا كله .

إذا سلم أنه كان نبياً في ذلك الوقت وفيه ما فيه قالت المعتزلة : في قوله { هذا من عمل الشيطان } دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله . ولقائل أن يقول : الشيطان من خلق الله فضلاً عما يصدر عن الشيطان على أن المشار إليه يحتمل أن يكون شيئاً آخر كما قررنا .
قوله { بما أنعمت عليّ } قيل : أراد به القوة وأنه لن يستعملها إلا في مظاهرة أولياء الله وعلى هذا يكون ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي طاعة ، إذ لو كانت معصية لصار حاصل الكلام بما أ ، عمت عليّ بقبول توبتي فإني أكون مواظباً على مثل تلك المعصية . وقال القفال : الباء للقسم كأنه أقسم بما أنعم الله عليه من المغفرة أن لا يظاهر مجرماً . وأراد بمعاونة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ، وإما مظاهرة من تؤدي مظاهرته إلى ترك الأولى . وقال الكسائي والفراء : إنه خبر ومعناه الدعاء كأ ، ه قال : فلا تجعلني ظهيراً والفاء للدلالة على تلازم ما قبلها وما بعدها . وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة حتى بري القلم وليق الدواة . عن ابن عباس : أنه لم يستثن أي لم يقل . فلن أكون إن شاء الله فابتلي به مرة أخرى . وفي هذه الرواية نوع ضعف فإنه ترك الإعانة في المرة الثانية ، ولئن صحت فلعله اراد أن جرت صورة تلك القضية عليه إلا أن الله عصمه ، وبعد موت القبطي من الوكز { أصبح } موسى من غد ذلك اليوم { خائفاً يترقب } الأخبار وما يقال فيه { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه } يطلب نصرته بصياح وصراخ فنسبه موسى لذلك إلى الغواية ، فإن كثرة المخاصمة على وجه يؤدّي إلى الاستنصار خلاف طريقة الرشد . فغويّ بمعنى غاوٍ . وجوز بعض أهل اللغة أن يكون بمعنى مغوٍ لأنه أوقع موسى فيما أوقع ثم طلب منه مثل ذلك وهو نوع من الإغواء . قال بعضهم : لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غويّ ورأى فيه الغضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس } وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس إلا هو وصار ذلك سبباً لظهور القتل ومزيد الخوف . وقال آخرون : بل هو قول القبطي وقد كان عرف القضية من الإسرائيلي وهذا القول أظهر لأن قوله { إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض } لا يليق إلا أن يكون قولاً للكافر . قال جار الله : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن . وقيل : هو العظيم الذي لا يتواضع لأمر الله عز وجل .

وحين وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وهموا بقتل موسى فأخبره بذلك رجل وهو قوله { وجاء رجل من أقصى المدينة } أي من ابعد مسافاتها إليه . وقوله { يسعى } صفة أخرى لرجل أو حال لأنه قد تخصص بالوصف ، وإن جعل الظرف صلة لجاء حتى يكون المجيء من هنالك تعين أن يكون يسعى وصفاً . قال العلماء : الأظهر في هذه السورة أن يكون الظرف وصفاً وفي « يس » أن يكون صلة ، ولذلك خصت بالتقدم ويؤيده ما جاء في التفسير أنه كان يعبد الله في جبل ، فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلاً . والائتمار التشاور لأن كل واحد من المتشاورين يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بامره ومعنى { يأتمرون بك } يتشاورون بسببك . وقوله { لك من الناصحين } كقوله { فيه من الزاهدين } [ يوسف : 20 ] وقد مر أن الجار في مثل هذه الصورة بيان لا صلة . { فخرج منها خائفاً يترقب } المكروه من جهتهم وأن يلحق به { قال } ملتجئاً إلى الله { رب نجني من القوم الظالمين } وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنباً وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص .
التأويل : { إن فرعون } النفس الأمارة استولى على من في الأرض الإنسانية { وجعل أهلها } وهم الروح والسر والعقل أصنافاً في الاستخدام لاستيفاء الشهوات { يستضعف طائفة } وهم صفات القلب ، الأبناء الصفات الحميدة المتولدة من ازدواج الروح والقلب ، والنساء الصفات الذميمة المتولدة من ازدواج النفس والبدن { إنه كان من المفسدين } للاستعداد الفطري . { ونرى فرعون } النفس { وهامان } الهوى { وجنودهما } من الصفات البهيمية والسبعية ولاشيطانية { أم موسى } السر لأن القلب تولد من ازدواج الروح والسر { أن أرضعيه } من لبن الروحانية فقد حرم عليه مراضع الحيوانية أو الدنيوية . { فألقيه في اليم } في الدنيا في تابوت القالب { وجاعلوه من المرسلين } أي من القلوب المحدّثين كما قال بعضهم : حدثني قلبي عن ربي { فالتقطه آل فرعون } وهم صفات النفس والقوى البشرية من الجاذبة والماسكة والهاضمة وغيرها فإنها أسباب لتربية الطفل { ليكون لهم } في العاقبة { عدوّاً } يجادلهم بطريق الرياضات والمخالفات . { وحزناً } بترك اللشهوات واللذات وبالدعوة إلى ما لا يلائم هواهم من طاعة الله . { وقالت امرأة فرعون } النفس وهي الجثة لا تقتلوا القلب بسيف الشهوات والانهماك في اسباب اللذات الحسيات . { عسى أن ينفعنا } بأن ينجينا من النار . قال أهل التحقيق : لما كان اعتقاد الجثة في تربية موسى القلب أنه يكون قرة عينها وولدها فلا جرم نفعها الله بالنجاة ورفع الدرجات ، وحين لم يكن لفرعون النفس في حقه هذا الاعتقاد بل كان يتوقع الهلاك منه كان هلاكه على يده بسيف الصدق وسم الذكر . { وهم لا يشعرون } أنه لو لم يوفق لإهلاكهم لكان هلاكه على أيديهم . { فؤاد أم موسى } هو سر السر ، أخت موسى القلب هو العقل .

ودخل مدينة القالب { على حين غفلة من أهلها } وهم الصفات النفسانية { فوجد فيها رجلين } صفتين . إحداهما من صفات القلب والأخرى من صفات النفس . وفي قوله { هذا من عمل الشيطان } إشارة إلى أن قتل كافر صفات النفس بالجهاد معها إن لم يكن بأمر الحق وعلى سبيل المتابعة لم يعتدّ به { فلن أكون ظهيراً للمجرمين } الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع كالفلاسفة والبراهمة { إنك لغويّ مبين } لآنك تنازع ذا سلطان قويّ قبل أوانه وهو فرعون النفس . { وجاء رجل } هو العقل { من أقصى } مدينة الإنسانية أي من أعلى مرتبة الروحانية { يسعى } في طلب نجاة موسى القلب فأخرج من مدينة البشرية إلى صحراء الروحانية { خائفاً } من سطوات فرعون النفس { يترقب } مكايدهم .
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

القراآت : { ربي أن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . و { يصدر } بفتح الياء وضم الدال : ابن عامر ويزيد وأبو عمرو وأبو أيوب . الآخرون بضم الياء وكسر الدال { إني أريد } { ستجدني } بفتح ياء المتكلم فيهما : أبو جعفر ونافع { إني آنست } { إني أنا الله } و { إني أخاف } بفتح ياء المتكلم في الكل : ابو جعفر ونافع وأبو عمرو و { لعلي آتيكم } بفتح الياء : هم وابن عامر { جذوة } بفتح الجيم : عاصم وبضمها حمزة وخلف . الباقون بكسرها . { من الرهب } بفتح الراء وسكون الهاء : حفص ، وبفتحهما أبو عمرو وسهل ويعقوب وابو جعفر ونافع وابن كثير . الآخرون بضم الراء وسكون الهاء { فذاناك } بتشديد النون : ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو { معي } بالفتح : حفص { ردا } بغير همز : أبو جعفر ونافع وابن كثير . الآخرون بضم الراء وهمزة في الوقف { يصدقني } بالرفع : حمزة وعاصم { يكذبون } بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل { قال موسى } بغير واو : ابن كثير { ربي أعلم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . و { من يكون } على التذكير : حمزة وعلي وخلف والمفضل { لا يرجعون } بفتح الياء وكسر الجيم : نافع ويعقوب وعلي وخلف .
الوقوف : { السبيل } 5 { يسقون } 5 لأنه رأس آية عند الأكثرين مع عطف المتفقتين { تذودان } ج لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد الفاعل { خطبكما } ط { الرعاء } ز لأن ما بعده منقطع لفظاً ومعنى كأنه قال : فلم خرجتما فقالتا تعريضاً بالاستقامة وأبونا شيخ { كبير } ط { فقير } 5 { على استحياء } ز لعدم العاطف مع اتحاد القائل ، ومن وقف على { تمشي } ويجعل على استحياء حالاً مقدماً اي قالت مستحيية فلا وجه له في الوقف { لنا } ط لأن جواب « لما » منتظر وقبله حذف أي فذهب معها فلما جاءه فكأن الفاء لاستئناف القصص لأن قال جواب « لما » . { لا تخف } ز لأن قوله { نجوت } غير متصل به نظماً وليفصل بين البشارتين أي لا تخف ضيماً وقد نجوت من ظلم فرعون { الظالمين } 5 { استأجره } ج للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل { الأمين } 5 { حجج } ج للشرط مع الفاء { عندك } ج لابتداء النفي مع الواو { عليك } ج { الصالحين } 5 { وبينك } ج لابتداء الشرط { عليّ } ط { وكيل } 5 { ناراً } 5 لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد القائل { تصطلون } 5 { العالمين } 5 لا { عصاك } ط لحق الحذف أي فألقاها فحييت فلما رآها { ولم يعقب } ط { لا تخف } ج لمثل ما مر أي لا تخف باس العصا إنك أمنت بها بأس فرعون { الآمنين } 5 { سوء } ز لعطف الجملتين المتفقتين مع طول الكلام 5 { وملئه } ط { فاسقين } 5 { يقتلون } 5 { يصدقني } ز للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل { يكذبون } 5 { بآياتنا } ج أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وعلى { إليكما } أوجه أي أنتم الغالبون بآياتنا { الغالبون } 5 { الأولين } 5 { الدار } ط { الظالمون } 5 { غيري } ج لتنويع الكلام { إلى إله موسى } لا لأن ما بعده مقوله ايضاً { الكاذبين } 5 لا { يرجعون } 5 { في اليم } ج للابتداء بأمر الاعتبار واختلاف الجملتين مع فاء التعقيب { الظالمين } 5 { إلى النار } ج لعطف الجملتين المختلفتين { لا ينصرون } 5 { لعنة } ط لمثل ذلك { المقبوحين } 5 .

التفسير : ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة طريق فأوصله الله إلى مدين . وقد يؤيد هذا التفسير ما روي عن ابن عباس أنه خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه ، ويحتمل أن يكون معنى قول ابن عباس أنه لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينه وبينهم قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى . أما أنه قصد مدين فلقوله سبحانه { ولما توجه تلقاء مدين } اي قصد نحو هذه القرية ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمان . وأما أنه اعتمد على فضل الله فلقوله . { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } أي وسطه وجادّته نظيره قول جده إبراهيم عليه السلام { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] وكذا الخلف الصدق يقتدي بالسلف الصالح فيهتدي . قال السدي : لما أخذ في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال : لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين . عن ابن جريج أنه خرج بغير زاد ولا ظهر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر . { ولما ورد ماء مدين } وكان بئراً فيما روي وورود الماء مجيئه والوصول إليه ضدّ الصدور . { وجد عليه } اي على شفيره ومستقاه { أمة من الناس } جماعة كثيرة العدد أصنافاً { يسقون } مواشيهم { ووجد من دونهم } اي في مكان اسفل من مكانهم { امرأتين تذودان } أي تدفعان وتطردان أغنامهما لأن على الماء من هو أقوى منهما فلم يتمكنا من السقي ، وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء واختلاط أغنامهما بأغنامهم أو اختلاطهما بالرجال . وقيل : تذودان الناس عن غنمهما . وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر . وبالجملة حذف مفعول { تذودان } لأن الغرض تقرير الذود لا المذود . وكذا في { يسقون } و { لا نسقي } المقصود هو ذكر السقي لا المسقي ، وكذا في قراءة من قرأ { حتى يصدر } من لاإصدار أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم الغرض بيان الإصدار . { قال ما خطبكما } هو مصدر بمعنى المفعول أي ما خطو بكما من الذياد { قالتا لا نسقي } الآية .

سألهما عن سبب الذود فذكرتا أنا ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا وما لنا رجل يقوم بذلك . { وابونا شيخ } قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به ، وهذه الضرورة هي التي سوغت لنبي الله شعيب أن رضي لابنتيه بسقي الماشية على أن الأمر في نفسه ليس بمحظور ، ولعل العرب وخصوصاً أهل البدو منهم لا يعدّونه قادحاً للمروءة . وزعم بعضهم أن أباهما هو ثيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد ينميه إلى ابن عباس . وعن الحسن أنه رجل مسلم قبل الدين من شعيب . أما قوله { فسقى لهما } فمعناه فسقى غنمهما لأجلهما وفيه قولان : أحدهما أنه سأل القوم فسمحوا وكان لهم دلو يجتمع عليها أربعون رجلاً فيخرجونها من البئر فاستقى موسى بها وحده وصب الماء في الحوض ودعا بالبركة ، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما . والثاني أنه عمد إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها إلا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون أو مائة -أقوال- فأقلها وحده وسقى أغنامهما ، كل ذلك في شمس وحر . { ثم تولى إلى الظل } ظل شجرة { فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير } ذهب أكثر المفسرين الظاهريين ومنهم ابن عباس إلى أنه طلب من الله طعاماً يأكله . وعدي { فقير } باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب . وعن الضحاك أنه مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وإن خضرته تتراءى في بطنه من الهزال ، ويه دليل على أنه نزع الدلو وأقل الصخرة بقوة ربانية . وقال بعض أهل التحقيق : أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين ، وذلك أنه كان عند فرعون في ملك وثروة فأظهر الرضا بهذا الذل شكراً لله . يروى أنهما لما رجعتا إلى ابيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا . فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي وذلك قوله سبحانه { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } قيل : من جملة حيائها أنها قد استترت بكم درعها ثم { قالت إن أبي يدعوك } عن عطاء بن السائب أنه حين قال { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } رفع صوته بدعائه ليسمعهما فلذلك قيل له { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } وضعفت الرواية بأن هذا نوع من الدناءة وضعف اليقين بالله فلا يليق بالنبي . وقد روي أنها حين قالت : ليجزيك كره ذلك . ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمناً حتى قال شعيب هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا .
سؤال : كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية؟ الجواب : العمل بقول الواحد حراً أو عبداً ذكراً كان أو أنثى سائغ في الأخبار ، والمشي مع الأجنبية لا بأس به في حال الاضطرار مع التورع والعفاف ، ويؤيده ما روي أن موسى تبعها فأزلقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لهاك امشي خلفي وانعتي لي الطريق .

قال الضحاك : لما دخل عليه قال له : من أنت يا عبد الله؟ قال : أنا موسى بن عمران بن يصهر ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب . { وقص عليه القصص } أي المقصوص من لدن ولادته إلى قتل القبطيّ وفراره خوفاً من فرعون وملئه ف { قال } له شعيب { لا تخف } من فرعون أو ضيماً { نجوت من القوم الظالمين } فلا سلطان لفرعون بأرضنا { قالت إحداهما } وهي كبراهما اسمها صفراء وكانت الصغرى صفيراء { يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين } قال النحويون : جعل القوي الأمين اسماً لكونه معرفة صريحة أولى من جعل « أفعل » التفضيل المضاف اسماً لكونه قريباً من المعرفة ، ولكن كمال العناية صار سبباً للتقديم . وورود الفعل وهو { استأجرت } بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف . وقال المحققون : إن قولها هذا كلام حكيم جامع لا مزيد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة اللتين هما ثمرتا الكياسة والديانة في الذين يقوم بأمرك ، فقد حصل مرادك وكمل فراغك . عن ابن عباس أن شعيباً أحفظته الغيرة فقال : وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وأنه صوّب راسه اي خفضه حين بلغته رسالته ، وأنه أمرها بالمشي خلفه فلذلك قال { أريد أن أنكحك إحدى ابنتي } وليس هذا عقداً حتى تلزم الجهالة في المعقود عليها ولكنه حكاية عزم وتقرير وعد ولو كان عقداً لقال أنكحتك ابنتي فلانة . وفي قوله { هاتين } دليل على أنه كانت له غيرهما . قال أهل اللغة : { تأجرني } من أجرته إذا كنت له أجيراً فيكون { ثماني } حجج ظرفه أو من اجرته كذا إذا أثبته إياه فيكون المثاني مفعولاً به ثانياً ومعناه رعية ثماني حجج { فإن أتممت عشراً } اي عمل عشر حجج { فمن عندك } أي فإتمامه من عندك لا من عندي إذ هو تفضل منك وتبرع { وما أريد أن أشق عليك } الزام أتم الأجلين أو بالتكاليف الشاقة في مدة الرعي ، وإنما أعامل معك معاملة الأنبياء يأخذون بالأسمح -بالحاء لا بالجيم- قال أهل الاشتقاق : حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر أنه إذا صعب الأمر فكأنه شق عليه ظنه باثنين يقول تارة أطيقة وتارة لا أطيقه . ثم أكد وعد المسامحة بقوله { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } عموماً أو في باب حسن المعاملة . وقوله { إن شاء الله } أدب جميل كقول إسماعيل { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [ الصافات : 102 ] أي على الذبح .

وفيه أن الاعتماد في جميع الأمور على معونة الله والأمر موكول إلى مشيئته . استدل الفقهاء بالآية على أن العمل قد يكون مهراً كالمال ، وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز ، وعلى أن عقد النكاح لا يفسده الشروط التي لا يوجبها العقد . ويمكن أن يقال : إنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا . وجوّز في الكشاف أن يكون استأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ووفاه إياه ثم أنكحه ابنته . وجعل قوله { على أن تأجرني } عبارة عما جرى بينهما { قال } موسى { ذلك } الذي شارطتني عليه قائم { بيني وبينك أيما الأجلين قضيت } و « ما » مؤكدة لإبهام أيّ زائدة في شيوعها { فلا عدوان عليّ } اي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة فإن قضيت الثماني فلا أطالب بالزيادة وإن قضيت العشر باختياري فلم أطالب بالزيادة أيضاً . وقيل : أراد أيهما قضيت فلا أكون متعدياً . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوّج كبراهما وقيل صغراهما ولا خلاف في أنه قضى أوفى الأجلين .
قال القاضي في قوله { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس } دليل على أنه لم يزد على العشرة وفيه نظر لأنه لا يفهم من هذا التركيب إلا أن الإيناس حاصل على عقيب مجموع الأمرين ، ولا يدل على أن ذلك حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل ويؤيده ما روي عن مجاهد أنه بعد العشر المشروط مكث عشر سنين أخر . قال أهل اللغة : الجذوة بحركات الجم العود الغليظ كانت في راسه نار أو لم تكن ، وشاطئ الوادي جانبه ، و « من » الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة ، فالثانية بدل من الأولى وبدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، ووصفت البقعة بالمباركة لأن فيها ابتداء الرسالة والتكلم . احتجت المعتزلة على مذهبهم أن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله { من شجرة } وقال أهل السنة : مما وراء النهران الكلام القديم القائم بذات الله غير مسموع والمسموع من الشجرة وهو الصوت والحرف دال على كلام الله . وذهب الأشعري إالى أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعاً كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية . روي أن شعيباً كانت عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل : ادخل البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصاً هبد بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فشعر بها فقال : غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأناً . وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ، ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ هناك أكثر لأن فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم .

فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على منعها فمشى على اثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد اقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى موسى دامية فارتاح لذلك . وحين رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأناً . قيل : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى ذهب ليقتبس النار فكلمه الملك الجبار وقد مر في النمل تفسير قوله { فلما رآها تهتز } [ النمل : 10 ] إلى قوله { من غير سوء } [ الآية : 12 ] أما قوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } فذكر جار الله له معنيين : أحدهما حقيقة وهو أنه لما قلب الله العصا حية فزع واضطراب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه نقصان قدرك عند الأعداء فإن ألقيتها ، فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب النقص وإظهار معجزة أخرى . وثانيهما مجاز وهو أن يراد بضم الجناح التجلد وضبط النفس حتى لا يضطرب فيكون استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف أرخى جناحيه وإلا ضمهما . ومعنى { من الرهب } من أجل الخوف . والفرق بين هذه العبارة وبين قوله { اسلك يدك في جيبك } أن الغرض هناك خروج اليد بيضاء وههنا الغرض إخفاء الخوف أو اراد بالجناح المضموم ههنا اليد اليمنى وبالجناح المضموم إليه في قوله { واضمم يدك إلى جناحك } اليد اليسرى ، وقيل : إن الرهب هو الكم بلغة حمير وزيفه النقاد . من قرأ { فذانك } بالتخفيف فمثنى ذاك ، ومن قرأ بالتشديد فمثنى ذلك وأصله ذان لك قلبت اللام نوناً وأدغمت . وسميت الحجة برهاناً لبياضها وإنارتها من قولهم « امرأة برهرهة » أي بيضاء ، واليعن واللام مكررتان . والدليل على زيادة النون قولهم « أبره الرجل » إذا جاء بالبرهان ونظيره « السلطان » من السليط الزيت ، لإنارتها . وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون ، والسر فيه أن يكون على بصيرة من أمره عند لقاء المعاند اللجوج ، وزعم القاضي أنه في حال أداء الرسالة لأن المعجز إنما يظهر ليستدل المرسل إليه على الرسالة ولا يخفى ضعف هذا الكلام لأن الحكمة في الإظهار لا تنحصر في الاستدلال بل لعل هناك أنواعاً أخر من الحكم والمقاصد قد ذكرنا واحداً منها . ومما يؤكد أن هذا الكلام قد جرى ولم يكن هناك أحد غير موسى قوله معتذراً { رب إني قتلت منهم نفساً } الآية . والردء اسم ما يعان به من ردأته أي أعنته فعل بمعنى مفعول به و { يصدقني } بالرفع صفة وبالجزم جواب كما مر في قوله { ولياً يرثني } [ مريم : 56 ] والمراد بتصديق أخيه أن يذب ويجادل عنه لا أن يقول : صدقت فإن هذا القدر لا يفتقر إلى البيان والفصاحة لأن سحبان وباقلاً يستويان فيه .

ويجوز أن يكون الضمير في { يصدقني } لفرعون . وجوّز جار الله أن يكون من الإسناد المجازي بناء على أن يصدق مسند إلى هارون وهو بيانه وبلاغته سبب تصديق فرعون يؤيده قوله { إني أخاف أن يكذبون } قال الجبائي : إنما سأل موسى أن يرسل هارون بأمر الله تعالى ولم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أولا يكون حكمة . ولقائل أن يقول : لعله ساله مشروطاً على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقول الداعي في دعائه . وقال السدي : علم أن الاثنين أقوى من الواحد فلهذا سأل اعترض القاضي بأن هذا من حيث العادة وأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ، لأن المبعوث إليه في أيهما نظر علم وإن لم ينظر فالحال واحدة . هذا إذا كانت طريقة الدلالة بين المعجزتين واحدة ، فأما إذا اختلف وأمكن في إحداهما من إزالة الشبهة مالا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يقال : إنهما بمجموعهما أقوى من واحدة كما قال السدي ، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون لأن معجزتهما كانت واحدة .
قال جار الله معنى { سنشد عضدك } سنقوّيك بأخيك إما لأن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن يقوى على مزاولة الأمور بشدة اليد ، وإما لأن الرجل واشتداده بالأخ شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد . والسلطان التسلط والغلبة والحجة الواضحة . وقوله { بآياتنا } إما متعلق بمقدر أي اذهبا بآياتنا ، أو متعلق بظاهر وهو { نجعل } أو { لا يصلون } . ويجوز أن يكون بياناً ل { لغالبون } كأنه قيل : بماذا نغلب؟ فقيل : بآياتنا . وامتنع أن تكون صلة ل { لغالبون } لتقدمه ، ويجوز أن تكون قسماً جوابه { لا يصلون } مقدماً عليه مثله . ويجوز أن يكون من لغو القسم الذي لا جواب له كقولك « زيد وأبيك منطلق » والمراد الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو بالدولة والمملكة في المآل ، وصلب السحرة بعد تسليم ثبوته لا يقدح في قوله { ومن اتبعكما الغالبون } لأن الدولة الباقية أعلى شأنا و { سحر مفترى } أي سحر تعمله أنت ثم تنسبه إلى الله فهو كذب من هذا الوجه ، أو سحر ظاهر افتراؤه لا سحر يخفى افتراؤه ، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر فإن كل سحر ففاعله يوهم خلافه فهو المفترى . ومعنى { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين } قد مر في سورة المؤمنين . قال جار الله { في آبائنا } حال عن { هذا } اي كائناً في زمانهم وأيامهم قلت : لا مانع من أن يكون الظرف لغواً ولا خلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا بنحوه ، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته ، أو أرادوا أن الكهان لم يخبروا بمجيء ما جاء به موسى .

وكل هذه المقالات لا تصدر إلا عن المحجوج اللجوج الذي قصارى أمره التمسك بحبل التقليد .
من قرأ { قال موسى } بغير واو فعلى طريقة السؤال والجواب . ووجه قراءة الأكثرين أنهم قالوا ذلك وقال موسىر هذا ليوازن العاقل الناظر بين القولين فيتبين له الغث من السمين . وقوله { ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } إفحام لخصم المعاند إذ لا سبيل إلى دفاعه بالحجة أي يعلم أني محق وأنهم مبطلون . وقوله { ومن تكون له عاقبة الدار } يعني العاقبة الحميدة كأن المذمومة غير معتدّ بها ضم طريقة الوعيد إلى الإفحام المذكور . وقيل : معناه ربي أعلم بالأنبياء السالفة فهو جواب لقولهم { ما سمعنا بهذا } وقال جار الله : { ربي أعلم } بحال من أهله للفلاح حيث جعله نبياً ووعده حسنى العقبى ، ولو كان كاذباً كما يزعمون لم يؤهله لذلك لأنه لا يفلح عنده الظالمون ، واعلم أن فرعون كان من عادته عند ظهور حجة لموسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروّجها على أغمار قومه فذكر ههنا أمرين : الأوّل قوله { ما علمت لكم من إله غيري } فكأنه استدل بعدم الدليل على عدم المدلول وهو خطأ من جهة أن الدليل على المدلول وهو وجود الصانع أكثر من أن يحصى ، ومن جهة أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول . وأما قوله { غيري } فقد تكلف له بعضهم أنه لم يرد به أنه خالق السموات والأرض وما فيهما فإن امتناع ذلك بديهي ، وإنما أراد به نفي الصانع والاقتصار على الطبائع وأنه لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره .
الثاني قوله { فأوقد لي يا هامان على الطين } وقد تكلفوا له ههنا أيضاً فقيل : إنه يبعد من العاقل أن يروم صعود السماء بآلة ، ولكنه أراد أنه لا سبيل إلى إثبات الصانع من حيث العقل كما مر ، ولا من حيث الحس فإن الإحساس به يتوقف على الصعود وهو معتذر ، وإلا فابن يا هامان مثل هذا البناء وإنما قال ذلك تهكماً . فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ، ثم رتب النتيجة عليه وهو قوله { وإني لأظنه من الكاذبين } يحتمل أن يريد لأعلمه من الكاذبين . والأكثرون من المفسرين على أنه بنى مثل هذا البناء جهلاً منه أو تلبيساً على ملئة حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن . يروى أن هامان جمع العمال حتى اجتمع منهم خمسون ألف بناء سوى الأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ مبلغاً لا يقدر الباني أن يقوم عليه ، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعت ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل . ووقعت قطعة في البحر ، و قطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك .

وروي في القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال : قد قتلت إله موسى ، فعند ذلك بعث الله جبرائيل لهدمه . قال أهل البيان : إن صح الحديث ردّ النشابة ملطوخة فقد تهكم به بالفعل كما ثبت التهكم بالقول في غير موضع . وإنما قال { فأوقد لي يا هامان على الطين } ولم يقل : اطبخ لي الآجر . لأن هذه العبارة أحسن ، ولأن هذه العبارة أحسن ، ولأن فيه تعليم الصنعة ، وقد كان أوّل من عمل الآجر فرعون . عن عمر أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال : ما علمت أن أحداً بنى الآجر غير فرعون . والطلوع والأطلاع الصعود يقال : طلع الجبل واطلع .
وفي قوله سبحانه { واستكبر هو وجنوده في الأرض } يعني أرض مصر { بغير الحق } إشارة إلى أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى كما جاء في الحديث القدسي « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري » فهو كقوله { ويقتلون النبيين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] وفي قوله { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } دليل على أنهم كانوا منكري البعث كالطبائعيين . وفي قوله { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } دلالة على علو شأنه تعالى وعظمة سلطانه وإشارة إلى استحقار فرعون وجنوده وعدده وإن كانوا أكثر من رمال الدهناء كأنه شبههم بحصيات أخذهن أحد في كفه فطرحهن في البحر . استدلت الأشاعرة بقوله { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } أن خالق الشر وجاعل الكفر هو الله سبحانه . وقالت المعتزلة : معنى الجعل التسمية والحكم بذلك كما يقال : جعله بخيلاً وفاسقاً إذا حكم بالبخل والفسق عليه وسماه بالبخيل والفاسق ، أو أراد خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى كانوا أئمة الكفر داعين إلى النار أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي . وقال أبو مسلم : معنى الإمامة التقدم وذلك أنه تعالى عجل لهم العذاب فصاروا متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار . وقال بعضهم : أراد بالإمامة أنهم بلغوا في ذلك الباب أقصى النهايات حتى أستحقوا أن يقتدى بهم . ثم بين بقوله { ويوم القيامة لا ينصرون } أن عقاب الآخرة سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه . وقال في الكشاف : اراد وخذلناهم في الدنيا ويوم القيامة هم مخذولون كما قال { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } اي طرداً وإبعاداً عن الرحمة { ويوم القيامة هم من المقبوحين } أي من المطرودين المبعدين : وقالت الليث : قبحه الله قبحاً بالفتح وقبحاً بالضم أي نجاه عن كل خير . وقال ابن عباس : من المشهورين بسواد الوجه وزرقة العين . وعن بعضهم أنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم فيجمع لهم بين الفضيحتين .
التأويل : وحين توجه تلقاء مدين عالم الروحانية { وجد عليه أمة } من أوصاف الروح { يسقون } مواشي أخلاقهم من ماء فيض الإلهي .

{ ووجد من دونهم امرأتين } السر والخفي ابنتا شعيب الروح يمنعان من استقاء ماء الفيض الإلهي . قال الشيخ الإمام الرباني نجم الدين المعروف بداية : وذلك لأن لمعان أنوار الفيض يرد على الروح في البداية بالتدريج فينشا منه الخفي ، وهو لطيفه ربانية مودعة في الروح بالقوة فلا يحصل بالفعل إلا بعد غلبة الواردات الربانية ليكون واسطة بين الحضرة والروح في قبول تجليات صفات الربوبية والفيوض الإلهية ، فيكون في هذه المدة بمعزل عن الاستقاء . وكذا السر وهو لطيفة روحانية متسوطة بين القلب والروح قابلة لفيض الروح ، مؤدية غلى القلب وهو أيضاً بمعزل عن استقاء ماء فيض الروح عند اشتغال القلب بمعالجات النفس وإصلاح القالب إلى حين توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية وذلك قولهما { لا نسقي حتى يصدر الرعاء } وهم صفات الروح ويصرفوا مواشيهم وهي الصفات الإنسانية عن ماء الفيض الإِلهي ، فإذا صدروا استقينا مواشينا من الأوصاف والأخلاق من أفضله مواشيهم في حوض القوى { وأبونا } وهو شعيب الروح لا يقدر على سقيه من الأوصاف الإنسانية إلا بالأجر والوسائط ، وإنا لا نطيق أن نسقي لضعف حالنا ، فسقي موسى القلب مواشيهما بقوّة استفادها من الجسد وقوّة استفادها من الروح لأنه متوسط بين العالمين ولهذا سمي قلباً { ثم تولى إلى الظل } إلى العناية فطلب الفيض الإلهي بلا وساطة وهكذا ينبغي أن يكون السالك لا يقنع بما وجد من المعارف أبداً .
{ فجاءته إحداهما } فيه أن القلب يحتاج في الوصول إلى حضرة شعيب الروح أن يستمد من الخفي أو السر . { لا تخف نجوت } فيه أن القلب إذا وصل إلى مقام الروح نجا من ظلمات النفس وصفاتها { إن خير من استأجرت } من النفس والجسد { القوي الأمين } لأن القلب استفاد القوّة من الجسد والأمانة من الروح { ثماني حجج } فيه أن الروح في تبليغ القلب إلى مقام الخفي يحتاج إلى تسييره في مقامات صفاته الثمانية المخصوصة به في خلافة الحق وهي : الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء . وتمام ذلك إلى العشرة راجع إلى خصوصيته وهما المحبة والأنس مع الله { أيما الأجلين قضيت } في التخلق بأخلاقك اليمانية وفي المحبة والأنس مع الله { فلا عدوان عليّ } أي ليس لك أن تمنعني العبور عن المحبة لأنك من خصوصيتك بالخلافة مجبول على تلك الصفات الثمانية . وأما المحبة والأنس مع الله فصفتان مخصوصتان بالحضرة . { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } ولهذا كل إنسان من المؤمن والكافر فإنه مجبول على تلك الأوصاف وليس من زمرة { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] إلا مؤمن موحد . فلما اتصف مسى القلب بالأوصاف الثمانية وغلبت عليه محبة الله واستأنس به وصار بجميع صفاته متوجهاً إلى حضرة القدس { آنس } من طور الحضرة نار نور الإلوهية . وفي قوله { لأهله امكثوا } إشارة إلى أن السالك لا بد له من تجريد الظاهر عن الأهل والمال وتفريد الباطن عن تعلقات الكونين .

نو يبدو وإذا بدا استمكن شمس طلعت ومن رآها آمن . وفي قوله { لعلكم تصطلون } إشارة إلى أن الأوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تتسخن إلا بجذوة نار المحبة بل بنار الجذبة الإلهية { من شاطئ الواد الأيمن } وهو السر في بقعة البدن من شجرة وجود الإنسان { من الرهب } أي رهبة من فوات وصال الحضرة { وأخي هرون } هو العقل فمن خصوصيته تصديق الناطق بالحق { قالوا ما هذا إلا سحر مفترى } لأن النفس خلقت من اسفل عالم الملكوت ومنكسة ، والقلب خلق وسط عالم الملكوت متوجهاً إلى الحضرة فلهذا { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] وما صدقت النفس ما رأت { في آبائنا الأولين } اي في طبائع الكواكب فإنها آباء النفس وأمهاتها العناصر والطبائع منكوسة إلىعالم السفل لا يعرفون مقام الوحدة فلا يعرفون بالتوحيد . { فأوقد لي يا هامان } الشيطان { على الطين } البشرية بنفخ الوساوس والغرور { فاجعل لي صرحاً } من المقدمات الخيالية والوهمية { فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } أغرقوا في ماء شهوات الدنيا ويم هممها فأدخلوا نار الحسرة والندامة .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

القراآت : { سحران } عاصم وحمزة وعلي وخلف . الآخرون { ساحران تظاهرا } بالتخفيف اتفاقاً { تجبى إليه } بتاء التأنيث : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب . الباقون على التذكير { يعقلون } بياء الغيبة ، شجاع واليزيدي الباقون بتاء الخطاب إلا أبا عمرو فإنه مخير { ثم هو } بسكون الهاء علي والحلواني عن قالون { تبرأنا } مثل { أنشأنا } .
الوقوف : { يتذكرون } 5 { الشاهدين } 5 لا للاستدراك { العمر } ج لاختلاف الجملتين مع العطف { آياتنا } ج لما مر { مرسلين } 5 { يتذكرون } 5 { المؤمنين } 5 { ما أوتي موسى } ط { من قبل } ج للفصل بين الخبر والطلب مع اتحاد القائل { تظاهرا } ج للتعجب من عنادهم { كافرون } 5 { صادقين } 5 { أهواهم } ط { من الله } ط { الظالمين } 5 { يتذكرون } 5 لأن { الذين } مبتدأ { يؤمنون } 5 { مسلمين } 5 { ينفقون } 5 { أعمالكم } ط لابتداء الكلام مع اتحاد المقول { عليكم } ط لذلك { الجاهلين } 5 { من يشاء } ط لعطف الجملتين المتفقتين { بالمهتدين } 5 { أرضنا } ط { لا يعلمون } 5 { معيشتها } ج للفصل بين الاستفهام والإخبار مع فاء التعقيب { قليلاً } ط { الوارثين } 5 { آياتنا } ج للعدول مع اتفاق الجملتين { ظالمون } 5 { وزينتها } ج فصلاً بين المعنيين المتضادّين { وأبقى } ط { تعقلون } 5 { المحضرين } 5 { تزعومن } 5 { أغوينا } ج { غوينا } ج لعدم العاطف مع اتحاد القائل { إليك } ج لما قلنا مع زيادة النفي المقتضى للفصل { يعبدون } 5 { العذاب } ج لجواز تعلق « لو » بمحذوف أي لو اهتدوا لما لقوا ما لقوا ، ويجوز تعلقها ب { يهتدون } والوقف على { لهم } أي لو كانوا يهتدون لرأوا العذاب بقلوبهم { يهتدون } 5 { المرسلين } 5 { لا يتساءلون } 5 { المفلحين } 5 { ويختار } ز وقد يوصل على معنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة وفيه بعد { الخيرة } 5 { يشركون } 5 { يعلنون } 5 { إلا هو } ط { والآخرة } ز لعطف الجمل { ترجعون } 5 .
التفسير : إنه سبحانه بعد تتميم قصة موسى أراد أن يبين إعجاز نبينا صلى الله عليه وسلم فذكر أوّلاً أنه أعطى موسى الكتاب بعد إهلاك فرعون وقومه حال كون الكتاب أنواراً للقلوب وإرشاداً لأهل الضلال وسبباً لنيل الرحمة إرادة أن يتذكروا ، ويجوز أن يعود ترجي التذكر إلى موسى . ثم أجمل عظائم أحوال موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك فقال { وما كنت بجانب الغربي } اي بجانب المكان الواقع في شق الغرب وهو ناحية الشأم التي فيها قضى إلى موسى أمر الوحي والاستنباء . { وما كنت من الشاهدين } على ذلك فقد يكون الشخص حاضراً ولا يكون شاهداً ولا مشاهداً . قال ابن عباس : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى . ثم قال { ولكنا أنشأنا } بعد عهد موسى إلى عهدك { قروناً فتطاول عليهم العمر } فاندرست العلوم والشرائع ووجب إرسالك إلى خرهم قرناً وهو القرن الذي أنت فيه ، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء .

وحاصل الآية أنه ذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب والغرض بيان إعجازه كأنه قال : إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله ، دلالة ظاهرة على نبوّتك . ثم فصل ما أجمل فذكر أوّل أمر موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك وهو قوله { وما كنت ثاوياً } مقيماً { في أهل مدين } وهم شعيب والمؤمنون به { تتلوا عليهم آياتنا } قال مقاتل : أي لم تشهد أهل مدين وأنت تقرأ على أهل مكة خبرهم ، ولكنا ارسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمتها . وقال الضحاك : يقول يا محمد : إنك لم تكن رسولاً إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما الرسول غيرك { ولكنا كنا مرسلين } في كل زمان رسولاً فأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء . ثم ذكر أوسط أمر موسى وأشرف أحواله وبين أنه لم يكن هناك فقال { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } الأظهر أنه يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه . وعن بعض المفسرين أنه اراد قوله { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها } [ الإعراف : 156 ] إلى قوله { المفلحون } [ الأعراف : 157 ] وقال ابن عباس : إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم يا أمة محمد أجيبكم قبل أن تدعوني وأعطيكم قبل أن تسألوني وأغفر لكم قبل أن تستغفروني . قال : وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه . وقال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال : يا رب أرنيهم . قال : إنك لن تردكهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم . قال : بلى يا رب . فقال : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فقال سبحانه : أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكر ابن عباس . وروى سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } قال : « كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد : إن رحمتي سبقت غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخله الجنة » قوله { ولكن رحمة } أي ولكنا علمناك { رحمة من ربك } ثم فسر الرحمة بقوله { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } أي في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة . وقيل : كانت حجة الأنبياء قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجدد تلك الحجة عليهم ، فبعثه الله تعالى تقريراً لتلك التكاليف وإزالة لتلك الفترة .

قوله { ولولا أن تصيبهم } هي امتناعية وجوابها مح1ذوف . والفاء في قوله { فيقولوا } للعطف على أن تصيبهم ، وقوله { لولا أرسلت } هي تحضيضية . والفاء في { فنتبع } جواب « لولا » ، وذلك أن التحضيض في حكم الأمر لأن كلاً منهما بعث على الفعل . والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم . والحاصل أن إرسال الرسول لجل إزالة هذا العذر . قال اصحاب البيان : القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول أدخلت عليها « لولا » وجيء بالقول معطوفاً عليها بفاء السببية تنبيهاً على أنهم لو لم يعاقبوا على كفرهم ولم يعاينوا العذاب لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً ، فالسبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان ، وفي هذا يبان استحكام كفرهم وتصميمهم . قال الجبائي : في الآية دلالة على وجوب اللطف وإلا لم يكن لهم أن يقولوا لولا أرسلت . وقال الكعبي : فيه دليل على أنه تعالى يقبل حجة العباد فلا يكون فعل العبد بخلق الله وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى . وقال القاضي : فيه إبطال الجبر لأن اتباع الآيات لو كان موقوفاً على خلق الله فأيّ فائدة في قولهم هذا . ومعارضة الأشاعرة بالعلم والداعي معلومة .
ثم بين أنهم قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فلا مقصود لهم إلا العناد فقال { فلما جاءهم الحق } اي الرسول المصدّق بالكتاب المعجز { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } من الكتاب المنزل جملة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر ، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { أولم يكفروا } وفيه وجوه : أحدها أن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً مثل ما أوتي موسى فقال تعالى : { أولم يكفروا } هؤلاء اليهود الذين اقترحوا هذا السؤال بموسى مع تلك الآيات الباهرة . والذين أوردوا هذا الاقتراح يهود مكة ، والذين كفروا بموسى من قبل أو بما أوتي موسى من قبل هم الذين كانوا في زمن موسى إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لتجانسهم في الكفر والعنت . وقال الكلبي : إن مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة يسألهم عن محمد وشأنه فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته ، فلما رجه الرهط إليهم فأخبروهم بقول اليهود قالوا : إنه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر فقال الله تعالى في حقهم { أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل } . وقال الحسن : قد كان للعرب أصل في أيام موسى فالتقدير : أولم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي تعاونا .

وقال قتادة : أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليه السلام ف { قالوا ساحران } والأظهر أن كفار مكة وقريش كانوا منكرين لجميع النبوات . ثم إنهم طلبوا من محمد معجزات موسى فقال الله تعالى : { أولم يكفروا بما أوتي موسى } بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل؟ فعلم أنه لا غرض لهم في هذا الاقتراح إلا التعنت . من قرأ { ساحران } بالألف فظاهر ، وأما من قرأ { سحران } فإما بمعنى ذوي سحر أو على جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر ، أو على إرادة نوعين من السحر ، أو على أن المراد هو القرآن والتوراة . وضعفه أبو عبيدة بأن المظاهرة بالناس وأفعالهم اشبه منها بالكتب . وأجيب بأن الكتابين لما كان كل واحد منهما يقوّي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما يقال تظاهرت الأخبار . وفي تكرار { قالوا } وجهان : أحدهما قالوا ساحران مرة { وقالوا إنا بكل } من موسى ومحمد أو بكل من الكتابين { كافرون } مرة . وثانيهما أن يكون قوله { وقالوا } معطوفاً على { أولم يكفروا } ثم عجزهم بقوله { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } اي مما أنزل على موسى ومما أنزل عليّ . قال ابن عباس { فإِن لم يستجيبوا لك } معناه فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج . وقال مقاتل : فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما . وهذا اشبه بالآية ، وهذا الشرط شرط يدل بالأمر المتحقق لصحته وإلا فالظاهر أن لو قيل فإذا لم يستجيبوا . ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم . وإنما لم يقل « فإن لم يأتوا » لأن قوله { فأتوا } أمر والأمر دعاء إلى الفعل فناسب الاستجابة والتقدير : فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم صاروا محجوبين ولم يق لهم شيء إلا اتباع الهوى . وفي قوله { ومن أضل ممن اتبع هواه } حال كونه { بغير هدى من الله } إشارة إلى فساد طريقة التقليد . استدلت الأشاعرة بقوله { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } اي الذين وضعوا الهوى مكان الهدى على أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمن . وقالت المعتزلة : الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقاً ومنها مالا يحسن إلا بعد الإيمان وإليه الإشارة بقوله { والذين اهتدوا زادهم هدى } [ محمد : 17 ] والآية محمولة على القسم الثاني دون الأول وإلا كان عدم الهداية عذراً لهم . ثم أجاب عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة بقوله { ولقد وصلنا } أي أنلزنا عليهم القرآن إنزالاً متصلاً بعضه في أثر بعض ليكون ذلك اقرب إلى التذكر والتذكير والتنبيه فإِنهم يطلعون في كل يوم على فائدة زائدة وحكمة جديدة . ويجوز أن يراد بتوصيل القول جعل بيان على إثر بيان والمعنى أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً ووعداً ووعيداً وقصصاً وعبراً إلى غير ذلك من معاني القرآن إرادة أن يتعظوا فيفلحوا .

ويحتمل أن يكون المراد : بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزاً مرة بعد أخرى .
وحين أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله { الذين آتيناهم الكتاب من قبله } أي من قبل القرآن { هم به يؤمنون } قال قتادة : إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها ، فلما بعث الله محمداً آمنوا به من جملتهم سلمان وعبد الله بن سلام . وقال مقاتل : نزلت في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاؤا مع جعفر من ارض الحبشة في السفينة ، وثمانية جاؤا من الشام . وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم . والتحقيق أن كل من حصل في حقه هذه الصفة يكون داخلاً في الآية لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ثم حكى عنهم ما يدل على تأكد إيمانهم وقوله { إنه الحق من ربنا } تعليل للإٍيمان به لأن كونه حقاً من الله يوجب الإيمان به . وقوله { إنا كنا من قبله مسلمين } بيان لقولهم آمنا به لأن إيمانهم احتمل أن يكون قريب العهد وأن يكون بعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم ، وذلك لما وجدوا في كتب الأنبياء من البشارة بمقدمه فأذعنوا له وتلقوه بالقبول كما هو شأن كل مسلم ، ومعنى { من قبله } أي من قبل وجوده ونزوله . وفي قوله { يؤتون أجرهم مرتين } أقوال بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن أو بصبرهم على أذى المشركين وعلى أذى أهل الكتاب ، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وعلى الإيمان به بعد نزوله وهذا أقرب ، لأنه لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة وبين أنهم كانوا مؤمنين به قبل البعث ثم اثبت لهم الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك . { ويدرؤن بالحسنة } وهي الطاعة { السيئة } وهي المعاصي المتقدمة أي يدفعون بالحلم الأذى . يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه . وقال السدي : عاب اليهود عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول : سلام عليكم . مدحهم بالإيمان ثم بالطاعات البدنية ومكارم الأخلاق ، ثم بالطاعات المالية وهو الإنفاق مما رزقهم ، ثم بالتحمل والتواضع . وإنما يجب أن يقوله الحليم في معارضة السفيه وهو قوله { وإذا سمعوا اللغو } وهو كل ما ينبغي أن يلقى ويترك { أعرضوا عنه وقالوا } لأهل ذلك اللغلو { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } سلام توديع ومتاركة { لا نبتغي الجاهلين } لا نطلب مخالطتهم وعشرتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم وهذا خلق مندوب إليه ولو بعد الأمر بالقتال فلا نسخ . ثم ذكر أن الهداية إنما تتعلق بمشيئة الله . قال الزجاج : أجمع المسلمون على أنها نزلت في ابي طالب وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : أريد منك كلمة واحدة أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله .

قال : قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جبن عند الموت . وقد مر مثل هذا النقل في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى { وهم ينهون وينأون عنه } [ الأنعام : 26 ] . واعلم أنه لا منافاة بين هذه الآية وبين قوله { وانك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى : 52 ] لأن الذي نفاه هداية التوفيق وشرح الصدر والتي أثبتها هداية الدعوة والبيان ، وبحث الأشاعرة والمعتزلة ههنا معلوم . وحيث بين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله سبحانه حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بالدنيا وذلك أنهم { قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } يروى أن الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك أن تسلبنا العرب بسرعة أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا ، فأجاب الله سبحانه عن شبهتهم بقوله { أولم نمكن لهم حرماً آمناً } يروى أن العرب كانوا يشتغلون بالنهب والغارة خارج الحرم وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكان الحرم وقد زاد الله حرمته بقوله { ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] وبين مزيته بقوله { يجبى إليه ثمرات كل شيء } قالوا : الكل ههنا بمعنى الأكثر . قلت : يحتمل أن يكون على أصله . وانتصب { رزقاً } على أنه مصدر لأن { يجبى } بمعنى يرزق ، أو على أنه مفعول لأجله . وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالاً من الثمرات لتخصصها بالإضافة . وحاصل الجواب أنه لما جعل الحرم آمناً وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان ، فبقاء هذه الحالة مع الإيمان أولى . ولا يخفى أن التخطف على تقدير وقوعه لا يصلح عذراً لعدم الإيمان فإن درجة الشهادة أعلى وأجل ، ومضرة التخطف أهون من العقاب الدائم إلا أنه تعالى احتج عليهم بما هو معلوم من عادة العرب وهو أنهم كانوا لا يتعرضون لقطان الحرم والأمر البين للحس أولى بأن يفحم به الخصم فلذلك قدمه الله تعالى . وفي الآية دلالة على صحة المحاجة . لإزالة شبهة المبطلين . قالت الشاعرة : الأرزاق إنما تصل إليهم على ايدي الناس وقد اضاف الرزق إلى نفسه فدل ذلك على أن افعال العباد مستندة إلى الله . ومن تأمل في الآية علم أن العبد يجب أن لا يخاف ولا يرجو إلا من الله .
ثم أجاب عن شبهتهم بحديث آخر مخلوط بالوعيد . وانتصب { معيشتها } بنزع الخافض كقوله { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] أو على أنه ظرف مكان مجازاً كأن النظر استقر في المعيشة ، أو على حذف المضاف أي بطرت أيام معيشتها كخفوق النجم ، أو بتضمين بطرت معنى كفرت وعطلت ، والبطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله فيه .

ومعنى { إلا قليلاً } قال ابن عباس : أي لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوماً أو ساعة . ويجوز أن يكون شؤم معاصيهم بقي في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يسكن إلا قليلاً . { وكنا نحن الوارثين } كقوله { ولله ميراث السموات والأرض } [ آل عمران : 180 ] لأنه الباقي بعد فناء خلقه . ثم كان لسائل أن يقول : ما بال الكفرة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يهلكوا مع تماديهم في الغي؟ فقال { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها } اي في القرية التي هي قصبتها وأصلها وغيرها من توابعها وأعمالها { رسولاً يتلو عليهم آياتنا } بوحي وتبليغ وذلك لتأكيد الحجة وقطع المعذرة . قال في الكشاف : يحتمل أن يراد وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى - يعني مكة - رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء . وكان لقائل أن يقول : ما بال الكفار بعد مبعث محمد لم يهلكهم الله مع تكذيبهم وجحودهم فقال { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فمنهم من قد آمن ومنهم من سيؤمن ومنهم من يخرج من نسله من يؤمن . ثم اجاب عن شبهتهم بجواب ثالث وذلك أن حاصل شبهتهم أن قالا : تركنا الدين لأجل الدنيا . فبين تعالى بقوله { وما أوتيتم من شيء } الآية . أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى لأنه أكثر وأدوم . ونبه على جهلهم بقوله { أفلا تعقلون } ويرحم الله الشافعي حيث قال : إذا أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى ، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير . نظير الاية قوله صلى الله عليه وسلم « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » قال البرهان : إنما السورة « وما أوتيتم » الواو وفي الشورى { فما أوتيتم } [ الآية : 36 ] بالفاء لأنه لم يتعلق بما قبله ههنا كثير تعلق ، وقد تعلق في الشورى بما قبلها أشد تعلق ، ولأنه عقب ما لهم من المخافة ما أوتوه من الأمنة والفاء حرف التعقيب والواو والمجرد العطف . وإنما زاد في هذه السورة { وزينتها } . لأن المراد ههنا جميع أعراض الدنيا من الضرورات ومن الزين ، فالمتاع مالا غنى عنه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمنكوح ، والزينة وغيرها كالثياب الفاخرة والمراكب الرائعة والدور المشيدة . وأما في « الشورى » فلم يقصد الاستيعاب بل ما هو مطلوبهم في تلك الحالة من النجاة والأمن في الحياة فلم يحتج إلى ذكر الزينة . ثم زاد البيان المذكور تأكيداً بقوله { افمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه } لأن وعد الله يترتب عليه الإنجاز البتة وصاحبه يلقى الموعود لا محالة .

وتقدير الكلام : أبعد التفاوت المذكور بين ما عند الله وبين متاع الحياة الدنيا يسوّي بين أهل الجنة وبين أبناء الدنيا؟ ومعنى « ثم » في قوله { ثم هو يوم القيامة } تراخي حال الإِحضار عن حال التمتع ، لا تراخي وقته عن وقته . وتخصيص لفظ { المحضرين } بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن . قال الله تعالى { لكنت من المحضرين } [ الصافات : 57 ] { فإنهم لمحضرون } [ الصافات : 127 ] ويمكن أن يقال : إن في اللفظ إشعاراً به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإِلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة والأنس وإنما يليق بمواضع الإكراه والوحشة . قيل : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل . وقيل : في علي وحمزة وأبي جهل . وقيل : في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة . ثم ذكر من وصف القيامة قائلاً { ويوم يناديهم } أي فاذكر ذلك اليوم . ومعنى الاستفهام في { أين } التوبيخ والتهكم . ومفعولا { تزعمون } محذوفان تقديره تزعمونهم شركائي . { قال الذين حق عليهم القول } أي وجب وثبت وهو مفهوم لأملأن جهنم وهم اشياطين ورؤساء الكفر . و { هؤلاء } مبتدأ و { الذين أغوينا } صفته والعائد إلى الموصول محذوف والخبر { أغويناهم } والتقدير : هؤلاء الذين أغويناهم أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا . قال أهل السنة : أرادوا كما أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر وإلجاء فنحن أيضاً أغويناهم بالوسوسة والتسويل وبكل ما أمكن حتى غووا . وقالت المعتزلة : يعنون أنا ما غوينا إلا باختيارنا فكذلك هم ما غووا إلا باختيارهم وإن أغواءنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين في الإقدام على تلك العقائد والأعمال فيكون كما حكي عن الشيطان { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } [ إبراهيم : 22 ] ثم قالوا { تبرأنا إليك } منهم ومن عقائدهم وأعمالهم { ما كانوا إيانا يعبدون } إنما كانوا يعبدون هؤلاء أهواءهم الفاسدة . وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى .
وحين حكى التوبيخ المذكور ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر اعتذاراً ذكر ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم وهو قوله : { وقيل ادعوا شركاءهم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } زعم جم غفير من المفسرين أن جواب « لو » محذوف . فقال الضحاك ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة ولعلموا أن العذاب حق ، أو لو كانوا يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب . وقيل : ارا ورأوا العذاب لو كانوا يبصرون شيئاً ولكنهم صاروا مبهوتين بحيث لا يبصرون شيئاً فلا جرم ما رأوه . وقيل : الضمير للأصنام أي كانوا أحياء مهتدين لشاهدوا العذاب . وقيل : « لو » للتمني أي تمنوا لو كانوا مهتدين . ثم بكتهم بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل .

ومعنى { عميت عليهم الأنباء } أن أخبار المرسلين والمرسل إليهم صارت كالعمى عليهم جميعاً لا يهتدون إليهم فهم لا يتساءلون كما يسال بعض الناس بعضاً في المشكلات لأنهم متساوية الأقدام في العجز عن الجواب ، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتلعثمون في الجواب عن مثل هذا السؤال كما قال سبحانه { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا } [ المائدة : 109 ] فما ظنك بضلال أممهم؟! قال القاضي : الآية تدل على بطلان قول المجبرة ، لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله تعالى وجب وقوعه بالقدرة والإرادة ولما عميت عليهم الأنباء ولقالوا : إنما كذبنا الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم ومن جهة القدرة الموجبة لذلك . وكذا القول فيما تقدّم لأن الشيطان كان له أن يقول : إنما أغويت لخلقك فيّ الغواية ، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك لتكون الحجة لهم على الله قوية والعذر ظاهراً . وعارضته الأشاعرة بالعلم والداعي . والذي اعتمد عليه القاضي في دفع هذا المشكل المعضل في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن فالواجب السكوت . وزيفه الأشعري بأن الكافر لو اورد هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهراً . ولقائل أن يقول : السكوت عن جواب الكافر جواب كما قيل : جواب الأحمق السكوت . وحين فرغ من توبيخ الكفار وتهديدهم اتبعة ذكر التائبين وأنهم من المفلحين . و « عسى » من الكريم تحقيق أو الترجي عائد إلى التائب . ثم إن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى وهي قولهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] فأجاب الله تعالى عنها بقوله { وربك يخلق ما يشاء ويختار } لأنه المالك المطلق المنزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء . وعلى مذهب المعتزلة هو حكيم فلا يفعل إلا الحكمة والخير . وقوله { ما كان لهم الخبرة } بيان لقوله { ويختار } والخيرة من التخير كالطيرة من التطير في أنه اسم مستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وهو بمعنى المتخير كقولهم « محمد خيرة الله من خلقه » . وقد مر في الوقف أن بعضهم يقف على { ما يشاء } ثم يقول { ويختار ما كان لهم الخيرة } قال أبو القاسم الأنصاري : يعلم من هذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه ، واي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن بالله ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله . فإن قيل : إنما كلفه ليستوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا : إذا علم أن ذلك الأفضل لا يحصل فتوريطه للعقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة . ثم قولهم « المستحق خير من المتفضل به » ممنوع لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله ، أما الذي حصل ذاته وصفاته بإحسانه فكيف يستنكف من تفضله؟ قلت : لقائل أن يقول : مجرد الاستبعاد لا يصلح للمنع على أن لذة الأجر يستحيل أن تحصل بدون الأجر .

ثم نزه نفسه بقوله { سبحان الله وتعالى عما يشركون } والغرض أن الخلق والاختيار والإِعزاز والإِذلال والإِهانة والإِجلال كلها مفوض وجوبها إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة . ثم اكد ذلك بقوله { وربك يعلم ما تكن صدورهم } من عداوة نبيه { وما يعلنون } من مطاوعتهم فيه .
ويحتمل أن يكون عاماً يشمل السرائر والظواهر كلها وهو المستأثر بالإلهية . و { لا إله إلا هو } تقرير لما قبله { له الحمد في } الدار { الأولى } على نعمه الفائضة على البر والفاجر { و } في الدار { الآخرة } كقولهم { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } [ فاطر : 34 ] { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] والتحميد هناك على وجه اللذة لا التكليف . قال أهل السنة : الثواب يستحق عند المعتزلة فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة ، وأما أهل النار فلم ينعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم . والجواب ما ذكرناه أن تحميدهم يجري مجرى التنفس . قال القاضي : إنه يستحق الحمد من أهل النار أيضاً بما فعل بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم ، وأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله به عليه من أن يوجب الشكر . وقال في التفسير الكبير : فيه نظر ، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا أن التوبة واجبة القبول وأن الشكر مما يوجب الثواب فلا بد أن يتوبوا ويشتغلوا بالشكر ليستحقوا الثواب ويتخلصوا من العقاب . ولقائل أن يقول : لا يلزم من وجوب قبول التوبة واستحقاق الجزاء على العمل في دار التكاليف أن يكون الأمر كذلك في غير دار التكاليف . ثم بين بقوله { وله الحكم } أن القضاء بين العباد مختص به فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ، ولا على الزوجة حكم زوجها ، ولا على الابن حكم ابيه ، ولا على الرعية حكم سلطانهم ، ولا على الأمة حكم رسولهم وإلى محل حكمه وقضائه يرجع كل عبيده وإمائه .
التأويل : { ولقد آتينا موسى } القلب مقام القرب والوحي والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها { لعلهم يتذكرون } إذ كانوا في عالم الأرواح مستمعين خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] { وما كنت } في غرب العدم بل كنت في شرق الوجود في عالم الأرواح { إذ قضينا إلى موسى } أمر اتخاذ العهد منه أن يؤمن بك كقوله { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } [ آل عمران : 81 ] وما كنت في عالم الشهادة { ولكنا أنشأنا قروناً } في عالم الشهادة { فتطاول عليهم العمر } فاحتجوا بالنفس وصفاتها ونسوا تلك العهود والمواثيق { وما كنت } مقيماً { في أهل مدين } كشعيب وموسى ، إذ أخذت منهما الميثاق أن يؤمنا بك { ولكنا كنا مرسلين } للرسل الذين أخذنا الميثاق منهم .

ولولا أن تصيبهم التقدير ، ولولا أن مقتضى العناية الأزلية في حق هذه الأمة ودفع حجتهم علينا فإنا ناديناهم وهم في العدم فأسمعناهم نداءنا ولم نوفقهم للإِجابة { فلما جاءهم الحق } يعني محمداً . وفي أن له رتبة أن يقول أنا الحق لفنائه عن نفسه بالكلية وبقائه بربه وكل من سواه فليس له أن يقول ذلك إلا بطريق المتابعة { لولا أوتي مثل ما أوتي } لولم يكونوا محتجبين بكفرهم عن رؤية كماله لقالوا : لولا أوتي مثل ما أوتي محمد من مقام المحبة ومقام لي مع الله وقت { بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } يعني الكتاب المشتمل على العلم اللدني فإنه أهدى إلى الحضرة من الكتب الموقوفة على السماع والمطالعة ، ومن لم تكن له هذه الرتبة فإنه محجوب عن الحضرة بهوى نفسه كما قال { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } { الذين آتيناهم } حقيقة { الكتاب } في عالم الرواح { من قبل } نزوله في عالم الأشباح { هم به يؤمنون } في عالم الصورة ولهذا قالوا { إنا كنا من قبله مسلمين } ولذلك قال { يؤتون أجرهم مرتين } أي في العالمين { بما صبروا } على مخالفات الهوى وموافقات الشرع { ويدرؤن } بالأعمال الصالحات ظلمة المعاصي ، أو بحسنة الذكر صدأ حب الدنيا عن مرآة القلوب ، أو بحسنة نفي ما سوى الله شرك الوجود المجازي { ومما رزقناهم } من الوجود المجازي { ينفقون } في طلب الوجود الحقيقي : { وإذا سمعوا اللغو } وهو طلب ماسوى الله { أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا } في طلب الوجود الحقيقي { ولكم أعمالكم } في طلب الفاني { إنك لا تهدي من أحببت } وذلك أن للقلب بابين : أحدهما إلى النفس والجسد وهو مفتوح ابداً ، والآخر إلى الروح والحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده كل مفتاح كما قال { أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24 ] وقال : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] { وهو أعلم بالمهتدين } الذين اصابهم رشاش النور { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف } بجذبات الألوهية من ارض الأنانية { أو لم نمكن لهم حرماً آمناً } في مقام الهوية { يجبى إليه ثمرات } حقائق { كل شيء رزقاً } من العلوم اللدنية { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ذوق العلم اللدني { لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً } أي لم تسكن في قرى القلوب الفاسد استعدادها { إلا قليلاً } من نور الإسلام بعبور الخواطر الروحانية في الأحايين { وكنا نحن الوارثين } بأن رجع نور الإسلام إلى الحضرة بعد فساد الاستعداد { حتى يبعث في أمها } اي روحها لأن القلب من متولدات الروح { رسولاً } من وارد نفحات الحق الوعد الحسن للعوام الجنة ، وللخواص الرؤية وللأخص الوصول والوصال كما أوحى إلى عيسى « تجوّع ترنى تجرد تصل إلي » { أغويناهم كما غوينا } راعوا طريقة الأدب ولم يقولوا كما أغويتنا مثل ما قال إبليس { فبما أغويتني } [ الأعراف : 16 ] أي { أغويناهم } بتقديريك { كما أغوينا } بقضائك وهذا من خصوصية تكريم بني آدم بحفظ البعداء طريقة الأدب كما يحفظها أهل القرب على بساط الكرامة { ورأوا العذاب } يعني { لو كانوا يهتدون } لرأوا عذاب الفطام عن المألوفات والشهوات والله أعلم بالخفيات .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

القراآت : { عندي أولم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن فليح وأبو عمرو وخزاعي عن أصحابه وابن مجاهد وأبو عون والسرندي عن قنبل . الباقون بالإسكان { ويكأن } { ويكأنه } الوقف على الياء : أبو عمرو ويعقوب { ويك } الوقف على الكاف و { ويكأنه } موصولة : روى السوسي عن السرندي وهو مذهب حمزة . الباقون كلاهما موصلان { لخسف } على البناء للفاعل : سهل ويعقوب وحفص { ربي أعلم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو .
الوقوف : { بضياء } ط { تسمعون } 5 { فيه } ط { تبصرون } 5 { تشكرون } 5 { تزعمون } 5 { يفترون } 5 { عليهم } ص لأن الواو للحال أي وقد آتينا مع طول الكلام { القوّة } ط بناء على أن التقدير و « أذكر » إذ قال : وقال في الكشاف : إنه متعلق ب { تنوء } فلا وقف { الفرحين } 5 { في الأرض } ط { المفسدين } 5 { عندي } ط { جمعاً } ط { المجرمون } 5 { في زينته } ط لعدم العاطف واختلاف القائل . { قارون } لا لأن ما بعده تعليل التمني ولو ابتدأنا لحكمنا بأنه ذو حظ { عظيم } 5 { صالحاً } ج لأن ما بعده احتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله ، واحتمل أن يكون من قول أهل العلم { الصابرون } 5 { من دون الله } ق قد قيل : لتفصيل الاعتبار { المنتصرون } 5 { ويقدر } ج للابتداء بلولا مع اتحاد المقول { لخسف بنا } ط { الكافرون } 5 { ولا فساداً } ط { للمتقين } 5 { منها } ج لعطف جملة الشرط { يعملون } 5 { معاد } ط { مبين } 5 { للكافرين } 5 ز للآية مع العطف { المشركين } 5 للآية وخلو المعطوف عن نون التأكيد التي خلت المعطوف عليه مع اتفاق الجملتين آخراً احترازاً من إيهام كون ما بعده صفة { آخر } 5 { لا إله إلا هو } ط { وجهه } ط { ترجعون } 5 .
التفسير : لما بين سبحانه حقيقة آلهيته واستحقاقه للحمد المطلق وأن مرجع الكل إلى حكمته وقضائه ، أتبعه بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه أحد سواه وهو تبديل ظلام الليل بضياء النهار وبالعكس . والمعنى : أخبروني من يقدر على هذا؟ والسرمد الدائم المتصل من السرد ، والميم زائدة ، وانتصابه على أن مفعول ثانٍ لجعل أو على الحال ، وإلى متعلق بجعل أو ب { سرمداً } ، ومنافع الليل والنهار والاستدلال بهما على كما قدرة الله تعالى قد تقدمت مراراً . قال جار الله : وإنما لم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قيل : { بليل تسكنون فيه } لأن الضياء وهو ضوء الشمس تتعلق به المنافع المتكاثرة وليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثَمّ قرن بالضياء { أفلا تسمعون } لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل { أفلا تبصرون } لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه .

قال الكلبي : { أفلا تسمعون } معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك . وقوله { أفلا تبصرون } معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال . وقال أهل البرهان : قدم الليل على النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل . وإنما ختم الاية الأولى بقوله { أفلا تسمعون } بناء على الليل ، وختم الأخرى بقوله { أفلا تبصرون } بناء على النهار والنهار مبصر وآية النهار مبصرة . ثم بين أن من رحمته زواجه بين الليل والنهار لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ولإرادة الشكر على النعمتين جميعاً . وفي الآية طريقة اللف ثقة بفهم السامع وذلك لأن السكون بالنهار وإن كان ممكناً وكذا الابتغاء من فضل الله بالليل إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره فلهذا خصه به . وفي تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء دليل على أنه لا شيء أسخط عند الله من الإشراك به ، ويعلم منه أنه لا شيء أجلب لرضاه من الشهادة بوحدانيته . وفحوى الخطاب : أين الذين ادّعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين الذين قلتم إنها تقربكم إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله؟ فيكون ذلك زيادة في غمهم .
ومعنى { ونزعنا } وأخرجنا { من كل أمة شهيداً } قال بعضهم : هونبيهم لأن الأنبياء يشهدون أنهم بلغوا أمتهم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زيادة في غمهم أيضاً . وقال آخرون : بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ، ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب ، لأنه تعالى عم كل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه أزمنة الفترات والأزمنة التي بعد محمد صلى الله عليه وسلم . { فقلنا } للأمة { هاتوا برهانكم } فيما كنتم عليه من الشرك وخلاف الرسول { فعلموا } حينئذ { أن الحق لله } ورسوله وغاب { عنهم ما كانوا يفترون } من الباطل والزور . ثم عقب حديث أهل الضلال بقصة قارون . وهو اسم أعجمي ولهذا لم ينصرف بعد العلمية ولو كان « فاعولاً » من قرن لا نصرف . والظاهر أنه كان ممن آمن بموسى ، هذا ظاهر نص القرآن ولا يبعد أيضاً حمله على القرابة . قال الكلبي : إنه كان ابن عم موسى . وقيل : كان موسى ابن أخيه وكان يسمى المنوّر لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري . وقال : إذا كانت النبوّة لموسى والذبح والقربان إلى هارون فما لي؟ وفي قوله { فبغى عليهم } وجوه أحدها : أن بغيه استخفافه بالفقراء . وثانيها أن ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم . وقال القفال : معناه طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده . وقال الضحاك : طغى عليهم واستطال فلم يوافقهم في أمر . ابن عباس : تجبر وتكبر عليهم ومثله عن شهر بن حوشب قال : بغيه أنه زاد عليهم في الثياب شبراً فهذا يعود إلى التكبر .

الكلبي : بغيه حسده وذلك أنه لما جوز بهم موسى البحر وصارت السرالة له والوزارة لهارون ، وكان القربان إلى موسى فجعله إلى هارون فوجد قارون في نفسه حسدهما فقال لموسى : الأمر لكما ولست على شيء إلى متى اصبر؟ قال موسى : هكذا حكم الله . قال : والله لا أصدقك حتى تأتي بآية ، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يأتي كل واحد بعصا فألقى مجموع العصيّ في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها فأصبحوا فإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر . واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله { وآتيناه من الكنوز } سأل الكلبي : الستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف إيتاء مال قارون إلى نفسه؟ فأجاب بأنه لا حجة في أن ماله حرام لجواز أنه ظفر بكنر لبعض الملوك الخالية ، وكان الظفر عندهم طريق التملك ، أو لعله وصل إليه بالإرث من جهات ، أو بالكسب من جهة المضاربات وغيرها . والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به الباب ، أو جمع مفتح بالفتح وهو الخزانة . فمن الناس من طعن في القول الأول لأن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوأة من الذهب لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح ولهذا قال أبو رزين : يكفي للكوفة مفتاح واحد . وأيضاً الكنوز هي الأموال المدفونة في الأرض ولا يتصوّر لها مفتاح . أجاب الناصرون للقول الأول وهو اختيار ابن عباس والحسن : أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقود جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد . وأيضاً ما روي أن مفاتيحه كانت من جلود الإبل وكل مفتاح إصبع ولكل خزانة مفتاح ، وكان إذا ركب حملت المفاتيح ستون بغلاً غير مذكور في القرآن . فالصواب أن يفسر قوله { لتنوء } أي تنهض مثقلاً بأن تلك الخزائن يعسر ضبطها ومعرفتها على أهل القوّة في الحساب ، وقريب منه قول أبي مسلم : إن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] والمراد أن حفظها والاطلاع عليها يثقل على العصبة أولي القوّة والمتانة في الرأي . وظاهر الكنوز وإن كان من جهة العرف هو المال المدفون إلا أنه قد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق . وأيضاً لا استبعاد في أن يكون موضع المال المدفون بيتاً تحت الأرض له غلق ومفتاح معه .
و { لا تفرح } كقوله { ولا تفرحوا بما آتاكم } [ الحديد : 23 ] وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من اطمأن ورضي بها . قال ابن عباس : كان حبه ذلك رشكاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبه الله تعالى : { وابتغ فما آتاك الله } من المال والثروة { الدار الآخرة } يعني أسباب حصول سعاداتها من أصناف الخيرات والمبرات الواجبة والمندوبة فإن ذلك هو نصيب المؤمن من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب ، وإلى هذا أشار بقوله { ولا تنسَ نصيبك من الدنيا } ويحتمل أن يراد به اللذات المباحة .

وحين أمروه بالإحسان المالي أمروه بالإحسان مطلقاً ويدخل فيه الإحسان بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن الغيبة والحضور . وفي قوله { كما أحسن الله إليك } إشارة إلى قوله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] وإلى ما قال الحكماء : المكافأة في الطبيعة واجبة . و { الفساد في الأرض } المنهي عنه هو ما كان عليه من الظلم والبغي . وهذا القائل موسى عليه السلام أو مؤمنو قومه وهو ظاهر اللفظ .
وكيف كان فقد جمع في هذه الألفاظ من الوعظ ما لو قبل لم يكن عليه مزيد لكنه أبي أن يقبل بل تلقى النصح بكفران النعمة قائلاً { إنما آوتيته على علم عندي } قال قتادة ومقاتل والكلبي : كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال : إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك . وقال سعيد بن المسيب والضحاك : إن موسى أنزل عليه الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وطالوت ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً . وقيل : أراد علمه بوجوه المكاسب والتجارات . وقيل : أراد إن الله أعطاني ذلك على علم له تعالى بحالي وباستئهالي لذلك . وقوله { عندي } الأمر كذلك اي في اعتقادي وفي ظني فأجابه الله تعالى بقوله { أولم يعلم } الآية . قال علماء المعاني : يجوز أن يكون المعنى بالاستفهام إثباتاً لعمله لأنه قد قرأ في التوراة أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية وحفظها من موسى وغيره فكأنه قيل : إنه قد علم ذلك فلم اغتر بكثرة ماله وأعوانه؟ ويجوز أن يراد به نفي العلم لأنه لما تحدّى بكونه من أهل العلم حيث قال { على علم عندي } وبخه الله تعالى أنه لم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهلكى . ووجه اتصال قوله { ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون } بما قبله أنه تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالم بكل المعلومات . وقال أبو مسلم : أراد أنهم لا يسالون سؤال استيقان وإنما يسألون سؤال تقريع ومحاسبة { فخرج على قومه في زينته } عن الحسن : في الحمرة والصفرة . وقيل : خرج على بغلة شهباء عليه ثوب أحمر أرجواني ، وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلثمائة غلام ، وعن يساره ثلثمائة جارية بيض عيلهن الحلى والثياب الفاخرة . وقيل : في تسعين ألفاً عليهم الثياب الصفر . قال الراغبون في الحياة العاجلة { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون انه لذو حظ عظيم } والحظ الجد والبخت .

عن قتادة : كانوا مسلمين تمنوا ذلك رغبة في الإنفاق في سبيل الخير . وقال آخرون : كانوا كفاراً وقد مر في سورة النساء تحقيق الغبطة والحسد في قوله { ولا تمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] { وقال الذين أوتوا العلم } بأحوال الدنيا وأنها عند الآخرة كلا شيء { ويلكم } وأصله الدعاء بالهلاك إلا أنه قد يستعمل في الردع والزجر بطريق النصح والإِشفاق ، والضمير في قوله { ولا يلقاها } عائد إلى الكلمة المذكورة وهي قوله { ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً } أو إلى الصواب بمعنى المثوبة .
أو بتأويل الجنة ، أو إلى السير والطريقة أي لا يلزم هذه السيرة { إلا الصابرون } على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله وحكم به من الغنى وضده ، وظاهر حال قارون ينبئ عن أنه كان ذا أشر وبطر واستخفاف بحقوق الله واستهانة بنبيه وكتابه ، فلا جرم خسف الله به وبدراه الأرض ، إلا أن المفسرين فصلوا فقالوا : كان يؤذي نبي الله موسى وهو يداريه للقرابة التي كانت بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل الف درهم على درهم ، فحسبه فاستكثر فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فأمر بما شئ . فقال : ائتوا إلى فلانة البغي حتى ترميه بنفسها في جمع بني إسرائيل فجعل لها ألف دينار أو طستاً مملوءاً من ذهب . فلما كان يوم عيد ق موسى فقال يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير مصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه . فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا .
قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة . فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت : كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجداً يبكي وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك . فقال : يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فيعتزل فاعتزلوا جميعهاً غير جرلين . ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط . ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون واصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه . ثم قال : خذيهم فانطبقت عليهم . فأوحى الله إلى موسى ما أفظك! استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً . قلت : لعل استغاثته كانت مقرونة بالتوبة وإلا فالعتاب بعيد .

ثم إن بني إسرائيل أصبحوا يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستفيد داره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله . ومعنى { من المنتصرين } من المنتقمين من موسى ، أو من الممتنعين من عذاب الله { وأصبح الذين تمنوا مكانه } أي منزلته من الدنيا وأسبابها { بالأمس } أي بالزمان المتقدم { يقولون } راغبين في طاعة الله والرضا بقضائه وقسمته { ويكأن الله } من قرأ { وي } مفصولة عن { كأن } وهو مذهب الخليل وسيبويه فهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم كأنهم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وتندموا ثم قالوا { كأنه لا يفلح الكافرون } أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح نظير هذا الاستعمال قول الشاعر :
ويكأن من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعيش عيش ضر
وعند الكوفيين : ويك بمعنى ويلك أي ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون . حكى هذا القول قطربق عن يونس ، وجوّز جار الله أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى { وي } واللام مقدر قبل أن لبيان المقول لأجله هذا القول والتعليل أي لأنه لا يفلح الكفار كان ذلك الخسف .
قال في الكشاف قوله { تلك } تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها . قلت : يحتمل أن يكون للتبعيد حقيقة . وفي قوله { لا يريدون } كون أن يقول « يترون » زجر عظيم ووعظ بليغ كقوله { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } [ هود : 113 ] حيث علق الوعيد بالكون عن علي أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحته . ومن الناس من رد العلو إلى فرعون والفساد إلى قارون لقوله تعالى { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] وقال في قصة قارون { ولا تبغ الفساد في الأرض } وضعف هذا التخصيص بيِّن لقوله في خاتمة الآية { والعاقبة للمتقين } قوله { من جاء بالحسنة } الآية ، قد مر تفسير مثله في آخر « الأنعام » وفي آخر « النمل » . وقوله { فلا يجزى الذين عملوا السيئات } من وضع الظاهر موضع المضمر إذ كان يكفي أن يقال : « فلا تجزون » إلا أنه أراد فضل تهجين لحالهم بإسناد عمل السيئات إليهم مكرراً ، وفي ذلك لطف للسامعين في زيادة تبغيض السيئة إلى قلوبهم . ثم أراد أن يسلي رسوله في خاتمة السورة فقال { إن الذي فرض عليك القرآن } أي أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه { لرادّك إلى معاد } وزأي معاد فتنكير المعاد للتعظيم وأنه ليس لغيره من البشر مثله يعني أن الذي حملك صعوبة تكلي التبليغ وما يتصل به لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف . وقيل : أراد عوده إلى مكة يوم الفتح ، ووجه التنكير ظاهر لأن مكة يومئذ كانت معاداً له شأن لغلبة المسلمين وظهور عز الإسلام وأهله وذل أهل الشرك وحزبه والسورة مكية .

فقيل : وعده وهو بمكة في أذلا من أهلها أنه مهاجر بالنبي منها ويعيده إليها في ظفر ودولة . وقيل : نزلت عليه هذه الآية حين بلغ الجحفة في مهاجرة وقد اشتاق إلى وطنه . وفي الآية إخبار عن الغيب وقد وقع كما أخبر فيكون فيه إعجاز دال على نبوّته .
وحين وعد رسوله الردّ إلى المعاد المعتبر قال { قل } لأهل الشرك { ربي أعلم } يعني نفسه وغياهم بما يستحقه كل من الفريقين في معاده ، ولا يخفى أن هذا كلام منصف واثق بصدقه وحقيته . ثم ذكر رسوله ما أنعم به عليه فقال { وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة } قال أهل العربية : هذا الاستثناء محمول على المعنى كأنه قيل : وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة ، أو « إلا » بمعنى « لكن » أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك . ثم نهاه عن اتباع أهواء أهل الشرك وقد مرّ مراراً أن مثل هذا النهي منباب التهييج له ولأمته . ثم إن مرجع الكل إليه فقال { كل شيء هالك إلا وجهه } فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم أي يعدم كل شيء سواه ، والوجه يعبر به عن الذات ، ومنهم من فسر الهلاك بخروجه عن كونه منتفعاً به منفعته الخاصة به إما بالإماتة أوبتفريق الأجزاء كما يقال « هلك الثوب وهلك المتاع » وقال أهل التحقيق : معنى الهلاك كونه في حيز الإمكان غير مستحق للوجود ولا للعدم من عند ذاته ، وإن سميت المعدوم شيئاً فممتنع الوجود أحق كل شيء بأن يسمى هالكاً . استدلت المعتزلة بالآية على أن الجنة والنار غير مخلوقتين لأنهما لو كانتا مخلوقتين لعرض لهما الفناء بحكم الآية ، وهذا يناقض قوله { أكلها دائم } [ الرعد : 35 ] وعورض بقوله { اعدّت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] و { أعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ويحتمل أن يقال الكل بمعنى الأكثر ومن هناك قال الضحاك : كل شيء هالك إلا الله والعرش والجنة والنار . وقيل : إلا العلماء فإن علمهم باق . ويمكن أن يقال إن زمان فناء الجنة لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائها فلا جرم أطلق لفظ الدوام عليه ومن فسر الهلاك بالإمكان فلا إشكال والله أعلم .
التأويل : { أرايتم إن جعل الله عليكم } ليل الفراق عند استيلاء ظلمة البشرية { سرمداً } { من إله غير الله يأتيكم بضياء } نهار الوصل والتجلي { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم } نهار الوصل بطلوع شمس التجلي { سرمداً } { من إله غير الله يأتيكم بليل } سر تسكنون فيه عن وعثاء سطوة التجلي { ومن رحمته جعل لكم } ليل السر ونهار التجلي فإن العاشق لو دام في التجلي كان يستهلك وجوده ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول « إنه ليغان على قلبي » وقال لعائشة : كلميني يا حميراء . وذلك لتخرجه من سطوات شمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب والنصب .

وليس هذا السر من قبيل الحجاب وإنما هو من جملة الرحمة واللطف نظيره الشمس في عالم الصورة فإنها في خط الاستواء تحرق ، وفي الآفاق الرحوية لا تؤثر ، وفي الآفاق الحملية يعتدل الحر والبرد فتكثر العمارة وتسهل ويعيش الحيوان { ونزعنا من كل أمة } من أرباب النفوس { شهيداً } هو القلب الحاضر { فقلنا هاتوا برهانكم } وهو حقيقة التوحيد التي لا تحصل بالفعل إلا بجذبة خطاب الحق فعلموا بتلك البراهين القاطعة أن الحق لله { إن قارون } النفس { كان من قوم موسى } القلب لأن الله تعالى جعل النفس تبعاً للقلب وجعل سعادتها في متابعة { وآتيناه من الكنوز } المودعة في صفاتها قد أهلك من قبله من القرون كإبليس فإنه أكثر علماً وطاعة { في زينته } هي التي زين حبها للناس من النساء والبنين وغير ذلك { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } وهم صفات النفس . { وقال الذين أوتوا العلم } وهو صفات الروح { فخسفنا به } الأرض دركات السفل { وبداره } وهي قالبه أرض جهنم يتغلغل فيها إلى يوم القيامة بل إلى الأبد { نجعلها للذين لا يريدون } كما قال في بعض الكتب المنزلة : عبدي أنا ملك حي لا أموت أبداً ، أطعني أجعلك ملكاً حياً لا تموت أبداً . عبدي أنا ملك إذا قلت لشيء كن فيكون ، أطعني أجعلك ملكاً إذا قلت لشيء كن فيكون . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت » { إن الذي فرض } أي أوجب عليك التخلق بخلق القرآن { لرادّك إلى معاد } هو مقام الفناء في الله والبقاء به { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } وهو بذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي { إلا رحمة من ربك } أي إلا أنا ألقينا الكتاب إليك إلقاء الإكسير على النحاس فتخلقت بخلق القرآن والله المستعان .
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

الوقوف : { الم } كوفي . { لا يفتنون } 5 { الكاذبين } 5 { يسبقونا } ط { يحكمون } 5ج { لآت } ط { العليم } 5 { لنفسه } ط { العالمين } 5 { يعملون } 5 { حسناً } ط { فلا تطعهما } ط { تعملون } 5 { الصالحين } 5 { كعذاب الله } ط { معكم } ط { العالمين } 5 { المنافقين } 5 { خطاياكم } ط { شيء } ط { لكاذبون } 5 { مع أثقالهم } ط فصلاً بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين . { يفترون } 5 { عاماً } ط لحق الحذف اي فلم يؤمنوا فأخذهم { الطوفان } ط { ظالمون } 5 { للعالمين } 5 .
التفسير : إنه سبحانه لما قال في خواتيم السور المتقدمة { إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد } [ القصص : 85 ] أي إلى مكة ظاهراً ظافراً ، وكان في ذلك الرد من احتمال مشاق الحوادث ما كان قال بعده { ألم أحسب الناس } إلى قوله { وهم لا يفتنون } بالجهاد أو نقول : لما أمر بالدعاء إلى الدين القويم في قوله { وادع إلى ربك } [ القصص : 87 ] وكان دونه من المتاعب وأعباء الرسالة مالا يخفى ، بدا السورة بما يهوّن على النفس بعض ذلك . وايضاً لما بين أن كل هالك له رجوع إليه ، ردّ على منكري الحشر بأن الأمر ليس على ما حسبوه ولكنهم يكلفون في دار الدنيا ثم يرجعون إلى مقام الجزء والحساب . قال أهل البرهان : وقوع الاستفهام بعد « ألم » يدل على استقلالها وانقطاعها عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها من السور . وفي تصدير السورة بأمثال هذه الحروف تنبيه للمخاطب وإيقاظ له من سنة الغفلة كما يقدم لذلك كلام له معنى مفهوم كقول القائل : اسمع وكن لي . ولا يقدم إلا إذا كان في الحديث شأن وبالخطاب اهتمام ، ولهذا ورد بعد هذه الحروف ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن الذي لا يخفى غناؤه والاهتمام بشأنه كقوله { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 ] { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } [ آل عمران : 12 ] { المص كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 13 ] { يس والقرآن } [ يس : 12 ] { ص والقرآن } [ ص : 1 ] { الم تنزيل الكتاب } [ السجدة : 12 ] إلا ثلاث سور : { كهيعص } [ مريم : 1 ] { الم أحسب الناس } { الم غلبت الروم } [ الروم : 12 ] ولا يخفى أن ما بعد حروف التهجي فيها من الأمور العظام التي يحق أن ينبه عليها بيانه في هذه السورة أن القرآن ثقله وعبؤة بما فيه من التكاليف ، وبيانه في سورة مريم ظاهر ، لأن خلق الولد فيما بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر معجز . وكذا الإخبار عن غلبة الروم قبل وقوعها . ومعنى الآية راجع إلى أن الناس لا يتركون بمجرد التلفظ بكلمة الإِيمان بل يؤمرون بأنواع التكاليف . واختلفوا في سبب نزولها فقيل : نزلت في عمار بن ياسر والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة . وقيل : نزلت في أقوام هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون .

وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل من المسلمين ، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة . قال جار الله : مفعولا الحسبان الترك وعلته والتقديرك أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا . قال : والترك بمعنى التصيير . فقوله { وهم لا يفتنون } حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه . وقال آخرون : تقديره أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن { قالوا آمنا } وأقول : إن من خواص « أن » مع الفعل و « أن » مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب ، والحكم بأن الترك ههنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرناه من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر { أم حسبتم أن تتركوا } [ التوبة : 16 ] والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان وكل ما يحب ويستلذ ، ومن ملاقاة الأعداء والمصابرة على أذاهم وسائر ما تكرهه النفس . والتحقي أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة لله . فإذا قال باللسان : آمنت فقد ادعى طاعة الله بالجنان فلا بدّ له من شهود وهو الإتيان بالأركان ، وإذا حصل الشهود فلا بدلا له من مزك وهو بذل النفس والمال في سبيل الرحمن . فمعنى الآية : أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات وهو مقام الإخلاص والقربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلاً { ولقد فتنا الذين من قبلهم } أراد كذلك فعل الله بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم « آمنا » ، بل أمرهم بالطاعات وزجرهم عن المنهيات . وقوله { فليعلمن الله } كقوله { وليعلم الله } [ الآية : 140 ] وقد مر تحقيقه في « آل عمران » . والحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم ولا إلى العلم ، وذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين . وأما عبارات المفسرين فقال مقاتل : فيرين الله وليظهرن الله . وقيل : فليميزن ، وجوز جار الله أن يكون وعداً ووعيداً كأنه قال : وليبينن الذي صدقوا وليعاقبن الكاذبين . قال الإمام فخر الدين الرازي : في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف وعن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه ، فقال في حق الأوّلين { الذين صدقوا } بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد ، وقال في حق الآخرين { وليعلمن الكاذبين } بالصيغة المنبئة عن الثبات . وإنما قال { يوم ينفع الصادقين صدقهم } [ المائدة : 119 ] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإِسلام . ثم بين بقوله { أم حسب الذين } الخ . أن من كلف بشيء ولم يمتثل عذب في الحال وإلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا }

[ الأنفال : 59 ] والحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال ، والتعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لولا الاستعجال .
ومعنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ولهذا ختم الآية بقوله { ساء ما يحكمون } والمخصوص محذوف و « ما » موصولة أو مبهمة والتقدير : بئس الذي يحكمون حكمهم هذا ، وبئس حكماً يحكمونه حكمهم هذا . وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف إرشادات وإلا يعاد عليها ترغيب وترهيب ولا يوجب من الله تعذيب . واعلم أن أصول الدين ثلاثة : معرفة المبدأ وأشار إليه بقوله { آمنا } ، ومعرفة الوسط وهو إرسال الرسل . وإيضاح السبل وإليه أشار بقوله { وهم لا يفتنون ولقد فتنا } ومعرفة المعاد إما للأشقياء وهو قوله { الم أحسب } الآية وإما للسعداء وهو قوله { من كان يرجو } أي يأمل { لقاء } جزاء { الله فإن أجل الله لآت } فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن ، فلولا البقاء لما حصل اللقاء كقولك : من كان يرجو الخير فإن السلطات واصل . فإِنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله . ومثله : من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب . إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة . ويحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر . وقيل : يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي :
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ... { وهو السميع } لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا { العليم } بنياتهم وطوياتهم وبسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت ، وبالمرئي مالا عين رأت وبالنيات مالا خطر على قلب بشر .
ثم بين بقوله { ومن جاهد } الآية . أن فائدة التكاليف والمجاهدات إنما ترجع إلى المكلف والله غني عن كل ذلك . قال المتكلمون من الأشاعرة : في الآية دلالة على ان رعاية الأصلح لا تجب على الله وإلا كان مستكملاً بذلك ، وأن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني ، وأنه ليس في مكان وإلا لزم افتقاره ، وأنه ليس قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم لأن القدرة والعلم غيره فيلزم افتقاره . ويمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال . وعن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد . وعن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه . وعن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات الله مع صفاته . وفي الآية بشارة من وجه وإنذار من وجه آخر ، وذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح ولا شيء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية وقد مر مراراً أن الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق بجميع ما قال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلاً فيما علم وإجمالاً فيما لم يعلم ، والعمل الصالح هو الذي ندب الله ورسوله إليه ، والفاسد ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه .

وعند المعتزلة الأمر والنهي مترتب على الحسن والقبح . ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف . يقال : فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع . ولكن العمل عرض لا يبقى بنفسه ولا بالعامل لأن كل شيء هالك إلا وجهه ، فبقاؤه إنما يتصور إذا كان لوجه الله . ومنه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة وهي كونها لله تعالى . وخالف زفر في نية الصوم وأبو حنيفة في نية الوضوء ، وقد مر . ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان والعمل الصالح أمرين : تكفير السيئات والجزاء بالأحسن . فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان ، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح ، ومنه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة ، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها . وههنا بحث وهو أن قوله { لنكفرن } يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ، فالمراد بالذين آمنوا وعملوا إما قوم مسلمون مذنبون ، وإما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله . أو يقال إن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء ، نظيره قول الملك لقوم : إذا أطعتموني أكرم آباءكم وأحترم أبناءكم . وهذا لا يقتضي أن يكرم آباء من توفي ابوه ويحترم ابن من لم يولد له ابن ، ولكن مفهومه أنه يكرم آباء من له أب ويحترم ابن من له ابن . أو يقال : ما من مكلف إلا وله سيئة حتى الأنبياء ، فإن ترك الأولى بالنسبة إليهم سيئة بل حسنات الأبرار سيئات المقربين . وحين بين حسن التكاليف ووقوعها وذكر ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها اشار بقوله { ووصينا الإنسان } الآية إلى أنه لا دافع لهذه السيرة ولا مانع لهذه الطريقة فإن الإنسان إذا انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه ، ومع هذا لو أمروه بالمعصية لا يجوز اتباعهم فكيف غيره؟ ومنه يعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ومعنى { وصينا } أمرنا كما مر في قوله { ووصى بها إبراهيم } [ البقرة : 132 ] وقوله { بوالديه } أي بتعهدهما ورعاية حقوقهما ، وعلى هذا ينتصب { حسناً } بمضمر يدل عليه ما قبله أي أولهما حسناً أو افعل بهما حسناً كأنه قال : قلنا له ذلك وقلنا له { وإن جاهداك } إلى آخره فلو وقف على قوله { بوالديه } حسن ويجوز أن يراد وصيناه بإيتاء والديه حسناً وقلنا له { وإن جاهداك } وقوله { ما ليس لك به علم } كقوله

{ ما لم ينزل به عليكم سلطاناً } [ الأنعام : 81 ] أي لا معلوم ليتعلق العلم به . وإذا كان التقليد في الإيمان قبيحاً فكيف يكون حال التقليد في الكفر . وعلى وجوب ترك طاعة الوالدين إذا ارادا ولدهما على الإشراك دليل عقلي ، وذلك أن طاعتهما وجبت بأمر الله فإذا نفيا طاعة الله في الإشراك به فقد أبطلا طاعة الله مطلقاً ، ويلزم منه عدم لزوم طاعة الوالدين بأمر الله ، وكل ما يفضي وجوده إلى عدمه فهو باطل . فطاعة الوالدين في اتخاذ الشرك بالله من الممتنعات . وفي قوله { إليّ مرجعكم } ترغيب في رعاية حقوق الوالدين وترهيب عن عقوقهما وإن كانا كافرين إلا في الدعاء إلى الشرك . وفيه أن المجازي للمؤمن والمشرك إذا كان هو الله وحده فلا ينبغي أن يعق الوالدين لأجل كفرهما . وفي قوله { فأنبئكم } دليل على أنه سبحانه عالم بالخفيات لا يعزب عنه شيء . يروى أن سعد بن أبي وقاص الزهري حين اسلم قالت أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان : يا سعد بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد . وكان أحب ولدها إليها فابى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فنزلت هذه الآية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً أن يداريها ويرضيها بالإحسان . ثم أكد جزاء من آمن وعمل صالحاً بتكرير قوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين } اي في زمرتهم { وحسن أولئك رفيقاً } [ النساء : 69 ] قال الحكماء : أي في المجردين الذين لا كون لهم ولا فساد فيدخل فيه العلويات عندهم . ثم بين حال أهل النفاق بعد تقرير حال أهل الكفر والوفاق فقال { ومن الناس من يقول آمنا بالله } يعني أنا والمؤمنون حقاً آمنا ادّعى أن إيمانه كإِيمانهم فأخبر أن إيمانه لا تحقيق له بدليل قوله { فإذا أوذي في الله } اي في سبيله ودينه { جعل فتنة الناس كعذاب الله } قال جار الله : أي جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر ، وهذا على التوهم أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفاً وهذا في الواقع . وقيل : جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله . وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذب الله الأليم الدائم حتى تردّدوا في الأمر وقالوا : إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس ، وذلك أنهم كانوا يمسهم أذى من الكفار ، وإن تركنا الإِيمان نتعرض لما توعدنا به محمد فاختاروا الاحتراز عن التعرض العاجل ونافقوا . وإنما قال { فتنة الناس } ولم يقل « عذاب الناس » لأن فعل العبد ابتلاء من الله . وليس في الاية منع من إظهار كلمة الكفر إكراهاً ، وإنما المنع من إظهارها مع مواطأة القلب التي كانوا عليها .
ومما يؤكد تذبذبهم قوله { ولئن جاء نصر من ربك } ويلزمه الغنيمة غالباً { ليقولن إنا كنا معكم } يعني داب المنافق أنه إذا رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر من الكفر ، وإن كان النصر للمؤمن أضمر ما أضمر وأظهر المعية وادّعى التبعية .

وفي تخصيص اسم الرب بالمقام إشارة إلى أن التوبة والرحمة هي التي أوجبت النصر . ثم أخبر أنه سبحانه أعلم بما في صدور العالمين منهم بما في صدورهم ، لأنه خبير بما بأنفسهم كما هي وهم لا يعرفون نفوسهم كما هي ، فالتلبيس لا يفيد المنافق بالنسبة إلى الله شيئاً لأنه لا يجوز عليه الالتباس دليله قوله { وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين } وفيه وعد للمؤمنين ووعيد للمنافقين . اعتبر أمر القلب ههنا وهو في المؤمن التصديق ، وفي المنافق النفاق ، واعتبر في أول السورة أمر اللسان وهو في الكافر الكذب لأنه يقول : الله غير موجود ، أو الله أكثر من واحد . وفي المؤمن الصدق لأنه يقول : الله واحد . وحين بين أحوال الفرق الثلاثة وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة ، وبين أن عذاب الله فوقها وكان للكافر أن يقول للمؤمن لم تصبر في الذل على الإيذاء ولم لا تدفع الذل والعذاب عن نفسك بموافقتنا ، وكان جواب المؤمن أن يقول خوفاً من عذاب الله خطيئة مذهبكم فقالوا : لا خطيئة فيه ، وإن كان فيه خطيئة فعلينا ، اشار إلى جميع ذلك قوله { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } أرادوا وليجتمع هذا الأمران في الحصول أن تتبعوا طريقتنا وأن نحمل خطاياكم ، نظيره « ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء » وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب ولكنه حكاية قول صناديد قريش . كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فإِن عسى كان جزاء ومعاد فإنا نتحمل عنكم الإثم . وترى نظيره في الإسلام يشجع أحدهم أخاه على ارتكاب بعض المآثم فيقول : افعل هذا وإثمه عليّ ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان . ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يحملون شيئاً من خطاياهم ، ولا ريب أن هذا مخالف لما زعموا من أنهم يحملون أوزارهم فلهذا حكم الله عليهم بأنهم كاذبون . ويجوز أن يكونوا كاذبين لأنهم وعدوا وفي قلوبهم نية الخلف . ولا حاجة في توجيه تسميتهم كاذبين إلى التشبيه الذي ذكره في الكشاف . أما الجمع بين قوله { وما هم بحاملين } وبين قوله { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } فهو أن النفي راجع إلى الحمل الذي يخفف عن صاحبه بسببه ، والإثبات يرجع إلى انهم يحملون وزر الإضلال ووزر الضلال مع أن أتباعهم حاملون وزر الضلال كما قال عليه الصلاة والسلام « من سن سنة سيئة فعليه ورزها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء »

قال { وليسئلن } سؤال تقريع { يوم القيمة عما كانوا يفترون } من أنه لا حشر ، وعلى تقدير وجوده يحملون خطايا التابعين . ثم أجمل قصة نوح ومن بعده تصديقاً لقوله في أول السورة { ولقد فتنا الذين من قبلهم } وفيه تثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام كأنه قيل له : إن نوحاً لبث الف سنة تقريباً يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل ، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك ، وفيه تحذير لكفار قريش فإن أولئك الكفار ما نجوا من العذاب مع تلك الأعمار الطوال ، فهؤلاء كيف يسلمون أم كيف يغترون؟
سؤال : ما الفائدة في قوله { ألف سنة إلا خمسين عاماً } دون أن يقول : تسعمائة وخمسين . الجواب : لأن العبارة الثانية تحتمل التجويز والتقريب . فإن من قال : عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أنه يدعي ذلك تقريباً لا تحقيقاً . فإذا قال : إلا شهراً أو إلا سنة ، زال ذلك الوهم . وأيضاً المقصود تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر الألف الذي هو عقد معتبر أوصل إلى هذا الغرض . وإنما جاء بالمميز في المستثنى مخالفاً لما في المستثنى منه تجنباً من التكرار الخالي عن الفائدة وتوسعة في الكلام . قال بعض الأطباء : العمر الطبيعي للإِنسان مائة وعشرون سنة . فاعترضوا عليهم بعمر نوح عليه السلام وغيره ، وذلك أن المفسرين قالوا : عمر نوح الفاً وخمسين سنة بعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين . وعن وهب أنه عاش ألفاً واربعمائة سنة . ويمكن أن يقال : إنهم ارادوا بالطبيعي ما كان أكثرياً في أعصارهم . ولا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائداً على هذا القدر بطريق خرق العادة على أن العادة قد تختلف باختلاف الأعصار والأدوار ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين » والطوفان ما عم كل المكان بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل . وفي قوله { وهم ظالمون } دليل على أن العذاب أخذهم وهم مصرون على الظلم ولو كانوا قد تركوه لما أهلكهم . والضمير في قوله { وجعلناها } إما للحادثة أو للقصة أو للسفينة . وأعاجيب هذه القصة وأحوال السفينة وأهوالها قد تقدّمت مراراً ولا ريب أنها آيات يجب أن يستدل بها على موجدها .
التأويل : أقسم بفردانيته وبآلائه ونعمائه أنه مهما يكون من العبد التقرب إليه بأصناف العبودية يكون منه التقرب إلى العبد بالطاف الربوبية يؤكده قوله { أحسب الناس } أي الناسون من أهل البطالة أن يتركوار بمجرد الدعوى ولا يطالبون بالبلوى ، فالمحبة والمحنة توأمان وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان ، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه . فالبلاء للنفوس لإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في حسن العمل ، والبلاء على القلوب لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيب ، والبلاء على الأرواح لتجردها بالبوائق عن العلائق ، والبلاء على الأسرار في اعتكافها في مشاهدة الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن تصير مستهلكة فيه بإفنائه ، وإن أشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجري عليه نكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق لا يدري أنه من الحق ولا يقال : إنه الحق وعزيز من يهتدي إلى ذلك { أم حسب الذين } فيه أن موجبات عمل السيئات سواد مرآة القلوب بصدأ الحسبان ورين الكفران ليتوهموا { أن يسبقونا } بالعدوان عن طريق سنتنا في الانتقام من أهل الحال والإجرام .

{ ساء ما يحكمون } بالنجاة عن الدركات باتباع الشهوات هيهات هيهات . { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } فإن من رجى عمره في رجاء لقائنا فهو الذي نبيح له النظر ألى جمالنا { وهو السميع } لأنين المشتاقين العليم بطويات الصادقين . ومن جاهد بالسعي في طلبنا فإنما يجاهد لنفسه لأنها بالتخلية عن الأخلاق الذميمة وباتحلية بالصفات الحميدة تخلص عن الأمارية وتستأهل للمطمئنية فتستحق لجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] والذين آمنت قلوبهم بمحبتنا { وعملوا الصالحات } ببذل الوجود في طلب جودنا { لنكفرن عنهم } سيئات وجودهم المجازي { ولنجزينهم } وجوداً حقيقياً أحسن منه { وإن جاهداك لتشرك بي } فيه إشارة إلى أن المريد إذا تمسك بذيل شيخ كامل وتوجه إلى الحضرة بعزيمة من عزائم الرجال فإن منعه الوالدان عن ذلك فعليه أن لا يطيعهما لأنه سبب ولادته في عالم الأرواح وهما سبب ولادته في عالم الاشباح كما قال عيسى عليه السلام : لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين . فهو احق برعاية الحقوق منهما . { جعل فتنة الناس كعذاب الله } فيه أن المؤمن من كف الأذى والولي من يتحمل من الخلق الأذى ولا تترشح عنه الشكوى من البلوى كالأرض يلقى عليها كل قبيح فينبت منها كل مليح . والمنافق إذا لم يكن في حماية خشية الله يفترسه خوف الخلق إذا أوذي في الله . { وقال الذين كفروا } فيه أن كافر النفس وصفاته يقولون بلسان الطبيعة الإنسانية لموسى القلب والسر والروح وصفاتهم { اتبعوا سبيلنا } في طلب الشهوات الحيوانية { ولنحمل خطاياكم } أي ندفع عنكم ضرر ما يرجع إليكم في متابعة شهوات الدنيا وطيباتها { وما هم بحاملين } شيئاً { من خطاياهم } وهو العمى والصمم والبكم وسائر الصفات النفسانية ، ولكن يحملون أثقالهم هذه الأوقات مع الآفات التي تختص بها والله أعلم بالصواب .
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

القراآت : { أولم تروا } بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل { النشاءة } بفتح الشين بعدها ألف ممدودة حيث كان : ابن كثير وأبو عمرو { مودّة } بالرفع { بينكم } بالجر على الإضافة : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وابو زيد عن المفضل { مودة } بالرفع { بينكم } بالفتح : الشموني والبرجمي . { مودة } بالنصب { بينكم } على الإضافة : حمزة وحفص . الباقون : { مودة } بالنصب { بينكم } بالفتح { ربي إنه } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { إنكم } بهمز واحد { أينكم } بهمزة بعدها ياء : ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب . زيد : مثله . بزيادة مدّة في الثانية : يزيد وقالون كلاهما مثل هذه الثانية أبو عمرو . والأولى بهمزة واحدة الثانية بهمزتين : ابن عامر وحفص هشام يدخل بينهما مدَّة . الباقون بهمزتين فيهما { أئنكم } كنظائره . { وللنجينه } بسكون النون من الإنجاء : يعقوب وحمزة وعلي وخلف { سيء بهم } كما ذكر في « هود » و { منجوك } من الإنجاء : ابن كثير ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل { منزلون } بالتشديد : ابن عامر و { ثمود } غير مصروف في الحالين : حمزة وحفص وسهل ويعقوب .
الوقوف : { واتقوه } ط { تعلمون } 5 { افكاً } ط { واشكروا له } ط { ترجعون } 5 { من قبلكم } ج للعطف مع الاختلاف بالإثبات والنفي { المبين } 5 { يعيده } ط { يسير } 5 { الآخرة } ط { قدير } 5ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { من يشاء } ط لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين { تقلبون } 5 { السماء } ز فصلاً بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين { نصير } 5 { اليم } 5 { النار } ط { يؤمنون } 5 { أوثاناً } ج لمن قرأ { مودة } بالرفع { الدنيا } ج لاختلاف الجملتين والفصل بين تباين الدارين { بعضاً } ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقصود { من ناصرين } 5 قيل : لا وقف لتعليق الفاء { لوط } م لأن قوله { وقال } فاعله { إبراهيم } ولو وصل لأوهم اتحاد الفاعل { ربي } ط { الحكيم } 5 { الدنيا } ج للابتداء بأن مع واو العطف { الصالحين } 5 { الفاحشة } ز لأن ما بعده يصلح مستأنفاً أو حالاً أو وصفاً { العالمين } 5 { المنكر } ط لانتهاء الخطاب لابتداء الجواب { الصادقين } 5 { المفسدين } 5 { بالبشرى } لا لأن { قالوا } جواب « لما » { القرية } ج للابتداء بأن مع احتمال التعليل . { ظالمين } 5 وقد يوصل دلالة على تدارك إبراهيم { لوطاً } ط { بمن فيها } ج لأن لام التوكيد تقتضي قسماً أي والله لننجينه مع تمام المقصود في التنجية { إلا امرأته } ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً في النظم ولكنه حال المرأة لأن المستثنى مشبه بالمفعول أي يستثنى امرأته كائنة من الغابرين { ولا تحزن } ط فصلاً بين البشارتين وتوفيراً للفرح { الغابرين } 5 { يفسقون } 5 { يعقلون } 5 { شعيباً } لا لتعلق الفاء { مفسدين } 5 { جاثمين } 5 لأن { عاداً } يحتمل أن يكون منصوباً ب { أخذتهم } أو بمحذوف أي واذكر وهذا أوجه لأن قوله { وقد تبين } حال ولا يحسن أن يكون عامله { فأخذتهم } والأوجه انتصابه بمحذوف وهو « أذكر » أو أهلكنا .

{ مساكنهم } ط لأن التقدير مقدرين وعامله فأخذتهم { مستبصرين } 5ج للعطف { وهامان } يحتمل عندي الوقف وقيل : لا بناء على أن قوله { ولقد جاءهم } حال عامله { فأخذتهم } . { سابقين } 5 لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين { بذنبه } ط وكذلك { حاصباً } ط { وأخذته الصيحة } ط { وخسفنا به الأرض } ط { وأغرقنا } ط لعطف الجمل والوقف أوجه تفصيلاً لأنواع النقم وإمهالاً لفرصة الاعتبار { يظلمون } 5 { العنكبوت } ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { بيتاً } ط { العنكبوت } ج لأن وهن بيت العنكبوت معلق { يعلمون } 5 .
التفسير : قوله { وإبراهيم } منصوب بمضمر وهو « اذكر » . وقوله { إذ قال } بدل منه بدل الاشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها أي اذكر وقت قوله لقومه ، وجوز أن يكون معطوفاً على { نوحاً } فأورد عليه أن الإرسال قبل الدعوة فكيف يكون وقت الدعوة ظرفاً للإرسال؟ وأجيب بأن الإرسال أمر ممتد إلى أوان الدعوة أو المراد أرسلناه حين كان صالحاً لأن يقول لقومه اعبدوا الله خصوه بالعبادة واتقوا مخالفته . { ذلكم } الإِخلاص والتقوى { خير لكم إن كنتم تعلمون } أما العبادة فلأنها غاية الخضوع فلا تصلح إلا لمن هو في غاية الكمال فضلاً عن الجماد ، وأما اتقاء خلافه فلأن من قدر على إهلاك الماضين فهو قادر على إهلاك الباقين وتعذيبهم إذا عصوه ، فالعاقل من يحذر خلاف القادر . ثم بين بقوله { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً } أن الذي يعبدونه في غاية الخسة لأنه صنم لا روح له ، ولا ظلم أشنع من وضع الأخس موضع الاشرف . وبين بقوله { وتخلقون افكاً } أن الذين يزعمون أنها شفعاؤهم عند الله كذب وزور ، ثم ذكرهم أنهم لا يقدرون على نفع ولا على إيصال رزق أيّ رزق كان . ثم أشار بقوله { فابتغوا عند الله الرزق } إلى أن هذه الهبة والرزق الموعود في قوله { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] يجب أن يطلب من الله فقط ، وإذا كان الرزق منه فالشكر يجب أن يكون له . ثم بين بقوله { إليه ترجعون } أن المعاقب والمثيب هو وحده فلا رهبة إلا منه ولا رغبة إلا فيه . ثم إن قوله { وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم } إلى قوله { فما كان جواب قومه } إن كان اعتراضاً خطاباً لكفار قريش فظاهر ، وإن كان تتمة قول إبراهيم فالأمم المتقدمة عليه إما قوم نوح وقوم إدريس وقوم شيث وقوم آدم ، وإما قوم نوح وحده . وعبر عن أمته بالأمم لأنه عاش ألف سنة وأكثر فمضت عليه القرون ، وكان كل قرن يوصون من بعدهم من الأبناء أن يكذبوا نوحاً والبلاغ ذكر المسائل والإبانة وإقامة البرهان عليه ، وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإلا لم يكن البلاغ مبيناً .

وحين بين التوحيد والرسالة شرع في بيان المعاد فإِن هذه الأصول الثلاثة لا تكاد تنفصل في الذكر الإِلهي فقال { أولم يروا } أي ألم يعلموا بالبرهان النير القائم مقام الرؤية { كيف يبدئ الله الخلق } ثم يعيده . أما إبداء الخلق المطلق فلأن المخلوق لا بد له من خالق أوّل تنتهي إليه سلسلة المخلوقات ، وأما خلق الإنسان بل كيفيته فإنه كالمشاهد المحسوس فإنا نرى النطفة وقعت في الرحم فدارت عليها الأطوار حتى حصلت خلقاً آخر . وأما الإعادة فلأنها أهون في القياس العقلي ولهذا ختم الآية بقوله { إن ذلك على الله يسير } وحين اشار إلى العلم الحدسي الحاصل من غير طلب أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أو حكى إبراهيم قول ربه له { قل سيروا في الأرض } أي إن لم يحصل لكم الحدس المذكور فسيروا في أقطار الأرض وتفكروا في كيفية تكوّن المواليد الثلاثة : المعادن والنبات والحيوان . حتى يفضى بكم النظر إلى العيان؛ فالآية الأولى إشارة إلى ما هو كالمركوز في الأذهان ولهذا قال بطريق الاستفهام { أولم يروا } الآية الثانية أمر بالنظر المؤدي إلى العلم والإيقان على تقدير عدم حضور ذلك البيان والعيان . وإنما قال أوّلاً { كيف يبدئ } بلفظ المستقبل وثانياً { كيف بدأ } بلفظ الماضي ، لأن العلم الحدسي حاصل في كل حال ، وأما العلم الاستقرائي فلا يفيد اليقين إلا فيما شاهد وتتبع فكأنه قيل : إن لم يحصل لكم العلم بأن الله في كل حال موصوف بالإبداء والإعادة فانظروا في أصناف المخلوقات حتى تعرفوا أنه كيف بدأها ثم تستدلوا من ذلك على أنه ينشئها النشأة الثانية ، فهذا عطف على المعنى كأنه قال : وانظروا كيف بدأ هذا . وتكلف جار الله فقال : هو معطوف على جملة قوله { أولم يروا } كما قال قوله { ثم يعيده } إخبار على حياله وليس بمعطوف على { يبدئ } ثم في إقامة اسم الله مقام الضمير في قوله { ثم الله ينشئ النشأة } إشارة إلى أنه لا يقدر على هذه النشأة إلا المعبود الكامل الذات المتصف بالعلم والحياة وبسائر نعوت الجلال . وحين ذكر دلائل الأنفس والآفاق صرح بالنتيجة الكلية فقال { إن الله على كل شيء } من الإبداء والإعادة { قدير } وكذا على التكليف والجزاء تقريره قوله { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } يقال : قلب فلان في مكانه إذا اردى . وفي الآية لطائف منها : أنه قدم التعذيب على الرحمة مع قوله « سبقت رحمتي غضبي » لأن الآية مسوقة لتهديد المكذبين ومع ذلك لم يخل الكلام عن ذكر الرحمة وإنه يؤكد قوله « سبقت رحمتي غضبي »

ومنها أنه لم يقل يعذب الكافر ويرحم المؤمن إظهاراً للهيبة الإلهية . ومنها أنه قال أوّلا { وإليه ترجعون } ثم أعاده ههنا لأن التعذيب والرحمة قد يكونان عاجلين وكأنه قال : وإن تأخر ثوابكم وعقابكم فإن إلينا إيابكم وعلينا حسابكم وعندنا يدّخر لكم ذلك فلا تظنوا فواته يؤكده قوله { وما أنتم بمعجزين } وفيه أن الانقلاب إليه لا منه ، وذلك أن الإعجاز إما بالهرب وإما مع الثبات وقد نفى الأول بقوله { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } أي لو هبطتم إلى موضع السمك في الماء أو صعدتم إلى محل السماك في السماء لم تخرجوا من قبضة قدرة الله .
وقدّم الأرض على السماء لأن السماء أبعد وأفسح أي إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة أو في السماء التي هي أفسح منها وأبعد فإنكم لا تفوتون الله ، والمراد لا تعجزونه كيفما هبطتم في أعماق الأرض أو علوتم إلى البروج المشيدة الذاهبة في السماء كقوله { ولو كنتم في بروج مشيدة } [ النساء : 78 ] أو اراد لا تعجزون بلاءه الظاهر في الأرض أو النازل من السماء . وجوّز بعضهم أن يراد وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا في السماء بحذف الموصول ، واقتصر في الشورى على قوله { وما أنتم بمعجزين في الأرض } [ العنكبوت : 22 ] لأنه خطاب للمؤمنين . ونفى الثاني بقوله { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } لأن الركن الشديد الذي يستند إليه إما وليّ يشفع أو ناصر يدفع ، والأول أسهل الطيرقين فلذلك قدم الوليّ على النصير .
ثم خص الوعيد بالكافرين بآياته أي بدلائل الوحداينة وبالكتب والمعجزات . وفي زيادة قوله { أولئك } إشارة إلى أن اليأس من الرحمة منحصر فيهم لقوله { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] ونسبة اليأس إليهم إمّا على سبيل الإخبار عن حالهم يوم القيامة ، أو على سبيل وصف الحال ، فإن وصف المؤمن أن يكون راجياً خاشياً ونعت الكافر أن لا يخطر بباله خوف ولا رجاء بل يكون خائفاً كما قيل : الخائن خائف . وجوز في الكشاف أن يكون على طريقة التشبيه كأنه يشبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من رحمة الله . ولعله ذهب إلى هذا التشبه لأن اليأس من رحمة الله متوقف على الاعتراف بالله وبرحمته والكافر غير معترف بواحد من الأمرين . ثم بين بتكرار أولئك في قوله { وأولئك لهم عذاب أليم } أن كل واحد من الوعيدين لا يوجد إلا فيهم وإن كان الوعيدان متلازمين في الحقيقة . ثم حكى أن جواب قوم إبراهيم لم يكن إلا أن قالوا فيما بينهم أو قال واحد ورضي به الباقون { اقتلوه } بالسيف ونحوه { أو حرقوه } بالنار وهذا ليس جواباً في الحقيقة ولكنه كقولهم « عتابك السيف » .

وفيه بيان جهالتهم أنهم وضعوا الوعيد موضع الائتمار للنصيحة والإذعان للحق . ثم بين أنهم اتفقوا على تحريفه فأنجاه من النار .
والقصة مذكورة في سورة الأنبياء . { إن في ذلك } الإنجاء { لآيات } جمع الآية لعظم تلك الحالة كقوله { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] أو لأنها مشتملة على أحوال عجيبة كالرمي من المنجنيق من غير أن لحق به ضرر ، وكما يروى أن النار أن النار صارت عليه روحاً وريحاناً إلى غير ذلك . وإنما قال في قصة نوح عليه السلام { وجعلناها آية } [ العنكبوت : 15 ] ولم يذكر الجعل ههنا لأن الخلاص من مثل تلك النار آية في نفسه ، وأما السفينة فقد جعلها الله آية بأن أحدث الطوفان وصانها عن الغرق ، ويمكن أن يقال : إن الصون عن النار أعجب من الصون عن الماء فلذلك وحد الآية هناك وجمعها ههنا . وإنما قال هناك { آية للعالمين } [ العنكبوت : 15 ] وههنا { لآيات لقوم يؤمنون } لأن تلك السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد . أو نقول : جنس السفينة حصلت بعد ذلك فما بين الناس فكانت آية للعالمين . وأما تبريد النار فلم يبق من ذلك أثر فلم يظهر لمن بعده إلا بطريق الإيمان به . وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لغيره وقال { قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم } [ الممتحنة : 4 ] فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله سيجعل النار على المؤمن المهتدي برداً وسلاماً . ثم حكى أنه بعد أن خرج من النار عاد إلى النصيحة والدعاء لقومه إلى التوحيد والإخلاص وذلك قوله { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة } قال جار الله : من قرأ بالنصب بغير إضافة أو بإضافة فعلى وجهين : أحدهما التعليل اي لتتوددوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم وائتلافكم على عبادتها كما يتفق الناس على مذهب فيكون بينهم نسبة من ذلك .
الوجه الثاني : أن يكون مفعولاً ثانياً على حذف المضاف ، أو على أن المصدر بمعنى المفعول أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم واتخذتموها مودودة بينكم . ومن قرأ بالرفع بإضافة أو بغير إضافة فعلى وجهين أيضاً : أن يكون خبراً لأن على أن ما موصولة والتقدير : إن التي اتخذتموها أوثاناً هي سبب مودة بينكم أو مودودة بينكم . وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة وعلى هذا فالوقف على { أوثاناً } حسن كما مر . { ثم يوم القيامة } يقوم بين العبدة وكذا بينهم وبين أوثانهم التباغض والتلا عن نظيره { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } [ مريم : 82 ] والتحقيق فيه أنهم غلبت عليهم الجسمية ولذاتها فلهذا ألفوا الأصنام ولم تقبل عقولهم موجوداً منزهاً عن الأجسام وخواصها ، فلا جرم إذا رفعت الحجب وكشف الغطاء عن عالم الأرواح زالت نسبة الجسمية وظهرت آلالام الروحانية وعذبوا بنار الخسران والحرمان من غير شفعاء ولا أعوان ، فلذلك قال { ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } وإنما لم يقل ههنا

{ وما لكم من دون الله } [ البقرة : 107 ] لأن الله لا ينصر الكفار من اهل النار . وإنما جمع ههنا لأنه أراد في الأول جنس النصير وههنا أراد نفي الناصرين الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله { فآمن له لوط } وكان ابن أخي إبراهيم صدقه حين رأى النار لم تحرقه . قالت العلماء : إن لوطاً آمن برسالة إبراهيم حين رأى المعجزة . وأما بالوحدانية فآمن حين سمع مقالته إذ لو توقف في الإيمان إلى وقت إظهار المعجزة كان نقصاً في مرتبته وقدحاً في نور باطنه ، ألا ترى أن أبا بكر وعلياً أسلما كما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهما . { وقال } إبراهيم { إني مهاجر } من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين ولهذا قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان . وكان معه في هجرته امراته سارة وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة وهاجر معه لوط أيضاً . ومعنى { إلى ربي } أي إلى حيث أمر ربي بالهجرة إليه ومثله قوله { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] وعبارة القرآن أدخل في الإخلاص لأن المهاجر إلى حيث أمره الملك قد يهاجر إليه مرة أخرى لغرض نفسه فيصدق أنه مهاجر إلى حيث أمره الملك ولا يصدق أنه مهاجر لأجل الملك ولرضاه . وفي قوله { إنه هو العزيز الحكيم } نوع تهديد لقومه وتصويب لما بدا له من الهجرة بأمر الله . قال في الكشاف : إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائي ، الحكيم الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي .
ثم ذكر ما أنعم به عليه من الأولد والأحفاد ، ومن جعل النبوة وجنس الكتاب الإلهي فيهم . وهو التوراة والإنجيل والزبور والفرقان -ولهذا اندرج ذكر إسماعيل في الآية . ولعل السر في عدم ذكر إسماعيل والتصريح بذكره أن الله تعالى جعل الزمان بعد إبراهيم قسمين : أحدهما زمن إسحاق ويعقوب وذراريهما إلى زمان الفترة ، والآخر من محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم قيام الساعة وهو من ولد إسماعيل فطي ذكر إسماعيل إشارة إلى تأخر زمان دولته والله أعلم . ثم كرر ذكر النعمة بقوله { وأتيناه أجره في الدنيا } قال أهل التحقيق : إن الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام بأضدادها . لما أراد القوم تعذيبه بالنار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وهاجر فريداً وحيداً فوهب الله له ذريّة طيبة مباركة كما وصفنا ، وكان لا مال له فكثر ماله حتى حصل له من المواشي ما علم الله عدده فقط . يروى أنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس في أعناقها أطواق من ذهب . وكان خاملاً حتى قال قائلهم { سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } [ الأنبياء : 60 ] فجعل الله له لسان صدق في الآخرين .

اللهم صلى على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم . ثم بين بقوله { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } أن تلك النعمة الدنيوية ولذاتها مقرونة بفلاح الآخرة وصلاحها جعلنا الله تعالى ببركته أهلاً لبعض ذلك وهو المستعان . قوله { ولوطا إذ قال } إعرابه كإعراب قوله { وإبراهيم إذ قال } وقد مروالظاهر أن لوطاً يكون قد أمر قومه بالتوحيد والعبادة أوّلاً ثم نهاهم عن الفاحشة ثانياً . إلا أن الله تعالى قد حكى عنه ما اختص به وبقومه وهو قوله { إنكم لتأتون الفاحشة } ويحتمل أن يكونوا موحدين إلا أنهم بسبب الإصرار على الفعلة الشنعاء وتحليلها مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم الناهي عنها صاروا في حكم الكفرة . وإذا كان الزنا فاحشة كما قال { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة } [ الإسراء : 32 ] مع أن الزنا لا يفضي إلى قطع النسل فاللواطة أولى بكونها فاحشة لتماديها في القبح ولإفضائها إلى انقطاع النسل ، ويعلم منه احتياجها إلى الزاجر كالزنا بل أولى ويعلم منه افتقارها إلى الرجم بدليل إمطار الحجارة على أهلها . ومعنى { ما سبقكم بها } أنه لم يأت بمثل هذا الفعل أحد قبلهم أو لم يشتهر به ولم يبالغ فيه أحد وإن ارتكبه بعضهم في الندرة كما يقال : إن فلاناً سبق البخلاء في البخل ، واللئام في اللؤم إذا زاد عليهم . ومعنى { تقطعون السبيل } تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء . ويجوز أن يكونوا قطاع الطريق والظاهر يشعر به { وتأتون في ناديكم المنكر } أي تضمون إلى قبح فعلكم قبح الإظهار . والنادي هو المجلس ما دام فيه الناس . وعن عائشة : كانوا يتجامعون . وعن ابن عباس : هو الحذف ومضغ العلك وحل الإزار والفحش في المزاح والسخرية بمن مر بهم { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله } ولم يهددوه بنحو القتل والتخويف كما في قصة إبراهيم ، لأن إبراهيم كان يقدح في آلهتهم ويشتمهم بتعديد نقائصهم { يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } [ مريم : 42 ] فجعلوا جزاءه شر الجزاء . وأما لوط فكان ينكر عليهم فعلهم فهددوه بالإحراج أوّلاً { أخرجوا آل لوط من قريتكم } [ النمل : 56 ] واقترحوا من عذاب الله ثانياً . ويجوز أن يكون على سبيل الاستهزاء فلا جرم { قال رب انصرني على القوم المفسدين } كأنه أيس من توبتهم وإنابتهم ومن أن يلدوا تائباً مطيعاً كما قال نوح { ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا } [ نوح : 27 ] ولعلهم كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعاً وكرهاً أو بابتداء الفواحش واقتداء من بعدهم بهم .
والبشرى هي البشارة بالولد ، والنافلة إسحق ويعقوب ، وإضافة { مهلكو } إضافة تخفيف لا تعريف لأنه بمعنى الاستقبال أو الحال القريب منه لا الماضي ، ولأن المقصود يتضح بذلك لا بوصف الملائكة لمطلق الإهلاك .

والقرية سذوم . ثم علل الإهلاك بأن الظلم قد استمر فيهم بناء على أن كان للثبوت والاستمرار ، ويحتمل أن يكون للزمان الماضي فإن هذا القدر يكفي للتعليل والزائد عليه لا تحتاج الملائكة إلى تقريره بخلاف ما في قصة نوح { فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } [ العنكبوت : 14 ] فإن ذلك إخبار من الله تعالى ولا يحسن من الكريم أن يعاقب على الجرم السابق إلا بعد تحقق الإصرار والاستمرار . قال بعضهم : إن تعلق { البشرى } بهذا الإنذار هو أنه كان في إهلاك قوم لوط إخلاء الأرض من العباد فقدمت البشارة المذكورة المتضمنة لوجود عباد صالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه . ثم إن إبراهيم لما سمع إنذار الملائكة أظهر الإشفاق على لوط والحزن له قائلاً { إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم } منك { بمن فيها } وأخبروا بحاله وحال قومه . ومعنى { من الغابرين } من الماضين ذكرهم أو ممن يمضي زمانه وبفنى أو من الباقين في المهلكين و { سيء بهم وضاق بهم ذرعاً } قد مر في « هود » وقال بعضهم : يحتمل أن يكون ضيق الذرع عبارة عن انقباض الروح فعند ذلك تجتمع أعضاء الإنسان وتقل مساحتها . فقالت الملائكة { لا تخف } علينا { ولا تحزن } بسبب التفكر في أمرنا . وقال أهل البرهان : وإنما قبل ههنا { ولما أن جاءت } بزيادة « أن » لأن « لما » تقتضي جواباً وإذا اتصل به « أن » دل على أن الجواب وقع في الحال من غير تراخ في الظاهر كما في هذه السورة وهو قوله { سيء بهم } وفي هود اتصل به كلام بعد كلام فطال فلم يحسن دخول « أن » ظاهراً مع أن القصة واحدة . ثم إن الملائكة قالوا للوط { إنا منجوك } بلفظ اسم الفاعل وقالوا لإبراهيم عليه السلام { لننجينه } بلفظ الفعل لأن ذلك ابتداء الوعد وهذا أوان إنجازه فأرادوا أن ذلك الوعد حتم واقع منا كقولك : أنا ميت لضرورة وقوعه ووجوده . والرجز العذاب الذي يوقع صاحبه في القلق والاضطراب من قولهم : ارتجز وارتجس إذا اضطرب ، والمراد الحجارة . وقيل : النار . وقيل : الخسف . وعلى هذا يراد أن الأمر بالخسف والقضاء به من السماء { ولقد تركنا منها } أي من القرية { آية بينة } هي آثار منازلهم الخربة أو بقية الحجارة أو الماء الأسود أو قصتهم وخبرهم . وقوله { القوم } يتعلق ب { تركنا } أبو ب { بينة } ولزيادة قوله { بينة } قال { لقوم يعقلون } بخلاف قوله في قصة نوح عليه السلام { وجعلناها آية للعالمين } [ العنكبوت : 15 ] لأن الآية لا تتبين إلا لذوي العقول وليس كل من في العالم بذي عقل .
ثم أجمل سائر القصص والرجاء إما على أصله أو بمعنى الخوف . وعلى الأول قال جار الله : اراد افعلوا ما ترجون به العاقبة ، فأقيم المسبب مقام السبب .

أو أمروا الرجاء والمراد اشتراط ما يسوغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالصلاة مثلاً على إرادة الشرط وهو الإسلام . { فكذبوه } إنما صح إطلاق التكذيب مع أن ذكره شعيب أمر ونهي ، والأمر لكونه طلباً لا يحتمل التصديق والتكذيب ، وكذا النهي لأن قول شعيب يتضمن قوله الله واحد والحشر كائن والفساد محرم وكل واحد من هذه خبر . ومعنى الرجفة والصيحة قد مر في « الأعراف » وفي « هود » . وكذا إنه لم قال مع الرجفة في دارهم على التوحيد ، ومع الصيحة في ديارهم على الجمع . { و } أهلكنا { عاداً وثمود وقد تبين لكم } ذلك الإهلاك { من } جهة { مساكنهم } إذا نظرتم إليها عند مروركم بها { وكانوا مستبصرين } أي عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال ، وكانوا عارفين بأخبار الرسل أن العذاب نازل بهم ولكنهم لم ينظروا في الدليل ولجوا حتى هلكوا { وما كانوا سابقين } أي أدركهم أمر الله فلم يفوتوه .
ثم قرر أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الربعة ، فجعل ما منه تركيبهم سبباً لعدمهم وما منه بقاؤهم سبباً لفنائهم . فالحاصب حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر وهو إشارة إلى التعذيب بعنصر النار وأنه لقوم لوط . والصيحة وهي تموّج شديد في الهواء لمدين . وثمود . والخسف لقارون والغرق لقوم نوح وفرعون { وما كان الله ليظلمهم } بالإهلاك { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالإشراك وقال بعض أهل العرفان : وما كان الله ليضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة ولكنهم وضعوا أنفسهم مع شرفها في عبادة الوثن الذي هو في غاية الخسة فلذلك ضرب لهم المثل بالعنكبوت ونسجه الذي هو عند الناس في غاية الوهن والضعف . فإن كان تشبيهاً مركباً فظاهر ، وإن كان مفرقاً فالمشرك كالعنكبوت واتخاذه الصنم معبوداً وملجاً كاتخاذ العنكبوت نسجه بيتاً فإنه يصير سبباً لهلاكه ولتنظيف البيت منه كعابد الوثن يقع في النار بسبب عبادته .
وفيه أن العنكبوت كما أنه يصطاد بسبب نسجه الذباب ولكنه لا بقاء له ويتلاشى بأدتنى سبب كذلك الكافر يستفيد بشركه ما هو أقل من جناح بعوضة وهو بعض متاع الدنيا ولكنه كعمله يصير آخر الأمر هباء منثوراً . ثم عرض على العقول صحة المثل المضروب قائلاً { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } بأنه لا يصلح للبقاء ولا للاتسدفاء ولا للاستظلال ولا للاستكنان والنسج في نفسه إن فرض له فائدة كما أن الصنم في نفسه يمكن أن ينتفع به ولكن اتخاذ النسج بتاً لا شك انه غير مفيد بل مضر كما مر فكذلك عبادة الصنم . ثم قال { لو كانوا يعلمون } فحذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأمر دينهم لتابوا وندموا ، ولو كانوا يعلمون صحة هذا التشبيه وقد صح أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً العنكبوت . فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً . وصاحب الكشاف علق هذا الشرط بما قبله وليس بذاك وقد مر في الوقوف والله أعلم .
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

القراآت : { ما يدعون } بياء الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى والبرجمي . الباقون : بتاء الخطاب { آية } على التوحيد : ابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل وحمزة وعلي غير قتيبة وخلف لنفسه . { ويقول } بالياء : نافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون { يا عبادي الذين } بسكون الياء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بفتح الياء والوقف للجميع بالياء لا غير { ارضي } بفتح الياء ابن عامر { يرجعون } بضم الياء التحتانية وفتح الجيم : يحيى وهشام { ترجعون } بفتح التاء الفوقانية وكسر الجيم . الباقون : بضم التاء الفوقانية وفتح الجيم { لنثوينهم } بسكون الثاء المثلثة : حمزة وعلي وخلف . والآخرون : بفتح الياء التحتانية الموحدة . وتشديد الواو { وليتمتعوا } بسكون اللام : ابن كثير وقالون وحمزة وعلي وخلف { سبلنا } بسكون الباء : أبو عمرو .
الوقوف : { من شيء } ط { الحكيم } 5 { للناس } ط لاختلاف الجملتين والعدول عن العموم إلى الخصوص { العالمون } 5 { بالحق } 5 { للمؤمنين } 5 { الصلاة } ط { والمنكر } ط { أكبر } ط { ما تصنعون } 5 { مسلمون } 5 { إليك الكتاب } ط { يؤمنون به } ج فصلاً بين حال الفريقين مع اتفاق الجملتين { يؤمن به } ط { الكافرون } 5 { المبطلون } 5 { العلم } ط { الظالمون } 5 { من ربه } ط { عند الله } ط { مبين } 5 { عليهم } ط { يؤمنون } 5 { شهيداً } ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { والأرض } { بالله } لا لأن ما بعده خبر { الخاسرون } 5 { بالعذاب } ط { العذاب } ط { لا يشعرون } 5 { بالعذاب } ط { بالكافرين } 5 لا لأن { يوم } ظرف { المحيطة } { تعملون } 5 { فاعبدون } ط { ترجعون } 5 { خالدين فيها } ط { العاملين } قف بناء على أن التقدير هم الذين أو أعني الذين { يتوكلون } 5 { رزقها } ق قد قيل : والوصل أولى لأنه وصف آخر لدابة { وإياكم } ج لاحتمال الاستئناف والوصل أولى ليكون حالاً متمماً للمعنى { العليم } 5 { ليقولن الله } لا للاستفهام مع الفاء { يؤفكون } 5 { ويقدر له } ط { عليم } 5 { ليقولن الله } ط { الحمد لله } ط لتمام المقول { لا يعقلون } 5 { ولعب } ط { الحيوان } ط لأن الشرط غير معلق { يعلمون } 5 { الذين } 5 { يشركون } لا لتعلق لام كي ومن جعلها لام أمر تهديد وقف عليه { آتيناهم } ط لمن قرأ { وليتمتعوا } بالجزم على استئناف الأمر ، ومن جعل لام { ليكفروا } للأمر عطف هذه عليها فلم يقف { وليتمتعوا } لا لاستئناف التهديد { يعلمون } 5 { من حولهم } ط { يكفرون } 5 { جاءه } ط { الكافرين } 5 { سبلنا } ط { المحسنين } 5 .
التفسير : هذا توكيد للمثل المذكور وزيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئاً هذا على تقدير كون « ما » نافية و « من » زائدة ، ويجوز أن تكون استفهاماً نصباً ب { يدعون } أو بمعنى الذي و « من » للتبيين المراد ما يدعون من دونه من شيء فإن الله يعلمه .

وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة . وفيه ايضاً تجهيل لهم حيث عبدوا ما هو أقل من لا شيء وتركوا عبادة القاهر القادر الحكيم . ثم إن الجهلة من قريش كانوا يسخرون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ونحوهما فنزلت { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وذلك لأن الأمثال والتشبيهات وسائل إلى المعاني المحتجبة في الأستار كما سبق في أول البقرة ، حيث ضرب المثل بالبعوضة . قال الحكيم : العلم الحدسي يعرفه العاقل ، وأما إذا كان فكرياً دقيقاً فإنه لا يعقله إلا العالم لافتقاره إلى مقدمات سابقة . والمثل مما يفتقر في إدراك صحته وحسن موقعه إلى أمور سابقة ولاحقة يعرف بها تناسب مورده ومضربه وفائدة إيراده فلا يعقل صحتها إلا العلماء . وحين أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان وقص قصصاً فيها عبر ، وأنذر أهل الكفر بإهلاك من غبر ووصف سبيل أهل الاباطيل بالتمثيل ، قوى قلوب أهل الإيمان بأن كفرهم ينبغي أن لا يورث شكاً في صحة دينكم ، وشكهم يجب أن لا يؤثر في رد يقينكم ، ففي خلق السموات والأرض بالحق بيان ظاهر وبرهان باهر وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر . وإنما قال ههنا { لآية للمؤمنين } مع قوله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض . . . ليقولن الله } وقوله { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } [ البقرة : 164 ] إلى قوله { لآيات لقوم يعقلون } [ البقرة : 164 ] لأن المؤمن لا يقصر نظره من الخلق على معرفة الخالق فحسب ولكنه يرتقي منه إلى نعوت الكمال والجلال فيعرف أنه خلقهما متقناً محكماً وهو المراد بقوله { بالحق } والخلق المتقن المحكم لا يصدر إلا عن العالم بالكليات والجزئيات ، وإلا عن الواجب الواحد الذات والصفات كقوله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] ثم يرتقي من مجموع هذه المقدمات إلى صحة الرسالة وحقيقة المعاد فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامة . وإنما وحد الآية ههنا لأنه إشارة إلى التوحيد وهو سبحانه واحد لا شريك له . وفي قصة إبراهيم إشارة إلى النبوة وفي النبيين صلى الله عليه وسلم كثرة . وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ، ولهذا قال { اتل } ولم يقل « اتل عليهم » لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم . أو نقول : إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور .

وأيضاً فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة ، وكالروض يستلذه النظر ساعة فساعة . وفي الجمع بين الأمرين التلاوة وأقامة الصلاة معنيان : أحدهما زيادة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له : إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك وساطة بين الطرفين ، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق إلى المخلوق ، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق . والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمراً عليها . وإما لسانية ، وإما بدنية خارجية وافضلها الصلاة ، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فقال بعض المفسرين : اراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل : أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة ، وضعف بأنه ليس مدحاً كاملاً لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره . والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفاً في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من الخشوع وغيره مرعية . فقد روي عن ابن عباس : « من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً » . « وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل . فقال : إن صلاته لتردعه » « وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش ، فوصف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن صلاته ستنهاه ، فلم يلبث أن تاب » وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح . واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوباً فاخراً فإنه يتجنب مباشرة القاذورات ، فمن لبس لباس القتوى كيف لا يتجنب الفواحش .
وإيضاً الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ] ومقرِّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي؟ وأيضاً من دخل في خدمة الملك فأعطاه منصباً له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك ، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في اصحاب الشمال؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مراراً ، وقال أهل التحقيق : الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع ، والمنكر الإشراك به وهو إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر . واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان ، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان .

وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال { ونذر الظالمين فيها جثياً } [ مريم : 72 ] فالمصلي إذا قال « الله » نفى التعطيل وإذا قال « أكبر » نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك ، وإذا قال { بسم الله } نفى التعطيل ، وإذا قال { الرحمن الرحيم } نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق ، وهكذا { الحمد لله } خلاف التعطيل ، وقوله { رب العالمين } خلاف التشريك وفي قوله { إياك نعبد } نفي التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة ، وكذا قوله { وإياك نستعين } وفي قوله { اهدنا الصراط } نفى التعطيل لأن المعطل لا مقصد له . وفي قوله { المستقيم } نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد ، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط . وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد « أشهد أن لا إله إلا الله » نفى التعطيل والإشراك ، فأول الصلاة « الله » وآخرها « الله » . ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد : أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم ، فقل بعد ذكري : أشهد أن محمدا رسول الله ، واذكر إحسانه بالصلاة عليه . ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغه سلامي كما هو دأب المسافرين { ولذكر الله } أي الصلاة { أكبر } من غيرها من الطاعات . وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر . وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة . { والله يعلم ما تصنعون } من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك .
وحين بين طريقة إرشاد المسلمين ونفع من انتفع واليأس ممن امتنع ، أراد ان يبين طريقة إرشاد أهل الكتاب وهي مجادلتهم بالخصلة التي هي أحسن ، يعني مقابلة الخشونة باللين والغضب بالحلم والعجلة بالتأني . قال بعض المفسرين : أراد لا تجادلهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا فنبذوا الذمة أو منعوا الجزية . وقيل : إلاّ الذين اشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله . والتحقيق أن أكثر أهل الكتاب جاؤا بكل حسن إلا الاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والمبدأ والمعاد ، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولاً بالأحسن ، ولا تستهجن آراؤهم ولا ينسب إلى الضلال آباؤهم بل يقال لهم { آمنا بالذي أنزل إلينا } إلى آخر الاية .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم « ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدقوهم ، وإن كان حقاً لم تكذبوهم » ثم ذكر دليلاً قياسياً فقال { وكذلك } يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وقال جار الله : هو تحقيق لقوله { آمنا بالذي أنزل إلينا } اي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب السماوية . { فالذين آتيناهم الكتاب } هم عبد الله بن سلام وأضرابه { ومن هؤلاء } اي من اهل مكة أو الأولون هم الأقدمون من أهل الكتاب ، والآخرون هم المعاصرون منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل : الأولون هم الأنبياء لأن كلهم آمنوا بكلهم ومن هؤلاء هم أهل الكتاب { وما يجحد بآياتنا } مع وضوحها إلا المصرون على الكفر المتوغلون فيه نحو كعب الأشرف وأصحابه . واعلم أن المجادل إذا ذكر مسألة خلافية كقوله : الزكاة تجب في مال الصغير . فإذا قيل له : لم؟ قال : كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر الجامع بينهما . فإن فهم الجامع من نفسه فذاك ، وإلا قيل له : لأن كليهما مال فضل عن الحاجة . فالله سبحانه ذكر أولاً التمسك بقوله { وكذلك أنزلنا } ثم ذكر الجامع بقوله { وما كنت تتلو } الآية . وفي قوله { بيمينك } زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً . ومعنى { إذا لارتاب } لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط لارتاب { المبطلون } من أهل الكتاب ، وارتاب الذين من شأنهم الركون إلى الأباطيل ، لأن النبي إذا كان قارئاً كاتباً أمكن أن يسبق إلى الوهم أن الكلام كلامه لا كلام الله ، وإذا كان أمياً فلا مجال لهذا الوهم . أو المراد أن سائر الأنبياء لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم لمكان معجزتهم فهبوا أنه قارئ كاتب اليس صاحب آيات ومعجزات فإذا هم مبطلون على كل حال . ثم أكد إزالة ريبهم بقوله { بل هو } يعني القرآن { آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } وهو الحفاظ والقراء وسائر الكتب السماوية ، ما كانت تقرأ إلا من القراطيس ولهذا جاء في صفة هذه الأمة « صدورهم أناجيلهم » { وما يجحد بآياتنا } الباهرة النيرة إلا المتوغلون في الظلم . سماهم أولاً كافرين لأجل مجرد الجحود ، ثم بعد بيان المعجزة سماهم ظالين لأن الكفر إذا انضم معه الظلم كان أشنع . ويجوز أن يراد بالظلم الشرك كأنهم بغولهم في الجحود ألحقوا بأهل الشرك حكماً أو حقيقة . ولما بين الدليل من جانب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شبهتهم وهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، وذلك أن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئاً منها فأرشد الله نبيه إلى الجواب وهو أن يقول { إنما الآيات عند الله } ووجههأنه ليس من شرط الرسالة إظهار المعجزة وإنما المعجزة بعد التوقف في الرسالة ، ولهذا علم وجود رسل كشيث وادريس وشعيب ، ولم يعلم لهم معجزة وكان في بني إسرائيل أنبياء لم تعرف نبوتهم إلا بقول موسى أو غيره ، فليس على النبي إلا النذارة .

وأما إنزال الآية فإلى رحمة الله إذا شاء تخليص القوم من تصديق المتنبئ وتكذيب النبي . ثم قال { أولم يكفهم } الآية . والمعنى هبوا أن إنزال الآية شرط أليس القرآن المتلو الذي أخرس شقاشق فصائحهم كافياً في بيان الإعجاز؟ { إن في ذلك } المتلو على وجه الأرضين { لرحمة } من الله على الخلق وإلا اشتبه عليهم النبي بالمتنبئ { وذكرى } ليتعظ بها الناس ما بقي الزمان . وإنما كانت هذه الرحمة من الله على الخلق والتذكرة مختصة بالمؤمنين ، لأن المعجزة للكافرين سبب لمزيد الإنكار المستلزم لإلزام الحجة والخلود في النار ، ثم ختم الدلائل بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بكلام منصف وهو قوله { كفى بالله بيني وبينكم شهيداً } وقال في آخر سورة الرعد { قل كفى بالله شيهداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } [ الآية : 43 ] لأن الكلام هناك مع المشركين فاستشهد عليهم بأهل الكتاب أيضاً وأما هنا فالكلام مع أهل الكتاب فاقتصر على شهادة الله ، ثم بين كون شهادة الله كافية بقوله { يعلم ما في السموات والأرض } ثم هددهم بقوله { والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله } وهما متلازمان لأن الإيمان بما سوى الله وهو الباطل الهالك الزائل الزاهق كفر بالله وجحود بحقه . { أولئك هم الخاسرون } لا يستحق لهذا الاسم في الحقيقة غيرهم إذ لا غبن افحش من اشتراء الباطل بالحق والكفر بالإيمان وإضاعة العمر في ما عبادة مالا ينفعهم بل يضرهم قيل : إن ناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها ألقاها وقال : كفى بها حماقة قوم ان يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت { أولم يكفهم } الآية . ويروى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد لك بأنك رسو الله؟ فنزلت { قل كفى } الآية . فعلى هذا فالآية نازلة في المشركين ، وعلى ا مر فهل يتناول أهل الكتاب؟ قالوا : نعم ، لأنه صح عندهم معجزة محمد صلى الله عليه وسلم وقطعوا بأنها ليست من عند الله بل من تلقاء محمد صلى الله عليه وسلم فيلزمهم أن يقولوا : إن محمداً هو الله فيكون إيماناً بالباطل وكفراً بالله . قلت : ولعل وجه التناول هو أنهم آمنوا بالمحرف من التوراة وعبدوا العجل والله أعلم . ثم إن النضر بن الحرث وغيره من كفار قريش كانوا يستعجلون بالعذاب كما مر استهزاء منهم وتكذيباً فنزلت { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى } هو الموت أو يوم بدر أو ما كتب في اللوح أنه لا يعذب هذه الأمة عذاب الاستئصال إلى يوم القيامة .

وقوله { وهم لايشعرون } تأكيد للبغتة ، أو هو كلام مستقل أي إنهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم اصلاً .
ثم كرر قوله { يستعجلونك بالعذاب } تعجباً منهم وتعجيباً ، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة ويقول : هات ما عندك . وأما الذي توعد بإحراق ونحوه فكيف يتجلد ويستعجل خصوصاً إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد ويقدر على كل ما اراد . وقوله { لمحيطة } بمعنى الاستقبال أي ستحبط بهم يوم كذا ويجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا ، أو مجازاً لأن جهنم مآلهم ومرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم . والظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر اي { يوم يغشاهم العذاب } كان كيت وكيت . وإنما خص الغشيان بالفوق والتحت دون باقي الجهات ، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا ، لا تنزل من فوق ولا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم ، وإنما لم يقل « ومن تحتهم » كما قال { من فوقهم } لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الراس أو من موضع آخر . وأما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل . ويجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويراً لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها . وقوله { ذوقوا ما كنتم } أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة ، وحين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب والمشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من اهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من عبادة الله فقال { يا عبادي } فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله { عيناً يشرب بها عباد الله } [ الدهر : 6 ] فقوله { الذين آمنوا } صفة موضحة . وإن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة .
ومعنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالاً أو ارفع حالاً وأقل عوارض نفسانية وأكمل دواعي روحانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن مان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد » واعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنَّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعاً إلى الله الكريم ومستمداً من إعجاز الفرقان العظيم : اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشيء من رضاك فإن كل الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سبباً لنجح المقاصد وحصول المآرب والاشتمال على الفوائد الدنيوية والدينية والخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير وبالإسعاف والإجابة جدير .

والفاء في قوله { فإياي } للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه قال : إذا كان لا مانع من عبادتي { فاعبدوني } ثم أريد معنى الاختصاص والإخلاص فقدم المفعول على شريطة التفسير ، وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال : هذا عالم فأكرموه كما مر في قوله { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] فصار حاصل المعنى : إن لم تخلصوا العبادة لي في ارض فاخلصوها لي في غيرها . والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله { يا عبادي } الدال على العبودية إما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل ، أو الإخلاص في العبادة . ويجوز أن يقال : العبودية غير العبادة ، فكم من عبد لا يطيع سيده ، ثم لما أمر المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان فقال { كل نفس ذائقة الموت } أي إن الذي تكرهون لا بد من وقوعه فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله { ثم إلينا ترجعون } فنثيبكم على ذلك ، وفيه أن كل نفس ذائقة الموت اضطراراً فمن اراد أن لا يموت ابداً فليمت اختياراً فإن أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار . ثم بين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين من النيران ، وأن في الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما يحيط بالكافرين من النار . وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله { نعم أجر العالمين } بإزاء ما بين جزاء عمل الكفار بقوله { ذوقوا ما كنتم تعلمون } وقوله { لنبوئنهم } أَ لننزلنهم { من الجنة } عوالي ومن قرأ بالثاء المثلثة فمن الثواء يقال : ثوى في المنزل لازماً وأثوى غيره متعدياً إلى واحد . فانتصاب { غرفاً } إمات بنزع الخافض ، وإما لتضمين الإِثواء معنى التبوئة والإِنزال ، وإما التشبيه الظرف المؤقت بالمبهم . ثم مدح { الذين صبروا } على المكاره في الحال . { وعلى ربهم يتوكلون } فيما يحتاجون إليه في الاستقبال . وكل واحد من الصبر والتوكل يحتاج إليه المسافر والمقيم ، فكما أن المهاجر يصبر على فراق الأوطان ويتوكل في سفره على الرحمن ، فالمتوطن يصبر على الأذيات والمحن ويتوكل في أموره على فضل ذي المنن . والصبر والتوكل صفتان لا تحصلان إلا مع سعة العلم بالله وبما سوى الله ، فمن علم أنه باق لا يصبر عنه ولا يتوكل في الأمور إلا عليه ، ومن علم أن ما سواه فإن هان عليه الصبر وعلم أنه لا يصلح للاعتماد عليه . ثم ذكر ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب . وقال المفسرون : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فكان الرجل منهم يقول : كيف اقدم بلدة ليست لي فيها معيشة فنزلت { وكاين من دابة لا تحمل رزقها } عن الحسن اي لا تدخره وقال غيره : لا تطيق حمل الرزق { الله يرزقها } بإيجاد غذائها وهدايتها إليه .

ثم بتشبث ذلك الغذاء بالمغتذي بتوسط قوى أودعها فيها وهيأها لذلك . { وإياكم } بمثل ما قلنا وبزيادة الاهتداء إلى وجوه المكاسب والمعايش وترتيب الملبس والمسكن وتهيئة الأقوات وادخار الأموال وتملكها اختياراً وقهراً ، ومنه يعلم أن الاشتغال بترتيب بعض الوسائط وتدبيرها لا ينافي التوكل فقد يكون الزارع الحاصد متوكلاً والراكع الساجد غير متوكل . عن ابن عيينة : ليس شيء يخبأ إلا الإِنسان والنملة والفأرة وللعقعق مخابئ إلا أنه ينساها . وحكي أن البلبل يحتكر في حضنيه أي يجمع . وإذا كان أكثر الحيوان على صورة المتوكلين فالإنسان العاقل العارف بالمبدأ والمعاد ، العالم بوجوه المكاسب الذي يأتيه الرزق من جهات الإرث والعمارة والهدية ونحوها ، كيف يظاهر على الحطام الزائل أشد حرص؟! { وهو السميع } لدعاء طلبة الرزق { العليم } بطوياتهم ومقادير حاجاتهم . ثم عجب أهل العجب من حال المشركين من أهل مكة وغيرهم لم يعبدوا الله مخلصين مع علمهم بأنه خالقهم ورازقهم ، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟ فإن من علمت عظمته وجبت خدمته ، ولا عظمة فوق عظمة خالق الذرات وإليه اشار بخلق الأرض والسموات موجد الصفات وإليه الإشارة بتسخير الشمس والقمر ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأنه دون النبات وهو دون الحيوان وهو دون الإنسان وهو دون سكان السموات ، فكيف يتركون عبادة أشرف الموجودات ويشتغلون بعبادة أخس المخلوقات ، وحين ذكر الخلق أتبعه ذكر الرزق وحكمة البسط والقبض في ذلك الباب . ومعنى { يقدر } يضيق فالضمير في { له } إما للشخص المعين المبسوط له والمراد أن تعاقب الأمرين عليه بمشيئة الله وإما لمبهم غير معين كأن الضمير وضع موضع من يشاء . وفي قوله { إن الله بكل شيء عليم } إشارة إلى أنه عالم بمقادير الحاجات فإذا علم احتياج العبد إلى الرزق أوصله إليه من غير تأخير إن شاء .
ثم احتج على المشركين بوجه آخر وهو اعترافهم بأن إِحياء الأرض الميتة بواسطة تنزيل ماء السماء هو من الله . ثم قال { قل الحمد لله } وهو كلام مستقل على سبيل الاعتراض أو هو متصل بما قبله كأنه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والتهافت خلاف أهل الشرك المعترفين بأن النعمة من الله ثم يتركون عبادته إلى عبادة الصنم الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً . وفيه أن العالم إذا لم يعمل بعلمه انخرط في سلك من لا عقل له ولهذا عقبه بقوله { بل أكثرهم لا يعقلون } وقال جار الله : اراد لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد ، أو لا يعقلون ما تريد بقولك : « الحمد لله » ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم . واعلم أن المشركين معترفون بأن الخلق والرزق من الله ، ولكن حب الدنيا وزينتها حملتهم على موافقة أهل الشرك والمداومة على الدين الباطل ، فصغر الله تعالى أمر الدنيا وعظم أمر الاخرة ليعلم أن رعاية جانب الآخرة أهم من رعاية صلاح الدنيا .

قال أهل العلم : الإقبال على الباطل لعب ، والإعراض عن الحق لهو ، والمشتغل بالدنيا كذلك . ويمكن أن يقال : المشتغل بها لا على وجه الاستغراق بل على وجه يفرغ لبعض أمور الآخرة لاعب ، والمشغول بها بحيث ينسى الآخرة بالكلية لاهٍ وحين كان الكلام في الأنعام بعد ذكر الآخرة وما يجري فيها من الحيرة والحسرة قدم اللعب هناك لأن الاستغراق الكلي بالنسبة إلى أهل الآخرة أبعد فأخر الأبعد . ولما كان المذكور ههنا من قبيل الدنيا ولهذا أشار إليها بقوله { وما هذه الحياة الدينا } وقال في الأنعام { وما الحياة الدنيا } [ الآية : 32 ] وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها بالكلية ، فلا جرم قدم اللهو . ويحتمل أن يقال : إنه تعالى قدم اللعب على اللهو في موضعين من « الأنعام » وكذلك في القتال ويقال لها « سورة محمد » صلى الله عليه وسلم وفي « الحديد » . وقدم اللهو على اللعب في « الأعراف » و « العنكبوت » . فاللعب مقدم في الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا ، واللهو زمانه الشباب ، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب .
« تنبيه » ما ذكر في الحديد { اعلموا انما الحياة الدنيا لعب } [ الحديد : 20 ] كلعب الصبيان { ولهو } [ الحديد : 20 ] كلهو الشبان و { زينة } [ الحديد : 20 ] كزينة السنوان { وتفاخر } [ الحديد : 20 ] كتفاخر الإخوان { وتكاثر } [ الآية : 20 ] كتكاثر السلطان وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك في القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما بدأ به الإنسان وانتهى من الجانبين . وأما هذه السورة فأراد فيها ذكر سرعة زمان الآخرة ، فبدأ بذكر ما هو أكثر ليكون غلى المقصود اقرب . ثم إن الحال في سورة الأنعام لما كانت حال إظهار الحسرة لم يحتج المكلف إلى وازع قوي فاقتصر على قوله { وللدار الآخرة خير } [ الأنعام : 32 ] ولما كان ههنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع أقوى فقال { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } أي لا حياة إلا حياة الآخرة وليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة بلا موت فكأنها في ذاتها حياة . ولا يخفى ما في التركيب من أنواع المبالغة من جهة « إن » ومن جهة صيغة الفصل ، ولام التأكيد ، وبناء الفعلان بتحريك العين وهو مصدر « حيي » بياءين لفقد ما عينه ياء ولامه واو . ولو كانا واوين لقيل : حوى مثل قوى وقياسه « حييان » بياءين قلبت الثانية واواً على منوال حيوة في اسم رجل . ولأن المبالغة ههنا أزيد مما في الأنعام قال ههنا { لو كانوا يعلمون } وهنالك { أفلا تعقلون } [ الأنعام : 32 ] لأن المعلوم أكثر مقمدة من المعقول وقد مر في السورة ثم أشار بقوله { فإذا ركبوا في الفلك } إلى أن المانع من التوحيد والإخلاص هو الحياة الدنيا لأنهم إذا انقطع رجاؤهم رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد والإخلاص ، فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا لأجلها .

ثم بين أن نعمة الأمن يجب أن تقابل بالشكر لا بالكفر فقال { أولم يروا } الآية . وقد مر مثله في « القصص » . ثم ذكر أن الذين سمعوا البيانات المذكورة ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم لأن من وضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم . فمن وضع شيئاً في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم ، وإنهم جعلوا الله شريكاً مع عدم إمكان الشريك له ، فلا أظلم منهم . وأيضاً من كذب صادقاً يجوز عليه الكذب كان ظالماً ، فمن كذب صادقاً لا يجوز عليه الكذب يكون حاله وإنهم كذبوا النبي والقرآن؟ وفي قوله { لما جاءه } إشارة إلى أنهم لم يتلعثموا في التكذيب وقت أن سمعوه ولم يستعملوا التدبر التفكر فيما يجب أن يستعمل فيه التأني والتثبت ، وهذا أيضاً نوع من الظلم بل ظلم مضموم إلى ظلم . وفي قوله { اليس } معنيان بعد كون الاستفهام للتقرير . فإن أريد نفي الحال فمعناه ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترؤا على مثل هذه الجرأة؟ وإن اريد نفي الاستقبال فالمراد ألا يثوون في جهنم وقد افتروا على الله وكذبوا بالحق؟ وقيل : هو من الكلام المنصف لأنه قدم مقدمة هي أنه لا أظلم من المفتري وهو المتنبئ ومن الذي كذب النبي . ثم ذكر أن جهنم مقام الكافر سواء كان هو المتنبئ أو المكذب للنبي فهو كقوله { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] ثم ختم السورة بآية جامعة فيها تسلية قلوب المؤمنين والمراد أن من جاهد النفس أو الشيطان الجني والإنسي { فينا } أي في حقنا ومن أجل رضانا خالصاً { لنهدينهم } سبيل الجنة أو سبيل الخير بإعطاء ميزد اللطاف والتوفيق . وقيل : والذين جاهدوا فيما علموا ولم يقصروا في العمل به لنهدينهم إلى ما لم يعلموا وهو قريب من قول الحكيم : إن النظر في المقدمات يعد النفس لقبول الفيض وهو النتيجة من واهب الصور الجسمانية والعقلية . وقوله { وإن الله لمع المحسنين } أي بالنصر والإعانة إشارة إلى مرتبة أعلى من الاستدلال وهو الذي يسمى العلم اللدني ، فكأنه تعالى أشار في خاتمة السورة إلى الفرق الثلاث . فأشار إلى الناقصين بقوله { ومن أظلم } وذلك أنهم صرفوا الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وإلى المتوسطين الذين يحصلون العلم بالكد بقوله { والذين جاهدوا } وإلى اصحاب الحدس وصفاء الضمير بقوله { وإن الله لمع المحسنين } والله أعلم بمراده .
التأويل : { وما يعقلها إلا العالمون } بالله لأن عقولهم مؤيدة بأنوار العلم اللدني { إن في ذلك لآية للمؤمنين } الذين ينظرون بنور الله فان النور لا يرى إلا بالنور { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة } فيه أن التلاوة والعمل به يجب أن يتقارنا حتى يتخلق بخلق القرآن ويحصل الانتهاء عن الفحشاء وهي طلب الدنيا .

والمنكر وهو الالتفات إلى غير الله فإن لم تكن الصلاة متصفة بذلك فهي كالصلاة . { ولذكر الله } في إزالة مرض القلب { أكبر } من تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ، لأن القلب لا يطمئن إلا بذكر الله ، وعند الاطمئنان توجد سلامة القلب . فلاذكر له خاصية الإكسير في جعل الإبريز ذهباً خالصاً . { والله يعلم ما تصنعون } من استعمال مفتاح الشريعة وآداب الطريقة لفتح أبواب طلسم الوجود المجازي والوصول إلى الكنز الخفي { ولا تجادلوا } يا ارباب القلوب أهل العلم الظاهر إلا بطريق الإنصاف والرفق { إلا الذين ظلموا } بمزيد الإنكار والعناد فحينئذ لا تجادلوهم إذ لا يرجى منهم قبول الحق والإذعان له ، فخلوا بينهم وبين باطلهم { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا } من العلوم الباطنة { وأنزل إليكم } من العلوم الظاهرة { وكذلك } اي كما أنزلنا الدلائل والبراهين العقلية على أهل الظاهر { أنزلنا عليكم } الكشوف والمعارف { فالذين آتيناهم الكتاب } وهم أرباب القلوب يصدقون به ، { ومن هؤلاء } العلماء الظاهريين من يؤمن به { وما يجحد بآياتنا إلا الذين } يشترون الحق بالباطل { وما كنت تتلو } وفيه أن القلب إذا كان خالياً عن النقوش الفاسدة كان أقبل للعلوم اللدنية كقلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } يعني أن قلوب الخواص خزائن الغيب . سأل موسى عليه السلام : إلهي أين أطلبك؟ فقال : أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي . ثم اشار بقوله { وما يجحد } إلى أن الحرمان من الرؤية من خصوصية الرين ولهذا قالوا { لولا أنزل عليه آية } وذلك لعمى عيون قلوبهم . ثم أشار إلى ظلومية الإنسان وجهوليته بأنه يستعجل بالعذاب مع عدم صبره عليه { وإن جهنم } الحرص وغيره من الأخلاق الذميمة { لمحيطة } بهم من فوقهم وهو الكبر والغضب { ومن تحت أرجلهم } وهو الحرص والشره والشهوة { وهم لا يشعرون } لأنهم نائمون فإذا ماتوا انتبهوا { يا عبادي } أن أرض حضرة جلالي { واسعة } فهاجروا بالخروج من حبس وجودكم إلى سرادقات هويتي { كل نفس ذائقة الموت } بالإضطرار فارجعوا إلينا بالاختيار { لنبوئنكم } من جنة الوصال غرفاً من المعارف { تجري من تحتها } أنهار الحكمة { الذين صبروا } في الباية على حبس النفس بالفطام عن المرام ، وفي الوسط على تجرع القلب كاسات التقدير من غير تعبير ، وفي النهاية صبروا على بذل الروح لنيل الفتوح { وكأين من دابة } شخص كالدابة { لا تحمل } النظر عن { رزقها } لضعف نفسها عن التوكل { الله يرزقها وإياكم } أيها الطالبون للمشاهدات والمكاشفات { ليقولن الله } لأن كلهم قالوا في الأزل : بلى عند خطاب { الست بربكم } [ الأعراف : 172 ] والفرق إثبات الشريك ونفيه وذلك لعدم إصابة النور المرشش وإصابة دليله قوله { الله يبسط الرزق } بإصابته النور { ويقدر } بأخطائه { إن الله عليم } باستحقاق كل فريق من نزل من سماء الروحاينة ماء الإيمان فأحيا به أرض القلوب { لهي الحيوان } لأن جميع أجزائها حي فقد ورد في الحديث

« إن الجنة وما فيها من الأشجار والأثمار والغرف والحيطان والأنار حتى ترابها وحصباؤها كلها حي » قلت : ولعل ذلك لبقاء كل منها على كماله الآخر . ثم بين بقوله { فإذا ركبوا } أن إخلاص المؤمن بثابت وإخلاص الكافر مضطرب ثم بين أن حرم القلب آمن وما حوله من صفات النفس ومشاهدة ربها مظنة تصرف الشيطان ، فمن افترى على الله بأن لا يكون له مع الله وقت وحال ويظهر ذلك من نفسه ، أو كذب طريقة أهل الحق جاهدوا فينا يخرج منه مجاهدة الرهبانيين والفلاسفة والبراهمة ونحوهم لأنهم مرتاضون رياء وكسلاً .
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

القراآت : { عاقبة } بالنصب : ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف . الآخرون : بالرفع . { السوأى } بالإمالة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحماد { يرجعون } على الغيبة : أبو عمرو غير عباس وأوقية وسهل ويحيى وحماد { تخرجون } بفتح التاء وضم الراء : حمزة وعلي وخلف . الباقون : مجهولاً { للعالمين } بكسر اللام : حفص يفصل على الغيبة : عباس . الآخرون : بالنون .
الوقوف : { ألم } كوفي { غلبت } { الروم } 5 { سيغلبون } 5 { سنين } 5 { ومن بعد } ط { المؤمنون } 5 { ينصر الله } ط وكلاهما مبني على أن قوله { بنصر الله } يتعلق ب { يفرح } { ينصر من يشاء } ط { الرحيم } 5 { وعد الله } 5 { لا يعلمون } 5 { الدنيا } ج لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى { غافلون } 5 { في أنفسهم } ط لحق الحذف أي فيعلموا ذلك أو فيقولوا هذا القول { مسمى } ط { لكافرون } 5 { من قبلهم } ط { بالبينات } ط { يظلمون } 5 لا لأن « ثم » لترتيب الأخبار { يستهزؤن } 5 { يرجعون } 5 { المجرمون } 5 والوصل جائز { كافرين } 5 { يتفرقون } 5 { يجبرون } 5 { محضرون } 5 { تصبحون } 5 { تظهرون } 5 { بعد موتها } ط { تخرجون } 5 { تنتشرون } 5 { ورحمة } ط { يتفكرون } 5 { وألوانكم } ط { للعالمين } 5 { من فضله } ط { يسمعون } 5 { موتها } ط { يعقلون } 5 { بأمره } ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { دعوة } لا وقيل : على من الأرض وكلاهما تعسف .
والحق أن قوله { من الأرض } متعلق ب { دعاكم } كقولك دعوت زيداً من بيته لا كقولك دعوته من بيتي { تخرجون } 5 { والأرض } ط { قانتون } 5 { أهون عليه } ج { والأرض } ط { الحكيم } 5 { من أنفسكم } ط لانتهاء الإخبار إلى الاستفهام { كخيفتكم أنفسكم } ط { يعقلون } 5 { بغير علم } ج لابتداء الاستفهام مع الفاء { أضل الله } ط لتمام الاستفهام وابتداء النفي { ناصرين } 5 { حنيفا } ط { عليها } ط { لخلق الله } ط { القيم } 5 لا للاستدراك { لا يعلمون } 5 وقيل : لا وقف عليه بناء على أن { منيبين } حال من ضمير { أقم } على أن الأمر له ولأمته مثل { يا أيها النبي إذا طلقتم } [ الطلاق : 1 ] والوقف أوضح لبعد العامل عن المعمول بل التقدير : كونوا منيبين بدليل قوله { ولا تكونوا من المشركين } لأن قوله { من الذين } كالبدل مما قبله { شيعاً } ط { فرحون } 5 .
التفسير : وجه تعلق السورة بما قبلها هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول للمشركين ماأمر الله به { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } [ البقرة : 171 ] وكان يحقر آلهتهم وينسبها إلى العجز وعدم النفع والضر ، وكان أهل الكتاب يوافقون المسلمين في الإله وفي كثير من الأحكام ولذلك قال { ولا تجادلوا أهل الكتاب } إلى قوله { وإلهنا وإلهكم واحد } [ العنكبوت : 46 ] فلا جرم أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم في الأمور . فاتفق أن بعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً يقال له شهريران ، فسار إلى الروم بأهل فارس فظفر عليهم وقتلهم وخرب مدائنهم .

وكان قيصر بعث رجلاً يدعى بجنس فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهو أدنى الشأم إلى أرض العرب وإليه الإشارة بقوله { أدنى الأرض } لأن الأرض المعهودة عند العرب هي أرضهم أي غلبوا في أقرب أرض العرب منهم وهي أطراف الشأم . وجوز جار الله أن يراد بأرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم . وهذا تفسير مجاهد لأنه قال : هي أرض الجزيرة وهي أدنى أرض الروم إلى فارس . عن ابن عباس : الأردن وفلسطين . ففرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق فقد يبتلى المحبوب ويعجل عذابه ليسلم في الآجل . وقوله { في أدنى الأرض } إشارة إلى ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم . ثم بين أن الروم سيغلبون غلبة عظيمة بعد ذلك الضعف العظيم ، وكل ذلك دليل على أن الأمر بيد الله من قبل الغلبة ومن بعدها ، أو من قبل تلك المدة ومن بعد ذلك ، وقد وقع كما أخبر فغلبت الروم على فارس حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هنالك الرومية ، قال المفسرون : لما نزلت الآية قال أبو بكر للمشركين : لا أقر الله أعينكم ، والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين . فقال له أبي ابن خلف : كذبت يا أبا فضيل اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه ، فخاطره على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين . فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين . فلما أراد ابو بكر أن يخرج من مكة أتاه أبي فلزمه وطلب كفيلاً فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أن يخرج إلى أحد أتاه عبدالله فلزمه إلى أن أقام كفيلاً ثم خرج إلى أحد ثم رجي أبي فمات بمكة من جراحته التي جرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية . وذلك عند رأس سبع سنين . فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يتصدق به . قالت العلماء : إنما أبهم الوقت لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد الشاسعة قلما يحصل الاتفاق على وقتها المعين من السنة والشهر واليوم والساعة وإن كان معلوماً للنبي بإعلام الله إياه ، فالمعاند كان يتمكن من الإرجاف بوقوع الواقعة قبل وقوعها ليحصل الخلف في الميعاد ولكن المعاند لا يتمكن من إنكار الواقعة في البضع ، { ويومئذ } أي يوم يغلب الروم فارس ويحصل ما وعد الله من غلبتهم { يفرح المؤمنون بنصر الله } وبغلبة من له كتاب على من لا كتاب له ، أو بغيظ الشامتين بهم من كفار مكة .

وقيل : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبر به نبيهم من غلبة الروم .
وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدرٍ وهو المراد بنصر الله ، وذلك أن خبر الكسر لم يصل إليهم في ذلك اليوم بعينه فلا يكون فرحهم يومئذ بل الفرح يحصل بعده ، ولناصر القولين الأولين أن يقول : اقيم سبب الفرح ، مقام الفرح أو المراد باليوم الوقت الواسع الشامل لما بين زمان وقوع الكسر إلى زمان وصول خبر الكسر الموجب للفرح . ومن علق قوله { بنصر الله } بقوله { ينصر } بناء على أن المقصود بيان أن النصرة بيد الله لا بيان وقوع النصرة لم يقف ههنا ووقف على { المؤمنون } { وهو العزيز الرحيم } فإذا سلط العدو على الحبيب فلعزته واستغنائه عن العالمين ، وإذا نصر الحبيب فرحمته عليه . أو نقول : إن نصر المحب فلعزته واستغنائه عنه ورحمته في الآخرة واصله إليه . { وعد الله } مصدر مؤكد لنفسه لأن ما سبق في معنى الوعد { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه لا خلف في وعده لأنهم بله في أمور الدين . وفي إبدال قوله { يعلمون } من قوله { لا يعلمون } أو في بيان هذا بذاك إشارة أن العلم بأمور الدنيا كالجهل المطلق ، وفي تنكير { ظاهراً } إشارة إلى قلة علمهم بظاهر الدنيا أيضاً وفي تكرير « هم » إشارة إلى أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكرة حاصلة وظاهر الدنيا ملاذها وملاعبها وباطنها مضارها ومتاعبها .
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من سفكي وفتكي
فلا يغرركم طول ابتسامي ... فقولي مضحك والفعل مبكي
ثم أشار إلى وجه التفكر بقوله { أولم يتفكروا } وقوله { في أنفسهم } يتعلق به أما تعلق الظرف بالفعل كأنه قال : أولم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة فيكون كما لو قلت لأجل زيادة التصوير اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في القلب ، والإضمار لا يوجد إلا في النفس . وأما تعلق الجار بالفعل كقولك : تفكر في الأمور . وذلك أنه إذا تفكر في نفسه التي هي أقرب الاشياء إليه وقف على غرائب الحكم ودقائق الصنع التي أودعها الله تعالى فيها كما يكفل بيان بعضها علم التشريح فجره ذلك إلى العلم بأنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا متلبساً بالغرض الصحيح الذي أودعه الله فيها ، وبتقدير أجل مسمى هو وقت الجزاء والحساب ، ثم في الآية تقريران : أحدهما يناسب أصول الأشاعرة وهو أن دلائل الأنفس منجرة إلى دلائل الآفاق المذكورة للتوحيد وللعلم بالإله القادر المختار الصادق كلامه ، لكنه أخبر عن تخريب السموات والأرض وعن حشر الأجساد وانتهاء الجسمانيات إلى الإفناء ث الإعادة في الوقت المعلوم فيكون الأمر على ما أخبر .

وثانيهما يتوقف على أصول المعتزلة ، وهو أن التفكر في النفس يجذب بصنعه إلى معرفة الإِله الحكيم الذي لا يفعل العبث والجزاف ، فإنه خلق السموات وغيرها من الأسجام لمنافع المكلفين ، وإذا انتهى التكليف فلا بد من تخريب السموات والأرض وانتهاء الأمر إلى حالة الجزاء واللقاء كيلا تنخرم قاعدة الحكمة والتدبير ورعاية الصلاح والعدل . ثم قال { وإن كثيراً من الناس } وقد قال قبل ذلك { ولكن أكثر الناس } لأنه قد ذكر دليلاً على الأصول ، ولا شك أن الإيمان بعد الدليل يكون أكثر من الإيمان قبل الدليل فلا يبقى الأكثر مكما هو فعبر عن الباقي بالكثير . قال في الكشاف والمراد { بلقاء ربهم } الأجل المسمى ، والأشاعرة يحملونه على الرؤية ، واعلم أن دليل الأنفس مقدم على دليل الآفاق ، لأن الإنسان قلما يذهل عن نفسه ، وأن نفسه أقرب الشياء إليه نظير الآية قوله سبحانه { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض } [ آل عمران : 191 ] أي يعرفون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ، ويتفكرون في خلق السموات والأرض بدلائل الآفاق . وإنما أخر الأنفس في قوله { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] لإن الإراءة إنما يفتقر إليها في معرفة الأبعد الأخفى كأنه قال : سنريهم آياتنا الآفاقية فإن لم يفهموها فآيات الأنفس معلومة . وهذا الترتيب لا يناسب التفكر بل الفكر يتصور دليل الأنفس أولاً ثم يرتقي إلى دليل الآفاق فظهر أن كل آية وردت على ما اقتضته الحكمة والبلاغة . وحين ذكر دليل النفس الذي لا يقع الذهول عنه إلا ندرة ارتقى إلى دليل السموات والأرض الذي يقع الذهول عنه في كثير من الأحوال لكنه لا يحتاج إلا إلى التفات ذهني ، ثم أتبعه دليل الآفاق الذي يتوقف على السير والتحول ليقفوا على أمر أمثالهم . وحكاية أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدمهم كعاد وثمود كانوا أشد منهم قوة جسمانية وأثاروا الأرض حرثوها وهو إشارة إلى القوة المالية . ثم اشار إلى القوة الظهرية التي يستند إليها عند الضعف والفتور وهي الحصون والعمائر بقوله { وعمروها أكثر مما عمروها } هؤلاء يعني أهل مكة كانوا أهل واد غير ذي زرع ما لهم أثارة أرض أصلاً ولا عمارة لها راساً ، ففيه نوع تهكم بهم . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة وفي آخر « فاطر » وفي « المؤمن » { أولم يسيروا } بالواو وفي غيرهن { افلم } بالفاء لأن ما قبلها في هذه السورة { أولم يتفكروا } وما بعدها { وأثاروا } بالواو فوافق ما قبلها وما بعدها . وكذا في « فاطر » ما قبله { ولن تجد لسنتنا تحويلاً } [ الآية : 43 ] وما بعده { وما كان } [ الآية : 44 ] وفي « المؤمن » ما قبله { والذين يدعون } وأما في آخر « المؤمن » فما قبله { فأي آيات الله } وما بعده

{ فما أغنى عنهم } [ الآية : 82 ] وكلاهما بالفاء . قوله في هذه السورة { من قبلهم } متصل بكون آخر مضمر . وقوله { كانوا أشد منهم قوة } وكذا معطوفاه إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك . وإنما قال في « فاطر » { وكانوا } بزيادة الواو لأن التقدير فينظروا كيف أهلكوا وكانوا اشد ، وخصت السورة به لقوله { وما كان الله ليعجزه } [ فاطر : 44 ] وقال في « المؤمن » { كانوا من قبلهم كانوا هم أشد } فأظهر « كان » وزاد لفظه « هم » لأن الآية وقعت في أوائل قصة موسى وهي تتم في ثلاثين آية ، فكان اللائق به البسط دون الوجازة ولم يبسط هذا البسط في آخر السورة اكتفاء بالأول والله أعلم . { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بوضع الأنفس الشريفة في موضع خسيس هو عبادة الأصنام . قال أهل السنة : هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه صدر عنهم فأضيف إليهم { والسوأى } تانيث الأسوا وهو الأقبح وهي خبر « كان » فيمن قرأ { عاقبة } بالرفع واسم « كان » فيمن قرأ { عاقبة } بالنصب . و « ثم » لتفاوت الرتبة ، وفي التركيب وضع للمظهر موضع المضمر . والمعنى أنهم أهلكوا ثم كانت عاقبتهم السوأى وهي عذاب النار . و { أن كذبوا } المعنى لأن « أو » بأن كذبوا أو هو تفسير اساؤا على أن الإساءة في معنى القول نحو : نادى وكتب معناه أي كذبوا وجوز جار الله أن يكون السوأى مفعول { اساؤا } و { أن كذبوا } عطف بيان لها ، وخبر « كان » محذوف إرادة الإبهام ليذهب الوهم كل مذهب فيكون تقدير الكلام . ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا أن كذبوا كذا وكذا مما لا يكتنه كنهه . قال أهل التحقيق : ذكر الزيادة في حق المحسن في قوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] ولم يذكر في الحق المسيء لأن جزاء سيئة سيئة بمثلها ، وذكر السبب في العقوبة وهو قوله { أن كذبوا } ولم يذكره في الآية ليعلم أن إحسانه لا يتوقف على السبب بل فضله كافٍ فيه .
وحين ذكر ان عاقبتهم النار وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال { الله يبدأ } يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة . ثم بين ما يكون وقت الرجوع فقال { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } يعني في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم وهو سكوت مع تحير ويأس مع بؤس ويأس لا اليأس الذي هو إحدى الراحتين وذلك إذا كان المرجو أمراً غير ضروري فيستريح الطامع من الانتظار .
ثم ذكر وجه الإبلاس وذلك قوله { ولم يمكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين } يجحدونها وقتئذ بقوله

{ سيكفرون بعبادتهم } [ مريم : 82 ] أو كانوا في الدنيا كافرين بسببهم . ثم حكى أنهم يعني المسلمين والكافرين { يومئذ يتفرقون } فريق في الجنة وفريق في السعير تفصيله في الآيتين بعده والروضة عندهم كل أرض ذات نبات وماء . وفي الأمثال « أحسن من بيضة في روضة » يعنون بيضة النعامة وتنكير روضة للتعظيم ومعنى { يحبرون } يسرون بأنواع المسار لحظة فلحظة . حبره إذا سره سروراً تهلل ببشر . وخصه مجاهد بالتكريم ، وقتادة بالتنعيم ، وابن كيسان بالتحلية ، ووكيع بالسماع . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن في الجنة لنهراً حافتاه الأبكار من كل بيضاء رخصة يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك افضل نعيم الجنة » قال الراوي : سألت ابا الدرداء بم تغنين؟ قال : بالتسبيح .
وروي أن في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس باصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا . وأما معنى { محضرون } لا يغيبون عنه وقد مر في قوله { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } [ القصص : 61 ] وإنما أهمل ذكر الفسقة من أهل الإيمان اكتفاء بما ذكر في الآيات الأخر كقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] وكقوله { إنما التوبة على الله } [ النساء : 17 ] إلى قوله { تبت الآن } [ النساء : 18 ] قال جار الله : لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد وقال آخرون : لما ذكر عظمته في المبدأ بقوله { ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } وفي الانتهاء بقوله { ويوم تقوم الساعة } وكرر ذكر قيام الساعة للتأكيد والتخويف ، أراد أن ينزه نفسه عن كل سوء ويثبت لذاته كل حمد ليعلم أنه منزه عن طاعات المطيعين ، محمود على كل ما يوصل إلى المكلفين ، مذكور على لسان أهل السموات والأرضين . والتسبيح في الظاهر هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما في كل منها من كل نعمة متجددة .
وخص بعضهم التسبيح بالصلاة لما روي عن ابن عباس أنه قال { تمسون } صلاتا المغرب والعشاء { ويصبحون } صلاة الفجر { وعشياً } صلاة العصر و { يظهرون } صلاة الظهر أمر بالصلاة في أول النهار ووسطه وآخره ، وأمر بالصلاة أول الليل ووسطه وهو العشاء بقوله صلى الله عليه وسلم « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وبتأخير العشاء إلى نصف الليل » ولم يأمر بالصلاة في آخر الليل لأن النوم فيه غالب وإنه منَّ على عباده بالإستراحة في الليل بالنوم في مواضع منها قوله { ومن آياته منامكم بالليل } [ الروم : 23 ] كما يجيء . روي عن الحسن أن الاية مدنية بناء على أنه كان يقول : فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم .

وقول الأكثر إن الخمس فرضت بمكة . قوله { وعشياً } معطوف على { حين } وما بينهما وهو قوله { وله الحمد في السموات والأرض } اعتراض .
قال جار الله : معناه إن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه قلت : فيه ايضاً أن الله غني عن تسبيح المسبحين فلو لم يحمده حامد فله استئهال الحمد على الإطلاق ولو حمدوه لعاد نفعه إليهم . وقدم الإمساك لأن الظلمة عدمية والأصل في الأشياء العدم ، وقدم العشي على الظهيرة لأجل الفاصلة أو للتنبيه على فضيلة صلاة العصر ، ولعل في تقديم الاعتراض المذكور على العشي إشارة إلى هذا ومعنى { ويخرج الحي من الميت } قد سلف مراراً ويحتمل أن يراد ههنا اليقظان والنائم لقوله { وكذلك تخرجون } اي من القبور ، فتنبيه النائم بعد اليقظة يشبه الإعادة ، وكذا رد الأرض إلى حالة الخضرة والنضرة بعد ذبولها . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته من يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته » ثم اراد أن يذكر الحجج الباهرة علىستحقاق التسبيح والتحميد له فقال { ومن آياته أن خلقكم } أي أصلكم أو كلاً منكم كما مر في أول الحج { من تراب } وذلك ان التراب أبعد الشياء عن درجة الإحياء لكثافته ولبرودته ويبسه والحياة بالحرارة والرطوبة ، ولكدورته والروح نير ولثقله وخفة الرواح ولسكونه والحي متحرك حساس ، ولا تتنافي بين هذا وبين قوله { خلق من الماء بشراً } [ الفرقان : 54 ] لأنه أراد الأصل الثاني الذي هو النطفة ، أو أراد أن أصل البشر في الظاهر هو التراب والماء وأما النار فللإنضاج ، والهواء فللاستبقاء كالزق المنفوخ يقوم بالهواء ، و { ثم } لتبعيد الرتبة و { إذا } للمفاجأة أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً .
قالوا : فيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولاً إنساناً فيتبعه أنه حيوان تام لا أنه يخلق أولاً حيواناً ثم يجعله إنساناً ، فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى . وقوله { بشراً } إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشروا بها يمتاز عن غيره من الحيوانات . وقوله { تنتشرون } إشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فضله وجنسه ، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل ، إلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال : العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضاً . والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] .
وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منَّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقياً بتعاقب الأشخاص فقال { ومن آياته أن خلق لكم } ولا يلزم منه أن لا يكنَّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، فقد يكون الشيء مختصاً باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن ، فلولا خوف العقاب لتمردت النسوان على أزواجهن .

و { من أنفسكم } أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في « النحل » ويشهد للتفسير الأول قوله { لتسكنوا إليها } فإن الجنس إلى الجنس أسكن { وجعل بينكم مودة } عن الحسن هي الجماع { ورحمة } هي الولد . وقال غيره : المودة حالة حاجة نفسه إليها ، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه ، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض ، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر . قال بعضهم : المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله ، والفرك من قبل الشيطان { إن في ذلك } الخلق والجعل { لآيات لقوم يتفكرون } فخلق الإنسان من الوالدين آية ، وجعل أحدهما ذكراً والآخر أنثى آية ، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق آية ، وجعل التوادد بين الوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض ، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكيفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات ، وأما السماء والأرض فلا يجد بداص من أن يقول : إنهما بقدرة الله تعالى . ثم عاد إلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها ، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد آية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والأشخاص عن بعض ، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه ، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس والشم والذوق فلا حكم ظاهراً لها في باب التمييز بين الأشخاص الإنسانية . وحيث ذكر بعض العرضيات اللازمة أراد أن يذكر الأعراض المفارقة بعضها فقال { ومن آياته منامكم } قال جار الله : هذا من باب اللف والنشر وتقدير الكلام . ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ليكون موافقاً لما جاء في مواضع آخر كقوله { وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً } [ النبأ : 10 ، 11 ] وقدم المنام على الابتغاء لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة قال : وإنما فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الآخريين لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد يعني كأنه لم يعطف النهار على الليل والابتغاء على المنام . وجوز أن يراد منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، فان الإنسان كثيراً ما ينام بالنهار وبكسب بالليل .

وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه . ثم أشار إلى عوارض الآفاق فقال { ومن آياته يريكم } فأضمر « أن » واسكن الياء بعد حذفها وإنزال الفعل منزلة المصدر كما في المثل السائر « تسمع بالمعيدي خير من أن تراه » قيل : لما كان البرق من الأمور التي تتجدد زماناً دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه « أن » وقيل : ومن آياته كلام كافٍ كما تقول : منها كذا ومنها كذا .
وتسكت تريد بذلك الكثرة : وقيل : أراد ويريكم من آياته البرق . وانتصاب { خوفاً وطمعاً } كما مر في « الرعد » ثم ذكر بعض لوازم الآفاق قائلاً { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } فقيام السموات والأرض استمساكهما بغير عمد ، ومن نسب ذلك إلى الطبيعة فلا بد أن يستند الطبع إلى واجب لذاته وأمره أن يقول لهما كونا كذلك نظيره قوله { إن الله يمسك } [ فاطر : 41 ] إلى قوله { من بعده } [ فاطر : 41 ] واعلم أن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة ، وعند الأشاعرة ليس كذلك . ولكن النزاع في الأمر الذي هو للتكليف لا الذي للتكوين ، فإن قوله { كن فيكون } [ يس : 82 ] موافق للإرادة بالتفاق . قال جار الله : قوله { إذا دعاكم } بمنزلة قوله { يريكم } في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال : ومن آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاكم مرة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة الخروج من غير توقف وإلا فلا أمر ظاهراً . أو أراد نداء الملك والأرض مكان المدعو على التقديرين لا الداعي إذ لا مكان لله مطلقاً ولا للملك في جوف الأرض . نعم ، لو كان المراد أن الملك يدعوهم وهو على وجه الأرض جاز . ومعنى « ثم » عظم ما يكون من ذلك الأمر وتهويل لتلك الحالة ، وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة نائبة مناب الفاء . واعلم أنه تعالى ذكر في كل باب أمرين : أما من الأنفس فخلق البشر ثم خلقهم زوجين ، وأما من الآفاق فخلق السموات والرض . ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان ، ومن عوارضه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار ، ومن لوازمها قيام السماء والأرض . والواحد يكفي للإقرار بالحق ، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر .
وراعى في تعداد العرضيات لطيفة ، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال ، فالأحوال اللازمة له أغرب والأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب ، وبدأ في كل باب بما هو أعجب ، وإنما ختم الآية الأولى بقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض ، أو نقول : إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان ، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك { لقوم يتفكرون } ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم ، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض .

وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره ، ولهذا يشترك في معرفتها الناس جميعاً فلهذا قال { لآيات للعالمين } ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة ، فالاشتراك في معرفتها أيضاً ظاهر . ومن قرأ { للعالمين } بكسر اللام فقد أحسن ، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره ، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال { لقوم يسمعون } ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن معنى { يسمعون } ههنا يستجيبون لما يدعون إليه ، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر . وأما البرق والمطر فليس أمراً عادياً ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال { لقوم يعقلون } وقيل : إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه . وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحدانية التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله { وله من في السموات والأرض كل له قانتون } مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الصلين بقوله { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو } يعني أن يعيده { أهون عليه } أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلاً حتى يقع التفضيل على حده . وإنما أخرت الصلة ههنا وقدمت في قوله في سورة مريم و { وهو على هين } [ مريم : 9 ] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد بين هرم وعاقر لا يهون إلا علي ، ولا معنى للاختصاص ههنا فإن الأمر مبني على المعقول بين الآدميين من ان المعاد أهون من المبدأ ولهذا قيل : أول الغزو أخرق . وليس الدخيل في أمر كالناشئ عليه . ومن الدليل العقلي على هذا المطلوب أن الإبداء خلق الأجزاء وتاليفها ، والإعادة تأليف فقط ، ولا شك أن أمراً واحداً أهون من الأمرين ولا يلزم منه أن يكون في الأمرين صعوبة فإن من قال : الرجل القوي يقدر على حمل شعيرة من غير صعوبة وسلم السامع له ذلك فإذا قال فلان لا يتعب من حمل خردلة وإن حمل خردلة أهون عليه .
كان كلاماً معقولاً وقد أجرى الزجاج قوله { وهو أهون عليه } مجرى المثل فيما يصعب ويسهل .

وفسر به قوله { وله المثل الأعلى } يعني هذا مثل مضروب لكم في الأرض وله المثل الأعلى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات فيما بين الملائكة . وعن ابن عباس : أراد أن فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكنه ليس مكثله شيء فله المثل الأعلى وقال جار الله : المثل الوصف أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي يقدر على الخلق والإعادة ، العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يصعب عليه جمع الأجزاء بعد تفرّقها على الوجه الذي يقتضيه التدبير ولهذا ختم الاية بقوله : { وهو العزيز الحكيم } وعن مجاهد : المثل الأعلى وصفه بالوحدانية وهو قوله « لا إله إلا الله » وقد ضرب لذلك مثلاً . ومعنى { من انفسكم } أنه أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم و « من » للابتداء وفي قوله { مما ملكت أيمانكم } للتبعيض ، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . والمعنى هل ترضون لأنفسكم أن يكون لكم شركاء من بعض عبيدكم يشاركونكم فيما رزقناكم من الأموال والأملاك { فأنتم } يعني بسبب ذلك أنتم أيها السادات والعبيد في ذلك المرزوق { سواء } من غير تفضيل وففضل للأحرار على العبيد { تخافونهم } أن تستبدوا بتصرف دونهم { كخيفتكم أنفسكم } أي كما يهاب بعضكم بعضاً من الأحرار .
والحاصل أن من يكمون له مملوك لا يكون شريكاً له في ماله ولا يكون له حرمة كحرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له أو شفعاء عنده بغير إذنه؟ وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله حتى يعبدوا كعبادته على أن مملوككم ليس مملوكاً لكم في الحقيقة ليس إلا اختصاص المبايعة ، ولهذا لا حكم لهم عليهم بالقتل والقطع وبالمنع من الفرائض وقضاء الحاجة والنوم . وقد يزول الاختصاص بالبيع والعتق ومملوك الله لا خروج له من ملكه بوجه من الوجوه وفي قوله { فيما رزقناكم } إشارة إلى أن الذي هو لكم ليس في الحقيقة لكم وإنما الله استخلفكم فيه ورزقكموه من فضله { كذلك } أي مثل هذا التفصيل والتبعيد للتعظيم أو لدخوله في حيز الذكر أو المضي { نفصل الآيات } نبينها { لقوم يعقلون } لأن التمثيل إنما يكشف المعاني لأرباب العقول .
ثم شوه صورة الشرك بقوله { بل اتبع الذين ظلموا } أي اشركوا { أهواءهم بغير علم } فهوى العالم ربما يتبدل بالهدى وأما الجاهل فإنه هائم في هواه كالبهائم لا يرجى ارعواه يؤكده قوله { فمن يهدي من اضل الله وما لهم من ناصرين } والإضلال ههنا لا يخفى أن الأشاعرة يحملونه على خلق الضلال في المكلف ، والمعتزلة يحملونه على الخذلان ومنع الألطاف وقد تقدم مراراً .

ثم قال لرسوله ولأمته تبعية إذا تبين الحق وظهرت الوحداينة { فأقم وجهك للدين } أي سدده نحوه غير مائل إلى غير من الأديان الباطلة { فطرت الله } أي الزموها أو عليكم بها . قال جار الله : إنما اضمرته على خطاب الجماعة لقوله { منيبين } وهو حال منهم ولأن الأمر والنهي بعده معطوفان عليه لكنك قد عرفت في الوقوف أن هذا التقدير غير لازم وعلى ذلك يحتمل أن يقدر الزم أو عليك أو أخص أو اريد واشباه ذلك .
وفطرة الله هي التوحيد الذي تشهد به العقول السليمة والنظر الصحيح كما جاء في الحديث النبوي « كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه » . ويحتمل أن تكون الفطرة إشارة إلى أخذ الميثاق من الذر . وقوله { لا تبديل لخلق الله } نفي في معنى النهي أي لا تبدلوا خلقه الذي فطلكم عليه لكن الإيمان الفطري غير كافٍ . وقيل : هو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يؤمن قومه فكأنه قال : إنهم أشقياء ومن كتب شقياً لم يسعد . وقيل : أراد أن الخلق لا خروج لهم عن عبوديته بخلاف مماليك الإنسان فإنهم قد يخرجون من ايديهم بالبيع والعتق . وفيه فساد قول من زعم أن العبادة لتحصيل الكمال فإذا كمل العبد لم يبق عليه تكليف ، وفساد قول الصابئة وبعض أهل الشك أن الناقص لا يصلح لعبادة الله ونما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله ، وفساد قول النصارى والحلولية أن الله يحل في بعض الأشخاص كعيسى وغيره فيصير إلهاً . ومعنى { فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } قد مر في آخر « الأنعام » وأنهم فرق كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها وقال أهل التحقيق : بعضهم يعبد الدنيا وبعضهم يعبد الهوى وبعضهم يريد الجنة وبعضهم يطلب الخلاص من النار . ومعنى { كل حزب بما لديهم فرحون } قد مر في « المؤمنين » وجوز جار الله أن يكون { من الذين } منقطعاً عما قبله { وكل حزب } مبتدأ و { فرحون } صفة كل ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب بصفة كذا والله أعلم .
التأويل : الألف ألفة طبع المؤمنين ، واللام لوم طبيعة الكافرين ، والميم مغفرة رب العالمين ، فمن اللفة أحبوا أهل الكتاب ، ومن اللوم أبغضهم الكافرون ، ومغفرة رب العالمين شملت الفريقين حتى قال { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } [ الزمر : 53 ] إلا أن يكون هناك مخصص . ثم أشار إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة وسيغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله ونصره { في بضع سنين } من أيام الطلب { ويومئذ يفرح المؤمنون } وهم الروح والسر والعقل . { أولم يتفكروا } { في } استعداد { أنفسهم ما خلق الله السموات } الروحانية { والأرض } النفسانية إلا ليكون مظهراً للحق ولأجل مسمى بالصبر والثبات في تصفية مرآة القلوب عن صدا الأوصاف الذميمة النفسانية .

================

ج26. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


والأجل المسمى هو أوان صفاء القلب متوجهاً إلى الحق { أولم يسيروا } في أرض البشرية بالسلوك لتبديل الأخلاق { والذين من قبلهم } هم الفلاسفة والبراهمة المعتمدون على مجرد البراهين من غير اعتبار الشرائع . والسوأى هي أن صاروا أئمة الكفر والضلال { الله يبدؤا الخلق } بتصيير النفس متعلقة بالقالب { ثم يعيده } بطريق السير والسلوك والعبور عن المنازل والمقامات إلى عالم الأرواح { ثم إليه ترجعون } بجذبة { ارجعي } [ الفجر : 28 ] { ويوم تقوم الساعة } الإرادة { يبلس المجرمون } بتضييع الأوقات في طلب ما سوى الله . ويوم تقوم الساعة قيامة العشق يومئذ تتفرق المحبون ، فبعضهم يطلب الجنة ، وبعضهم يطلب الوصلة ، وبعضهم يريد الوحدة { فسبحان الله } حين تغلبون على ليل نيل الشهوات وحين صباح نهار تجلي شموس الوصال ، وله الحمد إن كنتم في سموات القربات أو أرض البعد والغفلات ، وسبحانه في عشاء غشاء القساوة وفي حالة استواء شمس المعرفة في وسط سماء القلب ، فإن الربح الخسران في كلتا الحالتين راجع إلى الطائفتين والله منزه عن العالمين . يخرج القلب الحي بنور الله من النفس الميتة في ظلمات صفاتها إبرازاً للطفه ، ويخرج القلب الميت عن الأخلاق الحميدة من النفس الحية بالصفات الحيوانية ، إظهاراً لقهره ، ويحيي أرض القلوب بعد موتها وكذلك تخرجون بدأ وإعادة . فمن آياته خلق سموات القلوب وأرض النفوس ، واختلاف ألسنة القلوب وألسنة النفوس ، فلسان القلب يتكلم بلغة العلويات ، ولسان النفس يتكلم بلغات السفليات { واختلاف ألوانكم } وهي الطبائع المختلفة . منكم منيريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة ومنكم من يريد الله { ومن آياته منامكم } في ليل البشرية { وابتغاؤكم من فضله } في نهار الروحاينة والمكاشفات الربانية { لقوم يسمعون } كلام الله من شجرة الوجود ، ويريكم بروق شواهد الحق ثم اللوامع ثم الطوالع . فتلك الأنوار ترى شهوات الدنيا نيراناً فيخاف منها ، وترى مكاره التكاليف جناناً فيطمع فيها . أن تقوم سماء النفس وارض القلب بأمره لأن الروح من أمره { ثم إذا دعاكم } بجذبة { ارجعي } [ الفجر : 28 ] { إذ أنتم } يعني النفس والقلب والروح { تخرجون } من أنانيته وجودكم { وهو أهون عليه } لأنه في البداية كان مباشراً بنفسه وفي الإعادة يكون المباشر إسرافيل بنفخه ، والمباشرة بنفس الغير في العمل أهون من المباشرة بنفسه عند نظر الخلق . ويحتمل أن يكون أهون من الهون بالضم وهو الذلة والضمير للخلق ، وذلك أنهم في البداية لم يكونوا ملوثين بلوث الحدوث ، ولا مدنسين بأدناس الشرك والمعاصي ، فلعزتهم في البداية باشر خلقهم بنفسه ، ولهونهم في الإعادة باشرهم بغيره ، { وله المثل الأعلى } فيما أودع من الآيات في سموات الأرواح وأرض القلوب . { ضرب لكم } أي للروح والقلب والسر والعقل { مما ملكت أيمانكم } من الأعضاء والجوارح والحواس والقوى { فيما رزقناكم } من العلوم والكشوف { تخافونهم } أن لا يضيعوا شيئاً من المواهب بالتصرفات الفاسدة { كخيفتكم أنفسكم } اي كخيفة الروح من القلب أن لا يضيع شيئاً منها بأن يصرفها في غير موضعها رياء وسمعة وهوى ، أو كخيفة القلب من السر والعقل بأن يصرفها فيما يفسد العقائد ويوقع في الشكوك . فكما لا يصلح هؤلاء لشركتكم فكذلك لا تصلحون أنتم لشركتي إذا تجليت عليكم ، فدعوى الاتحاد والحلول باطلة والكبرياء ردائي لا غير .


وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

القراآت : { آتيتم من رباً } مقصوراً : ابن كثير { لتربوا } بضم التاء وسكون الواو على الجمع : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب { لنذيقهم } بالنون : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل { يرسل الريح } على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف { كسفاً } بالسكون : يزيد وابن ذكوان { آثار } على الجمع : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { ضعف } وما بعده بفتح الضاد : حمزة وعاصم غير للفضل . الباقون : بالضم وهو اختيار خلف وحفص { لا ينفع } بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وعاصم . والآخرون : بتاء التأنيث { لا يستخفنك } بالنون الخفيفة : رويس عن يعقوب .
الوقوف : { يشركون } 5 لا وقد يوقف على توهم لام الأمر { آتيناهم } ط للعدول إلى الخطاب وابتداء أمر التهديد { فتمتعوا } قف لاستئناف التهديد { تعلمون } 5 { يشركون } 5 { بها } ج ط فصلاً بين النقيضين { يقنطون } 5 { ويقدر } ج { يؤمنون } 5 { وابن السبيل } ط { وجه الله } ز ط { المفلحون } 5 { عند الله } ج ط لعطف جملتي الشرط { المضعفون } 5 { يحييكم } ط { شيء } ط { يشركون } 5 { يرجعون } 5 { من قبل } ط { مشركين } 5 { يصدّعون } 5 { كفره } ج لما مر { يمهدون } 5 لا وقد يوقف على جعل اللام للقسم وحذف نون التأكيد { من فضله } 5 { الكافرين } 5 { تشكرون } 5 { أجرموا } ط وقيل : يوقف على { حقاً } أي وكان الانتقام حقاً . ثم ابتداً علينا أي واجب علينا { نصر المؤمنين } 5 { خلاله } ط ج للشرط مع الفاء { يستبشرون } 5 { لمبلسين } 5 { موتها } ط { الموتى } ج لاتفاق الجملتين مع العدول عن بيان الإحياء إلى بيان القدرة { قدير } 5 { يكفرون } 5 { مدبرين } 5 { ضلالتهم } ط { مسلمون } 5 { وشيبة } ط { ما يشاء } ج ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول { القدير } 5 { المجرمون } 5 لا لأن ما بعده جواب القسم { غير ساعة } ط { يؤفكون } 5 { يوم البعث } ز لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول { لا تعلمون } 5 { يستعتبون } 5 { مثل } ط { مبطلون } 5 { لا يعلمون } 5 { لا يوقنون } 5 .
التفسير : لما بين التوحيد بالدلائل وبالمثل بين أنه أمر وجداني يعرفونه في حال الضر والبلاء وإن كانوا ينكرونه في حال الرحمة والرخاء ، وفي لفظي المس والإذاقة دليل على أن الإِنسان قليل الصبر في حالتي الضراء والسراء . وإنما قال { إذا فريق منهم } ولم يقل « إذا هم يشركون » كما قال في آخر « العنكبوت » ، لأن الكلام هناك مع أهل الشرك وههنا مع الناس كلهم وليس كل الناس كذلك . ثم استفهم على سبيل الإِنكار قائلاً { أم أنزلنا } كأنه قال : إذا تقررت الحجج المذكورة فماذا يقولون ، أيتبعون أهواءهم بغير علم أم لهم دليل على ما يقولون؟ وإسناد التكلم إلى الدليل مجاز كما تقول : نطقت الحال بكذا .

و « ما » في قوله { بما كانوا } مصدرية والضمير في { به } لله أو موصولة والضمير لها اي بالأمر الذي بسببه يشركون ، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ذا سلطان وهو الملك فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه { يشركون } وحين ذكر الشرك الظاهر أتبعه ذكر الخفي وهو أن تكون عبادة الله للدنيا فإذا أتاه بهواه رضي ، وإذا منع وعسر سخط وقنط ، والرحمة المطر والصحة والأمن وأمثالها ، والسيئة أضداد ذلك . وإنما لم يذكر سبب الرحمة ليعلم أنها بفضله وذكر سبب السيئة وهو شؤم معاصيهم ليدل على عدله . والفرح بالنعمة مذموم إذا كان مع قطع النظر عن المنعم ، فإذا كان مع ملاحظة المنعم فمحمود بل الفرح الكلي يجب أن يكون بالمنعم . والقنوط من رحمة الله أيضاً مذموم كما مر في قوله { إنه لا ييأس من روح الله غلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] ثم اشار بقوله { أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء } إلى أن الكل من الله فيجب أن يكون نظر المحقق في الحالين على الله . ففي حالة الرحمة يشتغل بالشكر ، وفي حالة الضراء لا ينسب الله إلى عدم القدرة وإلى عدم العناية بحال العبد بل يشتغل بالتوبة والإنابة إلى أوان الفرج والنصر ، وهذه مرتبة المؤمن الموحد فلذلك قال { إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون } ولا يخفى أن بسط الرزق مما يشاهد ويرى فلذلك قال { أولم يروا } وقال في « الزمر » { أولم يعلموا } [ الآية : 52 ] مناسبة لما قبله وهو { أوتيته على علم } [ القصص : 78 ] وقوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } قال جار الله : لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت ايديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك قائلاً { فآت ذا القربى حقه } الآية . وأقول : لما بين كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى الشفقة على خلق الله قائلاً { فآت } أيها المكلف أو النبي والأمة يتبعونه لا محالة كما مر في قوله { فأقم وجهك } [ الروم : 30 ] وفيه أن الله إذا بسط الرزق فلا ينقص بالإِنفاق ، وإذا ضيق لم يزدد بالإمساك ، فينبغي أن لا يتوقف الإنسان في الإحسان . وفي تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر دلالة على أنهم أولى بالإشفاق عليهم من سائر الأصناف . وإنما قال { ذا القربى } ولم يقل « القريب » ليكون نصاً في معناه ولا يشتبه بالقرب المكاني ، وفيه أن القرابة أمر له دوام بخلاف المسكنة وكونه من ابناء السبيل . وفي قوله { فآت ذا القربى حقه } دون أن يقول « فآت هذه الأصناف حقوقهم » تشريف لذوي القرابة حيث جعل الصنفين الآخرين تابعاً لهم على الإطلاق . فإنه إذا قال الملك : خل فلاناً يدخل وفلاناً أيضاً كان أدخل في التعظيم من أن يقول : خل فلاناً وفلاناً يدخلان { ذلك } الإيتاء { خير } في نفسه أو خير من المنع { للذين يريدون وجه الله } أي ذاته أو جهة قربته فإن من أنفق ألوفاً رياء وسمعة لم ينل درجة من أنفق رغيفاً لوجه الله { وأولئك هم المفلحون } كقوله في أول « البقرة » لأن قوله

{ فأقم وجهك } [ الروم : 30 ] إشارة إلى الإيمان بالغيب وغيره أو إلى إقامة الصلاة ، وقوله { وآت ذا القربى } أمر بالزكاة بل بالصدقة المطلقة . وفي قوله { يريدون وجه الله } إشارة إلى الاعتراف بالمعاد . ثم أراد أن يعظم شأن الصدقة فضم إلى ذلك تقبيح أمر الربا استطراداً .
فمن قرأ ممدوداً فظاهر ، ومن قرأ مقصوراً فهو من الإتيان أي وما غشيتموه أو أصبتموه من إعطاء ربا ليربو أي ليزيد في أموال أكلة الربا ، وفي القراءة الأخرى ليزيد في أموالهم { فلا يربو } فلا يزكو ولا ينمو { عند الله } لأنه يمحق بركتها نظيره ما مر في آخر البقرة { يمحق الله الربا ويربى الصدقات } [ الآية : 276 ] قيل : نزلت في ثقيف وكانوا يرابون . وقيل : نزلت في الهبة أو الإهداء لأجل عوض زائد ، فبين الله تعالى أن ذلك لا يوجب الثواب عند الله وإن كان مباحاً . وفي الحديث « الجانب المستغزر يثاب عن هبته » أي الرجل الغريب إذا أهدى شيئاً فإنه ينبغي أن يزاد في عوضه . قال جار الله : في قوله { فأولئك } التفات حسن كأنه قال ذلك لخواصه ولملائكته وهو أمدح لهم من أن يقول « فأنتم المضعفون » أي ذوو الإضعاف من الحسنات نظيره المقوي والموسر لذوي القوة واليسار ، ولارابط محذوف أي هم المضعفون به . وجوز في الكشاف أن يراد فمؤتوه أولئك هم المضعفون . قالت العلماء : أراد الإضعاف في الثواب لا في المقدار ، فليس من أعطى رغيفاً فإن الله يعطيه عشرة أرغفة ، وإنما المراد أن الرغيف الواحد لو اقتضى أن يكون ثوابه قصراً في الجنة فإن الله تعالى يعطيه عشرة قصور تفضلاً .
ثم عاد إلى بيان التوحيد مرة أخرى بتذكير الخلق والرزق والإماتة والإحياء بعدها نظراً إلى الدلائل ، ثم طلب منهم الإنصاف بقوله { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } قال جار الله : « من » الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم . قلت : الأولى للتبعيض كأنه أقام فعل البعض مقام فعل الكل توسعة على الخصم ، والثالثة لتأكيد الاستفهام ، والمتوسطة للابتداء ولكنه يفيد أنه رضي منهم بشيء واحد من تلك الأشياء للتوسعة المذكورة أيضاً . ثم بين أن الشرك وسائر المعاصي سبب ظهور الفساد في البر والبحر وذلك لقلة المنافع وكثرة المضار ومحق البركات من كل شيء . وفسره ابن عباس بإجداب البر وانقطاع مادة البحر وتموجه بمائه ، وعن الحسن : المراد بالبحر مدن البحر وقراه التي على سواحله ، وقال عكرمة : العرب تسمي الأمصار بحاراً { لنذيقهم } وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن نعاقبهم بجميعها في الآخرة إرادة أن يرجعوا عماهم عليه ، وجوز جار الله أن يراد ظهر الشر والمعاصي في الأرض براً وبحراً بكسب الناس .

وعلى هذا فاللام في قوله { لنذيقهم } لام العاقبة . ثم أمرهم بالنظر في حال أشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم كقوم نوح وعاد وثمود { كان أكثرهم مشركين } فيه إشارة إلى أن بعضهم كانوا مرتكبي ما دون الشرك من المعاصي ولكنهم شاركوا المشركين في الهلاك تغليظاً عليهم . أو هو كقوله { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] أو المراد أن أهل الشرك كانوا أكثر من أهل سائر الأديان الباطلة كالمعطلة والمجسمة ونحوهم . خاطب نبيه وبتبعيته أمته بقوله { فأقم } كأنه قال : وإذ قد ظهر فساد سائر الملل والنحل { فاقم وجهك للدين } البليغ الاستقامة { من قبل أن يأتي } من الله { يوم } لا يرده راد . ويجوز أن يتعلق قوله { من الله } بقوله { لا مردّ } أي لا راد له من جهة الله فلا يقدر غيره على رده فلا دافع له أصلاً { يومئذ يصدّعون } أي يتصدعون والتصدع التفرق . ثم بين وجه تفرق الناس بقوله { من كفر فعليه كفره } اي وبال كفره عليه لا على غيره { ومن عمل صالحاً } أي آمن وعمل صالحاً لأن العمل الصالح لا يتصور إلا بعد الإِيمان ، على أن الإِيمان ، أيضاً عمل صالح قلبي ولساني وسيصرح به في قوله { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ومعنى { يمهدون } يوطؤن كما يسوّي الراقد مضجعه وجوز جار الله ن يراد فعلى أنفسهم يشففقون من قولهم : في المشفق أم فرشت فأنامت . وذلك ان الإشفاق يلزمه التمهيد عرفاً وعادة . ثم بين غاية التمهيد بقوله { ليجزي } وقوله { من فضله } عند أهل السنة ظاهر : وحمله المعتزلة على شبه الكناية لأن الفضل تبع للثواب فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له ، أو الفضل بمعنى العطاء والثواب . وفي قوله { إنه لا يحب الكافرين } وعيد عظيم لهم لأنه إذا لم يحبهم أرحم الراحمين فلا يتصور لهم خلاص من عذابه ولا مناص ولا رحمة من جهته ولا نعمة ، وفيه تعريض بأنه يحب المؤمنين ولا وعد أعظم من هذا ولا شرف فوق ذلك . قال جار الله : تكرير الذين آمنوا وعملوا الصلاحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح . وقوله { إنه لا يحب الكافرين } تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس . قلت : يشبه أن يكون مراده أنه ذكر الكافر أولاً ثم المؤمن ، وفي الآية الثانية قرر أولاً أمر المؤمن ثم أردفه بتقرير أمر الكافر . أو أراد أن قوله { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } دل بصريحه على ثواب المؤمن وبتعريضه على حرمان الكافر ، وقوله { إنه لا يحب الكافرين } دل بصريحه على حرمان الكافر وبتعريضه على ثواب المؤمن .

فالأول طرد والثاني عكس وكل منهما مقرر للآخر . وحين ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح وبين أنه من دلائل الوحدانية بقوله { ومن آياته أن يرسل الرياح } ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما مر من أن الكريم لا يذكر ، لإحسانه سبباً ويذكر لأضراره سبباً . ومن قرأ على التوحيد فللدلالة على الجنس ، ومن قرأ على الجمع فإما لأنه أراد الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة دون الدبور التي هي للعذاب ، وإما لأن أكثر الرياح نافعة والضارة كالسموم قليلة جداً لا تهب إلا حيناً ، وإما لأن الرياح إذا اجتمعت وتزاحمت وتراكمت حتى صارت ريحاً واحداً أضرت بالأشجار والأبنية وقلعتها وإذا تفرقت وصارت رياحاً اعتدلت ونفعت . قوله { مبشرات } أي بالمطر كقوله { بشراً بين يدي رحمته } [ الأعراف : 57 ] وقيل : أي بتصحيح الأهوية وإصلاح الأبدان .
وقوله { وليذيقكم } إما معطوف على ما قبله معنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم بعض رحمته لأن راحات الدنيا زائلة لا محالة ، وإما معطوف على محذوف أي وليكون كذا وكذا أرسلناها . وفي قوله { بأمره } إشارة إلى أن مجرد هبوب الريح لا يكفي في جريان الفلك ولكنها تجري بإذن الله وجعله الريح على اعتدال وقوام . وفي قوله { ولتبتغوا من فضله } دلالة على أن ركوب البحر لأجله التجارة جائز . وفي قوله { ولعلكم تشكرون } إشارة إلى أن نعم الله تعالى يجب أن تقابل بالشكر . وإنما بنى الكلام في هذه الآية على الخطاب بخلاف قوله { ليذيقهم بعض الذي عملوا يرجعون } تشريفاً لأهل الرحمة ، ورحمة الله قريب من المحسنين فكان من حقهم أن يخاطبوا ثم أشار إلى أصل النبوة مع تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { ولقد ارسلنا } واختصر الكلام فدل بذكر عاقبة الفريقين المجرم والمؤمن عليهما ، فعاقبة المجرمين الذين لم يصدِّقوا رسلهم الإنتقام منهم ، وعاقبة الذين صدَّقوهم النصر والظفر على الأعداء . وفي قوله { حقاً علينا } تعظيم لأهل الإيمان ورفع في شأنهم وإلا فلا يجب لأحد على الله شيء . ثم أراد أن يشير إلى الأصل الثالث وهو المعاد فمهد لذلك مقدمة منتزعة مما تقدم ذكره وهو بيان إرسال الرياح لأجل إحداث السحاب الماطر المبسوطة بعضها على الاتصال والمتفرق بعضها كسفاً اي قطعاً . وقوله { فترى الودق } أي المطر يخرج من خلاله قد مر في النور . ثم ذكر في ضمن ذلك عجز الإنسان وقلة ثباته وتوكله وقوله { من قبله } مكرر للتأكيد ومعناه الدلالة على أن عهدهم بالمطر تطاول فاستحكم بأسهم وتحقق إبلاسهم . وقيل : اراد أنهم من قبل نزول المطر ، أو من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب كانوا مبلسين ، وذلك أن عند رؤية السحب وهبوب الرياح قد يرجى المطر فلا يتحقق الإبلاس . ثم صرح بالمقصود قائلاً { إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء } من الإبداء والإعادة { قدير } .

ثم أكد تزلزل الإنسان وتذبذبه وأنه بأدنى سبب يكفر بنعمة الله فقال { ولئن أرسلنا ريحاً } ضارة باردة أو حارة { فرأوه } اي رأوا أثر الرحمة وهو النبات . ومن قرأ آثار فالضمير عائد إلى المعنى لأن آثار الرحمة النبات أيضاً واسم النبات يقع على القليل والكثير ، وإنما قال { مصفراً } ولم يقل « أصفر » لأن تلك الصفرة حادثة . وقيل : فرأوا السحاب مصفراً لأنه إذا كان كذلك لم يمطر . ثم زاد في تسلية رسوله بقوله { فإنك لا تسمع الموتى } إلى قوله { فهم مسلمون } وقد مر في آخر النمل . ثم أعاد من دلائل التوحيد دليلاً آخر من الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله وأطواره وتقلبه من ضعف الطفولية إلى قوة الشباب والكهولة ومنها إلى ضعف الهرم . وفي قوله { خلقكم من ضعف } إشارة إلى أن أساس أمر الإنسان الضعف كقوله { خلق الإنسان من عجل } [ الأنبياء : 37 ] وقيل : من ضعف اي من نطفة .
وهذا الترديد في الأطوار المختلفة أظهر دليل على وجود الصانع العليم القدير . وقوله { يخلق ما يشاء } كقوله في دليل الآفاق { فيبسطه في السماء كيف يشاء } [ الروم : 48 ] والكل إشارة إلى بطلان القول بالطبيعة المستقلة . ثم عاد إلى ذكر المعاد وأحوال القيامة ، وذكر أن الكفار يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وأن أهل العلم والإيمان وهم الملائكة والأنبياء وغيرهم حالهم بالعكس . وذلك أن الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله ، والموعود بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها . ومعنى { يؤفكون } يصرفون عن الصدق والتحقيق أي هكذا كان أمرهم في الدنيا مبيناً على الظن الكاذب وكانوا يصرون بمثله . ويحتمل أن يكونوا ناسين أو كاذبين . ومعنى في كتاب الله في اللوح والمحفوظ أو في علمه وقضائه ، أو فيما كتب وأوجب . وفيه رد قول الكفار وإلاع لهم على مصدوقية الحال . قال جار الله : في الحديث « ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون » قالوا : لا نعلم أهي أربعون سنة أو أربعون الف سنة . وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم . والفاء في قوله { فهذا يوم البعث } جواب شرط يدل عليه الكلام كأنه قيل : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث وبه تبين بطلان قولكم { ولكنكم كنتم لا تعلمون } أنه حق . ثم بين أن ذلك اليوم لا يقبل فيه عذر من أهل الشرك وسائر أنواع الظلم { ولا هم يستعتبون } أي لا يطلب منهم الرضا فلا يقال لهم ارضوا ربكم بتوبة وطاعة ، وقد مر في « النحل » . ثم بين أن القرآن مشحون بقصص وأخبار كلها كالمثل في غرابتها وحسن مواقعها ، وأن الرسول مهما جاءهم بدليل أنكروه لأن الذي اجترأ على العناد في دليل واحد ، والأغلب أن يتجرأ على أمثاله وهذا نتيجة الطبع والخذلان ، فلا علاج في مثل هذه القضية إلا بالصبر وتحمل أعباء الرسالة إلى إنجاز وعد الله بالنصرة وإعلاء الدين . ومعنى { لا يستخفنك } لا يحملنك على الخفة والقلق قوم شاكون فأمثال هذه الأفعال والأقوال لا تستبعد من أهل الريب والضلال أمر أن لا يضجر ويشتغل بالدعاء إلى الحق حتى يأتي أوان النصر والظفر والله المستعان .


الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

القراآت : { ورحمة } بالرفع . حمزة وأبو عون عن قنبل { ليضل } بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب و { يتخذها } بالنصب : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { يا بني لا تشرك } بسكون الياء : البزي والقواس . وقرأ حفص والمفضل بفتح الياء وكذا في قوله { يا بني أقم } الباقون : بكسر الياء . { مثقال } بالرفع : ابو جعفر ونافع { نصاعر } بالألف : أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي وخلف . الآخرون . بالتشديد .
الوقوف : { الم } 5 كوفي { الحكيم } 5 وقف لمن قرأ { ورحمة } بالرفع على تقدير هو هدى . ومن قرأ بالنصب على الحال والعامل معنى الإشارة في { تلك } فلا وقف { للمحسنين } 5 لا { يوقنون } 5 ط { المفلحون } 5 { بغير علم } ط قد يوقف لمن قرأ { ويتخذها } بالرفع والوصل أحسن لأنه وإن لم يكن معطوفاً على { ليضل } فهو معطوف على { يشتري } { هزواً } ط { مهين } 5 { وقرأ } ط لانقطاع النظم مع اتصال الفاء { أليم } 5 { النعيم } 5 لا للحال والعامل معنى الفعل في لهم { فيها } ط لأن التقدير وعد الله وعداً { حقاً } ط { الحكيم } 5 { دابة } 5 للعدول { كريم } 5 { دونه } ط { مبين } 5 { لله } ط { لنفسه } ج { حميد } 5 { بالله } ط وقد يوقف على { لا تشرك } على جعل الباء للقسم وهو تكلف { عظيم } 5 { بوالديه } ج لانقطاع النظم مع تعلق { أن اشكر } ب { وصينا } { ولوالديك } ط { المصير } 5 { معروفا } ز للعدول عن بعض المأمور إلى الكل مع اتفاق الجملتين { إلي } ج لأن « ثم » لترتيب الأخبار { تعملون } 5 { الله } ط { خبير } 5 { أصابك } ط { الأمور } 5 ج للآية ووقوع العارض مع عطف المتفقتين { مرحاً } ط { فخور } ج لما ذكر { من صوتك } 5 ط { الحمير } 5 .
التفسير : لما قال في آخر السورة المتقدمة { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [ الزمر : 27 ] وكان في إشارة إلى إعجاز القرآن ، ودل ما بعده إلى تمام السورة على أنهم مصرون على كفرهم ، أكد تلك المعاني في أول هذه السورة . وتفسيره إلى { المفلحون } كما في أول البقرة . إلا قوله { تلك آيات الكتاب الحكيم } فإنه مذكور في أول « يونس » . وحيث زاد ههنا { ورحمة } قال { للمحسنين } فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى لقوله صلى الله عليه وسلم « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه » ولقوله سبحانه { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } [ النحل : 128 ] { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] ومما يؤيد ما قلنا أنه لم يقل هنا { يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] لئلا يلزم شبه التكرار ، فإن الإحسان لا مزيد عليه في باب العقائد . ثم بين حال المعرضين عن الحق بقوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الإضافة بمعنى « من » أي الحديث الذي هو لهو ومنكر .

وجوز في الكشاف أن تكون « من » للتبعيض أي يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه وفيه نظر ، لأنه يصح هذا التأويل في قولنا « خاتم فضة » وليس بمشهور . قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً . وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ويقول : هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . فعلى هذا معنى { ليضل } بضم الياء ظاهر ، ومن قرأ بالفتح فمعناه الثبات على الضلال أو الإضلال نوع من الضلال . وقوله { بغير علم } متعلق ب { يشتري } كقوله { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } [ البقرة : 16 ] أي للتجارة قاله في الكشاف وغيره . ولا يبعد عندي تعلقه بقوله { ليضل } كما قال { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } [ النحل : 25 ] قال المحققون : ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح ، وإذا كان الحديث لهواً لا فائدة فيه كان أقبح . وقد يسوغه بعض الناس بطريق الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم { روِّحوا القلوب ساعة فساعة } والعوام يفهمون منه الترويح بالمطايبة وإن كان الخواص يحملونه على الاشتغال بجانب الحق كقوله « يا بلال روّحنا » ثم إنه إذا لم يقصد به الإحماض بل يقصد به الإضلال لم يكن عليه مزيد في القبح ولا سيما إذا كان معه اشتغاله بلهو الحديث مستكبراً عن آيات الله التي هي محض الحكمة كما قال { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً } ومحل { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً } نصب على الحال قال جار الله : الأولى حال من ضمير { مستكبراً } والثانية من { لم يسمعها } قلت : هذا بناء على تجويز الحال المتداخلة وإلا فمن الجائز أن يكون كل منهما و { مستكبراً } حالاً من فاعل { ولى } أي مستكبراً مشابهاً لمن لم يسمعها مشابهاً لمن في أذنيه وقر . وجوز أي يكونا مستأنفين وتقدير كأن المخففة كأنه والضمير للشأن ، قال أهل البرهان : هذه الآية والتي في الجاثية نزلتا باتفاق المفسرين في النضر إلا أنه بالغ ههنا في ذمة لتركه استماع القرآن فقال بعد قوله { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً } اي صمماً لا يقرع مسامعه صوت ، فإن عدم السماع أعم من أن يكون بوقر الأذن أو بنحو غفلة . وترك الجملة الثانية في « الجاثية » لأنه لم يبن الكلام هنالك على المبالغة بدليل قوله { وإذا علم من آياتنا شيئاً } [ الجاثية : 9 ] والعلم لا يحصل إلا بالسماع أو ما يقوم مقامه من خط وغيره . وحين بين وعيد أعداء الدين بين حال أولياء الله بقوله { إن الذين آمنوا } الآية .

وقد مر مثله مراراً وفي قوله { وهو العزيز الحكيم } إشارة إلى أنه لا غالب ولا مناوئ ، يعطي النعيم من شاء والبؤس من شاء حسب ما تقتضيه حكمته وعدله . ثم بين عزته وحكمته بقوله { خلق السموات بغير عمد } وقد مر في أول « الرعد » . وقوله { وألقى في الأرض } مذكور في أول « النحل » و { من كل زوج كريم } ذكر في أول الشعراء . هذار الذي ذكر من السموات بكيفياتها والأرض بهيآتها بسائطها ومركباتها { خلق الله } أي مخلوقه { فأروني ماذا خلق الذين من دونه } وهم الآلهة بزعمهم . وهذا أمرتعجيز وتبكيت فلهذا سجل عليهم بالضلال المبين . ثم بين فساد اعتقاد أهل الشرك بأنه مخالف ايضاً لعقيدة الحكماء الذين يعولون على المعقول الصرف منهم لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته أو من أولاد آزر ، عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له؟ فقال : الا أكتفي إذا كفيت وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً . عن ابن عباس : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان راعياً أسود فرزقه الله العتق ورضي الله قوله « ووصيته » وحكاها في القرآن . وقيل : خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة . وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً . روي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد وقد لين الله له الحديد ، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت . فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله . فقال له داود عليه السلام : بحق ما سميت حكيماً . روي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ، ثم امره بمثل ذلك بعد ايام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب أيضاً فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا ، وأخبث ما فيها إذا خبثا .
ثم فسر الحكمة بقوله { أن اشكر لله } لأن إيتاء الحكمة في معنى القول . قال العلماء : هذا أمر تكوين أي جعلناه شاكراً فإن أمر التكليف يستوي فيه الجاهل والحكيم ، وفيه تنبيه على أن شكر المعبود الحق رأس كل العبادة وسنام الحكمة وفائدته ترجع إلى العبد لا إلى المعبود فإنه غني عن شكر الشاكرين مستحق للحمد وإن لم يكن على وجه الأرض حامد . وحين بين كماله شرع في تكميله وذلك لأبنه المسمى أنعم أو أشكم . قيل : كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظمهما حتى أسلما . ووجه كون الشرك ظلماً عظيماً أنه وضع في أخس الأشياء - وهو الفقير المطلق- موضع اشرف الاشياء - وهو الغني المطلق- ثم وصى الله سبحانه الإنسان بشكر إنعام الوالدين وبطاعتهما وإن كانا كافرين إلا أن يدعواه إلى الإشراك بالله .

وهذه جملة معترضة نيط باعتراضها غرضان : أحدهما أن طاعة الأبوين تالية لعبادة الله ، والثاني تأكيد كون الشرك أمراً فظيعاً منكراً حتى إنه يلزم فيه مخالفة من يجب طاعته . وقوله { حملته أمه وهناً } أي حال كونها تهن وهناً { على وهن } أي ضعفاً على ضعف ، لأن الحمل كلما زاد وعظم ازدادت ثقلاً وضعفاً ، اعتراض في اعتراض تحريضاً على رعاية حق الوالدة خصوصاً . روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال : « قلت : يا رسول الله من أبر؟ قال : أمك ثم أمك ثم أباك » وقوله { وفصاله في عامين } توقيت للفطام كما مر في « البقرة » في قوله { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] وفيه تنبيه آخر على ما كابدته الأم من المشاق . ومعنى { معروفاً } صحاباً أو مصاحباً معروفاً على ما يقتضيه العرف والشرع . وفي قوله { واتبع سبيل من أناب إليّ } إشارة أخرى إلى أنهما لو لم يكونا منيبين إلى الرب لم يتبع سبيلهما في الدين وإن لزم طاعتهما في الدنيا وفي باب حسن العشرة والصحبة . واتفق المفسرون على أن هذه الآية ونظيرتها التي في « العنكبوت » وفي « الأحقاف » نزلت في سعد بن ابي وقاص وفي أمه حمنة بنت ابي سفيان ، وذلك أنه حين أسلم قالت : يا سعد ، بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليَّ حرام حتى تكفر بمحمد - وكان أحب ولدها إليها « فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآيات ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتراضاها بالإحسان وإنما لم يذكر في هذه السورة قوله { حسناً } لأن قوله { أن اشكر } قام مقامه ، وإنما قال ههنا { وإن جاهداك على أن تشرك } لأنه أراد ون حملاك على الإشراك ، وقال في العنكبوت { لتشرك } [ العنكبوت : 8 ] موافقة لما قبله فإنما يجاهد لنفسه مع أن مبني الكلام هناك الاختصار . وحين وصف نفسه بكماله في خاتمة الآية بقوله { فأنبئكم بما كنتم تعملون } أتبعه ما يناسبه من وصايا لقمان وهوة قوله { يا بني إنها } أي القصة { إن تك } أي الحبة من الإساءة أو الإحسان في الصغر كحبة الخردل ويجوز أن يقال : الحبة إن تك كحبة الخردل . ومن قرأ { مثقال } بالرفع تعين أن يكون الضمير في { إنها } للقصة وتأنيث { تك } لإِضافة المثقال إلى الحبة . وروي أن ابن لقمان قال له : أرأيت الحبة تكون في مقل البحر اي في مغاصة يعلمها الله؟ إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء .
سؤال : الصخرة لا بد أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟ الجواب على قول الظاهريين من المفسرين ظاهر لأنهم قالوا : الصخرة هي التي عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء .

وقال أهل الأدب : فيه إضمار والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ومثله قول جار الله ، أراد فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت العالم العلوي أو السفلي ، وقال أهل التحقيق : إن خفاء الشيء يكون إما لغاية صغره ، وإما لاحتجاجه ، وإما لكونه بعيداً ، وإما لكونه في ظلمة . فأشار إلى الأول بقوله { مثقال من خردل } وإلى الثاني بقوله { فتكن في صخرة } وإلى الثالث بقوله { أو في السموات } وإلى الرابع بقوله { أو في الأرض } وقوله { يأت بها الله } أبلغ من قول القائل « يعلمه الله » ففيه مع العلم بمكانه إظهار القدرة على الإتيان به { إن الله لطيف } نافذ القدرة { خبير } ببواطن الأمور ، وحين منع ابنه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بمكارم الأخلاق والعادات وأولها الصلاة ، وفيها تعظيم المعبود الحق ، وبعدها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهما تتم الشفقة على خلق الله . وقوله { واصبر على ما اصابك } من أذيات الخلق في البأس ، أو هو مطلق في كل ما يصيبه من المصائب والمكاره { إن ذلك } المذكور { من عزم الأمور } أي من معزوماتها من عزم الأمر بالنصب إذا قطعه قطع إيجاب وإلزام ، ومنه العزيمة خلاف الرخصة ، أو من عزم الأمر بالرفع أي جد وقد مر في آخر « آل عمران » . وحين أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكان يخشى عليه أن يتكبر على الغير بسبب كونه مكملاً له أو يتبختر في النفس بسبب كونه كاملاً في نفسه قال { ولا تصعِّر خدك للناس } يقال : أصعر خدَّه وصعره وصاعره من الصعر بفتحتين وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه . والمعنى : أقبل على الناس بكل وجهك تواضعاً لا بشق الوجه كعادة المتكبرين . ومعنى { ولا تمش في الأرض مرحاً } مذكور في سورة « سبحان الذي » والمختال والفخور مذكوران في سورة النساء . فالمختال هو الماشي لأجل الفرح والنشاك لا لمصلحة دينية أو دنيوية ، والفخور هو المصعر خده ، بين أن الله لا يحبهما فيلزم الاجتناب عن الاتصاف بصفتهما . ثم امره عند الاحتياج إلى المشي لضرورة بالمشي القصد أي الوسط بين السرعة والإبطاء على قياس سائر الأخلاق والآداب فخير الأمور أوساطها ، ومثله غض الصوت حين التكلم . قال أهل البيان : في تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير التي هي مثل في البلادة حتى استهجن التلفظ باسمها في أغلب الأمر ، وفي تمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام عن أداة التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة ، تنبيه على أن الإفراط في رفع الصوت من غير ضرورة ولا فائدة مكروه عند الله جداً ، واشتقاق أنكر من النكر ليكون على القياس لا من المنكر والحمير جمع الحمار ، وإنما لم يقل أصوات الحمير لأن المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق وغير الناطق له صوت ، وإن أنكر أصوات هذه الأجناس صوت أفراد هذا الجنس .

قال بعض العقلاء : من نكر صوت هذا الحيوان أنه لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق ، وأما سائر الحيوانات فلا يصيح إلا لحاجة قالوا : ومن فوائد عطف الأمر بغض الصوت على الأمر بالقصد في المشي ، أن الحيوان يتوصل إلى مطلوبه بالمشي فإن عجز عن ذلك فبالتصويت والنداء كالغنم تطلب السخلة ، ومنها أن الإنسان له عقيدة ولسان وجوارح يتحرك بها كسائر الحيوانات فأشار إلى الأولى بقوله { إنها إن تك مثقال حبة } أي أصلح ضميرك فإن الله خبير ، واشار إلى التوسط في أفعال الجوارح بقوله { واقصد في مشيك } وإلى التوسط في الأقوال بقوله { اغضض من صوتك } أو نقول : اشار بقوله { أقم الصلاة } إلى الأوصاف الملكية التي يجب أن تكون في الإنسان ، وبقوله { وأمر } إلى قوله { مرحاً } إلى الأوصاف الفاضلة الإنسانية ، وبقوله { واقصد } { واغضض } غلى الأوصاف التي يشارك فيها الإنسان سائر الحيوان والله تعالى أعلم .
التأويل : { ويؤتون الزكاة } هي للعوام مقادير معينة من المال كربع العشر من عشرين ، وللخواص إخراج كل المال في سبيل الله ، ولأخص الخواص بذل الوجود لنيل المقصود { لهو الحديث } قال الجنيد : السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم ، وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم ، وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم . { وإذ قال لقمان } القلب { لابنه } السر المتولد من ازدواج الروح والقلب { وهو يعظه } أن لا يتصف بصفات النفس العابدة للشيطان والهوى والدنيا { في عامين } يريد فطامه عن مألوفات الدارين { وإن جاهداك } فيه أن السر لا ينبغي له أن يلتفت إلى الروح أو القلب إذا اشتغلا بغير الله في أوقات الفترات ، فإن الروح قد يميل غلى مجانسة من الروحانيات ، والقلب يميل تارة إلى الروح ، وأخرة إلى النفس ولكنه يرجى الصلاة بعد الفترة ، وأما السر فإذا زال عن طبيعته وهو الإخلاص في التوحيد فإصلاح حاله ممكن بعيد . { واتبع سبيل من أناب إليّ } وهو الخفي . { إنها إن تك } يعني القسمة الأزلية من السعادة وضدها { لصوت الحمير } قالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه .


أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

القراآت : { نعمه } على الجمع : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل وحفص { والبحر } بالنصب : أبو عمرو ويعقوب عطفاً على اسم « أن » الآخرون : بالرفع حملاً على محل « أن » ومعمولها { وأن ما يدعون } على الغيبة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحفص وسهل ويعقوب { وينزل الغيث } التشديد : ابو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم .
الوقوف : { وباطنه } ط { منير } 5 { آباءنا } ط { السعير } 5 { الوثقى } ط { الأمور } 5 { كفره } 5 { عملوا } ط { الصدور } 5 { غليظ } 5 { ليقولن الله } ط { الله } ط { لا يعلمون } 5 { والأرض } ط { الحميد } 5 { كلمات الله } ط { حكيم } 5 { واحدة } ط { بصير } 5 { والقمر } ز لأن قوله { كل } مبتدأ مع عطف « أن » على « أن » الأولى { خبير } 5 { الباطل } لا { الكبير } 5 { من آياته } ط { شكور } 5 { الدين } ج { مقتصد } ط { كفور } 5 { عن ولده } لا لعطف الجملتين المختلفتين لفظاً مع صدق الاتصال معنى { شيئاً } ط { الدنيا } قف للفصل بين الموعظتين { الغرور } 5 { الساعة } ج لاختلاف الجملتين { الغيث } ج وإن اتفقت الجملتان للتفصيل بين عيب وغيب { الأرحام } ط لابتداء الجملة المنفية التي فيها استفهام { غداً } ط لابتداء نفي آخر مع تكرار نفس دون الاكتفاء بضميرها { تموت } ط { خبير } 5 .
التفسير : لما ذكر أن معرفة الصانع غير مختصة بالنبوة ولكنها توافق الحكمة ايضاً ، ولو كانت تعبداً محضاً للزم قبوله ، كيف وإنها توافق المعقول ، أعاد الاستدلال بالأمور المشاهدة الآفاقية والأنفسية . ومعنى { سخر لكم } لأجلكم كما مر في سورة إبراهيم من قوله { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين } [ إبراهيم : 33 ] الآية ومعنى { اسبغ } أتم ، والنعم الظاهرة كل ما يوجد للحس الظاهر إليه سبيل ومن جملتها الحواس أنفسها . والباطنة مالا يدرك إلا بالحس الباطن أو بالعقل أو لا يعلم أصلاً . ومن المفسرين من يخص ، فعن مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ظاهراً ، والباطنة إمداد الملائكة . وعن الضحاك : الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة والعلم .
وقيل : النفس . ثم ذكر أن بعض الناس يجادلون في الله بعد ظهور الدلائل على وحدانيته وقد مر في أول « الحج » . ثم ذكر أنه لا مستند له في ذلك إلا التقليد ، ثم وبخه على جهله وتقليده بأنه يتبع سبيل الشيطان ولو دعاه إلى النار قائلاً { أولو كان } إلخ . ومعناه أيتبعونهم ولو كان كذا؟ ثم اراد أن يفصل حال المؤمن والكافر بعض التفصيل فقال { ومن يسلم وجهه إلى الله } وهو نظير قوله في « البقرة » { بلى من أسلم وجهه لله } [ الآية : 112 ] والفرق أن معناه مع « إلى » يرجع إلى التفويض والتسليم ، ومع اللام يؤل إلى الإخلاص والإذعان والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيل كما مر في آية الكرسي .

وقوله { يمتعهم } الاية . كقوله في البقرة { ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره } [ الآية : 126 ] وغلظ العذاب شدته . ثم بين أنهم معترفون بالمعبود الحق إلا أنهم يشركون به وقد مر في آخر « العنكبوت » مثله إلا أنه قال في آخره { بل أكثرهم لا يعلمون } وذلك أنه زاد هناك قوله { وسخر الشمس والقمر } [ الرعد : 2 ] فبالغ ، فإن نفي العقل أبلغ من نفي العلم إذ كل عالم عاقل ولا ينعكس . ثم ذكر أن الملك كله له وهو غني على الإطلاق حميد بالاستحقاق . وحين بين غاية قدرته أراد أن يبين أنه لا نهاية لعلمه فقال { ولو أن ما في الأرض } الاية . عن ابن عباس : أنها نزلت جواباً لليهود وأن التوراة فيها كل الحكمة . وقيل : هي جواب قول المشركين أن الوحي سينفد .
وتقدير الآية على قراءة الرفع : لو ثبت كون الأشجار أقلاماً وثبت البحر ممدوداً بسبعة أبحر . ويجوز أن تكون الجملة حالاً واللام في البحر للجنس . وجعل جنس البحار ممدوداً بالسبعة للتكثير لا للتقدير ، فإن كثيراً من الشياء عددها سبعة كالسيارات السبعة والأقاليم السبعة وأيام الأسبوع ومثله قوله صلى الله عليه وسلم « المؤمن يأكل في معاً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء » أراد الأكل الكثير . وقال في الكشاف جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوأة مداداً ، فهي تصب فيه مدادها ابداً صباً لا ينقطع . قلت : جعله الأبحر سبعة تقديراً ينافي قوله « أبدا لا ينقطع » وإنما لم يجعل للأقلام مداداً لأن نقصان المداد بالكتابة أظهر من نقصان القلم . وإنما لم يقل : كلم الله « على جمع الكثرة للمبالغة إذ يفهم منه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمه؟ وقيل : أراد بكلماته عجائب مصنوعاته الموجودة بكلمة » كن « وقد مر نظير هذه الآية في آخر الكهف . ثم بين أنه لا يصعب على قدرته كثرة الإيجاد والإعدام فإن تعلق قدرته بمقدور واحد كتعلقها بمقدورات غير محصورة لأن اقتداره لا يتوقف على آلة وعدة وإنما ذلك له ذاتي يكفي فيه الإرادة . ثم أكد ذلك بأن سمعه يتعلق في زمان واحد بكل المسموعات ، وكذا بصره بكل المبصرات من غير أن يشغله شيء عن شيء . ثم أعاد طرفاً من دلائل قدرته مع تذكير بعض نعمه قائلاً { الم تر } وقد مر نظيره في » الحج « إلى قوله { الكبير } وقوله ههنا { يجري إلى أجل مسمى } وقوله في » فاطر « و » الزمر « { لأجل مسمى } [ الزمر : 5 ، فاطر : 13 ] يؤل إلى معنى واحد وإن كان الطريق مغايراً ، لأن الأول معناه انتهاؤهما إلى وقت معلوم وهو للشمس آخر السنة وللقمر آخر الشهر . وعن الحسن : هو يوم القيامة لأن جريهما لا ينقطع إلا وقتئذ .

والثاني معناه اختصاص الجري بإدراك أجل معلوم كما وصفنا . ووجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام ، أن هذه الآية صدِّرت بالتعجيب فناسب التطويل . والمشار إليه بذلك هو ما وصف من عجيب قدرته أو أراد أن الموحى من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق . قال بعضهم { العلي } إشارة إلى كونه تماماً وهو أن حصل له كما ينبغي أن يكون له . و { الكبير } إشارة إلى كونه فوق التمام وهو أنه يحصل لغيره ما يحتاج إليه . ثم أكد الآية السماوية بالآية الأرضية .
ومعنى { بنعمته } بإحسانه ورحمته أو بالريح الطيبة التي هي بأمر الله { إن في ذلك } الإجراء { لايات لكل صبار } على الضراء { شكور } في السراء . ووجه المماسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر » ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله إلا عند الشدائد ، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب ، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة . وإنما قال ههنا .
{ فمنهم مقتصد } وقد قال فيما قبل { إذا هم يشركون } [ العنكبوت : 65 ] لأنه ذكر ههنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله اثر في الخيال فيخفض شيئاً من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار ، ويلزمه أن يكون متوسطاً في الإخلاص أيضاً لا غالياً فيه ، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر . والختر أشد الغدر ومنه قولهم « لا تمد لنا شبراً من غدر إلا مددنا لك باعاً من ختر » . والختار في مقابلة الصبار لأن الختر لا يصدر إلا من عدم الصبر وقلة الاعتماد على الله في دفع المكروه . والكفور طباق الشكور . وحين بيَّن الدلائل وعظ بالتقوى وخوف من هول يوم القيامة . ومعنى { لا يجزي } لا يقضي كما مر في أول « البقرة » .
وذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى ، وفيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن ، والولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن ، فكأنه قال : لا يجزي فيه { والد عن ولده } شيئاً من الآلام { ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً } من أسباب الإهانة . قال جار الله : إنما أوردت الجملة الثانية إسمية لأجل التوكيد . وذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة وفي توسيط « هو » مزيد تأكيد . وفي لفظ { المولود } دون أن قول « ولا ولد » تأكيد آخر ، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضاً بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل : إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لمن فوقه .

وقيل : إنما أوردت الثانية إسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازياً عن والده لما عليه من الحقوق والوالد يجزي شفقة لا وجوباً { إن وعد الله } بمجيء ذلك اليوم { حق } أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد وبالعكس حق . و { الغرور } بناء مبالغة وهو الشيطان اي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها ويزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « مفاتيح الغيب خمس » وتلا قوله { إن الله عنده علم الساعة } إلى آخرها . وعن المنصور ، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالاً أخرج يده من البحر واشار إليه بالأصابع الخمس . فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة : تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه . قال في التفسير الكبير : ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو وكيف هو من أول يوم خلق العالم إلى يوم النشور ، وإنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة . كان لقائل أن يقول : متى الساعة؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مراراً وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض وخلق الأجنة في الأرحام ، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى . ثم إنه كأنه قال : أيها السائل إن لك شيئاً أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فلا تعلم { ماذا تكسب غداً } مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة؟ والسر في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت بل مكانة هو أنه ينافي التكليف كما مر في أول « طه » ، ولو علم المكلف مكان موته لأمن الموت إذا كان في غيره . والسر في إخفاء الكسب في غير الوقت الحاضر هو أن يكون المكلف ابداً مشغول السر بالله معتمداً عليه في اسباب الرزق وغيره . روي أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه . فقال الرجل : من هذا؟ قال : ملك الموت . فقال : كأنه يريدني . وسأل سليمان أن يحمله على الريح إلى بلاد الهند ففعل . ثم قال ملك الموت لسليمان : كان نظري إليه تعجباً منه لأني أمرت أن اقبض روحه بالهند وهو عندك . قال جار الله : جعل العلم لله والدراية للعبد لما في الدراية من معنى الختل والحيلة كأنه قال : إنها لا تعرف وإن أعلمت حيلها وقرئ { بآية أرض } والأفصح عدم تأنيثه .

التأويل : { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة } هي تسخير ما في السموات وما في الأرض من الأجسام العلوية والسفلية ، البسطية والمركبة . وباطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها . وتسخير ما في أرض النفوس من اضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة والتمتع بخواصها والتحرز عن آفاتها . { ثم نضطرهم } لفساد استعدادهم { تجري في البحر بنعمة الله } سلامتهم في الظاهر معلومة ، وأما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحققة لإِراءة آيات شواهد الحق ، وإذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف .


الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

القراآت : { خلقه } بفتح الام : عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وسهل : الآخرون : بالسكون على البدل من كل شيء . وعلى الأول يكون وصفاً له { أئذا } { أئنا } كما في « الرعد » { ما أخفي } بسكون الياء على أنه فعل مضارع متكلم : حمزة . الباقون : بفتحها على أنه فعل ماضٍ مجهول { لما صبروا } بكسر اللام وتخفيف الميم : حمزة وعلي ورويس . الباقون : بفتح اللام وتشديد الميم { أولم نهد } بالنون : يزيد عن يعقوب .
الوقوف : { الم } 5 كوفي { العالمين } 5 ط لأن « أم » استفهام تقريع غير عاطفة بل هي منقطعة { افتراه } ج لعطف الجملتين المختلفتين { يهتدون } 5 { العرش } ط { شفيع } 5 { تتذكرون } 5 ط { تعدون } 5 { الرحيم } ط { من طين } 5 ج لأن « ثم » لترتيب الأخبار { مهين } 5 ج لذلك { والأفئدة } ط { تشكرون } 5 { جديد } 5 { كافرون } 5 { ترجعون } 5 { عند ربهم } ط لحق القول المحذوف { موقنون } 5 { أجميعن } 5 { هذا } ج للابتداء بان مع تكرار { وذوقوا } { تعملون } 5 { لا يستكبرون } 5 { وطمعاً } ز لانقطاع النظم بتقديم المفعول { ينفقون } 5 { أعين } ج لأن { جزاء } يحتمل أن يكون مفعولاً له وأن يكون مصدراً لفعل محذوف { يعملون } 5 { فاسقاً } ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار { لا يستوون } 5 { المأوى } ز لمثل ما مر في { جزاء } { يعملون } 5 { النار } ط { تكذبون } 5 { يرجعون } 5 { عنها } ط { منتقمون } 5 { إسرائيل } 5 ج وإن اتفقت الجملتان للعدول عن ضمير المفعول الأول وهو واحد إلى ضمير الجمع في الثانية { صبروا } ط لمن شدد { يوقنون } 5 { يختلفون } 5 { مساكنهم } ط { لآيات } ط { يسمعون } 5 { وأنفسهم } ط { يبصرون } 5 { صادقين } 5 { ينظرون } 5 { منتظرون } 5 .
التفسير : لما ذكر في السورة المتقدمة دلائل الوحدانية ودلائل الحشر وهما الطرفان ، بدأ في هذه السورة ببيان الأمر الأوسط وهو الرسالة المصححة ببرهان القرآن . وإعرابه قريب من قوله { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1-2 ] وميل جار الله إلى قوله { تنزيل الكتاب } مبتدأ خبره { من رب العالمين } ولا ريب فيه اعتراض لا محل له والضمير في { فيه } راجع إلى مضمون الجملة أي لا ريب في كونه منزلاً من عنده . ويمكن أن يقال : في وجه النظم لما عرَّف ي أول السورة المتقدمة أن القرآن هدى ورحمة قال ههنا : إنه من رب العالمين ، وذلك أن من عثر على كتب سأل أولاً أنه في أي علم . فإذا قيل : إنه في الفقه أو التفسير .
سأل : إنه تصنيف اي شخص؟ ففي تخصيص رب العالمين بالمقام إشارة إلى أن كتاب رب العالمين لا بد أن يكون فيه عجائب للعالمين فترغب النفس في مطالعته . ثم اضرب عما ذكر قائلاً { أم يقولون افتراه } وهو تعجيب من قولهم لظهور أمر القرآن في تعجيز بلغائهم عن مثل سورة الكوثر .

ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك . ومعنى { لتنذر قوماً } قد مر في « القصص » ويندرج فيهم أهل الكتاب إذ يصدق عليهم أنه لم يأتهم نذير بعد ضلالهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يندرجوا لم يضرّ فإن تخصيص قوم بالذكر لا يدل على نفي من عداهم كقوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وحين بين الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد فقال { الله } مبتدأ خبره ما يتلوه وقد مر نظائره . وقوله { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع افلا تتذكرون } إثبات للولاية والشفاعة أي النصرة من عنده ونفي لهما من غيره ، وفيه تجهيل لعبدة الأصنام الزاعيمن أنها شفعاؤهم بعد اعترافهم بأن خالق الكل هو الله سبحانه . ولما بين الخلق شرع في المر فقال { يدبر الأمر } اي المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبراً من السماء إلى الرض ثم يعرج إليه ذلك العمل ي يوم طويل ، وهو كناية عن قلة الإخلاص لأنه لا يوصف بالصعود ولا يقوى على العروج إلا العمل الخالص ، يؤيد هذا التفسير قوله فيما بعد { قليلاً ما تشكرون } أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من ايام الله وهو ألف سنة ، ثم يصعد إليه مكتوباً في الصحف في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم الخ . ثم يدبر الأمر ليوم آخر مثله وهلم جراً . أو ينزل الوحي مع جبرائيل ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي . ورده مع جبرائيل ايضاً وتقدير الزمان بالف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وأن الملك يقطعها في يوم واحد من أيامنا . وقيل : إنه إشارة إلى نفوذ الأمر ، فإن نفاذ الأمر كلما كان في مدة أكثر حاله أعلى أي يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة منه ، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه؟ فلا فرق على هذا بين الف سنة وبين خمسين ألف سنة كما في « المعارج » . وقيل : إن هذه عبارة عن الشدة واستطالة أهلها إياها كالعادة في استطالة ايام الشدة والحزن واستقصار أيام الراحة والسرور . وخصت السورة بقوله { ألف سنة } موافقة لما قبله وهو قوله { في ستة أيام } وتلك الأيام من جنس هذا اليوم . وخصت سورة المعارج بقوله { خمسين ألف سنة } [ الآية : 4 ] لأن فيها ذكر القيامة وأهوالها فكان هو اللائق بها . وعن عكرمة : إن اليوم في المعارج عبارة عن أول أيام الدنيا إلى انقضائها وأنها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم كم مضى وكم بقي إلا الله عزو وجل .
وبالجملة فالآية المتقدمة تدل على عظمة عالم الخلق وسعة مكانه ، والآية الثانية تدل على عظمة عالم الأمر وامتداد زمانه .

ثم بين أنه مع غاية عظمة ملكه وملكوته عليم بأمر العالمين فقال { ذلك عالم الغيب والشهادة } وفي قوله { العزيز الرحيم } إشارة إلى صفتي القهر واللطف اللتين ينبغي أن تكونا لكل ملك ، وإنما أخر { الرحيم } مع أن رحمته سبقت غضبه ليوصله بقوله { الذي أحسن كل شيء خلقه } نظيره { الذي أعطى كل شيء خلقه } [ طه : 50 ] وقد مر في « طه » . وعطف عليه تخصيصاً بعد تعميم خلق الإنسان وهو آدم بدليل قوله { ثم جعله نسله } أي ذريته لأنها تنسل أي تنفصل ، والسلالة الخلاصة كما ذكرنا في أول « المؤمنين » ، وقوله { من ماء } بدل من سلالة والمهين الحقير . ومعنى { سوَّاه } قوَّمه وأداره في الأطوار إلى حيث صلح لنفخ الروح فيه ، ثم عدل من الغيبة إلى الخطاب في قوله { وجعل لكم } تنبيهاً على جسامة نعم هذه الجوارح وتوبيخاً على قلة الشكر عليها . ثم بين عدم شكرهم بإنكارهم المعاد بعد مشاهدة الفطرة الأولى وليست الثانية بأصعب منها . والواو للعطف على ما سبق كأنهم قالوا : إن محمداً مفتر وقالوا : الله ليس بواحد { وقالوا أئذا } يعني أنهم واسلافهم زعموا أن الحشر غير ممكن .
ومعنى { ضللنا في الأرض } غبنا فيها إما بالدفن أو بتفرق الأجزاء وتلاشيها . والعامل في { أئذا } ما يدل عليه قوله { أئنا لفي خلق جديد } وهو نبعث أو يجدد خلقنا . ثم صرح بإثبات كفرهم على الإطلاق واللقاء لقاء الجزاء الشامل لجيمع أحوال الآخرة . ثم رد عليهم قولهم بالفوت بأنه يتوفاهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح ثم يرجعون إلى حكم الله وحده . ثم بين ما يكون من حالهم عند الرجوع بقوله { ولو ترى } أنت يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب { إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } خجلاً وندامة قائلين { ربنا أبصرنا } ما كنا شاكين في وقوعه { وسمعنا } منك تصديق رسلك وجواب « لو » محذوف وهو لرأيت أمراً فظيعاً ، وجوزا أن يكون « لو » للتمني كأنه جعل لنبيه تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الذل والهوان ليشمت بهم . ثم إنه سبحانه ألزمهم وألجمهم بقوله { ولو شئنا } الآية . وفيه أنه لو ردهم إلى الدنيا لم يهتدوا لأنهم خلقوا لجهنم القهر وقد مر نظيره في آخر « هود » . ثم أكد إهانتهم بقوله { فذوقوا } وانتصب { هذا } على أنه مفعول { فذوقوا } وقوله { لقاء } مفعول { نسيت } أي ذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم وذهلتم عنه بعد وضوح الدلائل أو تركتم الفكر فيه ، ويجوز أن يكون { هذا } صفة { يومكم } ومفعول { ذوقوا } محذوف وهو العذاب و { لقاء } مفعول { نسيتم } او هو مفعول { فذوقوا } على حذف المضاف أي تبعة لقاء يومكم ويكون { نسيتم } متروك المفعول أو محذوفه وهو الفكر في العاقبة .

وقوله { إنا نسيناكم } من باب المقابلة والمراد تركهم من الرحمة نظيره { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة : 67 ] وقوله { عذاب الخلد } من باب إضافة الموصوف إلى الصفة في الظاهر نحو : رجل صدق . أمرهم على سبيل الإهانة بذوق عذاب الخزي والخجل ، ثم بذوق العذاب الخلد أعاذنا الله منه بفضله العميم ، ثم ذكر أن كما الإيمان بآيات الله من شأن الخلص من عباده الساجدين لله شكراً وتواضعاً حين وعظوا بآيات ربهم منزهين له عما لا يليق بجنابه وجلاله متلبسين بحمده غير مستكبرين عن عبادته { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } ترتفع وتتنحى عن مواضع النوم داعين ربهم أو عابدين له { خوفاً } من اليم عقابه { وطمعاً } في عظيم ثوابه ، وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وهو التهجد . قال : « إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع ينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس » عن علي رضي الله عنه :
جنبي تجافى عن الوساد ... خوفاً من النار والمعاد
من خاف من سكرة المنايا ... لم يدر ما لذة الرقاد
قد بلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد
عن أنس بن مالك : كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فنزلت فيهم . وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها .
و « ما » في قوله { ما أخفي } موصولة ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى اي شيء ، والمعنى لا تعلم نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك مما تقرّ به عيونهم حتى لا تطمح إلى غير ولا تطلب الفرح بما عداه . عن النبي صلى الله عليه وسلم « يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ماأخفى لهم من قرة أعين » وعن الحسن : أخفى القوم أعمالاً في الدنيا فأخفى الله لهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت . قال المحققون : إنه يصدر من العبد عمال صالحة وقد صدر عن الرب أشياء سابقة من الخلق والتربية وغيرهما ، وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام ، فلله تعالى أن يقول : أنا أحسنت أولاً ، والعبد أحسن في مقابلته ، فالثةواب تفضل من غير عوض . وله أن يقول : الذي فعلته أولاً تفضل فإذا أتى العبد بالعمل الصالح جزيته خيراً لأن جزاء الإحسان إحسان ، وهذا الاعتبار الثاني أليق بالكرم ليذيق العبد لذة الأجر والكسب ، والاعتبار الأول أليق بالعبودية حتى يرى الفضل لله في جانب الأبد فإذن لا تنقطع المعاملة بين الله وبين العبد أبداً ، وتكون العبادة لهم في الآخرة بمنزلة التنفس للملائكة .

يروى أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام فقال له الوليد : اسكت فإِنك صبي . فقال له علي : اسكت فإِنك فاسق . فأنزل الله تعالى فيهما خاصة وفي أمثالهما من الفريقين عامة { افمن كان مؤمناً } إلى آخر ثلاث آيات أو أربع . ومن أول الآية محمول على اللفظ وفي قوله { لا يستوون } محمول على المعنى . ثم فصل عدم استوائهما بقوله { أما الذين آمنوا } { وأما الذين فسقوا } و { جنات المأوى } نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء على قول ابن عباس . وقال بعضهم : هي عن يمين العرش . وفي لام التمليك في { لهم } مزيد تشريف وإيذان بأنهم لا يخرجون منها كما لا يخرج المالك من ملكه ولهذا لو قيل : هذه الدار لزيد يفهم منه الملكية بخلاف ما لو قيل : اسكن هذه الدار . فإنه يحمل على الإعارة وإنه تعالى قال لأبينا آدم { اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة : 35 ] لأنه كان في علمه أنه يخرج منها . وإنما قيل ههنا { عذاب النار الذي كنتم به } وفي « سبأ » { عذاب النار التي كنتم بها } [ الآية : 42 ] لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها ، والكنايات لا توصف فوصف العذاب . وفي « سبأ » لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار .
وتكذيبهم العذاب هو أنهم كانوا يقولون في الدنيا إنه لا عذاب في الآخرة ، ويحتمل أن يراد بالتكذيب أنهم يقولون في الآخرة أول ما تأخذهم النار أنه لا عذاب فوق ما نحن فيه ، فإذا زاد الله لهم ألماً على ألم وهو قوله { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } صاروا كاذبين فيما زعموا أنه لا عذاب أزيد مما هم فيه ، وعلى هذا يمكن أن يراد بالخروج منها والإعادة فيها هو أن أبدانهم تألف النار وتتعودها فيقل الإحساس بها فيعيد الله عليهم إحساسهم الأول فيزيد تألمهم ، ومن هنا قالت الحكماء : إن الإحساس بحرارة حمى الدق اقل من الإحساس بحرارة الحمى البلغمية مع أن نسبة الدق إلى الثانية نسبة النار إلى الماء المسخن ، ونظيره أن الإنسان يضع يده في الماء البارد فيتألم أولاً ، ثم إذا صبر زماناً طويلاً زال ذلك الألم وذلك لبطلان حسه . ثم حتم على نفسه أنه يذيقهم عذاب الدنيا من القتل والسر والقحط قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة . وعن مجاهد : أن الأدنى هو عذاب القبر .
وإنما ل يقل الأصغر في مقابلة الأكبر ، أو الأبعد الأقصى في مقابلة الأدنى ، لأن الغرض هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر والكبر ولا بالبعد .

ومعنى قوله { لعلهم يرجعون } والترجي على الله محال لنذيقهم إذاقة الراجين رجوعهم عن الكفر والمعاصي كقوله { إنا نسيناكم } أي تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلاً اي نذيقهم على الوجه الذي يفعل الراجي من التدرج ، أو نذيقهم إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه . قال في التفسير الكبير : إن الرجاء في أكثر الأمر يستعمل فيما لا تكون عاقبته معلومة ، فتوهم الأكثرون أنه لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى وليس كذلك ، فإن الجزم بالعاقبة إنما يحصل في حقه بدليل منفصل لا من نفس الفعل فإن التعذيب لا يلزم منه الرجوع لزوماً بيناً . قلت : هذا يرجع إلى التأويل الأول ، فإن الكلام في تعذيب الله هل هو يستدعي الرجوع على سبيل الرجاء أم لا ، وكون مطلق التعذيب مستدعياً لذلك لا يكفي للسائل . وقالت المعتزلة : لعل من الله إرادة وإرادة الله فعل المختار لا تقدح في اقتدار الله إذا لم يختر المختار مراد الله كما أنهم لم يختاروا التوبة والرجوع عن الكفر وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر . وإنما يقدم في اقتداره إذا تعلقت في إرادته بفعل نفسه أو بفعل المضطر المقسور ثم لا يوجد ذلك الفعل . وجوَّز في الكشاف أن يراد : لعلهم يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه كقوله { فارجعنا نعمل صالحاً } سميت إرادة الرجوع رجوعاً كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ثم بين أنهم إذا ذكروا بالدلائل من النعم أولاً والنقم ثانياً وهو العذاب الأدنى ثم لم يؤمنوا فلا أحد أظلم منهم .
ومعنى { ثم } أنه ذكر مرات ثم بالآخرة { أعرض عنها } والفاء في سورة الكهف تدل على الإعراض عقيب التذكير وقد سبق . وقال أهل المعاني : « ثم » ههنا تدل على أن الإعراض بعد التذكير مستبعد في العقول . قال المحققون : الذي لا يحتاج في معرفة الله إلا إلى الله عدل كقوله { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] كما قال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله . والذي يحتاج في ذلك إلى دلائل الآفاق والأنفس متوسط ، والذي يقر عند الشدة ويجحد عند الرحمة ظالم كقوله { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } [ الروم : 33 ] والذي يبقى على الجحود والإعراض وإن عذب فلا أظلم منه . وحين جعله أظلم كان ظالم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ليدل على إصابة الأظلم منهم النصيب الأوفر من الانتقام . ولو قال « إنا منهم منتقمون » لم يكن بهذه الحيثية في الإفادة . ثم عاد إلى تأكيد أصل الرسالة مع تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقال { ولقد آتينا موسى الكتاب } قال جار الله : اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان .

والضمير في { لقائه } للكتاب أي آتينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي ، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله . واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله { وإنك لتلقى القرآن } [ النمل : 6 ] وقيل : الضمير في { لقائه } لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة ، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول . والضمير في { جعلناه } للكتاب على أنه منزل على موسى .
واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل . ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من ائمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به . وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضاً سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر . ومثله إخبار النبي صلى الله عليه وسلم « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » ولا يخفى أن « من » التبعيضة في قوله { وجعلنا منهم } كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى ، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال { إن ربك هو يفصل بينهم } الاية . وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل . ثم أعاد أصل التوحيد مقروناً بالوعيد قائلاً { أولم يهد لهم } وقد مر نظيره في آخر « طه » وإنما قال في آخر الآية { إن في ذلك لآيات } على الجمع ليناسب القرون والمساكن . وإنما قل { أفلا يسمعون } لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع ، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع . وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة . ومعنى { نسوق الماء } نسوق السحاب وفيه المطر { إلى الأرض الجرز } وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل . قال جار الله : ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله { فنخرج به زرعاً } وعن ابن عباس أنها ارض اليمن ، والضمير في « به » للماء . وإنما قدم الأنعام ههنا على الأنفس لأن الزرع لا يصلح أوّله إلا للأنعام وإنما يحدث الحب في آخر أمره . شقال في « طه » { كلوا وارعوا أنعامكم } [ الآية : 54 ] لأن الأزواج من النبات أعم من الزرع وكثير منه يصلح لإِنسان في أول ظهروه مع أن الخطاب لهم فناسب أن يقدموا وإنما ختم الاية بقوله { أفلا يبصرون } تأكيداً لقوله في أول الآية { أولم يروا } ثم حكى نوع جهالة أخرى عنهم وهو استعجالهم العذاب . قال المفسرون : كان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أي ينصرنا عليهم ويفتح بيننا وبينهم أي يفصل ، فاستعجل المشركون ذلك .

ويوم الفتح يوم القيامة فحينئذ تنفتح أبواب الأمور المبهمة أو يوم بدر أو يوم فتح مكة قاله مجاهد والحسن . فإن قلت : كيف ينطلق قوله { قل يوم الفتح } الخ جواباً عن سؤالهم عن وقت الفتح؟ فالجواب أنهم سألوا ذلك على وجه التكذيب والاستهزاء فقيل لهم : لا تستهزؤا فكأنا بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم فلم تنظروا . ومن فسر يوم الفتح بيوم بدر أو بيوم فتح مكة فالمراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل وإلا فقد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وانتظار النصرة عليهم حين علم أنه لا طريق معهم إلا القتال نظيره قوله { قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } [ الطور : 31 ] .
التأويل : اللف المحبون لقربى والعارفون بتمجيدي فلا يصبرون عني ولا يستأنسون بغيري . اللام الأحباء لي مدخر لقائي فلا أبالي أقاموا على وثاقي أم قصروا في وفائي . الميم ترك أوليائي مرادهم فلذلك اخترتهم على جميع عبادي { تنزيل الكتاب } أعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب أنزله { رب العالمين } لأهل الظاهر على ظاهرهم ولأهل الباطن في باطنهم فاستناروا بنوره وتكلموا بالحق عن الحق للحق فلم يفهمه أهل الغرة والغفلة فقالوا { افتراه } . خلق سموات الرواح وارض الأشباح وما بينهما من النفس والقلب والسر في ستة أجناس هي : الجماد والمعدن والنبات والحيوان والشيطان والملك { ثم استوى على العرش } الخفي وهو لطيفه ربانية قابلة للفيض الرباني بلا واسطة { فلا تتذكرون } كيف خلقكم في أطوار مختلفة { يدبر الأمر } من سماء الروح إلى ارض النفس البدن { ثم يعرج إليه } النفس المخاطبة بخطاب { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] في يوم طلعت فيه شمس صدق الطلب ، وأشرقت الأرض بنور جذبات الحق { كان مقداره } في العروج بالجذبة كألف سنة مما تعدون من أيامكم في السير من غير جذبة كما قال صلى الله عليه وسلم « جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين » { وبدأ خلق الإنسان من طين } وخمرة بيده في أربعين صباحاً فأودع في كل صباح خاصية نوع من أنواع عالم الشهادة { ثم جعل نسله من سلالة } سلها من أجناس عالم الشهادة . { ثم سوَّاه } شخص إنسان جديد المرآة { ونفخ فيه من روحه } فصار مرآة قابلة لإراءة صفات جماله وجلاله . ثم تجلى فيها بتجلية صفة السمعية والبصرية والعالمية التي مرآتها السمع والأبصار والأفئدة { ضللنا } في أرض البشرية { يتوفاكم ملك الموت } وهو المحبة الإلهية بقبض الأرواح من صفات الإنسانية ويميتها عن محبوباتها بجذبة { ارجعي } [ الفجر : 28 ] { ناكسوا رؤسهم } بالتوجه إلى حضيض عالم الطبيعة كالأنعام بعد أن كانوا رافعي الرؤوس يوم الميثاق . { تتجافى جنوب } همتهم عن مضاجع الدارين { جنات المأوى } التي هي مأوى الأبرار تكون نزلاً للمقربين السائرين إلى الله { كنتم به تكذبون } لأنه لم يكن لكم به شعور في الدنيا لأنكم كنتم في يوم الغفلة والاشتغال بالمحسوسات { العذاب الأدنى } إذا وقعت للسالك فترة ووقفة لعجب تداخله أو لملالة وسآمة ابتلاه الله ببلاء في نفسه أو ماله أو مصيبة في أهاليه وأقربائه وأحبابه لعله ينتبه من نوم الغفلة ويدارك أيام العطلة قبل أن يذيقه العذاب الأكبر في الخذلان والهجران { فلا تك في مرية من لقائه } أي من أنه يرى الرب ببركة متابعتك حين قال : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الرؤية مخصوصة بك وبتبعتك لأمتك .

ويحتمل أن يكون الخطاب في فلاتك لموسى القلب والضمير في { لقائه } لله . وجعلنا موسى القلب هدى لبني إسرائيل صفات القلب { وجعلناهم أئمة } هم السر الخفي { إن ربك هو يفصل بينهم } الآية . لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين ، ولأنه أعلم بحالهم من غيرهم ولئلا يطلع على أحوالهم غيره لأنه خلقهم للمحبة والرحمة فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضا ، لأنه عفوّ يفيض العفو والجود فتحيا به القلوب الميتة فيسقي حدائق وصلهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها { فنخرج به زرعاً } من الواردات التي تصلح لتربية النفوس وهي الأنعام ، ومن المشاهدات التي تصلح لتغذية القلوب . ويقول المنكرون لهذه الطائفة { متى هذا الفتح } أي الفتوح التي تدعونها قل لا ينفعكم ذلك إذ لم تقتدوا بهم ولم تهتدوا بهديهم { فأعرض عنهم } أيها الطالب بالإقبال علينا وبالله التوفيق .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

القراآت : { بما يعملون خبيراً } على الغيبة والضمير للمنافقين : أبو عمرو { اللائي } بهمزة بعدها ياء : حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر . بهمزة مكسورة فقط : سهل ويعقوب ونافع غير ورش من طريق النجاري وابن مجاهد وابن عون عن قنبل { اللاي } بياء مكسورة فقط : أبو عمرو وورش من طريق النجاري ويزيد وسائر الروايات عن ابن كثير وكذلك في « المجادلة » و « الطلاق » { تظاهرون } من المظاهرة عاصم { تظاهرون } بحذف إحدى تاءي الفاعل : حمزة وعلي وخلف . مثله ولكن بإدغام التاء في الظاء : ابن عامر الباقون { تظهرون } بتشديد الظاء والهاء { بما يعملون بصيراً } على الغيبة : أبو عمرو وعباس مخير { وإذ زاغت } مدغماً : أبو عمرو وعلي وهشام وحمزة في رواية ابن سعدان وخلاد وابن عمرو { وزاغت } ممالة : نصير وحمزة في رواية خلاد ورجاء { الظنونا } و { الرسولا } و { السبيلا } في الحالين : أبو عمرو ونافع وابن عامر وعباس والخراز وأبو بكر وحماد والمفضل . وقرأ أبو عمرو غير عباس وحمزة ويعقوب بغير ألف في الحالين . الباقون : بالألف في الوقوف وبغير ألف في الوصل { لا مقام } بضم الميم : حفص الآخرون : بفتحها . { لأتوها } مقصوراً من الإتيان : أبو جعفر ونافع وابن كثير . الآخرون : بالمد من الإيتاء والإعطاء و { يساءلون } بإدغام التاء في السين من التفاعل : يعقوب الباقون { يسألون } ثلاثياً .
الوقوف : { والمنافقين } ط { حكيماً } 5 { ربك } ط { خبيراً } 5 { على الله } ط { وكيلاً } ط5 { في جوفه } ج فصلاً بين بيان الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين { أمهاتكم } ج لذلك { أبناءكم } ط { بأفواهكم } ط { السبيل } 5 { عند الله } ج للشرط مع العطف { ومواليكم } ط { أخطأتم به } لا لأن التقدير ولكن فيما تعمدت قلوبكم وكذا إن كان خب مبتدأ محذوف أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح وذلك للاستدراك { رحيماً } 5 ط { أمهاتكم } ط { معروفاً } 5 { مسطوراً } 5 { عيسى ابن مريم } ص للعطف { غليظاً } 5 { صدقهم } ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولكن التقدير : وقد أعاد { اليماً } 5 { تروها } ط { بصيراً } 5 ج لاحتمال أن يكون المراد واذكر إذ جاؤكم ولا سيما على قراءة { يعملون } على الغيبة { الظنونا } ط { شديداً } 5 { غروراً } 5 { فأرجعوا } ج لظاهر الواو وإن كانت للاستئناف { بعورة } ط بناء على أن ما بعده ابتداء إخبار من الله ، ومن وقف على { عورة } وجعل ابتداء الإخبار من هناك لم يقف { فراراً } 5 { يسيراً } 5 { الأدبار } ط { مسؤلاً } 5 { قليلاً } 5 { رحمة } ط { ولا نصيراً } 5 { إلينا } ج لاحتمال كون ما بعده استئنافاً أو حالاً { قليلاً } لا لأن ما بعده حال { عليكم } ج لعطف الجملتين المختلفتين { الموت } ج فصلاً بين تناقض الحالين { الخير } ط { أعمالهم } ط { يسيراً } 5 { لم يذهبوا } ج { أنبائكم } ط { قليلا } 5 .

التفسير : لما أمره في آخر السورة المتقدمة بانتظار الفرج والنصر أمره في أول هذه السورة بأن لا يتقي غير الله ولا يطيع سواه . قال جار الله عن زر قال : قال ابي بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاثاً وسبعين آية . قال : فوالذي يحلف به ابي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما » إلى آخره . أراد أبي بن كعب أنها من جملة ما نسخ من القرآن . وأما من يحكى أن تلك الزيادة كانت ي صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات المبتدعة . ومن تشريفات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نودي في جميع القرآن بالنبي أو الرسول دون اسمه كما جاء { يا آدم } [ البقرة : 35 ] { يا موسى } [ طه : 11 ] { يا عيسى } [ آل عمران : 55 ] { يا داود } [ ص : 26 ] وإنما جاء في الأخبار { محمد رسول الله } [ الفتح : 29 ] تعليماً للناس وتلقيناً لهم أنه رسول وجاء { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله } [ الأحزاب : 40 ] { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } [ آل عمران : 144 ] { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } [ محمد : 2 ] لأن المقام مقام تعيين وتشخيص وإزالة اشتباه مع قصد أن لايكون القرآن خالياً عن بركة اسمه العلم وحيث لم يقصد هذا المعنى ذكره بنحو ما ذكره في النداء كقوله { لقد جاءكم رسول } [ التوبة : 128 ] { النبي أولى بالمؤمنين } { لقد كان لكم في رسول الله أسوة } [ الأحزاب : 21 ] والمراد بقوله { اتق الله } واظب على ما أنت عليه من التقوى ولو أريد الازدياد جاز لأن التقوى باب لا يبلغ آخره ولا يأمن أحد أن يصدر عنه مالا يوافق التقوى ولا يطابق الدعوى ولهذا جاء { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [ الكهف : 110 ] يعني إنما يرفع عني الحجاب فينكشف لي الوحي ، وإذا أرخى لدي الستر فإني كهيئتكم . يروى أنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام يهود قريظة والنضير وغيرهم وقد تابعه ناس منهم على النفاق كان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم فنزلت . وروي أن أبا سفيان بن حرب وأشياعه قدموا المدينة أيام المصالحة فقالوا : يا رسول الله ارفض ذكر آلهتنما وندعك وربك ، فشق ذلك على المؤمنين فهموا بقتلهم فنزلت . أي اتق الله في نقض العهد . { ولا تطع الكافرين } من أهل مكة { والمنافقين } من أهل المدينة فيما طلبوا إليك وكانوا يقولون له أن يعطوه شطر أموالهم إن رجع عن دينه . { إن الله كان عليماً } بالصواب { حكيماً } فيما أمرك به من عدم اتباع آرائهم وأهوائهم ، وحين نهاه عن اتباع الغي أمره باتباع ما هو رشد وصلاح وهو القرآن ، وبأن يثق الله ويفوِّض إليه أموره فلا يخاف غيره ولا يرجو سواه ، ولما أمر رسوله بما أمر من اتقاء الله وحده وقد ابتدر منه صلى الله عليه وسلم في حكاية زينب زوجة دعيه زيد ما ابتدر قال على سبيل المثل { ما جعل الله لرجل من قلبين } كأنه قال : يا أيها النبي اتق الله حق تقاته وهو أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره كما جاء في قصة زيد { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } ث اراد ان يدفع عنه مقالة الناس بأنه تعالى لم يجعل دعي المرء ابنه فقدم على ذلك مقدمة وهي قوله { وما جعل أزواجكم } إلى آخرها أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم : أنت عليّ كظهر أمي لا تصير أماً بإجماع الكل ، أما في الإسلام فإنه ظهار لا يحرم الوطء كما سيجيء في سورة المجادلة .

وأما ي الجاهلية فلأنه كان طلاقاً حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها ثانياً . فكذلك قول القائل للدعيّ إنه ابني لا يوجب كونه ابناً فلا تصير زوجته زوجة الابن ، فلم يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئاً ، فلم يكن لخوفك من الناس وجه ولو كان أمراً مخوفاً ما كان يجوز أن تخاف غير الله إذ ليس لك قلبان في الجوف . والفائدة في ذكر هذا القيد كالفائدة في قوله { القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46 ] من زيادة التصوير للتأكيد . ومعنى ظَاهَرَ من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي . كأنه قال : تباعدي مني بجهة الظهار . وعدى ب « من » لتضمين معنى التباعد . وإنما كنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي يقارب الفرج فكنوا عنه بالظهر الذي يلازمه لأنه عموده وبه قوامه . وقيل : إن إتيان المرأة في قبلها من جانب الظهر كان محذوراً عندهم زعماً منهم بأن الولد حينئذ يجيء أحول ، فلقصد التغليظ شبهها المطلق منهم بالظهر ، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمه . والدعي « فعيل » بمعنى « مفعول » وهو المدعو ولد اشبه بفعيل الذي هو بمعنى « فاعل » كتقي وأتقياء فجمع على « أفعلاء » .
واعلم أن زيد بن حارثة كان رجلاً من قبيلة كلب سبي صغيراً فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وكانوا يقولون زيد بن محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقوله { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } [ الأحزاب : 40 ] وقيل : كان أبو معمر رجلاً من أحفظ العرب وكان يقال له ذو القلبين . وقيل : هو جميل الفهري كان يقول : إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، فأكذب الله قولهما وضربه مثلاً في الظهار والتبني .

وقيل : سها في صلاته فقالت اليهود وأهل النفاق : لمحمد قلبان ، قلب مع اصحابه وقلب معكم . وعن الحسن : نزلت فيمن يقول : نفس تأمرني ونفس تنهاني ومعنى التنكير في { رجل } وزيادة من الأستغراقية التأكيد كأنه قيل : ما جعل الله لنوع الرجال ولا لواحد منهم قلبين ألبتة { ذلكم } النسب { قولكم بأفواهكم } إذ ا أصل شرعاً لقول القائل : هذا ابني : وذلك إذ كان معروف النسب حراً ، أما إذا كان مجهول النسب فإن كان حراً ثبت نسبه من المتنبي ظاهراً إن أمكن ذلك بحسب السن ، وإن كان عبداً له عتق وثبت النسب . وإن كان العبد معروف النسب عتق ولم يثبت النسب . ثم بين كا هو الحق والهدى عند الله فقال { ادعوهم لآبائهم } اي انسبوهم إليهم { فإن لم تعلموا آباءهم } فهم إخوانكم في الدين ومواليكم فقولوا : هذا أخي أو مولاي يعني الولاية في الدين . ثم رفع الجناح إذا صدر القول المذكور خطأ على سبيل سبق اللسان وكذا ما فعلوه من ذلك قبل ورود النهي . ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ على طريق العموم فيتناول لعمومه خطأ النبي وعمده { وكان الله غفوراً } للخاطئ { رحيماً } للعامل ولا سيما إذا تاب . ثم إنه كان لقائل أن يقول : هب أن الدعي لا يسمى ابناً ، أما إذا كان لدعيه شيء حسن فكيف يليق بالمروءة أن تطمح عينه إليه وخاصة إذا كان زوجته فلذلك قال في جوابه { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } والمعقول فيه أنه راس الناس ورئيسهم فدفع حاجته والاعتناء بشأنه أهم كما أن رعاية العضو الرئيس وحفظ صحته وإزالة مرضه أولى وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » ويعلم من إطلاق الآية أنه أولى بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدنيا والدين . وقيل : إن أولى بمعنى ارأف وأعطف كقوله صلى الله عليه وسلم « ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن هلك وترك مالا فلترثه عصبته من كانوا وان ترك ديناً أو ضياعاً أي عيالاً فإليَّ » وكما رفع قدره بتحليل أزواج غيره له إذا تعلق قلبه باحداهن رفع شأنه بتحريم أزواجه على أمته ولو بعد وفاته فقال { وأزواجه أمهاتهم } أي في هذا الحكم فإنهن فيما وراء ذلك كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن . ومن كمال عناية الله سبحانه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لم يقل وهو أب لهم وإن جاءت هذه الزيادة في قراءة ابن مسعود وإلا حرم زوجات المؤمنين عليه أبداً ، إلا أن يراد الأبوة والشفقة في الدين كما قال مجاهد : كل نبي فهو أبو أمته . ولذلك صار المؤمنون أخوة .

قال النفسرون : كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة فنسخه الله بقوله { وأولوا الأرحام } الآية . وجعل التوارث بحق القرابة ومعنى { في كتاب الله } في اللوح أو في القرآن وهو هذه الآية وآية المواريث وقد سبق نظيره في آخر « الأنفال » . وقوله { من المؤمنين } إما أن يتعلق ب { ألوا الأرحام } أي القارب من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب ، وإما أن يتعلق ب { أولى } أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية الدينية ومن المهاجرين بحق الهجرة . ثم أشار إلى الوصية بقوله { إلا أن تفعلوا } أي إلا أن يسدوا ويوصلوا إلى أوليائهم في الدين وهم المؤمنون والمهاجرون معروفاً براً بطريق التوصية . والحاصل أن القارب أحق من الأجانب في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية فإنه لا وصية لوارث . قال أهل النظم : كأنه سبحانه قال : بينكم هذا التوارث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فلذلك جعلنا له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم ، أو لعله أراد دليلاً على قوله { أولى بالمؤمنين } فذكر أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، ثم لو اراد أحد براً مع صديقه صار ذلك الصديق أولى من قريبه كأنه بالوصية قطع الإرث وقال : هذا مالي لا ينتقل مني إلا إلى من أريده ، فالله تعالى كذلك جعل لصديقه من الدنيا ما أراده . ثم ما يفضل منه يكون لغيره { كان ذلك } الذي ذكر في الايتين { في الكتاب } وهو القرآن أو اللوح { مسطوراً } والجملة مستأنفة كالخاتمة للأحكام المذكورة .
ثم أكد الأمر بالاتقاء بقوله { وإذ أخذنا } اي اذكر وقت أخذنا في الأزل { من النبيين ميثاقهم } بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القويم من غير تفريط وتوانٍ . وقد خصص بالذكر خمسة لفضلهم وقدم نبينا صلى الله عليه وسلم لأفضليته . وإنما قدم نوحاً في قوله { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك } [ الشورى : 13 ] لأن المقصود هنالك وصف دين الإسلام بالأصالة والاستفامة فكأنه قال : شرع لكم من الدين الأصلي الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، ومحمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير . وإنما نسب الدين القديم إلى نوح لا إلى آدم لأن نوحاً كان أصلاً ثانيا للناس بعد الطوفان ، وخلق آدم كان كالعمارة ونبوته كانت إرشاداً للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب كما في زمن نوح والله أعلم . قال أهل البيان : اراد بالميثاق الغليظ ذلك الميثاق بعينه أي وأخذنا منهم بذلك المياق ميثاقاً غليظاً أي عظيماً وهو مستعار من وصف الأجرام . وقال آخرون : هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال

{ ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولاً وأمره بشيء وقبله كان ميثاقاً فإذا أعلمه بأنه يسال عن حاله في أفعاله وأقواله يكون تغليظاً في الميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة ، وعلى هذا يحق أن يقال : قوله في سورة النساء { وأخذت منكم ميثاقاً غليظاً } [ الآية : 21 ] هو الإخبار بأنهم مسؤولون عنهن كما قال صلى الله عليه وسلم « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » ثم بين الغاية من إرسال الرسل فقال { ليسأل الصادقين عن صدقهم } الآية . وفيه أن عاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب والكاذب معاقب كما قال علي رضي الله عنه : حلالها حساب وحرامها عقاب . فالصادقون على هذا التفسير هم الذين صدقوا عهدهم يوم الميثاق حين قالوا { بلى } في جواب { الست بربكم } [ الأعراف : 172 ] ثم أقاموا على ذلك في عالم الشهادة ، أو هم المصدقون للأنبياء فإن من قال للصادق صدقت كان صادقاً . ووجه آخر وهو أن يراد بهم الأنبياء فيكون كقوله { ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وكقوله { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ] وفائدة مسألة الرسل تبكيت الكافرين كما مر . قال جار الله : قوله { وأعد } معطوف على أخذنا كأنه قال : أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد أو على ما دل ليسأل كأنه قيل : فأثاب للمؤمنين وأعد للكافرين . وفيه وجه آخر عرفته في الوقوف . ثم أكد الأمر بالتقاء من الله وحده مرة أخرى فقال { يا أيها الذين آمنوا اذكروا } الآية . وذلك أن في وقعة الأحزاب اشتد الأمر على الأصحاب لاجتماع المشركين بأسرهم واليهود بأجمعهم ، فأمنهم الله وهزم عدوهم فينبغي أن لا يخاف العبد غير الله القدير البصير . وذكروا في القصة أن قيرشاً كانت قد أقبلت في عشرة آلاف من أحزاب بني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان وقد خرج غطفان في ألف ومن تابعهم من نجد وقائدهم عيينة بن حصن معامر بن الطفيل في هوازن وضامتهم اليهود من قريظة والنضير . وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة أشار عليه بذلك سلمان الفارسي ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالنساء أن يرفعوا في الآطام واشتد الخوف وظن المسلمون كل ظن ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط . ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر ، وذلك بأن ارسل على أولئك الجنود المتحزبة ريح الصبا في ليلة باردة شاتية فسفت التراب في وجوههم { و } أرسل { جنوداً لم تروها } وهم الملائكة وكانوا ألفاً فقلعوا الأوتاد وقطعوا الأطناب وأطفأوا النيران وأكفأوا القدور وتفرقت الخيول وكثرت الملائكة في جوانب عسكرهم وقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا .

ومعنى { من فوقكم } من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم بنو غطفان { ومن اسفل منكم } من اسفل الوادي من قبل المغرب وهم قريش تحزبوا وقالوا : سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمداً . ومعنى زيغ الأبصار ميلها عن سننها واستوائها حيرة ، أو عدولها عن كل شيء إلا عن العدو فزعاً وروعاً . والحنجرة منتهى الحلقوم ، وبلوغ القلوب الحناجر إما أن يكون مثلاً لاضطراب القلوب وقلقها وإن لم تبلغها في الحقيقة ، وإما أن يكون حقيقة لأن القلب عند الخوف يجتمع فيتقلص ويلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى ان يسد مخرج النفس فيموت وإنما جمع الظنون مع أن الظن مصدر لأن المراد أنواع مختلفة ، فظن المؤمنون الابتلاء والفتنة فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وظن المنافقون وضعاف اليقين الذين في قلوبهم مرض وهم على حرف ما حكى الله عنهم وهو قوله { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } كما حكينا عن معتب . ومن فوائد جمع الظن أن يعلم قطعا أن فيهم من أخطأ الظن فإن الظنون المختلفة لا تكون كلها صادقة . فأما أن تكون كلها كاذبة أو بعضها فقط والمقام مقام تقرير نتائج الخوف .
{ وإذ قالت طائفة منهم } كعبد الله بن ابي وأصحابه ويثرب اسم المدينة أو ارض وقعت المدينة في ناحية منها { لا مقام لكم } أي لاقرار لكم ولا مكان ههنا تقومون أو تقيمون فيه على القراءتين ، فارجعوا إلى المدينة واهربوا من عسكر رسول الله ، أو ارجعوا كفاراً واتركوا دين محمد وإلا فليست لكم يثرب بمكان ، ثم إن السامعين عزموا على الرجوع فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي ذات خلل لا يأمن أصحابها بها السراق على متاعهم ، أو أنها معرضة للعدو فأكذبهم الله تعالى بقوله { وما هي بعورة } ثم أظهر ما تكن صدورهم فقال { إن يريدون إلا فراراً } ثم بين مصداق بقوله { ولو دخلت } اي المدينة عليهم من أقطارها أو دخلت عليهم بيوتهم من جوانبها وأكنافها { ثم سئلوا الفتنة } أي الارتداد والرجوع إلى الكفر وقتال المسلمين { لآتوها } والحاصل أنهم يتعللون بأعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو دخلت عليهم هؤلاء العساكر المتحزبة التي يفرون منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها لأجل النهب والسبي ثم عرض عليهم الكفر ويقال لهم كونوا على المسلمين لتسارعوا غليه وما تعللوا بشيء . ويمكن أن يراد أن ذلك الفرار والرجوع ليس لأجل حفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله كمن يبذل المال كيلا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله ، فأكذبهم الله تعالى بأن الأحزاب لو دخلت بيوتهم وأخذوها منهم لرجعوا عن نصرة المسلمين فتبين أن رجوعهم عنك ليس إلا لكفرهم ومقتهم الإسلام .

والضمير في قوله { وما تلبثوا بها إلا يسيراً } يرجع إلى الفتنة أي لم يلبثوا بإتيان الفتنة أو بإعطائها إلا زماناً يسيراً ريثما يكون السؤال والجواب أو لم يقيموها إلا قليلاً ثم تزول وتكون العاقبة للمتقين . ويحتمل عود الضمير إلى المدينة أي وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا قليلاً فإِن الله يهلكهم . قوله { ولقد كانوا } الآية . عن ابن عباس : عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم . وقيل : هم قوم غابوا عن بدر فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن . وعن محمد بن اسحق : عاهدوا يوم أحد أن لا يفروا بعد أن نزل فيهم ما نزل . ثم ذكر أن عهد الله مسؤول عنه وأن ما قضى الله وقدر من الموت حتف الأنف أو من القتل فهو كائن والفرار منه غير نافع ، ولئن فرض أن الفرار منه فتمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع في مراتع الدنيا إلا زماناً قليلاً . عن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب . ثم أكد التقرير المذكور بقوله { قل من ذا الذي يعصمكم } الاية . قال جار الله : لا عصمة إلا من السوء فتقدير الكلام : من يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو من يصيبكم بسوء إن اراد بكم رحمة فاختصر الكلام كقوله متقلجاً سيفاً ورمحاً . اي ومعتقلاً رمحاً . أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع . والمعوقون الذين يمنعون الناس من نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون واليهود { هلم إلينا } معناه قربوا أنفسكم إلينا وقد مر في « الأنعام » في قوله { قل هلم شهداءكم } [ الآية : 150 ] وقوله { ولا يأتون } معطوف على { القائلين } لأنه في معنى الذين يقولون . وقوله { إلا قليلاً } أي إلا إتياناً قليلاً كقوله { ما قاتلوا إلا قليلاً } لقلة الرغبة . وعوز الجد والأشحة جمع شحيح قيل : معناه أضناء بكم أي يظهرون الإشفاق على المسلمين قبل شدة القتال ، فإذا جاء البأس ارتعدت فرائصهم وتدور أعينهم كدوران عين من يغشى عليه من سكرات الموت . وقيل : أراد أنهم يبخلون بأموالهم وأنفسهم فلا يبذلونهما في سبيل الله { فإذا ذهب الخوف } وجمعت الغنائم { سلقوكم } أي بسطوا إليكم ألسنتهم قائلين وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبنا نصرتم وبمكاننا غلبتم عدوكم ، فهم عند البأس أجبن قوم وأخذلهم للحق ، وأما عند حيازة الغنيمة فأشحهم وأوقعهم والحداد جمع حديد ، وكرر اشحة لأن الأول مطلق والثاني مقيد بالخير وهو المال والثواب أو الدين أو الكلام الجميل . { أولئك } المنافقون { لم يؤمنوا } حقيقة وإن آمنوا في الظاهر { فأحبط الله أعمالهم } التي لها صورة الصلاح بأن أعلم المسلمين أحوال باطنهم { وكان ذلك } الذي ذكر من أعمال أهل النفاق { يسيراً } على الله لا وزن لها عنده أو وكان ذلك الإحباط عليه سهلاً .

قال في الكشاف : لأن أعمالهم حقيقة بالإحباط تدعو إليه الدواعي ولا يصرف عنه صارف . ويمكن أن يقال : إعدام الجواهر هين على الله فإعدام الإعراض ولا سيما بمعنى عدم اعتبار نتائجها أولى بأن يكون هيناً . ثم قرر طرفاً آخر من جبنهم وهو أنهم { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } وقد ذهبوا فانصرف المنافقون إلى المدينة منهزمين بناء على هذا الحسبان . ومن جملة جبنهم وضعف احتمالهم أنه { أن يأت الأحزاب } كرة ثانية تمنوا { أنهم بادون } أي خارجون إلى اليد وحاصلون فيما بين الأعراب حذراً من عيان القتال فيكون حالهم إذ ذاك أنهم { يسألون عن أنبائكم } قانعين من العيان بالأثر ومن الحضور بالخبر { ولو كانوا فيكم } ولم ينصرفوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا { إلا قليلاً } إبداء للعذر على سبيل الرياء والضرورة .
التأويل : { اتق الله } من التكوين وكان عليه السلام متقياً من الأزل إلى الأبد ، وكذا الكلام فيما يتلوه من النواهي والأوامر { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } لأن القلب صدف درة المحبة ومحبة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا والهوى وغيرهما ، فالقلب واحد كما أن المحبة واحدة والمحبوب واحد { وما جعل أزواجكم أمهاتكم } و { وأدعياءكم أبناءكم } فيه أن الحقائق لا تنقلب لا عقلاً ولا طبعاً ولا شرعاً { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } من معرفة الأنساب فإن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه النسب الباقي كما قال « كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي » فحسبه الفقر ونسبه النبوة { ولكن ما تعمدت قلوبكم } بقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } لأنهم لا يقتدرون على توليد أنسهم في النشأة الثانية كما لم يقدروا على توليد أنفسهم في النشأة الأولى ، وكان أبوهم أحق بهم من أنفسهم في توليدهم من صلبه وأزواجه وهن قلوبهم أمهاتهم لأنه يتصرف في قلوبهم تصرف الذكور في الإناث بشرط كمال التسليم ليقع من صلب النبوة نطفة الولاية في ارحام القلوب ، وإذا حملوا النطفة صانوها عن الآفات لئلا تسقط بأدنى رائحة من روائح حب الدنيا وشهواتها فيرتدوا على أعقابهم . وبعد النبي صلى الله عليه وسلم سائر أقارب الدين بعضهم أولى ببعض لأجل التربية ومن المؤمنين بالنشأة الأخرى والمهاجرين عن أوطان البشرية إلا إذا تزكت النفس بالأخلاق الحميدة وصارت من الأولياء بعد أن كانت من الأعداء فيعمل معها معروفاً برفق من الإزهاق { وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم } في الأزل { ومنك } يا محمد أولاً بالحبيبية { ومن نوح } بالدعوة ومن إبراهيم بالخلة ومن موسى بالمكالمة ومن عيسى بن مريم بالعبدية ، وغلطنا الميثاق بالتأييد والتوثيق { ليسأل الصادقين } سؤال تشريف لا سؤال تعنيف .

والصدق أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ، ولا في اعتقادك ريب ، ومن أمارته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب ، وسلامة القول من المعاريض ، والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس ، وإدامة التبري من الحول والقوة ، بل الخروج من الوجود الحقيقي { إذ جاءتكم جنود } الشياطين وصفات النفس الدنيا وزينتها { من فوقكم } وهي الآفات السماوية { ومن أسفل منكم } وهي المتولدات البشرية . أو { من فوقكم } وهي الدواعي النفسانية في الدماغ ، { ومن أسفل منكم } هي الدواعي الشهوانية { فأرسلنا عليهم ريحاً } من نكبات قهرنا { وجنوداً لم تروها } من حفظنا وعصمتنا { وعاهدوا الله من قبل } الشروع في الطلب أنهم لا يولون أدبارهم عند الجهاد مع الشيطان والنفس لإخوانهم وهم الحواس والجوارح كونوا أتباعاً لنا والله أعلم .


لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

القراآت : { أسوة } بضم الهمزة حيث كان : عاصم وعباس . الآخرون : بكسرها { نضعف } بالنون وكسر العين { العذاب } بالنصب : ابن كثير وابن عامر ، وقرأ أبو عمرو ويزيد ويعقوب بالياء المضمومة والعين مفتوح وبرفع العذاب . الآخرون : مثله ولكن بالألف من المضاعفة { ويعمل صالحا يؤتها } على التذكير والغيبة : حمزة وعلي وخلف وافق المفضل في { ويعمل } الباقون : بتأنيث الأول وبالنون في الثاني . { وقرن } بفتح القاف : أبو جعفر ونافع وعاصم غير هبيرة . الباقون : بكسرها . { ولا تبرجن } { أن تبدل } بتشديد التاءين : البزي وابن فليح أن يكون على التذكير : عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام . { وخاتم } بفتح التاء بمعنى الطابع : عاصم . الباقون : بكسرها .
الوقوف : { كثيراً } 5 لإبتداء القصة { الأحزاب } لا لأن { قالوا } جواب « لما » { رسوله } الثاني ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه { وتسليما } ط { عليه } ج لابتداء التفصيل مع الفاء { ينتظر } لا لاحتمال الحال وجانب الابتداء بالنفي أرجح { تبديلا } 5 لا إلا عند ابي حاتم { عليهم } ط { رحيما } 5 لا للآية لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً { شجرها } ط { مع الله } ط { يعدلون } 5 { حاجزاً } ط { مع الله } ط { لا يعلمون } 5 ط { خلفاء الأرض } 5 ط { مع الله } ط { ما تذكرون } 5 ط { رحمته } ط { مع الله } ط { يشركون } ط { والأرض } ط { مع الله } ط { صادقين } 5 { الا الله } ط { يبعثون } 5 { عمون } 5 .
التفسير : القصة الرابعة قصة ثمود ، والفريقان المؤمن والكافر . وقيل : صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد . والاختصام قول كل فريق الحق معي ، وفيه دليل على أن الجدال في باب الدين حق . ومعنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة أنه تعالى قد مكنهم من التوصل إلى رحمة الله وثوابه فعدلوا إلى استعجال عذاب . وقال جار اله : خاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وذلك أنهم قدروا في أنفسهم إن التوبة مقبولة عند رؤية العذاب فقالوا : متى وقعت العقوبة تبنا حينئذ ، فالسيئة العقوبة ، والحسنة التوبة ، و « لولا » للتحضيض أي هلا تستغفرون قبل عيان عذابه { لعلكم ترحمون } بأن يكشف العذاب عنكم . والحاصل أن التوبة يجب أن تقدم على رؤية العذاب ولا يجوز أن تؤخر ، وفيه تنبيه على خطئهم وتجهيل لهم { قالوا أطيرنا } اي تشاء منا { بك بومن معك } وكانوا قد قحطوا { قال طائركم } أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم { عند الله } وهو قضاؤه وقدره أو أراد عملكم مكتوب عنده ومنه ينزل بكم العذاب . ومعنى التطير والطائر قد مر في « الأعراف » وفي « سبحان » . ثم جزم بنزول العذاب بقوله { بل أنتم قوم تفتنون } أي تعذبون أو تختبرون أو يفتنكم الشيطان بوسوسة الطيرة . ثم حكى سوء معاملتكم مع نبيهم بقوله { وكان في المدينة } يعنى منزلهم المسمى بالحجر وكان بين المدنية والشام { تسعة رهط } لم يجمع المميز لأن الرهط في معنى الجمع وهو من الثلاثة إلى العشرة ، أو من السبعة إلى العشرة .

وقد عدّ في الكشاف أسماءهم منهم قدار بن سالف عاقر الناقة ، وكانوا مفسدين لا يخلطون الإفساد بشيء من الإصلاح ومن جملة { وتسليماً } لقضائه . وقيل : هذا إشارة إلى ما أيقنوا من أن عند الفزع الشديد يكون النصر والجنة كما قال { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا } [ البقرة : 214 ] إلى آخره . كان رجال من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حرباً ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستشهدوا ، فمدحهم الله تعالى بأنهم صدقوا ما عاهدوا أي صدقوا الله فيما عاهدوه عليه . ويجوز أن يجعل المعاهدة عليه مصدوقاً على المجاز كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي بك فإذا وفوا به صدقوه { فمنهم من قضى نحبه } أي نذره فقاتل حتى قتل كحمزة ومصعب ، وقد يقع قضاء النحب عبارة عن الموت لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته . { ومنهم من ينتظر } الشهادة كعثمان وطلحة { وما بدلوا تبديلاً } ما غير كل من الفريقين عهده . وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلب فكأنه قال : صدق المؤمنون ونكث المنافقون ، فكان عاقبة الصادقين الجزاء بالخير بواسطة صدقهم ، وعاقبة أصحاب النفاق التعذيب إن شاء الله إلا أن يتوبوا . وإنما استثنى لأنه آمن منهم بعد ذلك ناس وإلى هذا أشار بقوله { إن الله كان غفوراً رحيماً } حيث رحمهم ورزقهم الإيمان ، ويجوز أن يراد يعذب المنافقين مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم لو كان دون ذلك لغفر لهم { وردّ الله الذين كفروا } وهم الأحزاب ملتبسين { بغيظهم لم ينالوا خيراً } أي غير ظافرين بشيء من مطالبهم التي هي عندهم خير من كسر أو أسر أو غنيمة . { وكفى الله المؤمنين القتال } بواسطة ريح الصبا وبإرسال الملائكة كما قصصنا { وأنزل الذين } ظارهوا الأحزاب { من أهل الكتاب من صياصيهم } والصيصية ما تحصن به ومنه يقال لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك التي في ساقه صيصية لأن كلاً منها سبب التحصن به . « روي أن جبرائيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزواب على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال : ما هذا يا جبرائيل؟ فقال : من متابعة قريش : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عائد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا ، وإنهم لكم طعمة . فأذن في الناس ان من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة ، فما صلى كثير من الناس العصر إلا هناك بعد العشاء الآخرة فحصارهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنزلون على حكمي . فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة ارقعة ثم أنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً فقدمهم وضرب أعناقهم وهم ثمانمائة إلى تسعمائة »

وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير . وإنما قدم مفعول { تقتلون } لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين ، وكان الاعتناء بحالهم أشد ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل بقاؤهم هناك بالأسر أشد لأنه لو قال و « فريقا تاسرون » فإذا سمع السامع قوله « وفريقاً » ربما ظن أنه يقال بعده يطلقون أو لا يقدرون على اسرهم ولمثل هذا قدم قوله { وأنزل } على قوله { وقذف } وإن كان قذف الرعب قبل الإنزال وذلك أن الاهتمام والفرح بذكر الإنزال أكثر .
{ وأورثكم ارضهم } التي استوليتم عليها ونزلتم فيها أولاً { وديارهم } التي كانت في القلاع فسلموها إليكم { وأموالهم } التي كانت في تلك الديار { وأرضا لم تطؤها } قيل : هي القلاع أنفسها . وعن مقاتل : هي خيبر . وعن قتادة : كنا نحدّث أنها مكة . وعن الحسن : فارس والروم . وعن عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة . وعن بعضهم : أراد نساؤهم وهو غريب . ثم أكد الوعد بفتح البلاد بقوله { وكان الله على كل شيء قديراً } قال أهل النظم : إن مكارم الأخلاق ترجع أصولها إلى أمرين : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإليها الإشارة بقوله عليه السلام « الصلاة وما ملكت أيمانكم » ولما أرشد نبيه إلى القسم الأول بقوله { اتقِ الله } أرشده إلى القسم الآخر وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدّمهنّ في النفقة . لنبن تفسير الآية على مسائل منها : أن التخيير هل كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فنقول : التخيير قولاً كان واجباً بالاتفاق لأنه إبلاغ الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا . ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يعتبر اختيارها فراقاً؟ والظاهر أنه لا يعتبر فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله { فتعالين } وعلى هذا التقرير فهل كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق أم لا؟ الظاهر الوجوب ، لأن خلف الوعد منه غير جائز بخلاف الحال فينا فإِنه لا يلزمنا الوفاء بالوعد شرعاً . ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره الظاهر نعم ليكون التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا .

ومنها أن المختارة لله ورسله هل يحرم طلاقها؟ الظاهر نعم بمعنى أنه لو أتى بالطلاق لعوتب . وفي تقديم اختيار الدنيا إشارة إلى أنه كان لا يلتفت إليهن كما ينبغي اشتغالاً بعبادة ربه . وكيفية المتعة وكميتها ذكرناهما في سورة البقرة . والسراح الجميل كقوله { أو تسريح بإحسان } [ الآية : 229 ] وفي ذكر الله والدار الآخرة مع ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قوله { للمحسنات } إشارات إلى أن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم سبب مرضاة الله وواسطة حيازة سعادات الآخرة ، وأنه يوجب وصفهن بالإحسان . والمراد بالأجر العظيم كبره بالذات وحسنه بالصفات ودوامه بحسب الأوقات ، فان العظيم لا يطلق إلا على الجسم الطويل العريض العميق الذاهب في الجهات في الامتدادات الثلاثة ، وأجر الدنيا في ذاته قليل ، وفي صفاته غير خال عن جهات القبح كما في قوله من الضرر والثقل ، وكذلك في مشروبه وغيرهما من اللذات ومع ذلك فهو منغص بالانقطاع والزوال . ويروى أنه حين نزلت الآية بدأ بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اختار جميعهن اختيارها فشكر ذلك لهنّ الله فأنزل { لا يحل لك النساء من بعد } [ الأحزاب : 52 ] وروى أنه قال لعائشة إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت : أفي هذا استأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم قالت : لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال : إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً أما حكم التخيير في الطلاق فإِذا قال لها : اختاري . فقالت : اخترت نفسي . أو قال : اختاري نفسك فقالت : اخترت : لا بد من ذكر النفس في أحد الجانبين . وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان في المجلس أو لم يشتغل بما يدل على الإعراض . واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود . وعن الحسن وقتادة والزهري : أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره . وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بالاتفاق لأن عائشة اختارت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعد ذلك طلاقاً وعن علي رضي الله عنه مثله في رواية ، وفي أخرى أنه عد ذلك واحدة رجعية إذا اختارته ، وإذا اختارت نفسها فواحدة بائنة . وحين خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهدّدهن على الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته ، وأوعدهن بتخفيف العذاب لأن الزنا في نفسه قبيح ومن زوجة النبي أقبح ازدراء بمنصبه ، ولأنها تكون قد اختارت حينئذ غير النبي فلا يكون النبي عندها أولى من الغير ولا من نفسها ، وفيه إشارة غلى شرفهن فإن الحرة لشرفها كان عذابها ضعف عذاب الأمة .

وأيضاً نسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادة إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم ، فكذلك زوجاته اللواتي هن أمهات المؤمنين .
وليس في قوله { من يأت } دلالة على أن الإتيان بالفاحشة منهن ممكن الوقوع فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء من الفاحشة ولكنه في قوة قوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] { ولئن اتبعت أهواءهم } [ البقرة : 120 ] وقوله { منكن } للبيان لا للتبعيض لدخول الكل تحت الإرادة . وقيل : الفاحشة أريد بها كل الكبائر . وقيل : هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن وطلبهن منه ما يشق عليه . وفي قوله { وكان ذلك على الله يسيراً } إشارة إلى أن كونهن نساء النبي لا يغني عنهن شيئاً ، كيف وإنه سبب مضاعفة العذاب؟ وحين بين مضاعفة عقابهن ذكر زيادة ثوابهن في مقابلة ذلك . والقنوت الطاعة ، ووصف الرزق بالكرم لأن رزق الدنيا لا يأتي بنفسه في العادة وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار ، ورزق الآخرة بخلاف ذلك . ثم صرح بفضيلة نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء كقولك : ليس فلان كآحاد الناس أي ليس فيه مجرد كونه إنساناً بل فيه وصف أخص يوجد فيه ولا يوجد في أكثرهم كالعلم أو العقل أو النسب أو الحسب . قال جار الله : أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث . والواحد وما وراءه . والمعنى ، إذا استقريت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن من جماعة واحدة تساويكن في الفضل . وقوله { إن اتقيتن } احتمل أن يتعلق بما قبله وهو ظاهر ، واحتمل أن يتعلق بما بعده أي ان كنتن متقيات فلا تجبن بقولكن خاضعاً ليناً مثل كلام المريبات { فيطمع الذي في قلبه مرض } أي ريبة وفجور . وحين منعهن من الفاحشة ومن مقدماتها ومما يجرّ إليها أشار إلى أن ذلك ليس أمراً بالإِيذاء والتكبر على الناس بل القول المعروف عند الحاجة هو المأمور به لا غير . ثم أمرهن بلزوم بيوتهن بقوله { وقرن } بفتح القاف أمر من القرار بإسقاط أحد حرفي التضعيف كقوله { فظلتم تفكهون } [ الواقعة : 65 ] واصله « إقررن » . من قرأ بكسرها فهو أمر من قر يقر قراراً أو من قر يقر بكسر القاف .
وقيل : المفتوح من قولك قار يقار إذا اجتمع . والتبرج إظهار الزينة كما مر في قوله { غير متبرجات بزينة } [ النور : 60 ] وذلك في سورة النور . والجاهلية الأولى هي القديمة التي كانت في أول زمن إبراهيم عليه السلام ، أو ما بين آدم ونوح ، أو بين إدريس ونوح ، أو في زمن داود وسليمان . والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : الأولى جاهلية الكفر ، والأخرى الفسق والابتداع في الإسلام . وقيل : إن هذه أولى ليست لها أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة ، وكانت المرأة تلبس درعاً من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال . ثم امرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة ثم عاماً في جميع الطاعات ، ثم علل جميع ذلك بقوله { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } فاستعار للذنوب الرجس ، وللتقوى الطهر . وإنما أكد إزالة الرجس بالتطهير لأن الرجس قد يزول ولم يطهر المحل بعد و { أهل البيت } نصب على النداء أو على المدح وقد مر في آية المباهلة أنهم أهل العباء النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أصل ، وفاطمة رضي الله عنهما والحسن والحسين رضي الله عنهما بالاتفاق . والصحيح أن علياً رضي الله عنه منهم لمعاشرته بنت النبي صلى الله عليه وسلم ملازمته إياه . وورود الآية في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يغلب على الظن دخولهن فيهن ، والتذكير للتغليب . فإن الرجال وهم النبي وعلي وأبناؤهم غلبوا على فاطمة وحدها أو مع أمهات المؤمنين . ثم أكد التكاليف المذكورة بأن بيوتهن مهابط الوحي ومنازل الحكم والشرائع الصادرة من مشرع النبوة ومعدن الرسالة . ثم ختم الآية بقوله { إن الله كان لطيفا خبيراً } إيذاناً بأن تلك الأوامر والنواهي لطف منه في شأنهن وهو أعلم بالمصطفين من عبيده المخصوصين بتأييده . يروى أن أم سلمة أو كل أزواج النبي صلى الله عليه ولم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء فنحن نخاف أن لا يقبل منا طاعة فنزلت { إن المسلمين والمسلمات } وذكر لهن عشر مراتب : الأولى التسليم والانقياد لأمر الله ، والثانية الإيمان بكل ما يجب أن يصدّق به فإن المكلف يقول أولاً كل ما يقول الشارع فأنا أقبله فهذا إسلام ، فإذا قال له شيئاً وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده . ثم إن اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة ، ثم إذا آمن وعمل صالحاً كمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله { والصادقين والصادقات } ثم إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال في قصة لقمان { واصبر على ما أصابك } [ الآية : 17 ] أي بسببه . ثم إنه إذا كمل في نفسه وكمل غيره قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله { والخاشعين والخاشعات } وفيه إشارة إلى الصلاة لأن الخشوع من لوازمها { قد أفلح المؤمنون الذي هم في صلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 1 ، 2 ] فلذلك أردفها بالصدقة . ثم بالصيام المانع مطلقاً من شهوة البطن فضم إلى ذلك الحفظ من شهوة الفرج التي هي ممنوع منها في الصوم مطلقاً وفي غير الصوم مما وراء الأزواج والسراري . ثم ختم الأوصاف بقوله { والذاكرين الله كثيراً } يعني أنهم في جميع الأحوال يذكرون الله يكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصومهم وحفظهم فروجهم لله .

وإنما وصف الذكر بالكثرة في أكثر المواضع فقال في أوائل السورة { لمن يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } وقال في الآية { والذاكرين الله كثيراً } ويجيء بعد ذلك { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } لأن الإكثار من الأفعال البدنية متعسر يمنع الاشتغال ببعضها من الاشتغال بغيرها بحسب الأغلب ، ولكن لا مانع من أن يذكر الله وهو آكل أو شارب أو ماشٍ أو نائم أو مشغول ببعض الصنائع والحرف ، على أن جميع الأعمال صحتها أو كمالها بذكر الله تعالى وهي النية . قال علماء العربية : في الآية عطفان : أحدهما عطف الإناث على الذكور ، والآخر عطف مجموع الذكور والإناث على مجموع ما قبله . والأول يدل على اشتراك الصنفين في الوصف المذكور وهو الإسلام في الأول والإيمان في الثاني إلى آخر الأوصاف ، والثاني من باب عطف الصفة على الصفة فيؤل معناه إلى أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم .
وحين انجر الكلام من قصة زيد إلى ههنا عاد إلى حديثه ، قال الراوي : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت أمهات أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآية . فقالا : رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه المهر ستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وإزاراً وخمسين مداً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر . وقيل : نزلت في أن كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط وهي أول من هاجر من النساء وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد قبلت ، وزوّجها زيداً فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجها عبده ، وقال أهل النظم : إنه تعالى لما أمر نبيه أن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ضرر الغير فعليه أن يترك حق نفسه لحظ غيره ، فذكر في هذه الآية أنه لا ينبغي أن يظن ظانّ أن هوى نفسه متبع ، وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في حق زوجات النبي ، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله ، فأمر الله هو المتبع وقضاء الرسول هو الحق ، ومن خالف الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ، لأن المقصود هو الله والهادي هو النبي ، فمن ترك المقصد وخالف الدليل ضلا ضلالاً لا يرعوي بعده . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر زينب ذات يوم بعد ما أنكحها زيداً فوقعت في نفسه فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يردها أولاً ، لعله أي لم يلده الخ تأمل ولو ارادها لاختطبها .

وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي . فقال : ما لك أرى بك شيء منها؟ قال : لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتكبر عليّ لشرفها . فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ثم طلقها بعد . فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك اخطب عليّ زينب . قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري وقلت : يا زينب أبشري إن رسول الله يخطبك . ففرحت وقالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي . فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار ولنرجع إلى ما يتعلق بتفسير الألفاظ . قوله { للذي } يعني زيداً { أنعم الله عليه } بالإيمان الذي هو أجل النعم وبتوفيق الأسباب حتى تبناه رسوله { وأنعمت عليه } أي بالإعتاق وبأنواع التربية والاختصاص . وقوله { واتق الله } أي في تطليقها فلا تفارقها . نهي تنزيه لا تحريم ، أو أراد اتق فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وإيذاء الزوج . الذي أخفى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو تعلق قلبه بها أو مودّة مفارقة زيد إياها أو علمه بأن زيداً سيطلقها . وعن عائشة لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية ، وذلك أن فيه نوع تخالف الظاهر والباطن في الظاهر وليس كذلك في الحقيقة ، لأن ميل النفس ليس يتعلق باختيار الآدمي فلا يلام عيه ، ولا هو مأمور بإبدائه . والذي أبداه كان مقتضى النصح والإشفاق والخشية والحياء من قالة الناس إن قلب النبي مال إلى زوجة دعيه فبهذا القدر عوتب بقوله { والله أحق أن تخشاه } فإِن حسنات الأبرار سيئات المقربين . فلعل الأولى بالنبيّ أن يسكت عن إمساكه حذراً من عقاب الله على ترك الأولى كما سكت عن تطليقه حياء من الناس . قال جار الله : الواوات في قوله { وتخفى } { وتخشى } { والله } للحال . ويجوز أن تكون للعطف كأنه قيل : وإذ تجمع بين قولك أمسك وإخفاء خلافه وخشية الناس { والله أحق أن تخشاه } حتى لا تفعل مثل ذلك .
قوله { فلما قضى زيد منها } حاجته ولم يبق له يها رغبة وطلقها وانقضت عدتها { زوّجناكها } نفياً للحرج عن المؤمنين في مثل هذه القضية فإن الشرع كما يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم يستفاد من فعله ايضاً ، بل الثاني يؤكد الأول .

ألا ترى أنه لما ذكر ما فهم منه حلّ الضب ثم لم يأكل بقي في النفوس شيء ، وحيث أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه لا يؤكل في بعض الملل وكذلك الأرنب ، وقوله { إذا قضوا منهن وطراً } يفهم منه نفي الحرج عند قضاء الوطر بالطريق الأولى . عن الخليل : قضاء الوطر بلوغ كل حاجة يكون فيها همة وأراد بها في الآية الشهوة . وقيل : التطليق . فلا إضمار على هذا { وكان أمر الله مفعولاً } مكوناً لا محالة . ومن جملة أوامره ما جرى من قصة زينب ، ثم نزه النبي صلى الله عليه وسلم عن قالة الناس بقوله { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله } أي قسم وأوجب { له } و { سنة الله } مصدر مؤكد لما قبله أي سن الله نفي الحرج سنة في الأنبياء الذين خلوا فكان من تحته أزواج كثيرة كداود وسليمان وسيجيء قصتهما في سورة ص . ومعنى { قدراً مقدوراً } قضاء مقضياً هكذا قاله المفسرون ولعل قوله { وكان أمر الله مفعولاً } إشارة إلى القضاء ، وهذا الأخير إشارة إلى القدر وقد عرفت الفرق بينهما مراراً . وفي قوله { ولا يخشون أحداً إلا الله } تعريض بما صرح به في قوله { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } والحسيب الكافي للمخاوف أو المحاسب على الصغائر والكبائر فيجب أن لا يخشى إلا هو . ثم أكد مضمون الآي المتقدمة وهو أن زيداً لم يكن ابناً له فقال { ما كان محمد أبا أحد } فكان لقائل أن يقول : أما كان أباً للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم فلذلك قيل { من رجالكم } فخرجوا بهذا القدر من جهتين : إحداهما أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال ، وبهذا الوجه يخرج الحسن والحسين أيضاً من النفي لأنهما لم يكونا بالغين حينئذ . والأخرى أنه أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم وكذا الحسن والحسين ، أو أراد الأب الأقرب . ومعنى الاستدراك في قوله { ولكن رسول الله } صلى الله عليه وسلم إثبات الأبوة من هذه الجهة لأن النبي كالأب لأمته من حيث الشفقة والنصيحة ورعاية حقوق التعظيم معه ، وأكد هذا المعنى بقوله { وخاتم النبيين } لأن النبي إذا علم أن بعده نبياً آخر فقد ترك بعض البيان والإرشاد إليه بخلاف ما لو علم أن ختم النبوة عليه { وكان الله بكل شيء عليماً } ومن جملة معلوماته أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ومجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان لا ينافي ذلك لأنه ممن نبئ قبله وهو يجيء على شريعة نبيناً مصلياً إلى قبلته وكأنه بعض أمته .
التأويل : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة } أي كان في الأول مقدراً لكم متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلقت قدرتنا بإخراج أرواحكم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح الرسول من العدم إلى الوجود

« أول ما خلق الله نوري أو روحي » وبحسب القرب إلى روح الرسول والبعد عنه يكون حال الأسوة ، وكل ما يجري على الإنسان من بداية عمره إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأخلاق والأحوال . فمن كان يرجو الله كان عمله خالصاً لوجه الله تعالى ، ومن كان يرجو اليوم الآخر يكون عمله للفوز بنعيم الحنان . وكل هذه المقامات مشروط بالذكر وهو كلمة « لا إله إلا الله محمد رسول الله » نفياً وإثباتاً ، وهما قدمان للسائرين إلى الله وجناحان للطائرين بالله . { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } المجتمعين على إضلالهم واهلاكهم من النفس وصفاتها ، والدنيا وزينتها ، والشيطان واتباعه { قالوا } متوكلين على الله { هذا ما وعدنا الله ورسوله } أن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل { من المؤمنين رجال } يتصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أن لا يعبدوا غيره في الدنيا والعقبى . { فمنهم من قضى نحبه } فوصل إلى مقصده { ومنهم من ينتظر } الوصول وهو في السير وهذا حال المتوسطين { وكفى الله المؤمنين القتال } بريح القهر أذهبت على النفوس فأبطلت شهواتها ، وعلى الشيطان فردت كيده ، وعلى الدنيا فأزالت زينتها . { وأنزل الذين ظاهروهم } أي أعانوا النفس والشيطان والهوى على القلوب من أهل الكتاب طالبي الرخص لأرباب الطلب المنكرين أحوال أهل القلوب { من صياصيهم } هي حصون تكبرهم وتجبرهم ، وأنزل وقعهم من حصون اعتقاد أرباب الطلب كيلا يقتدوا بهم ولا يغتروا بأقوالهم ، وقذف بنور قلوبهم في قلوب النفوس والشياطين الرعب { فريقاً تقتلون } وهم النفس وصفاتها والشيطان وأتباعه { وتأسرون فريقاً } وهم الدنيا وجاهها { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } لتنفقوا في سبيل الله وتجعلوها بذر مزرعة الآخرة { وارضاً لم تطؤها } يشير إلى مقامات وكمالات لم يلغوها فيبلغوها باستعمال الدنيا فإن ذلك بعد الوصول لا يضر لأنه يتصرف بالحق للحق . { قل لأزواجك } فيه إشارة إلى أن حب الدنيا يمنعهن من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهن محال النطفة الإنسانية الروحانية الربانية ، والأجر العظيم هو لقاء الله العظيم فمن أحب غير الله وإن كان الجنة نقص من الأجر بقدر ذلك إلا محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن محبة الجنة بالحظ دون الحق فيها ما تشتهي الأنفس ، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم بالحق لا الحظ { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] ومضاعفة العذاب سقوطهن عن قرب الله وعن الجنة كما أن إيتاء الأجر مرتين عبارة عن هذين ، وكان من دعاء السري السقطي : اللهم إن كنت تعذبني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب . والرزق الكريم رزق المشاهدات الربانية { يا نساء النبي } هم الذين اسلموا أرحام قلوبهم لتصرفات ولاية الشيخ ليست أحوالهم كأحوال غيرهم من الخلق { إن اتقيتن } بالله من غيره { فلا تخضعن بالقول } لشيء من الدارين فإن كثيراً من الصادقين خضعوا بالقول لأرباب الدنيا الذين في قلوبهم مرض حب المال والجاه فاستجروهم ووقعوا في ورطة الهلاك والحجاب .

فالقول المعروف وهو المتوسط الذي لا يكون فيه الميل الكلي إلى أهل الدنيا أصوب وإلى الحق أقرب . { وقرن في بيوتكن } من عالم الملكوت { ولا تبرجن } في عالم الحواس راغبين في زينة كعادة الجهلة { وأقمن الصلاة } التي هي معراج المؤمن يرفع يده من الدنيا ويكبر عليها ويقبل على الله بالإعراض عما سواه ، ويرجع من مقام تكبر الإنسان إلى خضوع ركوع الحيوان ، ومنه إلى خشوع سجود النبات ، ثم إلى قعود الجماد فإنه بهذا الطريق أهبط إلى أسفل القالب فيكون رجوعه بهذا الطريق إلى أن يصل إلى مقام الشهود الذي كان فيه في البداية الروحاينة ، ثم يتشهد بالتحية والثناء على الحضرة ، ثم يسلم عن يمينه على الآخرة وما فيها وعن شماله على الدنيا وما فيها . وإيتاء الزكاة بذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي . الرجس لوث الحدوث ، والبيت لأهل الوحدة بيت القلب يتلى فيه آيات الواردات والكشوف . إن الذين استسلموا للأحكام الأزلية وآمنوا بوجود المعارف الحقيقية ، وقتنوا أي أغرقوا الوجود في الطاعة والعبودية ، وصدقوا في عهدهم وصبروا على الخصال الحميدة وعن الأوصاف الذميمة ، وخشعوا أي أطرقت سريرتهم عند بواده الحقيقة ، وتصدقوا بأموالهم وأعراضهم حتى لم يبق لهم مع أحد خصومة ، وصاموا بالإمساك عن الشهوات وعن رؤية الدرجات ، وحفظوا فروجهم في الظاهر عن الحرام وفي الباطن عن زوائد الحلال ، وذكروا الله بجميع أجزاء وجودهم الجسمانية والروحانية . { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } إذا صدر أمر المكلف أو عليه ، فإن كان مخالفاً للشرع وجب عليه الإنابة والاستغفار ، وإن كان موافقا للشرع فإن كان موافقا لطبعه وجب عليه الشكر ، وإن كان مخالفاً لطبعه وجب أن يستقبله بالصبر والرضا . وفي قوله { والله أحق أن تخشاه } دلالة على أن المخلصين على خطر عظيم حتى إنهم يؤاخذون بميل القلب وحديث النفس وذلك لقوة صفاء باطنهم ، فاللطيف أسرع تغيراً . { فلما قضى زيد منها وطراً } قضاء شهوته بين الخلق إلى قيام الساعة { ما كان على النبيّ من حرج } فيما فيه أمان هو نقصان في نظر الخلق فإنه كمال عند الحق إلا إذا كان النظر للحق { ولكن رسول الله } صلى الله عليه وسلم فيه أن نسبة المتابعين إلى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبة الابن إلى الأب الشفيق ولهذا قال « كل حسب ونسب ينقطع إلاّ حسبي ونسبي » .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

القراآت : { ترجى } بغير همز : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وحفص وخلف والأعشى والمفضل وعباس { لا تحل } بتاء التأنيث : أبو عمرو ويعقوب { إناه } بالأمالة وغيرها مثل { الحوايا } في « الأنعام » وافق الخزاز عن هبيرة ههنا بالإِمالة { ساداتنا } بالألف وبكسر التاء : ابن عامر وسهل ويعقوب وجبلة . الباقون : على التوحيد { كبيراً } بالباء الموحدة : عاصم وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الآخرون : بالثاء المثلثة .
الوقوف : { كثيراً } لا { وأصيلاً } 5 { النور } ط { رحيماً } 5 { سلام } ج لاحتمال الجملة حالاً واستئنافاً { كريماً } 5 { نذيراً } لا { منيراً } 5 { كبيراً } 5 { على الله } ط { وكيلاً } 5 { تعتدّونها } ج لانقطاع النظم مع الفاء { جميلاً } 5 { معك } ج لاحتمال ما بعده العطف والنصب على المدح مع أن طول الكلام يرجح جانب الوقف { يستنكحها } ق للعدول على تقدير جعلناها خالصة { المؤمنين } 5 { حرج } ط { رحيماً } 5 { إليك من تشاء } ط لأن ما بعده واو استئناف دخل على الشرط { عليك } ط { كلهن } ط { قلوبكم } ط { حلماً } 5 { يمينك } ط { رقيباً } 5 { اناه } لا للعطف مع الإستدراك { الحديث } ط { منكم } ط فصلاً بين وصف الخلق وحال الحق مع اتفاق الجملتين { من الحق } ط لإبتداء حكم آخر { حجاب } ط { وقلوبهن } ط { أبداً } ط { عظيماً } 5 { عليماً } 5 { ايمانهنّ } لا والوقف أجوز لتكون الواو للاستئناف { واتقين الله } ط { شهيداً } 5 { النبيّ } ط { تسليما } 5 { مهيناً } 5 { مبيناً } 5 { جلابيبهن } ط { يؤذين } ط { رحيماً } 5 { قليلاً } 5 ج لأن قوله { ملعونين } يحتمل أن يكون حالاً أو منصوباً على الشتم { ملعونين } 5 ج لأن الجملة الشرطية تصلح وصفاً واستئنافاً { تقتيلاً } 5 { قبل } ط { تبديلاً } 5 { الساعة } ط { عند الله } ط { قريباً } 5 { سعيراً } لا { أبداً } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { نصيراً } 5 ج لاحتمال تعلق الظرف ب { لا يجدون } أو ب { يقولون } أو باذكر { الرسولا } 5 { السبيلاً } 5 { كبيراً } 5 { قالوا } ط { وجيها } 5 { سديداً } 5 لا { ذنوبكم } 5 { عظيماً } 5 { الإنسان } ط { جهولاً } 5 لا { والمؤمنات } ط { رحيماً } 5 .
التفسير : اعلم أن مبنى هذه السورة على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد مر أنه سبحانه بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبيّ مع الله وهو التقوى ، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله فأمر بعد ذلك عامة المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين : وبدأ بما يتعلق بجانب التعظيم لله وهو الذكر الكثير ، وفيه لطيفة وهي أن النبيّ لكونه من المقربين لم يكن ناسياً فلم يؤمر بالذكر بل أمر بالتقوى والمحافظة عليها فإنها تكاد لا تتناهى . والتسبيح بكرة وأصيلاً عبارة عن الدوام لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله صلى الله عليه وسلم

« ولو أن أوّلكم وآخركم » قال جار الله : خص التسبيح بالذكر من جملة الذكر لفضله على سائر الأذكار ففيه تنزيه عما لا يجوز عليه . ولقائل أن يقول : هذا لا يطابق قوله صلى الله عليه وسلم « أفضل الذكر لا إله إلا الله » وجوّز أن يراد بالذكر الكثير الإقبال على العبادات كلها ، ويراد بالتسبيح الصلاة ، وبالوقتين العموم كما مر ، أو صلاة الفجر والعشاءين ، لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد . ثم حرض المؤمنين على ذكره بأنه أيضاً يذكرهم والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ، فلعله أراد باللفظ المشترك كلا مفهوميه كما ذهب إليه الشافعي ، أو في الكلام حذف أي وملائكته تصلي ، أو المراد بصلاة الملائكة هي قولهم : اللهم صل على المؤمنين . جعلوا لاستجابة دعوتهم كأنهم فعلوا الرحمة ، أو المراد القدر المشترك وهو العناية بحال المرحوم والمستغفر له . وأصل الصلاة التعطف وذلك أن المصلي يتعطف في ركوعه وسجوده فاستعير لمن يتعطف على غيره وحنوّاً وترؤفاً . ثم بين غاية الصلاة وهي إخراج المكلف من ظلمات الضلال إلى نور الهدى . وفي قوله { وكان بالمؤمنين رحيماً } بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن تلك الرحمة لا تخص السامعين وقت الوحي . ومعنى { تحيتهم يوم يلقونه سلام } مذكور في أول « يونس » وفي « إبراهيم » . واراد بيوم اللقاء يوم القيامة لأن الخلق مقبلون على الله بكليتهم بخلاف الدنيا . والأجر الكريم هو ما يأتيه عفواً صفواً من غير شوب نغص ، ثم إشار إلى ما ينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مع عامة الخلق فقال { إنا أرسلناك شاهداً } وهي حال مقدرة أي مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل ، وفيه أن الله تعالى جعل النبي شاهداً على وجوده بل على وحدانيته لأن المدعي هو الذي يذكر شيئاً بخلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس فلا ينبغي أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم مدع لها . بل يقال : إنه شاهد عليها كما قال « على مثل الشمس فاشهد » وإنه قد جازاه بشهادته لله شهادته على نبوته كما قال { والله يعلم انك لرسوله } [ المنافقون : 1 ] والحاصل أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط ، وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا من الطاعة والمعصية والصلاح والفساد . وإنما قال { وداعياً إلى الله بإذنه } لأن الشهادة للمرء لا تفتقر إلى إذنه وكذلك الإنذار والتبشير إذا قال من يطع الملك أفلح ومن عصاه لم يربح . أما إذا قال : تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه احتاج إلى رضاه . ويمكن أن يكون قوله { بإذنه } متعلقاً بمجموع الأحوال أي بتسهيله أو تيسيره . ووصف النبي عليه السلام بالسراج بأن ظلمات الضلال تنجلي به كما ينجلي ظلام الليل بالسراج ، وقد أمدّ الله بنور نبوته نور البصائر كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار .

وإنما لم يشبه بالشمس لأن الشمس لا يؤخذ منه شيء ويؤخذ من السراج سرج كثيرة وهم الصحابة والتابعون في المثال ولهذا قال « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » وصفهم بالنجم لأن النجم لا يؤخذ منه شيء ، والتابعي لا يأخذ من الصحابي في الحقيقة وإنما يأخذ من النبيّ . ووصف السراج بالإنارة لأن السراج قد يكون فاتراً ومنه قولهم « ثلاثة تضني : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظرها من يجيء » . ويجوز أن يكون سراجاً معطوفاً على الكاف ويراد به القرآن ، ويجوز أن يكون المعنى وذا سراج أو تالياً سراجاً . قوله { ودع أذاهم } أي خذ بظاهرهم وادفع عنهم الأسر والقتل وحسابهم على الله ، وإضافة أذاهم يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول .
ثم أمر المؤمنين بما يتعلق بجانب الشفقة على الخلق واكتفى بذكر الزوجات المطلقات قبل المسيس لأنه إذا لزم الإحسان إليهنّ بمجرد العقد وهو المراد بالنكاح ههنا ، فبالوطء يكون أولى وقد مر حمكهنّ في سورة البقرة . في قوله { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ الآية : 237 ] وذلك لأجل تشطير الصداق . وإنما أعاد ذكرهن ههنا لبيان عدم وجوب العدّة عليهن . وتخصيص المؤمنات بالذكر دون الكتابيات إيذان بأنهن أولى بتخيرهن للنطفة . وفي قوله { ثم طلقتموهن } تنبيه على أنه لا تفاوت في هذا الحكم بين قريبة العهد من النكاح وبين بعيدة العهد منه ، فإذا لم تجب العدّة على البعيدة العهد فلأن لا تجب على القريبة العهد أولى . وقد يستدل بكلمة « ثم » على أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن المعية تنافي التراخى . وفي قوله { فما لكم عليهن } دليل على أن العدة حق واجب للرجال على النساء وإن كان لا يسقط بإسقاط لما فيها من حق الله تعالى أيضاً . ومعنى { تعتدونها } تستوفون عددها تقول : عددت الدراهم فاعتدها نحو : كلته فاكتاله . ثم عاد إلى تعليم النبي صلى الله عليه وسلم . وفائدة قوله { اللاتي آتيت أجورهن } وقوله { مما أفاء الله عليك } وقوله { اللاتي هاجرن معك } هي أن الله تعالى اختار لرسوله الأفضل الأولى ، وذلك أن سوق المهر إليها عاجلاً أفضل من أن تمسيه وتؤجله . وكان التعجيل ديدن السلف ومن الناس من قال : ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجب عليه إعطاء المهر لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها ، والنبي عليه السلام لم يكن يستوفي مالا يجب له كيف وإنه إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب منه . والظاهر أن طالب الوطء ولا سيما في المرة الأولى يكون هو الرجل لحياء المرأة ، ولو طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم من المرأة التمكين قبل المهر لزم أن يجب وأن لا جيب ، ولا كذلك أحدنا .

ومما يؤكد هذا قوله { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ } صلى الله عليه وسلم يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها . والجارية إذا كانت سبية مالكها ومخطوبة سيفه ورمحه فإنها أحل وأطيب من المشتراة لكونها غير معلومة الحال . قال جار الله : السبي على ضربين : سبي طيبة وهي ما سبي من أهل الحرب ، وسبي خبيثة وهي ما سبي ممن له عهد ، فلا جرم قال سبحانه { مما أفاء الله عليك } لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاربه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه . وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتها مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد ، ولم يحسن الاقتصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة وشرط في استحلال الواهبة نفسها إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها . وفيه أنه لا بد من قبول الهبة حتى يتم النكاح ، وبه استدل أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة ، وحملها الشافعي على خصائص النبي صلى الله عليه وسلم . وعن أبي الحسن الكرخي أن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز لقوله { اللاتي آتيت أجورهن } قال أبو بكر الرازي : لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت وعقد النكاح مؤبد . والظاهر أن { خالصة } حال من { امرأة } وقال جار الله : هي مصدر مؤكد كوعد الله أي خلص لك الإحلال خلوصاً . وفائدة هذا الحال على مذهب الشافعي ظاهرة . وقال أبو حنيفة : أراد بها أنها زوجته وهي من أمهات المؤمنين فأورد عليه أن أزواجه كلهن خالصات له فلا يبقى لتخصيص الواهبة فائدة . وقوله { قد علمنا ما فرضنا عليهم } جملة اعتراضية معاها أن الله قد علم ما يجب على المؤمنين في حق الأزواج وفي الإماء على أي حدّ وصفة ينبغي أن يكون . ثم بين غاية الإحلال بقوله { لكيلا يكون عليك حرج } أي لئلا يكون عليك ضيق في دينك ولا في دنياك حيث أحللنا لك أصناف المنكوحات { وكان الله غفوراً } للذي وقع في الحرج { رحيماً } بالتوسعة والتيسير على عباده .
ثم بيّن أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن من غير إيجاب قسم بينهنّ ، لأنه صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أمته كالسيد المطاع فزوجاته كالمملوكات فلا قسم لهن . والإرجاء التأخير ، والإيواء الضم وهما خبران في معنى الأمر . { ومن ابتغيت ممن عزلت } يعني إذا طلبت من كنت تركتها { فلا جناح عليك } في شيء من ذلك وهذه قسمة جامعة للغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك ، وإذا أمسك ضاجع أو ترك ، وإذا ضاجع قسم أو لم يقسم ، وإذا طلق أو عزل فإما أن يترك المعزولة أو يبتغيها .

يروى أنه أرجأ منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب . وروي أنه كان يسوّي مع ما خير فيه إلاّ سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك . وقيل : أراد تترك تزوّج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت . وعن الحسن : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها . ومن قال : إن القسم كان واجباً مع أنه ضعيف بالنسبة إلى مفهوم الآية قال : المراد تؤخرهن إن شئت إذ لا يجب القسم في الأول ، وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } في ذلك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى . ثم قال { ذلك } التفويض إلى مشيئتك { أدنى } إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن وإلى رضاهّن جميعاً لأنه إذا لم يجب عليه القسم . ثم إنه يقسم بينهن حملهن ذلك على تلطفه وتخلصه . وفي قوله { والله يعلم ما في قلوبكم } وعيد لمن يرض منهن بما دبر الله له { وكان الله عليما } بذات الصدور { حليماً } مع ذلك لا يعاجل بالعقوبة فتحاً لباب التوبة . وقوله { كلهن } بالرفع تأكيد لنون يرضين ، وقرئ بالنصب تأكيداً لضمير المفعول في { آتيتهن } ثم إنه سبحانه شكر لأزواج رسول الله اختيارهن لله ورسوله فأنزل { لا يحل لك النساء من بعد } قال أكثر المفسرين : اي من بعد التسع المذكورة ، فالتسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن . وإنه تعالى زاد في إكرامهن بقوله { ولا أن تبدّل بهن } أي ولا يحل لك أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهن أو بعضهن ، وأكد النفي بقوله { من أزواج } وفائدته استغراق جنس جماعات الأزواج بالتحريم . وذهب بعضهم إلى أن الاية فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهنّ ، والمعنى لا يحل لك من النساء من بعد اللاواتي نص على إحلالهنّ من الأجناس الأربعة ، وأما غيرهنّ من الكتابيات والإماء بالنكاح والأعربيات والغرائب فلا يحل لك التزوّج بهن . وقوله { ولا أن تبدل بهن } منع من فعل الجاهلية وهو قولهم « بادلني بامرأتك وابادلك بامرأتي » فكان ينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه . يحكى أن عيينة بن حصن دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عيينة أين الاستئذان؟ فقال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت .

ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين . قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق . فقال عليه السلام : إن الله قد حرم ذلك . فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ قال : أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه . وقوله { ولو أعجبك حسنهنّ } في موضع الحال أي مفروضاً إعجابك بهن . قال جار الله : والأظهر أن جوابه محذوف يدل عليه ما قبله وهو { لا يحل } وفائدة هذه الشرطية التأكيد والمبالغة . واستثنى ممن حرم عليه الإماء . وفي قوله { وكان الله على كل شيء رقيباً } تحذير من مجاوزة حدوده . واعلم أن ظاهر هذه الآية ناسخ لما كان قد ثبت له صلى الله عليه وسلم من تحريم مرغوبته على زوجها ، وفيه حكمة خفية ، وذلك أن الأنبياء يشتدّ عليهم برحاء الوحي في أوّل الأمر ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم فكان الحاجة إلى تفريغ بال النبي تكون في أوّل الأمر أكثر لو هي القوّة ولعدم إلفه بالوحي ، فإذا تكاملت قوّته وحصل إلفه بتعاقب الوحي لم يبق له الالتفات إلى غير الله فلم يحتج إلى إحلال التزوّج بمن وقع بصره عليها . وعن عائشة : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء . تعني أن الآية نسخت ، ونسخها إمّا بالسنة عند من يجوِّز نسخ القرآن بخبر واحد ، وأمّا بقوله { إنا أحلنا لك } وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف .
ثم عاد إلى إرشاد الأمة ، وحالهم مع النبيّ إما حال الخلوة فالواجب هناك احترام أهله واشار إليه بقوله { لا تدخلوا } وإما حال الملأ فالواجب وقتئذ التعظيم بكل ما أمكن وذلك قوله { إن الله وملائكته } كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه فقيل : لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا وقت الإذن أي مأذونين وإلا غير ناظرين إناه . وإنى الطعام إدراكه ، أنى الطعام إنى نحو قلاه قلى . وقيل : أناه وقته فقد تلخص أن الإذن مشروط بكونه إلى طعام فلزم منه أن لا يجوز الدخول إذا لم يكن الإذن إلى طعام كالدخول بالإذن لاستماع كلام مثلاً ، فأجيب بأن الخطاب مع قوم كانوا موصوفين بالتحين للطعام فمنعوا من الدخول في وقته من غير إذن . وجوز بعضهم أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي لا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن والأوّل أولى . ولا يشترط في الإذن التصريح به إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قيل { إلا أن يؤذن } على البناء للمفعول ليشمل إذن الله وإذن الرسول أو العقل المؤيد بالدليل . وقوله { فانتشروا } للوجوب وليي كقوله

{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } [ الجمعة : 10 ] وذلك للدليل العقلي على أن بيوت الناس لا تصلح للمكث بعد الفراغ مما دعي لأجله ، وللدليل النقلي وذلك قوله { ولا مستأنسين لحديث } وهو مجرور معطوف على { ناظرين } أو منصوب على الحال أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين . يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنساً أن يدعو بالناس فترادفوا افواجاً إلى أن قال : يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحد أدعوه . فقال : ارفعوا طعامكم وتفرق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون فأطالوا فقام رسول الله ليخرجوا فانطلق غلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم اهل البيت فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء وذلك قوله { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم } اي من إخراجكمن فلما رأوه متولياً خرجوا فرجع فنزلت الآية ناهية للثقلاء أي يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدّثه به أو يستأنسون حديث اهل البيت واستماعه . ومعنى { لا يستحي } لا يمتنع ولا يترك كما مر في أول البقرة . والضمير في { سألتموهن } لنساء النبيّ بقرينة الحال . قال الراوي : إن عمر كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة وكان يقول : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت . والمتاع الماعون وما يحتاج إليه . وثاني مفعولي { فاسألوهن } محذوف وهو المتاع المدلول عليه بما قبله . { ذلكم } الذي ذكر من السؤال من وراء الحجاب { أطهر } لأجل قلوبكم لأن العين روزنة القلب ومنها تنشأ الفتنة غالباً . وروي أن بعضهم قال : نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن فلانة عنى عائشة ، فأعلم الله أن ذلك محرم بقوله { وما كان } اي وما صح { لكم أن تؤذوا رسول الله } بوجه من الوجوه { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم } الإيذاء والنكاح { كان عند الله } ذنباً { عظيماً } لأن حرمة الرسول ميتاً كحرمته حياً .
ثم بين بقوله { إن تبدوا شيئاً } الآية . إنهم إن لم يؤذوه في الحال ولكن عزموا على إيذائه أو نكاح أزواجه بعده فالله عالم بكل شيء فيجازيهم بحسب ذلك . ثم إنه لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله { لا جناح عليهن } أي لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء . قال في التفسير الكبير عند الحجاب : لما أمر الله الرجل بالسؤال من رواء الحجاب فيفهم كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى ، وعند الاستثناء قال { لا جناح عليهن } فرفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك . وقدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر فقد رأوهن في حالة الصغر ، ثم الأبناء ثم الأخوة ، وقدم بني الإخوة لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم فقد يصف الابن خالته عند أبيه ففي ذلك نوع مفسدة فأوجبت التأخر عن رتبة المحرمية ، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، أو لأنهما قد يصفيان لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم .

وقد يستدل بقوله { ولا نسائهن } مضافة إلى المؤمنات أنه لا يجوز التكشف للكافرات في وجه ، وأخر المماليك لأن محرميتهم كالأمر الضروري وإلا فالمفسدة في التكشف لهم ظاهرة ولهذا عقبة بقوله { واتقين } فإن التكشف لهم مشروط بشرط سلامة العاقبة والأمن من الفتنة . ومنهم من قال : المراد من كان منهم دون البلوغ . قال جار الله : في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله { واتقين } فضل تشديد وبعث على سلوك طريقة التقوى فيما أمرن به من الاحتجاب كأنه قيل : وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأتقن غير محتجبات ليفضل سركن علنكن . ثم أكد الكل بقوله { إن الله كان على كل شيء شهيداً } وفيه أنه لا يتفاوت في علمه ظاهر الحجاب وباطنه . ثم كمل بيان حرمة النبي بأنه محترم في الملأ الأعلى فليكن واجب الاحترام في املأ الأدنى ، وقد مر معنى الصلاة في السورة . وإنما قال هناك { هو الذي يصلي عيكم وملائكته } وقال ههنا { ان الله وملائكته يصلون } ليلزم منه تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم : وذلك لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلاً للمذكور على المعطوف ، فكأنه سبحانه شرف الملائكة بضمهم مع نفسه بواسطة ضلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . واستدل الشافعي : بقوله { صلوا عليه سلموا } وظاهر الأمر للوجوب أن الصلاة في التشهد واجبة وكذا التسليم لأنه لا يجب بالاتفاق في غير الصلاة فيجب فيها . وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه وهو قول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . ولم يؤكد الصلاة هذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله { إن الله وملائكته يصلون } وسئل النبي كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال : قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد . وعنه صلى الله عليه وسلم « من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشراً » ومن العلماء من أوجب الصلاة كلما جرى ذكره لما روي في الحديث « من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله » ومنهم من أوجبها في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس ، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره . ومنهم من أوجبها في العمر مرة ، وكذا قال في إظهار الشهادتين . والأحوط هو الأول وهو الصلاة عليه عند كل ذكر ، وأما الصلاة على غيره فقد مر الخلاف فيها في سورة التوبة في قوله

{ وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } [ الآية : 103 ] ثم رتب الوعيد على إيذاء الله ورسوله فيجوز أن يكون ذكر الله توطئة وتشريفاً وإعلاماً بأن إيذاء رسول الله هو إيذاء الله كقوله تعالى { فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] ويجوز أن يراد بإيذاء الله الشرك به ونسبته إلى ما لا يجوز عليه . وعن عكرمة : هو فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق كخلق الله . وقيل : أذى رسول الله قولهم إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون . وقيل : طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حي ، والأظهر التعميم . وعن بعضهم أن اللعن في الدارين هو جزاء من يؤذي الله ، وإعداد العذاب المهين هو جزاء من يؤذي رسول الله ، ولعل الفرق لاغ . ثم رتب وعيداً آخر على إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولكن قيده بقوله { بغير ما اكتسبوا } لأنه إذا صدر عن أحدهم ذنب جاز إيذاؤه على الوجه المحدود في الشرع ، ولعل المراد هو الإيذاء القولي لقوله { فقد احتملوا بهتاناً } يوحتمل ن يقال : احتمال البهتان سببه الإيذاء القولي ، واحتمال الإثم المبين سببه الإيذاء الفعلي ، ويحتمل أن يكون كلاهما وعيد الإيذاء القولي ، وإنما وقع الاكتفاء به لأنه أجرح للقلب ولا مكان الاستدلال به على الفعلي ، ولأن إيذاء الله لا يكون إلا بالقول إلا إذا جعل السجود لصنم « إيذاء . قيل : نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه . وقيل : في إفك عائشة . وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات .
ثم أراد أن يدفع عن أهل بيت نبيه وعن أمته المثالب التي هي مظان لصوق العار فقال { يا أيها النبي } الآية . ومعنى { يدنين عليهن } يرخين عليهن . يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدني ثوبك على وجهك . ومعنى التبعيض في { من جلابيبهن } أن يكون للمرأة جلابيب فتقتصر على واحد منها ، أو أريد طرف من الجلباب الذي لها . وكانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرة والأمة ، فأمرن بلبس الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه { ذلك } الإدناء { أدنى } وأقرب إلى { أن يعرفن } أنهن حرائر أو أنهن لسن بزانيات فان التي سترت وجهها أولى بأن تستر عورتها { فلا يؤذين } لا هن ولا رجالهن أقاربهن لأن أكثر الإيذاء والطعن إنما يتفق من جهة نساء العشيرة إذا كن مرئيات فضلاً عن كونهن مزينات { وكان الله غفوراً } لما قد سلف { رحيماً } حين ارشدكم إلى هذا الأدب الجميل . ولما أوعدهم بعذاب الآخرة خوّفهم بعقاب الدنيا قائلاً { لئن لم ينته المنافقون } عن الإيذاء { والذين في قلوبهم مرض } وهم الضعفة الإيمان أو الزناة وأهل الفجور { والمرجفون } في مدينة الرسول وهم الخائضون في أخبار السوء من غير حقيقة ، سمي بذلك لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة .

روي أن ناساً كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله يوقعون في الناس أنهم قتلوا أو هزموا وكانوا يقولون قد أتاكم العدوّ ونحو ذلك . ومعنى { لنغرينك بهم } لنسلطنك عليهم وهو مجاز من قولهم : أغريت الجارحة بالصيد . المراد لنأمرنك بأن تفعل ما يضطرهم إلى الجلاء ثم لا يساكنونك في المدينة إلا زمناً قليلاً ريثما يتأهبون فيرتحلون بأنفسهم وعيالهم . ومعنى « ثم » تراخي الرتبة كأنه يفعل بهم أفاعيل تسوءهم إلى أن يبلغ حد الاضطرار فيزعجهم ، ويجوز أن يكون { قليلاً } منصوب على الحال ايضاً ومعناه لا يجاورونك غلا أقلاء أذلاء ملعونين . وفي قوله { لا يجاورونك } عطف على جواب القسم كأنه قيل : إن لم ينتهوا لا يجاورونك { سنة الله } أي سنة الله في الدين ينافقون في الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا . وقال مقاتل : أراد كما قتل واسر أهل بدر { ولن تجد لسنة الله تبديلا } أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكانم لا في الأفعال والأخبار . ثم إن المشركين واليهود كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استهزاء وامتحاناً فأمر نبيه أن يقول : إن ذلك العلم مما استأثر الله ولكنها قريبة الوقوع . ومعنى { قريباً } شيئاً قريباً أو يوماً أو زماناً . ثم أوعدهم بما أعدّ لهم من عذاب السعير . ومعنى تقليب وجوههم تصريفها في الجهات كاللحم يدار على النار حين يشوى ، أو تغييرها عن أحوالها ، أو تحويلها عن هيآتها ، أو نكسها على رؤوسها . والوجه عبارة عن الجملة وخص بالذكر لأنه اشرف وأكرم ، وإذا كان الأشرف معرضاً للعذاب فالأخس أولى .
ثم حكى أنهم يعترفون ويتمنون ولا ينفعهم شيء من ذلك ثم يطلبون بعض التشفي بالدعاء على من أضلهم . قوله { ضعفين } اي ضعفاً لضلالهم وضعفاً لإضلالهم . من قرأ { لعناً كبيراً } بالباء الموحدة فالمراد أشد اللعن وأفظعه ، ومن قرأ بالثاء المثلثة أراد تكثير عدد اللعن وقد علموا أن العذاب حاصل فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب وكثرة اللعن أو عظمه . قوله { لا تكونوا كالذين اذوا موسى } قال المفسرون : نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة بعض الناس . وإيذاء موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذف موسى ، أو حديث الأدرة أو البرص الذي قرفوه بذلك ففر الحجر بثوبه حتى رأوه عرياناً وقد مر في « البقرة » . وقيل : اتهامهم إياه بقتل هارون وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتاً حتى أبصروه فعرفوا أنه غير مقتول ، أو أحياه الله عز وجل فأخبرهم ببراءة موسى ومعنى { مما قالوا } من مؤدى قولهم أو من مضمون مقولهم { وكان عند الله وجيها } ذا جاه ومنزلة فلذلك كان يذب ويدفع عنه المثالب والمطاعن كما يفعل الملك بمن له عنده قربة .

وروي عن شنبوذ وكان عبداً لله . ثم أشار إلى ماينبغي أن يكون المؤمن عليه فقال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتقويم أمركم بسداد قولكم ، فبتقوى الله يصلح العمل وبصلاح العمل تكفر السيئات وترفع الدرجات . أمرهم أوّلاً بالتخلية وهي ترك الإيذاء وثانياً بالتحلية وهي التقوى الموجبة لتحصيل الأخلاق الفاضلة ، ثم علق الفوز العظيم بالطاعة المسماة بالأمانة في قوله { إنا عرضنا الأمانة } فقيل : العرض حقيقة . وقيل : أراد المقابلة أي قابلنا الأمانة بالسموات فرجحت الأمانة . والعرض أسهل من الفرض ولهذا كفر إبليس بالإباء ولك يكفر هؤلاء بالإباء لأن هناك استكباراً وههنا استصغاراً بدليل قوله { وأشفقن منها } وقد يقال : المضاف محذوف أي عرضناها على أهل السموات والأرض والجبال وإنما صير إلى هذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات ، ولم يستبعده أهل البيان لأن المراد تصوير عظم الأمانة وثقل حملها فمثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام . واعلم أن التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة ، فهذا النوع من التكليف ليس في السموات والأرض والجبال لأن السماء لا يطلب منها الهبوط ، والأرض لا يطلب منها الصعود ولا الحركة ، والجبال لا يطلب منها السير ، وكذا الملائكة ملهمون بالتسبيح والتقديس . وسمي التكليف أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن أداة فله الكرامة . فعرض الأمانة بهذا المعنى على هذه الأجرام وإباؤها من حملها هو عدم صلوحها لهذا الأمر ، أو المراد هو التصوير المذكور . وقد خص بعضهم التكليف بقول « لا إله إلا الله » . والأظهر عندي أن الأمانة هي الاستعداد الذي جبل كل نوع من المخلوقات عليه ، وحمل الأمانة عبارة عن عدم أداء حقها كما يقال : فلان ركب عليه الدين . فكل من أخرج ما في قوته إلى الفعل فهو مؤدٍّ للأمانة وقاضٍ حقها وإلا فهو حامل لها . ولا ريب أن السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى ، والأرض ثابتة في مستقرها ، والجبال راسخة في أمكنتها ، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] إلا الإنسان فإن كثيراً من الأشخاص بل أكثرهم مائلة إلى اسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط إلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد ، أو علم ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته . فاللام في { الإنسان } للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس .

وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة . وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة ، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلاً ، وكلا المحذورين موجود في التكليف . وأيضاً كان الزمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت . وأيضاً قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجها إلى تعهد ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف متاع يوضع في صندوق أو بيت ، فهذه الأشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولاً ، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلوماً وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب . واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها ، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 5 ] وقيل : إنه كان ظلوماً جهولاً في ظن الملائكة حيث قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] وقال الحكيم : المخلوقات على قسمين : مدرك وغير مدرك . والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل ، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا { وقالوا سبحانك لا علم لنا } [ البقرة : 32 ] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات . ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته . فغير الإنسان إن كان مكلفاً كان بمعنى كونه مخاطباً لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة . وفي قوله { وحملها الإنسان } دون أن يقول « وقبلها » إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأجر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم . ( لطيفة ) . الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أميناً عليها ، والقول قول الأمين فهو فائز . وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن بل ضامن ولهذا لا يكون وارث المودع مقبول القول فلم يكن له بد من تجديد عهد وإيمان حتى يصير أمينا عند الله ويصير القول قوله فيكون له ما كان لآدم من الفوز ، ولهذا ذكر ما فيه عاقبة حمل الأمانة قائلاً { ليعذب } إلى قوله { ويتوب } إشارة إلى الفريقين . ثم وصف نفسه بكونه غفوراً رحيماً بإزاء كون الإنسان ظلوماً جهولاً ولا يخفى ما في هذه الإشارة من البشارة .
التأويل : { اذكروا اله ذكراً كثيراً } فمن أحب شيئاً أكثر ذكره . وأهل المحبة هم الأحرار عن رق الكونين والحرّ يكفيه الإشارة { هو الذي يصلي } أي لولا صلاتي عليكم لما وفقتم لذكري كما أنه لولا سابقة محبتي لما هديتم إلى محبتي ، فكان في الأزل بالمؤمنين رحيماً فلهذا أخرجهم في الأبد من ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي { إنا أرسلناك شاهداً } لنا بنعت المحبوبية { ومبشراً } للطالبين برؤية جمالنا { ونذيراً } للبطالين عن كمال حسننا وحسن كمالنا { وداعياً إلى الله بإذنه } لا بطبعك وهواك { وسراجاً منيراً } في أوقات عدم الدعوة ، وذلك أن النظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم كافٍ لمن كان له قلب مستنير ، فإذا انضمت الدعوة إلى ذلك كان في الهداية غاية .

{ وفضلاً كبيراً } هو القلب المستنير . { إنا أحللنا لك أزواجك } لما اتصفت نفسه بصفات القلب وزال عنها الهوى اتصفت دنياه بصفات الآخرة فحل له في الدنيا ما يحل لغيره في الآخرة { إن الله وملائكته يصلون } صلاة تليق بتلك الحضرة المقدّسة مناسبة لحضرة النبوّة بحيث لا يفهم معناها غيرهما منها الرحمة ، ومنها المغفرة الواردة ، ومنها الشواهد ، ومنها الكشوف ، ومنها المشاهدة ، ومنها الجذبة ، ومنها القربة ، ومنها الشرب ، ومنها الري ، ومنها السكون ، ومنها التجلي ، ومنها الفناء في الله ، ومنها البقاء به ، وهكذا لأمته بحسب مراتبهم كقوله { أولئك عليهم صلوات من ربهم } [ البقرة : 157 ] { إنا عرضنا الأمانة } هي قبول الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سمي أمانة لأن الفيض من صفات الحق فلا يتملكه أحد . وقد اختص الإنسان بإصابة رشاش النور الإلهي فكان عرض الفيض عاماً على قلب المخلوقات ولكن كان حمله خاصاً بالإنسان لأن نسبة الإنسان إلى سائر المخلوقات نسبة القلب إلى الشخص ، فالروح يتعلق بالقلب ثم يصل فيضه بواسطة العروق والشرايين إلى سائر البدن فيتحرك به وهذا سر الخلافة { إنه كان ظلوماً } لأنه خلق ضعيفاً وحمل قوياً { جهولا } لأنه ظن أنه خلق للمطعم والمشرب والمنكح ولم يعلم أن هذه الصورة قشر وله لب وللبه لب وهو محبوب الله . فبقوّة الظلومية والجهولية حمل الأمانة ثم بروحه المنوّر برشاش الله أدّى الأمانة فصارت الصفتان في حق حامل الأمانة ومؤدي حقها مدحاً ، وفي حق الخائنين فيها ذمّاً . ولما لم يكن لروح الملائكة ولغيرهم من المخلوقات راحلة تحملها بالعزة أبين منها وأشفقن . فالمخاطبون إذن على ثلاث طبقات : طبقة يظهر فيها جمال صفة عدله وهم الملك والأجسام العلوية والسفلية سوى الثقلين لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها ، وطبقة يظهر فيها جمال قهره وهم المشركون والمنافقون حملوها طمعاً في نفعها ثم لم يؤدّوا حقها بأن باعوها بالأعراض الفانية ، والطبقة الثالثة المؤمنون وهم الذين حملوها طوعاً ورغبة وشوقاً ومحبة وأدّوا حقها بقدر وسعهم . ولكن الحكم لكل جواد كبوة يقع قدم صدقهم في حجر بلاء وابتلاء فيتوب الله عليهم بجذبات العناية وهم مرآة جمال فضله ولطفه الله حسبي ونعم الوكيل وبالله التوفيق .


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

القراآت : { عالم الغيب } بالرفع : أبو جعفر ونافع وابن عامر ورويس . { علام } بالجر وبناء المبالغة : حمزة وعلي . الباقون { عالم } بالجر وبدون المبالغة . { معاجزين } بالألف وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو { معجزين } بالتشديد { رجز أليم } بالرفع صفة العذاب وكذلك في « الجاثية » : ابن كثير وحفص ويعقوب وجبلة . الآخرون : بالجر { إن يشأ يخسف } { أو يسقط } على الغيبة فيهما : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون { نخسف بهم } بإدغام الفاء في الباء : علي { كسفاً } بفتح السين : حفص غير الخزاز { والطير } بالرفع حملاً على لفظ المنادى : يعقوب غير رويس الآخرون : بالنصب حملاً على المحل أو لأنه مفعول معه أو معطوف على { فضلاً } بمعنى وسخرنا له الطير { الريح } بالرفع : أبو بكر وحماد والمفضل بتقدير : ولسليمان الريح مسخرة أو سخرت الريح له { الرياح } بالرفع أيضاً ولكن مجموعاً : يزيد . الباقون : موحداً منصوباً { كالجوابي } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو وورش في الوصل { عبادي الشكور } يسكون الياء حمزة والوقف بالياء لا غير { منساته } بالألف : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وزيد عن يعقوب . وقرأ ابن ذكوان ساكنة الهمزة . الآخرون : بفتح الهمزة { تبينت الجن } على البناء للمفعول : يعقوب غير زيد { سبأ } غير مصروف : أبو عمرو والبزي { سبأ } بهمزة ساكنة : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل { سبأ } بالألف : ابن فليح وزمعة والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون { مسكنهم } بفتح الكاف : حمزة وحفص ، وبكسرها علي وخلف الباقون { مساكنهم } مجموعة { بجنتيهم } بضم الهاء : سهل ويعقوب { أكل خمط } بضم الكاف والإضافة : أبو عمرو وسهل ويعقوب . الآخرون : بالسكون والتنوين { نجازي } بضم النون وكسر الزاي { إلا الكفور } بالنصب : حمزة وعلي وخلف وحفص ويعقوب . الآخرون : بضم الياء وفتح الزاي وبرفع { الكفور } { ربنا } بالرفع { باعد } بلفظ الماضي من المفاعلة : سهل . الآخرون : { ربنا } بالنصب على النداء { باعد } على الأمر . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام { بعد } أمراً من التبعيد { صدّق } بالتشديد : عاصم وعلي وخلف . الباقون : بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق يظن ظناً نحو « فعلته جهدك » .
الوقوف : { في الآخرة } ط { الخبير } 5 { فيها } ط { الغفور } 5 { الساعة } ط { لتأتينكم } 5 لمن قرأ { عالم } بالرفع أي هو عالم ومن خفض جعله نعتاً لربي فلم يقف { بالغيب } ج لأن قوله { لا يعزب } يصلح حالاً واستئنافاً { مبين } 5 لا لتعلق اللام أبو حاتم يقف { الصالحات } ط { كريم } 5 { أليم } 5 { الحق } ج لأن قولهن { ويهدي } عطف على المعنى اي يحق قبوله ويهدي { الحميد } 5 { ممزق } ط لأن ما بعده في حكم المفعول لأنه مفعول ثان ل { ينبئكم } وإنما كسرت لدخول اللام في خبرها { جديد } 5 ج للآية ولاتحاد المقول { جنة } ط { البعيد } 5 { الأرض } ط { السماء } ط { منيب } 5 { فضلاً } ط { والطير } ج لأن ما يتلوه يصلح حالاً واستئنافاً { الحديد } 5 لا لتعلق « أن » { صالحاً } ط { بصير } 5 { ورواحها شهر } ط لأن قوله { واسلنا } عطف على محذوف أي وسخرنا لسليمان الريح { القطر } ط { ربه } ط { السعير } 5 { راسيات } ط { شكراً } ط { الشكور } 5 { منسأته } 5 { المهين } 5 { آية } ج لاحتمال أن يكون التقدير هي جنتان وأن يكون بدلاً من آية { وشمال } ط { له } ط اي لكم بلدة { غفور } 5 { قليل } 5 { كفروا } ط { الكفور } 5 { السير } ط { آمنين } 5 { ممزق } ط { الشكور } 5 { المؤمنين } 5 { شك } ط { حفيظ } 5 .

التفسير : قال في التفسير الكبير : السور المفتتحة بالحمد خمس : ثنتان في النصف الأول « الأنعام » و « الكهف » ، وثنتان في النصف الأخير هذه « والملائكة » والخامسة وهي « الفاتحة » تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير ، وذلك لأن المكلف له حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة لله علينا نعمتان : نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فأشار في أوّل « الأنعام » إلى نعمة الإيجاد الأول بدليل قوله تعالى { هو الذي خلقكم من طين } [ الآية : 2 ] واشار في أوّل « الكهف » إلى إنزال الكتاب الذي به يتم نظام العالم ويحصل قوام معاش بني آدم ، وأشار في أوّل هذه السورة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى { وله الحمد في الآخرة } وأشار في أوّل سورة الملائكة غلى الإبقاء الأبدي بدليل قوله { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلاً إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كقوله { وتتلقاهم الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] وقال تعالى في تحتهم { سلام عليكم طبتم } [ الزمر : 73 ] وفاتحة الكتاب حيث تشتمل على نعمة الدنيا بقوله { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] وعلى نعمة الآخرة بقوله { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] يقرأ في الافتتاح وفي الاختتام . واعلم أنه تعالى وصف نفسه في أول هذه السورة بأن له ما في السموات وما في الأرض إيذاناً بأنه كونه مالكاً لكل الأشياء يوجب كونه محموداً على كل لسان ، لأن الكل إذا كان له فكل من ينتفع بشيء من ذلك كان مستنفعاً بنعمه . ثم صرح بأن له الحمد في الآخرة تفضيلاً لنعم الآخرة على نعم الدنيا وإيذاناً بأنها هي النعمة الحقيقية التي يحق أن يحمد عليها ويثنى عليه ن أجلها مع إفادة الاختصاص بتقديم الظرف { وهو الحكيم } في الابتداء { الخبير } بالانتهاء . ثم أكد علمه بقوله { يعلم ما يلج في الأرض } أي يدخل فيها من المياه والحبات والكنوز والأموات { وما يخرج منها } من الشجر والنبات ومياه الآبار والجواهر والمعدنيات { وما ينزل من السماء } من الأمطار والأرزاق وأنواع البركات والوحي { وما يعرج فيها } من الملائكة وأعمال العباد .

وقد اشار بقوله { فيها } دون أن يقول « إليها » إلى أن الأعمال الصالحة مقبولة والنفوس الزكية واصلة ، قد ينتهي الشيء إلى الشيء ولا ينفذ فيه ولا تصل به { وهو الرحيم } حين الإنزال { الغفور } وقت عروج الأعمال للمفرطين في الأقوال والأفعال . ثم بين أن نعمة الآخرة بإتيان الساعة الآخرة قد ينكرها قوم ثم رد عليهم بقوله { بلى } وأكد ذلك بقوله { وربي } ثم برهن على ذلك بقوله { عالم الغيب } لأن العالم بجميع الأشياء عالم بأجزاء الأحياء قادر على جمعها كما بدأها . وفي قوله { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } إشارة إلى أن الإنسان له جسم أرضي وروح سماوي ، فالعالم بما في العالمين القادر على تأليفهما قادر على إعادتهما على ما كانا عليه . وإنما ذكر الأكبر مع أن الأصغر هو اللائق بالمبالغة لئلا يتوهم متوهم أن الصغار تثبت لكونها تنسى أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، بل المراد أن الصغير والكبير مثبت في الكتاب وقد مر نظيره في « يونس » . وقدم السموات على الأرض موافقة لقوله { له ما في السموات وما في الأرض } بخلاف « يونس » فإن المخاطبين في الأرض فقدمت . ثم ذكر غاية الإعادة بقوله { ليجزي } إلى قوله { من رجز أليم } ومعنى { سعوا في آياتنا } أي في إبطال آياتنا معاجزين مريدين تعجيز النبيّ في التقرير والتبلي ، أو يعجزون من آمن بنا . وقيل : أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا . وقال ابن زيد : جاهدين وهو قولهم { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [ فصلت : 26 ] وعن قتادة : الرجز سوء العذاب . وحين بين جزاء المؤمن الصالح وعمله والمكذب الساعي العجز علم منه حال غيرهما ، فالمؤمن الذي لم يعمل صالحاً يكون له مغفرة من غير رزق كريم ، والكافر غير المعاند يكون له عذاب وإن لم يكن من أسوأ أنواعه . ثم بين أن الذين أوتوا العلم لا يغترون بشبهات أهل العناد ويرون ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ليس الحق إلا هو والنزاع غير لفظي حتى يمكن تصحيح قول المعاند بوجه . وأولو العلم هم اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم : وقيل : هم علماء أهل الكتابين الذين أسلموا . ويرى من فعل القلب مفعولاه الذي مع صلته والحق وهو فصل . وقيل : إن { يرى } معطوف على { ليجزي } فلا وقف على { أليم } أي ويعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على المعاند ، أو وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة . والعزيز إشارة إلى كونه منتقماً من الساعين في التكذيب ، والحميد إشارة إلى أنه يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحاً ، وقدم صفة الهيبة لأن الكلام مع منكري البعث .

ثم قص عناد أهل قريش وخصهم بالتعجيب من حالهم لأنهم تجاهلوا حين قالوا على رجل مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم أظهر من الشمس قصدوا بذلك الطعن والسخرية فأخرجوا الكلام مخرج الحكاية ببعض الأضاحيك والأعاجيب كأن لم يكونوا قد عرفوا منه إلا أنه رجل ما .
ومعنى { مزقتم كل ممزق } فرقت أوصالكم كل تفريق وجوّز جار الله أن يكون اسم مكان فمن الأموات ما حصل أجزاؤه في بطون الطير والسباع ، ومنها ما مرت به السيول فذهب به كل مذهب أو سفته الرياح فطرحته كل مطرح . والعامل في « إذا » ما دل عليه قوله { إنكم لفي خلق جديد } وهو تبعثون أو تخلقون ، ثم ازدادوا في التجاهل قائلين { افترى على الله كذبا } إن كان يعتقد خلافه { أ به جنة } إن كان لا يعتقد خلافه . وفيه أن الكافر لا يرضى بالكذب البحت فيردد كلامه بين الأمرين ولكن أخطأ ابن أخت خالته حين ترك قسماً ثالثاً وهو أنه عاقل صادق فلذلك ردّ الله عليهم بقوله { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } جعل وقوعهم في العذاب رسلاً لوقوعهم في الضلال إذ العذاب من لوازم الظلال وموجباته قابل قولهم { أفترى } بالعذاب وقولهم { به جنة } بالضلال البعيد لأن نسبة الجنون إلى العاقل أقل في باب الإيذاء من نسبة الافتراء إليه . وقد أسقطت همزة الوصل في قوله { أفترى } استثقالا لاجتماع همزتين : همزة الاستفهام المفتوحة وهمزة الوصل المكسورة وهو على القياس . وجوز بعضهم أن يكون هذا الاستفهام من كلام السامع المجيب لمن قال : هل ندلكم . وحين قرر دليل الحشر من جهة كونه علام الغيوب أراد أن يذكر دليلاً آخر على ذلك من قبل كمال قدرته فقال { أفلم يروا } معناه أعموا فلم ينظروا ، خصت بالفاء وليس غيره في القرآن تعجيلاً للجواب وتعقيباً لحل الشبهة نظيره قوله { أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } [ يس : 81 ] ثم هدّدهم بأنه قادر على أن يجعل عين النافع ضاراً بالخسف وإسقاط الكسف . وقال جار الله : أراد فلم ينظروا إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن يخرجوا من أقطارهما فلم يخافوا أن يخسف الله بهم ، أو يسقط عليهم كسفاً لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة . { إن في ذلك } النظر والاعتبار { لآية لكل عبد منيب } لأن الراجع إلى ربه قلما يخلو من الاعتبار والاستبصار . ثم ذكر من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في « ص » { فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] وقال في سليمان { وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب } [ ص : 34 ] وفي قوله { منا } تنويه بالفضل وشأنه .

ثم بين الفضل بقوله { يا جبال أوّبي } لأن هذا القول نوع من إيتاء الفضل ، ويجوز أن يكون التقدير : قلنا يا جبال أوّبي أي رجعي معه التسبيح . قيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير باصدائها ، وقد مر تحقيقه في سورة الأنبياء . والتأويب السير طول النهار والنزول ليلاً فكأنه قال : أوّبي النهار كله بالتسبيح معه . وفي خطاب الجماد إشعار بأنه ما من صامت ولا ناطق إلا وهو منقاد لمشيئته . وقد ألان الله له الحديد كالشمع أو لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة . و « أن » في قوله { أن أعمل } مفسرة لأن إلانة الحديد له في معنى الأمر بأن يستعمل . { سابغات } أي دروعاً واسعة وهي من الصفات التي غلبت عيها الاسمية حتى ترك ذكر موصوفها . والسرد نسج الدروع ومعنى التقدير فيه أن لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتفصم الحلق . يروى أنه كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكراً فيسال الناس عن نفسه ويقول لهم : ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه فقيض الله تعالى ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه . فخاف داود فسأله فقال : لولا أنه يطعم عياله من بيت المال فطلب عند ذلك من الله أن يغنيه عن أكل بيت المال فعلمه صنعة اللبوس . وإنما اختار له ذلك لأنه وقاية للروح ويحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزرّاد خير من القوّاس والسياف . وقيل : إن التقدير في السرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب يكون بقدر الحاجة إلى القوت وباقي اليوم والليلة للعبادة بدليل قوله { واعملوا صالحاً } اي لستم يا آل داود مخلوقين إلا للعمل الصالح فأكثروا منه وأما كسب القوت فاقتصدوا فيه . ثم أكد الفعل الصالح بقوله { إني بما تعملون بصير } فإن من يعلم أنه بمرأى من الملك اجتهد في حسن العمل وتزكية الباطن .
ثم ذكر المنيب الآخر وهو سليمان ، وحكى ما استفاد هو بالإنابة وهو تسخير الريح له كالمملوك المنقاد لأمره { غدوّها شهر } أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك . يروى أن بعض أصحاب سليمان كتب في منزل بناحية دجلة : نحن نزلناه وما بنيناه ، ومبنياً وجدناه غدونا من اصطخر فقلناه ، ونحن رائحون منه وبائتون بالشام إن شاء الله . ومن جملة معجزاته إسالة عين القطر ، والقطر النحاس أساله لأجله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سماه عين القطر . روي أنه كان يسيل في شهر ثلاثة أيام . زعم بعض المتحذلقين أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء بحمده وكان هو عليه السلام يففقه تسبيحهم فيسبح .

والمراد من تسخير الريح أنه راض الخيل وهو كالريح . وقوله { غدوها شهر } أي ثلاثون فرسخاً لأن الذي يخرج للتفرج لا يسير في العادة أكثر من فرسخ ثم يرجع . والمراد بإلانة الحديد وإسالة القطر أنهم استخرجوا الحديد والنحاس بالنار واستعمال آلاتها . والمراد بالشياطين ناس أقوياء . ولا يخفى ضعف هذه التأويلات فإن قدرة الله في باب خوارق العادات أكثر وأكمل من أن تحتاج إلى هذه التكلفات . وقال في التفسير الكبير : الجبال لما سبحت تشرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب ، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة . أو نقول : الجبل في السير ليس أصلاً بل هو يتحرك معه تبعاً ، والريح لا تتحرك مع سليمان بل تتحرك مع نفسها فلم يقل الريح مع سليمان بل سليمان كان مع الريح . وههنا نكتة وهي أن اله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان . لعله كالمصروف عن جهته تأمل فالجبال المسخرة لداود من جس تسخير الريح لسليمان : إذ كل منهما ثقيل مع خفيف ، فالجبال أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح . وأيضاً تسخير الطير من جنس الجن فإن الطير تنفر من الآدمي والآدمي يتقي مواضع الجن والجن تطلب ابداً اصطياد الناس والإنسان يطلب اصطياد الطير . وإلانة الحديد شبيهة بإسالة القطر . وفي قوله { بإذن ربه } إشارة إلى أن حضور الجن بين يديه كان مصلحة له لا مفسدة . وفي قوله { عن أمرنا } دون أن يقول « عن أمر ربه » إشارة إلى أن الجن كانوا بصدد التعذيب عند زيغهم عن أمر الله ، فإن لفظ الرب ينبئ عن الرحمة ، وصيغة جمع المتكلم في مقام الوحدة ينبئ عن الهيبة . قال ابن عباس : عذاب السعير عذاب الآخرة . وعن السدي : كان معه ملك بيده سوط من النار كلما استعصى عليه الجنيّ ضربه من حيث لا يراه الجني . ثم فصل عمل الجن بقوله { يعملون له ما يشاء من محاريب } وهي المساجد والمجالس الرفيعة الشريفة المصونة عن الابتذال وقد مر في « آل عمران » . والتماثيل صور الملائكة والنبيين كان يأمر بأن تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم . عن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور في تلك الشرائع محرماً ولعلها صور غير الحيوان من الأشجار ونحوها . ويروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . وحين فرغ من تقرير مسكنه ونقوشه شرع في تقرير آلات مجلسه فقدم ذكر الجفان التي بها تظهر عظمة السماط الممدود منه . والجفنة القصعة الكيبرة ، والجوابي الحياض الكبار ، لأن الماء يجبى فيها اي يجمع جعل الفعل لها مجازاً وهي من الصفات الغالبة كالدابة ، وكان يقعد على الجفنة ألف رجل .

وحين ذكر الجفان كان يقع في النفس أن هذه الأطعمة كيف تكون قدروها فذكر أنها قدور راسيات تابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها . ويعلم من تقرير قصتي داود سليمان أن اشتغال داود بآلة الحرب أكثر لأنه قتل جالوت ، ثم أراد تسوية الملك والغلبة على الجبابرة ، وأما في زمن سليمان فالملك قد استوى ولم يكن على وجه الأرض أحد يقاومه وكان يفرق الأموال في الإطعام والإنعام .
ثم بين بقوله { اعملوا آل داود شكراً } أن الدنيا عرض زائل وإن كان ملك سليمان فعلى العاقل أن يصرف همته في طلب الآخرة . وانتصب { شكراً } على أنه مفعول له أو حال أي شاكرين ، أو مصدراً لأن { اعلموا } في معنى الشكر ، أو مفعول به لأن الشكر عمل صالح . وقال جار الله : إنه على طريق المشاكلة ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً . قلت : وفي لفظ العمل إشارة إلى أن الشكر اللساني غير كافٍ وإنما المعتبر الشكر الفعلي أو هو مع القولي . يروى أن داود عليه السلام جزّاً ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي . والشكور هو المتوفر على آداء الشكر الباذل وسعه فيه بالقلب واللسان والجوارح في أكثر الأوقات والأحوال وإنهم لقليل فلذلك قال بعضهم : اللهم اجعلني من الأقلين . وهذا الشكر القليل إنما هو بقدر الطاقة البشرية وأما الذي يناسب نعم الله فلن يقدر الإنسان عليه إلا أن يقول الله : عبدي ما أتيت به من الشكر قبلته منك مع قلته وكتبتك شاركاً لأنعمي بأسرها ، وهذا القول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها . وحين بين عظمة سليمان وتسخير الريح والجن له ، بين أنه لم ينج من الموت وأنه قضى عليه الموت ولو نجا أحد منه لكان نبي الله أولى بذلك . يروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس فمات قبل أن يتمه ، فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه ، وكان من عادته أن يعتكف فيه أحياناً . فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله عز وجل فيسألها لأي شيء أنت؟ فتقول : لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها لأيّ شيء أنت؟ فقالت : لخراب هذا المسجد . فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ . فقال : اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب . وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني . فقال : مرت بك وقد بقيت في عمرك ساعة . فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب؟ فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض روحه فبقي كذلك وظن جنوده أنه في العبادة فكانوا يواظبون على الأعمال الشاقة إلى أن أكلت الأرضة عصاه فخرّ ميتاً وذلك بعد سنة .

والأرض مصدر أرضت الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرضة . والمنسأة العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر ، وقديترك همزها . وقرئ { من سأته } أي طرف عصاه سميت بسأة القوس على الاستعارة . وتبينت بمعنى ظهرت « وأن » مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال على نحو قولك « تبين زيد جهله » أو هو بمعنى علمت أي علم الجن كلهم بعد التباس الأمر على عامتهم أن كبارهم لا يعلمون الغيب وكان ادعاؤهم ذلك من قبل زوراً . أو المراد التهكم بهم وأن الذين ادعّوا منهم علم الغيب اعترفوا بعجزهم مع أنهم كانوا من قبل عارفين عجزهم كما لو قلت لمدعي الباطل إذا دحضت حجته : هل تبينت أنك مبطل . وأنت تعلم أنه لم يزل متبيناً لذلك . وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة ، ملك وهو ابن ثلاث عشرة وبقي في ملكه إلى أن مات ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه . ولما بين حال الشاكرين لأنعمه ذكر حال من كفر النعمة . وسبأ بصرف بناء على أنه اسم للحي أو الأب الأكبر ، ولا يصرف بتأويل القبيلة وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . ثم سميت مدينة مأرب بسبأ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث . من قرأ { مساكنهم } فظاهر . ومن قرأ على التوحيد فالمراد مسكن كل واحد منهم أو موضع سكانهم وهو بلدهم وأرضهم . عن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام . ومعنى كون الجنيتن آية أنه جعل قصتهما عبرة لأهل الكفران ، أو علامة دالة على الصانع وكمال اقتداره ووجوب شكره . قال جار الله : لم يرد بستانين اثنين فحسب وإنما أراد جماعيتن من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها ، كأن كل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها جنة واحدة ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كقوله { جعلنا لأحدهما جنيتن من أعناب } [ الكهف : 32 ] .
وقوله { كلوا من رزق } حكاية لسان الحال أو لسان الأنبياء المبعوثين إليهم وهم ثلاثة عشر نبياً على ما روي . وفيه إشارة إلى كمال النعمة حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض . وكذا قوله { واشكروا له } لأن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة . وكذا قوله { بلدة طيبة } اي عن المؤذيات من لعقارب والحيات وسائر الهوام والحشرات ، أو المراد أنها ليست بسبخة كقوله { والبلد الطيب } [ الأعراف : 58 ] { ورب غفور } أي ربكم الذي رزقكم فطلب شكركم غفور لمن يشكره بقدر طاقته لا يؤاخذه بالتقصير في أداء حق الشكر إذا توجه عليه الشكر وبذل وسعة فيه ، أو أراد غفران سائر الذنوب فكأنه وعدهم سعادة الدارين . وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد .

وحين بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم وهو قوله { فأعرضوا } أي عن الشكر . ثم ذكر جزاءهم بقوله { فأرسلنا عليهم سيل العرم } وهو الجرذ . يروى أن بلقيس الملكة عمدت إلى جبال هناك فسدّت ما بينها من الشعب بالصخر والقار فحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقاً لها أبواب مترتبة بعضها فوق بعض على مقدار ما يحتاجون إليه في سقي أراضيهم ، فلما طغوا سلط الله على سدّهم الخلد فثقبه من أسفله . وقيل : العرم جمع عرمة وهي الحجارة المركوزة والمراد بها المسناة التي عقدوها سكراً . وقيل : العرم اسم الوادي : وقيل : المطر الشديد . والتركيب يدل على الشكاسة وسوء الخلق ومنه قولهم « صبي عارم » من العرام بالضم أي شرس . ومن ذلك « عرمت العظم » عرقته و « عرمت الإبل الشجر » نالت منه { ذواتي أكل } صاحبتي ثمر . والقياس ذاتي إلا أن المستعمل في التثنية هو الجمع . والخمط شجر الأراك . ابو عبيدة : كل شجر ذي شوك . الزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتى لا يمكن أكله . والأثل نوع من الطرفاء وهو من أحسن أشجار البادية فلذلك وصفه ههنا بالقلة . عن الحسن : قلل السدر لأنه أكرم ما بدّلوا ، والتحقيق فيه أن البساتين إذا عمرت كل سنة ونقيت من الحشائش كانت ثمارها زاكية وأشجارها عالية ، فإذا تركت سنين صارت كالغيضة والأجمة والتفت الأشجار بعضها ببعض فيقل الثمر وتكثر الحشائش والإشجار ذوات الشوك على أنه لا يبعد التبديل تحقيقاً فيكون شبه المشخ . من قرأ { أكل خمط } بالإضافة فظاهر ، ومن قرأ بالتنوين فعلى حذف المضاف أي أكل أكل خمط ، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشع . وتسمية البدل جنتين لأجل المشاكلة أو التهكم . قال في الكشاف : الأثل والسدر معطوفان على { أكل } لا على { خمط } لأن الأثل لا أكل له { ذلك } الإرسال والتبديل { جزيناهم بما كفروا } النعمة وغمطوها { وهل مجازي } مثل هذا الجزاء وهو العقاب العاجل { ألا الكفور } قال بعضهم : المجازاة في النقمة والجزاء في النعمة إلا إذا قيد كقوله سبحانه { جزيناهم بما كفروا } وقال جار الله : الجزاء عام لكل مكافأة يستعمل في المعاقبة تارة وفي الإثابة أخرى ، فلما استعمل أوّلاً في معنى المعاقبة استعمل ثانياً على نحو ذلك . وقيل : إن المجازاة مفاعلة وهي في الأكثر تكون بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر ، ففي النعمة لا يكون مجازاة لأن الله مبتدئ بالنعم . وحين ذكر حال مسكنهم وجنتيهم وحكى تبديل الجنتين بما لا نفع فيه أراد أن يذكر حال خارج بلدهم وما يؤل إليه أمره فقال { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } وهي قرى الشام { قرى ظاهرة } متواصلة يرى من كل منها ما يتلوها لتقاربها ، أو ظاهرة للسابلة لكونها على متن الطريق .

{ وقدرنا فيها السير سيروا } فيقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في أخرى ، فمنازل ما بين تلك القرى مقدّرة ومعلومة لا يجوزها المسافر عرفاً بخلاف المفاوز فإن السائر يسير فيها بقدر طاقته حتى يقطعها . ثم بين أمن تلك الطريق بقوله { سيروا } أي قلنا لهم سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار . قال أهل البيان : لا قول ثمة ولكنهم مكنوا من السير بتهيئة أسبابه من وجدان الزاد والراحلة وعدم المخاوف والمضارّ فكأنهم أمروا بذلك . والمقصود من ذكر الليالي والأيام تقرير كمال الأمن ولذلك قدمت الليالي فإنها مظنة الآفات . ويمكن تقرير الأمن بوجه آخر وهو أن يقال : سيروا فيها وإن تطاولت مدّة سفركم فيها وامتدت أياماً وليالي ، أو يراد بالليالي واليام مدّة أعمارهم أي سيروا فيها مدّة عمركم فإنكم لا تلقون إلا الأمن .
ثم حكى أنهم سئموا العيش الهنيء وملوا الدعة والراحة كما طلب بنو إسرائيل البصل والفوم مكان المن والسلوى { فقالوا ربنا باعد بين اسفارنا } أرادوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزوّدوا الأزواد قائلين : لو كان جني جناتنا ابعد كان أشهى وأرغد . ويحتمل أن يكون لفساد اعتقادهم وشدّة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره : اضربني مشيراً بذلك إلى أنه لا يقدر عليه . ومن قرأ على الابتداء والخبر فالمراد استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم { وظلموا أنفسهم } بوضع الكفر موضع الشكر { فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق } فرقناهم كل تفريق لا جرم اتخذ الناس حالهم مثلاً قائلين « ذهبوا أيدي سبأ » اي في طرق شتى . واليد في كلام العرب الطريق يقال : سلك بهم يد البحر . وقيل : الأيادي الأولاد لأنه يعضد بهم كما بالأيدي . والمعنى ذهبوا تفرق أولاد سبأ فلحق غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان { إن في ذلك } الجعل والتمزيق { لآيات لكل صبار } عن المعاصي { شكور } للنعم أو صبار على النعم حتى لا يلحقه البطر شكور لها برعاية حق الله فيها . ثم أخبر عن ضعف عزم الإنسان بقوله { ولقد صدّق عليهم } أي على بني آدم لقرينة الحال . وقيل : على أهل سبأ وظن إبليس هو قوله { لأغوينهم } [ الحجر : 39 ] أو قوله { أنا خير منه } [ ص : 76 ] بدليل قوله { فاتبعوه } والمتبوع خير من التابع . ولا ريب أن الكافر أدون حالاً من إبليس لأنه خالف أمر الله في سجدة آدم والكافر يجحد الصانع أو يشرك به . ثم بين قوله { وما كان له } أن الشيطان ليس بملجئ ولكنه آية وعلامة يتميز به ما هو السابق في علمه من المقرّ والشاك . والحفيظ المحافظ ويدخل في مفهوم الحفظ العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه وكذا العاجز .
التأويل : { يعلم ما يلج } في أرض البشرية بواسطة الحواس والأغذية الحلال والحرام { وما يخرج منها } من الصفات المتولدة منها .

{ وما ينزل } من سماء القلب من الفيوض والإلهامات { وما يعرج فيها } من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من سماء القلب وارض النفس ، نخسف بهم أرض البشرية بغلبات صفاتها أو يغلب عليهم صفة من صفات القلب بالميل إلى الإفراط فنهلكهم بها كالسخاوة فإنها صفة حميدة لكنها إذا جاوزت حدّ الاعتدال صارت ذميمة { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } [ الإسراء : 27 ] { يا جبال أوبي } قد مر تأويله في سورة الأنبياء { وقدّر في السرد } وهو المتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس { ولسليمن } القلب سخرت ريح العناية وذلك أن مركب القلوب في السير هو الجذبة الإِلهية كما أن مركب البدن في المسير البدن . يروى أن سليمان في سيره لاحظ ملكه يوماً فمال الريح ببساطه فقال سليمان للريح : استو قالت الريح : استو أنت فإني لا أكون مستوية حتى تستوي أنت . كذلك حال السر مع القلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [ الرعد : 11 ] { وأسلنا له عين القطر } الحقائق والمعاني وسخرنا له صفات الشيطنة لتعمل بين ديه على وفق أوامر الله ونواهيه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم « شيطاني اسلم على يدي فلا يأمرني إلا بالخير » { من محاريب } وهو كل ما يتوج إلى الله به بخاصية الإباء والاستكبار وأنفة السجود لغير الله ، ولو وكل القلب والروح إلى خاصية الروحانية التي جبل الروح عليها ما كان يرغب في العبور عن مقام الروحانية كالملائكة . قال جبرائيل عليه السلام : لو دنوت أنملة لاحترقت . { وجفان كالجواب } فيه إشارة إلى مأدبة الله التي أكل منها الأنبياء والأولياء إذ يبيتون عنده { اعملوا آل داود } وهم متولدات الروح فشكر البدن استعمال الشريعة بجميع الأعضاء والحواس ، وشكر النفس بإقامة شرائط التقوى والورع ، وشكر القلب بمحبة الله وحده ، وشكر السر المراقبة ، وشكر الروح بذل الوجود على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمعة ، وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة مخفياً بنور الوحدة عن نفسه . فالعوام شكرهم بالأقوال ، والخواص شكرهم بالأعمال ، وخواص الخواص شكرهم بالأحوال من الاتصاف بصفة الشكورية التي تعطي على عمل . فإن عشرة ثواب باقٍ ولذلك وصفهم بالقلة { تاكل منسأته } اتكأ سليمان على عصاه فبعث الله أخس دابة لإبطال متكئه وجعله سبباً لزوال ملكه وفوات روحه وكان قبل متكئاً على فضل الله فآتاه ما لم يؤت أحداً من خلقه { لقد كان لسبأ } السر { جنتان } جنة الروح عن يمين السر وجنة القلب عن شمال السر { بلدة طيبة } هي بلدة الإنسانية القابلة لبذر التوحيد { ورب غفور } يستر العيوب { فأعرضوا } عن الوفاء وأقبلوا على الجفاء { فأرسلنا عليهم سيل } سطوات { العرم } قهرنا { وبدلناهم بجنتيهم } الشجرتين بأشجار الأخلاق الحميدة { جنيتن } من الأوصاف الذميمة { وهل نجازي } وهل يكون للأشجار الخبيثة إلا الأثمار الخبيثة . { قرى ظاهرة } منازل السالكين ومقامات العارفين من التوبة والزهد والتوكل والتزكية والتحلية . وقلنا لهم سيورا في ليالي البشرية وايام الروحاينة { آمنين } في حيازة الشريعة فطلبوا البعد عن الله بالميل إلى ما سواه ففرقناهم في أودية الهلاك ودركات البعد . { وما كان له عليهم من سلطان } فيه أن الشيطان إنما سلط على بني آدم لاستخراج جواهر النفوس من معادنها .


قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

القراآت : { أذن له } على البناء للمفعول : أبو عمرو وعي وخلف والأعشى والبرجمي { فزع علي } البناء للفاعل : ابن عامر ويعقوب { جزاء } بالنصب { الضعف } مرفوعاً : يعقوب { في الغرفة } على التوحيد : حمزة { يحشرهم } { ثم يقول } على الغيبة فيهما : حفص ويعقوب . الباقون : بالنون { ثم تفكروا } بتشديد التاء : رويس { أجري إلا } بفتح الياء : ابو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص { ربي إنه } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو : { التناؤش } مهموزاً : ابو عمرو وحمزة وخلف وعاصم سوى حفص والشموني والبرجمي . { حيل } بضم الحاء وكسر الياء : ابن عامر وعلي ورويس .
الوقوف : { من دون الله } ج لاحتمال الجملة بعده حالاً واستئنافاً { ظهير } 5 { أذن له } ط { الحق } ط { الكبير } 5 { والأرض } ط { قل الله } لا لاتصال المقول { مبين } 5 { تعملون } 5 { بالحق } ط { العليم } 5 { كلا } ط { الحكيم } 5 { لا يعلمون } 5 { صادقين } 5 { ولا تستقدمون } 5 { بين يديه } ط { عند ربهم } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً وهذا أوجه { القول } ج لمثل ذلك { مؤمنين } 5 { مجرمين } 5 { أنداداً } ط { العذاب } ط { كفروا } ط { يعملون } 5 { كافرونه } 5 { بمعذبين } 5 { لا يعملون } 5 { صالحاً } ز أن أولئك مبتدأ مع الفاء { آمنون } 5 { محضرون } 5 { ويقدر له } 5 { يخلفه } ج لعطف الجملتين المختلفتين { الرازقين } 5 { يعبدون } 5 { من دونهم } ج لتنويع الكلام مع اتحاد المقول { الجن } ج لذلك { مؤمنون } 5 { ضراً } ط { تكذبون } 5 { آباؤكم } ج للعطف مع طول الكلام والتكرار { مفترى } ط { مبين } 5 { من نذير } 5 { نكير } 5 { بواحدة } ج لأن ما بعده بدل أو خبر أي هي أن تقوموا { من جنة } ط { شديد } 5 { لكم } ط { الله } ج { شهيد } 5 { بالحق } ج لاحتمال أن ما بعده بدل من الضمير في يقذف أو خبر أي هو علام { الغيوب } 5 { بعيد } 5 { على نفسي } ج لعطف جملتي الشرط { ربي } ط { قريب } 5 { قريب } لا لأن ما بعده معطوف على { أخذوا } : { آمنا به } ط لاحتمال كون الجملة الاستفهامية مبتدأ بها أو حالاً { بعيد } 5 لا للآية ولاحتمال الاستئناف والحال بعده والعامل معنى الفعل في التناوش { من قبل } ج للعطف على كفروا بناء على أنه حال ماضية أو للاستئناف اي وهم يقذفون { بعيد } 5 { من قبل } ط { مريب } 5 .
التفسير : لما فرغ من حكاية أهل الشكر وأهل الكفران تمثيلاً عاد إلى مخاطبة كفار قريش وتقريعهم . ومفعولاً زعم محذوف أي زعمتموهم آلهة ، وسبب حذف الأوّل استحقاق عوده إلى الموصول ، وسبب حذف الثاني إقامة الصفة وهي { من دون الله } مقام الموصوف . وتفسير الآية مبني على تفصيل وهو أن مذاهب أهل الشرك اربعة : أحدها قولهم إنا نعبد الملائكة والكواكب التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم فالله تعالى قال في إبطال قولهم أنهم لا يملكون في السموات شيئاً كما اعترفتم ، ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم أن الأرض والارضيات في حكمهم .

وثانيها قول بعضهم إن السموات من الله على سبيل الاستقلال ، وإن الأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب واتصالاتها وانصرافاتها فأبطل معتمد هؤلاء بقوله { وما لهم فيهما من شرك } أي الأرض كالسماء لله لغيره فيها نصيب . وثالثها قول من قال : التركيبات والحوادث كلها من الله لكن فوض ذلك إلى الكواكب وإعانتها فأشار إلى إبطال معتقد هؤلاء بقوله { وما له منهم من ظهير } ورابعها مذهب من زعم أنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فبين بطلان مذهبهم بقوله { ولا تنفع الشفاعة } قال جار الله : تقول الشفاعة لزيد على أنه الشافع وعلى معنى أنه المشفوع له أي لا تنفع الشفاعة { إلا } كائنة { لمن أذن له } من الشافعين أو إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله . و « حتى » غاية لمضمون الكلام الدال على انتظار الإذن كأنه قيل : يتربصون ويقفون ملياً فزعين { حتى إذا فزع } أي كشف الفزع في القيامة عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضاً { ماذا قال ربكم قالوا } قال { الحق } أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى ، يريد هذا التفسير قول ابن عباس عن النبي « فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة » والتشديد للسلب والإزالة على نحو « قردته وجلدته » أي أزلت قراده وسلخت جلده . وقيل : إن « حتى » على هذا التفسير متعلق بقوله { زعمتم } أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق . ومنهم من ذهب إلى أن التفزيع غاية الوحي المستفاد من قل فإنه عند الوحي يفزع من في السموات كما جاء في حديث « إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيه جبرائيل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبرائيل ماذا قال ربكم؟ فيقول الحق » أي يقول الحق الحق . وقيل : أراد بالفزع أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فزع من في السموات من القيامة لأن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم من أشراطها فلما زال عنهم ذلك قالوا : ماذا قال الله؟ قال جبرائيل وأتباعه : الحق . وقيل : إنه الفزع عند الموت يزيله الله عن القلوب فيعرف كل أحد أن ما قال الله هو الحق فينتفع بتلك المعرفة أهل الإيمان ولا نيتفع بها أهل الكفر . وحين بين بقوله { قل ادعوا } أنه لا يدفع الضر إلا هو أشار بقوله { قل من يرزقكم } إلى أن جلب النفع لا يكمل إلا به .

وههنا نكتة هي أنه قال في دفع الضر { قالوا الحق } وفي طلب النفع قال { قل الله } تنبيهاً على أنهم في الضراء مقبلون على الله معترفون به ، وفي السراء معرضون عنه غافلون لا ينتبهون إلا بمسه . وقوله { وإنا أو إياكم } من الكلام المنصف الذي يتضمن قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا . وفي تخالف حرفي الجر في قوله { لعلى هدى أو في ضلال } إشارة إلى أن أهل الحق راكبون مطية الهدى مستعلون على متنها ، وأن أهل الباطل منغمسون في ظلمة الضلال لا يدرون أين يتوجهون . وإنما وصف الضلال بالمبين وأطلق الهدى لأن الحق كالخط المستقيم واحد ، والباطل كالخطوط المنحنية لا حصر لها فبعضها أدخل في الضلالة من بعض وابين .
وقوله { عما أجرمنا } إلى قوله { عما تعملون } أبلغ في سلوك طريقة الإنصاف حيث أسند الإجرام وهو الصغائر والزلات أو هي مع الكبائر إلى أهل الإيمان ، وعبر عن إجرام أهل الكفر بلفظ عام وهو العمل . وفيه إرشاد إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها ، وإذا قال أحد المناظرين للآخر : أنت مخطئ أغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر ، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض . ومعنى الفتح الحكم والفصل بين الفريقين بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . وحين حث في الآية الأولى على وجوب النظر من حيث إن كل أحد يؤاخذ بجرمه ولو كان البريء أخذ بالمجرم لم يكن كذلك ، أكد ذلك المعنى بالآية الثانية فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب فكيف إذا كان يوم عرض وحساب . وفي قوله { العليم } إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا كحكم من يحكم بمجرد الغلبة والهوى . ولما بين أن غير الله لا يعبد لدفع الضر ولا لجلب النفع أراد أن يبين أن غير الله لا ينبغي أن يعبد لأجل استحقاق العبادة فإنه لا مستحق للعبادة إلا هو . ومعنى { اروني } وكان يعرفهم ويراهم الاستخفاف بهم والتنبيه على الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله أو اراد أعلموني بأي صفة الحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء ف { شركاء } نصب على الحال والعائد محذوف و { كلا } ردع لهم عن مذهبهم بعدما كسده بإبطال المقايسة وردّ الإلحاق . ثم زاد في توبيخهم بقوله { بل هو الله العزيز الحكيم } كأنه قال : اين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات فإن الإله لا يمكن أن يخلو عن القدرة الكاملة والحكمة الشاملة . وهو يحتمل أن يكون ضمير الشأن . وحين فرغ من التوحيد شرع في الرسالة . ومعنى { كافة } عامة لأن الرسالة إذا شملتهم قد منعتهم أن يخرج أحد منهم والكف المنع وكافة صفة لرسالة . وقال الزجاج : التاء للمبالغة كتاء الراوية والعلامة وإنه حال من الكاف أي أرسلناك جامعاً للناس في الإبلاغ والتبشير والإنذار ، أو مانعاً للناس من الكفر والمعاصي .

وبعض النحويين جعله حالاً من الناس وزيف بأن حال المجرور لا يتقدم عليه . ومن هؤلاء من جعل اللام بمعنى « إلى » لأن أرسل يتعدى بإلى فضوعفت تخطئته بأن استعمال اللام بمعنى . « إلى » ضعيف ، ولا يخفى أن ثاني مفعولي { ارسلنا } على غير هذا التفسير محذوف والتقدير : وما أرسلناك إلى الناس إلا كافة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم . وحين ذكر الرسالة بين الحشر وذكر أنهم استعجلوه تعنتاً منهم فبين على طريق التهديد أنه لا استعجال فيه كما لا إمهال وهذا شأن كل أمر ذي بال . قال جار الله { ميعاد يوم } كقولك « سحق عمامة » في أن الإضافة للتبيين يؤيده قراءة من قرأ { ميعاد يوم } بالرفع فيهما فأبدل منه اليوم . وفي إسناد الفعل إليهم بقوله { لا تستأخرون عنه } دون أن يقول لا يؤخر عنكم زيادة تأكيد لوقوع اليوم . ولما بين الأصول الثلاثة : التوحيد والرسالة والحشر ، ذكر أنهم كافرون بالكل قائلين { لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل . يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع الكتب . وقيل : الذين كفروا عام والذي بين يديه يوم القيامة وما جاء ذكره في القرآن من تفاصيل الحشر وغيرها ، وأن أهل الكتاب لو صدّقوا بشيء من ذلك فليس لأجل مجيئه في القرآن ولكن لمجيئه في كتبهم . وحين وقع اليأس من إيمانهم بقولهم { لن نؤمن } وعد نبيه بأنه سيراهم على أذل حال موقوفين للسؤال متجاذبين أهداب المراجعة كما يكون حال جماعة أخطأوا في تدبير أمره وجواب « لو » محذوف أي لقضيت العجب . وبدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ . وفي قوله { لولا أنتم } إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى فن الرسول قد جاء ولم يقصر في الإبلاغ . ثم ذكر جواب المستكبرين وهم الرؤوس والمتبوعين على طريقة الاستئناف . وفي إيلاء الاسم وهو نحن حرف الإنكار إثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عن الهدى بكسب منهم واختيار وأن المانع لم يكن راجحاً على المقتضى ولا مساوياً له وأكدوا ذلك بقولهم { بل كنتم مجرمين } أي إنكم أنتم الذين أطعتم أمر الشهوة فكنتم كافرين ولم يكن منا إلا التسويل والتزيين .
ثم عطف قولاً آخر للمستضعفين على قولهم الأول . والإضافة في { مكر الليل والنهار } من باب الاتساع بإجراء الظرف مجرى المفعول به وأصل الكلام : بل مكرهم في الليل والنهار . أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي ، فالأول اتساع لفظي ، والثاني معنوي .

أبطلوا إضرابهم بإضرابهم قائلين : ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا مستمراً دائماً دائباً ليلاً ونهاراً . وقدم الليل لأنه أخفى للمكر والويل . وقرئ { مكرّ الليل } بالتشديد أي سبب ذلك أنكم تكرّون الإغواء مكراً دائباً . والمعنى : ما أنتم بالصارف القطعي والمانع القويّ ولكن انضم إلى ذلك طول المدة فصار قولكم جزء السبب . وفي قوله { أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً } إشارة إلى أن الشرك وإن كان مثبتاً لله في الظاهر ولكنه نافٍ له على الحقيقة لأنه جعل مساوياً للصنم . ويجوز أن يكون كل منهما قول طائفة فبعضهم كانوا مأمورين بجحد الصانع وبعضهم بالإشراك به . وتفسير قوله { واسروا الندامة لما رأوا العذاب } مذكور في سورة يونس . والضمير يعود إلى جنس الظالمين الشامل للمستضعفين وللمستكبرين . وقوله { في أعناق الذين كفروا } أي في أعناقهم من وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما استحقوا به الأغلال وهي محمولة على الظاهر وإن جاز أن يراد بها العلائق . وفي قوله { هل تجزون } إشارة إلى أنهم استحقوها عدلاً . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعاً وإنما ذلك هجيراهم قدماً . وإنما خص المترفين بالذكر لأنهم أصل في الجحود والإنكار وغيرهم تبع ، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد اعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله ما رزقهم ، ثم قاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا فقالوا { وما نحن بمعذبين } فبين الله خطأهم بأن القابض الباسط ه والله { ولكن أكثر الناس لا يعملون } أن ذلك بمجرد المشيئة لا بالكسب والاستحقاق فكم من شقيّ موسر وتقي معسر . ثم زاد في البيان بقوله { وما أموالكم } اي وما جماعة أموالكم { ولا } جماعة { أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى } أي قربى اسم بمعنى القربة وقع موقع المصدر كقوله { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] ثم استثنى من ضمير المفعول في تقرّبكم بقوله { إلا من آمن } والمراد أن الأموال والأولاد لا تقرّب أحداً إلا المؤمن الصالح ينفق الأموال في سبيل الله ويعلم أولاده الخير والفقه في الدين . ويحتمل أن يكون الاستثناء من الفاعل والمعنى أن شيئاً من الأشياء لا يقرّب إلا عمل المؤمن الصالح لأن ما سوى ذلك شاغل عن الله ، والعمل الصالح إقبال على العبودية . ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب شيئاً من الله حصل . وجزاء الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول تقديره : فأولئك لهم أن يجاوزوا الضعف . ومعنى قراءة يعقوب : أولئك لهم الضعف جزاء . والتضعيف يكون إلى العشر وإلى سبعمائة وأكثر كما عرفت . والباقي إلى قوله { محضرون } قد سبق . وحين بين أن حصول الترف لا يدل على الشرف ذكر أن بسط الرزق لا يختص بهم ولكنه سبحانه قد يبسط الرزق لمن يشاء من عباده المؤمنين .

ثم رتب وعد الإخلاف على الإنفاق وذلك إما في العاجل بالمال أو بالقنوع ، وإما في الآخرة بالثواب الذي لا خلف فوقه ولا مثله . ومما يؤكد الآية قوله صلى الله عليه وسلم « اللهم أعط منفقاً خلفاً » الحديث . وقول الفقهاء ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه ، وأن التاجر إذا علم أن مالاً من الأموال في معرض الفناء يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء وإلا نسب إلى الخطأ وسخافة الرأي ، ولا ريب أن مال الدنيا في معرض الزوال وأن أغنى الأغنياء قد طلب منا الإقراض ووعد الإضعاف والإخلاف فأي تجارة عند العاقل اربح من هذا؟ { وهو خير الرازقين } لأن سلسلة الأرزاق والرزق تنتهي إليه . وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي .
ثم حكى عاقبة حال الكفار بقوله { ويوم يحشرهم } وفي خطاب الملائكة تقريع الكفار وتقرير لما يعروهم من الخجل والوجل عند اقتصاص ذلك كما مر في قوله لعيسى { أءنت قلت للناس } [ المائدة : 116 ] { قالوا سبحانك } ننزهك عن أن نعبد غيرك أنت الذي نواليك ونعادي غيرك في شأن العبادة { بل كانوا يعبدون الجن } حيث أطاعوهم في عبادة غيرك فهم كانوا يطيعونهم وكنا نحن كالقبلة ، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها ، أو كانوا يدخلون في أجواب الأصنام فيعبدون بعبادتها . وإنما قالوا { أكثرهم بهم مؤمنون } وما ادّعوا الإحاطة لأن الذين رأوهم وأطلعهم الله على أحوالهم كانوا كذلك ولعل في الوجود من لا يطلع الله الملائكة عليه من الكفار . وأيضاً أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن ، والاطلاع على عمل القلب كما هو ليس إلا الله وحده فراعوا الأدب الجميل والحكم على الظاهر أكثري . ثم ذكر أن الأمر في ذلك اليوم لله وحده والخطاب في قوله { لا يملك بعضكم } للملائكة والكفار وإن كان الكفار غائبين كما تقول لمن حضر عندك ولمن شاركه في أمر بسببه : أنتم قلتم كذا على معنى أنت قلت وهم قالوا . ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم أو لهم وللملائكة أيضاً بهذا التأويل ، وعلى الأول يكون قوله { ونقول للذين ظلموا } إفراداً للكفرة بالذكر ، وعلى الوجه الآخر يكون تأكيداً لبيان حالهم في الظلم وذكر الضر تأكيد لعدم تملكهم شيئاً وإلا فهو غير متصور في ذلك اليوم . وإنما قال ههنا { عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } وفي السجدة { عذاب النار الذي كنتم به } [ الآية : 20 ] لأنهم هناك قد رأوا النار بدليل قوله { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } [ الآية : 20 ] فقيل لهم ذوقوا العذاب المؤبد الذي كنتم به تكذبون في قولكم { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] وههنا لم يروا النار .

وقيل : لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فناسب التوبيخ على تكذيبهم بالنار . ثم حكى أكاذيبهم بقوله { وإذا تتلى } الآية . ولا يخفى ما فيه من المبالغات . ثم بين أن أقوالهم هذه لا تستند إلا إلى محض التقليد فقال { وما آتيناهم من كتب يدرسونها } فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية وما لهم من دليل أو بالنقليات وما عندهم من كتاب ولا رسول غيرك { وكذب الذين من قبلهم } كعاد وثمود { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع . قال الأكثرون : معناه وما بلغ هؤلاء المشركون عشر ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر . ثم إن الله أخذهم وما نفعهم محصولهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟ . وقال بعضهم : اراد وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا قوم محمد صلى الله عليه وسلم من البيان والبرهان لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفصح الرسل وكتابه أوضح الكتب . ثنم إن المتقدمين أنكر عليهم تكذيبهم فكيف لا ينكر على هؤلاء؟ قال جار الله : قوله { فكذبوا رسلي } بعد قوله { وكذب الذين من قبلهم } تخصيص بعد تعميم كأنه قيل : وفعل الذين من قبلهم التكذيب فكذبوا رسلي؟ نظيره قول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن ينعطف على قوله { وما بلغوا معشار ما } كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضل عليه . قلت : فعلى هذا تكون الفاء للسببية ، والمعنى أنه إذا لم يبلغ معشار فضله فكيف يفضل عليه؟ وكذا في الآية فيصير المعنى أنهم إذا لم يبلغوا معشار الأقدمين فكيف كذبوا؟ { فكيف كان نكير } للمكذبين الأوّلين فليحذروا من مثله . ويجوز عندي أن يكون الثاني تكريراً للأول لأجل ترتب النكير عليه كأنه قيل : فإذ قد صح أنهم فعلوا ما ذكرنا فلا جرم ذاقوا وبال أمرهم نظيره قولك لمن بحضرتك : فعلت كذا وكذا ، فإذا فعلت ذلك فتربص .
وبعد تقرير الأصول الثلاثة : التوحيد والرسالة والحشر كررها مجموعة بقوله { قل إنما أعظكم بواحدة } أي بخصلة أو حسنة أو كلمة واحدة وقد فسرها بقوله { أن تقوموا } على أنه عطف بيان لها . والقيام إما حقيقة وهو قيامهم عن مجلس النبيُّ متفرقين إلى أوطانهم . وإما مجاز وهو الاهتمام بالأمر والنهوض له بالعزم والجد . فقوله { مثنى وفرادى } إشارة إلى جميع الأحوال لأن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو لا فكأنه قال : أن تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية عن ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله . وقوله { ثم تتفكروا } يعني اعترفوا بما هو الأصل وهو التوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعدما بان وظهر ، ثم تتفكروا فيما اقول بعده ، وهو الرسالة المشار إليها بقوله { ما بصاحبكم من جنة } والحشر المشار إليه بقوله { بين يدي عذاب شديد } قيل : وفيه إشارة إلى عذاب قريب كأنه قال : ينذركم بعذاب يمسكم قبل الشديد .

فمجموع الأمور الثلاثة شيء واحد ، أو المراد أنه لا يأمرهم في أوّل الأمر بغير التوحيد لأنه سابق على الكل لا أنه لا يأمرهم في جميع العمر إلا بشيء واحد . وعند جار الله : الخصلة الواحدة هي الفكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها اصبتم الحق وهو أن تقوموا لوجه الله خالصاً متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً ، فإن ما فوق الاثنين والواحد يوجب التشويش واختلاف الرأي فيعرض كل من الاثنين محصول فكره على صاحبه من غير عصبية ولا اتباع هوى ، وكذلك الفرد يفكر في نفسه بعدل ونصفه حتى يجذب الفكر بصنعه إلى أن هذا الأمر المستتبع لسعادة الدارين لا يتصدّى لادعائه إلا رجلان : مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان ، وعاقل اجتباه الله بسوابق الفضل والامتنان لتكميل نوع الإنسان . لكن محمداً صلى الله عليه وسلم بالاتفاق أرجح النتاس عقلاً وأصدقهم قولاً وأوفرهم حياء وأمانة ، فما هو إلا النبيّ المنتظر في آخر الزمان المبعوث بين يدي عذاب شديد هو القيامة وأهوالها . وقوله { ما بصاحبكم } إما أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه تنبيه على كيفية النظر في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد : ثم تتفكروا فتعلموا ذلك . وجوز بعضهم أن تكون « ما » استفهامية . وحين ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبياً ذكر وجهاً آخر يلزم منه صحة نبوّته وهو قوله { ما سألتكم من أجر } الآية . وتقريره أن العاقل لا يركب العناء الشديد إلا لغرض عاجل وهو غير موجود ههنا بل كل أحد يعاديه ويقصده بالسوء ، أو لغرض آجل ولا يثبت إلا على تقدير الصدق فإن الكاذب معذب في الآخرة لا مثاب . هذا إذا أريد بقوله { فهو لكم } نفي سؤال الآخر رأساً كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه وهو لم يعطه شيئاً . ويحتمل أن يراد بالأجر قوله { لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى } [ الشورى : 23 ] وقوله { ما أسألكم عليه من أجر الا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } [ الفرقان : 57 ] لأن المودة في القربى قد انتظمته وإياهم وكذا اتخاذ السبيل إلى الله عز وجل فيه نصيبهم ونفعهم . { وهو على كل شيء شهيد } يعلم أني لا أطلب الأجر على نصحكم أو يعلم أن فائدة النصح تعود عليكم . قوله { يقذف بالحق } اي في قلوب المحقين وفيه إزالة استبعاد الكفرة تخصيص واحد منهم بإنزال الذكر عليه فإن الأمر بيد الله والفضل له يؤتيه من يشاء وإنه { علام الغيوب } يعلم عواقب الأمور ومراتب الاستحقاق فيعطى على حسب ذلك لا كما يفعل الهاجم الغافل ، أو أراد يقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، وذلك أن براهين التوحيد قد ظهرت وشبه المبطلين قد دحضت .

وفي قوله { علام الغيوب } إشارة إلى أن البرهان الباهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة ، وأما الحشر فالدليل عليه إخبار علام الغيوب عنه .
وحين ذكر أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال أخبر أن ذلك الحق قد جاء وهو القرآن والإسلام وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يده . وقيل : السيف . وقوله { وما يبدئ الباطل وما يعيده } مثل في الهلاك لأن الحيّ إما أن يبدئ فعلاً أو يعيده ، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة . والتحقيق فيه أن الحق هو الموجود الثابت . ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من بيان التوحيد والرسالة والحشر ثابتاً في نفسه بيناً لمن نظر إليه كان جائياً ، وحين كان ماأتوا به من الإصرار والتكذيب مما لا أصل له قيل : إنه لا يبدئ ولا يعيد أي لا يعيد شيئاً لا في الأوّل ولا في الآخر . وقيل : الباطل إبليس لأنه صاحب الباطل ولأنه هالك والمراد أنه لا ينشئ خلقاً ولا يعيد وإنما المنشئ والباعث هو الله . وعن الحسن : لا يبدئ لأهله خيراً ولا يعيده أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : « ما » استفهامية والمعنى أي شيء ينشئ إبليس ويعيده؟ ثم قرر أمر الرسالة بوجه آخر وهو قوله { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي } يعني كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين . قال جار الله : هذا حكم عام لكل مكلف ، والتقابل مرعي من حيث المعنى والمراد أن كل ما هو وبال على النفس وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه . وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به { إنه سميع قريب } يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله لا يعزب عنه منهما شيء ، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعاه على من يكذبه أجابه ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الداعي . ثم عجب نبيه أو كل راءٍ من مآل حال أهل العناد بقوله { ولو ترى } وجواب محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً . والأفعال الماضية التي هي { فزعوا } { وأخذوا } { وقالوا } { وحيل } كلها من قبيل { ونادى } [ الأعراف : 48 ] { وسيق } [ الزمر : 73 ] ووقت الفزع وقت البعث أو الموت أو يوم بدر . وعن ابن عباس : نزلت في خسف البيداء وهم ثمانون ألفاً أرادوا غزو الكعبة وتخريبها فخسف بهم حين دخلوا البيداء { فلا فوت } أي فلا يفوتون الله ولا يسبقونه . والأخذ من مكان قريب هو من الموقف إلى النار ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو من صحراء بدر إلى القليب ، أو من تحت أقدامهم إلى الأرض .

وجوّز جار الله أن يعطف { وأخذوا } على { لافوت } على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا . ثم بين أنهم سيؤمنون بمحمد صلى الله عليه سولم أو بالقرآن أو بالحق حين لا ينفع الإيمان وذلك قوله { وأنى لهم التناوش } وهو تناول سهل لشيء قريب مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعيد كما يتناوله الآخر من قريب تناولاً سهلاً لا تعب فيه ، أو أراد أن تناولهم التوبة وإيمانهم في الآخرة بعيد عن الدنيا فإن أمس الدابر لا يعود وإن كانت الآخرة قريبة من الدنيا ولهذا سماها الله الساعة وكل ما هو آت قريب . وعن أبي عمرو : التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم : نأشت بالهمزة أي أبطأت وتأخرت . والصح أنه من النوش كما مر همزت الواو المضمومة كما همزت فلي أجوه . وقيل : التناوش بلغة اليمن التذكرة قاله أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب « المدخل في تفسير القرآن » والضمير في قوله { وقد كفروا } عائد إلى ما يعود إليه في قوله { آمنا به } .
قوله { ويقذفون بالغيب } فيه وجوه أحدها : أنه قولهم في رسول الله صلى الله عيله وسلم شاعر ساحر وهذا تكلم بالأمر الخفي وقد أتوا به من جهة بعيدة عن حاله لأنهم قد عرفوا منه الأمانة والصدق لا الكذب والزور . وثانيهاك أخذوا الشريك من حالهم في العجز فإنهم يحتاجون في الأمور العظام إلى التعاون فقاسوا الأمر الإلهي عليه . وثالثها : أنهم قاسوا قدرة الله على قدرتهم عجزوا عن إحياء الموتى فظنوا أن الله لا يقدر على البعث ، وقياس الخالق على المخلوق بعيد المأخذ . ورابعها : قاسوا أمر الآخرة على الدنيا قائلين إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة وحصول الثواب والعقاب فنحن أكرم على الله من أن يعذبنا . وخامسها : قالوا { ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً } [ السجدة : 12 ] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا . { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } من نفع الإيمان في الآخرة أو من الرد إلى الدنيا { كما فعل باشياعهم } أي بأشباههم من كفرة الأمم لم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله و { مريب } موقع في الريب منقول من الأعيان إلى المعنى أو ذو ريبة وذلك باعتبار صاحبه وكلاهما مجاز بوجهين وقد مر في هود .
التأويل : { مثقال ذرة في السموات } القلوب { ولا في الأرض } النفوس من سعادة أو شقاوة { قالوا الحق } يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه لا يقول إلا الحق { قل من يرزقكم } من سموات القلوب وأرض النفوس إذا نزل من سماء القلب ماء الفيض على أرض الشرعية . { ألحقتم به شركاء } من الدنيا والهوى والشيطان كافة للناس من أهل الأولين والآخرين في عالم الأجساد وهو ظاهر ، وفي عالم الأرواح تبشرها بأن لها كمالاً عند الاتصال بالأشباح وتنذرها بالحرمان إن لم تتعلق بالأجسام ، وذلك أن الأرواح علوية نورانية والأشباح سفلية مظلمة لا يحصل بينهما التعلق إلا بالتبشير والإنذار .

فالروح بمثابة البذر والقالب كالأرض ، وشخص الإنسان بمثابة الشجرة ، والتوحيد والمعرفة ثمرتها ، والشريعة كالماء والبشير والنذير كالآكار . وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات نابتة من بذر روحه صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين ولكن بتبعية محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا حصلت له رتبة الشفاعة دونهم . يقولون يعني أرباب الطلب يستعجلون متى نصل إلى الكمال الذي بشرتمونا به . ثم بين أن لثمرة كل شجرة وقتاً معلوماً لا تتجاوزه { أكثرهم بهم مؤمنون } اي أكثر مدعي الإسلام بأهل الأهواء مؤمنون { ويقذفون بالغيب } فيه أن معارف الأسرار ومراتب الأحرار لا تصلح لمن هو اسير في أيدي صفات النفس { وحيل بينهم } لأن الدين ليس بالتمني والله أعلم بحقائق الأشياء والله الموفق .


الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

القراآت : { غير الله } بالجر : يزيد وحمزة وعليّ . الآخرون : بالرفع حملاً على المحل { فلا تذهب } من الإذهاب { نفسك } منصوباً : يزيد . الآخرون : بفتح التاء والهاء من الذهاب { نفسك } مرفوعاً : { الريح } على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف { ولا ينقص } بفتح الياء وضم القاف : روح وزيد . الباقون : بالعكس . { من عمره } باختلاس الضمة : عباس { والذين يدعون } على الغيبة : قتيبة .
الوقوف : { ورباع } ط { يشاء } ط { قدير } 5 { لها } ج { بعده } ط { الحكيم } 5 { عليكم } ط { والأرض } ط { إلا هو } ز للاستفهام ولفاء التعقيب وإتحاد المعنى { تؤفكون } 5 { قبلك } ط { الأمور } 5 { الغرور } 5 { عدوّاً } ط { السعير } 5 ط لأن { الذين } مبتدأ . { شديد } 5 { كبير } 5 { حسناً } ط لحذف الجواب { حسرات } ط { يصنعون } 5 { موتها } ط { النشور } 5 { جميعاً } ط { يرفعه } ط { شديد } 5 { يبور } 5 { أزواجاً } ط { بعلمه } ط { في كتاب } ط { يسير } 5 { أجاج } ط { تلبسونها } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { تشكرون } 5 { مسمى } ط { الملك } ط { قطمير } 5 { دعاءكم } ج للشرط مع العطف { لكم } ط { بشرككم } ط { خبير } 5 { إلى الله } ط لاتفاق الجملتين مع حسن الفصل بين وصفي الخالق والمخلوق { الحميد } 5 { جديد } 5 ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { بعزيز } 5 { أخرى } ط لاستئناف الشرط { قربى } ط { الصلاة } ط { لنفسه } ط { المصير } 5 { والبصير } 5 لا { ولا النور } 5 لا { ولا الحرور } 5ج للطول والتكرار { الأموات } ط { يشاء } ج للعطف مع الإثبات إلى النفي مع اتفاق الجملتين { القبور } 5 { إلا نذير } 5 { ونذيراً } ط { نذير } 5 { من قبلهم } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { المنير } 5 { نكير } 5 .
التفسير : لما بين في آخر السورة المتقدمة انقطاع رجاء الشاك وعدم قبول توبته في الآخرة ذكر في أوّل هذه السورة حال الموفق المؤمن وبشر بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة . و { فاطر السموات والأرض } مبدعهما أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض يؤيد التفسير الثاني قوله { جاعل الملائكة رسلاً } وقوله { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 103 ] و { أولي أجنحة } اي أصحاب أجنحة أراد أن طائفة منهم أجنحة كل منهم اثنان اثنان ، وبعضهم أجنحة ثلاثة ثلاثة لعل الثالث منها في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة أو لعله لغير الطيران فلقد رأيت في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة ، فجناحان يلفون بهما أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله عز وجل ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عز وجل . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرائيل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح .

وروي أن إسرافيل له اثنا عشر جناحاً ، جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل لعظمة الله سبحانه وتعالى حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير . ويجوز أن يخالف حال الملائكة حال الطيور في الطيران كالحيوان الذي يدب بأرجل كثيرة ، ويجوز أن يكون البعض للزينة ، ويجوز أن يكون كل جناح ذا شعب . قال الحكيم : الجناحان إشارة إلى جهتين : جهة الأخذ من ا لله ، وجهة الإعطاء لمن دونهم بإذن الله كقوله { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 194 ] { علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] { فالمدبرات أمرا } [ النازعات : 5 ] ومنهم من يفعل بواسطة فلهم ثلاث جهات أو أكثر على حسب الوسائط . ثم بين كمال قدرته بقوله { ويزيد في الخلق ما يشاء } والظاهر أنه عام يتناول كل زيادة في كل أمر يعتبر في الصورة كحسن الوجه والخط والصوت ونحوهما ، أو في المعنى كحصافة العقل وجزالة الرأي وسماحة النفس وذلاقة اللسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة . ثم أكد نفاذ أمره وجريان الأمور على وفق مشيئته بقوله { وما يفتح الله للناس } الآية . وفيها دلالة على أن رحمته سبقت غضبه من جهة تقديم الرحمة ومن جهة بيان الضمير في القرينة الأولى بقوله { من رحمة } والإطلاق في قوله { وما يمسك } فيشمل إمساك الغضب وإمساك الرحمة . ومن جهة قوله { من بعده } أي من بعد إمساكه فيفيد أن الرحمة إذ جاءته لم يكن لها انقطاع وإن ضدّها قد ينقطع وإن كان لا يقطعه إلا الله ولهذا لا يخرج أهل الجنة من الجنة وقد يخرج أهل النار من النار { وهو العزيز } الغالب على إرسال الرحمة وإمساكها { الحكيم } الذي لا يمسك ولا يرسل إلا عن علم كامل وصلاح شامل . وحيث بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة المستدعية للحمد على التفصيل أمر المكلفين بتذكر العمة على الإجمال لساناً وقلباً وعملاً ، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أياديّ عندك يريد حفظها وشكرها والعمل بموجبها . وعن ابن عباس : أن الناس أهل مكة أسكنهم حرمه ويتخطف الناس من حولهم . وعنه أيضاً أنه اراد بالنعمة العافية ، والظاهر تعميم النعمة والمنعم عليهم . ثم اشار إلى نعمة الإيجاد بقوله { هل من خالق غير الله } وإلى نعمة الإبقاء بقوله { يرزقكم } وهو نعت خالق أو مستأنف أو تفسير لمضمر والتقدير : هل يرزقكم خالق يرزقكم؟ قال جار الله : إن جعلت { يرزقكم } كلاماً مستأنفاً ففيه دليل على أن الخالق لا يطلق إلا على الله عز وجل . وأما على الوجهين الآخرين فلا ، إذ لا يلزم مننفي خالق رازق غيره نفي خالق غيره مطلقاً . وقوله { لا إله إلا هو } جملة مفصولة لا محل لها مثل { يرزقكم } في غير وجه الوصف إذ لو جعلت وصفاً لزم التناقض لأن قولك « هل من خالق آخر سوى الله » إثبات الله ، ولو جعلت المنفية وصفاً صار تقدير الكلام : هل من خالق آخر سوى لا إله إلا ذلك الخالق فلزم نقض الإثبات المذكور مع أن الكلام في نفسه يكون غير مستقيم .

{ فأنى تؤفكون } أي وكيف تصرفون عن هذا الظاهر فتشركون المنعوت بمالك الملك والملكوت . وحين بينّ الاصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله { وإن يكذبوك } الآية . والمراد إن يكذبوك فتسل بهذا المعنى . ثم بينت الأصل الثالث وهو الحشر بقوله { يا أيها الناس } وقد مرّ مثل الآية في آخر سورة لقمان . وقد يسبق إلى الظن ههنا أن الغرور وهو الشيطان لأنه عقبه بقوله { إن الشيطان لكم عدّو فاتخذوه عدّواً } لأن الحازم لا يقبل قول العدوّ ولا يعتمد عليه . ثم صرح بوجه اتخاذه وبعاقبة دعوته فقال { إنما يدعو حزبه ليكونوا من اصحاب السعير } ثم فصل مال حال حزبه وحزب الله بقوله { الذين كفروا } إلى قوله { وأجر كبير } عرض على العقول أنه لا سواء بين الحزبين والمعنى { أفمن زين له سوء عمله } من الفريقين كمن لم يزين له . ولا ريب أن المزين لهم عملهم هم أهل الأهواء والبدع الذين لا مستند لهم في مأخذهم سوى التقليد واتباع الهوى . ثم أنتج من ذلك قوله { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } وذلك أن الناس متساوية الأقدام في الإنسانية ومتفاوتة الأحوال في الأعمال ، فتبين أنه لا استقلال ، وأن أفعال العباد مستندة إلى إزادة مصرف القلوب والأحوال . ثم رتب على عدم الاستقلال قوله { فلا تذهب } أي فلا تهلك { نفسك } و { عليهم } صلة تذهب كما تقول هذك عليه حباً أو هو بيان للمتحسر عليه ولا يتعلق ب { مجسرات } المفعول لأجله لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته . وجوّز جار الله أن يكون حالاً كأن كل نفسه صارت حسرات لفرط التحسر . وعن الزجاج أن تقدير الآية : أمفن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم فحذف لدلالة المذكور وهو فلا تذهب عليه ، أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لأن قوله { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } يدل عليه . ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد منهم الإيمان لآمنوا وإن كان لما بهم منالإيذاء فالله عليم بفعلهم فيجازيهم بذلك .
ثم أكد كونه فاعلاً مختاراً قادراً قهاراً مبدئاً معيداً بقوله { والله الذي أرسل } وهو من الالتفات الموجب للتهويل والتعظيم . وقوله { فتثير } بلفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن ، عرف نفسه بفعل الإرسال ثم قال { فسقناه } كأنه قال : أنا الذي عرفتني بمثل هذه السياقة والصناعة وأنعمت عليك بهذه النعمة الشاملة . ثم شبه البعث والنشور بالصنع المذكور ووجهه ظاهر .

وحين بين برهان الإيمان أشار إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة الت يكانوا يتوهمونها من حيث إن معبوديهم كانت تحت تسخيرهم والرسول كان يدعوهم إلى الإيمان لطاعة الله وطاعة أنبيائه فكنه قال : إن كنتم تطلبون حقيقة العزة { فلله العزة } خاصة كلها فلتطلبها من عنده ومن عند أوليائه نظيره قولك « من أراد النصيحة فهي عند الأبرار » يريد فليطلبها عندهم فاعتبر في هذه الآية حرف النهاية . وأما في قوله { لله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] فاعتبر الوسائط فالعزة للمؤمنين بواسطة الرسول وله من رب العزة . ثم إن الكفار كأنهم قالوا : نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده فإن البعد من الملك ذلة فقال { إليه يصعد } أي إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب منها وذلك آية العزة ، وأما هذه الأصنام فلا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا حياة لها ولا شعور وهكذا العمل الصالح لا تراه هذه الأصنام فلا يمكن لها مجازاة الأنام . وفاعل قوله { يرفعه } إن كان هو الله فظاهر ، وإن كان الكلم أعني قوله « لا إله إلا الله » فمعناه أنه لا يقبل عمل إلا من موحد وإن كان هو العمل فالمعنى : أن الكلم وهو كل كلام فيه ذكر الله أو رضاه يريد الصعود إلى الله إلا أنه لا يستطيع الصعود ولا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقروناً بالعمل الصالح . عن النبي صلى الله عليه وسلم « الكلم الطيب هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل منه » وعن ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . ولا تخفى أن القول هو الأصل والعمل مؤكده فلهذا قدم القول . وحين بيّن حال العمل الصالح ذكر أن المكرات السيئات بائرة كاسدة لا حقيقة لها ، ولعله أشار بها إلى مكرات قريش المذكورات في قوله { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال : 30 ] جمع الله مكراتهم فقلبها عليهم حين أوقعهم في قليب بدر . ولما ذكر دليل الآفاق أكده بدليل الأنفس قائلاً { والل خلقكم من تراب } وفيه إشارة إلى خلق آدم { ثمن من نطفة } وفيه إشارة إلى خلق أولاده . ومعنى { أزواجاً } أصنافاً أو ذكراناً وإناثاً . ثم أشار إلى كمال علمه بقوله { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } ثم بين نفوذ إرادته بقوله { وما يعمر من معمر } قال جار الله : معناه من أحد ولكنه سماه معمراً باعتبار ما يؤل إليه . وليس المراد تعاقب التعمير وخلافه على شخص واحد وإنما المراد تعاقبهما على شخصين فتسومح في اللفظ تعويلاً على فهم السامع كقول القائل : ما تنعمت بكذا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي .

وتأويل آخر وهو أن يراد لا يطول عمر إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان بعينه { إلا في كتاب } وصورته أن يكتب في اللوح إن حج أو وصل الرحم فعمره أربعون سنة ، وإن جمع بين الأمرين فعمره ستون ، فإذا جمع بينهما فعمر ستين كان الغاية ، وإذا أفرد فعمر أربعين فقد نقص منتلك الغاية . وبهذا التأويل يستبين معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار » ويصح ما استفاض على الألسن « أطال الله بقاءك » . وعن سعيد بن جبير يكتب في الصحيفة أن عمره كذا سنة ، ثم يكتب بعد ذلك في آخرها ذهب يوم ذهب يومان حتى تنقضي المدّة . وعن قتادة : المعمر من بلغ ستين ، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين . وذلك في علم الله . { إن ذلك } الذي ذكر من خلق الإنسان من المادة المذكورة أو الزيادة في الأعمار أو النقصان منها { على الله يسير } . ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافر وذكر ليلاً آخر على عظم قدرته فقال { وما يستوي البحران } الآية . على الأوّل يكون قوله { ومن كل تأكلون } غلى آخر الآية تقريراً للنعمة على سبيل اللاستطراد ، أو هو من تمام التشبيه كأنه شبه الجنسين بالبحرين . ثم فضل البحر الأجاج على الكافر لأنه شارك العذب في استخراج السمك واللؤلؤ وجرى الفلك فيه ، وأما الكافر فلا نفع فيه ألبتة فيكون كقوله في البقرة { ثم قست قلوبكم } [ البقرة : 74 ] إلى آخر قوله و { إن منهما لما يهبط من خشية الله } [ الآية : 74 ] والأشبه أن الآية تقرير دليل مستأنف كما مرّ في أوّل « النحل » يؤيده تعقيبه بدليل آخر وهو قوله { يولج الليل } إلى قوله { أجل مسمى } قد مرّ في آخر « لقمان » مثله ، وفيه ردّ على عبدة الكواكب الذين ينسبون حوادث هذا العالم إلى الكواكب بالذات لا إلى تسخير مبدعها . قوله { ذلكم الله } أي الذي فعل الأشياء المذكورة من فطر السموات والأرض وإرسال الرياح وخلق الإنسان من التراب وغير ذلك هو المعبود الحق . وقوله { ربكم له الملك } خبران آخران ، ويجوز أن يكون { الله ربكم } خبرين و { له الملك } جملة مبتدأه واقعة في طبقات . قوله { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } وذلك أن المشركين كانوا معترفين بأن الصنام ليسوا خالقين وإنما كانوا يقولون إنه تعالى فوض أمور الأرضيات إلى الكواكب التي هذه الأصنام صورها وطوالعها ، فأخبر الله تعالى أنهم لا يملكون قطميراً وهو القشرة الرقيقة للنواة فضلاً عما قوفها . قال جار الله : يجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و { ربكم } خبراً لولا أن المعنى يأباه فقيل : لأن ذلك إشارة إلى معلوم سبق ذكره .

وكونه صفة أو عطف بيان يقتضي أن يكون فيما سبق ضرب إبهام . قلت : وفيه نظر ، أما أولاً فلأن اسم الله من قبيل الأعلام لا من قبيل أسماء الأجناس فكيف يجوز جعله صفة؟ وأما ثانياً فلأنه على تقدير التجويز يكون صفة مدح فلا ينافي كون المشار إليه معلوماً . والوجه الصحيح في إباء المعنى هو أن الوصف إذا كان معرفة كان أمراً متحققاً في الخارج مسلماً عند السامع . مثلاً إذا قلت : الرجل الكاتب جاءني . تريد الرجل الذي تعرفه أيها السامع أنه كاتب جاءني لكن الخطاب ههنا مع الكفار وهم يجحدون المعبود الحق ، أو يجحدون أن العبادة لا تصلح إلا له ، ن فلا يصح إيقاع اسم الله وصفاً لذلكم والخطاب معهم . ثم زاد في توبيخ الكفرة بقوله { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } لأنهم جماد ولو فرض سماعهم { ما استجابوا لكم } لما مرّ من أنهم لا يملكون شيئاً { ويوم القيامة } ايضاً { يكفرون بشرككم } قائلين ما كنتم إيانا تعبدون { ولا ينبئك } أي لا يطلعك على حقيقة الحال أيها النبيّ أو أيها السامع { مثل خبير } ببواطن الأمور . والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل عالم به . وفيه أنه الخبير بالأمر وحده ، وفيه ن هذا الخبر مما لا يعرف بمجرد المعقول لولا إخبار الله سبحانه .
ثم بين أن نفع العبادة إنما يعود على المكلفين فقال { يأيها الناس أنتم الفقراء } ومعنى تعريف الخبر القصد إلى أنهم جنس الفقراء مبالغة ، وذلك أن افتقار الإنسان إلى الله عاجلاً لأمور المعاش وآجلاً لنعيم الآخرة أبين من افتقار سائر المخلوقين إليه . وقيل : إن كون الناس فقراء أمر ظاهر لا يخفى على أحد فلهذا عرف كقول القائل : الله ربنا ومحمد نبينا . ثم بين أن فقرهم ليس إلا إلى الله فقابل الفقراء بقوله { والله هو الغنيّ } وقابل قوله { إلى الله } بقوله { الحميد } لأنه إذا أنعم عليهم استحق الحمد منهم . ثم ذكر أنه غني عن وجودهم أيضاً لا يفتقر في ظهور أثر قدرته إليهم فقال { إن يشأ يذهبكم } وقد مرّ في « النساء » وفي « إبراهيم » . وحين بين الحق بالدلائل الباهرة أراد أن يذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال { ولا تزر وازرة } يعني أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها . ولا ينافي في هذا قوله { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] لأن وزر الإضلال هو وزر النفس الوزارة أيضاً ، وفيه أن كل نفس وازرة مهمومة بهمّ وزرها متحيرة في أمرها .

ثم زاد في التهويل بقوله { وإن تدع مثقلة } أي نفس ذات حمل { لا يحمل منه شيء } فإن عدم قضاء الحاجة بعد السؤال أفظع . ثم زاد التأكيد بقوله { ولو كان } أي المدعوّ { ذا قربى } فإِن عدم القضاء بعد السؤال من القريب من أب وولد أدل على شدّة الأمر فيعلم منه أن لا غياث يومئذ أصلاً . ثم بين أن هذه الإنذارات إنما تفيد أهل الخشية والطاعة حال كونهم غائبين عن العذاب أو حال كون العذاب غائباً عنهم . ثم لما بيّن أن الوزر لا يتعدى إلى الغير بيّن أن التظهر عن الذنوب لا يفيد إلا نفس المتزكي { وإلى الله المصير } لكل فيجزيهم على حسب ذلك . ثم ضرب للكافر والمؤمن مثلاً فقال { وما يستوي الأعمى والبصير } وقيل : إنه مثل للصنم وللمعبود الحق . ثم ذكر للكفر والإيمان مثلاً قائلاً { ولا الظلمات ولا النور } وإذا كان الإيمان نوراً والمؤمن بصيراً فلا يخفى عليه النور ، وإذا كان الكفر ظلمة والكافر أعمى فله صادّ فوق صادّ . ثم بيّن لمآلهما ومرجعهما مثلاً وهو الظل والحرور . قال أهل اللغة : السموم يكون بالنهار والحرور أعم . وقال بعضهم : الحرور يكون بالليل فالمؤمن بإيمانه كمن هو في ظل وراحة ، والكافر في كفره كمن هو حرّ وتعب .
وههنا مسائل . الأولى : ضرب أوّلاً مثلاً للكافر والمؤمن ثم أعاد مثلهما بقوله { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } وهذا أبلغ لأن الأعمى والبصير قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت ولمكان هذه المبالغة أعاد الفعل . الثانية : كرر « لا » النافية في الأمثال الأخيرة دون الأوّل ، لأن المنافاة بين العمى والبصر ليست ذاتية كما في سائرهما وقد يكون شخص واحد بصيراً بإحدى العينين أعمى بالأخرى . الثالثة : قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحيّ ، وأخره في الآخرين فهم أهل الظاهر أن ذلك لرعاية الفواصل . والمحققون قالوا : إنهم كانوا قبل البعث في ظلمة الضلال فصاروا إلى نور الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، فلهذا الترتيب قدّم مثل الكافر وكفره على مثل المؤمن وإيمانه . ولما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لأن رحمته سبقت غضبه . ثم إن الكافر المصرّ بعد البعثة صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال { وما يستوي الأحياء } أي المؤمن الذي آمن بما أنزل الله . والأموات الذين تليت عليهم الآيات ولم تنجع فيهم البينات فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياتهم قبل ممات الكافرين المعاندين . الرابعة : إنما وحد الأعمى والبصير لأن المراد أن أحد الجنسين لا يساوي جنس الآخر من جهة العمى والبصر ، ولعل فرداً من أحدهما قد يساوي الفرد الآخر من جهة أخرى وكذا الكلام في إفراد الظل والحرور .

وإنما جمع الظلمات ووحّد النور لما مرّ في أوّل « الأنعام » من تحقيق أن الحق واحد والشبهات كثيرة . وإنما جمع الأحياء والأموات لأن المراد أن أحد الصنفين لا يساوي الآخر سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد . الخامسة : لا يخفى أن هذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع وبعضها ضمت وتراً إلى وتر . ثم سلى ورسوله بقوله { إن الله يسمع } الآية . فقد مرّ نظيره في قوله { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] وإنما اقتصر على قوله { إن أنت إلا نذير } وكذا في قوله { إلا خلا فيها نذير } لأن الكلام في معرض التهديد مع أن ذكر البشير يدل عليه بل ذكر النذير يدل على مقابله . والمراد بالنذارة آثارها لثبوت زمان الفترة . ثم زاد في التسلية بقوله { وإن يكذبوك } وقد مر مثله في آخر « آل عمران » . وإنما حذف الفاعل هناك لبناء الكلام هنالك على الاقتصار دليله أنه قال { وإن يكذبوك فقد كذب } فاقتصر على لفظ المضيّ ولم يسم الفاعل ، ويحتمل أن يكون لفظ الماضي إشارة إلى وقوع التكذيب منهم فإن تلك السورة مدنية والله أعلم .


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

القراآت : { يدخلونها } مجهولاً : ابو عمرو و { يجزي } مجهولاً غائباً كل بالرفع : أبو عمرو . الباقون : بالنون مبيناً للفاعل كل بالنصب و { مكر السيء } بهمزة ساكنة : حمزة استثقالاً للحركات ، وحمله النحويون على الاختلاس ، وإذا وقف يبدل من الهمزة ياء ساكنة .
الوقوف : { ماء } ج للعدول { ألوانها } الأولى ج { سود } 5 { كذلك } ط { العلماء } ط { غفور } 5 { لن تبور } 5 { فضله } ط { شكور } 5 { يديه } ط { بصير } 5 { عبادنا } ج { لنفسه } ج { مقتصد } ج تفصيلاً بين الجمل مع النسق { بإذن الله } ط { الكبير } 5 ط لأن ما بعده مبتدأ لا بدل { ولؤلؤاً } ج لاختلاف الجملتين { حرير } 5 { الحزن } ط { شكور } 5 { فضله } ج لاحتمال الاستئناف والحال { لغوب } 5 { جهنم } ج لمثل ما قلنا { عذابها } ط { كفور } 5 ج لاحتمال الواو الحال { فيها } ج للقول المحذوف { كنا نعمل } ط { النذير } 5 { نصير } 5 { والأرض } ط { الصدور } 5 { في الأرض } ط { كفره } ط { مقتاً } ج وان اتفقت الجملتان ولكن لتكرار الفعل وتصريح الفاعل والمفعول في الثانية { خساراً } 5 { دون الله } ط { السموات } ج لاحتمال أن « أم » منقطعة { منه } ج { غروراً } 5 { تزولا } ج لابتداء ما في معنى القسم مع الواو { من بعده } ط { غفوراً } 5 { الأمم } ج { نفوراً } 5 لا { ومكر السيء } ط { بأهله } ط { الأولين } ج لانتهاء الاستفهام مع اتصال الفاء { تبديلاً } 5 ج { تحويلاً } 5 { قوة } ط { في الأرض } ط { قديراً } 5 { مسمى } ج { بصيراً } 5 .
التفسير : لما بين دلائل الوحداينة بطريق الإخبار ذكر دليلاً آخر بطريق الاستخبار لأن الشيء إذا كان خفياً ولا يراه من بحضرتك كان معذوراً ، أما إذا كان بارزاً مكشوفاً فإنك تقول : أما تراه . والمخاطب إما كل أحد أو النبي صلى الله عليه وسلم لأن السيد إذا نصح بعض العباد ولم ينفعهم الإرشاد قال لغيره . اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر معه ما ذكره مع الأول . والالتفات في { فأخرجنا } لأن نزول الماء يمكن أن يقال : إنه بالطبع ولكن الإخراج لا يمكن إلا بإرادة الله . وأيضاً الإخراج أتم نعمة من الإنزال لأن إنزال المطر لفائدة الإخراج . واختلاف ألوان الثمرات اختلاف « أصنافها أو هيئاتها ، والجدد الخطط ، والطرائق » فعلة « بمعنى » مفعول « والجد القطع . قال جار الله : لا بدّ من تقدير مضاف أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر مختلف ألوانها في البياض والحمرة ، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص وقد يكون أدنى من ذلك ، وكذلك الحمرة . والغرابيب تأكيد للسود إلا أنه أضمر المؤكد أوّلاً ثم أظهر ثانياً على طريقة قوله :
والمؤمن العائذات الطير ... وإنما لم يتصوّر اختلاف الألوان ههنا لأن السواد إذا كان في الغاية لم يكن بعدها لون .

يقال : أسود غربيب للذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب . ويمكن أن يقال : إن المختلف صفة الحمر فقط . وحين فرغ من دلائل النبات وما يشبه المعادن شرع في الاستدلال بالحيوان ، وقدّم الإنسان لشرفه ، ثم ذكر الدواب على العموم ، ثم خصص الأنعام ، أو أراد بالدابة الفرس فجعله لشرفه رديف الإنسان . وقوله { مختلف } اي بعض مختلف { ألوانه } وذكر الضمير تغليباً للإنسان أو نظراً إلى البعض . وقوله { كذلك } أي كاختلاف الجبال والثمرات ، وفيه ن هذه الأجناس كما أنها في أنفسها دلائل فهي باختلافها أيضاً دلائل . وحين خاطب نبيه بقوله { ألم تر } بمعنى ألم تعلم أتبعه قوله { إنما يخشى الله من عباده العلماء } كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن نظر في دلائله فعرفه حق معرفته ، أو أراد أن يعرّفه كنه معرفته لأن الخشية على حسب العلم بنعوت كماله وصفات جلاله . وفي الحديث « أعلمكم بالله أشدّكم خشية له » وفائدة تقديم المفعول أن يعلم أن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، ولو أخر المفعول كان معنى صحيحاً وهو أنهم لا يخشون أحداً إلا الله إلا أن ذلك غير مراد ههنا . وعن عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة قرءا برفع الله ونصب العلماء فتكون الخشية مستعارة للتعظيم اي لا يعظم الله ولا يجل من الرجال إلا العلماء به . ثم بين السبب الباعث على الخشية بقوله { إن الله عزيز غفور } فالعزة توجب الخوف من أليم عقابه والمغفرة توجب الطمع في نعيمه وثوابه ، وفيه أن خوف المؤمن ينبغي أن يكون مخلوطاً برجائه . ثم مدح العالمين العاملين بقوله { إن الذين يتلون } الآية . قال أهل التحقيق : قوله { إنما يخشى الله } إشارة إلى عمل القلب ، وقوله { إن الذين يتلون } أي يداومون على التلاوة إشارة إلى عمل اللسان . وقوله { وأقاموا الصلاة } إشارة إلى عمل الجوارح ، والكل أقسام التعظيم لأمر الله .
ثم اشار إلى الشفقة على خلق الله بقوله { وأنفقوا مما رزقناكم } وقوله { يرجون } وهو خبر « إن » إشارة إلى الإخلاص في العقائد والأعمال أي نفقون من الأموال لا ليقال إنه كريم أو لغرض آخر بل لتجارة لا كساد فيها ولا بوار وهي طلب مرضاة الله . ؟ وقوله { ليوفيهم } متعلق ب { لن تبور } أي تنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده أجورهم . وجوّز جار الله أن يجعل { يرجون } في موضع الحال واللام متعلق بالأفعال المتقدّمة اي فعلوا جميع ما ذكر من التلاوة والإقامة والإنفاق لغرض التوفية . وخبر « إن » قوله { إنه غفور } لهم { شكور } لأعمالهم . وحين ذكر دلائل الوحدانية أتبعه بيان الرسالة وذكر حقيقة الكتاب المتلوّ والكتاب للجنس ف « من » للتبعيض أو هو القرآن ، و « من » للتبيين أو هو اللوح المحفوظ و « من » للابتداء وقد مرّ في البقرة أن قوله { مصدقاً } حال مؤكدة .

وفي قوله { إن الله بعباده لخبير بصير } تقرير لكونه حقاً لأن الذي يكون عالماً بالبواطن والظواهر لم يمكن أن يكون في كلامه شوب باطل . وفيه لم يختر محمداً للرسالة جزافاً وعلى سبيل الاتفاق ولكنه أعلم حيث يجعل رسالته . قوله { ثم أورثنا الكتاب } زعم جمع من المفسرين أن الكتاب للجنس بدليل قوله فيما قبل { جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر } والإيراث الإعطاء ، والمصطفون من عبيده هم الأنبياء كأنه قال : علمنا البواطن وابصرنا الظواهر فاصطفينا عباداً ثم أورثناهم الكتاب . وعلى هذا فالمراد بالظلم على النفس وضع الشيء في غير موضعه وإن كان بترك الأولى ومنه قول ابينا آدم { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] وقوله يونس { إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] وإذا كان الظلم بهذا المعنى جائزاً عليهم فالاقتصاد أولى . ويجوز أن يعود الضمير في قوله { فمنهم } إلى الأمة كأنه قيل : إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا ، وآتيناهم كتباً فمن قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ، ومقتصد آمن به ولم يأتِ بجميع ما أمر به ، وسابق آمن وعمل صالحاً . وقال أكثرهم : إنه القرآن والإيراث الحكم بالتوريث أو هو على عادة إخبار الله في التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه أي نريد أن نورثه . والمصطفون هم الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة كقوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] وعلى هذا ففي تفسير المراتب الثلاثة أقوال أحدها : الظالم الراجح السيئات ، والمقتصد المتساوي الحسنات والسيئات ، والسابق راجح الحسنات . ثانيها الظالم من ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد المتساوي ، والسابق من باطنه خير . ثالثها : الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم . رابعها : عن علي رضي الله عنه : الظالم أنا ، والمقتصد أنا ، والسابق أنا . فقيل له : كيف ذاك؟ قال : أنا ظالم بمعصيتي ، ومقتصد بتوبتي ، وسابق بمحبتي . خامسها : الظالم التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه ، والمقتصد التالي العالم غير العامل ، والسابق التالي العامل سادسها : الظالم الجاهل ، والمقتصد المتعلم ، والسابق العالم . سابعها : الظالم من يحاسب فيدخل النار وهو أصحاب المشأمة ، والمقتصد من يحاسب فيدخل الجنة وهو اصحاب الميمنة ، والسابق من يدخل الجنة بغير حساب ، ثامنها : الظالم من خالف أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للتكليف في غير موضعه ، والمقتصد هو المجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك فإنه قصد الحق واجتهد ، والسابق هو الذي لم يخالف تكاليف الله بتوفيقه دليله قوله في الأخير { بإذن الله } وذلك أنه إذا وقع الخير في نفسه سبق إليه قبل تسويل النفس ، والمقتصد يقع في قلبه فتردّده النفس ، والظالم تغلبه النفس .

وبعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ، ومن جاهد نفسه فغلبته تارة غلب أخرى فهو المقتصد صاحب النفس اللوامة ، ومن قهر نفسه فهو السابق . وفي تقديم الظالم ثم المقتصد إيذان بأن المقتصدين أكثر من السابقين والظالمون أكثر الأقسام كما قال { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { ذلك } الذي ذكر من التوفيق أو من السبق بالخيرات أو من الإيراث { هو الفضل الكبير } قال جار الله : أبدل قوله { جنات عدن } من الفضل لأنها مسببة عنه وكأنها هو . قلت : ويمكن أن يقال { جنات عدن } مبتدأ لأنها معرفة بدليل قوله { جنات عدن التي وعد الرحمن } [ مريم : 61 ] ولئن سلم أنها نكرة فليكن { يدخلونها } صفة له وخبرها { يحلون } ثم إن ضمير { يدخلون } إن عاد إلى التالين لكتاب الله أو إلى السابقين فلا إشكال؛ فالظالم يدخل النار والمقتصد يكون أمره موقوفاً كقوله { وآخرون مرجون لأمر الله } [ التوبة : 106 ] أو كقوله { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } وإن عاد إلى الفرق الثلاث فبشرط العفو أو بشرط التوبة ، وقد يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له » وفي تقديم { جنات عدن } وبناء الكلام عليها دون أن يقول « يدخلون جنات عدن » إيذان بأن الاهتمام بشأنها أكثر فإن نظر السامع على المدخول فيه لا على نفس الدخول . وقد مرت العبارة الاصلية في سورة الحج في قوله { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات } [ الآية : 23 ] إلى قوله { حرير } [ الآية : 23 ] وتغيير العبارة في هذا المقام لمزيد هذه الفائدة والله أعلم . وفي قوله { يحلون فيها } إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول . وفي تحليتهم بالسوار إشارة إلى أمرين : أحدهما الترفه والتنعم ، الثاني أنهم لا يحتاجون فيها إلى عمل من الصبخ وتهيئة سائر الأسباب . قال جار الله : أي يحلون بعض أساور من ذهب كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق المسوّرون به غيرهم ، والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحليّ . وقيل : إن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ ، والحزن للجنس فيعم كل حزن من أحزان الدنيا والدين كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » وقد خصه جمع من المفسرين بخوف سوء العاقبة أو بحزن الآفات أو بحزن الموت أو بهمّ المعاش حتى قال بعضهم : كراء الدار والتعميم أولى . والمقامة بمعنى الإقامة والفضل التفضل . وعند المعتزلة العطاء لأن الثواب أجر مستحق واجب عندهم . والنصب التعب والمشقة التي تصيب المزاول للأمر المنتصب له . واللغوب ما يلحقه من الفتور والكلال بعد ذلك قاله جار الله .

وقال غيره : إن الذي يباشر عملاً من الأعمال لا يظهر عليه الإعياء إلا بعد أن يستريح ، فالمراد أنهم لايخرجون من الجنة إلى موضع يتعبون بسبب ذلك ثم يلحقهم الإعياء بعد الرجوع .
ثم عطف قوله { والذين كفروا } على قوله { إن الذين يتلون } وقوله { فيموتوا } جواب للنفي والتقدير لا يقضي عليهم بالموت فيستريحوا و { يصطرخون } يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة كشأن المستغيث . وفائدة قوله { غير الذي كنا نعمل } زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح ، أو المراد نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون . وفيه إشارة إلى أنهم في الآخرة أيضاً ضالون لم يهدهم الله في الآخرة كما لم يهدهم في الدنيا ، ولو كانوا مهتدين لقالوا : ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعملهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظراً إلى فضلك ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظراً إلى عدلك ، وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة . وهذا بخلاف حال المؤمن هداه في العقبى كما هداه في الدنيا حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة ، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا { الحمد لله } وقالوا { إن ربنا لغفور } اعترافاً بتقصيرهم { شكور } إقراراً بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وأحالوا الكل إلى فضله تصريحاً بأنه لا عمل لهم بالنسبة إلى بحار نعمه . قوله { أولم نعمركم } استفهام فيه توبيخ وإفحام وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه إلا أن التوبيخ في العمر الطويل أعظم . عن النبي صلى الله عليه وسلم « العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة » وروي « من جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار » وعن مجاهد : ما بين العشرين إلى الستين . وقيل : ثماني عشرة وسبع عشرة . وقوله { وجاءكم } معطوف على المعنى كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم { النذير } وهو النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : الشيب . فبين بالجملتين أن القابل موجود والفاعل حاصل ، فالعذر غير مقبول { فذوقوا } العذاب { فما للظالمين } الذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها { من نصير } نفى الأنصار والناصرين في آخر « آل عمران » وفي « الروم » ووحد ههنا كأنهم في النار قد أيسوا من كثير ممنم كانوا يتوقعون منهم النصرة إلا من نصير واحد وهو الله سبحانه . ثم كان لسائل أن يسال : ما بال الكافر يعذب ابداً وإنه ما كفر إلا اياماً معدودة فلا جرم قال { إن الله عالم غيب السموات والأرض } فكان يعلم من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده .

وذات الصدور صواحباتها من الظنون والعقائد فذو موضوع لمعنى الصحبة ، فالصدور ذات العقائد والعقائد ذات الصدور باعتبار أنها تصحبها . وحين ذكرهم بما مر من أنه سوف يوبخهم بالتعمير وإيتاء العقول وإرسال من يؤيد المعقول بالمنقول وعظهم بأنه { هو الذي جعلكم } وفقد العاطف هنا خلاف ما في آخر « الأنعام » للعدول عن خطاب أهل الآخرة إلى خطاب أهل الدنيا . وقال ههنا { خلائف في الأرض } بزيادة « في » المفيدة لتمكن المظروف في الظرف لأجل المبالغة والترقي من الأدنى إلى الأعلى كأنه قيل : أمهلتهم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلفاء الهالكين الماضين فأصبحتم بحالهم راضين { فمن كفر } بعد هذا كله { فعليه } وبال { كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً } لأن الكافر السابق ممقوت واللاحق الذي أنذروه الرسول ولم ينتبه أمقت لأنه رأى عذاب من تقدّمه ولم يتنبه { ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر . ثم وبخ أهل الشرك بقوله { قل أرأيتم } وأبدل منه { أروني } كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء ، أروني أيّ جزء من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه { أم لهم } مع الله { شرك في } خلق { السموات } أم معهم أو مع عابديهم كتاب من عند الله فهم على برهان من ذلك الكتاب . والإضافة في { شركائكم } لملابسة العبادة ، أو المراد كونهم شركاءهم في النار كقوله { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] { بل إن يعد الظالمون بعضهم } وهم الرؤساء { بعضاً } وهم الأتباع { إلا غروراً } وهو قولهم { هؤلاء شفعاؤنا } [ يونس : 18 ] وحين بين عجز الأصنام أراد أن يبين كمال القدرة فقال { إن الله يمسك السموات والأرض } أي يمنعهما من { أن تزولاً } أو كراهة زوالهما عن مقرهما ومركزهما ، ولو فرض زوالهما بأمر الله فلن يمسكهما أحد من بعد زوالهما أو من بعد الله . وقيل : أراد أنهما كانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً لعظم كلمة الشرك كقوله { تكاد السموات يتفطرن منه } [ مريم : 90 ] يؤيد هذا الوجه قوله { إنه كان حليماً } غير معاجل بالعقوبة { غفوراً } لمن تاب من الشرك . قال المفسرون : بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوا فوالله لئن أتانا رسول لكنا أهدى . وزيف هذا النقل بأن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر فكيف اعترفوا بأن اليهود والنصارى جاءهم رسل . سلمنا لكنهم كيف عرفوا تكذيب اليهود وتحريفهم ولم يأتهم رسول ولا كتاب؟ فالوجه الصحيح في سبب النزول أنهم كانوا يقولون : لو جاءنا رسول لم ننكره وإنما ينكرون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً لأنه كاذب ، ولو صح كونه رسولاً لآمنا . وقوله { من إحدى الأمم } ليس للتفضيل بل المراد أنا نكون أهدى مما نحن عليه ونكون من إحدى الأمم كقولك : زيد من المسلمين .

أو هو للتفضيل والأمم لتعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى عليهم السلام ، أو للعموم أي أهدى من ايّ أمة تفرض ويقال فيها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة . { فلما جاءهم نذير } هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي صح لهم نذارته بالمعجزات الباهرة { ما زادهم } هو أو مجيئه { إلا نفوراً } كأنه صار سبباً في نفارهم عن الحق عناداً وكبراً فانتصب { استكباراً } على أنه مفعول لأجله أو حل ويجوز أن يون بدلاً من { نفوراً } وقوله { ومكر } من إضافة المصدر إلى صفة معموله أصله وأن مكروا السيء أي المكر السيء ، والمكر هو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من الهّم بالقتل والإخراج وقد حاق بهم يوم بدر ، أو هو عام وعاقبة الماكر وخيمة يصل إليه جزاؤه عاجلاً أو آجلاً . عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله » وفي أمثالهم « من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكباً » . وفي قوله { بأهله } دون أن يقول « إلا بالماكر إشارة إلى أن الرضا بالمكر والإعانة عليه كهو فيندرج مصاحبه في زمرة أهل المكر . وقوله { سنة الأوّلين } من إضافة المصدر إلى المفعول . وقوله { سنة الله } من إضافته إلى الفاعل والمراد بها إنزال العذاب على أمثالهم من مكذبي الرسل ، جعل استقبالهم لذلك واستعجالهم إياه انتظاراً له منهم . والتبديل تغيير الصورة مع بقاء المادة ، والتحويل نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر . خص هذه السورة بالجمع بين الوصفين لأن كثيراً من أحوال الكفرة جاءت ههنا مثناة كقوله { ولا يزيد الكافرين } إلى قوله { إلا خساراً } وكقوله { إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيء } ويحتمل أن يريد بسنة الأوّلين استمرارهم على الإنكار كأنه قال : أنتم تريدون الإتيان بسنة الأوّلين والله يأتي بسنة لا تبدل . العذاب المعلوم بنوع آخر ولا تحوّله عن مستحقيه إلى من لا يستحقه . ثم أمرهم بالسير وذكرهم ما رأوه في مسايرهم ومتاجرهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الهالكين الأقدمين مع وفور قوّتهم وكثرة شوكتهم . ثم بين كمال علمه ونهاية قدرته على اتصال أصناف الاستحقاقات بقوله { وما كان الله ليعجزه } أي ليسبقه ويفوته شيء . ثم ختم السورة بما يدل على غاية حلمه وهو أنه لا يؤاخذ الناس بكل جرم { إلى أجل مسمى } هو القيامة وهو يومئذ أعلم بأحوالهم علماً عيانياً فيجزي كلاً بحسب علمه ، وقد مر مثل الآية في سورة النحل . وقيل : الأجل هو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو حين يجتمع الناس على الضلال والله أعلم .


يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)

القراآت : { يس } بإظهار النون : أبو عمرو وسهل ويعقوب غير رويس وابن كثير غير ابن فليح وحمزة وأبو جعفر ونافع غير النجاري عن ورش والحلواني عن قالون وعاصم غير يحيى وابن ابي غالب . وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد بالإمالة . { تنزيل } بالنصب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . والباقون : بالرفع { سدّاً } بفتح السين في الحرفين : حمزة وعلي وخلف وحفص وابو زيد { فعززنا } بالتخفيف : أبو بكر وحماد والمفضل { آين } بالمد والياء أبو عمرو وقالون وزيد مثله ولكن بالقصر ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد . { أئن } بهمزتين : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وابن عامر ، هشام يدخل بينهما مدة وقرأ المفضل { أين } على وزن « كيف » { آن } بسكون النون وبالمد : يزيد مثل { آنذرتهم } { ذكرتم } بالتخفيف : زيد { ومالي } بسكون الياء : حمزة ويعقوب { ينقذوني } في الحالين بالياء : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل { إني إذا } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { إني آمنت } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { إلا صيحة واحدة } بالرفع وكذلك ما بعدها : يزيد { لما } بالتشديد : ابن عامر وحمزة وعاصم { الميتة } بالتشديد : أبو جعفر ونافع { عملت } بغير هاء الضمير : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل { لمستقر } بكسر القاف : زيد عن يعقوب { والقمر } بالرفع على الابتداء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ونافع ويعقوب غير رويس . الآخرون : بالنصب إضماراً على شريطة التفسير { ذرياتهم } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب .
الوقوف : { يس } 5 كوفي { الحكيم } 5 لا لجواب القسم { المرسلين } 5 لا لأن الجار والمجرور خبر بعد خبر أو مفعول ثانٍ لمعنى الفعل في { المرسلين } أي أرسلت على صراط { مستقيم } 5 ط على القراءتين فمن نصب فمعناه نزل تنزيل أو أعني تنزيل ومن رفع فالتقدير هذا تنزيل { الرحيم } 5 لا لتعلق لام كي بمعنى التنزيل والإرسال { غافلون } 5 { لا يؤمنون } 5 { مقمحون } 5 { لا يبصرون } 5 { لا يؤمنون } 5 { بالغيب } 5 لانقطاع النظم مع دخول الفاء { كريم } 5 { وآثارهم } ط { مبين } 5 { القرية } 5 لأن « إذ » ليس ظرفاً { لاضرب } بل التقدير وإذكر إذ جاءها . وجوّز في الكشاف أن يكون « إذ » بدلاً من { أصحاب القرية } فلا وقف . { المرسلون } 5 ج لاحتمال أن يكون « إذ » بدلاً أو معمولاً لعامل آخر مضمر { مرسلون } 5 { مثلنا } لا { من شيء } لا لاتحاد المقول فيهما { تكذبون } 5 { لمرسلون } 5ج { المبين } 5 { بكم } ج للإبتداء بما في معنى القسم مع اتحاد المقول { أليم } 5 { معكم } ط { ذكرتم } ط { مسرفون } 5 { المرسلين } 5 لأن { اتبعوا } بدل من الأوّل { مهتدون } 5 { ترجعون } 5 { ولا ينقذون } 5 ج للابتداء بان مع تعلق « إذا » بما قبلها أي أني إذا اتخذت آلهة لفي ضلال { مبين } 5 { فاسمعون } 5 ط لأن التقدير فلم يسمعوا قوله فقتلوه ثم قيل له ادخل { الجنة } ط { يعلمون } 5 لا لتعلق الباء .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...