Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج5وج6.غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج5وج6.غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
ويمكن أن يقال : توقف الصوم على الهلال قد علم من قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة : 184 ] والزكاة تتعلق بالحول . والأصل في تقدير السنين لعودة الشمس من نقطة كأول الحمل مثلاً إلى مثلها بحركتها الخاصة ، والأيمان والجهاد لا يتعلقان بوقت معين ، والصلاة تتعلق باليوم بليلته ، فلم يبق من الأركان المتعلقة بالشهر سوى الحج فتعين ذكره في هذه الآية والله أعلم .
قوله تعالى عز من قائل { وليس البر بأن تأتوا البيوت } عن البراء قال : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصارفدخل من قبل بابه فكأنه عُير بذلك فنزلت وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية . والحاصل أن ناساً من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب فإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء . فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم من دخول الباب تشديداً لأمر الإحرام { ولكن البر بر من اتقى } ولكن ذا البر من اتقى مخالفة الله . وقيل : إن الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر مبن صعصعة سموا حمساً لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة . كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ، ولم يجلسوا تحت سقف البيت ، ولم يستظلوا الوبر ، ولم يأكلوا السمن والأقط . وعن الحسن والأصم : كان الرجل في الجاهلية إذا هم فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يِأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً . وأما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله بناء على الأسباب المروية في نزوله وعليه أكثر المفسرين ، فهو أنهم لما سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة قيل لهم : اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم ، ولا تعتقدوا أن جميع ما سنح لكم هو على شاكلة الصواب : وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم تحسبونها براً وليست من البر في شيء ، أو أنه تعالى لما ذكر الحكمة في الأهلة وهي جعلها مواقيت الناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج ، فلا جرم تكلم الله تعالى فيه استطراداً ، أو اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد . وقيل : إنه تمثيل لتعكيسهم في سؤالهم ، فإن الطريق المستقيم هو الاستدلال بالمعلوم على المظنون ، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب ، ولما ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً ، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ، فإذا رأينا اختلاف حال القمر وجب أن نعلم أن فيه حكمة ومصلحة ، وهذا استدلال بالمعلوم على المجهول .

فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله غير حكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم ، فكأنه تعالى يقول : لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق أو قاربتم الشك ، فقد أتيتم الأمر من ورائه وهذا ليس من البر ولا من كمال العقل ، إنما البر أن تأتوا الأمور من وجوهها التي يجب أن تؤتى منها ، وهذا باب مشهور في الكناية قال الأعشى
:
وكأس شربت على رغبة ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أني أمرؤ ... أتيت المعيشة من بابها
وعن أبي مسلم : أن هذا إشارة إلى ما كانوا يفعلونه من النسيء وكان يقع الحج في غير وقته ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلاً لمخالفتهم الواجب في الحج وشهوره . ثم إنه تعالى أمرهم بالتقوى التي تتضمن الإتيان بجميع الواجبات والاجتناب عن الفواحش والمنكرات إرادة أن يظفروا بالمطالب الدينية والدنيوية والله ولي التوفيق .
التأويل : { بالباطل } أي بهوى النفس والحرص والإسراف { وتدلوا بها إلى الحكام } يعني النفوس الأمارة بالسوء { من أموال الناس } من الأموال التي خلقت للاستعانة بها على العبودية . الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم وللصديقين مواقيت مراقباتهم . والحج إشارة إلى ما يرد بحكم الوقت عليهم من غير اختيارهم ، فمن كان وقته الصحو كان قيامه بالشريعة ، ومن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة ، فإن تجلى لهم بوصف الجلال طاشوا ، وإن تجلى لهم بوصف الجمال عاشوا ، فليس للمحبين وقت إلا أوقات محبوبهم كما ليس لهم وصف إلا أوصاف محبوبهم والله تعالى أعلم .
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

القراآت : { ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم } حمزة وعلي وخلف . الباقون : من باب المفاعلة . وقيل : إنه من جملة ما يكتب في المصحف بغير ألف كالرحمن .
الوقوف : { ولا تعتدوا } ط { المعتدين } 5 { من القتل } ج للعارض بين الجملتين المتفقتين { فيه } ج للابتداء بالشرط مع الفاء { فاقتلوهم } ط { الكافرين } 5 { رحيم } 5 { الدين لله } ط لتبدل الحكم { الظالمين } 5 { قصاص } ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه { ما اعتدى عليكم } ص لعطف الجملتين المتفقتين { المتقين } 5 { التهلكة } ج لاختلاف المعنى أي لا تقتحموا في الحرب فوق ما يطاق { وأحسنوا } ج لاحتمال تقدير الفاء واللام { المحسنين } 5 .
التفسير : لما أمر في الآية المتقدمة بالتقوى ، أمر في هذه الآية بأشق أقسامها على النفس وهو المقاتلة في سبيل الله . عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يقاتل في سبيل الله فقال : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة » { الذين يقاتلونكم } الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين أعني الذين هم بصدد القتال بالفعل دون التاركين . قيل : وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] ومنع بأن الأمر بقتال من يقاتل لا يدل على المنع من قتال من لا يقاتل . وكذا ما روي عن الربيع بن أنس : هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف . أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أي المستعدين للقتال سوى من جنح للسلم ، أو الكفرة كلهم لأنهم جميعاً مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم مستحلون لها فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا . وقيل في سبب نزول الآية إنه صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه لإرادة الحج ، فلما نزل بالحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء صدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهراً لا يقدر على ذلك ، فصالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل ويتركوا له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدى ويفعل ما يشاء ، فرضي صلى الله عليه وسلم بذلك وصالحهم عليه وعاد إلى المدينة . وتجهز في السنة القابلة ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم . وكانوا كارهين لقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم . فأنزل الله هذه الآيات وبيّن له كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها فقال : { وقاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا } بابتداء القتال . وإنما كان ذلك في أول الأمر لقلة المسلمين ولكون الصلاح في استعمال الرفق واللين ، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع وأقام من أقام منهم على الشرك بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حصل اليأس من إسلامهم ، فأمروا بالقتال على الإطلاق .

أو لا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من غير المستعدين كالنساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد ، أو بالمثلة ، أو المفاجأة من غير دعوة إلى الإسلام . وهذه المعاني الثلاثة بإزاء التفاسير الثلاثة في { الذين يقاتلونكم } .
{ إن الله لا يحب المعتدين } المتجاوزين عما شرع الله لهم . في الصحاح : ثقفته أي صادفته . وفي الكشاف ، الثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجل ثقف أي سريع الأخذ لأقرانه قال :
فإما تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود
أمر في الآية الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على القتال ، وفي هذه الآية زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا . واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام ، وسمي حراماً لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما منع من فعله وأصل الحرمة المنع { من حيث أخرجوكم } أي من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح . أو أخرجوهم من منازلهم كما أخرجوكم من منازلكم ، وقد أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين من المدينة بل قال : « لا يجمع دينان في جزيرة العرب » والمراد بالإخراج تكليفهم الخروج قهراً أو تخويفهم وتشديد الأمر عليهم حتى اضطروا إلى الخروج { والفتنة } عن ابن عباس أنها الكفر بالله لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج وفيه الفتنة . وأيضاً الكفر ذنب يستحق العقاب الدائم بالاتفاق والقتل ليس كذلك والكفر يخرج به صاحبه عن الأمة دون القتل . روي أن صحابياً قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام فعابه المؤمنون على ذلك فنزلت . أن لا تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام ، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك . وقيل الفتنة أصلها عرض الذهب على النار للخلاص من الغش ، ثم صار اسماً لكل محنة . والمعنى إن إقدام الكفار على تخويف المؤمنين وعلى تشديد الأمر عليهم حتى صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والأوطان هرباً من إضلالهم في الدين وإبقاء على مهجهم وحرمهم ، أشد من القتل الذي أوجبته عليكم جزاء عن تلك الفتنة لأنه يقتضي التخلص ، من غموم الدنيا وآفاتها .
لقتل بحد السيف أهون موقعاً ... على النفس من قتل بحد فراق
وقيل : الفتنة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، فكأنه قيل : اقتلوهم حيث ثقفتموهم ، واعلموا أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه قال عز من قائل : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] وقيل : فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام لأنه سعي في المنع عن الطاعة التي ما خلق الجن والإنس إلا لها ، أشد من قتلكم إياهم في الحرم .

وقيل : ارتداد المؤمن أشد من أن يقتل محقاً . فالمعنى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم من أن ترتدوا على أدباركم أو تتكاسلوا عن طاعة معبودكم . يروى أن الأعمش قال لحمزة : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولاً فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا ، وإذا ضرب منهم واحد قالوا ضربنا ، وذلك أن وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم . { فإن انتهوا } قيل : أي عن القتال لأن المقصود من الإذن في القتال منع المقاتلة عن ابن عباس . وقيل : أي عن الشرك بدليل قوله : { فإن الله غفور رحيم } الدال على أنه يغفر لهم ويرحهم والكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال بل بترك الكفر ، عن الحسن . قلت : إن أريد بالقتال استحلالهم قتل المسلمين تلازم القولان ، والانتهاء عن الكفر ظاهره التلفظ بكلمة الإسلام وأنه مؤثر في حقن الدم وعصمة المال ، وباطنه هو التشبث بأركان الإسلام جميعاً ويؤثر في استحقاق الرحمة والغفران . وقد يستدل بقوله : { والفتنة أشد من القتل } على أن التوبة عن قتل العمد بل من كل ذنب . مقبولة لأن الشرك أعظم الذنوب ، فإذا قبل الله تعالى توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى . وأيضاً الكافر القاتل مقبول التوبة بالاتفاق إذا أسلم ، فالقاتل غير الكافر أولى . ويمكن أن يجاب بأن حق الله تعالى مبني على المساهلة فظهر الفرق . وأيضاً الإيمان يجب ما قبله ، فلا يلزم من عدم مؤاخذة الكافر بقتله إذا أسلم أن لا يؤاخذ المسلم بقتله ، ولهذا يجب قضاء الصلوات الفائتة على المسلم إذا تاب عن ترك الصلاة ، ولا يجب على الكافر إذا أسلم .
قوله تعالى : { وقاتلوهم } وقيل : إنه ناسخ لقوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } وهو وهم لأن البداءة بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته . غاية ما في الباب أن هذه الآية عامة وما قبلها مخصصة إياها وهذا جائز ، فإن القرآن ليس على ترتيب النزول ، ولو كان على الترتيب أيضاً فلا يضرنا لجواز نزول الخاص قبل العام عندنا وذلك أن الخاص قاطع في دلالته تقدم أو تأخر ، والعام دلالته على ما يدل عليه الخاص غير مقطوع بها فلا بد من التخصيص جمعاً بينهما { حتى لا تكون فتنة } قيل : أي شرك وكفر . وعلى هذا فالآية محمولة على الأغلب . فإن قتالهم لا يزيل الكفر رأساً ، وإنما الغالب الإزالة لأن من قتل منهم فقد زال كفره ومن لم يقتل كان خائفاً من الثبات على كفره . والحاصل قاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وهو المراد أيضاً من قوله : { ويكون الدين لله } أي ليس للشيطان فيه نصيب لوضوح شأنه وسطوع برهانه كما قال تعالى :

{ ليظهره على الدين كله } [ الصف : 9 ] ولا يعبأ بالمخالف لقلة شوكته وسقوطه عن درجة الاعتداد به ، أو محمولة على قصد إزالة الكفر فترتب هذا العزم على القتال كلي لا يتخلف عنه . وقيل : فتنتهم أنهم كانوا يضربون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذونهم حتى ذهب بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، أي قاتلوهم حتى تظهروا عليهم ولا يفتنوكم عن دينكم . وعن أبي مسلم : معناه قاتلوهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدأوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار . ولا يخفى أن قوله : { ويكون الدين لله } يرجح القول الأول ليكون المعنى : وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويظهر الإسلام { فإن انتهوا } عن الأمر الذي وجب قتالهم لأجله وهو إما الكفر أو القتال { فلا عدوان إلاّ على الظالمين } أي فلا تعدوا على المنتهين فيكون مجموع قوله { إلاّ على الظالمين } قائماً مقام على المنتهين . لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فنهوا عنه بدليل انحصاره في غير المنتهين . أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين . وعلى الوجهين سمي جزاء الظلم ظلماً للمشاكلة كما يجيء في قوله تعالى : { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } أو أريد إنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيتسلط عليكم من يعدو عليكم . قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة سنة ست من الهجرة وصدّوهم عن البيت . فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذاك في ذي القعدة سنة سبع { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي هذا الشهر بذاك الشهر ، وهتكه بهتكه . فلما لم تمنعكم حرمته عن الكفر والأفعال القبيحة فكيف تمنعنا عن القتال معكم دفعاً لشروركم وإصلاحاً لفسادكم؟ والحرمة ما لا يحل انتهاكه ، والقصاص المساواة أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة كانت ، اقتص منه بأن يهتك له حرمة . والحرمات الشهر الحرام والبيت الحرام والإحرام ، فلما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وفقتكم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع ، وإن أقدموا على مقاتلتكم فقد أذنت لكم في قتالهم فافعلوا بهم مثل ما فعلوا ولا تبالوا . ثم أكد ذلك بقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } حين تنتصرون ممن اعتدى عليكم حتى لا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم { واعلموا أن الله مع المتقين } بالنصر والتأييد والتقوية والتسديد ، فإن الاستصحاب بالعلم أو بالمكان إن جاز شامل للمتقين وغيرهم . قوله عز من قائل { وأنفقوا } وجه اتصاله بما قبله أنه تعالى لما أمر بالقتال وأنه يفتقر إلى العدد والعدد قد يكون ذو المال عاجزاً عن القتال ، وقد يكون القوي على القتال عديم المال فلهذا أمر الله الأغنياء بالإنفاق في سبيله إعداداً للرجال وتجهيزاً للأبطال ويروى أنه لما نزل { الشهر الحرام بالشهر الحرام } قال رجل من الحاضرين : والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا .

فأمر صلى الله عليه وسلم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة ولو بمشقص يحمل في سبيل الله فيهلكوا فنزلت هذه الآية على وفق قول الرسول صلى الله عليه وسلم . والإنفاق صرف المال في وجوه المصالح . فلا يقال للمضيع : إنه منفق وإنما يقال : مبذر . وسبيل الله دينه فيشمل الإنفاق فيه الإنفاق في الحج والعمرة والجهاد والتجهيز والإنفاق في صلة الرحم وفي الصدقات أو على العيال أو في الزكاة والكفارات أو في عمارة بقاع الخير وغير ذلك . الأقرب في هذه الآية . وقد تقدم ذكر القتال . أن يراد به الإنفاق في الجهاد ، ولكنه تعالى عبر عنه بقوله { في سبيل الله } ليكون كالتنبيه على السبب في وجوب هذا الإنفاق . فالمال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز نفسه ونشط وهان عليه ما دعي إليه . والباء في { بأيديكم } مزيدة مثلها في « أعطى بيده للمنقاد » والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم . وقيل : الأيدي الأنفس كقوله : { فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] { بما قدمت يداك } [ الأنفال : 51 ] أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . وقيل : بل ههنا حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة كما يقال « أهلك فلان نفسه بيده » إذا تسبب لهلاكها . عن أبي عبيدة والزجاج : إن التهلكة والهلاك والهلك واحد . لم يوجد مصدر على تفعلة بضم العين سوى هذا ، إلا ما حكاه سيبويه من قولهم « التضرة » « والتسرة » ونحوها في الأعيان « التنضبة » لشجر و « التتفلة » لولد الثعلب . ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة بالكسر كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر من هلك مشدد العين ، فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار . وليس الغرض من هذا التكلف على ما ظن تصحيح لفظ القرآن كيلا تنخرم فصاحته فإنه أجل من أن يحتاج في تصحيحه إلى الاستشهاد بكلام الفصحاء من البشر ، وكيف لا وهو حجة على غيره وليس لغيره أن يكون حجة عليه . وإنما الغرض الضبط والتسهيل ما أمكن فتنبه . وللمفسرين في هذا الإلقاء خلاف فمنهم من قال إنه راجع إلى الإنفاق . وروى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال : نزلت هذه الآية في النفقة . وذلك أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، أو ينفقوا كل مالهم فيحتاجوا ويجتاحوا فيكون نهياً عن التقتير والإسراف وعنهما جميعاً { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } [ الفرقان : 67 ] أو المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إن أنفقنا نهلك ذلاً وفقراً .

نهوا عن أن يحكموا على أنفسهم بالهلاك للإنفاق ، أو أنفقوا ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط منا أو أذى أو رياء وسمعة مثل { ولا تبطلوا أعمالكم } [ محمد : 33 ] ومنهم من قال : إنه راجع إلى غير الإنفاق أي لا تخلوا بالجهاد فتتعرضوا للهلاك الذي هو سخط الله وعذاب النار ، أو لا تقحموا في الحرب حيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل كما روي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقتل بين الصفين . وإنما يجب أن يتقحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل . « روى الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قُتلتُ صابراً محتسباً؟ قال : لك الجنة » . فانغمس في جماعة العدو فقتلوه . وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجنة . ثم انغمس في العدو فقتلوه بين يدي الرسول . وروي أن رجلاً من الأنصار تخلف من أصحاب بئر معونة فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه . فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك . فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً . وروى أسلم أبو عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفاً عظيماً من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس ، إنكم تؤوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار . لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً دون النبي صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه . فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها . فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم . وقيل : إن الآية من تمام ما قبلها أي إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فإن الحرمات قصاص ، ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال . وعن النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب فيقول : لا يغفر لي فأنزل الله تعالى هذه الآية . وذلك أنه يرى أنه لا ينفعه معه عمل فيترك العبودية ويصر على الذنب فنهى عن القنوط من رحمة الله { وأحسنوا } في الإنفاق بأن يكون مقروناً بطلاقة الوجه أو على قضية العدالة بين التقتير والإسراف أو في فرائض الله عن الحسن { إن الله يحب المحسنين } إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

وهذا مقام القرب ، والقرب يقتضي الإرادة الذاتية وهذا رمز والله ولي كل خير .
التأويل : { وقاتلوا } من يمنعكم عن السير في سبيل الله أو أراد أن يقطع عليكم طريقة من شياطين الإنس والجن حتى نفوسكم التي هي أعدى عدوكم { ولا تعتدوا } لا تتجاوزوا عن حد الشرع فتجاهدوا بالطبع ، ولكن كونوا ثابتين على قدم الاستقامة بقدر الاستطاعة من غير إفراط وتفريط ، { واقتلوا } كفار النفس بسيف الرياضة حيث ظفرتم بهم ، ومجاهدتها مخالفة هواها . { وأخرجوهم } من صفات النفس { كما أخرجوكم } من جمعية القلب وحضوره { والفتنة } أي المحنة التي ترد على القلب من طوارق صفات النفس الحاجبة عن الله { أشد من } قتل النفس بمخالفة هواها { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } لا تلتفتوا إلى النفس وصفاتها إذا كنتم آمنين مطمئنين في مقامات القلب والروح حتى يزاحموكم في الحضور وداعية الهوى؛ فإن نازعوكم في الجمعية والحضور { فاقتلوهم } بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي عن نفوسكم بكل ما أمكن لئلا يبقى لكم علاقة تصدكم عن الله { فإن انتهوا } بأن قنعت بما لا بد لها فلا تغلوا في مجاهدتها . { الشهر الحرام } أي ما يفوتكم من الأوقات والأوراد بتواني النفس ونزاعها وغلبات صفاتها فتداركوه الشهر بالشهر واليوم باليوم { فمن اعتدى } فكل صفة غلبت واستولت فعالجوها بضدها البخل بالسخاء ، والغضب بالحلم ، والحرص بالزهد ، والشهوة بالعفة ، { واتقوا الله } في الإفراط والتفريط { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } بالتفريط في الحقوق والإفراط في الحظوظ أو بموافقة النفوس ومخالفة النصوص ، أو بالركوب إلى الفتور بالحسبان والغرور والله المستعان على ما يصفون .
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

القراآت : { من رأسه } وكذلك « البأس » و « الكأس » كلها بغير همزة أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى وحمزة في الوقف .
الوقوف : { لله } ط لأن عارض الإحصار خارج عن موجب الأصل { من الهدى } ج لعطف المختلفتين { محله } ط لابتداء حكم كفارة الضرورة { أو نسك } ج لأن « إذا » للشرط مع الفاء وجوابه محذوف أي فإذا أمنتم من خوف العدو وضعف المرض فامضوا . أمنتم وقف لحق الحذف ولابتداء الشرط في حكم آخر وهو التمتع { من الهدى } ج { رجعتم } ط { كاملة } ط { الحرام } ط { العقاب } 5 .
التفسير : الحج في اللغة القصد كما مر في قوله { فمن حج البيت أو اعتمر } [ البقرة : 158 ] وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة . وهي على ثلاثة أقسام : أركان وأبعاض وهيئات . لأن كل عمل يفرض فيه فإما أن يتوقف التحلل عليه وهو الركن ، أو لا يتوقف . فإما أن يجبر بالدم وهو البعض ، أو لا يجبر وهو الهيئة . والأركان عند الشافعي خمسة : الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو تقصيره . وخالف أبو حنيفة في السعي ، ولا مدخل للجبران في الأركان . وأما الأبعاض أعني الواجبات المجبورة بالدم ، فالإحرام من الميقات والرمي وفاقاً وفي الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس وفي المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ، وفي طواف الوداع خلاف . وأما الهيئات فالاغتسال وطواف القدوم والرمي والاضطباع في الطواف وفي السعي واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية إلى غير ذلك . وبالجملة ما سوى الأركان والأبعاض ولا دم في تركها . وأما في العمرة فما سوى الوقوف من أركان الحج أركان فيها . ثم إن قوله عز من قائل : { وأتموا } أمر بالإتمام . وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط؟ فالشافعي على أنه مطلق والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام والكمال . وأبو حنيفة على أنه مشروط والمعنى : من شرح فيه فليتمه كما إذا كبر بالصلاة تطوعاً لزمه الإتمام . وفائدة الخلاف تظهر في العمرة فإنها تصير واجبة على المعنى الأول دون الثاني . حجة الشافعي أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء تاماً كاملاً كقوله { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } [ البقرة : 124 ] أي أدّاهن على التمام والكمال . وقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] أي افعلوا الصيام تاماً إلى الليل وهذا أولى من تقدير أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه ، لأن الأصل عدم إضمار هذا الشرط ، ولأن المفسرين أجمعوا على أن هذه أول آية نزلت في الحج ، فحملها على الإيجاب ليكون تأسيساً أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع ، فإنها تكون حينئذ تبعاً ، ولأنه قرئ { وأقيموا الحج والعمرة } والشاذ يصلح للترجيح وإن لم يصلح للقطع كخبر الواحد ، ولأن الوجوب المطلق يستلزم الإتمام ، والإتمام بشرط الشروع لا يستلزم أصل الوجوب .

فتأويلنا أكثر فائدة ، فيكون أولى . وأيضاً أنه أحوط . واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب . وقال تعالى { يوم الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] وفيه دليل على وجود حج أصغر وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق . لكن الحج واجب على الإطلاق لقوله { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] فيدخل فيه الأكبر والأصغر .
« حجة أبي حنيفة قصة الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي : لا أزيد على هذا ولا أنقص . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلح الأعرابي إن صدق » . وقال صلى الله عليه وسلم : « بني الإسلام على خمس » الحديث . ولم يذكر العمرة . وأجيب بأن العمرة حج أصغر فتدخل في مطلق الحج قالوا : « روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ فقال : لا ، وأن تعتمر خير لك » . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « الحج جهاد والعمرة تطوع » وأجيب بأنها أخبار آحاد فلا تعارض القرآن . وأيضاً لعل العمرة ، ما كانت واجبة حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها { وأتموا الحج } وذلك في السنة السابعة من الهجرة . وأيضاً إنها معارضة بأخبار تدل على وجوبها . روى النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ، قال صلى الله عليه وسلم « حج عن أبيك واعتمر أمر بهما والأمر للوجوب » . وروي عن ابن عباس أنه قال : إن العمرة لقرينة الحج ، وحمله على أنهما يقترنان في الذكر تكلف . وعن عمر أن رجلاً قال له : إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً فقال : هديت لسنة نبيك وحمله على أن الوجوب مستفاد من الإهلال بهما لا يخلو من تعسف . قالوا : قرأ علي وابن مسعود والشعبي { والعمرة لله } بالرفع . فكأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج في الوجوب . وأجيب بأن الشاذة لا تعارض المتواترة ، وبأنها ضعيفة من حيث العربية لعطف الاسمية على الفعلية ، والخبرية على الطلبية ، وبأن كون العمرة عبادة لله لا ينافي وجوبها . واعلم أن لأداء النسكين وجوهاً ثلاثة : الإفراد والتمتع والقِران فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل ، أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة . والقِران أن يحرم بالحج والعمرة معاً في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه معاً ، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم قبل الطواف أدخل الحج عليها يصير قارناً .

والتمتع هو أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ، ثم يحج في هذه السنة من مكة . سمي تمتعاً لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بينهما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ، وأنه أيضاً يربح ميقاتاً لأنه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه ، وإذا تمتع استغنى عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة . ولا خلاف بين أئمة الأمة في جواز هذه الوجوه ، وإنما الخلاف في الأفضلية فقال الشافعي : أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القِران . وقال في اختلاف الحديث : التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك . والإمامية قالوا : لا يجوز لغير حاضري المسجد الحرام العدول عن التمتع إلا لضرورة . وقال أبو حنيفة ، القِران أفضل ثم الإفراد ثم التمتع . وهو قول المزني وأبي إسحاق المروزي . وقال أبو يوسف ومحمد : القِران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد . حجة الشافعي في أفضلية الإفراد قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } وذلك أن العطف يقتضي المغايرة وأنها تحصل عند الإفراد ، فأما عند القِران فالموجود شيء واحد هو حج وعمرة معاً . وأيضاً الأعمال عند الإفراد أكثر فيكون الثواب أكثر وذلك هو الفضل . وما روي عن أنس أنه قال : كنت واقفاً عند جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لعابها يسيل على كتفي فسمعته يقول : لبيك بعمرة وحجة معاً . معارض بما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج ، وهكذا روى جابر وابن عمر . وقد رجح الشافعي رواية عائشة وجابر وابن عمر على رواية أنس بأنهم أعلم وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقدم صحبة ، أن أنساً كان صغيراً في ذلك الوقت قليل العلم .
حجة القائلين بأفضلية القِران : أن في القِران مسارعة إلى النسكين ، وفي الإفراد ترك المسارعة إلى أحدهما ، فيكون أفضل لقوله { وسارعوا } [ آل عمران : 133 ] وأجيب بأنا لا نقول الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة ، لكنا نقول : من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها ، فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة ، واختلف في تفسير الإتمام في قوله تعالى { وأتموا } . فعن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود : أن إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك . وقال أبو مسلم : المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام قال : ويدل على صحة هذا التأويل أن الآية نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الماضية عن الحج والعمرة . فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية بأن لا يرجع حتى يتم الفرض .

ويعلم منه أن تطوع الحج والعمرة كفرضهما في وجوب الإتمام . وقال الأصم : المراد إتمام الآداب المعتبرة فيهما وهي عسرة على ما ذكر في الإحياء الأول : في المال ، فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ، ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير ، بل على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد والرفق بالفقراء ، ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها . الثاني : الإخوان والرفقاء المقيمون يودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيراً . والسنة في الوداع أن يقول : أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك . الثالث : إذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد « الفاتحة » ، { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية « الإخلاص » وبعد الفراغ يتضرع إلى الله تعالى بالإخلاص . الرابع : إذا حصل على باب الدار قال : بسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وكلما كانت الدعوات أكبر كان أولى . الخامس : إذا ركب قال : بسم الله وبالله والله أكبر ، توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } [ الزخرف : 13 ] السادس : في النزول . والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ولا ينزل حتى يحمى النهار ، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيراً . السابع : إن قصده عدوّ أو سبع بالليل أو بالنهار فليقرأ آية الكرسي { وشهد الله } [ آل عمران : 18 ] و « الإخلاص » و « المعوذتين » ثم يقول : تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي الذي لا يموت . الثامن : مهما علا نشزاً من الأرض في الطريق يستحب أن يكبر ثلاثاً . التاسع : أن لا يكون هذا السفر مشوباً بشيء من الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها . العاشر : أن يصون لسانه عن الرفث والفسوق والجدال ، ثم بعد الإتيان بهذه المقدمات يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة ، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى ليكون مؤتمراً لقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } اقتداء بإبراهيم عليه السلام حين ابتلي . بكلمات فأتمهن . وقيل : المراد من قوله : { وأتموا } أفردوا كل واحد منهما بسفره ويؤيد هذا تأويل من قال الإفراد أفضل . وأقرب هذه الأقوال ما يرجع حاصله إلى معنى ائتوا بالحج والعمرة تأمين كاملين بمناسكهما وشرائطهما وآدابهما لوجه الله بدليل قوله { فإن أحصرتم } قال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس ومنه الحصير للملك لأنه كالمحبوس في الحجاب . والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض .

فكأن كلاً منها محبوس مع غيره ، والحصير المحبس أيضاً . والأكثرون على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو . يقال : حصره العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه . وعن أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وغيرهم : أن لفظ الإحصار مختص بالمرض ونحوه من خوف وعجز قال تعالى { الذين أحصروا في سبيل الله } [ البقرة : 273 ] وقيل : الإحصار مختص بمنع العدو . ومنه ما يروى عن ابن عمر وابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو . وفائدة الخلاف في الآية تظهر في مسألة فقهية وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت . وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع؟ قال أبو حنيفة : يثبت . وقال الشافعي ومالك وأحمد : لا يثبت ، بل يصبر حتى يبرأ . نعم لو شرط أنه إذا مرض تحلل صح الشرط لما « روي أنه صلى الله عليه وسلم مر بضباعة بنت الزبير فقال : أما تريدين الحج؟ فقالت : إني شاكية . فقال : حجي واشترطي أن تحلي حيث حبست » . وفي حكم المرض كل غرض صحيح كضلال الطريق ونفاد الزاد ، حجة أبي حنيفة ظاهر كلام أكثر أهل اللغة ، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل » وحجة الشافعي قول ابن عمر وابن عباس وطائفة من أهل اللغة . وأيضاً الهمزة في { أحصر } ليس للتعدية لمساواته حصر في اقتضاء المفعول فتكون للوجود ، أو لصيرورته ذا كذا فيؤوّل المعنى إلى أنكم إن وجدتم أو صرتم محصورين فلا يبقى النزاع ، وأيضاً المانع إنما يتحقق عند وجود المقتضي ، والمريض لا قدرة له على الفعل فلا مانع بالنسبة إليه ، فثبت أن لفظ الإحصار حقيقة في العدو دون المرض . وأيضاً لفظ المانع على المرض غير معقول لأنه عرض لا يبقى زمانين . وأيضاً لو كان المريض داخلاً في المحصر لكان في قوله { فمن كان منكم مريضاً } نوع تكرار ولزم عطف الشيء على نفسه . واعتذر عن هذا بأن المريض إنما خص بالذكر لأن له حكماً خاصاً وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية إن منعتم لمرض تحللتم بدم وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفَّرتم ، وأيضاً فإذا أمنتم يناسب الخوف من العدو إذ يقال في المرض شفي وعوفي لا أمن . ولو قيل : إن خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها قلنا : لا يلزم من عدم القدح وجود المناسبة . وقيل : إنه منع المرض خاصة وهو باطل بالدلائل المذكورة وزيادة وهي أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول الآية أن الكفار أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية . والأئمة وإن اختلفوا في أن الآية هل تتناول غير سبب النزول أم لا ، إلا أنهم اتفقوا على أن خروج ذلك السبب غير جائز . ثم في الآية إضماران ، والتقدير : فتحللتم أو أردتم التحلل فعليكم ما استيسر ، أو فاهدوا ما استيسر أي ما تيسر مثل استعظم وتعظم واستكبر وتكبر .

أما الإضمار الأول فلأن نفس الإحصار لا يوجب هدياً وإنما الموجب هو التحلل أو نية التحلل . وأما الإضمار الثاني فلأن قوله : { ما استيسر } إما مرفوع على الابتداء وخبره محذوف ، أو منصوب على المفعولية وناصبه محذوف . والهدي جمع هدية كما يقال في جدية السرج وهي شيء محشو تحت دفتي السرج جدي . وقرئ من الهدي جمع هدية كمطية ومطيّ ، وهذه لغة تميم . ومعنى الهدي ما يهدى إلى بيت الله تقرباً إليه بمنزلة الهدية . عن علي وابن عباس والحسن وقتادة رضي الله عنهم : أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدونها شاة فعليه ما تيسر له من هذه الأجناس ، والمحصر المحرم إذا أراد التحلل وذبح ، وجب أن ينوي التحلل . ألبتة قبل الذبح ، وأكثر الفقهاء على أن حكم العمرة في الإحصار حكم الحج ، وعن ابن سيرين : أنه لا إحصار فيها لأنها غير موقتة . ورد بأن قوله تعالى : { فإن أحصرتم } مذكور عقيب الحج والعمرة فكان عائداً إليهما ، وبأنه صلى الله عليه وسلم تحلل بالإحصار عام الحديبية وكان معتمراً .
وما حد الإحصار؟ قالت العلماء : لو منعوا ولم يتمكنوا من المسير إلا ببذل مال فلهم أن يتحللوا ولا يبذلوا المال وإن قل إذ لا يجب احتمال الظلم في أداء الحج بل يكره البذل إن كان الطالبون كفاراً ، والأكثرون على إنه لا يحب القتال على الحجيج وإن كان العدو كفاراً وكان في مقابلة كل مسلم أقل من مشركين ولو قاتلوا فلهم لبس الدروع والمغافر ، لكنهم يفدون كما لو لبسوا المخيط لدفع حر أو برد ، لا فرق على الأصح في جواز التحلل بين أن يمنعوا من المضي دون الرجوع أو يمنعوا من جميع الجوانب ، لأنهم يستفيدون بالتحليل الأمن من العدو المواجه . ولو صد عن طريق وهناك طريق آخر ووجدوا شرائط الاستطاعة فيه لزمهم سلوكه ولم يكن لهم التحلل في الحال ، وإذا سلكوه ففاتهم الحج لحزونته أو لطوله تحلّلوا بعمل عمرة ولا يلزمهم القضاء على الأظهر من قولي الشافعي ، لأنهم بذلوا مجهودهم فصاروا كالمصدودين مطلقاً ، نعم لو استوى الطريقان من كل وجه وجب القضاء لأن الموجود فوات محض . وفي قوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله } حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله ، بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر . فالتقدير : حتى يبلغ الهدي محله وينحر . وإنما جاز تذكير الهدي لأن كل ما يفرق بين واحده وبينه بالتاء وعدمه جاز تذكيره وتأنيثه . قال تعالى : { أعجاز نخل منقعر } [ القمر : 20 ] وفي موضع آخر : { أعجاز نحل خاوية } [ الحاقة : 7 ] والمحل اسم للزمان الذي يحصل فيه الحل ، ومنه محل الدين لوقت وجوب قضائه أو اسم للمكان .

قال الشافعي : يجوز إراقة دم الإحصار في الحرم بل حيث حبس . وقال أبو حنيفة : لا يجوز ذلك إلا في الحرم يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار . حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية فنحر هناك . وأجيب بأن محصره طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة وهو من الحرم . وعن الزهري : أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هدية في الحرم وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة . ورد بقوله تعالى { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله } [ الفتح : 25 ] فإن هذه الآية صريحة في أنهم نحروا الهدي في غير الحرم . وأيضاً قوله { فإن أحصرتم } يتناول كل من كان محصراً سواء كان في الحل أو في الحرم . وقوله : { فما استيسر } يدل على وجوب النحر فيجب أن يكون المحصر قادراً على إراقة الدم حيث أحصر . وأيضاً التحلل موقوف على النحر فلو توقف النحر على وصوله إلى الحرم لم يحصل التحلل في الحال وهذا يناقض ما هو المقصود من شرع الحكم وهو تخليص النفس من العدو في الحال . وأيضاً لو كان الموصل إلى الحرم هو المحصر فكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف؟ وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل؟ حجة أبي حنيفة أن المحل عبارة عن مكان الحل . وقوله { حتى يبلغ الهدي محله } يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى ذلك المكان . وأيضاً هب أن لفظ المحل يشمل الزمان والمكان إلا أن قوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] وقوله { هدياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] يزيل احتمال الزمان والبيت نفسه لا يراق فيه الدماء ، فتعين أن يكون هو الحرم ، وأجيب بأن كل ما وجب على المحرم في ماله من فدية وجزاء وهدي لا يجزئ إلا في الحرم لمساكين أهله إلا إذا عطب الهدي فيذبح في طريقه ويخلى بينه وبين المساكين ، وإلا إذا أحصر فإنه ينحر هديه حيث حبس بالدلائل المذكورة . قالوا : الهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها إلى دال المهدي إليه ، فالهدي كذلك . وردّ بأن هذا تمسك بالاسم وهو محمول على الأفضل عند القدرة . والمحصر إذا كان عادماً للهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ للشافعي فيه قولان : أحدهما لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبداً وبه قال أبو حنيفة لأنه تعالى أوجب له الهدي وما أثبت له بدلاً ، وعلى هذا فماذا يفعل؟ فيه قولان : أصحهما أنه يتحلل في الحال كما لو صام بدله كيلا تعظم المشقة ، والآخر وإليه ميل أبي حنيفة أنه يقيم على إحرامه حتى يجده . والقول الثاني أن له بدلاً وهذا أصح وبه قال أحمد قياساً على سائر الدماء الواجبة على المحرم ، وعلى هذا فما ذلك البدل؟ الأصح الطعام لأن قيمة الهدي أقرب إليه من الصيام ، وإذا لم يرد النص إلا بالهدي فالرجوع إلى الأقرب أولى .

ثم الصيام عن كل مدٍّ يوماً . وفي قول صوم المتمتع عشرة أيام . وقيل : صوم الأذى ثلاثة أيام . وبالجملة فالآية دلت على أن المحصرين لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة ومعنى { حتى يبلغ الهدي محله } حتى تنحروا هديكم حيث حبستم ، أو حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه أي الحرم . ولكن الأفضل في الحج منى وفي العمرة المروة . ولا بد من نية التحلل عند الذبح لأن الذبح قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره ، فلا بد من قصد صارف فإن كان مصدوداً عن البيت دون أطراف الحرم فهل له أن يذبح في الحل؟ أصح الوجهين عند الشافعي أن له ذلك ، وإذا أحصر فتحلل نظر إن كان نسكه تطوعاً فلا قضاء عليه وبه قال مالك وأحمد لأن المصدودين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ألفاً وأربعمائة ، والذين اعتمروا معه في عمرة القضاء كانوا نفراً يسيراً ولم يأمر الباقين بالقضاء ، وقال أبو حنيفة : عليه القضاء . وإن لم يكن نسكه تطوعاً نظر إن لم يكن مستقراً عليه كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان وكالنذر والقضاء فهو باقٍ في ذمته كما لو شرع في صلاة ولم يتمها تبقى في ذمته ، ومهما أحصر بمرض ونحوه . وقد صححناه بالآية فحكم الهدي ما مر في الإحصار بالعدوّ وإن صححناه بأن كان قد شرط التحلل به إذا مرض فهل يلزمه الهدي للتحلل؟ فإن كان قد شرط التحلل بالهدي فنعم ، وإن كان قد شرط التحلل بلا هدي فلا وكذا إن أطلق على الأظهر لمكان الشرط .
قوله عز من قائل : { فمن كان منكم مريضاً } قيل : إنه مختص بالمحصر . وذلك أنه قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله تعالى أذن له في إزالة ذلك المؤذي بشرط بذل الفدية . والأكثرون على أنه كلام مستأنف في كل محرم لحقه مرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو أذى في رأسه فاضطر إلى الحلق . والنسك العبادة وقرئ بالتخفيف ، وقيل : جمع نسيكة وهي الذبيحة . قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل : للمتعبد « ناسك » لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث . ثم قيل للذبيحة نسك لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله ، واتفقوا في النسك على أن أقله شاة كما في الأضاحي ، وأما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما وبماذا يحصل بيانه؟ فيه قولان : أحدهما وعليه أكثر الفقهاء .

ومنهم الشافعي وأبو حنيفة أن بيانه في حديث كعب بن عجرة قال : حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقلت : لا . قال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك . فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة وثانيهما عن ابن عباس والحسن الصيام كصيام المتمتع عشرة أيام والإطعام مثل ذلك في القدر . قال العلماء المرض قد يحوج إلى اللباس أو إلى الطيب أو إلى الدهن وفي كل منها نوع استمتاع فألحقوا فدية نحو هذه المحظورات بفدية الحلق لاشتراك الجميع في الترفه . والحاصل أنه يدخل فيه كل محظورات الإحرام سوى الجماع ففيه بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه ثم طعام بقيمة البدنة ثم صيام بعدد الأمداد كما يجيء في قوله تعالى { فلا رفث } [ البقرة : 197 ] وسوى الصيد ففيه الجزاء على ما يجيء تفصيله في المائدة . وفي هذه الآية أيضاً إضماران أي فحلق فعليه فدية { فإذا أمنتم } إن كان معناه الأمن بعد الخوف قبل التحلل فجواب الشرط وهو فامضوا محذوف . وإن كان معناه إذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة فقوله { فمن تمتع } الشرط مع الجزاء جواب الشرط الأول ولا وقف على { أمنتم } ومعنى التمتع التلذذ . وأصله الطول حبل مانع أي طويل . وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به . وقد عرفت معنى التمتع بالعمرة إلى الحج وهو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج فيحج من عامه ذلك . والتمتع بهذا الوجه صحيح لا كراهة فيه . وما يروى أن عمر خطب وقال : متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج ، ذكر الأئمة أن تلك المتعة هي أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ . وعن أبي ذر أنه قال : ما كانت متعة الحج إلا لنا خاصة . يعني الركب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم . وكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدّونها من أفجر الفجور ، فلما اراد النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة . وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان نسخ الحج في أشهر الحج خاصاً بهم . ومعنى التمتع بالعمرة إلى الحج أنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة إلى أوان الحج ، وقيل : استمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل الانتفاع بتقربه بالحج ولوجوب الدم على المتمتع شروط منها : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ويجيء تمام الكلام فيه عما قريب ومنها أن يحرم بالعمرة من الميقات فإن جاوزه مريداً النسك ثم أحرم بها فإن كان الباقي أقل من مسافة القصر فليس عليه دم التمتع ولكن يلزمه دم الإساءة ، وإن كان الباقي مسافة القصر فعليه دمان .

ومنها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، فلو أحرم وفرغ من أعمالها قبل أشهر الحج ثم حج لم يلزمه الهدي لأنه أشبه الإفراد ، ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهره فاصح قولي الشافعي أنه لا يلزمه الدم ، وبه قال أحمد لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج لتقدم أحد أركان العمرة . ولو سبق الإحرام مع بعض الأعمال قبل أشهر الحج فعدم وجود الدم أولى . وعن مالك أنه مهما حصل التحلل في أشهر الحج وجب الدم . وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر أعمال العمرة في الأشهر كان متمتعاً . ومنها أن يقع الحج والعمرة في سنة واحدة ، فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة فلا دم عليه سواء أقام بمكة إلى أن حج أو رجع وعاد لأن الدم إنما يجب إذا زاحم بالعمرة حجة في وقتها وترك الإحرام بحجة من الميقات مع حصوله في وقت الإمكان ولم يوجد . وعن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج وإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا . ومنها أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة ، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحج فلا دم عليه لأنه لم يربح ميقاتاً . وفي اشتراط نية التمتع وجهان : أصحهما لا تشترط كما لا تشترط نية القرآن ، وهذا لأن الدم منوط بربح أحد السفرين . ولا يختلف ذلك بالنية وعدمها ويخالف اشتراط نية الجمع بين الصلاتين من حيث إن أشهر الحج كما هي وقت الحج فهي وقت العمرة بخلاف وقت الصلاة . ثم إن دم التمتع دم جبران الإساءة حتى لا يجوز له أن يأكل منه ، أو دم نسك حتى يجوز أن يأكل . ذهب أبو حنيفة إلى الثاني ومال الشافعي إلى الأول لما روي أن عثمان كان ينهى عن المتعة فقال له علي رضي الله عنه : أعمدت إلى رخصة أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم للغريب للحاجة فأبطلتها؟ فسمى المتعة رخصة ، وهذا دليل النقص . وأيضاً التمتع تلذذ وأنه ينافي العبادة لأنها مشقة وتكليف . وأيضاً إنه تعالى أوجب الهدي على المتمتع بلا توقيت ، ولو كان نسكاً كان موقتاً .

وأيضاً للصوم فيه مدخل ودم النسك لا يبدل بالصوم ، والكلام في مراتب هذا الهدي كما مرّ وينبغي أن يكون الإبل ثنياً وهو الطاعن في السنة السادسة ، وكذا البقر وهو الطاعن في السنة الثالثة ، ويجزئ كل من الإبل والبقر عن سبعة شركاء . ولو اقتصر على الغنم فليكن ثني المعز وهو الذي دخل في السنة الثالثة ، أو جذع الضأن وهو أيضاً في السنة الثانية ، يستوي في هذا الباب الذكر والأنثى ويستحب أن يذبح يوم النحر ، ولو ذبح بعدما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق فترتب عليه الهدي جبراً له . وكذا قبل الإحرام بالحج وبعد التحلل من العمرة على الأصح ، لأنه حق مالي تعلق بسببين وهما الفراغ من العمرة والشروع في الحج . فإذا وجد أحدهما بأن إخراجه كالزكاة والكفارة . وعند أبي حنيفة لا يجوز بناء على أنه نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر وبه قال مالك وأحمد . فمن لم يجد الهدي وقيس عليه ما إذا لم يجد ما يشتريه به أو بيع بثمن غال ، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج . قال الشافعي : أي بعد الإحرام بالحج لأنه تعالى جعل الحج ظرفاً للصوم ، ولا يصلح سائر أفعال الحج ظرفاً له فلا أقل من الإحرام . وأيضاً ما قبل الإحرام بالحج ليس وقتاً للهدي الذي هو أصل فكذا لبدله ، وقال أبو حنيفة ، أي في وقت الحج وهو أشهره فجاز أن يصوم بعد الإحرام بالعمرة . وبمثله قال أحمد في رواية ، وفي أخرى قال : يجوز بعد التحلل من العمرة ، ولا يجوز أن يصوم شيئاً منها في يوم النحر ولا في أيام التشريق كما مر في الصوم . والمستحب أن يصوم الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة ، فإن الأحب للحاج يوم عرفة أن يكون مفطراً كيلا يضعف عن الدعاء وأعمال الحج ، ولم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة بل يروى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة . ويحكى عن أبي حنيفة أن الشخص إن كان بحيث لا يضعف فالأولى أن يصوم حيازة للفضيلتين . ويعلم مما ذكرنا أنه يستحب أن يحرم بالحج قبل يوم عرفة بثلاثة أيام ليصوم فيها ، وأما الواجد للهدي فالمستحب له أن يحرم يوم التروية بعد الزوال متوجهاً إلى منى لما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج » وإذا فاته صوم الأيام الثلاثة في الحج لزمه القضاء عند الشافعي لأنه صوم واجب فلا يسقط بفوات وقته كصوم رمضان ، وإذا قضاها لم يلزمه دم خلافاً لأحمد . وعند أبي حنيفة يسقط الصوم بالفوات ويستقر الهدي في ذمته { وسبعة إذا رجعتم } للشافعي في المراد من الرجوع قولان : أصحهما الرجوع إلى الأهل والوطن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتمتعين

« من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم » والثاني أن المراد منه الفراغ من أعمال الحج وبهذه قال أبو حنيفة وأحمد كأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلاً عليه من الأعمال . وعلى الأصح لو توطن مكة بعد فراغه من الحج صام بها ، وإن لم يتوطنها لم يجز صومه بها ولا في الطريق على الأصح لأنه تقديم العبادة البدنية على وقتها . ثم إذا لم يصم الثلاثة في الحج حتى فرغ ورجع لزمه صوم العشرة عند الشافعي . وهل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة والسبعة؟ الأصح عند إمام الحرمين وطائفة وبه قال أحمد أنه لا يجب لأن التفريق في الأداء يتعلق بالوقت فلا يبقى حكمه في القضاء كالتفريق في الصلوات المؤداة . والأصح عند أكثر أصحاب الشافعي وجوب التفريق كما في الأداء . ويفارق تفريق الصلوات فإن ذلك التفريق يتعلق بالوقت ، وهذا يتعلق بالفعل وهو الحج . والرجوع وما قدر ما يقع به التفريق أصح الأقوال التفريق بأربعة أيام ، ومدة إمكان مسيره إلى أهله على العادة الغالبة بناء على أصلين سبقا أحدهما : أن المتمتع ليس له صوم أيام التشريق ، والثاني أن المراد بالرجوع الرجوع إلى أهله { تلك عشرة كاملة } طعن فيه بعض الملحدين أن هذا من إيضاح الواضحات . فمن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة وأيضاً قوله { كاملة } يوهم أن ههنا عشرة غير كاملة وهو محال ، فذكر العلماء من فوائده أن الواو في قوله { وسبعة } ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد يكون للإباحة بمعنى أو كما في قوله { مثنى وثلاث ورباع } [ فاطر : 1 ] وكما في قولك « جالس الحسن وابن سيرين » لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة . وأيضاً ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً وعلى هذا مدار علم السياقة وكفى به إفادة . وأيضاً المعتاد أن البدل أضعف حالاً من المبدل كالتيمم من الوضوء ، فلعل المراد أن هذا البدل كامل في كونه قائماً مقام المبدل وهما في الفضيلة سواء ، وذكر العشرة لصحة التوصل به إلى هذا الوصف إذ لو اقتصر على تلك جاز أن يعود إلى الثلاثة أو إلى السبعة . وأيضاً قوله { تلك عشرة كاملة } يدفع التخصيص الذي يتطرق إلى كثير من العمومات في الشرع ويصرف الكلام إلى التنصيص . وأيضاً إن مراتب الأعداد ثلاث : الآحاد والعشرات والمئات . وهذه من وساطها فكأنه قال : إنما أوجبت هذا العدد لكونه موصوفاً بصفة التوسط والكمال . وأيضاً التوكيد طريقة مسلوكة في كلام العرب يعرف منه كون المذكور مما يعقد به الهمم ، ففيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها وأيضاً هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب فبين الله تعالى بذلك بياناً قاطعاً كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم أشار بيده ثلاث مرات وأمسك إبهامه في الثالثة تنبيهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالثانية على التسعة والعشرين .

وأيضاً فيه إزالة الاشتباه والتصحيف الذي يمكن أن يتولد من تشابه سبعة وتسعة في الخط . وأيضاً يحتمل أن يراد كاملة في الإجزاء حتى لا يتوهم أنها بسبب التفريق غير مجزئة كما لا يجزئ في كفارات الظهار والقتل ووقاع رمضان إلا الصوم المتتابع . وأيضاً يحتمل أن يكون خبراً في معنى الأمر أي فلتكن تلك الصيامات كاملة لتسد الخلل ويكون الحج المأمور به تاماً كاملاً كما قال { وأتموا الحج والعمرة لله } .
واعلم أن الصوم مضاف إلى الله تعالى في قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى « » الصوم لي وأنا أجزي به « والحج أيضاً مضاف إليه تعالى في الآية { وأتموا الحج والعمرة لله } وكما دل النقل على هذا الاختصاص فالعقل أيضاً يدل على ذلك . أما الصوم فلأنه عبادة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وهو مع ذلك شاق على النفس جداً ، وأما الحج فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجوه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والولد ويقتضي التباعد عن أكثر اللذات والاستمتاعات ، فكل منهما لا يؤتى به إلا لمحض ابتغاء مرضاة الله تعالى . ثم إن هذا الصوم بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين مشقتين ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من مشقة إلى مشقة ، والأجر على قدر النصب ، فلا جرم وصفه الله تعالى بالكمال في باب العبادة والتنكير في اللفظ أيضاً يؤيد ذلك زادنا الله اطلاعاً على لطائف قرآنه العظيم { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } اختلف العلماء في أن المشار إليه ماذا؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه : إنه إشارة إلى التمتع وما ترتب عليه لأنه ليس البعض أولى من البعض فيعود إلى كل ما تقدم فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام . وقال الشافعي : بل عودة إلى الأقرب أولى وهو الحكم بوجوب الهدي على المتمتع . وأيضاً قوله { فمن تمتع } عام يشمل الحرمي والميقاتي والآفاقي . وأيضاً إنه تعالى شرع القرآن والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج ، والنسخ يثبت في حق الناس كافة . ويتفرع على مذهب أبي حنيفة أن من تمتع أو قرن من حاضري المسجد الحرام كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه . وعلى مذهب الشافعي أن يصح تمتعهم وقرانهم ولا يجب عليهم شيء ، فإن لزوم الهدي على الآفاقي بسبب أنه أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فيلزمه جبر الخلل بدم .

والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فلا خلل في حجة تمتع أو قرن أو أفرد ، فلا يلزمه الهدي ولا بدله . ثم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام فعن مالك أنهم أهل مكة وأهل ذي طوى . وعن طاوس هم أهل الحرم . وعن الشافعي هم الذين يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة ، فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين ، وبه قال أحمد . وعن أبي حنيفة أنهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة . والمواقيت : ذو الحليفة على عشر مراحل من مكة وعلى ميل من المدينة ، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب على خمسين فرسخاً من مكة ، ويلملم من صوب اليمن وقرن لنجد الحجاز ، وذات عرق من صوب المشرق والعراق وخراسان وكل هذه الثلاثة من مكة على مرحلتين . فهذه هي المذاهب وأوفقها للآية . مذهب مالك لأن أهل مكة هم الذين يحضرون المسجد الحرام . إلا أن الشافعي قال : قد يطلق المسجد الحرام على الحرم قال تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به من الحرم لا من المسجد . وقد يقال : حضر فلان فلاناً إذا دنا منه . ومن كان مسكنه دون مسافة القصر فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس مكة . وفي مذهب أبي حنيفة بعد ، فإن يؤديّ إلى إخراج القريب من الحاضرين وإدخال البعيد لتفاوت مسافات المواقيت ، ثم إن مسافة القصر مرعية من نفس مكة أو من الحرم الأعرف هو الثاني لما قلنا إن المسجد الحرام يراد به جميع الحرم . قال الفراء : ذلك لمن لم يكن معناه ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة كقوله صلى الله عليه وسلم « اشتراطي لهم الولاء » أي عليهم وذكر حضور الأهل والمراد حضور الحرم لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون { واتقوا الله } في محافظة حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن تهاون بحدوده . قال أبو مسلم : العقاب والمعاقبة سيان ، واشتقاقهما من العاقبة كأنه يراد عاقبة فعله السيء كقول القائل « لتذوقن فعلك » .
التأويل : حج الخواص حج رب البيت وشهوده وهذه سيرة إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما قال { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] ولكنه أحصر في السماء السابعة فلا جرم أهدى بإسماعيل ، ولما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان ذهابه بالله ما أحصره شيء فقيل له { وأتموا الحج والعمرة لله } وجرى ما جرى { فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى }

[ النجم : 9 ، 10 ] ثم قال لأمته : اسعوا في إتمام صورة الحج بقدر استطاعتكم ، وفي الحقيقة بأن تخرجوا وجودكم { فإن أحصرتم } بأعداء النفس والهوى أو لملال القلب أو لكلال الروح أو باستجلاء الأحوال أو بتمني الآمال { فما استيسر من الهدي } أعلاها الروح وأوسطها القلب وأدناها النفس يهدي ما كان الإحصار به . { ولا تحلقوا } لا تشتغلوا بغير الله حتى تبلغوا المقصد ، فإن عرض مرض في الإرادة أو يعلوه أذى من المزاحمات من غير فترة من نفسه فلم يجد بداً من الإناخة بفناء الرخص ، فليجتهد أن يتداركه بالفدية فقد قيل : من أقبل على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله ، والصيام هو الإمساك عن المشارب والصدقة الخروج عن المعلوم ، والنسم ذبح النفس في مقاساته الشدائد { فإذا أمنتم } الإحصار وأقبل الجد الصاعد والزمان المساعد { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } واستراح في الطلب { فما استيسر من الهدي } من ترك مشارب الروح والقلب والنفس { فمن لم يجد لم يستطع } ترك تلك المشارب لعلو شأنها وعظم مكانها فعليه الإمساك عن مشارب القوى الثلاث المدركة للمعاني والمتصرفة فيها وهي الوهم والحافظة والمتخيلة ، هذا إذا كان في عالم المعنى ، فإذا رجع إلى عالم الصورة أمسك عن القوى السبع مشار بها وهي الحس المشترك والخيال ، لأن الأولى مدركة الصور ، والثانية معينتها على الحفظ وبعدهما الحواس الخمس الظاهرة { تلك عشرة كاملة } هي الحواس الظاهرة والباطنة { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } لأن الحاضر في مقام القرب والأنس لا يخاطب ولا يعاتب وإنما يلزم العتب ، والطلب للسالك والسائر ، فإذا وصل فقد استراح . { واتقوا } أن تسكنوا في فترة أو وقفة أو تركنوا إلى مشرب من هذه المشارب { واعلموا أن الله شديد العقاب } للغافلين عن هذا الخطاب القانعين بذل الحجاب .
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

القراآت : { فلا رفث ولا فسوق } بالرفع فيهما : أبو عمرو ويعقوب وابن كثير ويزيد . وزاد يزيد { ولا جدال } بالرفع . الباقون : بفتح الثلاثة وكذلك يروي القطعي عن أبي زيد من طريق الحسن الهاشمي ، { واتقون } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل . وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل بالياء . { ومن تأخر } روى هبة الله بن جعفر عن الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة في الوقف بالتليين .
الوقوف : { معلومات } ط { في الحج } ط { يعلمه الله } ط { التقوى } ز للعارض بين الجملتين المتفقتين { الألباب } 5 { من ربكم } ط لأن « إذا » أجيبت بالفاء فكانت شرطاً في ابتداء حكم آخر { الحرام } ص لعطف المتفقتين { هداكم } ج لأن الواو تصلح حالاً واستئنافاً . { الضالين } 5 { واستغفروا الله } ج { رحيم } 5 { ذكراً } ط { من خلاق } 5 { النار } 5 { مما كسبوا } ط { الحساب } 5 نصف الجزء . { معدودات } ط لأن الشرط في بيان حكم آخر { عليه } الأولى ط لابتداء شرط آخر مع العطف { عليه } الثانية لا لتعليق اللام . { اتقي } ط لاختلاف النظم { تحشرون } 5 .
التفسير : من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر ، فالتقدير أشهر الحج أو وقته أشهر معلومات كقولك « البلد شهران » . أو الحج حج أشهر معلومات أي لا حج إلا فيها خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء . وقيل : يمكن أن يقال : جعل الحج نفس الأشهر كما في قولهم « ليل قائم ونهار صائم » واتفق المفسرون على أن شوّالاً وذا القعدة من أشهر الحج . واختلفوا في ذي الحجة فعن عروة بن الزبير ومالك كله لأن أقل الجمع ثلاثة ، وقد يفعل الإنسان بعد النحر ما يتصل بالحج من رمي الجمار ونحوه . والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى أيام بعد الشهر ، من هنا ذهب عروة إلى جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر . وعن أبي حنيفة : عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن عمرو النخعي والشعبي ومجاهد والحسن قالوا : لفظ الجمع يشترك فيما وراء الواحد بدليل قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] ونزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال « رأيتك سنة كذا » وإنما رآه في ساعة منها . ورمي الجمار يفعله الإنسان وقد حل بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج . والحائض إذا طاف بعده فهو في حكم القضاء . وإنما قلنا إن يوم النحر من أشهر الحج لأنه وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة . ومن المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر . وعن الشافعي : التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع يوم النحر ولا تفوت العبادة مع بقاء وقتها .

قيل : إنه تعالى جعل كل الأهلة مواقيت للحج في قوله { قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] وفي هذه الآية جعل وقت الحج أشهر معلومات . وأجيب بأن تلك الآية عامة وهذه خاصة والخاص مقدم على العام . وأقول : الميقات علامة الوقت فلولا الأهلة لم يعلم مدخل كل شهر على التعيين . فجميع الأهلة في الإعلام سواء بالنسبة إلى وقت مفروض ، فلا منافاة بين كون جميع الأهلة علامات الحج من حيث إنها تؤذن بما بقي من السنة إلى أوان الحج ، وبين كون الأشهر المعلومات وقتاً للحج ، ومعنى قوله { معلومات } أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معينة من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً ، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع . وعلى هذا فهذا الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء موافقاً مقرراً له . أو المراد أنها معلومات ببيان الرسول ، أو المراد أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها وتأخيرها كما يفعله أصحاب النسيء . ثم إن الشافعي استدل بالآية على أنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج ، وبه قال أحمد وإسحق . وأيضاً الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياساً على الصلاة . وأيضاً الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكماً ، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى . وأيضاً الإحرام لا يبقى صحيحاً لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء ، فلأن لا ينعقد صحيحاً لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء . وعن أبي حنيفة ومالك والثوري : جواز الإحرام في جميع السنة لقوله تعالى { قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] والجواب ما مر . قالوا : الإحرام التزام الحج فجاز تقدمه قبل الوقت كالنذر . والجواب الفرق بين النذر والإحرام ، فإن الوقت معتبر للأداء ولا اتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ ، وأما الإحرام مع كونه التزاماً فهو أيضاً شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت . قالوا : اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا : من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله . وقد تبعد داره بعداً شديداً يحتاج إلى أن يحرم قبل شوال . والجواب أن النص لا يعارضه الأثر على أنه يمكن تخصيص الأثر في حق من لا يكون داره سحيقاً { فمن فرض فيهن الحج } فمن ألزم نفسه في هذه الشهور أن يحج . وبماذا يحصل هذا الإلزام المسمى بالإحرام لأنه يحرم عليه حينئذ أشياء كانت حلالاً له . قال الشافعي : إنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية . نعم إنها سنة عند النية وبه قال أحمد ومالك لقوله تعالى { فمن فرض } وفرض الحج على النية أدل منه على التلبية أو سوق الهدي .

وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله { فلا رفث } فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم « لكل امرئ ما نوى » وأيضاً إنه عبادة ليس في آخرها ولا في أثنائها نطق واجب ، فكذلك في ابتدائها كالطهارة والصوم . وعند أبي حنيفة : التلبية شرط انعقاد الإحرام لإطباق الناس على الاعتناء به عند الإحرام إلا أن سوق الهدي وتقليده والتوجه معه يقوم مقام التلبية . وعن ابن عمر أنه قال : إذا قلد أو أشعر فقد أحرم . وعن ابن عباس : إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم . وروى أبو منصور الماوردي في تفسيره عن عائشة أنها قالت : لا يحرم إلا من هل أو لبى . وأيضاً إن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيها بنفس النية كالصلاة . وصورة التلبية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك » ولا تكره الزيادة على هذا . روي عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها . لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغبى إليك والعمل . فإن رأى شيئاً يعجبه قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة . ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي بعض الروايات أنه قال في تلبيته : لبيك حقاً تعبداً ورقاً . قال الشافعي في أصح قوليه : الأفضل أن ينوي ويلبي حين تنبعث به راحلته إن كان راكباً ، وحين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشياً لما روي أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل حتى انبعثت به دابته ، قال إمام الحرمين : ليس المراد من انبعاث الدابة ثورانها ، بل المراد استواؤها في صوب مكة . فإذا استوت به راحلته متوجهاً إلى الطريق نوى : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولبى . وإن كان يريد القران نوى الحج والعمرة ، وإن كان يريد العمرة نوى العمرة ولبى . والقول الثاني وبه قال أحمد ومالك وأبو حنيفة أن الأفضل أن ينوي ويلبي كما تحلل من الصلاة أي من ركعتي الإحرام وهو قاعد . ثم يأخذ في السير لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم ، وتكثير التلبية في دوام إلا حرام مستحب قائماً كان أو قاعداً راكباً أو ماشياً حتى في حالة الجنابة والحيض لأنه ذكر لا إعجاز فيه فأشبه التسبيح ، قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت : « افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت » .
قوله عز من قائل { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال } من قرأ بفتح الثلاثة أو برفعها فلا إشكال ، ومن قرأ برفع الأولين وفتح الأخير فقيل : لأن الأولين محمولان على معنى النهي كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، ثم أخبر بانتفاء الجدال أي لا شك ولا خلاف في الحج .

وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج ، وربما يستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم « من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه » وإنه لم يذكر الجدال . وقيل : الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق فلذلك قرئ كذلك . أما الأوّل فلأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة ، والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله ، والمجادل لا ينقاد للحق . وكثيراً ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء ، فدل على أن الجدال مشتمل على جميع أنواع القبح . وأما أن القراءة تفيد ذلك فلأن الفتح يقتضي نفي الماهية ، وانتفاؤها يوجب انتفاء جميع أفرادها . وأما الرفع فلا يوجب انتفاء جميع أفراد الماهية بل يجوّز ، فيكون الفتح أدل على عموم النفي . أما تفسير الرفث فعن ابن عباس هو الجماع ، وله في العمرة والحج نتائج منها . فساد النسك يروى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، واتفق الفقهاء عليه بعدهم ، وإنما يفسد الحج بالجماع إذا وقع قبل التحللين لقوّة الإحرام . ولا فرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعده خلافاً لأبي حنيفة حيث قال : لا يفسد بالجماع بعد الوقوف ولكن يلزمه الفدية . وأما الجماع بين التحللين فلا أثر له في الفساد على الصحيح . وعن مالك وأحمد أنه يفسد ما بقي شيء من إحرامه ، وتفسد العمرة أيضاً بالجماع قبل حصول التحلل . ووقت التحلل عنها بعد الفراغ من الحلق بناء على أنه نسك وهو الأصح ، فتفسد العمرة بالجماع قبل الحلق ، واعلم أن للعمرة تحللاً واحداً وذلك إذا طاف وسعى وحلق ، وللحج تحللان وذلك أنه إذا أتى باثنين من الرمي والنحر والحلق والطواف أعني الرمي والحلق ، أو الرمي والطواف ، أو الحلق والطواف ، حصل التحلل الأول وهو إباحة جميع المحظورات من التطيب والقلم ولبس المخيط وقتل الصيد وعقد النكاح إلا الجماع فإنه لا يحل إلى الإتيان بالأمر الثالث ، فإذا أتى به حل الجماع أيضاً وهو المراد بالتحلل الثاني قال الأئمة : الحج يطول زمانه وتكثر أعماله بخلاف العمرة فأبيح بعض محظوراته دفعة وبعضها أخرى .

قال صلى الله عليه وسلم « إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء » واللواط وإتيان البهيمة في الإفساد كالوطء في الفرج وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة فيهما ولمالك في إتيان البهيمة ، ثم سائر العبادات لا حرمة لها بعد الفساد ويصير الشخص بالفساد خارجاً منها ، لكن الحج والعمرة وإن فسدا يجب امضي فيهما وذلك بإتمام ما كان يفعله لولا عروض الفساد روي عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من أفسد حجه مضى في فاسده وقضى من قابل . ومن نتائج الفساد الكفارة يستوي فيها الحج والعمرة . وخصالها خمس على الترتيب بدنة إن وجدها لأن الصحابة نصوا على البدنة وإلا فبقرة وإلا فسبع من الغنم وإلا قومت البدنة دراهم والدراهم طعاماً فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوماً . ومن النتائج القضاء باتفاق لما روينا عن كبار الصحابة وقضى من قابل ، سواء كان المقضي عنه فرضاً أو تطوعاً فإن القضاء واجب ، وأصح الوجهين في القضاء أنه على الفور لا على التراخي ، لأنه لزم وتضيق بالشروع ويدل عليه ظاهر قول الصحابة و « قضى من قابل » . وكذا الكلام فيمن ترك الصوم أو الصلاة بعدوان على الأشبه ، لأن جواز التأخير نوع ترفيه وتخفيف والمعدي لا يستحق ذلك . ولو كانت المرأة محرمة نظر إن جامعها وهي نائمة أو مكرهة لم يفسد حجها وإلا فسد ، ولكن لا يجب على أصح القولين إلا بدنة واحدة عنهما جميعاً . وإذا أفسد حجه بالجماع ثم جامع ثانياً فإن لم يفد عن الأول لزم بدنة أخرى . وإن فدى لم يلزم إلا شاة . وعن الحسن : الرفث كل ما يتعلق بالجماع ، فليس للمحرم التقبيل بالشهوة ولا المباشرة فيما دون الفرج . فلو باشر شيئاً منها عمداً فالفدية . روي عن علي وابن عباس أنهما أوجبا بالقبلة شاة وإن كان ناسياً لم يلزمه شيء ولا يفسد شيء من مقدمات الجماع الحد ولا يوجب البدنة بحال سواء أنزل أو لم ينزل ، وبه قال أبو حنيفة ، وعند مالك يفسد الحج إذا أنزل وهو أظهر الروايتين عن أحمد . وقيل : الرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها . والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع . وقيل : الرفث هو قول الخنا والفحش لقوله صلى الله عليه وسلم « إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم » وعن أبي عبيدة : الرفث الإفحاش وعنه الرفث اللغو في الكلام . وأما الفسوق فهو الخروج عن الطاعة وحدود الشريعة فيشمل كل المعاصي قال تعالى { ففسق عن أمر ربه } [ الكهف : 50 ] وقيل : هو التنابز بالألقاب والسباب قال تعالى { ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } وقال صلى الله عليه وسلم « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »

وقيل الإيذاء والإيحاش { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } [ البقرة : 282 ] وعن ابن زيد : هو الذبح للأصنام { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وأنه لفسق } [ الأنعام : 121 ] وقيل : الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق ذلك مع الأجنبية . وأما الجدال فإنه فعال من المجادلة وأصله من الجدل والفتل كأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه . واختلف المفسرون فيه . فعن الحسن : هو الجدال الذي يفضي إلى السباب والتكذيب والتجهيل ، وإنه واجب الاجتناب في كل حال إلا أنه مع الرفقاء وفي الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة ، وقال محمد بن كعب القرظي : إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم : حجنا أتم . وقال آخرون : بل حجنا أتم . وقال آخرون : بل حجنا أتم . فنهاهم الله عن ذلك . وقال مالك في الموطأ : الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بفزح وإنه جبل هناك ، وكان غيرهم يقفون بعرفات ، وكل من الفريقين يقول : نحن أصوب . وقال القاسم بن محمد : كانوا يجعلون الشهور على العدد فيختلفون في يوم النحر بسبب ذلك . فبعضهم يقول هذا يوم عيد ، ويقول آخرون بل غداً فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة هي مواقيت الحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه . قال القفال : ويدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق ذلك عليهم وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً . فقال صلى الله عليه وسلم « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة » فتركوا الجدال حينئذ . وقال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج اختلافهم في أن أيهم المصيب مقام إبراهيم . وقيل : إنه النسيء نهوا عن ذلك فإن الزمان قد عاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، قال القاضي أبو بكر الباقلاني : لو حمل النفي في الألفاظ الثلاثة على الخبر وجب أن يحمل الرفث على الجماع ، والفسوق على الزنا ، والجدال على الشك في الحج ، ليصح خبر الله تعالى بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج المعتبر . وإن حملنا الكلام على النهي صح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وبالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أصنافه ، فعلى هذا يكون في الآية بعث على الأخلاق الحميدة والآداب الحسنة . وبالحقيقة لا رفث نهي عن طاعة القوّة الشهوية التي توجب الانهماك في الفجور ، ولا فسوق إشارة إلى قهر القوّة الغضبية الداعية إلى التمرد والاستعلاء ، ولا جدال رمز إلى تسخير القوّة الوهمية التي تحمل الإنسان على الخلاف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه ، فمنه تنشأ الآراء المتخالفة والأهواء المتصادمة والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة .

واعلم أن الجدال ليس منهياً عنه بجميع أقسامه وإنما المذموم منه هو الذي منشأه صرف العصبية ومخض المراء لتنفيذ الآراء الزائفة وتحصيل الأعراض الزائلة والأغراض الفارغة ، وأما الذب عن الدين القويم والدعاء إلى الصراط المستقيم وإلزام الخصم الألد وإفحام المعاند اللجوج بمقدمات مشهورة وآراء محمودة حتى يستقر الحق في مركزه ويضمحل صولة الباطل ويركد ريحه فمأمور به في قوله عز من قائل { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] وإنه إحدى شعب البيان وقد يكون أنجع من قاطعة البرهان { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } لم يتعرض لمقابل الخير وإن كان عالماً به أيضاً لنكتة هي أني إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك ضده أخفيته وسترته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك هكذا في الدنيا فكيف تكون في العقبى؟ وفيه ترغيب للمطيعين وإيذان بأنهم من المحسنين « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » والعبد الصالح إذا علم اطلاع مولاه على سرائره وخفاياه اجتهد في أداء ما أمره به ، واحترز عن ارتكاب ما نهاه عنه ، ومن غاية عنايته حثهم على الخير بعدما نهاهم عن الشر ليستعملوا مكان الرفث التفث ، وبدل الفسوق رعاية الحقوق ، ومقام الجدال والشقاق الوفاق مع الرفاق تتميماً لمكارم الأخلاق وتنبيهاً على شرف النفس وطيب الأعراق بدليل قوله { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن ذلك خير الزاد . وليس السفر من الدنيا أهون من السفر في الدنيا ، وهذا لا بد له من زاد فكذا ذلك . بل يزداد فإن زاد الدنيا يخلصك عن عذاب منقطع موهوم ، وزاد الآخرة ينجيك من عذاب أبديّ معلوم . زاد الدنيا يوصلك إلى متاع الغرور ، وزاد الآخرة يبلغك دار السرور . وزاد الدنيا سبب حصول حظوظ النفس ، وزاد الآخرة سبب الوصول إلى عتبة الجلال والقدس .
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقيل : نزلت في ناس من اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون . ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله سبحانه أن يتزوّدوا ما يتبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم . وفيه دليل على أن القادر على استصحاب الزاد في السفر ، إذا لم يستصحب عصى الله في ذلك ، ففيه إبطال حكمة الله تعالى ورفع الوسائط والروابط التي عليها تدور المناجح وبها تنتظم المصالح . روي أن بعض العارفين زهد فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار وقال : لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني رزقي . فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعاً لم يأته شيء حتى كاد يتلف .

فقال : يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك . فألهمه الله تعالى في قلبه : وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاء هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك ، فسمع أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا ، أما علمت أنه يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بيد القدرة . وقيل : في الآية حذف أي تزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى واتقون وخافوا عقابي . وفيه تنبيه على كمال عظمته كقوله « أنا أبو النجم وشعري شعري » { يا أولي الألباب } يعني أن قضية العقل تقوى الله ومن لم يتقه فلا لب له في التحقيق . ولما منع الناس عن الجدال اختلج في قلب المكلف شبهة أن التجارة لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها يجب أن تكون منهية . وأيضاً أنها كانت محرمة في الجاهلية وقت الحج وأنه أمر غير مستحسن ظاهراً لأن المشتغل بخدمة الله تعالى يجب أن لا يتلوث بالأطماع الدنيوية . وأيضاً كان من الممكن أن تقاس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة ولاصطياد في كونها محظورة بالإحرام فلدفع هذه الشبهة نزلت .
{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا } أي في أن تطلبوا { فضلاً من ربكم } عطاء منه وتفضلاً أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والربح بها كقوله { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } [ المزمل : 20 ] عن أبي مسلم : أنه حمل الآية على ما بعد الحج . قال : والتقدير واتقون في كل أفعال الحج ، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح أن تبتغوا كقوله { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] وزيف بأن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج ، وأما بعد الفراغ فالحل معلوم ، وقياس الحج على الصلاة فاسد ، فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في خلالها . وأيضاً الفاء في قوله { فإذا أفضتم } ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك يدل على أن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ويؤيده قراءة ابن عباس { فضلاً من ربكم في مواسم الحج } وقال ابن عباس في سبب نزول الآية كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في الكف عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج للتجارة الداج ويقولون : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج الأعوان والمكارون من الدجيج وهو الدبيب في السير . قال ابن السكيت : لا يطلق الدجيج إلا إذا كان جماعة ولا يقال ذلك للواحد .

وقيل : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم ، وكانت معايشهم منها . فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الحرج . ومن المعلوم أنه إنما يباح ما لم يشغل عن العبادة . وعن ابن عمر أن رجلاً قال له : إنا قوم نكرى في هذا الوجه يعني في طريق الحج ، وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا . فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه فلم يرد عليه حتى نزل { ليس عليكم جناح } فدعا به فقال : أنتم حجاج . وعن عمر أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج؟! وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : أن ابتغاء الفضل ههنا طلب أعمال أخر زائدة على أعمال الحج موجبة لفضل الله تعالى ورحمته كإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وإرواء العطشان . واعلم أن الفضل ورد في القرآن بمعان ، منها ما يتعلق بالمصالح الدنيوية من المال والجاه والغذاء واللباس وهو المسمى بالرزق { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] ومنها ما يتعلق بالمصالح الأخروية وهو الفضل والثواب والجنة والرحمة { تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله } [ الفتح : 29 ] { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } [ النساء : 83 ] ومنها ما يتعلق بمواهب القربة { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } [ الحديد : 21 ] { وكان فضل الله عليك عظيماً } [ النساء : 113 ] ورفع الجناح قد يستعمل في الواجب والمندوب مثل ما يستعمل في المباح كما مر في قوله { فلا جناح عليه أن يطوّف بهما } [ البقرة : 158 ] .
{ فإذا أفضتم } أي دفعتم بكثرة ومنه إفاضة الماء وهو صبه بكثرة . التقدير : أفضتم أنفسكم . فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا . وعرفات جمع عرفة وكلاهما علم للموقف كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمي مجموع تلك القطعة بعرفات كما قيل في باب الصفة « ثوب أخلاق » و « برمة أعشار » ثم سئل : هلا منعت الصرف وفيها سببان التعريف والتأنيث؟ فقيل : إنه لم يبق علماً بعدما جمع ثم جعل علماً لمجموع القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في الصرف . وقيل : إن هذا التنوين تنوين المقابلة في نحو « مسلمات » ومن ذهب إلى أن تنوين المقابلة لا وجود له كجار الله وكثير من المتأخرين . وأن هذا التنوين تنوين الصرف . قالوا : إنما لم يسقط لأن التأنيث في نحو « مسلمات وعرفات » ضعيف . فإن التاء التي هي لمحض التأنيث سقطت ، والباقية علامة لجمع المؤنث ، وزيف بأن عرفات مؤنث . وإن قلنا إنه لا علامة تأنيث فيها لا متمحضة للتأنيث ولا مشتركة لأنه لا يعود الضمير إليها إلا مؤنثاً تقول « هذه عرفات مباركاً فيها » ولا يجوز « مباركاً فيه » إلا بتأويل بعيد كما في قوله « ولا أرض أبقل إبقالها » فتأنيثها لا يقصر عن تأنيث مصر الذي هو بتأويل البقعة .

وقال بعض المتأخرين : الأولى أن يقال : إن التنوين للصرف وإنما لم يسقط في نحو « عرفات » لأنه لو سقط لتبعه الكسر في السقوط وتبع النصب وهو خلاف ما عليه الجمع السالم ، إذ الكسر فيه متبوع لا تابع فهو فيه كالتنوين في غير المنصرف للضرورة لم يحذفا لمانع . هذا مع أنه جوز المبرد والزجاج ههنا مع العلمية حذف التنوين وإبقاء الكسر كبيت امرئ القيس في رواية .
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وبعضهم يفتح التاء في مثله مع حذف التنوين كسائر ما لا ينصرف . فعلى هذين الوجهين التنوين للظرف بلا خلاف ، والأشهر بقاء التنوين في مثله مع العلمية . وقيل : التنوين عوض من منع الفتحة . واعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة . وعرفة وعرفات هي الموضع المخصوص . فقيل : التروية التفكر . وسببه أن آدم عليه السلام لما أمر ببناء البيت فبناء تفكر فقال : يا رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك . قال يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به . قال : زدني ، فقال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك . قال : حسبي يا رب حسبي . وقيل : إن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح متفكراً هل هذا من الله أو من الشيطان ، فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك . وقيل : إن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يذكرونها في الغد بعرفات . وقيل : التروية الإرواء فإن أهل مكة كانوا يجمعون الماء للحجيج الذي يقصدونهم من الآفاق فيتسعون في الماء بعدما تعبوا في الطريق من قلة الماء ، أو لأنهم يتزوّدون الماء إلى عرفة ، أو لأن المذنبين كالعطاش وردوا بحار الرحمة فشربوا منها حتى رووا . أما يوم عرفة فقيل : إنه من المعرفة لأن آدم وحوّاء عليهما السلام التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه ، عن ابن عباس أو لأن جبريل عليه السلام علم آدم مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت؟ قال : نعم . أو لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة . عن علي عليه السلام وابن عباس وعطاء والسدي . أو لأن جبريل عرف بها إبراهيم المناسك وقد مر في قوله { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] أو لأن إبراهيم وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يتلاقيا سنين ثم التقيا يوماً بعرفات ، وقد سبقت القصة في بناء البيت في قوله

{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد } [ البقرة : 127 ] ولما ذكرنا آنفاً من مقام إبراهيم أو لأن الحاج يتعارفون فيه إذا وقفوا ، أو لأنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة . وقيل : اشتقاقها من الاعتراف لأن الناس يعترفون هنالك للحق بالربوبية والجلال ، ولأنفسهم بالفقر واختلاف الحال . يقال : إن آدم عليه السلام وحوّاء لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه : الآن عرفتما أنفسكما . وقيل : من العرف وهو الرائحة الطيبة لأن المذنبين يكتسبون بالمغفرة روائح طيبة عند الله مقام ضدها . قال صلى الله عليه وسلم « خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك » وقد يسمى يوم عرفة يوم إياس الكفار من الإسلام ويوم إكمال الدين ويوم إتمام النعمة ويوم الرضوان أخذاً من قوله تعالى في المائدة { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] عن عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية يوم عرفة وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم منار الجاهلية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو يعلم الناس مالهم في هذه الآية لقرت أعينهم » . قال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية أنزلت علينا لتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين . وكان ذلك يوم عرفة ويوم جمعة يوم صلة الواصلين { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] يوم قطيعة القاطعين { إن الله بريء من المشركين ورسوله } [ التوبة : 3 ] يوم إقالة عثرة النادمين وقبول توبة التائبين { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] يوم وفد الوافدين في الخبر « الحاج وفد الله والحاج وزّار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره » يوم الحج الأكبر { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] يوم خص صومه بكثرة الثواب قال صلى الله عليه وسلم « صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين » وقال « من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله مثل ثواب عيسى بن مريم » أقسم الله تعالى به في قوله عز من قائل { والشفع والوتر } [ الفجر : 3 ] عن ابن عباس : الشفع يوم التروية وعرفة ، والوتر يوم النحر يوم خص بكثرة الرحمة وسعة المغفرة . وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم » ولا ضير أن نشير ههنا إلى أعمال الحج إشارة خفيفة .

اعلم أنه من دخل مكة محرماً في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات ، وإن كان متمتعاً طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات ، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج ، وكذلك من أراد الحج من أهل مكة . والسنة للإمام أن يخطب بمكة اليوم السابع من ذي الحجة بعدما صلى الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فيها بالذهاب غداً بعد أن يصلوا الصبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال . ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بمنى ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة ، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير توجهوا إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل تضرب قبة الإمام بنمرة . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب وأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها . فإذا زالت الشمس حطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف ، وبعد الفراغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه . ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر ، ثم يقيمون في الحال فيصلي . بهم العصر ، وهذا الجمع متفق عليه . ثم بعد الفراغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك ، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة ويذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس . والوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به ، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لقوله صلى الله عليه وسلم « الحج عرفة » فمن فاته عرفة فقد فاته الحج . وقد يستدل بالآية أيضاً على ذلك لأنها دلت على ذكر الله عند المشعر الحرام عقيب الإفاضة من عرفات . والإفاضة من عرفات لا تتصور إلا بعد الحصول بعرفات . وجمهور الفقهاء على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليس بركن لأنه تعالى أمر بالذكر عنده ، فالوقوف به تبع لا أصل بخلاف الوقوف بعرفة لأنه جعله أصلاً حيث لم يقل فإذا أفضتم عن الذكر بعرفات . ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار كفى . وقال أحمد : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر . وإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة .

قيل : سمي بها لأنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب . وقيل : لأن الناس يجتمعون بها ، والازدلاف الاجتماع . وقيل : لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقربون بالوقوف فيها . ويقال : للمزدلفة جمعم لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء عن قتادة : وقيل : لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها . ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين . ثم يبيتون بها فإن لم يبت بها فعليه دم شاة . فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس . والتغليس بالفجر ههنا أشد استحباباً منه في غيرها وهو متفق عليه . فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي ، يأخذ كل إنسان سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقول له قزح فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن أمكنه ، ويحمد الله ويهلله ويكبره ، ولا يزال كذلك حتى يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلع الشمس . ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً يحرك دابته ، ومن كان ماشيا يسعى سعياً شديداً قدر رمية حجر . فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا رمى ، ثم بعدما رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي . ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر ، ثم بعد الحلق أتى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة وهو الركن ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم بعد ذلك يعود إلى منى في بقية يوم النحر ، وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي . واعلم أن من مكة إلى منى فرسخين ، ومن منى إلى عرفات فرسخين ، ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات منها إلى كل واحد منهما فرسخ ، ولا يقفون بها في سيرهم من منى إلى عرفات . والحاصل أن أعمال الحج يوم النحر إلى أن يعود إلى منى أربعة : رمي جمرة العقبة والذبح والحلق والتقصير والطواف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة أيضاً لأنهم يأتون من منى زائرين للبيت ويعودون في الحال . والترتيب في الأعمال الأربعة على النسق المذكور مسنون وليس بواجب . أما أنه مسنون فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها ، وأما أنه ليس بواجب فلما « روي عن عبد الله بن عمرو قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال : يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي . قال : ارم ولا حرج . وأتاه آخر فقال : إني ذبحت قبل أن أرمي قال : ارم ولا حرج . وأتاه آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال : ارم ولا حرج ، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج » .

وعن مالك وأحمد وأبي حنيفة أن الترتيب بينها واجب ولو تركه فعليه دم على تفصيل ليس ههنا موضع بيانه . ثم إن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج من سنة إبراهيم صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الحمس كانوا لا يقفون بعرفات ويقولون : لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس ، والذين يقفون بمزدلفة إذا طلعت الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع للنحر . وقيل : أي ندفع من مزدلفة فندخل في غور الأرض . وثبير جبل هناك فأمر الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بمخالفة القوم في الدفعتين فأمره بأن يفيض من عرفات بعد غروب الشمس . وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، فإن السنة أيضاً من قبيل الوحي . قال الواحدي : المشعر الحرام هو المزدلفة سماه الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده . وقال في الكشاف : المشعر الحرام قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة ، أي : يوقد هناك النار في الجاهلية ، قال : وقيل المشعر الحرام ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام . قال : والصحيح أنه الجبل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة - بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفاً حتى أسفر . وقال : عند المشعر الحرام معناه ما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ، أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر . والمشعر المعلم لأنه معلم لعبادته ووصف بالحرام لحرمته . وأما الذكر المأمور به هناك فقيل : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء . والصلاة تسمى ذكراً قال تعالى { وأقم الصلاة لذكري } [ طه : 14 ] والدليل عليه أن { فاذكروا } أمر فهو للوجوب ولا ذكر يجب هناك إلا هذا ، والجمهور على أن المراد ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل . عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون { كما هداكم } « ما » مصدرية أو كافة . أطلق الأمر بالذكر أوّلاً ثم قيده ثانياً . والمعنى : اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة كي تكونوا شاكرين والهداية إما كل أنواع الهدايات أو الهداية إلى سنة إبراهيم في مناسك الحج ، أو اذكروا كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه بحسب الرأي والقياس ، فإن أسماء الله تعالى توقيفية أو الذكر الأول محمول على الذكر باللسان ، والثاني على الذكر بالقلب . أو المعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته ، أو المراد بتثنية الأمر تكريره وتكثيره كقوله

{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } [ الأحزاب : 41 ] وعلى هذا فيكون قوله { كما هداكم } متعلقاً بالأمرين جميعاً ، أو الذكر الأول مقيد بأنه عند المشعر الحرام والثاني مطلق يدل على وجوب ذكره في كل مكان وعلى كل حال . فالأول إقامة للوظيفة الشرعية والثاني ارتقاء إلى معارج الحقيقة وهو أن ينقطع القلب عن المشعر الحرام بل عن كل ما سواه من حلال وحرام . أو المراد بالأول الجمع بين الصلاتين هناك وبالثاني التسبيح والتحميد { وإن كنتم من قبله } من قبل الهدى ، أو من قبل الرسول ، أو من قبل إنزال الكتاب الذي بين فيه معالم دينكم { لمن الضالين } الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه . « وإن » هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية { ثم أفيضوا } في هذه الإفاضة قولان : أحدهما أنه الإفاضة من عرفات وعلى هذا فالأكثرون قالوا : إنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس لأنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويتعللون بأن الحرم أشرف من غيره ، فالوقوف به أولى . وبأنهم أهل الله وقطان حرمه فلا يليق بحالهم أن يساووا الناس بالوقوف في الموقف ترفعاً وكراً . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات . فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك؟ فلا تذهب . فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها . والحاصل ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس الواقفون بعرفات لا من المزدلفة . ومعنى « ثم » التفاوت بين الإفاضتين وأن الإفاضة المأمور بها صواب والأخرى خطأ كما تقول « أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم » تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى كريم والإحسان إلى غيره ، وبهذا التحقيق لا يلزم عطف الشيء على نفسه . وصيرورة المعنى : فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات ، ولا أن يقدر تقديم هذه الآية على ما قبلها في الوضع . ومن القائلين بأن المراد الإفاضة من عرفات من قال إنه أمر الناس جميعاً . وقوله { من حيث أفاض الناس } المراد به إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام فإن من سنتهما ذلك . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس . وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً مقتدى به . { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني نعيم بن مسعود { إن الناس } يعني أبا سفيان . ووجه ثالث وهو أن يكون قوله { من حيث أفاض الناس } عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفات وأن ما عداه مبتدع كما يقال « هذا مما فعله الناس قديماً » .

القول الثاني عن الضحاك أن المراد الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر ، وقوله { من حيث أفاض الناس } يعني إبراهيم وإسماعيل ومتبعيهما فإن طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فأمرهم الله تعالى بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام . وأورد على هذا القول أن استعمال « حيث » للزمان قليل ، ويمكن أن يجاب بأن القرآن أولى ما يحتج به . وعن الزهري : أن الناس في هذه الآية آدم عليه السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير { من حيث أفاض الناس } بكسر السين اكتفاء من الياء بالكسرة من قوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى } [ طه : 115 ] والمعنى : أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه . { واستغفروا الله } من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم ، وليكن الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهي أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم أن لا يقصر فيما بعده ابتغاء لمرضاة الله لا للمنافع العاجلة . والاستغفار بالحقيقة يجب على كل مكلف وإن لم يعلم من ظاهر حاله خطيئة فإن النقص لازم الإمكان ، والقصور من خصائص الإنسان وكيف لا وقد قالت الملائكة وإنهم أرفع حالاً ما عبدناك حق عبادتك . وصورة الاستغفار على ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » ولو اقتصر على قوله « أستغفر الله » كفى . ولو زاد فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وأنت التواب الرحيم . أو قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذا الجلال والإكرام . من كل ذنب أذنبته ومعصية ارتكبتها ، وأتوب إليه من الذنب الذي أعلم ومن الذي لا أعلم كان حسناً .
{ إن الله غفور رحيم } بناءان للمبالغة كما مر مراراً . واختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية . فمن قائل إنها عند الدفع من عرفات إلى جمع بناء على القول الأول في الإفاضة ، ومن قائل إنها عند الدفع من جمع إلى منى بناء على القول الآخر .
قوله عز من قائل { فإذا قضيتم مناسككم } أي فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، أو من أعمال مناسككم إذ المناسك جمع المنسك .

وأنه يحتمل أن يكون مصدراً وأن يكون اسم مكان . وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء . عن ابن عباس : أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار وغرضهم الشهرة والترفع بمآثر سلفهم . فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم لا لآبائهم . ثم الفاء في قوله { فاذكروا الله } تدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا قيل : هو الذكر على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في أيام النحر والتشريق وقيل : هو الإقبال على الدعاء والاستغفار بعد الفراغ من الحج كالأدعية المأثورة عقيب الصلوات المكتوبة . وقيل : معناه فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وقهرتم القوى الطبيعية وأمطتم الأذى من طريق السلوك ، فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فإن التخلية ليست مقصودة بالذات ، وإنما الغرض منها التخلية بمواجب السعادات الباقيات ، فالأولى نفي والثاني إثبات . ومعنى { كذكركم آباءكم } توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء ، وأقيموا الثناء على الله مقام تعداد مفاخر الآباء فإنه إن كان كذباً أوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في العقبى ، وإن كان صدقاً استتبع العجب والتباهي ، وإن كانوا يذكرون الآباء ليتوسلوا بذلك إلى إجابة الدعاء فالإقبال بالكلية على مولي النعماء أولى مع أن حسنات آبائهم محبطة لسبب إشراكهم . وعن الضحاك والربيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم وذلك قول الصبي أول ما ينطق « أبه أبه أمه أمه » أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظباً على ذكر أبيه وأمه ، فاكتفي بالآباء عن الأمهات كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وقال أبو مسلم : جرى ذكر الآباء مثلاً لدوام الذكر . والمعنى : كما أن الرجل لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله . وقال ابن الأنباري : العرب أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء فقال تعالى : عظموا الله كتعظيمكم آباءكم . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء وقال « من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » وقيل : اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منكم لو نسب إلى والدين تأذى منه واستنكف . وقيل : كما أن الطفل يرجع إلى أبيه في طلب المهمات وكفاية الملمات فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك . وعن ابن عباس معنى الآية أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء . وقوله { أو أشد ذكراً } إما في موضع جر عطفاً على ما أضيف إليه الذكر في قوله { كذكركم } كما تقول « كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً . وإما في موضع نصف عطفاً على { آباءكم } بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم على أن { ذكراً } من فعل المذكور وهو الآباء لا فعل الذاكر وهو الأبناء ، فإن الذكر بل كل فعل معتدٍ له اعتبارات اعتبار وقوعه على المفعول ، واعتبار صدوره عن الفاعل .

وذلك الفعل بأحد الاعتبارين مغاير له بالاعتبار الآخر . وإنما لزم اعتبار الفعل ههنا من جهة وقوعه على المفعول لأنّ الآباء المفضل عليهم المذكورون لا الذاكرون . ويحتمل أن يقال : المعنى فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم أو أشد ذكراً . ولكن برد عليه أن أفعل إنما يضاف إلى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله كقولك : « وجهك أحسن وجه » أي أحسن الوجوه . فإذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله كقوله « زيد أفره عبداً » . فالفراهة للعبد لا لزيد . والمذكور قبل { أشد } ههنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال « أشد ذكراً إنما قياسه أن يقال : الذكر أشد ذكر جراً إضافة . وفيه وجه نصبه على ما قال أبو علي أن يجعل الذكر ذاكراً مجازاً . ويجوز نسبة الذكر إلى الذكر بأن يسمع إنسان الذكر فيذكر ، فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه وعلى جميع الوجوه . فمعنى » أو « ههنا ليس هو التشكيك وإنما المراد به النقل عن الشيء إلى ما هو أقرب وأولى كقول رجل لغيره » افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه « . وإنما أمر الله تعالى أن يكون ذكره أشد لأن مفاخر آبائهم متناهية وصفاته الكمالية غير متناهية ، وتلك مشكوكة وهذه متيقنة ، وغاية الأول تضييع وحرمان ، ولازم الثاني نور وبرهان . ثم إنه تعالى بعدما أمر بالعبادة تصفية للنفس وتخلية لها عن ظلمات الكبر والضلال وأمر عقيب ذلك بتنوير الباطن بنور الجلال والجمال بكثرة الاشتغال بذكر الكبير المتعال ، نبه على حسن طلب مزيد الإنعام والإفضال فذكر أن الناس فريقان : منهم من قصر دعاءه على طلب اللذات العاجلة ، ومنهم من أضاف إلى ذلك الطلب نعيم الآخرة وأهمل القسم الثالث وهو أن يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة تنبيهاً على أن ذلك غير مشروع ومن حقه أن لا يوجد ، فإن الإنسان خلق ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بعذاب النار . فالأولى به أن يستعيذ بربه من آفات الدنيا الآخرة . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال له : ما كنت تدعو الله به؟ قال : كنت أقول : اللهم إذا كنت تعاقبني به في الآخرة فعجلنيه في الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار « فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفي .

والإنصاف أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة عجز الإنسان عن الصبر عليه ، وقد يفضي ذلك به إلى الجزع ويعوقه عن اكتساب الكمالات ، ويحمله على إهمال وظائف الطاعات ، ومن ذا الذي يستغني عن إمداد الله إياه في دنياه وعقباه؟! ثم المقصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم؟ عن ابن عباس : أنهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا : اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وإماء وعبيداً . وذلك لأنكارهم البعث والمعاد . وعن أنس : كانوا يقولون : اسقنا المطر وأعطنا على عدوّنا الظفر ، ويحكى عن أبي علي الدقاق أنه قال : أهل النار يستغيثون ثم يقولون : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا . طلب المأكول والمشروب وفي النار طلب المأكول والمشروب ، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال الآخرون . يحتمل أن يكونوا مسلمين وعوقبوا لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف وأشرف المشاهد أخس البضائع وأدون المطالب المشبه تارة بكنيف وأخرى بأحقر من جناح بعوضة ، معرضين عن العيش الباقي والنعيم المقيم . وقوله { ربنا آتنا في الدنيا } متروك المفعول الثاني لأنه كالمعلوم ، ويحتمل أن يكون من قولهم « فلان معط » أي موجد الإعطاء ، معناه اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة . واعلم أن مطامح النفس في الدنيا إحدى ثلاث خصال : روحانية هي تكميل القوة النظرية بالعلم وتتميم القوّة العملية بتحصيل الأخلاق الفاضلة ، وبدنية هي الصحة والجمال ، وخارجية هي الجاه والمال . وكل من لا يؤمن بالبعث فإنه لا يطلب فضيلة روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا . فيطلب العلم لأجل الترفع على الأقران ويكتسب الأخلاق لتدبير الأمور المنزلية والمدنية . فلما قال عز من قائل { وماله في الآخرة من خلاق } أي طلب نصيب حذف مفعول { آتنا } لأن كل من ليس له في الآخرة طلب ، ولا لهمه إلى اقتناء السعادات الباقيات نزاع وطموح ، فمطلوبه عبث وسفه ووبال وضلال أي شيء فرضت علماً وعملاً روحانياً أو جسمانياً . اللهم اجعلنا ممن لا ينظر في أي شيء بنظر إلا إليك ، ولا يرغب في كل ما يرغب إلا لأجل ما لديك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . ثم إنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أن هذا الفريق مجابة دعوتهم أولاً . فقال طائفة من العلماء : إنهم ليسوا بأهل للإجابة ، لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح ولا يليق إلا بأولياء الله والمرتضين من عباده وقال آخرون قد يكون الإنسان مجاباً لا كرامة واجتباء بل مكراً واستدراجاً ويؤيده قوله سبحانه { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب } [ الشورى : 20 ] وعلى هذا يصح أن يقال في الآية إضمار أي يقول : ربنا آتنا في الدنيا فيؤتيه الله في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق .

لأن همته مقصورة على الدنيا . والحسنتان في دعاء الصالحين . أما في الدنيا فالصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء ، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق وما أشبه ذلك حسنة { أن تصبك حسنة تسؤهم } [ التوبة : 50 ] { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } [ التوبة : 52 ] قيل : إما النصرة وإما الشهادة . وأما في الآخرة فالفوز بالثواب والخلاص من العقاب ، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع . صرح بذلكفي قوله { وقنا عذاب النار } وهذه بالجملة كلمة جامعة لجميع خيرات الدنيا والآخرة . روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس : ادع لنا فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . قالوا : زدنا فأعادها قالوا : زدنا قال : فما تريدون سألت لكم خير الدنيا والآخرة . وعن علي رضي الله عنه الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء . وعذاب النار امرأة السوء . وقيل : الحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة ، وفي الآخرة التنعم بذكر الله والإنس به وبرؤيته . قلت : لا تلذذ في الدنيا والآخرة إلا بهذا .
الجسم مني للجليس مجالس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وعن قتادة الحسنتان طلب العافية في الدارين . وعن الحسن : هي في الدنيا فهم كتاب الله ، وفي الآخرة الجنة . ومنشأ البحث مجيء الحسنة منكرة في حيز الإثبات ، فكل من المفسرين حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة عقلاً أو شرعاً . ويمكن أن يقال : التنوين للتعظيم أي حسنة وأي حسنة أو يريد حسنة توافق حال الداعي وحكمة المدعو ، وفيه من حسن الطلب ورعاية الطلب ورعاية الأدب ما ليس في التصريح به فإنه لا يكون إلا ما يشاء أو يريد حسنة ما وإن كانت قليلة ، فإن النظر إلى المنعم لا إلى الإنعام . قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل . { أولئك } الداعون بالحسنتين { لهم نصيب } وأي نصيب { مما كسبوا } من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة . فمن للابتداء . ويحتمل التعليل أي من أجل ما كسبوا كقوله { مما خطيئاتهم أغرقوا } [ نوح : 25 ] والكسب ما يناله المرء بعمله ومنه يقال للأرباح « إنها كسب فلان » أولهم نصيب مما دعوا به يعطيهم بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة وسمي الدعاء كسباً لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] ويجوز أن يكون { أولئك } للفريقين جميعاً وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا . { والله سريع الحساب } السرعة نقيض البطء . والحساب مصدر كالمحاسبة وهو العدّ قال الزجاج : هو مأخوذ من قوله « حسبك كذا » أي كفاك . وذلك أن فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان .

ومعنى كون الله محاسباً لخلقه قيل : إنه يعلمهم ما لهم وعليهم بأن يخلق العلم الضروري في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها ، أو بمقادير ما لهم من الثواب والعقاب . ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بماله وعليه ، فإطلاق الحساب على هذا الإعلام إطلاق اسم السبب على المسبب . عن ابن عباس أنه قال : لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم فيقال لهم : هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ويقال : هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم . وقيل : المحاسبة المجازاة { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً } [ الطلاق : 8 ] ووجه المجاز أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء . وقيل : إنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية ما لها من الثواب والعقاب . فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوت قال : إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعاً يسمع به كلامه القديم كما يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة . ومن قال : إنه صوت قال : إنه تعالى يخلق كلاماً يسمعه كل مكلف . إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم و في جسم يقرب من أذنه بحيث لا يبلغ قوة ذلك الصوت مبلغاً يمنع الغير من فهم ما كلف به ، فهذا هو المراد من كونه محاسباً لخلقه ، ومعنى كونه سريع الحساب أو قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات من غير أن يفتقر في أحداث شيء إلى فكر وروية ومدة وعدّة ، ولذلك ورد في الخبر أنه يحاسب الخلق في مقدار حلب شاة ، وروي في لمحة . أو أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم لأنه قادر على أن يعطي مطالب جميع الخلائق في لحظة واحدة كما ورد في الدعاء المأثور « يا من لا يشغله سمع عن سمع » ، أو أن وقت جزائه وحسابه سريع يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد كقوله تعالى { اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] وقوله تعالى { واذكروا الله } أي بالتكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار يكبر مع كل حصاة . وفيه دليل على وجوب الرمي لأن الأمر بالتكبير أمر بالذي يتوقف التكبير على حضوره ، وإنما اختير هذا النسق لأنهم ما كانوا منكرين للرمي وإنما كانوا يتركون ذكر الله تعالى عنده { في أيام معدودات } هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر : أولها يوم القر لأن الناس تستقر فيه بمنى . والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى . والثالث يوم النفر الثاني . عن عبد الرحمن بن معمر الديلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي الحج عرفة . من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأيام منى ثلاثة من تعجل في يومين فلا إثم عليه واعلم أن التكبير المشروع في غير الصلاة وخطبة العيدين نوعان : مرسل ومقيد .

فالمرسل هو الذي لا يتقيد ببعض الأحوال بل يؤتى به في المنازل والمساجد والطرق ليلاً ونهاراً كما مر في تفسير قوله تعالى { ولتكبروا الله على ما هداكم } [ البقرة : 185 ] وذكرنا صورة التكبير هناك أيضاً . ولا فرق في التكبير المرسل بين عيد الفطر والأضحى . وأما التكبير المقيد فأظهر الوجهين أنه لا يستحب في عيد الفطر لم ينقلوا ذلك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ، وإنما يستحب في الأضحى . وتقييده هو أن يؤتى به في أدبار الصلوات خاصة . واختلفوا في ابتدائه وانتهائه فقيل : من طهر يوم النحر إلى ما بعد طلوع الصبح من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبيرات على هذا في خمس عشرة صلاة وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك والشافعي في أشهر أقواله ، وحجتهم أن الناس فيه تبع للحجاج وهم يبتدؤن التكبير عقيب الظهر يوم النحر إلى مضي خمس عشرة صلاة . فيكون آخرها صلاة الصبح من آخر أيام منى وذكرهم قبل ذلك التلبية . والقول الثاني للشافعي أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبير في أعقاب ثماني عشرة صلاة . والقول الثالث أنه يبتدأ من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر ، فتكون التكبيرات بعد ثماني صلوات ، وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة . واعترض عليه بأن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق ، فوجب أن يؤتى بها فيها . وإن انضم معها زمن آخر فلا أقل من أن تكون هي أغلب . والقول الرابع يبتدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، فيكبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة ، وهو قول أكابر الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وقول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني من الفقهاء لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا وقال : « الله أكبر » . ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق ، ولأن هذا هو الأحوط فتكثير التكبير خير من تقليله . وعلى هذا القول إنما تكون التكبيرات مضافة إلى أيام التشريق لأنها أكثر تلك المدة . قال الجوهري : تشريق اللحم تقديده ، ومنه أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها في الشمس . وقيل : هو من قولهم « أشرق ثبير كيما نغير » . وقيل : سميت بذلك لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس . وأما رمي أيام التشريق فإنه يجب أن يرمي كل يوم بين الزوال والغروب بكل جمرة من الجمرات الثلاث بالترتيب مبتدئاً من الجمرة الأولى من جانب المزدلفة ومختتماً برمي جمرة العقبة وهي التي تلي مكة رميات سبعاً في سبع دفعات لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك رماها .

وقال : خذوا عني مناسككم . فجملة ما يرمي في الحج سبعون حصاة ، يرمي إلى جمرة العقبة يوم النحر سبع حصيات ، وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث إلى كل واحدة سبع تواتر النقل به قولاً وفعلاً ، ويكبر مع كل حصاة . وعلى الحجيج أن يبتوا بمنى الليلتين الأوليين من ليالي التشريق ، فإذا رموا اليوم الثاني فمن أراد منهم أن ينفر قبل غروب الشمس فله ذلك ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة والرمي من الغد وذلك قوله تعالى { فمن تعجل } أي عجل أو استعجل { في يومين فلا إثم عليه } ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت الليلة الثالثة ويرمي يومها ، وبه قال أحمد ومالك والشافعي . وعند أبي حنيفة يسوغ النفر ما لم يطلع الفجر ، فإذا طلع لزم التأخر إلى تمام الأيام الثلاثة وذلك قوله تعالى { ومن تأخر فلا إثم عليه لمن التقى } قال في الكشاف : تعجل واستعجل يجيئان متعديين مثل تعجل الذهاب واستعجله ، ويجيئان مطاوعين بمعنى عجل وهذا أوفق لقوله { ومن تأخر } والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة . وعند الشافعي لا يجوز كسائر الأيام . وقد سئل ههنا أن المتأخر قد استوفى ما عليه من العمل فكيف ورد في حقه { فلا إثم عليه } وهذا إنما يقال في حق المقصر الذي يظن أنه قد رهقه آثام فيما أقدم عليه . فأجيب بأن الرخصة قد تكون عزيمة كالقصر عند أبي حنيفة والشيعة لا يجوز في السفر غيره ، فلمكان هذا الاحتمال رفع الحرج في الستعجال والتأخر دلالة على أن الحاج مخير بين الأمرين ، أو بأن أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من يجعل المتعجل آثماً ، ومنهم من يجعل المتأخر آثماً مخالفاً لسنة الحج ، فبيّن الله تعالى أن لا إثم على واحد منهما . وقيل : إن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاثة . فكأنه قيل : إن أيام منى التي ينبغي المقام بها فيها ثلاثة ، فمن نقص فلا إثم عليه ، ومن زاد على الثلاثة ولم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه . وقيل : إن الآية سيقت لبيان أن الحج مكفر للذنوب والآثام لا لبيان أن التعجل وتركه سيان كما أن الإنسان إذا تناول الترياق فالطبيب يقول له : الآن إذا تناولت السم فلا بأس ، وإن لم تتناول فلا بأس ، يريد أن الترياق دواء كامل في دفع المضار لا أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحداً . وقيل : إن جوار البيت مكروه عند كثير من العلماء لأن ذلك قد يفضي إلى نقص حشمة البيت ووقعه في قلبه وعينه فأمكن أن يختلج في قلب أحد أن التعجيل أفضل بناء على هذا المعنى ، ولما في التعجل من المسارعة إلى طواف الزيارة ، فبيّن تعالى أنه لا حرج في واحد منهما .

وقال الواحدي : هذا من باب رعاية المقابلة والمشاكلة مثل { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] بل ههنا أولى لأن المندوب يصدق عليه أنه لا إثم على صاحبه فيه ، وجزاء السيئة ليس بسيئة أصلاً . وأما قوله تعالى { لمن اتقى } أي ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي كيلا يتخالج في قلبه إثم منهما فإن ذا التقوى متحرز من كل ما يريبه . وقيل : معناه أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً قبل حجة كقوله { إنما يتقبل الله من المتقين } [ المائدة : 27 ] أو لمن كان متقياً عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج . وقوله { واتقوا الله } أي فيما يستقبل فيه حث على ملازمة التقوى فيما بقي من عمره وتنبيه على مجانبة الاغترار بالحج السابق كما أن قوله { واعلموا أنكم إليه تحشرون } توكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه لأن الحشر - وهو اسم يقع على ابتداء - خروج الناس من الأجداث إلى انتهاء الموقف يوجب تصوره ، لزوم سيرة الاتقاء عن ترك الواجبات وفعل المحظورات . والمراد من قوله { إليه } أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إليه ، ولا مستعان إلا هو { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } [ الانفطار : 19 ] .
التأويل : { الحج أشهر معلومات } هي مدة الحياة الفانية ، وقيل إلى أربعين سنة ، ولهذا قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد . نعم لو صدق طلبه قبل الأربعين وما أمكنه الوصول فقريب أن يحصل مقصوده بعد الأربعين ، ومن فاته الطلب في عنفوان شبابه إلى أن بلغ الأربعين فحري منه عليه الحيف إذ ضيع اللبن في الصيف ، لكنه يصلح للعبادة التي أجرها الجنة . { فلا رفث } لا يميل إلى الدنيا وزينتها وليهجرها كالمحرم بعد الاغتسال بماء الإنابة بتزر بإزار التواضع والانكسار ، ويتردى برداء التذلل والافتقار . { ولا فسوق } ولا خروج من الأوامر والنواهي بل لا يخرج من حكم الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت { ولا جدال في الحج } لا نزاع للسالك الصادق في طلب الوصول لا بالفروع ولا بالأصول فلا في مالها مع أحد يخاصم ولا في جاهها لأحد يزاحم ، فمن نازعه في شيء من ذلك يسلمها إليه ويسلم عليه { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] وتزودوا لكل سالك زاد . فزاد أولي القشور كعك وسويق وهم الذين مقصدهم البيت ومقصودهم الجنة ، وزاد أولي الألباب التقوى وهم من مقصدهم ومقصودهم رب البيت . وتقوى أهل القشور مجانبة الزلات ومواظبة الطاعات ، وتقوى أولي الألباب مجانبة الصفات بالصفات والذات بالذات . فلما كان مقصودهم خير المقاصد كان زادهم خير الزاد { أن تبتغوا فضلاً } مقام ابتغاء الفضل بمعنى الرحمة بترك الموجود وبذل المجهود وهو في سيره إلى عرفات ، ومقام ابتغائه بمعنى مواهب القربة ببذل الوجود عند الوقوف بعرفات ، لأن الحج عرفة وعرفة المعرفة ومقام ابتغائه بمعنى الرزق هو قبل سيره إلى عرفات .

وقال جمع من المحققين : إنه بعد استكمال الحج الحقيقي لأنه لقوة عرفانه بالله لا تضره الدنيا بل يكون تصرفه فيها بالله في الله لله { عند المشعر الحرام } يعني القلب الذي حرام عليه الاطمئنان بغير ذكر الله { واذكروه كما هداكم } أي كما هدى قلوبكم يهدي نفوسكم كيلا تقع في خطر حب الدنيا . { وإن كنتم من } قبل الوقوف بعرفات المعرفة { لمن الضالين } في طلب الدنيا وحظوظ النفس { من حيث أفاض الناس } يعنى محمداً وسائر الأنبياء والأولياء أي لتكن الإفاضة من عرفات المعرفة لأجل أداء الحقوق بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله { واستغفروا الله } لأجل إزالة غين المخالطة مع الخلق كقوله { إذا جاء نصر الله } إلى قوله { واستغفره } [ النصر : 1-3 ] أي إذا وجدت هذا لا تخلو عن خط ما فاستغفره { فإذا قضيتم } مناسك الوصال وبلغتم مبلغ الرجال فلا تأمنوا مكر الله وواظبوا على الذكر { كذكركم آباءكم } في صغركم للافتقار وفي كبركم للافتخار { أو أشد ذكراً } لأنه يمكن الاستغناء من الأب ولا يمكن الاستغناء من الله { والله سريع الحساب } لأن أثر الطاعة وأثر المعصية تظهر في الحال على القلب { في أيام معدودات } هي أيام البداية والوسط والنهاية { فمن تعجل في يومين } وقف على الوسط ليكون من أهل الجنة { فلا إثم عليه ومن تأخر } إلى أن يصل يوم النهاية حتى يكون من أهل الله فذاك لمن اتقى الرجوع والوقوف ، والله ولي التوفيق وهو حسبي .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

القراآت : { مرضاة } بالإمالة والوقف بالهاء : علي . وكذلك يقف على { هيهات } هيهاه وعلى { حدائق ذات } ذاه وعلى { أفرأيتم اللات } اللاه وعلى { ولات حين } ولاه ، وعلى { مريم ابنة } ابنه . وافق أبو عمر وفي { ولات حين } بالهاء { لسلم } بفتح السين . أبو جعفر ونافع وابن كثير وعلي . الباقون : بالكسر . { والملائكة } بالجر : يزيد عطفاً على « ظلل » أو على « الغمام » أو للجوار وإن كان فاعل « يأتهم » . الباقون : بالرفع { ترجع الأمور } حيث كان بفتح التاء وكسر الجيم : حمزة وعلي وخلف وابن عامر وسهل ويعقوب . الباقون : بضم التاء وفتح الجيم .
الوقوف : { قلبه } لا لأن الواو للحال { الخصام } 5 { والنسل } ط { الفساد } ط { جهنم } ط { المهاد } 5 { مرضات الله } ط { بالعباد } 5 { كافة } ص لعطف الجملتين المتفقتين { الشيطان } ط مع احتمال الجواز { مبين } 5 { حكيم } 5 { وقضى الأمر } ط { الأمور } 5 .
التفسير : لما آل أمر بيان الحج إلى تعديد فرق الناس بحسب أغراضهم في الدعاء ، ناسب أن يعطف على ذلك تقسيم آخر يعرف منه مطامح أنظار الناس على الإطلاق ليعرف أرباب النفاق . من أصحاب الوفاق . عن السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وهو حليف بني زهرة . أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأظهر له الإسلام وزعم أنه يحبه وقال : والله يعلم أني لصادق . فلما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع وعقر الحمر . وقيل : إنه أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم : إن محمداً ابن أختكم فإن يك كاذباً كفاكموه سائر الناس ، وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به . فقالوا : نعم الرأي ما رأيت . ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمى بهذا السبب أخنس - وكان اسمه أبي بن شريق - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه . وعن ابن عباس والضحاك : أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك فبعث إليهم جماعة ، فلما كانوا ببعض الطريق ركب من الكفار سبعون راكباً فأحاطوا بهم فقتلوهم وصلبوهم ففيهم نزلت . وقوله بعد ذلك { ومن الناس من يشري } إشارة إلى هؤلاء الشهداء . واختيار المحققين من المفسرين أنه لا يمتنع أن تكون الآية نازلة في الرجل ثم تكون عامة في أمثاله . فهذه الآية عامة في المنافقين ، فإن ألسنتهم تحلو لي وقلوبهم أمر من الصبر . والضمير في { يعجبك قوله } يعود إلى « من » ويحتمل أن يكون جمعاً ولكنه أفرد نظراً إلى اللفظ . ومعنى يعجبك يروقك ويعظم في قلبك و { في الحياة الدنيا } إما أن يتعلق بقوله أي يعجبك ما يقوله في باب الدنيا طلباً للمصالح العاجلة فقط كالأمان من القتل والأخذ من المغانم ، و إما أن يتعلق بيعجبك لأن قوله وحلو كلامه إنما يعجب السامع في الدنيا ولا يعجبه في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الهيبة والحيرة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام .

والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لكل سامع . { ويشهد الله على ما في قلبه } يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف ، وأن يكون بقوله « شهد الله على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام » . { وهو ألد الخصام } الألد الشديد الخصومة ، واللديدان جانبا الوادي . كأن كلاً من المتخاصمين في جانب . ومنه اللدود وهو ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم . وإضافة الألد بمعنى « في » كقولهم « ثبت الغدر » و « قتيل الصف » أو جعل الخصام ألد على المبالغة نحو « جد جده » . والخصام جمع خصم كصعاب في صعب . والمعنى : هو أشد الخصوم خصومة . والحاصل إنه جدل بالباطل شديد الفسوق في معصية الله عالم اللسان جاهل العمل ، وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق سعى في الأرض ليفسد فيها كما فعل بأولئك المسلمين من إحراق الزروع وعقر المواشي . وأصل السعي المشي بسرعة ، وقد يستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس . وقيل : لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة ، فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم ، وعلى هذا فيقع قوله { ويهلك الحرث والنسل } تفصيلاً لما أجمله قوله { ليفسد } وقيل : إفساده هو إلقاء الشبه في عقائد المسلمين ، وعلى هذا فيكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى آخر . وهذا تفسير مناسب لأن كمال الإنسان بالعلم والعمل ونقصه بضدهما ، فيكون الإفساد إشارة إلى نقص قوّته النظرية والإهلاك عبارة عن فعل المنكرات و فيه نقصان قوّته العملية . وقيل : { وإذا توّلى } أي إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل . وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل . فالحرث الزرع ، والنسل الولد . ونسلت الناقة بولد كثير ، والتركيب يدل على الخروج . وقيل : إهلاك الحرث قتل النسوان { نساؤكم حرث لكم } [ البقرة : 223 ] وإهلاك النسل إفناء الصبيان { والله لا يحب الفساد } قالت المعتزلة : معناه لا يريد الفساد . وفيه دليل على أنه يريد القبائح وإذا لم يردها لم يخلقها لأن الخلق لا يمكن إلا بالإرادة . ومنع من أن المحبة نفس الإرادة ، بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكره بالتعظيم . ثم الدليل الدال على أن لا مرجح لأحد جانبي كل ممكن على الآخر إلا الله وإلا انسد باب إثبات الصانع يدل على أن الكل بإرادته ومشيئته ، وقد مر تحقيق ذلك فيما سلف .

واعلم أنه سبحانه حكى عن المنافق جملة من الأفعال الذميمة . أولها حسن كلامه في طلب الدنيا ، وثانيها استشهاده بالله كذباً وبهتاناً ، وثالثها لحاجة في إبطال الحق وإثبات الباطل ، ورابعها سعيه في الأرض للإفساد ، وخامسها سعيه في إهلاك الحرث والنسل . فوقع قوله { والله لا يحب الفساد } جمله معترضة . ثم ذكر خصلة سادسة أشنع من الكل دالة على جهله المركب وخروجه عن أن يرجى منه خير وذلك قوله { وإذا قيل له اتق الله } في ارتكاب شيء من هذه المنهيات . والقائل إما الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً خاصاً أو عاماً لجميع المكلفين فيدخل المنافق فيه ، وإما كل واعظ وناصح { أخذته العزة بالإثم } من قولهم « أخذت فلاناً بأن يفعل كذا » أي ألزمته ذلك وحملته عليه أي أخذته الغلبة والاستيلاء والأنفة وحمية الجاهلية أن يعمل الإثم ، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الوعظ وعدم الإصغاء إليه ، أو من قوله « أخذته الحمى » أي لزمته ، و « أخذه الكبر » أي اعتراه ذلك والمعنى لزمته العزة الحاصلة بسبب الإثم الذي في قلبه ، وذلك الإثم هو الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل { فحسبه جهنم } كافية هي جزاء له يستوي فيه الواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث لأنه مصدر . ورفعه على الخبرية أو على الابتداء إذا كان ما بعده معرفة ، أو على الابتداء فقط إن كان نكرة مثل « حسبك درهم » . وعلى هذا تكون الإضافة معنوية ألبتة ، وعلى تقدير كونه خبر الوقوع المعرفة بعده تكون الإضافة لفظية أي فحسب وكافٍ له . قال يونس وأكثر النحويين : جهنم اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وفيها العلمية والتأنيث . وقال آخرون : إنه اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها . حكي عن رؤبة أنه قال : ركية جهنام بكسر الجيم والهاء أي بعيدة القعر . وقيل : اشتقاقها من الجهومة وهي الغلظ . ومنه رجل جهم الوجه أي غليظه . سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب والعقاب . { ولبئس المهاد } أي ما يمهد لأجله فإن المعذب في النار يلقى على النار كما يوضع الشخص على الفراش . ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى التمهيد والتوطئة .
قوله تعالى : { ومن الناس من يشري } الآية . قال سعيد بن المسيب : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال : والله لا تصلون إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي . وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي ففعلوا . فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« ربح البيع أبا يحيى وتلا الآية » . وقيل : أخذ المشركون صهيباً فعذبوه فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم ، أمنكم كنت أم من غيركم . فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك . وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى . قال صهيب : وبيعك . أفلا تخبرني ما ذاك؟ فقال : نزلت فيك كذا قرأ الآية . عن الحسن : نزلت في أن المسلم أتى الكافر فقاتل حتى قتل . وقيل : نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . سمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه الآية فقال عمر : إنا لله قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل . وقيل : نزلت في علي رضي الله عنه بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار . ويروى أنه لما نام على فراشة قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ . من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية . ثم إن الآية تدل على أن ههنا مبايعة ، فأكثر المفسرين على أن العامل هو البائع . ومعنى يشري يبيع { وشروه بثمن بخس } [ يوسف : 20 ] والله هو المشتري { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] وعمل المكلف وهو بذل نفسه في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد هو الثمن والجنة هي المثمن . وقيل : يحتمل أن يراد بالشراء ههنا الاشتراء وذلك أن من أقدم على الكفر والمعاصي . فكأن نفسه خرجت عن ملكه وصارت حقاً للنار ، وإذا أقدم على الطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دراهم معدودة ويشتري بها نفسه ، والمؤمن يبذل أنفاساً معدودة ويشتري بها نفسه ، لكن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم . فكذا المكلف لا ينجو عن ربقة العبودية ما دام بقي له نفس واحد في الدنيا ، وهذا كقول عيسى عليه السلام { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً } [ مريم : 31 ] وقوله عز من قائل لنبيه { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] و { ابتغاء مرضات الله } أي طلب رضوانه نصب على العلة الغائية . وفيه دليل على أن كل مشقة يتحملها الإنسان يجب أن تكون على وفق الشرع ومطلوباً بها جانب الحق وإلا كان عمله ضلالاً وكده وبالاً . { والله رؤف بالعباد } فمن رأفته جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل ، وجوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ، ومن رأفته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط عقابه وأعطاه ثوابه ، ومن رأفته أن النفس له والمال له ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه وامتناناً ورحمة وإحساناً .

قوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } أصل السلم بالكسر ، والفتح الاستسلام والطاعة . ويطلق أيضاً على الصلح وترك الحرب والمنازعة . وهو أيضاً راجع إلى هذا و إنه يذكر ويؤنث . واختلف في المخاطبين فقيل : أمر للمسلمين بما يضاد حال المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من أيامكم ولا تخرجوا منه ولا من شيء من شرائعه . { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أهل الغواية ، والكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجاً منها لا يمتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالاً بعد حال . ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال ، فلا يبعد أن يأمرهم الله بالدخول في الإسلام فيما يستأنف من الزمان . أو أمرهم بأن يكونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه . ولا تتبعوا آثار الشيطان بالإقبال على الدنيا والجبن والخور في أمر الدين مثل { ولا تنازعوا فتفشلوا } [ الأنفال : 46 ] أو يكون المراد بالدخول في السلم ترك الذنوب والمعاصي ، فإن من مذهبنا أن الإيمان باقٍ مع الذنب والعصيان ، أو يكون المراد الرضا بالقضاء والتلقي لجميع المكاره بالبشر والطلاقة كما ورد في الخبر « الرضا بالقضاء باب الله الأعظم » أو يكون المراد ترك الانتقام وسلوك طريق العفو والإغماض { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] وقوله : { كافة } يصلح أن يكون حالاً من المأمورين أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ولا تتفرقوا ولا تختلفوا وأن يكون حالاً من السلم على أنها مؤنث كالحرب أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها وأصل الكف المنع فسمي الجميع كافة لأن الاجتماع بمنع التفرق والشذوذ . ورجل مكفوف أي كف بصره من أن ينظر . وكفة القميص لأنها تمنع الثوب من الانتشار . والكف طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن . وقيل : الخطاب للمنافقين والتقدير : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا آثار تزيين الشيطان وتسويله بالإقامة على النفاق . وقيل : نزلت في مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه حين أرادوا أن يقيموا على بعض شرائع موسى كتعظيم السبت وقراءة التوراة واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأمروا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة لثبوت نسخها بالكلية ، فإن التمسك بها بعد تبين نسخها من اتباع آثار الشيطان ، وقيل : السلم الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم كملوا طاعتكم بالإيمان بجميع أنبيائه وكتبه ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بالشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة { إنه لكم عدوّ مبين } عن أبي مسلم أن المبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره ، ولا يخفى أنه أعرب عن عداوته لآدم ونسله .

وقيل : مبين من الإبانة القطع وذلك أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه . قوله { فإن زللتم } المخاطبون ههنا هم المخاطبون في قوله { ادخلوا } فيجيء الخلاف ههنا بحسب الخلاف هناك . والمعنى العام : فإن دحضت أقدامكم وانحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به { من بعد ما جاءتكم البينات } الدلائل العقلية والسمعية على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فاعلموا أن الله عزيز } غالب لا يعجزه الانتقام منكم وهذه نهاية في الوعيد كما لو قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وبشدّة سطوتي . كان أبلغ في الزجر من التصريح بضرب من ضروب العذاب . وكما أن قوله { عزيز } يشتمل على الوعيد البليغ فقوله { حكيم } يشتمل على الوعد الحسن . فإن اللائق بالحكمة تمييز المحسن من المسيء وأن لا يسّوي بينهما في الثواب والعقاب . روي أن قارئاً قرأ غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا . الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه يكون إغراء عليه . قوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } الآية معنى النظر ههنا الانتظار . وأما إتيان الله فقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات وأنه تعالى أزلي فرد في ذاته وصفاته فذكروا في الآية وجهين :
الأول : وهو مذهب السلف الصالح السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل وتفويضه إلى مراد الله تعالى كما يروى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجه : وجه لا يعذر أحد بجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ، ووجه يعرف من قبل العربية فقط ، ووجه لا يعلمه إلا الله .
الثاني : وهو قول جمهور المتكلمين : أنه لا بد من التأويل على سبيل التفصيل . فقيل : جعل مجيء الآيات مجيئاً له تفخيماً لها كما يقال « جاء الملك » إذا جاء جيش عظيم من جهته . وقيل : المراد إتيان أمره وبأسه فحذف المضاف بدليل قوله في موضع آخر { أو يأتي أمر ربك } [ النحل : 33 ] { فجاءهم بأسنا } وأيضاً اللام في قوله { وقضى الأمر } تدل على معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه . لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه . لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال . وعند المعتزلة أصوات فتكون أعراضاً . فالإتيان عليها أيضاً محال لأنا نقول : الأمر قد يطلق على الفعل { وما أمر فرعون برشيد } [ هود : 94 ] وحينئذ فالمراد ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المهيبة . وإن حملنا الأمر على ضد النهي فلا يبعد أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا . ومعنى كونه في ظلل من الغمام أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في آن واحد ، أو يكون المراد حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة ، أو أنه تعالى يخلق نقوشاً منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها .

وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد ، وتكون فائدة الظلل أنه تعالى جعلها أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ليعلموا أن الأمر قد حضر . وقيل : المأتي به محذوف والمعنى إلا أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته الدالة عليه بقوله { عزيز } . وفائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه . وقيل : إن « في » بمعنى الباء أي يأتيهم الله بظلل من الغمام ، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة . وقيل : الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع كقوله تعالى { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } [ الزمر : 67 ] ولا قبض ولا طي ولا يمين وإنما الغرض تصوير عظمة شأنه . وقيل : بناء على أن الخطاب في ادخلوا وزللتم لليهود المراد أنهم لا يقبلون دين الحق إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، وذلك أن اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه ويجوّزون المجيء والذهاب على الله تعالى ويقولون : إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام ، فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود ولا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قوماً ينتظرون إتيان الله وليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون . والظلل جمع ظلة وهي ما أظلك والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعاً ومتراكماً . فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة ، كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم ، فكل قطعة ظلة والجمع ظلل . والاستفهام ههنا في معنى النفي أي ما ينتظرون إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام ، وفيه تفظيع شأن العذاب وتهويله لأن الغمام مظنة الرحمة ، وإذا نزل منه العذاب كان أشنع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يتوقع الخير؟ أو نزول الغمام علامة لظهور الأهوال في القيامة قال : { يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً } [ الفرقان : 25 ، 26 ] واستعير لتتالي العذاب تتابع القطر وإتيان الملائكة ليقوموا بما أمروا به من تعذيب وتخريب ولا حاجة إلى التأويل لأن إتيانهم ممكن . { وقضي الأمر } فرغ من أمر إهلاكهم وتدميرهم أو عما كانوا يوعدون به ، فلا تقال لهم عثرة ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة .

والتقدير : إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر ، فوضع الماضي موضع المستقبل . إما للتنبيه في قرب العذاب أو الساعة « كل ما هو آت قريب » ، وإما لأن إخبار الله تعالى كالواقع المقطوع به وقيل : الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزله من الجنة والنار . وعن معاذ بن جبل وقضاء الأمر مصدر مرفوع عطفاً على لفظي الله والملائكة . { وإلى الله ترجع الأمور } وذلك أنه ملك في الدنيا عباده كثيراً من أمور خلقه ، أما إذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم بين العباد سواه وهذا كقولهم « رجع أمرنا إلى الأمير » إذا كان هو يختص بالنظر فيه . فعلى المكلف أن يدخل في السلم كما أمر ويحترز عن اتباع آثار الشيطان كما نهى . ثم إن الأمور ترجع إليه جل جلاله ، وهو تعالى يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة . فهذا معنى القراءتين في { ترجع } وأيضاً قراءة ضم التاء وفتح الجيم على مذهب العرب في قولهم « فلان معجب بنفسه » ويقول الرجل لغيره : إلى أين ذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به . أو المراد أن العباد يردّون أمورهم إلى خالقهم ويعترفون برجوعها إليه . أما المؤمنون فبالمقال ، وأما الكافرون فبشهادة الحال { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدوّ والآصال } [ الرعد : 15 ] .
التأويل : النفس الأمارة تظهر الأشياء المموهة والأقوال المزخرفة وترى أنها أولى الأولياء ، ولكنها أعدى الأعداء وتسعى في تخريب أرض القلب وإبطال حرث الصدق في طلب السعادة إهلاك نسل ما يتولد من الأخلاق الحميدة وتشمخ بأنفها عن قبول الحق فحسبه جهنم الميعاد { ومن الناس من يشري } هذا شأن الأولياء باعوا أنفسهم خالصاً لوجه الله لا لأجل الجنة { ادخلوا في السلم كافة } أي بجميع الأجزاء والأعضاء الظاهرة والباطنة . ودخول القلب في الإسلام يكون بدخول الإيمان في القلب ، ودخول الروح في الإسلام يكون بتخلقه بأخلاق الله وتسليم الأحكام والأقضية لله ، ودخول السر في الإسلام بفنائه في الله وبقائه بالله ، وهذا مقام يضيق عن إعلانه نطاق النطق ولا يسع إظهاره ظروف الحروف .
وإن قميصاً خيط من نسج تسعة ... وعشرين حرفاً من معانيه قاصر
الله ولي التوفيق وهو حسبي .
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

القراآت : { ليحكم } بضم الياء وفتح الكاف : يزيد . وكذلك في آل عمران والنور في موضعين . الباقون بفتح الياء وضم الكاف { يقول } برفع اللام : نافع . الباقون : بالنصب .
الوقوف : { بينة } ط لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع تقدير حذف أي فبدّلوا ومن يبدل الخ { العقاب } 5 { من الذين آمنوا } م لأن و « الذين » مبتدأ و « فوقهم » خبره . ولو وصل صار « فوقهم » ظرفاً ليسخرون أو حالاً لفاعل « يسخرون » وقبحه ظاهر . { يوم القيامة } ط { حساب } 5 { ومنذرين } ص لعطف المتفقتين { فيما اختلفوا فيه } ط { بينهم } ج لعطف المختلفتين { بإذنه } ط { مستقيم } 5 { من قبلكم } ط للفصل بين الاستفهام والإخبار لأن قوله « ولما يأتكم » عطف على « أم حسبتم » تقديره أحسبتم ولم يأتكم . { متى نصر الله } ط { قريب } 5 .
التفسير : أنه سبحانه لما أمر بالسلم ونهى عن مقابلها ثم قال : { فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات } [ البقرة : 209 ] أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد . ثم بين ذلك التهديد بقوله { فأعلموا أن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 209 ] ثم ثنى ذلك التهديد بقوله { هل ينظرون } [ البقرة : 210 ] الآية ثم ثلث التهديد بقوله { سل بني إسرائيل } والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد . وهذا السؤال سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة ، وإلا فكثرة الآيات التي أوتوها معلومة بإعلام الله تعالى . والمراد سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون كي يعتبروا ويتعظوا . و « كم » تحتمل الاستفهامية والخبرية ، و { من آية } مميزها ، وقد فصل بين المميز وبينها بالفعل . فإن كانت استفهامية فالتقدير : سلهم عن عدد إيتائنا الآيات إياهم حتى يخبروك عن كميتها . وإن كانت خبرية فالمعنى : سلهم عن أنا كثيراً من الآيات آتيناهم . والآيات الواضحات إما معجزات موسى عليه السلام كفرق البحر وتظليل الغمام وتكليم الله إياه والعصا واليد ونحوها وهي تسع { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [ الإسراء : 101 ] وإما الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام فمنهم من آمن وأقر ومنهم من جحد وبدل { ومن يبدل نعمة الله } قيل : إنها الآيات والدلائل الدالة على صحة دين الإسلام وهي أجل أقسام النعم ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة . ثم إن قلنا : الآيات معجزات موسى فتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هدايتهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وإن قلنا : الآية البينة هي ما في التوراة والإنجيل من الدلائل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فتبديلها تحريفها وإدخال الشبه فيها .

وقيل : المراد بنعمة الله ما آتاهم من أسباب الصحة والأمن والكفاية ، فتبديلها أنهم لم يجعلوها واسطة الطاعة والقيام بما عليهم من التكاليف ، بل استعملوها في غير ما أوتيت هي لأجله . وعلى هذا فقوله { من بعد ما جاءته } معناه ظاهر ، وأما على القول الأول وهو أن المراد من النعمة لآيات فمعنى مجيئها التمكن من معرفتها أو عرفانها كقوله { ثم يحرفونه من بعدما عقلوه } [ البقرة : 75 ] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة . { فإن الله شديد العقاب } قال الواحدي : الرابطة محذوفة أي له . والتحقيق أن ترك هذا الإضمار أولى فإنه إذا علم كونه تعالى موصوفاً بهذا الوصف لزم من ذلك أنه يعاقب المبدل إن شاء ، ولكن لا يلزم من كونه شديد العقاب للمبدّل كونه متصفاً بذلك وصفاً ذاتياً . ثم قال الواحدي . والعقاب عذاب يعقب الجرم . ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كان التبديل سيرتهم فقال : { زين للذين كفروا } الآية . والغرض تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من نعيم الآخرة ، والتذكير في زين إما لأن الحياة والإحياء واحد ، أو للفصل مع أن التأنيث ليس بحقيقي . عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من كبار قريش . وقيل : رؤساء اليهود وعلمائهم . وعن مقاتل : نزلت في المنافقين . ولا مانع من نزولها في جميعهم لأن كلهم وهم في التنعم والراحة كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين والمهاجرين . ثم المزين من هو؟ فعن المعتزلة أنهم غواة الجن والإنس قبحوا أمر الآخرة في أعين الكفار وأوهموا أن لا صحة لها فلا تنغصوا عيشكم في الدنيا كقول من قال :
أتترك لذة الصهباء نقداً ... بما وعدوك من لبن وخمر؟
قالوا : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فباطل . لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، وإذا كان المزين هو الله تعالى فلا بد أن يكون صادقاً في ذلك الإخبار ، فيكون فاعله المستحسن له مصيباً . وإن كان كافراً وإصابة الكافر كفر فهذا القول كفر ، وزيف بأن مزين الكفر لجميع الكفار لا بد أن يكون خارجاً منهم . وقولهم : « المزين للشيء هو المخبر عن حسنه » مردود ، وإنما المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالأوصاف الحسنة . سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن الله تعالى يكون مخبراً عن حسنه من حيث إنه أخبر عما فيها من اللذات والراحات؟ وهذا إخبار عما ليس بكذب والتصديق به ليس بكفر . وقال أبو مسلم : الكفار زينوا لأنفسهم والعرب تقول : « أين يذهب بك » لا يريدون أن ذاهباً ذهب به ومنه قوله تعالى { أنى يؤفكون } [ المائدة : 75 ] { أنى يصرفون } [ غافر : 69 ] . ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان بالحقيقة هو الذي زين لنفسه .

والتحقيق أن المزين هو الله تعالى كما صرح بذلك في قوله { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [ الكهف : 7 ] وكيف لا وانتهاء جميع الحوادث إليه أظهر في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب والحلاوة ، وركب في الطبائع حب الشهوات والميل إلى الطيبات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل مع إمكان رد النفس عنها ليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام ويتم غرض الابتلاء . أو نقول : المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها . وقيل : إن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وهو ضعيف ، لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص بالكفار . وإن قيل : المراد من تزيين المباح للكافر أنه دائم السرور به . وإن قلت : ذات يده لكونه معقود الهمة به لا عيش عنده إلا عيش الدنيا ، بخلاف المؤمن فإن تمتعه من طيبات الدنيا وبهجتها وإن كثر ماله وجاهه مكدر بالخوف والوجل من الحساب في الآخرة . قلنا : تزيين المباح في نظر الكافر بحيث يفضي به إلى الاشتغال عن الآخرة مستقبح . أيضاً فالكلام فيه كالكلام في تزيين المحظور فيبقى الإشكال بحاله ولا مخلص إلا بإسناد الكل إليه تعالى بعد تذكر ما سلف لنا مراراً في حقيقة الجبر والقدر . ولما أخبر الله تعالى عنهم بأنه زين لهم الحياة العاجلة أخبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه فقال : { ويسخرون من الذين آمنوا } كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم يقولون : هؤلاء المساكين تركوا طيبات الدنيا وتحملوا المتاعب لطلب الآخرة . ولا يخفى أنه لو بطل حديث المعاد لكان لهذه السخرية وجه ، لكنه لو ثبت القول بالمعاد وصح كانت السخرية منقلبة عليهم لأنهم أعرضوا عن الملك الأبدي والنعيم المقيم بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة فلهذا قال سبحانه { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } أما بالمكان فلأنهم في عليين وهم في سجين ، وأما بالرتبة والشرف فلأنهم في معارج الأنس وهم في هاوية الهوان . ويحتمل أن يراد أنهم فوقهم بالحجة لأن حجج الكفار وشبههم كان تؤثر بوسوسة الشيطان ، وبمجرد استبعاد أمر المعاد وحجج المتقين يوم القيامة تستند إلى العيان وبمدد الرحمن { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم } [ الأعراف : 44 ] أو يراد أن سخرية المؤمنين بالكافرين يوم القيامة لكونها حقة وباقية فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لكونها باطلة ومنقضية . وفي قوله { والذين اتقوا } دون أن يقول آمنوا كما قال : { من الذين آمنوا } بعث على التقوى وأن كرامة المؤمن منوطة بها . { والله يرزق من يشاء بغير حساب } بغير تقدير .

وذلك أن الكفار كانوا يستدلون بحصول الزخارف الدنيوية لهم على أنهم على الحق وبحرمان فقراء المؤمنين عنها على أنهم على الباطل ، فرد الله تعالى عليهم قولهم بأن ذلك متعلق بمحض المشيئة ، وقد يستتبع غاية هي الاستدراج في حق الكافر والابتلاء في حق المؤمن ، أو يرزق من يشاء من مؤمن وكافر بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة ولا سؤال سائل ، فالأمر أمره والحكم حكمه ولا يسأل عما يفعل . أو من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل « إذا جاءه ما لم يكن قد قدره ما كان هذا في حسابي » والمعنى أن الكفار وإن كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين فلعل الله تعالى يرزق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا ، ولقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، ويسر لهم الفتوح حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر ، أو المراد أن ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب ، وما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب . ويحتمل أن يخص الرزق في الآية بالمؤمنين في الآخرة ، وعلى هذا يكون معنى { بغير حساب } أي رزقاً واسعاً وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله { يرزقون فيها بغير حساب } [ غافر : 40 ] أو يقال : إن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال { فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } [ النساء : 173 ] فالفضل بلا حساب إذ الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً ينقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك ، فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً . فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب . أو أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في خزائن ملكه وقدرته ، فلا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . أو معنى بغير حساب بغير استحقاق ، وإنما يعطى بمجرد الفضل والإحسان . أو معناه أنه يزيد على قدر الكفاية إلى عشرة بل سبعمائة من قولهم « فلان ينفق بالحساب » إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية . أو أنه لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه .
قوله سبحانه { كان الناس أمة واحدة } الآية . فيه إشارة إلى أن التباغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا وطيباتها لا يختص بهذا الزمان ، وإنما ذلك داء قديم في الإنسان . ثم الأمة الواحدة كانوا على الحق أو على الباطل فيه للمفسرين أقوال :
الأول : أنهم كانوا على الحق واختاره المحققون لوجوه منها : قوله تعالى { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وهذا يدل على أن النبيين عليهم السلام بعثوا حين الاختلاف وصيرورة بعضهم مبطلاً ، ولو كانوا قبل ذلك مجتمعين على الكفر لكان بعث الأنبياء إليهم حينئذ أولى .

ومنها النقل المتواتر إن آدم وأولاده كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى إلى أن قتل قابيل هابيل حسداً وبغياً . وعن ابن عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق . ومنها أن وقت الطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ، فلعل الناس إشارة إليهم . ومنها أن الدين الحق يتوقف على النظر ، والنظريات مستندة بالآخرة إلى مقدمات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيب . كذلك فالعقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج ، فالصواب له بالذات و الخطأ بالعرض وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضاً . فالأولى أن يقال : كان الناس على الحق ثم اختلفوا لأسباب خارجة كالبغي والحسد ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه » .
القول الثاني : وهو مروي عن ابن عباس والحسن وعطاء أنهم كانوا على الباطل لأن بعثة الأنبياء مترتبة على ذلك ، ولو كانوا على الحق لم يحتج إلى بعثتهم . ولو قيل : إن تقدير الآية فاختلفوا فبعث الله كما قرأ به ابن مسعود ، فالأصل عدم الإضمار ، والقراءة الشاذة لا يعتد بها . ومتى كان الناس متفقين على الكفر؟ قالوا : من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام . كانوا كفاراً بحكم الأغلب وإن كان فيهم بعض المسلمين كهابيل وشيث وإدريس عليهم السلام كما يقال : دار الكفر وإن كان فيها مسلمون .
القول الثالث : عن أبي مسلم والقاضي أبي بكر أنهم كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته والاشتغال بخدمته وشكر نعمته والاجتناب عن القبائح العقلية كالظلم والكذب والعبث . واحتجا بأن لفظ النبيين جمع معرف فيفيد العموم ، والفاء توجب التعقيب فيعلم من ذلك أن تلك الواحدة متقدمة على جميع الشرائع ، فلا تكون الاستفادة من العقل ، ثم سأل القاضي نفسه فقال : أوليس أول الناس آدم وأنه كان نبياً مبعوثاً؟ وأجاب بأنه يحتمل أن يكون مع أولاده متمسكين بالشرائع العقلية أولاً ، ثم إن الله تعالى بعثه إلى أولاده . ويحتمل أن شريعته قد صارت مندرسة ثم رجع الناس إلى الشرائع العقلية .
القول الرابع : التوقف فلا دلالة في الآية على أنهم كانوا محقين أو مبطلين .
القول الخامس : أن المراد من الناس أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد فبعث الله النبيين ومعهم الكتب كما بعث داود ومعه الزبور وعيسى ومعه الإنجيل ومحمداً صلى الله عليه وسلم ومعه الفرقان لتكون تلك الكتب حاكمة في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها . وهذا القول يوافق قول من قال : إن الخطاب في { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم } لأهل الكتب . فيراد بالناس إذن ناس معهودون .

ثم إنه تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث : الأولى : كونهم مبشرين ، والثانية : كونهم منذرين وقدمت البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة ، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض . أو الأول لكونه مقصود الغذاء ، والثاني كتناول الدواء . والأول لكونه مقصوداً بالذات مقدم على الثاني لأنه مقصود بالعرض . الصفة الثالثة : قوله { وأنزل معهم الكتاب بالحق } وفي قوله « معهم » والضمير يعود إلى عامة النبيين دليل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق والباطل ، طال ذلك الكتاب أم قصر ، ودوّن ذلك الكتاب أو لم يدوّن ، معجزاً كان أو غير معجز . قيل : إنزال الكتاب قبل وصول الأمر و النهي إلى المكلفين ، ووصول الأمر والنهي إليهم قبل التبشير والإنذار ، فلم قدم التبشير والإنذار على إنزال الكتاب؟ وأجيب بأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما ، وبأن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق . وفي الفرق بين العجز والسحر إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب والخوف إنما يقوى عند التبشير والإنذار فلهذا قدم ذكرهما على إنزال الكتاب . قلت : فيه فائدة أخرى لفظية هي أن لا يقع فاصلة كثيرة بين الثالثة وبين الأولين ، أو بين الثالثة وبين ما رتب عليها من قوله { ليحكم } أي الكتاب لأنه أقرب . ولا محذور في نسبة الحكم إليه تجوزاً كما لا محذور في كونه هدى وشفاء . واللام للجنس ، أو أريد مع كل واحد كتابه . وقيل : ليحكم الله لأنه الحاكم في الحقيقة لا الكتاب وقيل : ليحكم النبي المنزل عليه بين الناس { فيما اختلفوا فيه } أي في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق ، أو في كل ما اختلفوا فيه ولم يعرفوا وجه الصواب في ذلك بحسب حكم الله { وما اختلف فيه } في الحق { إلا الذين أوتوه } أي أعطوا الحق وأدّوه لمباشرة أسبابه القريبة التي هي مجيء البينات . وقيل : الضمير للكتاب أي إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف . كأنهم عارضوا الكتاب بنقيض ما أنزل لأجله ، أنزل لئلا يختلفوا فزادوا في الاختلاف . وفيه دليل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء ، وإنزال الكتب كما مر في القول الأول . وقال كثير من المفسرين : المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى . واختلافهم إما تكفير بعضهم بعضاً ، وإما تحريفهم أو تبديلهم { من بعد ما جاءتهم البينات } يحتمل أن يكون كالبيان لإيتاء الكتاب أي وما اختلف فيه من اختلف إلا من بعد مجيء البينات التي هي الكتب كقوله تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] ويحتمل أن تكون هذه البينات مغايرة لإيتاء الكتاب ويعني بها الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى إثبات الأصول التي لا يمكن إثباتها بالدلائل السمعية ، وإذا حصلت الدلائل العقلية والسمعية لم يكن في العدول عذر ولا علة ، ولو حصل الإعراض كان سببه بغياً بينهم وحسداً وظلماً لحرصهم على الدنيا ولقلة الإنصاف وكثرة الاعتساف ، و { من الحق } بيان لما اختلفوا فيه أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف .

واللام بمعنى « إلى » أي هداهم إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى { ثم يعودون لما قالوا } [ المجادلة : 3 ] أي إلى ما قالوه { بإذنه } قال الزجاج : بعلمه . وقيل : بأمره فبالأمر يحصل التمييز بين الحق والباطل فتحصل الهداية . وقيل : في الآية إضمار أي فهداهم فاهتدوا بإذنه إذ لا جائز أن يأذن لنفسه { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } هو الحق الموصل إلى كمال الدارين ، أو هو طلب الجنة . ولما كان ذلك الحق أو الطلب لا يتأتى إلا باحتمال شدائد التكليف وأعباء الإرشاد والتعليم قال سبحانه : { أم حسبتم } على طريقة الالتفات التي هي أبلغ تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع المخالفين من أهل الكتاب والمشركين ، فإن من كان نظره أعلى في مراتب قرب المولى فبلاؤه أقوى وهو بالابتلاء أولى . قال في الكشاف : « أم » منقطعة ومعنى الهمزة فيها التقرير وإنكار الحسبان واستبعاده . وقال القفال رضي الله عنه : تقدير الآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه حين صبروا على استهزاء قومهم أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون { أن تدخلوا الجنة } من غير سلوك سبيلهم { ولما يأتكم } فيه معنى التوقع . وفيه دليل على أن الإيتاء متوقع منتظر . عن ابن عباس : لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين ، وأظهرت اليهود العداوة له فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم { أم حسبتم } وقال قتادة والسدي : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والخوف وكان كما قال سبحانه { وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] وقيل : نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله ابن أبي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى متى تقتلون أنفسكم وتنصرون الباطل؟ لو كان محمد نبياً ما سلط الله عليكم الأسر والقتل . والمعنى أم حسبتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بمجرد الإيمان بي والتصديق لرسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر والفاقة ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ومقاساة الأهوال في جهاد العدو كما نال ذلك من قبلكم من المؤمنين؟ و { مثل الذين خلوا } حالهم التي هي مثل في الشدة و { مستهم } بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل؟ فقيل : مستهم { البأساء } وهي عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه { والضراء } وهي إشارة إلى انفتاح أبواب الشر والآفة إليه { وزلزلوا } حركوا وأزعجوا بأنواع البلايا والرزايا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة وهي من زل الشيء عن مكانه ، والتضعيف في اللفظ للتضعيف في المعنى .

وقيل : معناه خوّفوا وليس ببعيد ، لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب لقلقه ولهذا لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد . ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك شيئاً هو الغاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة فقال : { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك غاية في الشدة لا مطمح وراءها . من قرأ « يقول » بالنصب فعلى إضمار أن ، ومعنى الاستقبال بالنظر إلى ما قبل « حتى » وإن لم يكن مستقبلاً عند الإخبار . ومن رفع فعلى الحال الماضية المحكية كقولهم « شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه » { ألا إن نصر الله قريب } أي فقيل لهم ذلك إجابة إلى طلبتهم ، فكونوا أنتم معاشر المؤمنين كذلك في تحمل الأذى والمتاعب في طلب الحق ، فإن نصر الله قريب لأنه آتٍ وكل ما هو آتٍ قريب ، والحاصل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينالهم من المشركين والمنافقين أذى كثير ، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى فعزاهم تعالى في ذلك ، وبيَّن أن حال من قبلهم في طلب الدين كان ذلك ، والمصيبة إذا عمت طابت . وذكر الله تعالى من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار ، ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه به ، ومن أمر سائر الأنبياء في مصابرتهم على أنواع المكاره ما صار ذلك سلوة للمؤمنين . « روى خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا . فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون » . وههنا سؤال ، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد : مت نصر الله؟ والجواب أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء ، فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له ذلك الوقت قال : - عند ضيق قلبه - متى نصر الله؟ حتى إنه إذا علم قرب الوقت زال همه وطاب وقته ، ولهذا أجيب بأن نصر الله قريب لا بأن نصر الله كائن .

وهذا الجواب يحتمل أن يكون من الله ، ويحتمل أن يكون قولاً لقوم منهم إذا رجعوا إلى أنفسهم وعلموا أن الله لا يخلف الميعاد . وقيل : إنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولاً ثم ذكروا كلامين : أحدهما متى نصر الله ، والثاني ألا إن نصر الله قريب . فهذا الثاني قول الرسول ، والأول قول المؤمنين كقوله { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } [ القصص : 73 ] والمعنى لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله بالنهار . ثم في الآية دليل على أن كل من لحقه شدة يجب أن يعلم أنه سيظفر بزوالها لأنه إما أن يتخلص عنها وإما أن يموت ، وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه وذلك من أعظم النصرة . اللهم انصرنا من عندك فإنك نعم المولى ونعم النصير .
التأويل : إنه تعالى إذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه يريد آياته وكراماته ، فإن اغتر بأحواله تعجب بكماله فيضل على حظوظ النفس ويبدل نعمة الله بموافقتها ورضاها فإن الله شديد العقاب بأن يغير أحواله ويسلب عنه كماله . { كان الناس أمة واحدة } على الحق وعلى الفطرة يوم الميثاق { وأنزل معهم الكتاب } الذي جف به القلم للسعادة أو الشقاوة كقوله صلى الله عليه وسلم « ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار » { وما اختلف } كل فريق إلا وقد أوتوا السعادة أو الشقاوة في حكم الله وقضائه ، ولكن ما حصلت السعادة والشقاوة للفريقين إلا من بعد البينات وهي معاملاتهم فبها يتبين السعيد من الشقي وبالعكس ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع المآب .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

الوقوف : { ينفقون } ط { السبيل } ط للابتداء بالشرط { عليم } 5 { كره لكم } ج { خير لكم } ج لتفصيل الأحوال { شر لكم } ط { لا تعلمون } 5 { قتال فيه } ط { كبير } ط على أن قوله « وصدّ » مبتدأ وما بعده معطوف عليه ، وقوله « أكبر عند الله » خبره ، وقد يقال : « وصد » عطف على « كبير » أي القتال فيه كبير ، وسبب صد عن سبيل الله وكفر بالله تعالى وبنعمة المسجد الحرام ، أو صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام فيوقف ههنا ، ويجعل « وإخراج أهله » مبتدأ . وقيل : « وصد » عطف الوقف على « سبيل الله » . و « كفر به » مبتدأ . والوجه هو الأول لانتظام المعنى أي القتال منا وإن كان كبيراً ولكن الصد والكفر والإخراج التي كانت منكم { أكبر من القتل } ط { استطاعوا } ط { والآخرة } ج لأن الجملتين وإن اتفقنا فتكرار « أولئك » ينبه على الابتداء مبالغة في تعظيم الأمر { النار } ج { خالدون } 5 { في سبيل الله } لا لأن ما بعده خبر « إن » { رحمة الله } ط { رحيم } 5 . المستقبل على المستقبل . { يتذكرون } 5 .
التفسير : إنه سبحانه لما بالغ في وجوب الإعراض عن العاجل والإقبال على الآجل بكل ما يمكن من الدخول في السلم وبذل المهج والأموال والصبر على مواجب التكاليف والدعاء إلى الدين القويم انتظاراً لنصرة الله ، شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية إلى قوله { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] جرياً على سننه المرضى من خلط بيان التوحيد وذكر النصيحة والوعظ ببيان الأحكام ، ليكون كل منهما مؤكداً للآخر . الحكم الأول : بيان مصرف الإنفاق { يسئلونك ماذا ينفقون } عن ابن عباس : نزلت الآية « في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي ديناراً فقال : أنفقه على نفسك . فقال : إن لي دينارين . فقال : أنفقهما على أهلك . فقال : إن لي ثلاثة فقال : أنفقها على خادمك . فقال : إن لي أربعة قال : أنفقها على والديك . قال : إن لي خمسة قال : أنفقها على قرابتك . قال : إن لي ستة . قال : أنفقها في سبيل الله وهو أخسها أي أقلها ثواباً » . وعنه في رواية أبي صالح أنها نزلت في عمرو بن الجموح وهو الذي قتل يوم أحد وكان شيخاً كبيراً هرماً وعنده ملك عظيم فقال : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ أما بحث « ماذا » فقد تقدم في قوله { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ المدثر : 31 ] وأما أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف طابق قوله في الجواب { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } الآية .

فالوجه فيه أنه حصل في الآية ما يكون جواباً عن السؤال ، وضم إليه زيادة بها يكمل المقصود . وذلك أن قوله { ما أنفقتم من خير } تضمن بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا إذا صرفت إلى جهة الاستحقاق . وقال القفال : السؤال وإن كان وارداً بلفظ « ما » إلا أن المقصود هو الكيفية . فمن المعلوم لهم أن الذي أمروا بإنفاقه مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال كما طابق قوله { إنها بقرة لا ذلول } [ البقرة : 71 ] سؤالهم عن البقرة ما هي ، حيث كان من المعلوم أن البقرة بهيمة شأنها كذا وكذا ، فتوجه الطلب إلى تعيين الصفة لا الماهية . وقيل : إنهم لما سألوا هذا السؤال أجيبوا بأن السؤال فاسد ، أنفق أي شيء كان ولكن بشرط كونه مالاً حلالاً ومصروفاً إلى مصبه ، كما لو سأل شخص صحيح المزاج طبيباً حاذقاً أي طعام آكل؟ والطبيب يعلم أنه لا يضره أكل الطعام أي طعام كان ، فيقول له : كل في اليوم مرتين أي كل ما شئت . لكن بهذا الشرط ، فكذا ههنا المعنى لينفق أي شيء أراد ، لكن بشرط وهو أن يراعي الترتيب في الإنفاق فيقدم الوالدين لأنهما كالسبب لوجوده وقد ربياه صغيراً ، ثم الأقربين لأن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، الترجيح لا بدّ له من مرحج والقرابة تصلح للترجيح لأنه أعرف بحاله . والإطلاع على غنى الغني مما يحمل المرء على الإنفاق . وأيضاً لو لم يعطه قريبه احتاج إلى الرجوع إلى غيره وذلك عار وشنار . وأيضاً قريب المرء كجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الاكتساب لصغرهم ، ثم المساكين الذين هم غير اليتامى ، وأبناء السبيل لأنهم بسبب الاشتراك في دار الإقامة من أنفسهم ، ثم أبناء السبيل المنقطعون عن بلدهم ومالهم ما يتبلغون به إلى أوطانهم ، { وما تفعلوا من خير } من إنفاق شيء من مال بناء على أن الخير هو المال أو من كل ما يتعلق بالبر والطاعة طلباً لجزيل الثواب وهرباً من أليم العقاب . { فإن الله به عليم } فيجازيكم أحسن الجزاء . عن السدي : أن الآية منسوخة بفرض الزكاة . وقال المحققون : ويروى عن الحسن أنها ثابتة ، فقد يكون الإنفاق على الفروع والأصول واجباً ، ويحتمل أن يكون المراد : من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة تطوعاً فليراع هذا الترتيب .
قوله تعالى : { كتب عليكم القتال } كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون له في القتال مدة إقامته بمكة ، فلما هاجر أذن في قتال من يقاتله من المشركين ، ثم أذن في قتال المشركين عامة ، ثم فرض الله تعالى الجهاد .

قال بعض العلماء : إن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على الكل فرض عين لا كفاية . أما الوجوب فمستفاد من لفظ الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله { كتب } وأما العموم فلأن قوله { عليكم } لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد كما في قوله { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] و { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب . وعن ابن عمر وعطاء أن قوله { كتب } يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله { عليكم } يقتضي تخصيص هذا الكتاب بالموجودين في ذلك الوقت . والعموم في { عليكم الصيام } مستفاد من دليل منفصل هو الإجماع . وذلك الدليل معقود ههنا بل الإجماع منعقد على أنه من فروض الكفاية إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل . { وهو كره لكم } ليس المراد أن المؤمنين ساخطون لأوامر الله تعالى فإن ذلك ينافي الإسلام ، وإنما المراد كون القتال شاقاً على النفس وهكذا شأن سائر التكاليف ، وكيف لا والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة وأنها في القتال أكثر لأن الحياة أعظم ما يميل إليه الطباع فبذلها ليس بهين؟
والجود بالنفس أقصى غاية الجود ... وأيضاً كراهتهم للقتال قبل أن فرض لما فيه من الخوف من كثرة الأعداء وإنارة نوائر الفتن ، فبيّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه للمصالح التي نذكرها . والكره الكراهة وضع المصدر موضع الوصف مبالغة ، ويجوز أن يكون بمعنى « مفعول » كالخبز بمعنى المخبوز أي هو مكروه لكم . وقرئ بالفتح بمعنى المضموم كالضعف والضعف ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له أو مشقته عليهم كقوله تعالى { حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً } وقال بعضهم : الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه ، وإذا كان بالإكراه فبالفتح . { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } فربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في الاستقبال وبالضد ، ولهذا حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في الاستقبال ، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتحصيل الربح في المال ، وكذا تحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والعقبى .
العلم أوله مر مذاقته ... لكنّ آخره أحلى من العسل
وههنا كذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق ، ولكن فيه أنواع من المفاسد والمضار أدناها تسلط الكفار واستيلاؤهم على ديار المسلمين ، وربما يؤدي إلى أن استباحوا بيضة الإسلام واستناخوا بحريمهم واستأصلوهم عن آخرهم . وأما منافع الجهاد فمنها الظفر بالغنائم ، ومنها الفرح العظيم بالاستيلاء على العدو . وأما ما يتعلق بالدين فالثبات عليه والثواب في الآخرة . وترغيب الناس في الإسلام وإعلاء كلمة الله ، وتوطين النفس للفراق عن دار البلاء والانقطاع عن عالم الحس قال الخليل : « عسى » من الله واجب في القرآن .

قال : { فعسى الله أن يأتي بالفتح } [ المائدة : 52 ] وقد وجد { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } [ يوسف : 83 ] وقد حصل . والتحقيق أن معنى الرجاء فيه يعود إلى المكلف وإن كان المرجو حاله معلوماً لله تعالى كما بينا في « لعل » { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } وذلك أن علمه تعالى فعلي يعلم الأسباب وما يترتب عليها ، والحوادث وما نشأت هي منها ، يحيط علمه بالمبادئ والغايات { لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات } [ سبأ : 3 ] وعلمكم انفعالي فلعلكم تعكسون التصورات فتظنون المبادئ غايات وبالعكس ، والمصالح مفاسد وبالضد . وفيه ترغيب عظيم في أداء وظائف التكاليف . وتخويف شديد عن تبعة العصيان والمرود ، فإن الإنسان إذا تصور قصور نفسه وكمال علم الله تعالى علم أنه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيره وصلاحه ، فيلزم نفسه امتثاله وإن كرهه طبعه فكأنه تعالى يقول : يا أيها العبد ، علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك وهواك . فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] .
الحكم الثاني في قوله سبحانه { يسئلونك عن الشهر الحرام } أكثر المفسرين على أن هؤلاء السائلين هم المسلمون حيث اختلج في صدورهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بغير الشهر الحرام والمسجد الحرام ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يحل لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أم لا؟ ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش - وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم - في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمة المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري ، وعكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السلمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد بن بكير . وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وقال : سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين . فإذا نزلت منزلتين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ، ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على السير معك . فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه « بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد ، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل على بطن نخلة فترصد بها عير قريش ، لعلك أن تأتينا منه بخبر » فلما نظر عبد الله في الكتاب قال : سمع وطاعة . ثم قال لأصحابه ذلك وقال : إنه قد نهاني أن أستكره أحداً منكم .

حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع قد أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فاستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما فأذن لهما فتخلفا في طلبه . ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة - بين مكة والطائف - فبينما هم كذلك مرت بهم عيرٍ لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة الطائف ، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان . فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منك فليتعرض لهم ، فإذا رأوه محلوقاً أمنوا وقالوا : قوم عمار . فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم . وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة ، وكانوا يرون أنه من جمادى وهي رجب . فتشاور القوم فيهم وقالوا : لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم . فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم ، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين . واستأسر الحكم وعثمان فكان أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم . واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس لمعايشهم . سفك فيه الدماء وأخذ فيه الحرائب وعيّر بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن جحش وأصحابه : « ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام » ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً . فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فنزلت { يسئلونك عن الشهر الحرام } فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس ، وقسم الباقي بين أصحاب السرية فكان أول غنيمة في الإسلام . وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال : بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة ، وإن لم يقدما فتلناهما بهما . فلما قدما فأداهما . فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً وقتله الله ، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية » . وقيل : إن هذا السؤال كان من الكفار ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حرام استحلوا قتاله فيه فنزلت { يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه } خفض على أنه بدل الاشتمال من الشهر . وفي قراءة ابن مسعود { عن قتال فيه } بتكرير العامل . وقرأ عكرمة { قتل فيه قل قتال فيه كبير } أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة . وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ لكونه موصوفاً بالظرف . فإن قيل : كيف نكّر القتال في قوله تعالى { قل قتال } ومن حق النكرة إذا تكررت أن يكون المذكور ثانياً معرفاً مشاراً به إلى الأول وإلا كان الثاني مغايراً للأول؟ قلنا : لأن المراد بالقتال الأول الذي سألوا عنه القتال الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش . فلو جيء بالثاني معرفاً لزم أن يكون ذلك من الكبائر ، مع أن الغرض منه كان نصرة الإسلام وإعلاء كلمته ، فاختير التنكير ليكون تنبيهاً على أن القتال المنهي عنه هو الذي فيه تقوية الكفر وهدم قواعد الدين لا الذي سألوا عنه . ثم الجمهور اتفقوا على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، وهل بقي ذلك الحكم أو نسخ؟ عن ابن جريج أنه قال : حلف لي بالله عطاء أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا على سبيل الدفع . وروى جابر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى . وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال : نعم . قال أبو عبيد الله : والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول ، يرون الغزو مباحاً في الأشهر الحرم كلها ، ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم . وكذلك أحسب قول أهل الحجاز والحجة في إباحته . قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ويمكن أن يقال أن قوله { قتال فيه كبير } نكرة في حين الإثبات فيتناول فرداً واحداً لا كل الأفراد ، فلا يلزم منه تحريم القتال في الشهر الحرام مطلقاً ، فلا حاجة فيه إلى تقدير النسخ والله أعلم .
{ وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } من القتال في الأشهر الحرم فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنه ظن أنه في جمادى الآخرة؟ واعلم أن قوله { وصد } قد مر وجوه إعرابه في الوقوف . أما قوله : { والمسجد الحرام } فقيل : إنه معطوف على الهاء في « به » عند من يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، كقراءة حمزة { تساءلون به والأرحام } [ النساء : 1 ] بالخفض .

والكفر بالمسجد الحرام منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به وقيل : إنه معطوف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام . واعترض بأنه يلزم الفصل بين صلة المصدر الذي هو الصد ، وبين المصدر بالأجنبي الذي هو قوله { وكفر به } وأجيب بأن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل وبأن التقديم لفرط العناية مثل { ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] وكان حق الكلام « ولم يكن أحد كفواً له » . وقيل : والمسجد الحرام عطف على الشهر الحرام أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام وهذا قول الفراء وأبي مسلم . وقيل : الواو في « والمسجد الحرام » للقسم . والصد عن سبيل الله هو المنع عن الإيمان بالله وبمحمد أو عن الهجرة . وقيل : منعهم المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت وزيف بأن الآية نزلت قبل غزوة بدر كما مر في قصة ابن جحش . وعام الحديبية كانت بعد غزوة بدر . وأجيب بأن معلوم الله كالواقع . والمراد بإخراج أهله ، إخراج المسلمين من مكة . وإنما جعلهم أهلاً له إذ كانوا هم القائمين بحقوق المسجد ولهذا قال عز من قائل { وكانوا أحق بها وأهلها } [ الفتح : 26 ] وإنما كانت هذه الأمور أكبر لأن كل واحد منها كفر والكفر أعظم من القتال . وأيضاً إنها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو قتال عبد الله بن جحش ، ولم يكن قاطعاً بأنه وقع في الشهر الحرام . وأما الكفار فيعلمون بأن هذه الأمور تصدر عنهم في الشهر الحرام { والفتنة } أي الشرك ، أو إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين أو التعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار . { أكبر من القتل } لأن الفتنة تفضي إلى القتل في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة ، فيصح أن الفتنة أكبر من القتل ، فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي . يروى أنه لما نزلت الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة « إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام » { ولا يزالون يقاتلونكم } إخبار عن استمرار الكفار على عداوة المسلمين { حتى يردوكم عن دينكم } كي يرودكم عنه كقولك « أسلمت حتى أدخل الجنة » بمعنى كي أدخل . ويجوز أن يكون بمعنى « إلى » كقوله { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] وقوله { إن استطاعوا } استبعاد لاقتدارهم كقول الرجل لعدوّه وهو واثق بأنه لا يظفر به « إن ظفرت بي فلا تبقِ عليّ » { ومن يرتدد } ومن يرجع { منكم عن دينه فيمت وهو كافر } باق على الردة { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } أما في الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة فيقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً وتبين زوجته منه ويحرم الميراث ، وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } واعلم أن الردة أغلظ أنواع الكفر حكماً ، وأنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر كجحد مجمع عليه ، وكسبّ نبي من الأنبياء .

وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحاً بالدين كالسجود للشمس والصنم وإلقاء المصحف في القاذورات . وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب . ويشترط في صحة الردة التكليف ، فلا تصح ردة الصبي والمجنون . وههنا بحث أصولي وهو أن جماعة من المتكلمين ذهبوا إلى أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة . فالإيمان لا يكون إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه ، والكفر لا يكون كفراً إلا إذا مات الكافر عليه . لأن من كان مؤمناً ثم ارتد - والعياذ بالله - فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيماناً في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي . فإما أن يبقي الاستحقاقان وهو محال ، وإما أن يقال إن الطارئ يزيل السابق وهو أيضاً محال ، لأنهما متنافيان وليس أحدهما أولى بالتأثير من الآخر ، بل السابق بالدفع أولى من اللاحق بالرفع لأن الدفع أسهل من الرفع . وأيضاً شرط طريان الطارئ زوال السابق . فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور . وبحث فروعي : وهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت فعند الشافعي : لا إعادة عليه لأن شرط حبوط العمل أن يموت على الردة لقوله تعالى عطفاً على الشرط { فيمت وهو كافر } وعند أبي حنيفة لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج لما جاء في موضع آخر مطلقاً { ولو أشركوا الحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] والحبط في اللغة أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك . وفي الحديث « وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم » سمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه . ولا شك أن المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل ، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال . فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المعنى أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق . إما بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي علي . وقال المنكرون للإحباط : المراد بالإحباط الوارد في كتاب الله تعالى هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لا يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق ثواباً ، فمعنى حبط عمله أنه أتى بعمل ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرة عظيمة ، أو المراد أنه تبين أن أعماله السابقة لم تكن معتداً بها شرعاً .

وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا ابن الحضرمي ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم لم يكن لهم أخر فنزلت { إن الذين آمنوا } الآية . لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً وصار بسبب هذا القتال مجاهداً . وقيل : إنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله { كتب عليكم القتال } وبين أن تركه سبب للوعيد ، أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال { إن الذين آمنوا } الآية ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد . ومعنى هاجروا فارقوا أوطانهم وعشائرهم من الهجر الذي هو ضد الوصل . والهجر الكلام القبيح لأنه مما ينبغي أن يهجر . وجاز أن يكون المراد أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين وهو أيضاً هجرهم بهذا السبب فكان ذلك مهاجرة . والمجاهدة من الجهد بالفتح الذي هو المشقة ، أو من الجهد بالضم الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل العدو مثل ذلك ، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله كالمساعدة ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصيل القوة { أولئك يرجون رحمة الله } يحتمل أن يكون الرجاء بمعنى القطع واليقين ولكن في أصل الثواب ، والظن إنما دخل في كميته وكيفيته وفي وقته . ويحتمل أن يراد المنافع التي يتوقعونها ، فإن عبد الله بن جحش ما كان قاطعاً بالثواب في عمله بل كان يظن ظناً ، وإنما جعل الوعد معلقاً بالرجاء ليعلم أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب ، وإنما ذلك بفضله ورحمته كما هو مذهبنا . ولو وجب أيضاً صح لأنه متعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك . وأيضاً المذكور ههنا هو الإيمان والهجرة والجهاد . ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال والتوفيق فيها مرجو من الله . وأيضاً المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع هذه الخصال مستقصرين أنفسهم في نصرة دين الله ، فيقدمون عليه راجين رحمته خائفين عقابه { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } [ المؤمنون : 60 ] .
{ والله غفور رحيم } يحقق لهم رجاءهم إن شاء بعميم فضله وجسيم طوله . عن قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمة . ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وإنه من رجا طلب ومن خاف هرب . وقال شاه الكرماني : علامة الرجاء حسن الطاعة . وقيل : الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال . وقيل : قرب القلب من ملاطفة الرب . روي عن لقمان أنه قال لابنه : خف الله تعالى خوفاً لا تأمن فيه مكره ، وأرجه رجاء أشد من خوفك . قال : فكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال : أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر؟ وهذا لأنهما من حكم الإيمان وهما للمؤمن كالجناحين للطائر ، إذا استويا استوى الطير وتم في طيرانه . ومن هنا قيل : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

القراآت : { إثم كبير } بالثاء المثلثة : حمزة وعلي . الباقون : بالباء . { قل العفو } بالرفع أبو عمرو . الباقون : بالنصب . { لأعنتكم } بغير همز : روى أبو ربيعة عن أصحابه . وعن حمزة وجهان في الوقف ترك الهمزة لبيان المذهب ، والهمز ليدل على أصل الكلمة .
الوقوف : { والميسر } ط { للناس } ز قد يجوز مع اتفاق الجملتين تنبيهاً على أن بيان الثانية أهم من الأولى { من نفعهما } ط { ينفقون } ط { العفو } ط { يتفكرون } لا لتعلق الجار . { والآخرة } ط { اليتامى } ط { خير } ط { فإخوانكم } ط { المصلح } ط { لأعنتكم } ط { حكيم } 5 { يؤمنّ } ط لأجل لام الابتداء بعده { أعجبتكم } ج لوقوع العارض وإن اتفقت الجملتان { يؤمنوا } ط { أعجبكم } ط { إلى النار } ج والوصل أجوز لأن مقصود الكلام بيان تفاوت الدعوتين مع اتفاق الجملتين ، ومن وقف أراد الفصل بين ذكر الحق والباطل { بإذنه } ج لأن جملة « والله يدعو » تقابل الجملة الأولى فلم يكن قوله « ويبين آياته » من تمامها إذ ليس في الجملة الأولى ذكر بيان ، ومن وصل فلعطف المستقبل على المستقبل { يتذكرون } ( 5 ) .
التفسير : الحكم الثالث : بيان حرمة الخمر والميسر . قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من أصحابه قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا ، فأمّ بعضهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون . فنزلت { ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } [ النساء : 43 ] فقلّ من يشربها . ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد ابن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار ، فضربه أعرابي بلحي بعير فشجه موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت { إنما الخمر والميسر } [ المائدة : 90 ] إلى قوله { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] فقال عمر : انتهينا يا رب . والحكمة في وقوع التحريم على هذا الوجه أن القوم قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فلو منعوا دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فإن الفطام عن المألوف شديد ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج والرفق .
واختلف العلماء في مفهوم الخمر فقال الشافعي : كل شراب مسكر فهو خمر . وقال أبو حنيفة : الخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب . احتج الشافعي بما روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير .

وهذا دليل على أن الخمر عندهم كل ما خامر العقل أي خالطه . والتركيب يدل على الستر والتغطية ، ومنه خمار المرأة . وكذا ما روي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً » ، قال الخطابي : إنما جرى ذكر هذه الأشياء خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان ، وكل ما في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجر فحكمها حكم هذه الخمسة . كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها . وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كل مسكر خمر وكل خمر حرام » فمراد الشارع أن كل مسكر فهو خمر لغة أو شرعاً فيكون حقيقة لغوية أو شرعية كالصلاة ، ولئن منع ذلك فلا أقل من أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة وهو المراد . وعن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع - وهو شراب يتخذ من العسل - فقال صلى الله عليه وسلم « كل شراب مسكر فهو حرام » وعن أم سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر . قال : الخطابي : والمفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء . وأيضاً الآيات الواردة في الخمر منها اثنتان بلفظ الخمر وغيرهما بلفظ المسكر مثل { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] وفيه دليل على أن المراد بالخمر هو المسكر . وكذا في قول عمر ومعاذ « الخمر مذهبة للعقل » . فإنه يوجب أن كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في علة التحريم . وأيضاً قال تعالى { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة } [ المائدة : 90 ] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر فيعلم منه أن حرمة الخمر معللة بالإسكار . فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإما أن يلزم الحكم بالحرمة في كل مسكر . حجة أبي حنيفة قوله تعالى { تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] منّ الله علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن ، والنبيذ سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح ، وأيضاً « ما روي في الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فقال رجل : يا رسول الله ، ألا أسقيك نبيذاً؟ قال : بلى » . فخرج يسعى فجاء بقدح فيه نبيذ فشرب . واعلم أن المسكر حرام جنسه قل أم كثر نيئاً أو مطبوخاً لقوله صلى الله عليه وسلم

« ما أسكر كثيره فقليله حرام » وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام » قال الخطابي : الفرق مكيال يسع ستة عشر رطلاً . وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب . وعن ابن عباس أنه جاء رجل فسأله عن العصير فقال : اشربه ما كان طرياً . قال : إني أطبخه وفي نفسي منه شيء . قال : أكنت شاربه قبل أن تطبخه؟ قال : لا ، قال : إن النار لا تحل شيئاً وقد حرم . وقال أبو حنيفة : المطبوخ من عصير العنب إن ذهب أقل من ثلثيه فهو حرام لكن لا حد على شاربه إلا إذا سكر ، وإن ذهب ثلثاه فهو حلال إلا القدر المسكر فيحرم ويتعلق بشربه الحد . يروى أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله « أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكن واحداً » . ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد فهو حرام ولكن لا حد فيه ما لم يسكر ، فإن طبخ فهو حلال إلا المقدار الذي يسكر فإن ذلك حرام ويحد به ، ولا يعتبر في النقيع ذهاب الثلثين . ونبيذ الحنطة والشعير والعسل وغيرها حلال نيئاً كان أو مطبوخاً ، ولا يحرم منه إلا القدر المسكر . وذكروا في حد السكران عبارات فعن الشافعي : أنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم . وقيل : الذي لا يفرق بين السماء والأرض وقيل : الذي يتمايل في مشيه ويهذي في كلامه . والأقرب أن الرجوع فيه إلى العادة . ثم إن قوله تعالى { يسئلونك عن الخمر والميسر } ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا ، فيحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع وحرمته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة بل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان واقعاً عن الحل والحرمة أي يسألونك عما في تعاطيهما . وأما كيفية دلالة الآية على الحرمة فهي أنها مشتملة على أن في الخمر إثماً والإثم حرام لقوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } [ الأعراف : 33 ] ومما يؤكد هذا أن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر وقد جعل الله تعالى الإثم لازماً لهذه الماهية فيلزمها الإثم على جميع التقادير من الشرب وغير ذلك من وجوه الانتفاع والاستعمال . وصرح أيضاً بأن الإثم الحاصل منها أكبر من النفع المتوهم فيها عاجلاً ، وإنما لم يقنع كبار الصحابة بهذه الآية طلباً لما هو آكد في التحريم ثقة واطمئناناً كما التمس إبراهيم عليه السلام مشاهدة إحياء الموتى طلباً لمزيد الإيقان وركوناً إلى سكون النفس بالعيان .

فإن قيل : لما كان الإثم لازماً لماهية الخمر من حيث هي ، فلم لم تكن محرمة في سائر الشرائع؟ قلت : كم من نقص في الأديان السالفة تممه شرع خاتم النبيين! وأيضاً هذا لزوم شرعي ، ويمكن أن تختلف الشرائع بحسب اختلاف الأزمان ولا سيما إذا اعتبرت مصالح الإنسان . والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعليهما . يقال : يسرته أي قمرته مشتق من اليسار لأنه يسلب يساره . عن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله . أو من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير ما كدّ وتعب . وقال ابن قتيبة : الميسر من التجزئة والاقتسام يقال : يسروا الشيء إذا اقتسموه . فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء والياسر الجازر . ثم يقال للقامر : ياسر لأنه بسبب ذلك الفعل يجزئ لحم الجزور . وقال الواحدي : يسر الشيء أي وجب ، والياسر الواجب بسبب القداح . وأما صفة الميسر على ما في الكشاف فهي : إنه كانت لهم عشرة أقداح - وهي الأزلام والأقلام - أساميها : الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد . لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء . وقيل : ثمانية وعشرين . لا نصيب لثلاثة وهي المنيح والسفيح والوغد ، وللفذ سهم ، والتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة . يجعلونها في الربابة - وهي خريطة - ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها . فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم . قال العلماء : وفي حكم الميسر سائر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إياكم وهاتين الكعبتين المشؤمتين فإنهما من ميسر العجم » وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز . وروي أن علياً رضي الله عنه مر بقوم وهم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ . إلا أن الشافعي رخص في الشطرنج إذا خلا عن الرهان ، وكف اللسان عن الطغيان ، وحفظ الصلاة عن النسيان . فإن الميسر ما يوجب دفع مال وأخذ مال وهذا ليس كذلك . ويحكى اللعب به عن ابن الزبير وأبي هريرة وكثير من السلف . وأما السبق في النصل والخف والحافر فجائز بالاتفاق لقوله صلى الله عليه وسلم « لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر » وذلك لما فيها من التأهب للجهاد ، والكلام في تفاصيلها وشروطها مذكور في كتب الفقه .

{ قل فيهما إثم كبير } أي إنهما من الكبائر . ومن قرأ بالثاء فمعنى الكثرة أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة . أما في الخمر فلأنها عدوّ العقل الذي هو عقال الطبع وأشرف خصائص الإنسان ومقابل الأشرف يكون أخس الأشياء . حكى بعض الأدباء أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً . وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية : لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ، ومن خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر كان الميل إليها أتم ، وقوة النفس عليها أقوى . بخلاف سائر المعاصي كالزنا وغيره ، وكفى بقوله { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر الميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } [ المائدة : 90 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم « الخمر أم الخبائث » ذماً لها وتقريراً لإثم شاربها . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب الخمر عشرة . وقال صلى الله عليه وسلم : « كل مسكر حرام » « وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار » وكذا الكلام في الميسر مع أن فيه أكل الأموال بالباطل . وأما المنافع المذكورة فهي أنهم كانوا يغالون بها إذا جلبوها من النواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن يعدّ ذلك فضيلة ومكرمة ، وكان يكثر أرباحهم بذلك السبب قال أبو محجن : أقومها زقاً يحق بذا كم يساق إلينا تجرها ونسوقها .
قال أبقراط : في الخمر عشر منافع . خمس جسمانية وخمس نفسانية . فالجسمانية أنها تجوّد الهضم وتدرّ البول وتحسن البشرة وتطيب النكهة وتزيد في الباه . والنفسانية أنها تسر النفس وتقرب الأمل وتشجع النفس وتحسن الخلق وتزيل البخل . ومن منافع الميسر التوسعة على ذوي الحاجات لأنهم كانوا يفرقونه على المساكين فيكتسبون به الثناء والمدح . ولا ريب أن منافع الخمر والميسر لكونها مظنونة عاجلة أقل من إثمهما لكونه متيقن . الحساب الدائم العذاب ، والعاقل لا يختار النفع القليل الزائل بعقاب أبدي لا نهاية له .
الحكم الرابع : { ويسئلونك ماذا ينفقون } وقد تقدم ذكر هذا السؤال وأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هنا فأجيب بذكر الكمية . وذلك أن الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق وينبهان على عظم ثوابه ، سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه؟ ومعنى العفو ما تيسر وسهل مما يكون فاضلاً عن الكفاية . ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسير والتسهيل .

ويقال للأرض السهلة : العفو . ومن قال إن العفو هو الزيادة ، فهو أن الغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله . وحاصل الأمر يرجع إلى التوسط في الإنفاق والنهي عن التبذير والتقتير وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة . وقال صلى الله عليه وسلم : « خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف » وللعلماء في هذا الإنفاق خلاف . فعن أبي مسلم : أنه يجوز أن يكون العفو هو الزكوات ، ذكرها ههنا مجملة وتفصيلها في السنة ، وقيل : إنه تطوع ولو كان مفروضاً لبين مقداره ولم يفوّض إلى رأي المكلف . وقيل : إن هذا كان قبل نزول آية الصدقات ، وكانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم وينفقون ما فضل ثم نسخ بالزكاة . { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي كما بين لكم وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا يبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون إليه . { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } فتأخذون بما هو أصلح لكم من سلوك سبيل العدالة للإنفاق وغيره ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع . ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا الأدنى على الأعلى . ويجوز أن يتعلق ب « يبين » أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون .
الحكم الخامس : { ويسئلونك عن اليتامى } عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } [ النساء : 10 ] عزلوا أموالهم عن أموالهم فنزلت . وعنه عن ابن عباس قال : لما أنزل الله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الأنعام : 152 ] وقوله { إن الذين يأكلون } [ النساء : 10 ] نطلق من كان عنده مال اليتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، وجعل يحبس له ما يفضل من طعامه حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . { قل إصلاح لهم خير } وهو كلام جامع لمصالح اليتيم والولي . أما لليتيم فلأنه يتضمن صلاح نفسه بالتقويم والتأديب ، وصلاح ماله بالتبقية والتثمير لئلا تأكله النفقة عليه والزكاة منه . وأما الولي فلأن إحراز الثواب خير له من التحرز عن مال اليتيم حتى تختل مصالحه وتفسد معيشته ، وقيل : الخبر عائد إلى الولي يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجراً ، وقيل : عائد إلى اليتيم أي مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن أمورهم ، والأصوب هو القول الأول ، فإن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة فينبغي أن يكون نظر المتكفل لأمور اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا و الآخرة لنفسه ولليتيم في ماله ونفسه .

{ وإن تخالطوهم فإخوانكم } أي فهم إخوانكم في الإسلام ، والمخالطة جمع يتعذر فيه التمييز . قيل : المراد وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز كما يفعله المرء بمال ولده ومع إخوانه في الدين ، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة . وقيل : المراد بهذه المخالطة أخذ مقدار أجرة المثل في ذلك العمل ، وسنشرح المذاهب في ذلك إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إلى تفسير قوله تعالى { ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] وقيل : المراد أن يخالطوا أموال اليتامى بأموالهم وأنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي وحمل بعضهم المخالطة على المصاهرة واختاره أبو مسلم ، لأن هذا خلط اليتيم نفسه والشركة خلط لماله . وأيضاً الشركة داخلة في قوله { قل إصلاح لهم خير } والخلط من جهة النكاح وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك ، فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب . وأيضاً إنه تعالى قال بعد هذه الآية { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ } فكان المعنى إن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان في الإسلام لتتأكد الألفة بالمناكحة ، فإن كان اليتيم من المشركين فلا تفعلوا ذلك { والله يعلم المفسد } لأمورهم { من المصلح } لها ، أو يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح فيجاوزيه على حسب غرضه ومقصده ، فأحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح ، وفيه تهديد عظيم فكأنه قال : أنا المتكفل بالحقيقة لأمر اليتيم ، وأنا المطالب لوليه إن قصر . { ولو شاء الله لأعنتكم } لحملكم على العنت وهو المشقة بأن ضيق عليكم طريق المخالطة معهم . وعن ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً . وذلك أنهم كانوا في الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعاً في مالها ، أو يزوجها من ابن له كيلا يخرج مالها من يده . وقد يستدل بالآية على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يقدر عليه وعلى أنه تعالى قادر على خلاف العدل لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعانات ما جاز أن يقول « ولو شاء لأعنت » ولهذا قال : { إن الله عزيز } غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه { حكيم } لا يكلف إلا ما يتسع فيه طاقتهم .
الحكم السادس : { ولا تنكحوا المشركات } أكثر المفسرين على أن هذه الآية ابتداء شرع وحكم آخر في بيان ما يحل ويحرم . وعن أبي مسلم : أنه متعلق بقصة اليتامى ترغيباً في مخالطتهنّ دون مخالطة المشركات . عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي - وكان حليفاً لبني هاشم - إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين ، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق .

فأتته وقالت : ألا نخلو؟ فقال : ويحك إن الإسلام حال بيننا . فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي؟ قال : نعم . ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره فنزلت هذه الآية . ثم العلماء اختلفوا في الآية في موضعين : الأوّل في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي : إنه حقيقة في العقد لقوله صلى الله عليه وسلم « لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل » ولا شك أن المتوقف على الولي والشاهد هو العقد لا الوطء . ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً « ولدت من نكاح لا من سفاح » ولقوله تعالى { وأنكحوا الأيامى } [ النور : 32 ] وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : إنه حقيقة في الوطء لقوله تعالى { حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] والنكاح الذي ينتهي إليه الحرمة ليس هو العقد بل هو الوطء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم « لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » وقال صلى الله عليه وسلم « ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون » ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم . يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينيه . والضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال اللفظ فيهما جميعاً . قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم « نكح المرأة » فقال : فرقت العرب بالاستعمال فرقاً لطيفاً . فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه تزوّجها وعقد عليها . وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته . لم يريدوا غير المجامعة . إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد أي لا تعقدوا على المشركات .
الثاني لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب أم لا؟ قال الأكثرون : نعم لقوله تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] إلى قوله سبحانه { عما يشركون } [ التوبة : 31 ] ولقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] فلو كان كفر اليهود والنصارى غير الشرك لاحتمل أن يغفر الله لهم وذلك باطل بالاتفاق . وأيضاً النصارى قائلون بالتثليث وليس ذلك في الصفات ، فإن أكثر المسلمين أيضاً يثبتون لله تعالى صفات قديمة ، فإذن هو في الذات وهذا شرك محض . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أميراً وقال : « إذا لقيت عدوّاً من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، سمى من يقبل الجزية وعقد الذمة بالمشرك » . وقال أبو بكر الأصم : كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن حدّ البشر ، وهم أنكروها وأضافوها إلى الجن والشياطين ، فقد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر .

واعترض عليه بأن اليهودي حيث لا يسلم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما لا يقدر العباد عليه ، لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب إضافة ذلك إلى غير الله . والجواب أنه لا اعتبار بإقراره ، وإنما الاعتبار بالدليل ، فإذا ثبت بالدليل أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن أضاف ذلك إلى غير الله كان مشركاً كما لو أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب . احتج المخالف بأنه تعالى فصل بين أهل الكتاب والمشركين في الذكر حيث قال { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] والعطف يقتضي التغاير . وأجيب بأن كفر الوثني أغلظ وهذا القدر يكفي في العطف ، أو لعله خص أوّلاً ثم عمم . هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل { فلا تجعلوا لله أنداداً } [ البقرة : 22 ] أن أكثر عبدة الأوثان مقرون بأن إله العالم واحد ، وأنه ليس له في الإلاهية بمعنى خلق العالم وتدبيره شريك ونظير ، فظهر أن وقوع اسم المشرك عليهم ليس بحسب اللغة بل بالشرع كالصلاة والزكاة . وإذا كان كذلك فلا يبعد بل يجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم ، لا سيما وقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسم كل من كان كافراً بأنه مشرك .
التفريع إن قيل : المشركات تشمل الحربيات والكتابيات جميعاً فالآية منسوخة أو مخصصة بقوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] لأن سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ شيء منها قط وهو قول ابن عباس والأوزاعي . لا يقال : لعل المراد من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب لأن قوله { والمحصنات من المؤمنات } [ المائدة : 5 ] يشمل من آمن منهنّ فيبقى قوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] ضائعاً ولإجماع الصحابة على جواز نكاح الكتابيات نقل أن حذيفة تزوّج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام؟ فقال : لا ، ولكني أخاف . وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا » وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم » ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الاستثناء خالياً عن الفائدة . وإن قيل : إن المشركات تختص بالحربيات ، فالآية ثابتة وباقية على عمومها . ومن الناس من زعم أن هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التزوج بالمشركات . روي هذا عن الحسن وزيف بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ لأن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا حكمين شرعيين إلا أن يقال : إن تجويز نكاح المشركة قبل نزول الآية كان ثابتاً من قبل الشرع .

قوله { حتى يؤمن } اتفق الكل على أن المراد منه الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام ، ولكن لا يدل هذا على أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار فقط لما مر في تفسير قوله { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] أنه لا بد في الإيمان الحقيقي من التصديق القلبي ، إلا أنه اكتفي ههنا بالإقرار اللساني لأنه هو أمارة الإيمان بالنسبة إلينا ، فلا اطلاع لنا على صميم القلب ، والسرير موكولة إلى علام الخفيات . فإن وافق سره العلن كان مؤمناً حقاً وإلا كان منافقاً جداً { ولأمة مؤمنة } هذه اللام في إفادة التوكيد تشبه لام القسم . والمراد بالأمة وكذا بالعبد في قوله { ولعبد مؤمن } أمة الله وعبده لأن الناس كلهم عبيداً لله وإماؤه أي ولا مرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة { خير من مشركة ولو أعجبتكم } للمبالغة والجواب محذوف أي ولو كانت المشركة تعجبكم بمالها وجمالها ونسبها ، فالمؤمنة خير منها لأن الإيمان يتعلق بالدين والمال ، والجمال والنسب يتعلق بالدنيا ، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يتيسر الجمع بينهما . وقد تحصل المحبة والتآلف عند التوافق في الدين فتكمل منافع الدنيا أيضاً من حسن الصحبة والعشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والأولاد ، وأما عند اختلاف الدين فتنعكس هذه القضايا . وقد يرى أضداد ما توقع منها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسنها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك » وقد ظن بعضهم أن المراد بالأمة ضد الحرة فقال : التقدير : ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة . ولهذا ذهب بعض آخر إلى أن في الآية دلالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوّج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة ، لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجداً لطول الحرة المسلمة ، لأنه بسبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح ، فيلزم قطعاً أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } لا خلاف ههنا في أن المراد به الكل ، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر على اختلاف أقسام الكفر { أولئك } المشركات والمشركون { يدعون إلى النار } أي إلى ما يؤدي إليها ، فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة في الظاهر ، وقد تحمل المودة على الاتفاق في الدين فلعل المؤمن يوافق الكافر ، والاحتراز عن مظنة الارتداد أهم من الطموح إلى إسلام المشرك . فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال . وقيل : المراد أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والجهاد ، وفي ترك الجهاد استحقاق النار والعذاب .

وغرض هذا القائل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وغيرها ، فإن الذمية لا تحمل زوجها على ترك الجهاد . وقيل : إن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار . { والله يدعو إلى الجنة } حيث أمر بالتزوج بالمسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة ، أو المراد أن أولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة المغفرة وما يؤدي إليهما ، فهم الذين تحب موالاتهم و مصاهرتهم وأن يؤثروا على غيرهم { بإذن } بتوفيق الله وتيسيره للعمل الذي يستحق به الجنة والغفران وقرى الحسن { والمغفرة } بالرفع على الابتداء أي المغفرة كائنة بتيسيره { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } معناه واضح . وقد عرفت فيما مر أن التذكر محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، فكان الآيات تليه على ما هو مركوز في العقول من حقيقة دين الإسلام { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم : 30 ] .
التأويل : إن خمر الظاهر كما يتخذ من أجناس مختلفة كالعنب والتمر والعسل والحنطة والشعير وغيرها ، فكذلك خمر الباطن من أجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وأمثالها . وهذه تسكر النفوس والعقول الإنسانية التي هي مناط التكليف فلهذا حرمت في عالم التكليف ، وأما ما يسكر القلوب والأرواح والأسرار فهو شراب الواردات في أقداح المشاهدات من ساقي تجلي الصفات إذا دارت الكؤوس انخمدت شهوات النفوس ، فتسكر القلوب بالمواجيد عن المواعيد ، والأرواح بالشهود عن الوجود ، والأسرار بمطالعة الجمال من ملاحظة الكمال ، وهذا شراب حلال لأنه فوق عالم التكليف ، وإنه يمزج الكثيف باللطيف فيه { ومنافع للناس } وملاذ لأهل القرب والاستئناس .
فصحوك من لفظي هو الوصل كله ... وسكرك من لحظي يبيح لك الشربا
فما مل ساقيها وما مل شارب ... عقار لحاظ كأسه يسكر اللبا
قوم أسكرهم وجود الشراب وقوم أسكرهم شهود الساقي .
فأسكر القوم دور كأس ... وكان سكري من المدير
الكأس والشراب والساقي و المسقي ههنا واحد كما قيل :
رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وإثم الإعراض عن كؤوس الوصال في النهاية أكبر من نفع الطلب ألف سنة في البداية . أما الميسر فإثمه كبير عند ا لأخيار وإنه بعيد عن خصال الأبرار ، ولكن نفعه عدم الالتفات إلى الكونين ، وبذل نفوس العالمين في فردانية نقش الكعبتين . { وإثمهما أكبر من نفعهما } لأن إثمهما للعوام ونفعهما للخواص ، والعوام أكثر من الخواص . وبعبارة أخرى الإثم في الخمر الظاهر والميسر الظاهر ، والنفع في الخمر الباطن والميسر الباطن ، وأهل الظاهر أكثر من أهل الباطن والله أعلم .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

القراآت : { حتى يطهرن } بالتشديد والأصل « يتطهرن » فأدغم التاء في الطاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص . الباقون { يطهرن } بالتخفيف من الطهارة . { أنى } بالإمالة المفرطة : حمزة وعلي وخلف . وقرأ العباس بالإمالة اللطيفة كل القرآن . الباقون بالتفخيم { لا يؤاخذكم } وبابه وكل همزة تحركت وتحرك ما قبلها مثل { يؤخر } و { يؤده } وأشباه ذلك بغير همز : يزيد وورش والشموني وحمزة في الوقف .
الوقوف : { عن المحيض } ط { أذى } ط لأن لكونه أذى تأثيراً بليغاً في وجوب الاعتزال { في المحيض } لا للعطف . { حتى يطهرن } ج لأن « إذا » متضمنة الشرط للفاء في جوابه مع فاء التعقيب فيها { أمركم الله } ط { المتطهرين } 5 { حرث لكم } ص لأن الفاء كالجزاء أي إذا كن حرثاً فأتوهن وإلا فقد اختلف الجملتان { شئتم } ز قد يجوز لوقوع العارض . { لأنفسكم } ط { ملاقوه } ط { المؤمنين } 5 { بين الناس } ط { عليم } 5 { قلوبكم } ط { حليم } 5 { رحيم } 5 { عليم } 5 .
التفسير : الحكم السابع : { ويسئلونك عن المحيض } قيل : إنه تعالى جمع في هذا الموضع بين ستة أسئلة ، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو والباقية بالواو . والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف ، لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألوا عن الوقائع الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع لذلك كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن كذا وعن كذا . روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها ، والنصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، وكان أهل الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ، ولم يساكنوها في بيت . فقال ناس من الأعراب يا رسول الله ، البرد شديد والثياب قليلة . فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فنزلت الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت » يعني أن المراد من قوله تعالى { فاعتزلوا النساء } فاعتزلوا مجامعتهن . واتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمان الحيض ، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة وتحت الركبة ، واختلفوا فيما دون السرة وفوق الركبة . فالشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف قالوا : يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار بناء على أن المحيض مصدر كالمجيء والمبيت ، والتقدير : فاعتزلوا تمتع النساء في زمان الحيض . ترك العمل بالآية فيما فوق السرة وتحت الركبة للإجماع فبقي الباقي على الحرمة . وعن زيد بن أسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال :

« لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها » وقيل : ما سوى الفرج حلال ، لأن المراد بالمحيض موضع الحيض فالمعنى فاعتزلوا موضع الحيض من النساء ، نعم المحيض الأول مصدر فيصلح عود الضمير إليه في قوله { قل هو أذى } أي الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرة وكراهة على أنه يحتمل أن يكون بمعنى المكان والتقدير هو ذو أذى ، وإنما قدم قوله { هو أذى } لترتب الحكم وهو وجوب الاعتزال عليه . وذلك أن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ، حتى لو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة . فذلك الدم جار مجرى البول والغائط فكان أذى وقذراً . ولا يرد عليه دم الاستحاضة حيث لا يوجب الاعتزال ، لأن ذاك دم صالح يسيل من عرق يتفجر في عنق الرحم ، ويؤيده « ما روي في الصحيحين عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش فقالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة؟ فقال : لا ، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي » . ومعنى العرق أنه علة حدثت بها من تصدع العروق . وأصل الحيض في اللغة السيل . يقال : حاض السيل وفاض . قال الأزهري : منه قيل الحوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل . والواو والياء من حيز واحد . وقد ورد في الحديث لدم الحيض صفات منها السواد ويراد به أنه يعلوه حمرة متراكبة فيضرب من ذلك إلى السواد ، ومنها الثخانة ، ومنها المحتدم وهو المحرق من شدة حرارته ، ومنها أنه ذو دفعات أي يخرج برفق ولا يسيل سيلاً ، ومنها أن له رائحة كريهة ، ومنها أنه بحراني وهو الشديد الحمرة . وقيل : ما يحصل فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر . فمن الناس من قال : إن كان الدم موصوفاً بهذه الصفات فهو الحيض وإلا فلا ، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف ، وزوالها إنما كان بعارض الحيض . فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف الواجبة على ما كانت . ومنهم من قال : هذه الصفات قد تشتبه على المكلف فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسراً ومشقة ، فالشارع قدر وقتاً مضبوطاً متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض ، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء . أما السن المحتمل للحيض فأصح الوجوه أنها تسع سنين فإن رأت الصبية دماً قبل استكمال التسع فهو دم فساد . قال الشافعي : وأعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة يحضن لتسع سنين . وقيل : إن أول وقت الإمكان يدخل بالطعن في السنة التاسعة . وقيل : بمضي ستة أشهر من السنة التاسعة . والاعتبار على الوجوه بالسنين القمرية تقريباً على الأظهر لا تحديداً ، حتى لو كان بين رؤية الدم وبين استكمال التسع على الوجه الأصح ما لا يسع حيضاً وطهراً ، كان ذلك الدم حيضاً وإلا فلا ، وأقل مدة الحيض عند الشافعي يوم وليلة ، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام ، وعن مالك لا حد لأقله .

وأما أكثر الحيض فهو خمسة عشر يوماً وليلة لقول علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه : ما زاد على خمسة عشر فهو استحاضة . وعن عطاء : رأيت من تحيض يوماً ومن تحيض خمسة عشر يوماً . وأما الطهر فأكثره لا حد له . فقد لا ترى المرأة الدم في عمرها إلا مرة واحدة ، وأقله خمسة عشر يوماً ، وقال أحمد أقله ثلاثة عشر . وقال مالك : ما أعلم بين الحيضتين وقتاً يعتمد عليه لنا الرجوع إلى الوجود ، وقد ثبت ذلك من عادات النساء ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي » أشعر ذلك بأقل الطهر وأكثر الحيض . وغالب عادات النساء في الحيض ست أو سبع ، وفي الطهر باقي الشهر . قال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش : « تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء ويطهرن » ومعنى : « في علم الله » ، أي مما علمك الله من عادتك أو من غالب عادات النساء . ويحرم في الحيض عشرة أشياء : الصلاة والصوم والاعتكاف والمكث في المسجد و الطواف ومس المصحف وقراءة القرآن والسجود والغشيان بنص القرآن والطلاق في حق بعضهن ثم إن أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل مجامعتها إلا بعد أن تغتسل عن الحيض ، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري . والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها حتى تغتسل ويمضي عليها وقت صلاة ، وإن رأته عشرة أيام جاز له أن يقربها قبل الاغتسال . حجة الشافعي أن القراءة المتواترة حجة بالإجماع فإذا حصلت قراءتان متواترتان وجب الجمع بينهما ما أمكن . فمن قرأ « يطهرن » بالتخفيف فانتهاء الحرمة عنده انقطاع الدم ، ومن قرأ « يطهرن » بالتثقيل فالنهاية تطهرها بالماء ، والجمع بين الأمرين ممكن بأن يكون النهاية حصول الشيئين . ومعنى قوله { ولا تقربوهن } أي لا تجامعوهن وهذا كالتأكيد لقوله { فاعتزلوا } ويحتمل أن يكون ذلك نهياً عن المباشرة في موضع الدم وهذا نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع . وأيضاً قوله { فإذا تطهرن فأتوهن } تعليق للإتيان على التطهر بكلمة « إذا » ، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر . والمراد بالتطهر الاغتسال؛ لأن هذا الحكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يحصل في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها . وعن عطاء وطاوس هو أن تغسل الموضع وتتوضأ . وقال بعضهم : غسل الموضع .

ثم القائلون بوجوب الاغتسال أجمعوا على أن التيمم يقوم مقامه عند إعواز الماء { من حيث أمركم الله } أي من المأتى الذي أمركم به وحلله لكم وهو القبل . عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة . وقال الأصم والزجاج : فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات . وعن محمد ابن الحنفية : فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور .
{ إن الله يحب التوابين } مما عسى أن يبدر عنهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك بمجامعة الحائض والطاهرة قبل الغسل وإتيان الدبر { ويحب المتطهرين } المتنزهين عن تلك الفواحش . فالتائب هو الذي فعله ثم تركه ، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزهاً عنه لأن الذنب كأنه نجاسة روحانية حكمية { إنما المشركون نجس } [ التوبة : 28 ] أو يحب التوابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب ، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار والأوزار . الحكم الثامن { نساؤكم حرث لكم } وإنه جار مجرى البيان والتوضيح لقوله { فأتوهن من حيث أمركم الله } دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فينبغي أن يؤتى المأتي الذي هو مكان الحرث ، وعن جابر رضي الله عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت هذه الآية . وعن ابن عباس : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت . قال : وما أهلكك؟ قال : حوّلت رحلي الليلة . قال : فلم يرد عليَّ شيئاً . فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وتحويل الرحل قيل : ظاهره الكناية عن الإتيان في غير المحل المعتاد . وقيل : إنه الإتيان في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها . وعنه كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة مجبية أي في قبلها من دبرها وكانوا أخذوا ذلك من اليهود وكانت قريش تفعل ذلك ولما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } أي مقبلات ومدبرات ومستكفيات بعد أن يتقى الدبر والحيضة ، وذلك أن قوله { حرث لكم } أي مزرع ومنبت للولد وهذا على سبيل التشبيه . ففرج المرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات ، وإنما وحد الحرث لأنه مصدر أقيم مقام المضاف أي هن مواضع حرث فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث أعني القبل دون الدبر ، هذا ما عليه أكثر العلماء ويؤيده قوله عز من قائل { قل هو أذى فاعتزلوا } جعل ثبوت الأذى علة للاعتزال ولا معنى للأذى ، إلا ما يتأذى الإنسان منه بنتن وتلوث وتنفر طبع ، والأذى في الدبر حاصل أبداً فالاعتزال عنه أولى بالوجوب .

فمعنى { أنى شئتم } كيف شئتم من قبلها قائمة أو باركة أو مضطجعة . وقيل : « أنى » بمعنى « متى » أي فأتوا حرثكم أي وقت شئتم من أوقات الحل يعني إذا لم تكن أجنبية أو محرمة أو صائمة أو حائضاً . وعن ابن عباس : المعنى إن شاء عزل وإن شاء لم يعزل . وقيل : متى شئتم من ليل أو نهار والأصح الأول وعن مالك والشيعة تجويز إتيان النساء في أدبارهن ويحكى أن نافعاً نقل عن ابن عمر مثل ذلك واحتجوا بأن الحرث اسم المرأة لا الموضع المعين وبأن قوله { أنى شئتم } معناه من أين شئتم كقوله { أنى لك هذا } [ مريم : 37 ] أي من أين . وكلمة « أين » تدل على تعدد الأمكنة فيلزم أن يكون المأتي بها متعدداً . وبقوله { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] ترك العمل بعمومه في حق الذكور لدلالة الإجماع فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الإناث . ولا يخفى ضعف هذه الحجج ولو سلم مساواتها دلائل الحرمة في القوة فالاجتناب أحوط ، وكيف لا وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « ملعون من أتى امرأة في دبرها » ولو لم يكن فيه إلا فوات غرض التوالد والتناسل الذي به بقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف أنواع الكائنات لكفى به منقصة وذماً ، وإذا كان لزنا لكونه مزيلاً للنسب محرماً ، وكذا الخمر لكونها رافعة للعقل ، والقتل لكونه مفنياً للشخص ، فلأن يحرم هذا الفعل لكونه متضمناً لفناء النوع أولى كاللواط وإتيان البهيمة والاستمناء ولهذا عقبه بقوله { وقدموا لأنفسكم } أي افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة كقول الرجل لغيره « قدم لنفسك عملاً صالحاً » وذلك أن الآية اشتملت على الإذن في أحد الموضعين والمنع عن الموضع الآخر فكأنه قيل : لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة وإنما يجب أن تكونوا في ربقة الإخلاص وتقديم الطاعة ، ثم إنه أكد ذلك بقوله { واتقوا الله } ثم زاد التأكيد بقوله { واعلموا أنكم ملاقوه } وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا تحسن إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن مشتهي . فقوله { وقدموا لأنفسكم } تحريض على فعل الطاعات ويندرج فيه ابتغاء لولد والتسمية عند الوقاع وغير ذلك من بآداب الخلوة ، وقوله { واتقوا الله } زجر عن المحظورات والمنكرات ، وقوله { واعلموا أنكم ملاقوه } تذكير ليوم البعث والحساب الذي لولاه لضاع فعل الطاعات وترك المنهيات وما أحسن هذا الترتيب! ثم قال { وبشر المؤمنين } كيلا يخلو الوعيد من الوعد . ولم يذكر المبشر به وهو الثواب والكرامة ونحوهما إما لأنه كالمعلوم من نحو قوله { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً } [ الأحزاب : 47 ] { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } [ البقرة : 25 ] وإما لأن الغرض نفس البشارة مثل « فلان يعطى » .

الحكم التاسع : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } وهو نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف ، فإن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة أي معرضاً له قال : فلا تجعلوني عرضة للوائم . وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله { ولا تطع كل حلاف مهين } [ القلم : 10 ] والحكمة فيه أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك فلا يؤمن إقدامه على الأيمان الكاذبة . وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله كان أكمل في العبودية ، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يبتذله ويستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية . وقوله { أن تبروا } علة النهي اي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصّلحوا بين الناس لأن الخلاف مجترئ على الله غير معظم له فلا يكون براً متقياً ، فإذا ترك الحلف لاعتقاده أن الله أعظم وأجل من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا اعتقد الناس في صدق لهجته وبعده من الأغراض الفاسدة فعدوه براً متخذاً من الإخلال بواجب حق الله فيدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم . ومعنى آخر وهو أن تكون العرضة « فعلة » بمعنى « مفعول » كالقبضة والغرفة فيكون اسماً للشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانع الناس من السلوك ، ومنه « عرض العود على الإناء » وتقول « فلان عرضة دون الخير » . وذلك أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة لرحم أو إصلاح أو إحسان أو عبادة ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني . فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } أي حاجزاً لما حلفتم عليه . وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك » أي على شيء مما يحلف عليه . فيكون قوله { أن تبروا } عطف بيان { لأيمانكم } أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى أو الإصلاح بين الناس ، وعلى هذا فاللام في { لأيمانكم } إما أن تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً وحاجزاً ، وإما أن تعلق ب { عرضة } لما فيها من معنى الاعتراض بمعنى لا تجعلوا شيئاً يعترض البر . ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق { أن تبروا } بالعرضة أي لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا { والله سميع } إن حلفتم به { عليم } بنياتكم إن تركتم الحلف إجلالاً لذكره ، واليمين في الأصل عبارة عن القوة فسمي الحلف بذلك لأن المقصود بها تقوية جانب البر على جانب الحنث . اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولهذا قيل : لما لا يعتد به ولا يخطر من أولاد الإبل في الدية « لغو » وهو في الأصل مصدر لغا يلغو .

قال صلى الله عليه وسلم « من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا » واختلف الفقهاء في اللغو من اليمين فذهب الشافعي - وهو قول عائشة والشعبي وعكرمة - أنه قول العرب « لا والله » و « بلى والله » مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف . فلو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لا ننكر ذلك ولعله قال : لا والله ألف مرة . ومذهب أبي حنيفة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والسدي ومكحول - أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن . وفائدة الخلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل « لا والله » و « بلى والله » ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن ، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك . حجة الشافعي أن الآية تدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب ، لكن المراد من قوله { بما كسبت قلوبكم } هو الذي يقصده الإنسان على سبيل الجد ويربط به قلبه فيكون اللغو ما تعوّده الناس في الكلام « لا والله » و « بلى والله » فأما إذا حلف على شيء أنه كان حاصلاً جداً ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين المتصل تصديق قوله وربط قلبه بذلك فلم يكن لغواً ألبتة ، وأيضاً إنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية النهي عن كثرة الحلف فذكر عقيب ذلك حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام على سبيل القصد إلى الحلف ، وبيّن أنه لا مؤاخذة عليهم ولا كفارة لأن إيجاب الكفارة والمؤاخذة عليهم يفضي إما إلى أن يمنعوا عن الكلام أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين ، فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرنا هو المناسب ويؤده ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لغو اليمين قول الرجل بين كلامه لا والله وبلى والله » وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله ثم أخطأ فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : « كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة » وعن عائشة أنها قالت : أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب .

وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة . وقال أبو حنيفة : اليمين معنى لا يلحقه الفسخ فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق . وأيضاً إنه صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه » أوجب الكفارة على الحانث مطلقاً من غير فصل بين المجد والهازل . وقيل : إن يمين اللغو هو الحلف على ترك طاعة أو فعل معصية ، فبين الله تعالى أنه لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية وعن الضحاك أن اللغو هي اليمين المكفرة كأنه قيل : لا يؤاخذكم الله بإثم الحلف إذا كفرتم . وقيل : هي ما يقع سهواً ، والمراد بما كسبت قلوبكم هو العمد ، واختاره القاضي أبو بكر . ثم إن الشافعي قال : معنى لا يؤاخذكم لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ، ولكن يلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان ولم يكن كسب اللسان وحده . وقال أبو حنيفة : معناه لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن ، ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد أي الكذب في اليمين ، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس . وقال مالك في الموطأ : أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة . قال : والذي يحلف على شيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحداً أو يعتذر لمخلوق أو بقتطع به مالاً فهذا لا أعلم أن يكون فيه كفارة ، وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل الشيء المباح الذي له فعله ثم يفعله ، أو أن يفعله ثم لا يفعله مثل : أن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيع بذلك ، أو يحلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه . { والله غفور رحيم } حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم وأخر عقوبتكم بما كسبت قلوبكم لعلكم تتفكرون أو تتوبون عنها .
الحكم العاشر : { للذين يؤلون من نسائهم } يقال في اللغة : آلى يؤلي إيلاء وأئتلى ائتلاء وتألى تألياً . والإلية والقسم واليمين والحلف كلها واحد . وفي الحديث القدسي « آليت أن أفعل » خلاف المقدرين والإيلاء في الشرع هو الحلف على الامتناع من وطء لزوجة مطلقاً أو مدة تزيد على أربعة أشهر . وكان الإيلاء طلاقاً في الجاهلية فغيّر الشرع حكمه . قال سعيد بن المسيب . كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها وكان يتركها بذلك لا أيماً ولا ذات بعل ، والغرض منه مضارة المرأة . ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضاً فأزال الله تعالى ذلك وأمهل الزوج مدة حتى يتروى ويتأمل .

فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها . ثم المتعارف أن يقال : آليت على كذا وإنما عدي ههنا بمن لأنه أريد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كما يقال : « لي منك كذا » أو ضمن في هذا القسم المصوص معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم أو يعتزلون مولين أو مقسمين . والتربص التلبث والانتظار وإضافته إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله « بينهما يوم » أي مسيرة في يوم { فإن فاؤا } فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها { فإن الله غفور رحيم } يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب الضرار بالإيلاء وهو الغالب ، وإن كان من الجائز كونه على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من القتل أو لغير ذلك من الأسباب { وإن عزموا الطلاق } بان عقدوا القلب على حل رابطة النكاح { فإن الله سميع عليم } وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة التي هي مثل التوبة . واعلم أن الإيلاء له أركان أربعة . الحالف والمحلوف به والمحلوف عليه ومدة هي ظرف المحلوف عليه .
الركن الأول : الحالف وهو كل زوج يتصور منه الوقاع وكان تصرفه معتبراً في الشرع ، فيصح إيلاء الذمي لعموم قوله { للذين يؤلون } وبه قال أبو حنيفة . وقال أبو يوسف ومحمد : لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق ، وأيضاً لا فرق عندنا بين الحر والرقيق في الحد . وعند أبي حنيفة يتنصف برق المرأة ، وعند مالك برق الرجل كما قالا في الطلاق لنا أن التخصيص خلاف الظاهر ، ولأن تقدير هذه المدة إن كان لأجل معنى يرجع إلى الجبلة والطبع وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج فيستوي فيه الحر والرقيق كالحيض ومدة الرضاع ومدة العنة . ويصح الإيلاء في حالتي الرضا و الغضب بعموم الآية . وقال مالك : لا يصح إلا في حال الغضب . وأيضاً يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح أو كانت مطلقة طلقة رجعية ، لأن الرجعية يصدق عليه أنها من نسائه بدليل أنه لو قال : نسائي طوالق . وقع الطلاق عليها فتدخل تحت ظاهر قوله { يؤلون من نسائهم } ولهذا لو قال لأجنبية : والله لا أجامعك لم يكن مولياً . وإيلاء الخصي صحيح لأنه يجامع كما يجامع الفحل غير أنه لا ينزل . ومن جُبّ جميع ذكره لم يصح إيلاؤه على الأظهر لأنه لا يتحقق منه قصد الإيلاء لامتناع الأمر في نفسه . وكذا الأشل ومن بقي من ذكره بعد الجب ما دون قدر الحشفة . فإن آلى ثم جب فالأصح ثبوت الخيار لها فإن لم تفسخ بقي الإيلاء على الأظهر لأن العجز عارض وقد قصد الإضرار في الابتداء وإذا كانت المرأة رتقاء أو قرناء فالحكم كما في الجب ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون بحال .

الركن الثاني : المحلوف به وهو إما الله تعالى وصفاته أو غيره . فإن حلف بالله كان مولياً ، ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء . وهل يجب عليه كفارة اليمين؟ الجديد وقول أبي حنيفة أنه يجب عليه كفارة اليمين ، لأن الدلائل الدالة على وجوب الكفارة عند الحنث باليمين عامة ، وأي فرق بين أو يقول : والله لا أقربك « ثم يقربها وبين أن يقول : » والله لا أكلمك « ثم يكلمها . وإنما ترك ذكر الكفارة في الآية لأنها مبنية في سائر المواضع من القرآن وعلى لسان الرسول . وقوله تعالى { فإن الله غفور رحيم } يدل على عدم العقاب وأنه لا ينافي الكفارة كالتائب عن الزنا أو القتال لا عقاب عليه ، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص . وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال : إن وطئتك فللَّه علي عتق رقبة أو صدقة أو حج أو صوم أو صلاة . فهل يكون مولياً؟ الجديد وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة من العلماء أنه يكون مولياً لأن العتق والطلاق المعلقين بالوطء يحصلان لو وطئ فيكون ما يلزمه الوطء مانعاً له من الوطء ، ويكون هو بتعليقه بالوطء مضراً بها فيثبت لها المطالبة كما في اليمين بالله تعالى حتى يضيق الأمر عليه بعد مضي أربعة أشهر ليفيء أو يطلق . ولا يخفى أنه لو كان المعلق به إلزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج . وفيه أقوال أصحها أن عليه كفارة اليمين ، والثاني عليه الوفاء بما سمى ، والثالث التخيير بين كفارة اليمين وبين الوفاء .
الركن الثالث : المحلوف عليه وهو الجماع وهذا من صرائح ألفاظه ، وكذا النيك والوطء والإصابة ومن كناياتها المباضعة والملامسة والمباشرة فلا تعمل إلا بالنية .
الركن الرابع : المدة . فعن ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف أن لا يطأها أبداً ، وعن الحسن وإسحاق أنه مول وإن حلف يوماً . وهذان المذهبان في غاية البعد . وعن أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أن لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد . وعن مالك وأحمد و الشافعي أنه لا يكون مولياً حتى تزيد المدة على أربعة أشهر . فعند الشافعي إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل لأربعة أشهر . وهذه المدة تكون حقاً للزوج فإذا مضت طالبت المرأة الزوج بالفيئة أو الطلاق ، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه . وعند أبي حنيفة إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه ، حجة الشافعي أن الفاء في قوله { فإن فاؤا } تقتضي كون ما بعدها من حكمي الفيئة والطلاق مشروعاً متراخياً عن انقضاء الأشهر الأربعة . وأيضاً قوله { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } صريح في أن وقوع الطلاق وإنما يكون بإيقاع الزوج ، وفي أن الزوج لا بد أن يصدر عنه شيء يكون مسموعاً وما ذاك إلا إيقاع الطلاق .

أجاب أبو حنيفة بأن قوله { فإن فاؤا } تفصيل للحكم المتقدم كما تقول : « أنا نزيلكم هذا الشهر . فإن حمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم وأتحول » وأيضاً الإيلاء طلاق في نفسه ، فالطلاق إشارة إليه . وأيضاً الغالب أن العازم للطلاق والضرار وترك الفيئة لا يخلو من مقاولة ودمدمة وحديث نفس ، فذلك الذي يسمعه الله كما يسمع وسوسة الشيطان . واستدل على صحة مذهبه في أن الفيئة لا بد أن تقع في الأشهر بقراءة عبد الله بن مسعود فإن { فاؤا فيهن } ورد بأنها شاذة فلا معول عليها والرجوع إلى الحق أولى الله حسبي .
التأويل : كما أن النساء محيضاً في الظاهر وهو سبب نقصان إيمانهن يمنعهن عن الصلاة والصيام فكذا للرجال محيض في الباطن وهو سبب نقصان إيمانهم يمنعهم عن حقيقة الصلاة وهي المناجاة ، وعن حقيقة الصوم وهي الإمساك عن مشتهيات النفوس . وكما أن المحيض هو غلبة الدم فكذلك الهوى هو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية ، فكلما غلب الهوى تكدر الصفا وحصل الأذى . وقد قيل : قطرة من الهوى تكدر بحراً من الصفا . ولذلك نودي من سرادقات الجلال : يا قلوب الرجال اعتزلوا نساء النفوس في محيض غلبات الهوى { حتى يطهرن } يفرغن من قضاء الحوائج الضرورية للإنسان من المأكول والمشروب والمنكوح { فإذا تطهرن } بماء التوبة والإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة { فأتوهن من حيث أمركم الله } يعني عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها { إن الله يحب التوابين } عن أوصاف الوجود { ويحب المتطهرين } بأخلاق المعبود بل يحب التوابين عن بقاء الوجود ويحب المتطهرين ببقاء الشهود { نساؤكم حرث لكم } الرجال البالغون الواصلون إلى عالم الحقيقة المتصرفون فيما سوى الله بتصرف الحقّ فهم رجال وما دون الله نساؤهم وهم الأنبياء والأولياء القائمون بالله الداعون إلى الله بإذنه . فكما أن الدنيا مزرعة الآخرة لقوم ، فالدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها أنى شاءوا وكيف شاءوا { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } [ التكوير : 29 ] فقد فنيت مشيئتهم في مشيئته تعالى وبقيت قدرة تصرفهم بتقويته { لا يؤاخذكم الله } القلب كالأرض للزراعة ، والجوارح كآلات الحراثة ، والأعمال والأقوال كالبذر . فالبذر ما لم يقع في الأرض المرتبة للزراعة لا ينبت وإن كان فيها آلة من آلات الحراثة . أما إن كان لما يجري على الظواهر من الخبر أدنى أثر في القلب ولو كان مثقال ذرة فإن الله تعالى من كمال فضله وكرمه لا يضيعه بل يضاعفه ، وإن كان ما يجري عليه في الظاهر شراً فإن لم يكن له أثر في القلب كان لغواً ولا يؤاخذه ، وإن كان له أثر في القلب فهو بصدد المؤاخذة وإن شاء الله غفره .

{ للذين يؤلون من نسائهم } من وقع له من أهل القصد وقفة أو فترة في أثناء السلوك من ملالة النفس أو نفرة الطبع فعلى الشيخ والأصحاب أن لا يفارقوه في الحقيقة ويعاونوه بالهمم العلية ويتربصوا أربعة أشهر للرجوع لأن هذه مدة تعلق الروح بالجنين كما جاء في الحديث « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك » إلى آخره { فإن فاءوا } الفيئة إلى صدق الطلب ورعاية حق الصحبة ونفخ فيه روح الإرادة مرة أخرى لاحظوه بعين القبول ، فإن هذا ربيع لا يرعاه إلا المهزولون ، وربع لا يسكنه إلا المعزولون ، بل شراب لا يذوقه إلا العارفون ، وغناء لا يطرب عليه إلا العاشقون { وإن عزموا الطلاق } لعزمه على طلاق منكوحة المواصلة { فإن الله سميع } لمقالتهم { عليم } بحالتهم وهو حسبي .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

القراآت : { أن يخافا } بضم الياء : يزيد وحمزة ويعقوب الباقون بفتح الياء { نبينها } بالنون المفضل . الباقون بياء الغيبة { يفعل ذلك } مدغماً حيث كان : أبو الحرث عن علي { فقد ظلم } مظهراً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وعاصم غير الأعشى .
الوقوف : { قروء } ط { الآخر } ط { إصلاحاً } ط { بالمعروف } ص لعطف المتفقتين ولا تمام المقصود في تفضيل الرجال { درجة } ط { حكيم } 5 { مرتان } ص لعطف المتفقتين { بإحسان } ط { حدود الله } الأول ط { افتدت به } ط { تعتدوها } ج { الظالمون } 5 { غيره } ص لأن الطلاق للزوج الثاني على خطر الوجود لا منتظر معهود فكان خارجاً من مقتضى الجملة الأولى { أن يقيما حدود الله } ط { يعلمون } 5 { أو سرحوهن بمعروف } ص لطول الكلام { لتعتدوا } ج { نفسه } ط { هزوا } ص لطول ما بعده { يعظكم به } ط { بالمعروف } ط { الآخر } ط { وأطهر } ط { لا تعلمون } 5 .
التفسير : الحكم الحادي عشر : الطلاق . ويشتمل على أحكام أولها : وجوب العدة . واعلم أن المطلقة وهي التي أوقع الطلاق عليها إما أن تكون أجنبية ولا يقع الطلاق عليها في عرف الشرع بالإجماع وإما أن تكون منكوحة وحينئذ إما أن لا تكون مدخولاً بها ولا عدة عليه لقوله تعالى { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها } [ الأحزاب : 49 ] وإما أن تكون مدخولاً بها وحينئذ إن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل قال تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] وإن كانت حائلاً فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط أو الكبر المفرط فعدتها بالأشهر لا بالأقراء لقوله سبحانه { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } [ الطلاق : 4 ] وإن كان المحيض في حقها ممكناً فإن كانت رقيقة فعدتها قرآن ، وإن كانت حرة فعدتها ثلاثة أقراء لهذه الآية ، فظهر أن قوله { والمطلقات } لا يتناول إلا المنكوحة الحرة المدخول بها كالحائل من ذوات الحيض . لا يقال : العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي أكثر من حيث إنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب لا المغلوب . فيقال : الثوب أسود إذا كان الغالب عليه السواد لا البياض . وههنا الباقي قسم واحد من الأقسام الخمسة فكيف يحسن إطلاق لفظ العام عليه؟ لأنا نقول : أما الأجنبية فتخرج بعرف الشرع كما مر ، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم ، وكذا الحامل والآيسة لأن إيجاب الاعتداء بالأقراء إنما يكون حيث يحصل الأقراء ولا أقراء في حقهما . وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن اللفظ باقٍ على تناوله الأغلب . وإنما لم يقل وليتربصن المطلقات بل أخرج الأمر في صورة الخبر إشعاراً بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن فهو يخبر عن موجود .

وبناء الكلام على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد وتقوّ . ولو قيل : « وليتربصن المطلقات » لم يكن بتلك الوكادة وفي ذكر الأنفس دون أن يقال « يتربصن ثلاثة قروء » تهييج لهن على التربص لأن فيه ما يستنكفن منه ، فإن أنفس النساء طوامح إلى الرجال ، نوازع إليهم ، فأمرن أن يقبضن أنفسهن . والقروء جمع قرء بفتح القاف أو ضمها ، والراء ساكنة في الحالين . وفي الصحاح بفتح القاف فقط . ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض ، والمشهور أنه حقيقة فيهما . وقيل : حقيقة في الحيض مجاز في الطهر . وقيل بالعكس . وقيل : إنه موضوع لمعنى واحد مشترك بينهما إما لأن القرء هو الاجتماع ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي ، وإما لأنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة وهو قول أبي عبيد ، وإما لأن القرء هو الوقت . وقيل : « هذا قارئ الرياح » لوقت هبوبها . ولا يخفى أن لكل من الطهر والحيض وقتاً معيناً وهذا قول أبي عمرو بن العلاء . ثم إن الله تعالى أمر المطلقة بثلاثة أشياء تسمى أقراء ، لكن العلماء أجمعوا على أن الثلاثة يجب أن تكون من أحد الجنسين . ثم اختلفوا فذهب الشافعي إلى أنها الأطهار ، ويروى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة ومالك وربيعة وأحمد في رواية . وقال عمر وعلي وابن مسعود : هي الحيض . وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى . وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها . وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ، أو من الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها . ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل ، وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو يمضي عليها وقت صلاة حجة الشافعي قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] أي في زمان عدتهن . وأجيب بأن معنى الآية مستقبلات لعدتهن كما تقول : « لثلاث بقين من الشهر » أي مستقبلاً لثلاث . وقيل : هذا يقوي استدلال الشافعي لأن قول القائل : « لثلاث بقين من الشهر » معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه . فمعنى الآية طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه . ولما كان الإذن حاصلاً بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة . وروي عن عائشة أنها قالت : هل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار .

ثم قال الشافعي : النساء بهذا أعلم . وأيضاً التركيب يدل على الجمع . وأكثر أحوال الرحم اجتماعاً واشتمالاً على الدم آخر الطهر ، إذ لو لم تمتلئ بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج . فمن أول الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، والآخر هو حال كمال الاجتماع فآخر الطهر هو القرء بالحقيقة . وأيضاً الاعتداد بالأطهار أقل زماناً من الاعتداد بالحيض ، فيلزم المصير إليه لأن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره حق الحبس والمنع . ولما كانت المدة أقل كان أقرب إلى هذا الأصل وأوفق له . وأيضاً الآية تدل على أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء خرجت عن العهدة فتكون متمكنة من الاعتداد بالأطهار التي مدتها أقل ، ومن الاعتداد بالحيض التي مدتها أكثر ، فيكون الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب . حجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم « دعي الصلاة أيام أقرائك » وقوله « طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان » ولأن الغرض الأصلي من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام ، ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة ، وفي تقليل مدة العدة تحليل بضعها للزوج الثاني . فالتكثير أحوط ولأن إطلاق طهر كامل على بعض الطهر خلاف الظاهر ، وإذا تعارضت الوجوه ضعفت الترجيحات ويكون حكم الله تعالى في كل أحد ما أدى اجتهاده إليه . وانتصاب { ثلاث قروء } على أنه مفعول به كقولهم « المحتكر يتربص الغلاء » أي يتربصن مضي ثلاثة قروء . أو على الظرفية أي مدة ثلاثة قروء . وإنما جاء المميز على جمع الكثرة دو القلة التي هي الأقراء للاتساع فإنهم يستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر ولهذا قال : { بأنفسهن } وما هي إلا نفوس كثيرة . وأيضاً فلعل القروء أكثر استعمالاً فنزلا القليل بمنزلة المهمل فيكون مثل قولهم « ثلاثة شسوع » . ثم إن أمر العدة لما كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء وعلى وضع الحمل في حق الحامل وكان الوصول إلى معرفة ذلك متعذراً على الرجال ، جعلت المرأة أمينة في العدة ، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها ، وهو عند الشافعي اثنان وثلاثون يوماً وساعة . لأنها إذا طلقت طاهراً فحاضت بعد ساعة ثم حاضت يوماً وليلة - وهو أقل الحيض - ثم طهرت خمسة عشر يوماً - وهو أقل الطهر - ثم حاضت مرة أخرى يوماً وليلة ، ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم ، فقد انقضت عدتها لحصول ثلاثة أطهار . فمتى ادعت هذا أو أكثر منه قبل قولها ، وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت سقوط الولد كان القول قولها لأنها على أصل أمانتها ولهذا قال سبحانه : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } فأكثر المفسرين قالوا : إن الكتمان راجع إلى الحبل والحيض معاً .

وذلك أن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما . أما كتمان الحمل فإذا كتمت الحمل قصرت مدة عدتها فتتزوج بسرعة ، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول ، وربما أحبت التزوج بزوج آخر وأحبت أن تلصق ولدها بالزوج الثاني . وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء ، فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول ، وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته ، فإذا حاضت أولاً فكتمته ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة ، وهكذا إن كتمت الحيضة الثالثة . وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها . وقيل : المراد النهي عن كتمان الحبل فقط لأن المخلوق في الأرحام هو الحبل لا الحيض ، ولأن حمل المعنى على ما هو شريف أولى لقوله تعالى { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] وقيل : المراد النهي عن كتمان الحيض لأن الآية وردت عقيب ذكر الأقراء ولم يتقدم ذكر الحمل . وقيل : يجوز أن يراد اللائي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك ، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه . وفي قوله { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } تعظيم لفعلهن ، وإن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم . وفيه أن من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد . الحكم الثاني للطلاق الحكم الثاني للطلاق : الرجعة وذلك قوله { وبعولتهن أحق بردهن } والبعل الزوج والجمع البعولة . والتاء لتأكيد التأنيث في الجماعة كصقورة . وليس هذا في كل جمع وإنما هو مقصور على السماع . ويقال للمرأة أيضاً بعل وبعلة كما يقال زوج وزوجة والبعل : السيد المالك . يقال : مَنْ بعل هذه الناقة؟ أي مَنْ ربها وصاحبها؟ ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قوله « بعل حسن البعولة » وعلى هذا فالمضاف محذوف أي أهل بعولتهن أحق بردهن برجعتهن . قال تعالى في موضع : { ولئن رددت إلى ربي } [ الكهف : 36 ] وفي موضع آخر { ولئن رجعت } [ فصلت : 50 ] فكأنه يردها من التربص إلى خلافه ، ومن الحرمة إلى الحل في ذلك أي في مدة التربص ، لأنه إذا انقضى ذلك الوقت بطل حق الرد والرجعة . وإنما تكون البعولة أحق عند الله تعالى برجعتهن إن أرادوا إصلاحاً لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن لا الضرار وتطويل العدة كما في قوله { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } فلو راجعها لقصد المضارة استوجب من الله العقاب ، وإن صحت رجعته شرعاً لأنا نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر . فإن قيل : كيف جعلوه أحق بالرجعة كأن للنساء حقاً فيها؟ فالجواب أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها فهذا هو المعنى بالأحقية أو نقول : إنهن إن كتمن ما في أرحامهن لأجل أن يتزوّج بهن آخر ، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن ، وإن ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ولهن من الحق على الرجال مثل الذي للرجال عليهن بالمعروف بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم .

والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب في كونهما من الحسنة لا في جنس الفعل . فإذا غسلت ثيابه أو خبزت لا يجب عليه أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال . قال أبو هريرة : « قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي النساء خير؟ قال : » التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخونه في نفسها وماله بما يكره « وفي حديث حجة الوداع » ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن « وعن ابن عباس أنه قال : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لقوله تعالى { ولهن مثل الذي عليهن } وقيل : معنى الآية ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان . { وللرجال عليهن درجة } زيادة في الحق وفضيلة وهي واحدة الدرجات الطبقات من المراتب . أصلها من درج الرجل . والضب يدرج دروجاً أي مشى ودرج أي مضى لسبيله . ودرج القوم إذا انقرضوا . وفي المثل » أكذب من دبَّ ودرج « أي أكذب الأحياء والأموات . وقد فضل الله الرجال على النساء في أمور : في العقل وفي الدية وفي الميراث وفي نصيبه من المغنم ، وفي صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة ، وفي أن له أن يتزوج عليها ويتسرى وليس لها ذلك ، وفي أن له أن يطلقها وإذا طلقها راجعها شاءت المرأة أم أبت ولا قدرة للمرأة على التطليق ولا على الرجعة فإذن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : » استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان « وفي خبر آخر » اتقوا الله الضعيفين اليتيم والمرأة « وذلك أن من كانت نعمة الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح ، واستحقاقه للزجر أشد ، وقيل : بل الغرض من الآية أن فوائد الزوجية هي السكن والازدواج والألفة والمودة واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة ، وكل ذلك مشترك بين الجانبين ، بل يمكن أن يقال : نصيب المرأة منها أوفر . ثم إن الزوج اختص بأنواع من الكلفة وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها ، فيكون وجوب الخدمة على المرأة أشد رعاية لهذه الحقوق الزائدة فيكون هذا كقوله تعالى { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم }

[ النساء : 34 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم « لو أمرت أحداً بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها » { والله عزيز حكيم } غالب لا يمنع مصيب في أفعاله ، وأحكامه لا يتطرق إليها احتمال العبث والسفه والغلط والباطل .
الحكم الثالث للطلاق : هو الطلاق الذي يثبت فيه الرجعة . وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له . فجاءت امرأة إلى عائشة فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك ، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { الطلاق مرتان } فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها . والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثلاث . وهذا تفسير من جوز الجمع بين الطلقات الثلاث وهو مذهب الشافعي وهو أليق بنظم الكلام لأنه تعالى بيّن في الآية الأولى أن حق الرجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة فكان ذلك كالمجمل أن العام فيفتقر إلى مبين أو مخصص ، فذكر عقيبه أن الطلاق المعهود السابق الذي يثبت فيه للزوج حق الرجعة هو أن يوجد طلقتان فقط ، فإذا وصلت التطليقة إلى هذه الغاية بطل حق الرجعة . والطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم . وقيل : إن هذا كلام مبتدأ والمعنى : أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } [ الملك : 4 ] أي كرة بعد كرة ، وقولهم « لبيك وسعديك » . وهذا التفسير قول من قال : الجمع بين الثلاث حرام . وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم ، ويؤكده العدول عن لفظ الأمر وهو « طلقوا مرتين أو دفعتين » إلى لفظ الخبر كما مر في قوله { والمطلقات يتربصن } ثم من هؤلاء من قال : لو طلقها ثنتين أو ثلاثاً لا يقع إلا واحدة وهذا هو الأقيس ، واختاره كثير من علماء أهل البيت لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود ومنهم من قال : - وهو اختيار أبي حنيفة - إنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع ويكون بدعة ، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه . وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد ، ومما يؤيد مذهب الشافعي حديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ، ومما يؤكد مذهب أبي حنيفة حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة .

وأما قول { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أي أمركم بعد الرجعة أو بعد معرفة كيفية التطليق أحد هذين . فالتسريح الإرسال والإطلاق والإمساك نقيضه . ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح ومعنى التسريح بإحسان قيل : هو أن يوقع عليها الطلقة الثالثة . روي أنه لما نزل قوله تعالى { الطلاق مرتان } قيل له صلى الله عليه وسلم : فأين الثالثة؟ فقال : هو قوله { أو تسريح بإحسان } وقيل : هو أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة . ويروى عن الضحاك والسدي وهو أقرب لولا الخبر الذي رويناه لأن الفاء في قوله { فإن طلقها } تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح . فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله { فإن طلقها } طلقة رابعة وإنه غير جائز . وأيضاً لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأقسام ، لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو قوله { فإمساك بمعروف } أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي عدتها وتحصل البينونة وهو قوله { أو تسريح بإحسان } أو يطلقها وذلك قوله { فإن طلقها } فلو جعلنا التسريح طلاقاً لزم إهمال أحد الأقسام وتكرير بعضها . وأما الحكمة في إثبات حق الرجعة فهي أن النعم مجهولة إذا فقدت عرفت ، فلو كانت الطلقة الواحدة مانعة عن الرجعة فربما ظهرت المحبة بعد المفارقة وعظمت المشقة . ثم إن إكمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلهذا ثبت حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ليجرب الإنسان أحوال قلبه ، فإن كان الأصلح له إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف ، وإن كان الأصلح تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهو أن يؤدي حقوقها المالية ، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها ، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رأفته بعبده .
الحكم الرابع من أحكام الطلاق : بيان الخلع وذلك قوله { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } وسبب ارتباط هذا بما قبله أنه تعالى لما أمر بالتسريح مقروناً بإحسان بيَّن عقيبه أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً مما أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها ، لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها إلا إذا فارقها على عوض ويدخل فيه النهي من أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء كما قال في سورة النساء { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } [ النساء : 19 ] والخطاب في قوله { ولا يحل لكم } للأزواج وفي قوله { فإن خفتم } للأئمة والحكام . ويجوز أن يكون الخطاب الأول أيضاً للأئمة لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون

« روي أن الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي . وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حبيبة بنت سهل الأنصارية ، كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه أشد البغض وكان يحبها أشد الحب . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : فرق بيني وبينه ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضاً إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً . فقال ثابت : مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها ، فقال لها : ما تقولين؟ قالت : نعم وأزيده . فقال صلى الله عليه وسلم : لا ، حديقته فقط . ثم قال لثابت : خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها » ففعل ، وكان ذلك أول خلع في الإسلام . ومعنى قوله { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية واختلفوا في مقدار ما يجوز به الخلع . فعن الشعبي والزهري والحسن وعطاء وطاوس أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي كرم الله وجهه لقوله تعالى { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } ثم قال : { فلا جناح عليهما } أي فلا جناح على الرجل فيما أخذ ، ولا عليها فيما أعطت . ومعنى { فيما افتدت به } فيما افتدت نفسها واختلعت به فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لا حديقته فقط . حين قالت جميلة : نعم وأزيده . ولأن ذلك إجحاف بجانب المرأة وضرار بالمرأة بعدما استبيح من بضعها ولهذا قال سعيد بن المسيب : لا يأخذ إلا دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له . وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا : الخلع عقد معاوضة فينبغي أن لا يتقدر بمقدار معين . فكما أن للمرأة عند النكاح أن لا ترضى إلا بالصداق الكثير ، فكذلك للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته ، ويتأكد هذا بما روي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال : كيف وجدت مبيتك؟ قالت : ما بت منذ كنت عنده أقر ليعين منهن . فقال عمر لزوجها : اخلعها ولو بقرطها أي حتى قرطها . ولهذا قال قتادة يعني بمالها كله . وقيل : هو من قولهم « خذه ولو بقرطي مارية » وذلك فيهما درّتان قيمتهما أربعون ألف دينار . ويصح الخلع في حالتي الشقاق والوفاق عند أكثر المجتهدين لقوله تعالى { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت ، كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى .

وذهب الزهري والنخعي وداود إلى أنه لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله كما في الآية ، وإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد . والجمهور على أنه لا كراهة في الخلع إن جرى في حال الشقاق ، أو كانت تكره صحبته لسوء خلقه أو دينه كما في الآية ، أو وقع وتحرجت عن الإخلال ببعض حقوقه لما بها من الكراهة فافتدت ليطلقها ، أو ضربها الزوج تأديباً فافتدت ، أو منعها حقها من النفقة وغيرها فافتدت لتتخلص منه وإن كان الزوج يكره صحبتها فأساء العشرة ومنعها بعض حقها حتى ضجرت وافتدت ، فالخلع مكروه وإن كان نافذاً والزوج مأثوم بما فعل . فالخلع المباح هو أن تكون المرأة بحيث تخاف الفتنة على نفسها والزوج يخاف أناه إذا لم تطعه اعتدى عليها . ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن كما سبق في قوله { فمن خاف من موصٍ جنفاً } [ البقرة : 182 ] ومن قرأ { إلا أن يخافا } على البناء للمفعول جعل { ألا يقيما } بدلاً من ألف الضمير بدل الاشتمال مثل « خيف زيد تركه إقامة حدود الله » ثم الفرقة الحاصلة على العوض إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق ، وإن لم يجر إلا لفظ الخلع فللشافعي فيه قولان : الجديد أنه طلاق ينتقص به العدد وإذا خلعها ثلاث مرات لم ينكحها إلا بمحلل ، ويروى هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة ومالك واختاره المزني ووجه بأنها فرقة لا يملكها غير الزوج فيكون طلاقاً كما لو قال : أنت طالق على كذا . ولأنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع . وإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يرد عليها المهر كالإقالة فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكراه . والقديم أنه فسخ لا ينتقص به العدد ويجوز تحديد النكاح بعد الخلع من غير حصر . ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس قالوا : لأنه لو كان طلاقاً وقد قال عقيب ذلك { فإن طلقها فلا تحل له من بعد } لكان الطلاق أربعاً ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت في مخالعته امرأته ولم يستكشف عن الحال مع أن الطلاق في زمان الحيض وفي الطهر الذي حصل الجماع فيه حرام ، ولما روى عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ولو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد { تلك } أي المذكورات من أحكام الطلاق { حدود الله فلا تعتدوها } فلا تتجاوزوا عنها { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } والظالم اسم ذم وتحقير . فوقوع هذا الاسم عليه يكون جارياً مجرى الوعيد .

وكيف لا والظالم ملعون { ألا لعنة الله على الظالمين } ثم إنه ظلم من الإنسان على نفسه حيث أقدم على المعصية ، وظلم على الغير أيضاً بتقدير أن لا تتم المرأة عدته أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها ، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان ، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة .
الحكم الخامس من أحكام الطلاق : بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة وذلك قوله { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } والسبب في إيقاع آية الخلع بين آية الرجعة وبين هذه بعد ما مر من مناسبتها للتسريح بإحسان ، هو أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة ، ومعنى الآية فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فلا تحل له من بعد ذلك التطليق حتى تنكح أي تتزوج غيره . والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج فيقال : فلانة ناكح في بني فلان أي لها زوج منهم . هذا عند من يفسر قوله { الطلاق مرتان } بالطلاق الرجعي . وأما عند من يفسره بأن التطليق الشرعي هو الذي يوقع على التفريق . فالمعنى عنده أنه إن طلقها الطلاق الموصوف بالتكرار في قوله { الطلاق مرتان } واستوفى نصابه { فلا تحل له من بعد } ذلك { حتى تنكح زوجاً غيره } . ومذهب جمهور المجتهدين أن النكاح ههنا بمعنى الوطء ، لأن قوله { زوجاً } يدل على العقد . وقد نقلنا هذا عن أبي علي فيما سلف في تفسير قوله { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] ويؤيد هذا « ما روي عن عائشة أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني . وإن ما معه مثل هدبة الثوب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » . كنى بالعسيلة عن لذة الجماع وإنما أنث لأن من العرب من يؤنث العسل . ويروى أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت فقالت : إنه قد كان مسني فقال لها : كذبت في قولك الأول فلن أصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت : أرجع إلى زوجي الأول فقال : قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال فلا ترجعي إليه . فلما قبض أبو بكر قالت مثله لعمر فقال : إن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك فمنعها . وأيضاً المقصود من توقيت حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يستفرش زوجته رجل آخر ولهذا قال بعض أهل العلم : إنما حرم الله على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن زوجاً غيره لما فيه من الغضاضة .

ومعلوم أن هذا الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول ، فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصلح جعله مانعاً وزاجراً . ثم قال الشافعي : إذا طلق زوجته واحدة أو ثنتين ثم نكحت زوجاً آخر وأبانها ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة وهي التي بقيت من الطلقات ، لأن هذه طلقة ثالثة من حيث إنها وجدت بعد طلقتين ، والطلقة الثالثة توجب الحرمة الغليظة ، وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثاً كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث وإذا تزوج الغير بالمطلقة ثلاثاً على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما فهذا متعة بأجل مجهول وهو باطل . ولو تزوجها بشرط أن يطلقها إذا أحلها للأول فقولان : أحدهما لا يصح ، والثاني يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة . ولو تزوجها مطلقاً مضمراً أنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به . وقال مالك وأحمد والثوري : هذا النكاح باطل . وحيث حكمنا بفساد النكاح فالوطء لا يقع به التحليل على الأصح . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « لعن المحلل والمحلل له » وعن عمر : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما . { فإن طلقها } أي الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة { فلا جناح عليهما } على المرأة المطلقة والزوج الأول في { أن يتراجعا } بنكاح جديد إلى ما كانا عليه من النكاح فهذا تراجع لغوي وظاهر الآية يقتضي أن يحل للزوج الأول هذا التراجع عقيب ما يطلقها الزوج الثاني من غير عدة بدلالة فاء التعقيب في قوله { فلا جناح عليهما } ولهذا ذهب سعيد بن المسيب إلى أن النكاح ههنا بمعنى العقد ، وأن التحليل يحصل بمجرد العقد لأن الوطء لو كان معتبراً لكانت العدة واجبة . والجواب أن الآية مخصوصة بقوله تعالى { والمطلقات يتربصن } { إن ظنا أن يقيما حدود الله } إن كان في ظنهما وفي عزيمتهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ، ولم يقل إن علما ، ولا يجوز أن يفسر الظن ههنا بالعلم لأن اليقين في الاستقبال مغيب عن الإنسان ، فإن لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالرجوع مذموم إلا أنه يصح شرعاً . من قرأ { نبينها } بالنون فمن طريقة الالتفات والنون للتعظيم ، ومن قرأ بالياء فظاهر وصيغة المضارع أريد بها ههنا الحال فلا إشكال . وجوز بعضهم أن يكون المراد بها الاستقبال ، وذلك أن النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يدخل فيها التخصيص وذلك يعرف بالسنة . فكان المراد - والله أعلم - إن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله ، وسيبينها الله على لسان نبيه كمال البيان فهو كقوله تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس }

[ النحل : 44 ] وإنما خص البيان بالعلماء لأنهم هم المنتفعون بذلك . ثم إنه تعالى لما بين الأحكام المهمة للطلاق استأنف لحكمي الإمساك والتسريح ببيانين آخرين في آيتين متعاقبتين ، لأن جملة الأمر في الطلاق يؤل إلى أحد هذين : الأول قوله سبحانه { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها . والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها . يقال لعمر الإنسان أجل ، وللموت الذي ينتهي به أجل ، ويتسع في البلوغ أيضاً يقال : بلغ البلد إذا شارفه وداناه ، ويقول الرجل لصاحبه : إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى يريد به مشارفة البلوغ . فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر ، ولأنه قد علم أن الإمساك بعد تقضي الأجل لا وجه له لأنها بعد تقضيه غير زوجة له وفي غير عدة منه فلا سبيل له عليها { فأمسكوهن بمعروف } راجعوها من غير توخي ضرار بالمراجعة { أو سرحوهن بمعروف } خلوها حتى تنقضي عدتها ونبين . ولما أمر بعد الطلاق بأحد الأمرين ، استأنف حكم كل منهما فقدم حكم الإمساك على طريقة النهي لا الأمر ، لأن المأمور يمتثل بمرة واحدة فلعله يمسكها بمعروف في الحال لكن في قلبه أن يضارها في الاستقبال ، والمنهي لا يمتثل إلا إذا انتهى في كل الأوقات فيكون أدل على الدوام والثبات فقال : { ولا تمسكوهن ضراراً } مضارة وتشمل موجبات النفرة والعداوة كلها ، وروي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها ، وهكذا يفعل بها في العدة تسعة أشهر أو أكثر . وقيل : الضرار سوء العشرة . وقيل : تضييق النفقة وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأفعال رجاء أن تختلع المرأة منه بماله . ومعنى قوله { لتعتدوا } أي لا تضاروهن ليكون عاقبة أمركم الاعتداء كقوله { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً } [ القصص : 8 ] أو لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن فتكونون متعمدين لتلك المعصية . وقيل : لتلجؤهن إلى الافتداء { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } بتعريضها لعقاب الله ، أو بتفويته عليها منافع الدنيا والدين . أما الدنيا فلأنه إذا اشتهر بتلك المعاملة لم يرغب في التزويج منه ولا في معاملته أحد ، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل وعلى الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } فمن أقربائه يجب طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصلت إليه هذه التكاليف المذكورة في أبواب العدة والرجعة والخلع وترك المضارة ولم يتشمر لأدائها كان كالمستهزئ بها . أو المراد لا تتهاونوا بتكاليف الله كما يتهاون بما يكون من باب الهزء والعبث . وعن أبي الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويعتق ويتزوج ويقول : كنت لاعباً . فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة » وروي « الطلاق والعناق والنكاح »

وعن عطاء : المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصراً عليه أو على مثله كان كالمستهزئ بآيات الله .
ثم إنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد رغبهم أيضاً في أدائها بأن ذكرهم أقسام نعمه عليهم . فبدأ أولاً بذكرها على الإجمال فقال : { واذكروا نعمة الله عليكم } وهذا يتناول كل نعمة لله على العبد في الدنيا والدين وقيل : المراد بها الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم خصص نعم الدين بالذكر لشرفها فقال : { وما أنزل عليكم } عطفاً على النعمة { من الكتاب والحكمة } من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها { يعظكم به } في محل النصب حالاً مما أنزل أو من فاعل « أنزل » . ويحتمل أن يكون { ما أنزل } الصلة والموصول مبتدأ ، وقوله { يعظكم به } خبراً { واتقوا الله } في أوامره ونواهيه { واعلموا أن الله بكل شيءٍ عليم } فيه وعد ووعيد وترغيب وترهيب الثاني : وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة قوله عز من قائل { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } بلوغ الأجل ههنا على الحقيقة . عن الشافعي : دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين { فلا تعضلوهن } لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن . وأصل العضل الضيق ومنه عضلت الدجاجة ، إذا نشب بيضها فلم يخرج ، وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت بهم لكثرتهم ، وأعضل الدواء الأطباء إذا أعياهم ، والعضلة اللحمة المتجمعة المكتنزة في عصبة . والخطاب للأزواج الذين يمنعون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً وقسراً ولحمية الجاهلية من أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن إذا تراضوا - اي الرجال والنساء - تراضياً واقعاً بينهم بالمعروف بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط كالعقد الحلال والمهر الجائز والشهود والعدول . وقيل : بمهر المثل وفرعوا عليه مسألة فقهية توافق مذهب أبي حنيفة وهي : أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فالنكاح صحيح لكن للولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر دفعاً للشين عن الأولياء ولأن نساء العشيرة يتضررن بذلك فقد يعتبر مهورهن بمهرها . وزعم كثير من المفسرين أن الخطاب في قوله { فلا تعضلوهن } للأولياء لما روى البخاري في صحيحه أن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس . فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقاً له رجعة ، ثم تركها حتى انقضت عدتها . فلما خطبت إلي أتاني يخطبها مع الخطاب فقلت له : خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها وزوجتك ثم طلقتها طلاقاً لك رجعة ، ثم تركتها حتى انقضت عدتها ، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب ، والله لا أنكحتهكها أبداً . قال : ففيَّ نزلت هذه الآية فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه . وعن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر فنزلت .

وأجيب بأن رعاية نظم كلام الله أولى من محافظة خبر الواحد ، ولا يخفى تفكك النظم لو قيل : « وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء » لأنه لا يبقى بين الشرط والجزاء مناسبة ، قالوا : ليس بعد انقضاء العدة قدرة للزوج على عضل المرأة . والجواب أنه قد يقدر على الظلم وقد يجعد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة ، أو يدس إلى من يخطبها بالوعيد والتهديد ، أو ينسبها إلى أمور تنفر الناس عنها . قالوا : { أن ينكحن أزواجهن } يدل على أن الأولياء كانوا يمنعونهن من العود إلى أولئك الذين كانوا أزواجاً لهن . والجواب أن العرب قد تسمي الشيء بما يؤل إليه . فالمراد من يردن أن يتزوّجنهم فيكونوا أزواجاً لهن . وقيل : الوجه أن يكون خطاباً للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين . ثم إن الشافعي تمسك بالآية في أن النكاح لا يجوز إلا بولي ، لأنه لو جاز للمرأة أن تزوج نفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادراً على عضلها من النكاح ، وهذا مبني على أن الخطاب في { لا تعضلوهن } للأولياء وفيه ما فيه . ولو سلم فلم يجوز أن يكون الاستبداد الشرعي حاصلاً لهن ، ولكن يمنعها الولي من بعض الجهات التي قلنا في الزوج . وأيضاً فثبوت العضل في حق الولي ممتنع لأنه مهما عضل انعزل ، وإذا انعزل لا يبقى لعضله أثر . وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى { أن ينكحن أزواجهن } على أن النكاح بغير ولي جائز ، وذلك أنه تعالى اضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره ، ونهى الولي عن منعها من ذلك . ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولي عن منعها منه ، ويتأكد هذا النص بقوله { حتى تنكح زوجاً غيره } وأجيب بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر فقد يضاف أيضاً إلى المتسبب مثل « بنى الأمير داراً » وإنما ذهبنا إلى هذا وإن كان مجازاً لدلالة الحديث على بطلان هذا النكاح هذا . وأما قوله { ذلك يوعظ به } فالخطاب فيه إما للرسول أو لكل أحد على الانفراد كما أن الخطاب في قوله في سورة الطلاق { ذلكم يوعظ به من كان } [ الطلاق : 2 ] للمكلفين مجموعين . وقوله { من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } تخصيص لهم بالوعظ لأنهم هم المنتفعون بذلك . ومن استدل بهذا على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة يكذبه التكاليف العامة كقوله { ولله على الناس حج البيت } وأيضاً لا يلزم من تخصيص العظة بالمؤمنين تخصيص التكليف بهم { ذلكم أزكى لكم } أي أنمى وهو إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم ، وأطهر أي من أدناس الآثام { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } لأن علمه تعالى فعلي كامل وعلمنا انفعالي ناقص .

فقد تخفى المصلحة والعاقبة علينا ، أو تشتبه المصلحة بالمفسدة فلا صلاح للمكلف إلا في طاعة علام الغيوب ليحوز سعادة الدارين والله ولي التوفيق .
التأويل : إنه سبحانه من كمال الكرم والاصطناع إذا صدر من العبد أمارات النشوز والانقطاع أمهله إلى انقضاء عدة الجفاء ، فلعله يعود إلى إقامة شرائط الوفاء ، وتتحرك داعية في صميم قلبه من نتائج محبة ربه ، إذ لم يكن له أن يكتم ما خلق الله في رحم قلبه من المحبة . وإن ابتلاه الله بمحنة الفرقة فيقرع بأصبع الندامة باب التوبة ، ويقوم على قدم الغرامة في طلب الرجعة والأوبة فيقال له من غاية الفضل والنوال : يا قارع الباب دع نفسك وتعال ، من طلب منا فلاحاً فليلزم عتبتنا مساء وصباحاً . { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهن مثل الذي عليهن } أي للعباد حق في ذمة الربوبية كما أن الله تعالى حقاً في ذمة عباده ، فإذا تقرب العبد إليه شبراً فالله أحق برعاية الحق فيقرب إليه ذراعاً . والفضل له على الإطلاق لا بدرجة بل بدرجات غير متناهية { والله عزيز } أعز من أن يراعي العباد مع عجزهم كمال حقوقه { حكيم } لا تقتضي حكمته أن يطالبهم بما ليس في وسعهم بل يقبل منهم القليل ويوفيهم الثواب الجزيل { الطلاق مرتان } يعني أن أهل الصحبة لا يفارقون بجريمة ولا جريمتين كما في قصة موسى والخضر . ثم في الثالثة إن سلكوا سبيل الهجران فلا يحل للإخوان أن يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقاً مثله ، فإن ندم بعد ذلك عن أفعاله وسام ذلك الصديق وأمثاله ورجع إلى صحبة أشكاله { فلا جناح } في التراجع { إن ظنا } فيه خيراً ولا يجوز لأحد من الإخوان أن يعضله من صحبة الأقران . وفيه أن الله تعالى يتجاوز عن زلات العبد مرة بعد أخرى ، فإذا أصر العبد ابتلاه بالخذلان وجعله قرين الشيطان كما قال : { ومن يعش عن ذكر الرحمن } [ الزخرف : 36 ] فإن طلق قرين الشيطان ورجع إلى باب الرحمن تداركه بالغفران والرضوان . وأما قوله { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } فإشارة إلى أنه ليس لأهل الصحبة - وإن اتفقت المفارقة - أن يستردوا خواطرهم عن الرفقاء بالكلية ، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه إلا أن يؤدي إلى مداهنة وإهمال حق من حقوق الدين { فلا جناح عليهما فيها افتدت به } كأن لم يكن بينهما صحبة { فإن الله سميع } بمقالتهم { عليم } بحالهم والله ولي التوفيق .
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

القراآت : { لا تضار } بضم الراء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة . الباقون بفتح الراء ولا خلاف في قوله { ولا يضار كاتبٌ ولا شهيد } [ البقرة : 282 ] بالفتح { ما أتيتم } مقصوراً : ابن كثير . الباقون بالمد { يتوفون } بفتح الياء وما بعده : المفضل . الباقون بضم الياء { النساء أو } بهمزتين : عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر . الباقون { النساء } وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة { النساء أو } . { تماسوهن } حيث وقعت : علي وحمزة وخلف . الباقون { تمسوهن } { قدره } بالتحريك : يزيد وابن ذكوان وروح وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون بالإسكان .
الوقوف : { الرضاعة } ط { بالمعروف } ط { وسعها } ج لاستئناف اللفظ مع قرب المعنى { مثل ذلك } ج { عليهما } ط لابتداء الحكم في استرضاع الأجنبية { بالمعروف } ط { بصير } ه { وعشراً } ج { بالمعروف } ط { خبير } ه { أنفسكم } ط { معروفاً } ط { أجله } ط لابتداء الأمر { فاحذروه } ج للفصل بين موجبي الخوف والرجاء ولهذا كررت كلمة « واعلموا » تقديره غفور حليم فارجوه والوقف أليق { حليم } ه { فريضة } ج لعطف المختلفتين { ومتعوهن } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ، لأن الجملة الثانية لتقدير المأمور في الأولى { قدره } الثاني ج لأن « متاعاً » مصدر « متعوهن » والوقف لبيان أنه غير متصل بما يليه من الجملتين العارضتين { بالمعروف } ج لأن « حقاً » يصلح نعتاً للمتاع أي متاعاً حقاً ، ويصلح مصدر المحذوف أي حق ذلك حقاً . { المحسنين } ط { النكاح } ط { للتقوى } ط { بينكم } ه { بصير } ه .
التفسير : الحكم الثاني عشر : الإرضاع والوالدات . قيل : هن المطلقات والمزوجات لأن ظاهر اللفظ مشعر بالعموم . وقيل : المطلقات ولهذا ذكرت عقيب آية الطلاق . وتحقيقه أنه إذا حصلت الفرقة استتبعت التباغض والتعاند المتضمن لإيذاء الولد ليتأذى الزوج ، وربما رغبت في التزوج بزوج آخر فيهمل أمر الطفل ، فندب الله تعالى الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم . وأيضاً إنه تعالى قال في الآية : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولو كانت الزوجية باقية لوجب ذلك للزوجية لا للرضاع ذكره السدي . وقال الواحدي في البسيط : الأولى أن يحمل على المزوجات في حال بقاء النكاح ، لأن المطلقة لا تستحق النفقة وإنما تستحق الأجرة ، ثم إن النفقة والكسوة تجبان في مقابلة التمكين ، فإذا اشتغلت بالإرضاع والحضانة لم تتفرغ لخدمة الزوج ، فلعل متوهماً يتوهم أن مؤنتها قد سقطت بالخلل الواقع في الخدمة فأزيل ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت بالإرضاع ويرضعن مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد ، وهذا الأمر على سبيل الندب بدليل قوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } [ الطلاق : 6 ] ولو وجب عليها الإرضاع لم تستحق الأجرة . وإنما كان ندباً من حيث إن تربية الطفل بلبن الأم أصلح ، ولأن شفقتها أكثر ، ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح ، وعند الشافعي يجوز ، فإذا انقضت عدتها جاز بالاتفاق .

========

ج6. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


وقد يفضي الأمر إلى الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار . { حولين } أي عامين ، والتركيب يدور على الانقلاب . فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني ، و { كاملين } توكيد كقوله { تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] فقد يقال : أقمت عند فلان حولين . وإنما أقام حولاً وبعض الآخر . وليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب لقوله تعالى بعد ذلك { لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الإرضاع ، أو اللام متعلقة بيرضعن كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء ، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه . ثم المقصود من ذكر التحديد قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاعة ، فإن أراد أحدهما أن يفطمه قبل الحولين ولم يرض الآخر لم يكن له ذلك . أما إذا اجتمعا على أن يفطما قبل تمام الحولين فلهما ذلك . وأيضاً فللرضاع حكم خاص في الشريعة وهو قوله صلى الله عليه وسلم « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » فيعلم من التحديد أن الإرضاع ما لم يقع في هذا الزمان لا يفيد هذا الحكم هذا هو مذهب الشافعي وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري . وعن أبي حنيفة أن مدة الرضاع ثلاثون شهراً . وقرئ { أن يتم الرضاعة } برفع الفعل تشبيهاً لأن بما لتآخيهما في التأويل أي في المصدر لأن كلمة « ما » ستارة تقع مصدرية فلا تنصب . وقرئ { الرضاعة } بكسر الراء .
{ وعلى المولود له } وعلى الذي يولد له وهو الوالد وله في عمل الرفع على الفاعلية لما عليهم في المغضوب عليهم . وإنما قيل : { المولود له } دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدت لهم ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات . وفيه تنبيه على أن الولد إنما يلحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه ما قال صلى الله عليه وسلم : « الولد للفراش » وفيه أن نفع الأولاد عائد إلى الآباء فيجب عليهم رعاية مصالحه كما قيل : كله لك فكله عليك . فعليهم رزقهن وكسوتهن إذا أرضعه ولدهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم تكن هذه المعاني مقصودة وذلك قوله { واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جاز عن والده شيئاً } [ لقمان : 33 ] { بالمعروف } تفسيره ما يتلوه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضار .

وأيضاً المعروف في هذا الباب قد يكون محدوداً بشرط وعقد ، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف ، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة ، إذ لو كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها ضرر من الجوع والعري ، ويتعدى ذلك الضرر إلى الولد . وفي الآية دليل على أن حق الأم أكثر من حق الأب لأنه ليس بين الأم والطفل واسطة ، وبين الأب وبينه واسطة ، فإنه يستأجر المرأة على الإرضاع والحضانة بالنفقة والكسوة .
والتكليف : الإلزام . قيل : أصله من الكلف وهو الأثر على الوجه . فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره . وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره . والوسع ما يسع الإنسان ولا يعجز عنه ولهذا قيل : الوسع فوق الطاقة . من قرأ { لا تضار } بالرفع فعلى الإخبار في معنى النهي ، ويحتمل البناء للفاعل والمفعول على أن الأصل تضار بكسر الراء ، أو تضار بفتحها . ومن قرأ بالفتح فعلى النهي صريحاً ، ويحتمل البناءين أيضاً . وتبيين ذلك أنه قرئ { لا تضارر } و { لا تضارر } بالجزم وكسر الراء الأولى وفتحها . ومعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الزرق والكسوة وأن تشغل قلبه بسبب التفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي : اطلب له ظئراً ونحو ذلك { ولا يضار مولودٌ له } امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من الرزق والكسوة ، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه ، أو يكرهها على الإرضاع . وهكذا إذا كان مبنياً للمفعول كان نهياً عن أن يلحق بها الضرر من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرر بالزوج من قبلها بسبب الولد . ويحتمل أن يكون تضار بمعنى تضر ، والباء من صلته أي لا تضر والدة بولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده أو تفرّط فيما ينبغي له ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يفرط في شأنها فتقصر هي في حق الولد . وإنما قيل : { بولدها } و { بولده } لأن المرأة لما نهيت عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وأنه ليس بأجنبي منها فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد .
قوله سبحانه { وعلى الوارث مثل ذلك } للعلماء فيه أقوال من حيث إنه تقدم ذكر الوالد والولد والوالدة واحتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى كل واحد من هؤلاء . فعن ابن عباس أن المراد وارث الأب ، وقوله { وعلى الوارث } عطف على قوله { وعلى المولود له رزقهن } وما بينهما تفسير للمعروف . فالمعنى وعلى وارث المولود مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة أي إن مات المولود ألزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور من العدل وتجنب الضرار .

وقيل : المراد وارث الولد الذي لو مات الصبي ورثه ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب ، وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي . ثم اختلفوا في أنه أيّ وارث هو؟ فقيل : العصبات دون الأم والأخوة من الأم وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم . وقيل : هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث ، عن قتادة وابن أبي ليلى . وقيل : وعلى الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى عن أبي حنيفة وأصحابه . وعند الشافعي لا نفقة فيما عدا الولاد أي الأب والابن . وقيل : المراد من الوارث هو الصبي نفسه فإنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه . وقيل : المراد من الوارث الباقي من الأبوين كما في الدعاء المروي « واجعله الوارث منا » أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة { فإن أرادا فصالاً } أي فطاماً وليس من باب المفاعلة وإنما هو ثلاثي على « فعال » كالعثار والإباق . وذلك أن الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات . وعن أبي مسلم أنه يحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأم إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ، ولم يرجع ضرر إلى الولد وليكن الفصال صادراً { عن تراضٍ منهما وتشاور } مع أرباب التجارب وأصحاب الرأي { فلا جناح عليهما } في ذلك زادا على الحولين لضعف في تركيب الصبي ، أو نقصاً . وهذه أيضاً توسعة بعد التحديد وذلك أن الأم قد تمل من الإرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل إعطاء الأجرة على الإرضاع فيطلب الفطام دفعاً لذلك لكنهما قد يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس فلهذا اعتبرت المشاورة مع غيرهما ، وحينئذٍ يبعد موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد ، وإن اتفقوا على الفطام قبل الحولين وهذا غاية العناية من الرب بحال الطفل الضعيف ، ومع اجتماع الشروط لم يصرح بالإذن بل رفع الحرج فقط . ولما بيّن حكم الأم وأنها أحق بالرضاع بيّن أنه يجوز العدول في هذا الباب عنها إلى غيرها فقال : { وإن أردتم أن تسترضعوا } أي المراضع أولادكم { فلا جناح عليكم } يقال : أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي بزيادة السين مفعولاً ثانياً كما تقول : أنجا لحاجة واستنجته إياها . فحذف أحد المفعولين للعلم به . وعن الواحدي : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم فحذف اللام للعلم به مثل { وإذا كالوهم أو وزنوهم } أي كالوا لهم أو وزنوا لهم . ومن موانع الإرضاع للأم ما إذا تزوجت بزوجٍ آخر ، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الإرضاع . ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الإرضاع ليتزوج بها زوج آخر .

ومنها أن تأبى المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق . ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها . فعند أحد هذه الأمور إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها ، فإن لم نجد مرضعة أخرى أو وجدنا ولكن لا يقبل الطفل لبنها فالإرضاع واجب على الأم . { إذا سلمتم } إلى المراضع { ما آتيتم } ما آتيتموه المرأة أي ما أردتم إيتاءه مثل { إذا قمتم إلى الصلاة } قرأ { ما أتيتم } بالقصر فهو من أتى إليه إحساناً إذا فعله كقوله تعالى { إنه كان وعده مأتياً } أي مفعولاً . وروى شيبّان عن عاصم { ما أوتيتم } أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، وليس التسليم شرطاً للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى . وفيه حث على أن الذي يعطي المرضعة يجب أن يكون يداً بيد حتى يكون أهنأ وأطيب لنفسها لتحتاط في شأن الصبي ، ولهذا قيد التسليم بأن يكون بالمعروف وهو أن يكونوا حينئذٍ مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن قطعاً لمعاذيرهن . ثم أكد الجميع بأن ختم الآية بنوع من التحذير فقال : { واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير } .
الحكم الثالث عشر : عدة الوفاة { والذين يتوفون } ومعناه يموتون ويقبضون قال : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر : 42 ] وأصل التوفي أخذ الشيء كاملاً وافياً . ويبنى للمفعول ومعناه ما قلنا ، وللفاعل ومعناه استوفى أجله ورزقه وعليه قراءة علي رضي الله عنه { يتوفون } بفتح الياء . والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفي - بكسر الفاء -؟ فقال : الله . وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو . فلعل السبب فيه أن ذلك الشخص لم يكن بليغاً وهذا المعنى من مستعملات البلغاء فلهذا لم يعتد بقوله ، وحمله على متعارف الأوساط { ويذرون } يتركون ولا يستعمل منه الماضي والمصدر استغناء عنهما بتصاريف ترك . والأزواج ههنا النساء { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر } مثل قوله { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] وقد مر . { وعشراً } أي يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام . وإنما قيل : { عشراً } ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها . قال في الكشاف : ولا نراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام . وقيل في سبب التغليب : إن مبدأ الشهر من الليل ، والأوائل أقوى من الثواني . وأيضاً هذه الأيام أيام الحزن ، وأيام المكروه خليقة أن تسمى ليالي استعارة ، أو المراد عشر مدد كل منها يوم بليلته . وذهب الأوزاعي والأصم إلى ظاهر الآية وأنها إذا انقضت لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج نقل عن الحسن وأبي العالية أنه تعالى إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة .

قلت : ولعل هذا من الأمور التي لا يعقل معناها كأعداد الركعات ونصب الزكوات ، وإنما الله ورسوله أعلم بذلك . وهذه العدة واجبة على كل امرأة مات زوجها إلا إذا كانت أمة فإن عدتها نصف عدة الحرة عند أكثر الفقهاء . وعن الأصم أن عدتها عدة الحرائر تمسكاً بظاهر عموم الآية ، وقياساً على وضع الحمل وإلا إذا كانت المرأة حاملاً فإنها إذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة لقوله تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] .
ولو زعم قائل أن ذلك في الطلاق فليعول على قصة سبيعة الأسلمية ، ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : « حللت فانكحي من شئت » . وعن علي رضي الله عنه أنها تتربص أبعد الأجلين . ولا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وذات الأقراء وغيرها والمدخول بها وغيرها . وقال ابن عباس : لا عدة عليها قبل الدخول . ورد بعموم الآية ، ولهذا أيضاً لم يفرق بين أن ترى المعتدة في المدة المذكورة دم الحيض على عادتها أو لا تراه خلافاً لمالك فإنه قال : لا تنقضي عدتها حتى ترعادتها من الحيض في تلك الأيام مثل التي كانت عادتها . فإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة يكفيها حيضة واحدة ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا يكفيها الشهور ، ثم مذهب الشافعي أنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة ، كما أن ذات الأقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط وتعتبر المدة بالهلال ما أمكن ، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي والباقي أكثر من عشرة أيام فتعد ما بقي وتحسب ثلاثة أشهر بعده بالأهلة وتكمل ذلك الباقي ثلاثين وتضم إليها عشرة أيام ، فإذا انتهت من اليوم الأخير إلى الوقت الذي مات فيه الزوج فقد انقضت العدة ، وإن كان الباقي دون عشرة أيام فتعده وتحسب أربعة أشهر بالأهلة وتكمل الباقي عشرة من الشهر السادس ، وإن كان الباقي عشرة أيام فتعتد بها وبأربعة أشهر بالأهلة بعدها ، وإن انطبق الموت على أول الهلال فتعتد بأربعة أشهر بالأهلة وبعشرة أيام من الشهر الخامس . واختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة؟ فعن بعضهم - ويوافقه جديد قول الشافعي - أنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه » وأيضاً فالنكاح معلوم بيقين فلا يزال إلا بيقين .

وقال الأكثرون : السبب هو الموت . فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ، والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها تكفي في انقضاء عدتها هذه المدة . ثم المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح بالإجماع ، والامتناع عن الخروج من المنزل إلا عند الضرورة والحاجة والإحداد ويعني به ترك التزين بثياب الزينة وترك التحلي والتطيب والتدهن والاكتحال بالإثمد ، ويحرم عليها أن تخضب بالحناء ونحو ذلك فيما يظهر من اليدين والرجلين والوجه . ولا منع منه فيما تحت الثياب ولا منع من التزين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت ومن التنظيف بغسل الرأس والامتشاط وقلم الأظفار والاستحداد ودخول الحمام وإزالة الأوساخ . والعدة تنقضي إن تركت الإحداد ولكنّها تعصي لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً » وعن الحسن والشعبي أنه غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه لكنه صلى الله عليه وسلم قال : « المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلى ولا تختضب ولا تكتحل » والممشقة المصبوغة بالمشق وهو الطين الأحمر . وقد يحتج بقوله { والذين يتوفون منكم } من قال : الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع وإلا لم يخص الخطاب في { منكم } بالمؤمنين . والجواب إنما خصوا بالخطاب لأنهم هم العاملون بذلك كقوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] مع أنه منذر للكل { ليكون للعالمين نذيراً } [ الفرقان : 1 ] { فإذا بلغن أجلهن } إذا انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد ، أو أيها الحكام وصلحاء المسلمين لأنهن إذا تزوجن في مدة العدة وجب على كل أحد منعهن عن ذلك ، فإن عجز استعان بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة الأمن من اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول . وقيل : معناه لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالتزين والتطيب ونحوهما مما تنفرد المرأة بفعله ، وفيه دليل على وجوب الإحداد بالمعروف بالوجه الذي يحسن عقلاً وشرعاً . وقد يحمل أصحاب أبي حنيفة الفعل ههنا على التزويج فيستدلونه به على جواز النكاح بلا ولي . بعد تسليم أن المراد من الفعل هو التزويج أن الفعل قد يسند إلى المسبب مثل « بنى الأمير داراً » وقد تقدم في قوله { أن ينكحن أزواجهن } [ البقرة : 232 ] ثم ختم الآية بالتهديد المشتمل على الوعيد فقال : { والله بما يعملون خبير } .
الحكم الرابع عشر : خطبة النساء وذلك قوله سبحانه { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } والتعريض ضد التصريح ومعناه أن تضمر كلامك كي يصلح للدلالة على المقصود وعلى غير المقصود إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح ، ولهذا قد يقال : إنه سوق الكلام لموصوف غير مذكور كما يقول المحتاج : جئتك لأنظر إلى وجهك الكريم .

ومنه قول الشاعر :
وحسبك بالتسليم مني تقاضياً ... وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ولهذا قيل : « إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب » وهو قسم من أقسام الكناية . والخطبة أصلها من الخطب وهو الأمر والشأن خطب فلان فلانة أي سألها أمراً وشأناً في نفسها . وكذا في الخطبة والخطاب فإن في كل منهما شأناً . ثم النساء على ثلاثة أقسام : أحدها : أن تجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً وهي الخالية عن الزوج والعدة إلا إذا كان قد خطبها آخر وأجيب إليه ، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم « لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه » فإن وجد صريح الإباء أو لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد فالأصح أنه يجوز خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا خلافاً لمالك . وثانيها : ما لا يجوز خطبتها تعريضاً ولا تصريحاً وهي منكوحة الغير ، لأن خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأمر على زوجها ، ولامتناع المرأة عن أداء حقوق الزوج إذا وجدت راغباً فيها ، وكذا الرجعية فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظهارها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان . وثالثها : ما يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية سواء كانت معتدة عن وفاة ، أو عن طلقات ثلاث ، أو عن طلقة بائنة كالمختلعة ، أو عن فسخ . وسبب ا لتحريم أنها مستوحشة بالطلاق فربما كذبت في انقضاء العدة بالأقراء مسارعة إلى مكافاة الزوج . وأما المعتدة عن وفاة فظاهر الآية يدل على أنها في حقها لأنها ذكرت عقيب آية عدة المتوفى عنها زوجها ، ثم إنه خص التعريض بعدم الجناح فوجب أن يكون التصريح بخلافه ، ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فالغالب أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها إلى الكذب . قال الشافعي : والتعريض كثير كقوله « رب راغب فيك » أو « من يجد مثلك » أو « لست بأيم » و « إذا حللت فأعلميني » . وعد آخرون من ألفاظ التعريض أو يقول لها : « إنك لجميلة » أو « صالحة » و « من غرضي أن أتزوج » و « عسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة » ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه . والتصريح أن يقول : إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك . وعن أبي جعفر محمد بن علي أنها دخلت عليه امرأة وهي في العدة فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام .

فقالت : غفر الله لك أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : إنما أخبرتك بقرابتي من نبي الله . قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده . فما كانت تلك خطبة { أو أكننتم في أنفسكم } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم ، لا معرّضين ولا مصرحين . أباح التعريض في الحال أولاً ثم أباح أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء العدة ، ثم ذكر الوجه الذي لأجله أباح التعريض فقال : { علم الله أنكم ستذكرونهن } لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لم يكد المرء يصبر عن النطق بما ينبئ عن ذلك فأسقط الله تعالى عنه الحرج . ثم قال : { ولكن } أي فاذكروهن ولكن { لا تواعدوهن سراً } والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه مما يسر . ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا . والمعنى لا تواعدوهن مواعدة سرية إلا مواعدة الإحسان إليها والاهتمام بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء مؤكداً لذلك التعريض . فالمواعدة المنهي عنها إما أن تكون المواعدة في السر بالنكاح فيكون منعاً من التصريح ، وإما المواعدة بذكر الجماع كقوله : إن نكحتك آنك الأربعة والخمسة . وعن ابن عباس أو كقوله : دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك . عن الحسن أو يكون ذلك نهياً عن مسارة الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة ، أو نهياً أن يواعدها أن لا تتزوج بأحد سواه . ويحتمل أن يكون السر صفة للموعود به أي لا تواعدوهن بشيء يوصف بكونه سراً إلا بأن تقولوا قولاً معروفاً وهو التعريض . وعن ابن عباس هو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره { ولا تعزموا عقدة النكاح } من عزم الأمر وعزم عليه . والعزم عقد القلب على فعل من الأفعال معناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح ، أو لا تعزموا عقدة النكاح أن تعقدوها ، وإذا نهى عن العزم فعن نفس الفعل أولى . وقيل : معنى العزم القطع أي لا تحققوا ذلك ولا توجبوه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل » وروي « لم يبيت الصيام » وقيل : لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح مثل عزمت عليك أن تفعل كذا . وأصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقوداً تشبيهاً بالحبل الموثق بالعقد { حتى يبلغ الكتاب أجله } المراد منه المكتوب أي تبلغ العدة المفروضة آخرها وانقضت ، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الفرض أي حتى يبلغ هذا التكليف نهايته .

وباقي الآية بيان موجبي الخوف والرجاء كما تقدم .
الحكم الخامس عشر : حكم المطلقة قبل الدخول وقبل فرض المهر وذلك قوله عز من قائل { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } واعلم أن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال ، وذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور . فإن كان مذكوراً فإن حصل الدخول استقر كله وعدتها ثلاثة قروء كما سبق ، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق كما يجيء في الآية التالية ، وإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فحكمها في هذه الآية وهو أن لا مهر لها ويجب لها المتعة ، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل قياساً على الموطوءة بالشبهة ، بل أولى لوجود النكاح الصحيح . وقد يستنبط حكمها من قوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } [ النساء : 24 ] ويحتمل أن يقال : هذه الآية تدل على أنه لا مهر للتي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها ، فيعرف من ذلك وجود المهر للممسوسة غير المفروض لها وللمفروض لها غير الممسوسة . وقد سلف حكم الممسوسة المفروض لها فتبين اشتمال القرآن على أحكام جميع الأقسام . فإن قيل : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح على المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك ، فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس . قلنا : لعل الآية وردت لبيان إباحة الطلاق على الإطلاق ، وهذا الإطلاق لا يصح إلا قبل المسيس إذ بعده يحتاج إلى أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، أو لعل « ما » بمعنى « التي » لا للمدة . والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن . ولا يلزم منه وجود الجناح في تطليق غيرهن ، أو المراد من الجناح في الآية لزوم المهر أي لا مهر عليكم ولا تبعة في تطليقهن ، فإن الجناح في اللغة الثقل يقال : جنحت السفينة إذا مالت بثقلها . ومما يؤكد ذلك أنه نفي الجناح ممدوداً إلى غاية هي إما المسيس أو الفرض . والجناح الذي ثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فحصل القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر . وأيضاً إن تطليق النساء قبل المسيس إما أن يكون قبل تقدير المهر أو بعده . وفي القسم الثاني أوجب نصف المفروض كما يجيء فيجب أن يكون المنفي في القسم الأول مقابل المثبت في الثاني . واتفقوا على أن المراد بالمسيس أو المماسة في الآية الجماع ، ولا يخفى حسن موقع هذه الكناية ، وفيه تأديب للعباد في اختيار أحسن الألفاظ للتخاطب والتفاهم . والفرض في اللغة التقدير أي تقدروا مقدراً من المهر .

ومعنى « أو » ههنا أن رفع الجناح منوط بعدم المسيس ، أو بعدم الفرض على سبيل منع الخلوة فقط ، ولهذا صح اجتماعهما في هذا الحكم . وقيل : إنها بمعنى الواو . وقيل : بمعنى « إلا أن » وقيل : بمعنى « حتى » والكل تعسف . ثم إنه تعالى لما بيّن أنها لا مهر لها قبل المسيس والتسمية ، ذكر أن لها المتعة فقال : { ومتعوهن } فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها واجبة نظراً إلى الأمر ، وأنه للوجوب ظاهراً وهو قول شريح والشعبي والزهري . وعن مالك : ويروى عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة لأنه تعالى قال في آخر الآية : { حقاً على المحسنين } فجعلها من باب الإحسان . ورد بأن لفظ « على » منبئ عن الوجوب . وكذا قوله { حقاً } وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعاً منقضياً ولهذا قيل : الدنيا متاع . ويسمى التلذذ تمتعاً لانقطاعه بسرعة . { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } أوسع الرجل إذا كان في سعة من ماله ، وأقتر ضده من القترة وهي الغبار ، فكأنه التصق بالأرض لضيق ذات يده . وقدره أي قدراً مكانه وطاقته فحذف المضاف ، أو قدره مقداره الذي يطيقه لأن ما يطيقه هو الذي يختص به . والقدر والقدر لغتان في جميع معانيهما ، وفي الآية دليل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبيّن أن الموسع يخالف المقتر . قال الشافعي : المستحب على الموسع خادم ، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً ، وعلى المقتر مقنعة . وعن ابن عباس أنه قال : أكثر المتعة خادم ، وأقلها مقنعة ، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة ، والنظر في اليسار والإعسار إلى العادة . وقال أبو حنيفة : المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، لأن حال المرأة التي سمي لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها . ثم لما لم يجب زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فهذه أولى . { متاعاً } تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الدين والمروءة ، وعلى قدر حال الزوج في الغنى والفقر ، وعلى ما يليق بالزوجة بحسب الشرف والوضاعة حق ذلك { حقاً على المحسنين } لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان ، أو من أراد أن يكون محسناً فهذا شأنه وطريقته ، أو على المحسنين إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى .
الحكم السادس عشر : حكم المطلقة قبل الدخول وبعد فرض المهر وذلك قوله سبحانه { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } الآية . واعلم أن مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر . وقال أبو حنيفة : الخلوة الصحيحة تقرر المهر وهي أن لا يكون هناك مانع حسي أو شرعي . فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائماً .

والشرعي كالحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق فرضاً كان أو نفلاً . وقوله { وقد فرضتم } في موضع الحال . ومعنى قوله { فنصف ما فرضتم } فعليكم نصف ذلك ، أو فنصف ما فرضتم ساقط أو ثابت { لا أن يعفون } أي المطلقات على أزواجهن فتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً؟ والفرق بين قولك « النساء يعفون » وبين « الرجال يعفون » هو أن الواو في الأول لام الفعل والنون ضمير جماعة النساء ولم يحذف منه شيء ، وإنما وزنه يفعلن والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل ، والواو في الثاني ضمير جماعة الذكور واللام محذوف ووزنه « يعفون » والنون علامة الرفع ، فقوله { أو يعفو } عطف على محل { أن يعفون } والذي بيده عقدة النكاح الولي وهو قول الشافعي ، ويروى عن الحسن ومجاهد وعلقمة . وقيل : الزوج وهو مذهب أبي حنيفة ويروى عن علي وسعيد بن المسيب . وكثير من الصحابة والتابعين قالوا : ليس للولي أن يهب مهر مولاته صغيرة كانت أو كبيرة . وأيضاً الذي بيد الولي هو عقدة النكاح ، فإذا عقد حصلت العقدة أي المعقودة كالأكلة واللقمة ، ثم هذه العقدة بيد الزوج لا الولي وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو . حجة الأولين أن الصادر عن الزوج هو أن يعطها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفواً اللهم إلا أن يقال : كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها . أو يقال : سماه عفواً على طريقة المشاكلة ، أو لأن العفو والتسهيل . فعفو الرجل هو أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة . حجة أخرى لو كان المراد به الزوج وقد قال أولاً : { وإن طلقتموهن } ناسب أن يقال : { إلا أن يعفون } أو تعفو على سبيل الخطاب أيضاً ، وأجيب بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة هو التنبيه على المعنى الذي لأجله يرغب في العفو . والمعنى إلا أن يعفون أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق ، وإن فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقاً بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها . ثم قال الشافعي : إذا ثبت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ، فهم منه أن النكاح لا ينعقد بدون الولي ، وذلك للحصر المستفاد من تقديم { بيده } على { عقدة النكاح } فتبين أنه ليس في يد المرأة من ذلك شيء { وأن تعفوا أقرب للتقوى } قيل : اللام بمعنى « إلى » والتقدير : العفو أقرب إلى التقوى . والخطاب للرجال والنساء جميعاً إلا أنه غلب الذكور لأصالتهم وكمالهم ، وإنما كان عفواً لبعض عن البعض أقرب إلى حصول معنى الاتقاء لأن من سمح بترك حقه تقرباً إلى ربه فهو من أن يأخذ حق غيره أبعد ، ولأنه إذا استحق بذلك الصنع الثواب فقد اتقى العقاب واحترز عنه { ولا تنسوا الفضل } لا تتركوا التفضل والتسامح فيما بينكم ، وليس نهياً عن النسيان فإن ذلك غير مقدور ، بل المراد منه الترك .

وذلك أن الرجل إذا تزوج المرأة فقد يتعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سبباً لتأذيها منه . وأيضاً إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرها من غير أن يكون قد انتفع بها صار ذلك سبباً لتأذيه منها ، فلا جرم ندب الله تعالى كلاً منهما إلى تطييب قلب الآخر ببذل كل المهر أو تركه وإلا فالتنصيف . عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوجها . فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كملاً فقيل له : لم تزوجتها؟ فقال : عرضها علي فكرهت رده . قيل : فلم بعثت بالصداق؟ قال : فأين الفضل؟ ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجري مجرى الوعد والوعيد على العادة المعلومة فقال : { إن الله بما تعملون بصير } .


حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

القراآت : { وصية } بالنصب : أبو عمر وابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب غير روبس . الباقون بالرفع .
الوقوف : { قانتين } 5 { أو ركباناً } ج لأن « إذا » في معنى الشرط مع فاء التعقيب { تعلمون } 5 { أزواجاً } ج لانقطاع النظم ومكان الحذف لأن التقدير فعليهم وصية أو فليوصوا وصية ، والوصل أجوز لاتصال المعنى فإن وصية أو وصية قام مقام خبر المبتدأ . { إخراج } ج { من معروف } ط { حكيم } 5 { بالمعروف } ط { المتقين } 5 { تعقلون } .
التفسير : الحكم السابع عشر : الصلاة ، وذلك أنه سبحانه لما بين للمكلفين ما بين من معالم الدين وشعائر اليقين أعقبها بذكر الصلاة التي تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى وزوال التمرد وحصول الانقياد لأوامره والانتهاء عن مناهيه تحصيلاً لسعادة الطرفين وتكميلاً لمصالح الدارين . وقد أجمع المسلمون على أن الصلوات المكتوبة خمس ، وفي الآية إشارة إلى ذلك لأن الصلوات جمع فأقلها ثلاث ، والصلاة الوسطى تدل على شيء زائد والإلزام التكرار ، وذلك الزائد لو كان الرابع لم يكن للمجموع وسطى فلا أقل من خمسة . والمراد بمحافظتها رعاية جميع شرائطها من طهارة البدن والثوب والمكان ، ومن ستر العورة واستقبال القبلة والإتيان بأركانها وأبعاضها وهيآتها والاحتراز عن مفسداتها من أعمال القلب وأعمال اللسان والجوارح . ومعنى المفاعلة في المحافظة إما لأنها بين العبد والرب كأنه قيل : احفظ الصلاة يحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة كقوله { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] وفي الحديث « احفظ الله يحفظك » وإما لأنها بين المصلي والصلاة فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن المناهي { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وحفظته عن الفتن والمحن { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] وكيف لا وفي الصلاة القراءة والقرآن شافع مشفع . في الخبر « تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان فتشهدان وتشفعان » و « إن سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه » .
وفي الصلاة الوسطى سبعة أقوال : الأول : أنه تعالى أمرنا بالمحافظة على الصلاة الوسطى ولم يبين لنا أنها أي الصلوات . وما يروى من أخبار الآحاد لا معوّل عليها فيجب أن تؤدى كلها على نعت الكمال والتمام ، ولعل هذا هو الحكمة في إبهامها ، ولمثل ذلك أخفى الله تعالى ليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، واسمه الأعظم في أسمائه ، ووقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفاً عازاماً على التوبة في كل الأوقات ، وهذا القول اختاره جمع من العلماء ، عن محمد بن سيرين أن رجلاً سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات كلها تصبها . وعن الربيع : أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظاً عليها ومضيعاً سائرهن؟ قال السائل : لا .

قال الربيع : فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الصلاة الوسطى . القول الثاني : أن الوسطى مجموع الصلوات الخمس ، فإن الإيمان بضع وسبعون درجة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطرق . والصلوات المكتوبات واسطة بين الطرفين . القول الثالث : أنها صلاة الصبح وهو قول علي وعمر وابن عباس وابن عمر وجابر وأبي أمامة . ومن التابعين قول طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد وهو مذهب الشافعي قالوا : إن هذه الصلاة تصلى في الغلس فبعضها في ظلمة الليل وآخرها في ضوء النهار . وأيضاً إن في النهار صلاتين : الظهر والعصر ، وفي الليل صلاتين : المغرب والعشاء ، والصبح متوسط بينهما . وأيضاً الظهر والعصر يجمعان في السفر وكذا المغرب والعشاء والفجر منفرد بينهما . قال القفال : وتحقيق هذا يرجع إلى ما يقوله الناس : فلان متوسط إذا لم يمل إلى أحد الخصمين وكان منفرداً بنفسه عنهما . وقد أقسم الله تعالى بها في قوله { والفجر وليالٍ عشر } [ الفجر : 1 ، 2 ] وأيضاً قال تعالى : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً } [ الإسراء : 28 ] واتفقوا على أن المراد منه صلاة الفجر فخصها في تلك الآية بالذكر للتأكيد وخص الصلاة الوسطى في هذه الآية بالذكر للتأكيد ، فيغلب على الظن أنهما واحد . وأيضاً قرن هذه الصلاة بذكر القنوت في قوله { وقوموا لله قانتين } وليس في المفروضة صلاة صبح فيها القنوت إلا الصبح . وأيضاً لا شك أنه تعالى أفردها بالذكر لأجل التأكيد والصبح أحوج الصلوات إلى ذلك ، ففيه ترك النوم اللذيذ واستعمال الماء البارد والخروج إلى المسجد في الوقت الموحش . وأيضاً الإفراد بالذكر ينبئ عن الفضل ، ولا ريب في فضيلة صلاة الصبح ولهذا جاء { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] وروي أن التكبيرة الأولى منها في الجماعة خير من الدنيا وما فيها . وخصت بالأذان مرتين : أولاهما قبل الوقت إيقاظاً للناس حتى لا تفوتهم ألبتة ، وخص أذانها بالتثويب وهو أن يقول بعد الجيعلتين : الصلاة خير من النوم . وإن الانسان إذا قام من منامه فكأنه صار موجوداً بعد العدم ، وعند ذلك يزول عن الخلائق ظلمة الليل وظلمة النوم والغفلة وظلمة الفجر والحيرة ، ويملأ العالم نوراً والأبدان حياة وعقلاً وقوةً وفهماً . فهذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية وإظهار الخضوع والاستكانة لفاطر السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور . وعن علي عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال : كنا نرى أنها الفجر . وعن ابن عباس أنه صلى الصبح ثم قال : هذه هي الصلاة الوسطى . القول الرابع : أنها صلاة الظهر ويروى عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، لأن الظهر كان شاقاً عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى . وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان فقال صلى الله عليه وسلم :

« لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم » فنزلت هذه الآية . وأيضاً ليس في المكتوبات صلاة وقعت وسط الليل والنهار إلا هذه ، وإنها صلاة بين صلاتين نهاريتين : الفجر والعصر وأنها صلاة بين البردين : برد الغداة وبرد العشي ، وإن أول إمامة جبرائيل كان في صلاة الظهر كما ورد في الأحاديث الصحاح ، وإن صلاة الجمعة مع ما ورد في فضلها تنوب عن الظهر لا عن غيرها . وعن عائشة أنها كانت تقرأ { والصلاة الوسطى وصلاة العصر } وكانت تقول : سمعت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيغلب على الظن أن المعطوف عليه العصر هو الظهر الذي قبله . وروي أن قوماً كانوا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى فقال : هي صلاة الظهر ، كانت تقام في الهاجرة . القول الخامس : أنها صلاة العصر ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، ومن الفقهاء النخعي وقتادة والضحاك وهو مروي عن أبي حنيفة أيضاً لما ورد من التأكيد فيه كقوله صلى الله عليه وسلم « من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » وقد أقسم الله بها في قوله { والعصر إن الإنسان لفي خسر } [ العصر : 1 ، 2 ] ولما يحتاج في معرفة وقتها إلى تأمل أكثر من حال الظهر . فالمغرب يعرف بغروب جرم الشمس ، والعشاء يعرف بغروب الشفق ، والفجر بطلوع الصبح الصادق ، والظهر بدلوك الشمس عن دائرة نصف النهار ، ولما في وقتها من اشتغال الناس بحوائجهم . وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق : « شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً » رواه البخاري وملسم وسائر الأئمة . وهو عظيم الموقع في المسألة . وفي صحيح مسلم « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر » وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب . وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف : إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أملي عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فأملت عليه { والصلاة الوسطى صلاة العصر } . القول السادس : أنها صلاة المغرب . عن قبيصة بن ذؤيب لأنها بين بياض النهار وسواد الليل ، ولأنها وسط في الطول والقصر . القول السابع : أنها صلاة العشاء لأنها متوسطة بين صلاتين لا تقصران : المغرب والصبح . ولما ورد في فضلها عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم « من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة »

وقال أهل التحقيق : القلب هو الذي في وسط الإنسان بل هو واسطة بين الروح والجسد فكأنه قيل : حافظوا على صورة الصلوات بشرائطها ، وحافظوا على معاني الصلوات وحقائقها بدوام شهود القلب للرب في الصلاة وبعدها . ثم إن الشافعي احتج بالآية على أن الوتر ليس بواجب وإلا كانت الصلوات ستاً فلم يبق لها وسطى . وهذا إنما يتم لو كان المراد الوسطى في العدد ، لكنه يحتمل أن يكون الوسطى في الفضيلة من قوله { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } [ البقرة : 143 ] أو الوسطى في الزمان وهو الظهر ، أو الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات فيتوسط بين الاثنتين والأربع ، أو الوسطى في الصفة كصلاة الصبح يتوسط بين صفتي الظلام والضياء { وقوموا لله قانتين } عن ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر لقوله تعالى { أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً } [ الزمر : 9 ] ولأن قوله { حافظوا على الصلوات } أمر بما في الصلاة من الفعل فيكون القنوت عبارة عن كل ما في الصلاة من الذكر . وعن الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل : قانتين أي مطيعين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « كل قنوت في القرآن فهو الطاعة » { ومن يقنت منكن لله ورسوله } [ الأحزاب : 31 ] { فالصالحات قانتات } [ النساء : 34 ] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها . وفيه زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما لا يجزى وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ، ولو كان كما قالوا وجب أن لا يصلي أصلاً لأنه تعالى كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا فكذلك لا يحتاج إلى القليل ، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل والسلف الصالح فأطالوا وخشعوا واستكانوا وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال وقيل : قانتين ساكتين . عن زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام . وعن مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف ، وكان أحدهم إذا صلى خاف ربه فلا يلتفت ، ولا يقلب الحصى ، ولا يبعث بشيء من جسده . ولا فحذف المفعول به للعلم به أو فإن حصل لكم خوف أو كنتم على حالة الخوف على أنه متروك المفعول { فرجالاً أو ركباناً } أي فصلوا راجلين أو راكبين . وقيل : المعنى فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالاً أو ركباناً . وعلى هذا فالآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام و الركوع والسجود . ورجالاً جمع راجل كقيام جمع قائم وتجار جمع تاجر ، أو جمع رجل يقال : رجل رجل أي راجل .

والركبان جمع راكب كفارس وفرسان . ولا يقال راكب إلا لمن كان على إبل ، فإن كان على فرس فإنما يقال له : فارس . لكن المراد في الآية أعم ، وتخصيص اللفظ بالركبان لأنه الغالب فيهم . واعلم أن صلاة الخوف ، إما أن تكون في غير حال القتال وسوف يجيء بيانها في سورة النساء إن شاء الله تعالى ، وإما أن تكون عند التحام القتال وهو المراد بهذه الآية . ومذهب الشافعي أنهم يصلون ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة ، ويقتصرون من الركوع والسجود على الإيماء إلا أنهم يجعلون السجود أخفض من الركوع ، ويحترزون عن الصيحان ، أنَّه لا ضرورة إليه بل الشجاع الساكت أهيب . وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر لأنه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق . وأجيب بأن الآية ناسخة لذلك الفعل . ويدخل في الخوف المفيد لهذه الرخصة الخوف في القتال الواجب كالقتال مع الكفار أو مع أهل البغي ، وفي القتال المباح كالدفاع عن النفس ، أو عن حيوان محترم ، أو عن المال . أما القتال المحظور فإنه لا يجوز فيه صلاة الخوف لأن الرخص لا تناط بالمعاصي والخوف الحاصل لا في القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع ، وكذا المطالب إذا كان معسراً خائفاً من الحبس عاجزاً عن بينة الإعسار يرخص أيضاً في هذه الصلاة لأن قوله { فإن خفتم } مطلق يتناول الكل { فإذا أمنتم } فإذا زال خوفكم { فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } من صلاة الأمن بقوله { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } كما بينه بشروطه وأركانه . والصلاة قد تسمى ذكراً { فاسعوا إلى ذكر الله } وقيل : فاذكروا الله أي فاشكروا الله لأجل إنعامه عليكم بالأمن . وقيل : فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه . وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن . و « ما » في { كما علمكم } إما مصدرية أو كافة .
الحكم الثامن عشر : عدة الوفاة بوجه آخر { والذين يتوفون منكم } الآية . من قرأ { وصية } بالرفع ف { وصية } مبتدأ وخبره { لأزواجهم } وجاز وقوع النكرة مبتدأ لتخصيصه بما تخصص منهم وصية ، أو وصية الذين يتوفون وصية ، أو الذين يتوفون أهل وصية إلى الحول ، وكل هذه الوجوه جائز حسن . ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير فليوصوا وصية أو يوصون وصية مثل « أنت سير البريد » أي أنت تسير سير البريد أو ألزم الذين يتوفون منكم وصية متاعاً نصب على المصدر على معنى فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعاً . والتقدير : جعل الله لهن ذلك متاعاً لأن ما قبله من الكلام يدل عليه ، أو نصب على الحال ، أو نصب بالوصية و { غير إخراج } نصب على المصدر المؤكد كقولك « هذا القول غير ما تقول » أو بدل من { متاعاً } أو حال من الأزواج أي غير مخرجات .

والمعنى أن حق الذين يتوفون منكم عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعده حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن . وأكثر المفسرين على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله { أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] أو نسخ ما زاد منه على هذا المقدار بالإرث الذي هو الربع والثمن لقوله صلى الله عليه وسلم « ألا لا وصية لوارث » وعن علي عليه السلام وابن عمر أن لها النفقة وإن كانت حائلاً . وأما السكنى فعند أبي حنيفة وأصحابه لا سكنى لهن وهو قول علي وابن عباس وعائشة ، واختاره المزني قياساً على النفقة في مقابلة التمكين ولا تمكين . وأما السكنى فلتحصين الماء وهو موجود ، وعند الشافعي لهن ذلك على الأظهر وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأم سلمة ، ووافقه مالك والثوري وأحمد . وبناء الخلاف على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما أنزلني بمنزل يملكه فقال : نعم . فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله . فحمل بعضهم الأمر الثاني على النسخ وآخرون على الاستحباب . وعن مجاهد أنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً وإن اختارت السكنى في داره والأخذ من ماله وتركته فعدتها الحول . قال : وإنما نزلنا الآية على هذين التقديرين لتكون كل واحدة منهما معمولاً بها . وعن أبي مسلم : إنكم تضيفون الوصية إلى حكم الله تعالى فيلزمكم القول بالنسخ ، ونحن نضيف الحكم إلى الزوج حتى يصير معنى الآية : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وقد وصوا وصية لأزواجهم بالنفقة والسكنى حولاً . فهذا المجموع شرط وجوابه فإن خرجن - أي قبل ذلك - وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف } أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة . والسبب فيه أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً ، وكانوا يوجبون على المرأة الاعتداد بالحول ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب . ويؤكده ما روت زينب بنت أبي سلمة قالت : سمعت أمي أم سلمة تقول : « جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » لا مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول « .

قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً أي بيتاً صغيراً ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيباً حتى يمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتقتض به . قال مالك : أي تمسح به جلدها فقلما تقتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد بما شاءت من طيب أو غيره ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين والإقدام على النكاح . ومن قطع نفقتهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول ومن ترك منعهن من الخروج لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها . وإنما قال ههنا { من معروف } منكراً لأن المراد بوجه من الوجوه التي لهن أن يأتينه . وأما في الآية السابقة فإنه أراد بالوجه المعروف من الشرع . ويمكن أن يقال : إن تلك الآية متأخرة في النزول عن هذه بإجماع المفسرين فلهذا نكر أولاً ، ثم عرف لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة قال سبحانه : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } [ المزمل : 16 ] .
الحكم التاسع عشر : { وللمطلقات متاع } عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المذكورة في الحكم الخامس عشر . وروي أنها لما نزلت { ومتعوهن } إلى قوله { متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين } قال رجل من المسلمين : إن أحسنت فعلت فإن لم أرد ذلك لم أفعل فنزلت هذه الآية أي حقاً على من كان متقياً عن الكفر والمعاصي واعلم أن المطلقات قسمان : مطلقة قبل الدخول فلها المتعة إن لم يفرض لها مهر كما مر في الحكم الخامس عشر ، وإن فرض لها مهر فلا متعة لها وحسبها نصف المهر لأنه تعالى اقتصر على ذلك ولم يذكر المتعة فهي مستثناة من عموم هذه الآية . ومطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أم لم يفرض . واختلفوا في استحقاقها المتعة . فالقديم من قول الشافعي وبه قال ابو حنيفة ، لا متعة لها لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض وقبل الدخول . وفي الجديد لها المتعة وهو قول علي وابنه الحسن وابن عمر لعموم الآية ، ولقوله تعالى { فتعالين أمتعكن } [ الأحزاب : 28 ] وكان ذلك في حق نساء دخل بهن النبي . وليست كالمطلقة المذكورة لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة عوض ، وهذه استحقت الصداق في مقابلة استباحة البضع فيجب لها المتعة للإيحاش . وعن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري أنها واجبة لكل مطلقة تمسكاً بظاهر عموم الآية . وقيل : المراد بهذا المتعة النفقة في العدة بدليل { متاعاً إلى الحول } والله أعلم .


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

القراآت : { فيضاعفه } بالألف والنصب : عاصم غير المفضل وسهل « فيضعفه » بالتشديد والنصب : ابن عامر ويعقوب غير روح . فيضعفه بالتشديد والرفع : ابن كثير ويزيد وروح . الباقون فيضاعفه بالألف والرفع وكذلك في سورة الحديد { ويبصط } بالصاد : ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير الخزاعي عن ابن فليح ، وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل ، وسهل وعاصم وابن ذكوان وغير ابن مجاهد والنقاش وشجاع وعلي الحلواني من قالون مخير . الباقون بالسين .
الوقوف : { الموت } ص { أحياهم } ط { لا يشكرون } 5 { عليم } 5 { كثيرة } ط { ويبسط } ص { ترجعون } 5 .
التفسير : قد جرت عادته سبحانه أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص اعتباراً للسامعين ليحملهم ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ومزيد الخضوع والانقياد فقال : { ألم تر } وفيه تقرير لمن سمع بقصتهم ووقف على أخبار الأولين وتعجيب من حالهم . ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب ، أو تكون الرؤية بمعنى العلم والمعنى : ألم ينته علمك ولهذا عدي بإلى . وعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية ، ويجوز أن يقال : كان العلم بها سابقاً على نزول هذه الآية ، ثم إنه تعالى أنزل الآية على وفق ذلك . روي أن أهل داوردان - قرية قبل واسط - وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه . ويروى أن حزقيل النبي الذي يقال له : ذو الكفل مر عليهم بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب مما رأى فأوحى إليه : أتريد أن أريك كيف أحيهم؟ فقال : نعم فقيل له : ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي . فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام . ثم أوحى الله إليه : نادها إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً فصارت لحماً ودماً . ثم نادها إن الله يأمرك أن تقومي فقامت . فلما أحياهم كانوا يقولون : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت . ثم رجعوا إلى قومهم بعد حياتهم ، وكانت تظهر أمارات الموت في وجوههم إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم . وعن ابن عباس أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال فخافوا القتال فهربوا وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء ، فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء . فأماتهم الله بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا . وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم الحظائر وأحياهم الله تعالى بعد الثمانية ، فبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم وقيل : إن حزقيل النبي ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا فأرسل الله تعالى عليهم الموت ، فلما كثر فيهم الموت خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فلما رأى حزقيل ذلك قال : اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يخرجون عن قبضتك .

فأرسل الله عليهم الموت فلما رآه عليه السلام ضاق قلبه فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى . أما قوله سبحانه { وهم ألوف حذر الموت } ففيه دليل على الألوف الكثيرة ولكنهم اختلفوا . فقيل : عشرة آلاف ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : سبعون . وعن بعضهم أن الألوف جمع آلف كقعود جمع قاعد أي خرجوا وهم مؤتلفو القلوب ، وزيف بأن ورود الموت عليهم وفيهم كثرة يفيد مزيد اعتبار بحالهم بخلافهم لو كانوا نفراً يسيراً . فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة فكوروده على قوم بينهم اختلاف كثير في أن وجه الاعتبار لا يتغير ، وقد يوجه بأن المراد إلفهم بالدنيا ومحبتهم لها فأهلكوا ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه عن الفوت . و { حذر الموت } مفعول لأجله . { فقال لهم الله موتوا } معناه فأماتهم وجيء بهذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد ، وأنها خارجة عن العادة ولا أمر ولا قول كما مر في قوله { سبحانه إذا قضى أمر فإنما يقول له كن فيكون } [ مريم : 35 ] ويدل عليه قوله { ثم أحياهم } وإذا صح الإحياء بلا قول فكذا الإماتة . ويحتمل أنه تعالى أمر الرسول بأن يقول لهم موتوا . والظاهر أنهم لم يكونوا رأوا عند الموت من الأهوال والأحوال ما تصير بها معارفهم ضرورية ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة . وقال قتادة : إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم . { إن الله لذو فضلٍ على الناس } تفضل عليهم بأن خرجوا من الدنيا على المعصية فأعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي ، وتفضل على منكري المعاد باقتصاص خبرهم ليستبصروا ويعتبروا ، وذلك أن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن وإلا لما وجد أولاً ، وإذا كان ممكناً في نفسه ، وقد أخبر الصادق بوجوده وجب القطع به . وفي القصة تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأن الموت إذا لم ينفع منه الفرار فأولى أن يكون في سبيل الله ، ولهذا أتبعت بقوله { وقاتلوا في سبيل الله } ثم إن كان هذا الأمر خطاباً للذين أحياهم على ما قال الضحاك أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد ، فلا بد من إضمار تقديره ، وقيل لهم : قاتلوا . وإن كان استئناف خطاب للحاضرين على ما هو اختيار الجمهور من المفسرين فلا إضمار ، وفيه ترغيب وإرهاب كيلا ينكص على عقبيه محب للحياة بسبب خوف الموت فإن الحذر لا يغني عن القدر . { واعلموا أن الله سميع عليم } يسمع ما يقوله القاعدون والمجاهدون ويعلم ما يضمرونه وهو من وراء الجزاء .

ولما أمر المكلفين بالقتال في سبيل الله أردف ذلك بقوله { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } أي في باب الجهاد ، كأنه ندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد ، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد . و « ذا » في { من ذا } إما زائدة و « من » استفهام في موضع الرفع ، و « الذي » مع صلتها خبره أو موصولة و « الذي » بدلها أو اسم إشارة خبر « من » و « الذي » نعت له ، أو بدل منه . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون « من » و « ذا » بمنزلة اسم واحد كما كانت « ماذا » لأن « ما » أشد إبهاماً من « من » إذا كانت « من » لمن يعقل . وقد بني الكلام على طريقة الاستفهام لأن ذلك أدخل في الترغيب والحث على الفعل من ظاهر الأمر . وقيل : إن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله ، وإنما ورد مستأنفاً في الإنفاق إما على الإطلاق وهو الأليق بعموم لفظ القرض ، وإما الواجب منه لأن قوله { وإليه ترجعون } كالزجر . وهو إنما يليق بالواجب ، وأما غير الواجب لأن القرض بالتبرع أشبه وهذا قول الأصم . وقد يروى عن بعض أصحاب ابن مسعود أن المراد من هذا القرض هو قول الرجل « سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر » . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة » ويشبه أن يكون الفقير الذي لا يملك شيئاً إذا كان في قلبه أنه إذا قدر أنفق وأعطى ، قامت تلك النية مقام الإنفاق . وعن الزجاج أن لفظ القرض حقيقة في كل ما يفعل ليجازى عليه . وأصل القرض القطع ومنه المقراض والانقراض لانقطاع الأثر ، ومن أقرض فكأنما قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها . وقيل : إن لفظ القرض في الآية مجاز ، فإن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله محال ، ولأن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا بالمثل وهنا يضاعف ، ولأن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكاً له وههنا المال المأخوذ ملك الله . ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله تعالى قرضاً تنبيهاً على أن ذلك لا يضيع عند الله . فكما أن القرض يجب أداؤه ولا يجوز الإخلال به فكذا الثواب المستحق على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة . وقوله { قرضاً حسناً } يحتمل كونه اسم مصدر وكونه مصدراً بمعنى الإقراض .

ومعنى كونه حسناً حلالاً خالصاً لا يختلط به الحرام ولا يشوبه منٌ ولا أذى ولا يفعله رياء وسمعة ، وإنما يفعله خالصاً لوجه الله تعالى .
و { أضعافاً } نصب على الحال أو على المفعول الثاني إن ضمن ضاعف معنى صير ، ويجوز أن يكون مصدراً لأن الضعف وإن كان اسماً إلا أنه قد يقع موقع المصدر كالعطاء فإنه اسم للمعطى ، وقد يستعمل بمعنى الإعطاء قال القطامي :
أكفراً بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا؟
وإنما جاز جمع المصدر بحسب اختلاف أنواع الجزاء لاختلاف الإقراض في المقدار والإخلاص وغير ذلك . والضعف المثل ، والتضعيف والأضعاف والمضاعفة كلها الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر . قيل : الواحد بسبعمائة . وعن السدي أن هذا التضعيف لا يعلم أحدكم هو وما هو ، وإنما أبهمه الله تعالى لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود { والله يقبض ويبسط } يقتر على عباده ويوسع فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيقة بالسعة . وأيضاً من كتب له الفقر فليس له إلا ذلك سواء أنفق أو لم ينفق ، ومن كتب له الغنى فليس له إلا ذلك . فعلى التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى . وإذا علم المكلف أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي اعتماده على الله ، فحينئذٍ يسهل عليه الإنفاق في مرضاة الله . ويحتمل أن يكون المعنى : والله يقبض بعض القلوب حتى لا يقدم على هذه الطاعة ، ويبسط بعضها حتى يسهل عليه البذل وصرف المال . { وإليه ترجعون } فيجازيكم بحسب ما قدمتم من أعمال الخير و الله ولي التوفيق وإليه انتهاء الطريق .


أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

القراآت : { عسيتم } بكسر السين حيث كان نافع . الباقون بالفتح . وزاده بالإمالة : حمزة ونصير وابن مجاهد والنقاش عن ابن عباس وذكوان . { بصطه } بالصاد : أبو نشيط والشموني غير النقاد ، وكذلك { بباصط } [ المائدة : 28 ] { ويبصط الرزق } [ الرعد : 26 ] { ولا تبصطها كل البصط } [ الإسراء : 29 ] { فما اصطاعوا } [ الكهف : 97 ] وما أشبه ذلك { مني إلا } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . الباقون بالسكون . { غرفة } بفتح العين : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو . الباقون بالضم { هو والذين } بالإدغام روى ابن مهران ومحمد العطار عن أبي شعيب وشجاع وكذلك ما أشبهها { فئة ومئة } وبابهما غير مهموزتين : يزيد وشموني وحمزة في الوقف { دفاع الله } وكذلك في سورة الحج : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب . الباقون { دفع الله } .
الوقوف : { من بعد موسى } م لأنه لو وصل صار « إذ » ظرفاً لقوله « ألم تر » وهو محال { في سبيل الله } ط { ألا تقاتلوا } ط { وأبنائنا } ط { تعظيماً } لابتداء أمر معظم { منهم } ط { بالظالمين } 5 { ملكاً } ط { من المال } ط { والجسم } ط { من يشاء } ط { عليم } 5 { الملائكة } ط { مؤمنين } 5 { بالجنود } لا لأن « قال » جواب لما { بنهر } ج للابتداء بالشرط مع الفاء { فليس مني } ج للابتداء بشرط آخر اتحاد المقصود { بيده } ج لعطف المختلفين { منهم } ط تعظيماً لابتداء أمر معظم { معه } ( لا ) لأن « قالوا » جواب لما { وجنوده } ط { ملاقو الله } ( لا ) لأن ما بعده مفعول « قال » { بإذن الله } ط { الصابرين } 5 { الكافرين } 5 ط لأن ما قبله دعاء وما بعده خبر ماضٍ يتصل بكلام طويل بعده ولا وقف على « بإذن الله » لاتصال اللفظ واتساق المعنى فإن الهزيمة كانت من قتل داود جالوت { مما يشاء } ط { العالمين } 5 .
التفسير : القصة الثانية قصة طالوت ، والملأ اسم جماعة من الناس كالقوم والرهط لأنهم يملؤن العيون هيبةً ، أو لأنهم ملأى بالأحلام والآراء الصائبة وجمعه أملاء . قال : وقال لها الأملاء من كل معشر . وخير أقاويل الرجال سديدها . قال الزجاج : الملأ الرؤساء سموا بذلك لأنهم ملؤا بما يحتج إليه من كفايات الأمور وتدبيرها من قولهم « ملؤ الرجل ملاءة فهو ملؤ » إذا كان مطيقاً له ، لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون . والغرض من إيراد هذه القصة عقيب آية القتال ، ترغيب المكلفين على الجهاد وأن لا يكونوا كمن أمروا بالقتال فخالفوا وظلموا { إذ قالوا لنبيٍ لهم } لم يحصل العلم بذلك النبي وبأولئك الملأ من الخبر المتواتر ، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن . لكن المقصود وهو الحث على الجهاد حاصل . منهم من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم هو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف لقوله تعالى { من بعد موسى } ولكنه لا يلزم منه حصوله من بعده على الاتصال .

والأكثرون على أنه أشمويل واسمه بالعربية إسماعيل . وعن السدي هو شمعون سمته أمه بذلك لأنها دعت الله أن يرزقها إياه فسمع دعاءها فسمته شمعون . والسين تصير شيناً بالعبرانية وهو من ولد لاوى بن يعقوب . { ابعث لنا ملكاً } أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وتنتظم به كلمتنا . وكان قوام بين إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ويجري الأحكام ، ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم ويأتيهم بالخبر من ربهم { نقاتل في سبيل الله } بالنون والجزم على الجواب وهي القراءة المشهورة . وقرئ بالنون والرفع على أنه حال أي ابعث لنا ملكاً مقدرين القتال ، أو استئناف كأنه قال لهم . ما تصنعون بالملك؟ فقالوا : نقاتل . وقرئ « يقاتل » بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة ل { ملكاً } و { هل عسيتم } خبره { أن لا تقاتلوا } والشرط فاصل بينهما ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور أي إن كتب عليكم القتال فهل يتوقع منكم الجبن والخور؟ وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه { وما لنا ألا نقاتل } قال المبرد : « ما » نافية أي ليس لنا ترك القتال . والأكثرون على أنه للاستفهام ، وأورد عليه أنه خلاف المشهور فإنه لا يقال : ما لك أن لا تفعل كذا ، وإنما يقال : مالك لا تفعل . فعن الأخفش أن « أن » زائدة أي ما لنا لا نقاتل . ورد بأن الزيادة خلاف الأصل ولا سيما في كلام رب العزة . وعن الفراء أن الكلام محمول على المعنى لأن قولك « ما لك لا تقاتل » معناه ما منعك أن تقاتل ، فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال « أن » فيه . وعن الكسائي : واستحسنه الفارسي أن التقدير أيّ شيء لنا وأيّ داع أو غرض في ترك القتال فسقطت كلمة « في » على القياس { وقد أخرجنا } أي وحالنا أنا أخرجنا من ديارنا بالسبي والقهر على نواحيها ، ومن بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر منه الاجتهاد في قمع عدوّه . روي أن قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين . وههنا محذوف التقدير : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال . { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم } وهم الذين عبروا النهر وسيأتي ذكرهم وأنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر علىعدد أهل بدر . { والله عليم بالظالمين } وعيد لهم ولكل مكلف في الإسلام على القعود عن القتال . وأي وعيد أبلغ من أن وضع الظالمين موضع الضمير العائد إليهم .
قوله سبحانه { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } طالوت اسم أعجميّ كجالوت وداود ، امتنع من الصرف للعلمية والعجمة المعتبرة .

وقد يمكن تكلف اشتقاقه من الطول لما يجيء من وصفه بالبسطة في الجسم ، وقد يوافق العبراني العربي . و { ملكاً } نصب على الحال ، أو التمييز ، أو مفعول ثانٍ على أن بعث بمعنى صير . وفي الآية تقرير لتوليهم وتأكيد لذلك ، فإن أولى ما تولوا هو إنكارهم أمر النبي المبعوث إليهم بالتماسهم وذلك أنهم { قالوا أنى يكون } كيف ومن أين يصح ويصلح { له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال } الواو الولى للحال ، والثانية للعطف . فانتظمت الجملتان في سلك الحالية . استبعدوا تملكه من وجهين : الأول : أن النبوة كانت في سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون ، والملك كان في سبط يهوذا ومنه داود وسليمان ، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين بل كان من ولد بنيامين . الثاني : أنه كان فقيراً ولا بد للملك من مال يعتضد به . فعن وهب أنه كان دباغاً . وعن السدي أنه كان مكارياً . وقال الآخرون : كان سقاء فأزيلت شبهتهم بوجوه : الأول : { قال إنّ الله اصطفاه عليكم } اختاره دونكم واستخلصه من بينكم وأمره عليكم ، ولا اعتراض لأحد على حكم الله . وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكاً فأُتي بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت . الثاني : { وزاده بسطة في العلم والجسم } طعنوا فيه بنقصان الجاه والمال فقابلهما الله تعالى بوصفين العلم والقدرة وأنهما أشد مناسبة لاستحقاق الملك من النسب والمال ، لأن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية دونهما وبالعلم والقدرة يتوسل إلى الجاه والمال ولا ينعكس ، والعلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لحق الإنسان ، والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان وأنهما لا يمكن سلبهما عن ذات الإنسان بخلافهما . وإن العالم بأمر الحروب ذا القوة والبطش يكون الانتفاع به في مصالح البلاد والعباد أتم من النسيب الغني إذا لم يكن له علم يضبط المصالح وقدرة على دفع الأعداء . والظاهر أن المراد بالبسط في العلم هو حذقه فيما طلبوه لأجله من أمر الحرب ، ويجوز أن يكون عالماً في الديانات وبغيرها . وذلك أن الملك ينبغي أن يكون عالماً وإلا كان مزدري غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً يملأ العين مهابة وحشمة . والبسطة السعة والامتداد وطول القامة . روي أنه كان يفوق الناس برأسه ومنكبيه . وقيل : المراد منه الجمال وكان أجمل بني إسرائيل . والأظهر أن يراد بها القوة لأنها المنتفع بها في دفع الأعداء لا الطول والجمال . الوجه الثالث : { والله يوتي ملكه من يشاء } فالملك له والعبيد له والمالك إذا تصرف في ملك نفسه فلا اعتراض لأحد عليه . الوجه الرابع : { والله واسع عليم } فإذا فوض الملك إليه فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال فتح عليه باب الرزق ويوسع عليه .

قوله عز من قائل { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } الآية . اعلم أن ظاهر قوله تعالى { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً } يدل على أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إنه لما قال : { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } كان هذا دليلاً قاطعاً على أنه ملك ، لكنه تعالى لكمال رأفته بالمكلفين ضم إلى ذلك الدليل دليلاً آخر دل على صدق النبي ، وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز . ولهذا كثرت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات موسى وعيسى عليهما السلام . ثم إن مجيء التابوت لا بد أن يقع على وجه يكون خارقاً للعادة حتى يصح أن يكون معجزة وآية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى . فقيل : إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثوه إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره . وكان الكفار الذين سلبوا التابوت قد جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير ، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين ، فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت . فعلى هذا إتيان التابوت مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو بنفسه . وقيل : إنه صندوق من خشب كان موسى يضع التوراة فيه و كانوا يعرفونه ، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل . ثم قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ، فنزل من السماء والملائكة كانوا يحفظونه والقوم ينظرون حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس . وعلى هذا الإتيان حقيقة ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعاً لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء . أما شكل التابوت فقيل : كان من خشب الشمشار مموهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين . وقرأ أبي وزيد بن ثابت { التابوه } بالهاء وهي لغة الأنصار . وأما وزن التابوت فلا يخلو إما أن يكون « فعلوتا » أو « فاعولا » لا سبيل إلى الثاني لقلة باب سلس وقلق ولأنه تركيب غير معروف فهو « فعلوت » من التوب أي الرجوع لأنه ظرف ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته .

والظاهر أن مجيء التابوت كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، ومع كونه معجزة له كان آية قاطعة في ثبوت ملك طالوت ، وقيل : إن طالوت كان نبياً وإتيان التابوت معجزته لأنه كان مقروناً بالتحدي . والجواب أن التحدي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته { فيه سكينةٌ } هي « فعيلة » من السكون ضد الحركة ومعناه الوقار ، ومصدر وقع موقع الاسم كالعزيمة . وأما البقية فبمعنى الباقية . يقال : بقي من الشيء بقية . والمراد بالسكينة والبقية إما أن يكون شيئاً حاصلاً في التابوت أولاً ، والثاني قول الأصم وعلى هذا فمعناه أنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة اطمأنت نفوسهم وأقروا له بالملك وانتظم أمر ما بقي من دين موسى وهارون ومن شريعتهما فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « في النفس المؤمنة مائة من الإبل » أي بسببها . وعلى الأول أقوال فعن أبي مسلم : كان في التابوت بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله تعالى ينصر طالوت وجنوده فيزول خوف العدو عنهم . وعن ابن عباس : هي صورة من زبرجد وياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر . وعن علي رضي الله عنه : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وفيها ريح هفافة أي طيبة . وأما البقية فهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المنّ الذي أنزل عليهم . قال بعض العلماء : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت . وفي التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع . قال تعالى : { أدخلوا آل فرعون } [ غافر : 46 ] { وإذ نجيناكم من آل فرعون } [ البقرة : 49 ] ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري « لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود » وأراد به داود نفسه إذ لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن ما كان لداود { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } بدلالة المعجزة على صدق المدعي وههنا محذوف والتقدير : فأتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا إلى المسير تحت رايته . { فلما فصل طالوت بالجنود } أصله فصل نفسه ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي والمعنى : انفصل عن بلده مع الجنود . والجند الأعوان والأنصار وكل صنف من الخلق جند قال صلى الله عليه وسلم :

« الأرواح جنود مجندة » روي أن طالوت قال لقومه : لا ينبغي أن يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا متزوج بامرأة لم يبن فيها . ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ . فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً . فقال نبيهم : على قول ، أو طالوت على الأظهر ، وذلك إما بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أو بالوحي إن كان نبياً { إن الله مبتليكم بنهرٍ } بما اقترحتموه من النهر . قيل في حكمة هذا ابتلاء : إنه لما كان من عادة بني إسرائيل مخالفة الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة ، أظهر الله علامة قبل لقاء العدو يتميز بها الصابر على الحرب من غير الصابر ، لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو . عن ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين ، وعن قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين . ونهر بتحريك الهاء وتسكينها لغتان و { مبتليكم } أي ممتحنكم . ولما كان الابتلاء من الناس إنما يكون بظهور الشيء ، وثبت أن الله لا يثيب ولا يعاقب على علمه إنما يظهر ذلك بظهور الأفعال من الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف ، لا جرم سمى التكليف ابتلاء . { فمن شرب منه فليس مني } هو كالزجر أي ليس بمتصل بي ولا بمتحد معي من قولهم « فلان مني » يريد أنه كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما ، أو ليس من أهل ديني وطاعتي ومن حزبي وأشياعي { ومن لم يطعمه } ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه . ومنه طعم الشيء لمذاقه . واعلم أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف أن لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث؟ فقال أبو حنيفة : لا يحنث إلا إذا كرع في النهر . حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربك متصلاً بذلك الشيء . وقال الباقون : بل إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن هذا وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز مشهور ، فلما كان من المحتمل في اللفظ الأول أن يكون النهي مقصوراً على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلاً تحت النهي . ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام فقال : { ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفةً بيده } استثناء من قوله { فمن شرب منه فليس مني } ليصح النظم وإنما فصل قوله { ومن لم يطعمه } بين المستثنى والمستثنى منه للعناية . ومعنى الاستثناء الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع . والغرفة بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ملء الكف .

عن ابن عباس : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ، ويحتمل منها . ولعل ذلك من معجزات نبي ذلك الزمان كما يروى عن نبينا صلى الله عليه وسلم من إرواء الخلق العظيم من الماء القليل ، ويحتمل أنه كان مأذوناً أن يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه ولخدمه ولأن يحمله مع نفسه إلا أن قوله { بيده } لا يجاوب هذا الاحتمال { فشربوا منه } كرعوا فيه { إلا قليلاً منهم } وقرأ أبي والأعمش { إلا قليلٌ منهم } وهذا من باب الميل إلى المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم . فبهذا تميز الموافق عن المنافق والصديق عن الزنديق . يروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد وقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب فاسودت شفاههم وغلبهم العطش وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى فلم يزيدوا على الاغتراف فقوي قلبهم وصح أيمانهم وعبروا النهر سالمين . والمشهور أنهم كانوا على عدد أهل بدر لما روي أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : أنتم اليوم على عدد أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن . قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً . وقيل : إنهم كانوا أربعة آلاف . ولا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاعه ، وإنما الخلاف في أنهم رجعوا قبل عبور النهر أو بعده ، والحق أنه ما عبر معه إلا المطيعون لقوله تعالى { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } ولقوله : { فليس مني } أي ليس من أصحابي في سفري ، ولأن المقصود من الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي ، وإذا تميزا فالظاهر أنه لم يأذن للعاصين ، وصرفهم عن نفسه قبل أن يرتدوا عند لقاء العدو ، وقيل : إنه استصحب كل جنوده لأنهم قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه ، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق . والجواب لعل طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه ، سألوهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك ، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع المكالمة ، أو المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة ، أو المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين : منهم من يكره الموت ويغلب الخوف والجزع على طبعه وهم الذين قالوا : لا طاقة لنا ، ومنهم من كان شجاعاً قوي القلب وهم الذين أجابوا بقولهم { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } أو أنهم لما شاهدوا قلة عسكرهم قال بعضهم : لا طاقة لنا اليوم . فلا بد أن نوطن أنفسنا للقتل .

وقال الآخرون : بل نرجو من الله الفتح والظفر . فكأن غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة ، وغرض الآخرين التحريض على رجاء الفتح والظفر ، وكلا الغرضين محمود . والطاقة اسم بمنزلة الإطاقة . يقال : أطقت الشيء إطاقة وطاقة ومثلها أطاع إطاعة والاسم الطاعة وأغار إغارة والاسم الغارة ، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة . وفي المثل « أساء سمعاً فأساء جابة » أي جواباً ومعنى قوله { يظنون أنهم ملاقوا الله } يغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت . عن قتادة : أو يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك أن أحداً لا يعلم عاقبة أمره ، وعن أبي مسلم : أوَتظنون أنهم ملاقو طاعة الله من غير رياء وسمعة وبنية خالصة ، أو أنهم عرفوا مما في التابوت من الكتب الإلهية يقين النصر والظفر إلا أن حصول ذلك في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل الظن ، أو المراد بقوله { يظنون } يعلمون ويوقنون لما بين اليقين والظن من المشابهة في تأكد الاعتقاد ، والفئة الجماعة لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة ، وقال الزجاج : هي من قولهم « فأوت رأسه بالسيف » وفأيت أي قطعت كأن الفئة قطعة من الناس . والمراد تقوية قلوب الذين قالوا : لا طاقة لنا إذ العبرة بالتأييد الإلهي والنصرة الإلهية ، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة ، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة ، ومحل « كم » رفع بالابتداء و { غلبت } الجملة خبره ، { بإذن الله } بتيسيره وتسهيله . { والله مع الصابرين } بالمعونة و التأييد يحتمل أن يكون من قوله تعالى وأن يكون من قول الذين يظنون .
قوله سبحانه { ولما برزوا لجالوت وجنوده } الآية البراز الأرض الفضاء ومنه البروز والمبارزة في الحرب كأن كل واحد منهما حصل بحيث يرى صاحبه . واعلم أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع ضعفائهم وعوامهم أن الغلبة لا تتعلق بكثرة العدد وأن النصر والظفر بإعانة الله اشتغلوا بالدعاء و { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً } وهكذا كان يفعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما روي في قصة بدر أنه كان يصلي ويستنجز من الله وعده ، وكان متى لقي عدواً قال : « اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم ، اللهم بك أصول وبك أجول » . والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه ، وإنما يخلو بصب كل ما فيه فيفيد المبالغة . أي صب علينا أتم صبر وأبلغه وهذا هو الركن الأعظم في المحاربة ، فإنه إن كان جباناً لم يجد بطائل . ثم إن الشجاع مع ذلك يحتاج إلى الآلات والعدد والاتفاقات الحسنة حتى يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار ، فاقترحوها بقولهم { وثبت أقدامنا } ثم إنه مع كل هذه الأشياء يفتقر إلى أن تزيد قوته على قوة عدوه حتى يغلبهم وهو المراد بقولهم { وانصرنا على القوم الكافرين } فلا جرم استجاب الله دعاءهم { فهزموهم } كسروهم { بإذن الله } بتوفيقه وإعانته { وقتل داود جالوت } عن ابن عباس أن داود كان راعياً ومعه سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود - وكان صغيراً - إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف ، وبرز جالوت الجبار وكان من قوم عاد وكانت بيضته فيها ثلثمائة رطل من الحديد ، فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل ، لو كنتم على الحق لبارزني بعضكم .

فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوه . فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرّض الناس فقال له داود : ما تصنعون لمن يقتل هذا؟ فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف مملكتي . فقال داود : فأنا خارج إليه . وكانت عادته أنه يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى وكان طالوت عارفاً جلادته فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت مر بثلاثة أحجار فقلن : يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت . ثم لما خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناساً كثيراً . قيل : فحسده طالوت ولم يف له وعده ثم ندم على صنيعه فذهب يطلبه إلى أن قتل . { وآتاه الله الملك } في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها { والحكمة } أي النبوّة لأن الحكمة وضع الأمور موضعها على الوجه الأصوب والنحو الأصلح . وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، والمشهور من أحوال بني إسرائيل ، أن الله تعالى كان يبعث إليهم نبياً وعليهم ملكاً كان ذلك الملك ينفذ أمور ذلك النبي ، وكان نبي ذلك الزمان أشمويل وملكه طالوت ، فلما توفي أشمويل أعطى الله دود النبوّة ، ولما توفي طالوت أعطى الله الملك إياه أيضاً ، ولم يجتمع الملك والنبوّة على أحد من بني إسرائيل قبله . ويروى أن بين قتله جالوت وبين ما أعطاه الله الملك والحكمة سبع سنين . قال بعضهم : هذا الإتيان جبراً له على ما فعل من الطاعة وبذل النفس في سبيل الله ، ولا ممتنع في جعل النبوّة جزاء على بعض الطاعات كما قال تعالى : { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } [ الدخان : 32 ] وقال : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] ولهذا ذكر بعده حديث الهزيمة والقتل . وترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية لا سيما وقد نطقت الأحجار معه ، وقد قهر العدو العظيم المهيب بالآلة الحقيرة . وقال آخرون : إن النبوّة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ولكنها محض عناية الله تعالى ببعض عبيده كما قال : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } [ الحج : 75 ] فإن قيل : لم قدم الملك على الحكمة مع أنه أدون منها؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه السلام في معارج السعادات ، والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشرف هو الترتيب الطبيعي .

{ وعلمه مما يشاء } قيل : هو صنعة الدروع لقوله { وعلمناه صنعة لبوس لكم } [ الأنبياء : 80 ] وقيل : منطق الطير { علمنا منطق الطير } [ النمل : 16 ] وقيل : ما يتعلق بمصالح الملك فإنه ما تعلم ذلك من آبائه فإنهم كانوا رعاة . وقيل : علم الدين والقضاء { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } [ ص : 20 ] ولا يبعد حمل اللفظ على الكل والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبياً أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم { وقل ربي زدني علماً } [ طه : 114 ] { ولولا دفع الله } معناه ظاهر وأما من قرأ بالألف فإما أن يكون مصدر الدفع نحو جمع جماحاً وكتب كتاباً وقام قياماً ، وإما أن يكون بمعنى أنه سبحانه يكف الظلمة والعصاة عن المؤمنين على أيدي أنبيائه وأئمة دينه ، فكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات كقوله { إن الذين يحادّون الله ورسوله } [ المجادلة : 20 ] .
واعلم أن الله تعالى ذكر في الآية المدفوع وهو بعض الناس ، والمدفوع به وهو البعض الآخر . وأما المدفوع عنه فغير مذكور للعلم به وهو الشرور في الدين كالكفر والفسق والمعاصي ، فعلى هذا الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى ومن يجري مجراهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والشرور في الدنيا كالهرج والمرج وإثارة الفتن . فالدافعون إما الأنبياء أو الملوك الذابون عن شرائعهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « الملك والدين توأمان » « الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو منهدم وما لا حارس له فهو ضائع » وعلى هذا فمعنى قوله { لفسدت الأرض } أي بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وغير ذلك من سائر أسباب العمران . وقيل : المراد بالدفع نصر المسلمين على الكفار . ومعنى فساد الأرض عبث الكفار فيها وقتالهم المسلمين . وقيل : المعنى لو لم يدفع الكفار بالمسلمين لعم الكفر ونزل سخط الله ، فاستؤصل أهل الأرض وتصديق ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين » ثم تلا هذه الآية { ولكنّ الله ذو فضلٍ على العالمين } بسبب ذلك الدفاع . وفيه أن الكل بقضاء الله وقدره وبقهره ولطفه وبعدله وفضله .
التأويل : فقوله { ألم تر إلى الملأ } أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا ، عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، وهذا حال أكثر مدّعي الإسلام والإيمان والذين يزعمون نصلي ونصوم ونحج ونزكي لله وفي الله باللسان دون صدق الجنان ، وسيظهر ما كان لله وما كان للهوى في كفتي الميزان { فلما كتب عليهم القتال } تبين الأبطال من البطال { فتولوا إلا قليلاً منهم } وأن أهل الحق أعز من العنقاء وأعوز من الكيمياء .

تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
تعيرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنما لم ينل المدعون مقصودهم لأنه لم تخلص لله قصودهم ولو أنهم قالوا : { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله } وقد أمرنا ربنا وأوجب القتال علينا وأنه سيدنا ومولانا فلعل الله صدق دعواهم وأعطى مناهم وأكرم مثواهم كما قال قوم من السعداء في أثناء البكاء والصعداء { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } { المائدة : 84 ] فلا جرم أثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين . { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } فيه إشارة إلى أن الحكم الإلهية حلت وتجلت في جلباب تعاليها عن إدراك العقول البشرية كنه معنى من معانيها ، ولهذا . قالوا : { أنى يكون له الملك علينا } وليس هذا بأعجب من قول المقرّبين المؤيدين بالأنوار القدسية { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] واستحقاراً لشأن آدم واحتجاباً بحجب الأنانية والنحنية ، فلما تكبر بنو إسرائيل وقالوا : { نحن أحق بالملك } وضعهم الله وحرموا الملك ، ولما تواضع طالوت لله وقال : كيف أستحق الملك وسبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل ، رفعه الله وأعطاه الملك . ولما تفوقت الملائكة وترفعوا بقولهم { ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] أمرهم بالسجود لآدم ، ولما عرضت الخلافة على آدم فتواضع لله وقال : ما للتراب ورب الأرباب أكرمه الله تعالى بسجود الملائكة وحمل أعباء الأمانة { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } فيه إشارة إلى أن آية خلافة العبد أن يظفر بتابوت قلب { فيه سكينة } من ربه وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] { بقية مما ترك آل موسى } هو عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي الثعبان الذي إذا فغر فاه تلقف عظيم سحر سحرة صفات فرعون النفس . وإن تابوتهم الذي فيه سكينتهم كان يتداوله أيدي الحدثان ، وتابوت قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، وإن كان في تابوتهم بعض التوراة ففي تابوت قلب المؤمن جميع القرآن ، وإن كان في تابوتهم صور الأنبياء ففي تابوت المؤمن رب الأرض والسماء كما قال : « لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن » فإذا حصل لطالوت الروح الإنساني تابوت القلب الرباني سلم له ملك الخلافة ، وإنقاد له جميع أسباط صفات الإنسان فلا يركن إلى الدنيا و يتجهز لقتال جالوت النفس الأمارة { إن الله مبتليكم بنهرٍ } هو نهر الدنيا وما زين للخلق فيها

{ زين للناس حب الشهوات } [ آل عمران : 14 ] ليظهر المحسن من المسيء ويميز الخبيث من الطيب { إلا من اغترف غرفة بيده } قنع من متاع الدنيا بما لا بد له منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار ، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً » أي ما يمسك رمقهم { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لأن من شرب من نهر الدنيا ماء شهواتها ولذاتها وتجاوز عن حد الضرورة فيها لا يطيق قتال جالوت النفس وجنود صفاتها وعسكر هواها ، لأنه صار معلولاً مريض القلب فبقي على شط نهر الدنيا { رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها } [ يونس : 7 ] { ولما برزوا لجالوت وجنوده } فيه إشارة إلى أن المجاهد في الجهاد الأكبر لا يقوم بحوله وقوته لقتال النفس إلا إذا رجع إلى ربه مستعيناً به مستغنياً عن غيره قائلاً { ربنا أفرغ علينا صبراً } على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك ومخالفة الهوى والإعراض عن زينة الدنيا { وثبت أقدامنا } على التسليم في الشدة والرخاء ونزول البلاء وهجوم أحكام القضاء في السراء والضراء { وانصرنا على القوم الكافرين } وهم أعداؤنا في الدين عموماً ، والنفس الأمارة وصفاتها التي هي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصاً { فهزموهم بإذن الله } بنصرته وقوته { وقتل داود } القلب { جالوت } النفس الخ . وأخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى حتى صار الثلاثة حجراً واحداً وهو الالتفات إلى غير المولى ، فوضعه في مقلاع التسليم والرضا فرمى به جالوت النفس ، فسخر الله له ريح العناية حتى أصاب أنف بيضة هواها ، وخالط دماغها فأخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من روائها ثلاثين من صفاتها وأخلاقها ودواعيها ، وهزم الله باقي جيشها وهي الشياطين وأحزابها ، وآتاه الله ملك الخلافة وحكمه الإلهامات الربانية ، وعلمه مما يشاء من حقائق القرآن وإشاراته { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } يعني أرباب الطلب بالمشايخ البالغين الواصلين الهادين المهتدين كما قال { ولكل قوم هاد } [ الرعد : 7 ] لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن التقويم عن استيلاء جالوت النفس بتبديل أخلاقها وتكدير صفائها { ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين } فمن كمال فضله ورحمته حرك سلسلة طلب الطالبين وألهم أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين ، ووفقهم للتمسك بذيول تربيتهم ووقفهم على التشبث بأهداب سيرهم ، وثبتهم على الرياضات في حال تزكيتهم كما قال : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء } [ النور : 21 ] .


تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

القراآت : { لا بيعَ فيه ولا خلة ولا شفاعة } بالفتح غير منون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير؛ الباقون : بالرفع والتنوين . وكذلك في سورة إبراهيم : { لا بيع فيه ولا خلال } [ الآية : 31 ] وكذلك في سورة الطور : { لا لغو فيها ولا تأثيم } [ الآية : 23 ] .
الوقوف : بالحق ط للابتداء ، بأن المرسلين 5 على بعض م؛ لأنه لو وصل صار الجار والمجرور صفة لبعض فينصرف بيان تفضيل الرسل إلى بعض ، فيكون موسى عليه السلام من هذا البعض المفضَّل عليه غيره لا من البعض المفضَّل على غيره بالتكليم . درجات ط للعدول ، القدس ط ، من كفر ط ، ما يريد ، ولا شفاعة ط ، الظالمون 5 .
التفسير : { تلك } القصص المذكورة من حديث الألوف وإماتتهم ثم إحيائهم ، ومن تمليك طالوت وظهور الآية التى هى إتيان التابوت ، وغلبة الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير؛ { آيات الله } الباهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته ورحمته؛ { نتلوها عليك } بتلاوة جبرائيل وفيه تشريف عظيم لجبرائيل كقوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] { بالحق } باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت ، ولأن في تلاوتها حكمة شريفة وهي اعتبار المكلفين من أمتك ليحتملوا شدائد الجهاد كما احتملها الأمم السالفة ، ولأنها تدل على نبوّتك من قبل أنها أخبار بالغيب لما فيها من الفصاحة والبلاغة . ثم أكّد ذلك بقوله : { وإنك لمن المرسلين } حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة ودراسة ، وفيه أيضاً تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يراه من الكفار وأهل النفاق من الخلاف والشقاق كما رآه الرسل قبله ، فالمصيبة إذا عمت طابت . ولمثل هذا كرر فقال : { تلك الرسل } أي الذين تعرفهم وأنت من جملتهم { فضلنا بعضهم على بعض منهم من } فضله الله بأن كمله الله من غير سفير وهو موسى عليه السلام { ورفع بعضهم درجات } قيل إن { درجات } نصب بنزع الخافض ، وقيل رفع لبعضهم كقوله : { ورفعناه مكاناً علياً } [ مريم : 57 ] أي له ، وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات ، وقيل مصدر في موضع الحال ، وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال : ورفعنا بعضهم رفعات . وأيَّد عيسى بروح القدس ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم ، فلا تحزن على ما ترى من قومك ولو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضاه الله فهو كائن وما قدره فهو واقع .
واعلم أن الأمة أجمعت على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، وعلى أن محمداً أفضل الكل لوجوه منها قوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ومنها قوله : { ورفعنا لك ذكرك } [ الشرح : 4 ] قرن ذكره بذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء؛ ومنها أنه قرن طاعته بطاعته :

{ من يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ] وبيعته ببيعته { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] وعزته بعزته : { ولله العزة ولرسوله } [ المنافقون : 8 ] ورضاه برضاه { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] وأجابته بإجابته { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } [ الأنفال : 24 ] ومحبته بمحبته : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] . ومنها أن معجزاته أكثر وقد ترتقي إلى ألف من جملتها القرآن ، بل القرآن يشتمل على ألفي معجزة وأزيد ، لأن التحدي وقع بأقصر سورة هي الكوثر وإنها ثلاث آيات ، وكل ثلاث آيات من القرآن تصلح للتحدي فيكون معجزاً برأسه . ومنها أن معجزته ، وهي القرآن ، باقية على وجه الدهر ومعجزاتهم قد انقضت وانقرضت مع أن معجزته من جنس ما لا يبقى زمانين وهي الأصوات والحروف ومعجزاتهم من جنس ما يبقى مدة طويلة . ومنها أنه اجتمع فيه من الخصال الجميلة والخلال المرضية ما كان متفرقاً فيهم وإليه الإشارة بقوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] أي أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها ، فإنه لا يجوز أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في أصول الدين لأنه تقليد ، ولا في الفروع فإن شرعه ناسخ الشرائع ، فإذن المراد محاسن الأخلاق . ومنها أنه بعث إلى الخلق كافة وكان يتحمَّل أعباء الرسالة أكثر فيكون ثوابه أزيد . ومنها أن هذا الدين أفضل وإلا لم ينسخ به سائر الأديان فيكون شارعه أفضل ، ومنها أن أُمَّته أفضل : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وإذا كان التابع أفضل فالمتبوع أفضل . ومنها أن أمته أكثر لكونه مبعوثاً إلى الجن والإنس ، ولا يخفى أن لكثرة التابعين أثراً قوياً في علو شأن المتبوع . ومنها أن كل نبيٍّ نودي في القرآن فقد نودي باسمه .
{ يا آدم اسكن } [ البقرة : 35 ] ، { يا موسى إني أنا الله } [ القصص : 30 ] ، { وناديناه أن يا إبراهيم } [ الصافات : 14 ] ، { يا عيسى إني متوفِّيك } [ آل عمران : 55 ] . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نودي بقوله : { يا أيها النبي } [ الأنفال : 64 وغيرها كثير ] { يا أيها الرسول } [ المائدة : 41 ، 67 ] ، بل أقسم بحياته ، { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } [ الحجر : 72 ] .
وأما الأحاديث في هذا الباب؛ فعن ابن عباس قال : « جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون وهم ينتظرون خروجه . قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم لبعض : عجباً إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلاً واتخذ إبراهيم خليلاً . وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليماً . وقال آخر : ماذا بأعجب من جَعْل عيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر : ماذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال : » قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وأن موسى نجيّ الله وهو كذلك ، وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك ، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك . ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول شفيع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيُدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر « »

وفي الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحِلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجُعلت لي الأرض طيبة وطهوراً ومسجداً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونُصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة » وروى البيهقي في كتابه في فضائل الصحابة « ظهر علي بن أبي طالب من البعيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم » هذا سيد العرب « فقالت عائشة : ألست سيد العرب؟ فقال : » أنا سيد العالمين وهو سيد العرب « » ومما يؤكّد هذه المعاني ما ركز في العقول أن ذخائر كل ملك ينبغي أن تكون على مقدار من تحت تملكه فأمير المدينة يحتاج إلى عدة أكثر من عدة ريئس القرية . ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أعمّ من نبوة سائر الأنبياء فإنه مبعوث إلى الثقلين كافة ، فلا جرم أُعطي من كنوز العلم والحكمة وذخائز المعارف والحقائق ، ومن جوامع الكلم وبدائع الحكم ومحاسن العادات ومكارم الأخلاق ما لم يؤت نبي قبله ولن يؤتى أحد بعده .
هذا وقد طعن فيه بعض الملحدة بأن معجزات سائر الأنبياء كانت أعظم من معجزاته؛ فآدم جُعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النار فانقلبت روحاً وريحاناً ، وأُوتي موسى العصا واليد البيضاء ، وداود لان الحديدُ في يده ، وسليمان أُعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وكان الجن والإنس والطير مُسَخرين له ، وقد اعترف محمد بفضلهم حتى قال : « لا تفضلوني على يونس بن متى » وقال : « لا تخيروا بين الأنيباء » وقال « لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا » وذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها . والجواب أن كون آدم مسجوداً للملائكة لا يوجب كونه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « آدم ومَنْ دونه تحت لوائي يوم القيامة » وقوله : « كنت نبياً وآدم بين الماء والطين » ونُقل أن جبريل عليه السلام أخذ ركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود ، وأنه تعالى يصلي بنفسه على محمد إلى يوم القيامة ، وسجود الملائكة لآدم ما كان إلا مرَّة واحدة على أن ذلك السجود أيضاً إنما كان لأجل نور محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان في جبهته ، وأن أول الفكر آخر العمل ولهذا قال : « لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك » ومَنْ تأمَّل كتب دلائل النبوة وجد في مقابلة كل معجزة كان لنبي قبله معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله : « لا تفضلوني . . . ولا تخيروا » ، فنوع من التواضع وسلوك طريق الأدب . وأيضاً التمييز بين الشخصين إنما يمكن بعد الإحاطة بفضائلهما جميعاً وذلك مرتبة لا تليق بكل أحد ، فورد النهي عنه حتى لا يؤدي إلى محذور . والحاصل أن التوفيق بين قوله « لا تفضلوني » وبين ما مرّ من الأحاديث أن كلاً منهما ورد في مقام آخر ولغرض آخر ، فحيث رآهم يزدرون بشأنه ويتعجبون من الأنبياء السالفة منعهم عن ذلك ، وقال : « أنا أكرم الأولين والآخرين وأنا سيد العالمين » وحيث رآهم يزدرون بشأن بعض الأنبياء زجرهم عن ذلك وقال : « لا تفضلوني »؛ على أنه لا يلزم من النهي عن شيء عدم مطابقة ذلك الشيء ، للواقع فقد يكون الشيء حقاً في الواقع وينهى عن الاشتغال به لكونه غير مهم بالنسبة إلى المكلف ، فالمراد بهذا الأمر : لا تشتغلوا بتفضيلي فإنه لا يهمّكم ، وإنما المهم لكم أن تعرفوا حقية جميع الأنبياء وتؤمنوا بهم .
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله : { من كلم الله } التقدير : من كلمه ، فحذف العائد وقرىء كلم الله بالنصب وليس بقوي؛ فإن كلّ مصلٍّ فإنه يكلم الله قال صلى الله عليه وسلم « المصلي يناجي ربه » وإنما الشرف في أن يكلمه الله قال الأشعري : المسموع هو الكلام القديم الأزلي ولا يستبعد سماع ما ليس بحرف ولا صوت ، كما لا يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ولا في جهة . وقالت المعتزلة : سماع ما ليس بحرف ولا صوت محال . واتفقوا على أن موسى قد كلمه الله واختُلف في أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج هل كلمه الله أم لا؛ منهم مَنْ قال نعم بدليل قوله : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] وأورد ههنا أن التكليم لا يدل على فضل ومنقبة ، فقد كلم الله إبليس حيث قال : { أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين } [ الأعراف : 14 ، 15 ] الآيات ، وأجيب بأن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى كلّمة من غير واسطة ، فلعلّ الواسطة كانت موجودة ، قلت : هذا خلاف الظاهر والحق أن المكالمة قسمان : مكالمة الرضا وهي الموجبة للتشريف كمكالمة موسى ، ومكالمة الغضب وهي الموجبة للعن كما في حق إبليس :

{ وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين } [ ص : 78 ] وكما في أهل النار : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] .
أما قوله : { ورفع بعضهم درجات } فقيل : المراد بيان أن الرسل مراتبهم متفاوتة فاتخذ إبراهيم خليلاً ، وأعطى داود الملك والنبوة ، وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح . وخصّ يحيى بالعفة والطهارة وعدم الحاجة إلى النسوان ، وخصّ محمداً صلى الله عليه وسلم بالبعث إلى الثقلين وكونه خاتم النبيين إلى سائر خصائصه . هذا إذا حملنا الدرجات على المناصب والمراتب . أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه؛ وذلك أن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه؛ فمعجزات موسى من قلب العصا حية ومن اليد البيضاء وفلق البحر كانت شبيهة بما عليه أهل زمانه من السحر ، ومعجزات عيسى من إبراء الأكمه والأبرص تناسب للطب لأن كل ذلك غالب على قومه ، ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذٍ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر . وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة . وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأُمة والصحابة وقوة الدولة . وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم كان مستجمعاً للكل؛ فمنصبه أعلى ، ومعجزته أقوى وأبقى ، وقومه أكثر ، ودولته أعظم وأوفر ، وقيل : المراد بهذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضَّل على الكل . وإنما قال : { ورفع بعضهم درجات } على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل عظيماً فيقال له : من فعل هذا؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به . وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه . ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يبق فيه فخامة . وليس قوله { ورفع بعضهم درجات } تكراراً لقوله { فضلنا بعضهم على بعض } لأن المفهوم من قوله { فضلنا } هو وجود نفس الفضل . والمفهوم من قوله { ورفع بعضهم درجات } هوالتفاوت بالدرجات الكثيرة .
{ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } قد سبق تفسيره ، وإنما عدل عن الغيبة إلى الحكاية لأن الضمير في قوله { وآتينا } للتعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء ، وأما قوله { كلم الله } فأهيب من قوله { كلمنا } فلهذا اختير الغيبة . وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون ، فنبَّه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما وتبيُّن معجزاتهما ، لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم مَنْ آمن ومنهم مَنْ كفر ، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا ، فلهذا قال تعالى : { ولو شاء الله } أي أن لا يقتتلوا ما اقتتل الذين من بعدهم لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضاً ولكن اختلفوا فمنهم من آمن لالتزامه دين الأنبياء ، ومنهم من كفر بإعراضه عنه ولو شاء الله ما اقتتلوا .

كرر الكلام تكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ، ولكن الله يفعل ما يريد . وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال ، ومسألة إرادة الكائنات ، وأن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله عز وجل في العبد ، والمعتزلة يقيدون المطلق في الآيتين فيقولون المراد ولو شاء الله مشيئة الجاء وقسر كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم يشرب النصارى الخمر ويقولون المراد يفعل ما يريد من أفعال نفسه . ثم إنه تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله { وقاتلوا في سبيل } [ البقرة : 190 ] وأعقبه بقوله { منْ ذا الذي يقرض الله } [ الحديد : 11 ] ، والغرض منه الإنفاق في الجهاد ، ثم أكّد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ، أعقبه تارة أخرى الأمر بالإنفاق في الجهاد بقوله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } وعن الحسن أنه مختص بالزكاة لأن قوله { من قبل أن يأتي يوم } كالوعيد وأنه لا يتوجه إلا على الواجب ، والأكثرون على أنه عام يتناول الواجب والمندوب . وليس في الآية وعيد وإنما الغرض أن يعلم أن منافع الآخرة لا تكتسب إلا في الدنيا ، وأن الإنسان يجيء وحده وما معه إلا ما قدم من أعماله .
ومعنى قوله { لا بيع } أنه لا تجارة فيه فيكتسب ما يفتدى به من العذاب ، أو يكتسب مالاً حتى ينفق منه ، { ولا خلة } لا مودة ، لأن كلّ أحد يكون مشغولاً بنفسه لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه ، أو لأن الخوف الشديد غالب على كل أحد يوم تذهل كل مرضعة عما أَرضعت . ثم إنه لما نفى الخلة والشفاعة مطلقاً ذكر عقيبة قوله { الكافرون هم الظالمون } ليدلّ على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا فتصير الآية دالة على ثبوت الشفاعة في حق الفسَّاق . نقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون ، ولم يقل والظالمون هم الكافرون . وقيل أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، لأنهم تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم ، فقال { والكافرون } للتغليظ كقوله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [ آل عمران : 97 ] أي ومن لم يحج . وقيل المراد . إن الكافرين إذا دخلوا النار فالله لم يظلمهم بذلك ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم باختيار الكفر والفسق . فهو كقوله { ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً } [ الكهف : 49 ] وقيل « الكافرون » هم الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة من الأصنام ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وقيل المعنى والكافرون هم التاركون الإنفاق في سبيل الله من قوله

{ آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } [ الكهف : 33 ] وأما المسلم فإنه ينفق في سبيل الله قل أم كثر . وفائدة الفصل أنهم الكاملون في الظلم البالغون فيه المبلغ العظيم .
التأويل : { تلك آيات الله } أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته { نتلوها عليك بالحق } نجلوها عليك بالحقيقة كما هي { وإنك لمن المرسلين } الذين عبروا هذه المقامات وشاهدوا تلك الأحوال والكرامات ، وصح لهم صفاء الأوقات ولذة المناجاة في الخلوات ، ثم فطموا عن ألبان تلك اللذات في حجر القربات ، وأرسلوا إلى أهل الغدر والغفلات وعبدة طواغيت الهوى وأصنام الشهوات ، ليدعوهم من دار الغرور إلى دار السرور ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ، ولكنهم ما صاحبوك في الجلوات فإنهم بقوا في السموات وأنت عبرت المكونات { فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 9 ، 10 ] فوصلت من العبدية إلى العندية ، ثم فطمت عن رضاع لي مع الله وقت ، وابتليت بسفارة جبريل ، ثم لقيت من القوم ما لقيت ، فحق لك أن تقول : « ما أوذي نبي مثل أوذيت » لأن غيرك ما سقي من شرب ما سقيت فما أوذي بفطام مثل ما أوذيت .
{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } إشارة إلى أن التفاضل في الدين والدنيا بين العباد ليس بسعيهم ومناهم وإنما هو بتفضيل الله إياهم ، فلكلّ من أهل الفضل أنوار ، ولأنوارهم آثار على قدر استعلاء أضواء أنوارهم لا على قدر سعيهم واختيارهم . وهذا التفاوت صارد من تلك الأقسام حين جرت به الأقلام ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل وغوى » ثم إن الفضل فضلان : عام يمتاز به عن المردودين { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } [ الأنبياء : 101 ] ؛ وخاص يمتاز به عن المقبولين كما ثبت لسيد المرسلين . والتفاوت في الأنوار على قدر التفاوت في الظلمات المخلوقة المستعدة لقبول النور في بدر الخلقة لا في حقيقة النور ، فإنه موصوف بالوحدة ، ولهذا ورد بلفظ الوحدان في قوله { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } [ المائدة : 16 ] . والرفعة في الدرجات في قدر قوة الاستعلاء ، كما قال : { والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية؛ فكلما ازداد العلم ازدادت الدرجة ، وعلى قدر غلبات أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الأنبياء بعضها فوق بعض . فقد يبقى بعضهم في مكان من أماكن السموات ، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى آدم ليلة المعراج في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في السماء الثالثة ، وإدريس في السماء الرابعة ، وهارون في السماء الخامسة ، وموسى في السماء السادسة ، وإبراهيم عليه السلام في السماء السابعة ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ما بقي في مكان بل رفع به إلى سدرة المنتهى ثم إلى قاب قوسين أو أدنى ، لأنه كان فانياً بالكلية عن ظلمة وجوده باقياً بنور شهود ربه ، ولهذا سماه الله نوراً

{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [ المائدة : 15 ] : ثم لما أخبر عن فضيلة الخواص بأنها كانت بسبب تفضيله إياهم ، أخبر عن اختلاف العوام وافتراقهم أنه كان بمشيئته لا بمشيئتهم فقال : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } ثم أخبر عن إحراز الفضل أنه في الإنفاق والبذل فخاطب أهل الإيمان أي : إن كان إيمانكم بالبعث والنشور والثواب والعقاب والجنة والنار حقّاً فتصدقوا من كل ما رزقناكم من المال والجاه والقوة والقدرة والعلم والمعرفة وغيرها في مصارفها العامة والخاصة ، أنفقوا ملكنا ومالنا في صلاح أنفسكم واغتنموا مساعدة الإمكان في تقديم الإحسان مع الإخوان ، { من قبل أن يأتي يوم } لا يشترى فيه ما يباع من الأموال والأنفس في سوق { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] ولا ينفعه خلة خليل دنيوي ، لأن { الأخلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ] { ولا شفاعة } لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ، { والكافرون هم الظالمون } لأنفسهم لأنا أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب وأمرناهم بالإنفاق ووعدناهم الثواب وحذرناهم العقاب وقد أعذر من أنذر . والله المستعان .


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

القراآت : تعرف ممَّا مرَّ .
الوقوف : { إلا هو } ج ، لأن قوله : { الحي القيوم } يصلح بدلاً عن الضمير وخبر ضمير آخر محذوف { القيوم } ج لاختلاف الجملتين ، { ولا نوم } ط ، { وما في الأرض } ط لابتداء الاستفهام . { بإذنه } ط لانتهاء الاستفهام . { وما خلفهم } ج للفرق بين الأخبار عن علمه الكامل مطلقاً وإثبات علم الخلق المقدر لمشيئته مبتدأ بالنفي . { بما شاء } ج لاختلاف الجملتين . { حفظهما } ج { العظيم } ه . { الغي } ج ، لأن من للشرط مع فاء التعقيب . { الوثقى } ط قد قيل للاستئناف بالنفي والوجه الوصل على جعل الجملة حالاً للعروة أي : استمسك بها غير منفصمة { لها } ط . { عليم } ه . { آمنوا } لا ، لأن { يخرجهم } حال والعامل معنى الفعل في { ولي } تقديره : الله يليهم مخرجاً لهم أو مخرجين { إلى النور } ط للفصل بين الفريقين : { الطاغوت } لا ، لأن { يخرجونهم } حال . إلى الظلمات ط . { النار } ج . { خالدون } ه . التفسير : قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ، أعني : علم التوحيد وعلم الأحكام ، وعلم القصص بعضها ببعض . والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وفي هذا النسق أيضاً رحمة شاملة ولطف كامل؛ فإن طبع الإنسان جبل على الملال ، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه . وإذ قد تقدَّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد .
فقال { الله لا إله إلا هو الحى القيوم } عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة » وعن عليّ رضي الله عنه : « سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره والأبيات حوله » وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي الله عنه : أين أنتم من آية الكرسي؟ . ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا علي سيد البشر آدم عليه السلام ، وسيد العرب أنت ، وسيد العالمين محمد صلى الله عليه وسلم ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي » وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قاتلتُ ثم جئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ماذا يصنع ، فجئت فإذا هو ساجد يقول :

« يا حي يا قيوم » لا يزيد على ذلك . ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو صلى الله عليه وسلم يقول ذلك . فلا أزال أذهب وارجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له .
واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعالٍ عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه؛ ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات ، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات . ولنشتغل بالتفسير .
أما لفظ « الله » فقد مرَّ تفسيره في أول الكتاب . وأما قوله { لا إله إلاَّ هو } فقد سبق تفسيره في قوله { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } وأما { الحي القيوم } فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء ، لا أنا نزيد ههنا فنقول : عن ابن عباس : إن أعظم أسماء الله « الحي القيوم » . ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذٍ في السجود . وأما الدليل العقلي فإن « الحي » قبل هو الذي يصلح أن يعلم ويقدر ، أو هو الدراك الفعال ، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك . ونحن نقول إن « الحي » في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط ، بل كل شيء ، يكون كاملاً في جنسه فإنه يسمَّى حيًّا . ومن ههنا يصحُّ أن يقال : أحيا الموات ، وأحيا الله الأرض . فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضيرة . ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة . فالمفهوم من « الحي » هو الكامل في جنسه ، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته ، فلا حيّ بالحقيقة إلاّ واجب الوجود لذاته . وأما « القيوم » فيطلق لمجموع اعتبارين : أحدهما ، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره . والثاني أنَّ غيره يفتقر في قوامه إليه ، وبهذا الثاني يزيد على مفهوم « الحي » . ومن هذين الأصلين يتشعَّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة ، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوماً؛ ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيُّن فيكون كلّ منهما مركّباً من جزأين فلا يكون قيوماً ولا حيَّا ، فإن كلّ مركّب مفتقِرٌ وكل مفتقِرٍ ممكنٌ؛ ومنها أن لا يكون متّحيزاً لأن كلَّ متّحيزٍ منقسمٌ ، قد ثبت أنه واحد ، ومنها أنه ليس في جهة يُشار إليها ، وإلا كان متحيزاً؛ ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذلك؛ ومنها أنه عالم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، وإذا كان حيًّا قيوماً كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره ، والعلم بالعلة يوجبُ العلم بالمعلول فيكون عالماً بما سواه .

ومنها أنه قادر على كل المقدورات ، وإلا لم يكن قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة ، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر . « والحي » أصله حيي كحذر وطمع ، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وكلا الياءين أصل ، وقال ابن الأنباري : أصله « حيو » بدليل الحيوان ، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكناً ، جعلنا ياء مشددة ، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو . « والقيوم » مبالغة قائم ، وأصله « قيووم » على « فيعول » ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة . ولو كان « قوّوما » على « فعول » لقيل « قووم » ، وعن عمر أنه قرأ « الحي القيام » . وقرىء « القيم » ثم لما بين أنه « حي قيوم » أكد ذلك بقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمَّى النعاس ، أي : لا يأخده نعاس ، فضلاً أن يأخذه نوم أو نقول : نفى الأخص أولاً ، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولاً ضمناً ثم ثانياً صريحاً . ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم ، والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل أمر الطفل ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لوسنان نائم . ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم . وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى ، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل : فواجب الوجود لذاته لا يكون واجباً بجميع صفاته ، فلا يكون حيًّا ولا قيوماً وهذا خلف . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل الملائكة : هل ينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم أعطاه قاروتين مملؤتين ماء في كل يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ . فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا .

وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرضين . وهذه الرواية ، إن صحت ، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية ، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على « الحي القيوم » والتجويز شك ، والشك في مثله كفر . ثم لما بيَّن كونه « قيوماً » وأكده بما أكد ، رتّب عليه حكماً وهو قوله { له ما في السموات وما في الأرض } لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به ، فيكون ملكاً له ، ويلزم منه أن يكون حكمه جارياً في الكل ، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار ، أي : لا يشفع ، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجهٍ من الوجوه إلا بأمره كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه . فأشار إلى الأول بقوله { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ، وإلى الثاني بقوله { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } والمعنى : يعلم ما كان قبلهم وما يَكون بعدهم والضمير في السموات والأرض ، لأن فيهم العقلاء فغلبوا ، أو لما دل عليه قول { مَنْ ذا } من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء . عن مجاهد وعطاء والسدي أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة؛ وعن الضحاك والكلبي : { ما بين أيديهم } : الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، « وما خلفهم » الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم . وعن ابن عباس : { يعلم ما بين أيديهم } من السماء إلى الأرض ، « وما خلفهم » يريد ما في السموات وقيل : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك ، والغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا ، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلوماته ، إلا بما علم كقوله : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] ويحتمل أن يراد : ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئاً إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى .
ثم إنه لما بين كماله ملكه وحكمه في السموات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات والأرضين أعظم وأجلّ ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين ، فقال { وسع كرسيه السموات والأرض } يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به .

قال صلى الله عليه وسلم : « لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي » أي : لم يحتمل غير ذلك . وأما « الكرسي » فأصله من التركيب والتلبد ، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض ، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض ، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته ، وللمفسرين في معناه ههنا أقوال : فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه . وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا . وعن السدي أنه تحت الأرض . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشيبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى . وههنا أسرارا لا أحبُّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبداً من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره . وقيل : المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات ، والعرب تسمِّي أصل كل شيء الكرسي ، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه؛ فإن الملك مكانه الكرسي . وقيل : المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه . ومنه يقال للعلماء : كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض . وقيل : المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد . واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره : أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم . وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ، ثم جعله مقبل الناس كما تقبَّل أيدي الملوك . وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين . وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ووصف عرشه فقال : { وكان عرشه على الماء } [ هود : 71 ] ثم قال { وترى الملائكة حافين من حول العرش } [ الزمر : 75 ] ثم قال { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ثم أثبت لنفسه كرسياً . ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش والكرسي { ولا يؤده } لا يثقله ولا يشق عليه؛ { حفظهما } حفظ السموات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة ، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة .

ثم بيَّن أنه مع كونه مقوِّماً للممكنات مقيماً للأرضين والسموات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال : { وهو العلي العظيم } والمراد منهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة . وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان .
وقوله سبحانه : { لا إكراه في الدين } الآية : لما بيَّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للأعذار ذكر بعد ذلك . أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه؛ وذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء والاختبار ، وينافيه الإكراه والإجبار . ومما يؤكد ذلك قوله : { قد تبين الرشد من الغي } يقال بَانَ الشيء واستبان وتبيَّن وبيّن أيضا إذا وضح وظهر ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين . والرشد إصابة الخير ، والغي نقيضه . أي : تميز الحق من الباطل ، والإيمان الكفر ، والهدى من الضلال ، بكثرة الحجج والبيانت ووفور الدلائل والآيات . { فمن يكفر بالطاغوت } قال النحويون : وزنه « فعلوت » نحو جبروت وأصله من « طغى » ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها . وذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت والرهبوت ، والدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال : هم رضا وعدل . ولهذا قال تعالى : { أولياؤهم الطاغوت } [ البقرة : 257 ] والأصل فيه التذكير . قال تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } [ النساء : 60 ] فأما قوله تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } [ الزمر : 17 ] فالتأنيث لإرادة الآلهة . وأما معنى « الطاغوت » فعن عمر ومجاهد وقتادة : هو الشيطان . وعن سعيد بن جبير : الكاهن . وقال أبو العالية : الساحر . وعن بعضهم : الأصنام . وقيل : مردة الجن والإنس وكل ما يطغى ، وإنما جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } [ إبراهيم : 36 ] ويعلم من قوله { فمن يكفر بالطاغوت } ثم من قوله : { ومن يؤمن بالله } ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلاً ، ثم يؤمن بعد ذلك ، { فقد استمسك بالعروة الوثقى } استمسك وتمسك بمعنى ، والعروة واحدة عرى : الدلو والكوز ونحوهما مما يتعلق به . والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس وهو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية . والفصم كسر الشيء من غير أن يبيّن فصَمْتُه فانفصم . والمقصود من قوله { لا انفصام لها } هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول ههنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] أي مَن له . وقيل : معنى قوله { لا إكراه في الدين } لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي والإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه .

ثم قال بعضهم : إنه منسوخ بقوله { جاهد الكفار والمنافقين } [ التحريم : 9 ] وقال بعضهم : هو في أهل الكتاب خاصة ، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وحُكْم المجوس حُكْمهم . وأما الكفار الذين تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرُّون على ذلك ويكرهون على الإسلام . وقيل يقرُّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون . روي أنه كان لأنصاريٍّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصَّرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما . فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما . وقيل معنى قوله { لا إكراه } أي : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصحَّ إسْلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } [ النساء : 94 ] .
{ والله سميع عليم } يسمع قول من يتكلم بالشهادة وقول من يتكلم بالكفر ، يعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطيب وما في قلب الكافر من العقد الخبيث . وعن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله ذلك سراً وعلانية فقيل له : والله سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك واجتهادك .
قوله سبحانه : { الله ولي الذين آمنوا } أي متولي أمورهم وكافل مصالحهم « فعيل » بمعنى « فاعل » والتركيب يدل على القرب ، فالمحب ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ، ومنه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير ، وفيه دليل على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمنين وفيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر ، وذلك أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ومن الشك إلى اليقين . والإخراج يشمل الكافر إذا آمن والمؤمن الأصلي ، ولا يبعد أن يقال يخرجهم إلى النور من الظلمات ، وإن لم يكونوا في الظلمة ألبتة؛ فإن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لحظة لوقع في ظلمات الجهالات والضلالات فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع تشابه ، ومثله قوله : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 103 ] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار . « ويروى أنه صلى الله عليه وسلم سمع إنساناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله فقال : » على الفطرة « فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله قال : » خرج من النار « »

ومن المعلوم أنه ما كان فيها . قال الواحدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فإنه تعالى أراد بهما الكفر والإيمان إلا قوله في أول الأنعام { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] فإنه عنى به الليل والنهار . قال : وإنما جعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك .
قلت : قد مر أن الإيمان والعلم وجميع الكمالات النفسانية والمعارف اليقينية أنوار تزداد النَفس بها نورية وإشراقاً فلا حاجة إلى هذا التكلف . { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } مصدر ، ولهذا وحد في موضع الجمع { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } وإنما وحد النور وجمع الظلمة لأن الحق وما يرجع إليه طريقه واحد وهو أيضا في نفسه واحد ، وأما الباطل فلا حصر له ولا لطرقه . كما أن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين واحد ، والمنحنية غير محدود . وإسناد الإضلال إلى الطاغوت ، وهو كل من ينسب إلى الطغيان ، كالمجاز فإن الحوادث بأسرها تستند إلى المبدأ الأول بالحقيقة وتنتهي إلى قضائه وقدره كما سبق تحقيقه مراراً . { أولئك } الكفار أو هم مع من يطيعهم من الوسائط والوسائل { أصحاب النار } فيكون زجراً للكل ووعيداً لهم أعاذنا الله من ذلك .
التأويل : { الحي القيوم } : أشير بهما إلى الاسم الأعظم لأن اسمه « الحي » مشتمل على جميع أسمائه وصفاته . فإن من لوازم الحي أن يكون قادراً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً مريداً باقياً إلى غير ذلك من نعوت الكمال ، واسمه « القيوم » دالّ على افتقار كل المخلوقات إليه؛ فإذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين ، انكشف للعبد عند تجلي صفته « الحي » معاني جميع أسمائه وصفاته؛ وعند تجلي صفته « القيوم » فناء جميع المخلوقات ، إذ كان قيامها بقيومية الحق لا بأنفسهم ، فلما جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا « الحي القيوم » إذ سلب « الحي » جميع أسماء الله وسلب « القيوم » قيام الممكنات ، ففني التعدد وبقيت الوحدة . فيذكره عند شهود عظمة الواحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية ، فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى؛ لأنه حينئذٍ ينطق بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه . فأما الذاكر عند غيبته عن عظمة الوحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته ، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم . كما ئيل أبو يزيد عن الاسم الأعظم فقال : الاسم الأعظم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت .
{ لا تأخذه سنة ولا نوم } ، لأن النوم أخو الموت والموت ضد الحياة ، وهو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة . { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } هذا الاستثناء راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل : من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مأذون في الشفاعة موعود بها

{ وعسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [ الإسراء : 79 ] .
{ ويعلم } محمد صلى الله عليه وسلم { ما بين أيديهم } من أوليات الأمور قبل خلق الخلائق ، كقوله صلى الله عليه وسلم « أول ما خلق نوري ، أول ما خلق الله العقل أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام » { وما خلفهم } من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم نفسي نفسي ورجوعهم إليه بالاضطرار ، { ولا يحيطون بشيء من علمه } وإنما هو شاهد على أحوالهم وسيرهم ومعاملاتهم وقصصهم { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل } [ هود : 120 ] ويعلم أمور أخرتهم وأحوال أهل الجنة والنار ، وهم لا يعلمون شيئاً من ذلك { إلا بما شاء } أن يخبرهم عنه { وسع كرسيه السموات والأرض } : مثال العرش في عالم الإنسان قلبه؛ ومثال الكرسي : سره . وسوف يجيء تمام التحقيق إن شاء الله تعالى في قوله { الرحمن علىلعرش استوى } [ طه : 9 ] وإن العرش مع عظمته كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن . { ولا يؤده حفظهما } لا يثقل الروح الإنساني حفظ أسرار السموات والأرض ، { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] ولما أظهر لمخلوقاته من العرش والكرسي ولقلب المؤمن وسره علواً في المرتبة وعظمة في الخلقة ظهاراً لكمال القدرة والحكمة ، تردَّى برداء الكبرياء واتّزر بإزار العظمة والبهاء وهو أولى بالمدح والثناء فقال : { وهو العلي العظيم } فمن علا في الآخرة والأولى فبإعلائه ، ومن عظم فبتعظيمه . ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله { لا إكراه في الدين } كما قال صلى الله عليه وسلم : « ليس الدين بالتمني » مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو الإجبار ، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً والتسليم لأحكام الحقِّ باطناً من غير حرج وضيق عطن .
ثم شرع في مزيد شرح لحقيقة الدين بقوله { فمن يكفر بالطاغوت } يتبرأ منه؛ فطاغوت العوام الأصنام ، وطاغوت الخواص هو النفس ، وطاغوت خواص الخواص ما سوى الله . وإيمان العوام إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، وإيمان الخواص عزوب النفس عن الدنيا وسلوك طريق العقبى . وشهود القلب مع المولى . وإيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر والباطن في طاعة الله ، وإنابة القلب إلى الفناء في الله ، وإخلاء السر للبقاء بالله ، وهذا هو السكر الموجب للشكر . ولهذا قال موسى بعد إفاقته عن سكر سطوات شراب التجلي { تبت إليك } [ الأحقاف : 15 ] أي عن هذه الإفاقة ، فكان مخصوصاً عن عالمي زمانه بالإيمان العياني وشريكاً مع القوم بالإيمان البياني كما البياني كما قيل :
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
ثم العروة الوثقى التي استمسك بها المؤمن لا يمكن أن تكون من المحدثات المخلوقات لقوله

{ كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] ولا تكون أيضا من بطشك وإلا كانت منفصمة ، بل تكون من بطشه { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] ولكل مؤمن عروة مناسبة لمقامه في الإيمان؛ فهي للعوام توفيق الطاعة ، وللخواص مزيد العناية بالمحبة { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] ولخواص الخواص الجذبة الإلهية التي تفنيه عن ظلمات الغيرية وتبقيه بنور الربوبية ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين » وأعمالهما فانية من عالم الحدوث ، وجذبة الحق باقية من عالم القدم لا يجوز عليها الانفصام ، فالمجذوب لا يخلص منها أبد الآبدين .
ثم أخبر عن تصرفات جذباته فقال : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } يخرج العوام من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية ، والخواص من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية والربانية ، وخواص الخواص من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء . { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } : ذكر الطاغوت بلفظ الوحدان ، والأولياء بلفظ الجمع ، ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار أي هم أولياء الطاغوت كقوله { أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] ؛ فإن الطاغوت لو فسر بالأصنام فهي بمعزل عن الولاية وإن فسر بالشيطان أو النفس؛ فهم الأعداء لا الأولياء يخرجونهم من نور الروحانية وصفاء الفطرة إلى ظلمات الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية ، ظلمات بعضها فوق بعض ، دركات بعضها تحت بعض { أولئك } أي أرواح الكفار مع النفس والشيطان والأصنام أصحاب النار ، لأن الأرواح ، وإن لم تكن من جنسهم ولكن من تشبه بقوم فهو منهم . والله المستعان .


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

القراآت : { ربِّي الذي } مرسلة الياء : حمزة . الباقون بالفتح . { أنا أحيى } بالمد : أبو جعفر ونافع ، وكذلك ما أشبهها من المفتوحة والمضمومة ، وزاد أو نشيط بالمد في المكسورة في قوله تعالى { إن أنا إلا نذير } [ الأعراف : 188 ] وأشباه ذلك { مائة } وبابه مثل « فئة » وقد مر . { لبث } وبابه بالأظهار : ابن كثير ونافع وخلف وسهل ويعقوب { لم يتسنه } في الوصل والوقف بالهاء : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، لأن الهاء للسكت وهاء السكت تزاد للوقف . الباقون : بالهاء الساكنة في الحالين ، والهاء إما أصلية مجزومة بلم ، أو هاء سكت . وأجروا الوصل مجرى الوقف . { إلى حمارك } كمثل الحمار بالإمالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون ، وحمدويه والنجاري عن ورش ، وابن ذكوان وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي بن شنبوذ عن أهل مكة . { ننشرها } بالراء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع . الباقون بالزاي . { قال أعلم } موصولاً والابتداء بكسر الهمزة على الأمر : حمزة وعلي . الباقون : مقطوعاً والميم مضمومة على الإخبار { فصرهن } بكسر الصاد : يزيد وحمزة وخلف ورويس والمفضَّل ، { جزءاً } بتشديد الزاي : يزيد ووجهه أنه خفف بطرح همزته ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف . وقرأ أبو بكر وحماد « جزءاً » مثقلاً مهموزاً . الباقون : ساكنة الزاي مهموزة .
الوقوف : { الملك } م لأن إذ ليس بظرف لإيتاء الملك . { ويميت } ( لا ) لأن { قال } عامل ، إذ { وأميت } ط ، { كفر } ط ، { الظالمين } لا ، للعطف بأو التعجب . { عروشها } ج لأن ما بعده من تتمة كلام قبله من غير عطف . { موتها } ج لتمام المقول مع العطف بفاء الجواب والجزاء { بعثه } ط . { كم لبثت } ط . { يوم } ط . { لم يتسنه } ج وإن اتفقت الجملتان لوقوع الحال المعترض بينهما ، ومن وصل حسن له الوقف على { حمارك } بإضمار ما يعطف عليه قوله { ولنجعلك } أي لتستيقن ولنجعلك ، ومن جعل الواو مقحمة لم يقف . { لحما } ط لتمام البيان { له } ( لا ) لأن { قال } جواب لما . { قدير } ه { الموتى } ط { تؤمن } ط . { قلبي } ط . { سعياً } ط ، لاعتراض جواب الأمر { حكيم } .
التفسير : إنه سبحانه ذكر ههنا قصصاً ثلاثاً؛ أولاها في إثبات العلم بالصانع والباقيتان في إثبات البعث والنشور . فالقصة الأولى مناظرة إبراهيم ملك زمانه ، عن مجاهد أنه نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادّعى الربوبية والمحاجة المغالبة بالحجة . والضمير في « ربه » لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون ل « نمرود » ، والهاء في « أن آتاه » قيل لإبراهيم لأنه أقرب في الذكر ، ولأنه لا يجوز أن يؤتى الكافر الملك والتسليط ، ولأنه يناسب قوله { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً } [ النساء : 54 ] . وقال جمهور المفسرين : الضمير لذلك الشخص الذي حاج إبراهيم ، ولا يبعد أن يعطي الله الكافر بسطةً وسعةً في الدنيا .

ومعنى أن آتاه لله أي لأن أتاه الله الملك فأبطره وأورثه الكبر والعتو أو جعل محاجته في ربه شكراً له كقولك « عاداني فلان لأني أحسنت إليه » تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ويجوز أن يكون المعنى : حاج وقت أن آتاه . وعن مقاتل أن هذه المحاجة كانت حين ما كسر إبراهيم الأصنام وسجنه نمرود ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال : من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت . وهذا دليل في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة فلا بد أن يستند إلى مؤثر قادر مختار خبير بأجزاء الحيوان وأشكاله ، بصير بأعضائه وأحواله ، ولأمر ما ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه فقال { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] { وهو الذي خلقكم من تراب } [ غافر : 67 ] { ألم نخلقكم من ماء مهين } [ المرسلات : 20 ] ويروى أن الكافر دعا حينئذٍ شخصين فاستبقى أحدهما وقتل الآخر وقال : أنا أيضاً أحيي وأميت . ثم للناس في هذا المقام طريقان : الأول وعليه أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمرود أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر ومثال آخر أوضح من الأول فقال { إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } قالوا : وفي هذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة . وأورد عليه أن الشبهة إذا وقعت في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك الجهل واللبس . ولما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة ذلك واجباً مضيقاً فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب مع أن فيه إيهام أن كلامه الأول كان ضعيفاً؟ ولئن سلمنا أن الانتقال من دليل إلى دليل حسن لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح . لكن الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس ، فإن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه . وأيضاً دلالة الإحياء والإماتة على الحاجة إلى المؤثر القادر لكونهما من المتبدلات أقوى من دلالة طلوع الشمس لكون حركة الأفلاك على نهج واحد . وأيضاً إن نمرود لما لم يستحي من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب . وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك وقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن يطلع الشمس من مغربها ، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام طلوع الشمس من المغرب ، فما الذي حمل إبراهيم على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك ، والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال ، وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب؟ ولما كانت هذه الأعتراضات واردة على الطريق الأول عدل بعض المحققين إلى طريق آخر وقالوا : إن إبراهيم عليه السلام لما احتج بالإحياء والإماتة قال المنكر : أتدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء أم بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية؟ أما الأول فلا سبيل إليه ، وأما الثاني فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر .

فإن الجماع يفضي إلى الولد بتوسط الأسباب ، وتناول السم يفضي إلى الموت ، فأجاب إبراهيم عليه السلام بناء على معتقدهم ، وكانوا أصحاب تنجيم - بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن الحركات والاتصالات لا بد لها من فاعل ومدبر ، وليس ذلك هو البشر فإنه لا قدرة لهم على الفلكيات ، فهي إذن بتحريك رب الأرض والسموات . قلت : وفيه أيضاً طريق آخر نذكره في التأويلات إن شاء الله تعالى . { فبهت الذي كفر } يقال : بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير ، وبهت بالضم مثله . وقد قرىء بهما وأفصح منهما القراءة المشهورة فبهت على البناء للمفعول لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال باهت ولا بهيت قاله الكسائي . { والله لا يهدي القوم الظالمين } فلهذا لم ينفعه الدليل وإن بلغ في الظهور إلى حيث صار المبطل مبهوتاً محجوجاً ، فيعلم منه أن الكل بقضاء الله وقدره وبمشيئته وإرادته .
القصة الثانية قوله سبحانه { أو كالذي مر على قرية } ذهب الكسائي والفراء والفارسي وأكثر النحويين إلى أنه معطوف على المعنى ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر ، ونظيره من القرآن { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله } [ المؤمنون : 84 ، 85 ] ثم قال { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله } [ المؤمنون : 186 ، 187 ] فهذا عطف على المعنى كأنه قيل : لمن السموات؟ فقيل : لله . ومثله قول الشاعر :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا ... وعن الأخفش : أن الكاف زائدة والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، أو إلى الذي مر . وعن المبرد : أنا نضمر الفعل في الثاني والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إلى إبراهيم أو ألم تر إلى مثل الذي مر . واختلف في المار بالقرية فعن مجاهد وعليه أكثر المفسرين من المعتزلة أن المار كان رجلاً كافراً . شاكاً في البعث لأن قوله { أنى يحيي } استبعاد وإنه لا يليق بالمؤمن ، ولأنه تعالى قال في حقه { فلما تبين له } وفيه دليل على أن ذلك التبين لم يكن حاصلاً قبل ذلك . وكذا قوله { أعلم أن الله على كل شيء قدير } وذهب سائر المفسرين إلى أنه كان مسلماً ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس هو أرميا .

ثم من هؤلاء من قال : إن أرميا هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران وهذا قول محمد بن إسحق . وقال وهب بن منبه : إن أرميا هو النبي الذي بعثه الله عند ما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة . وقيل : هو عزير على ما يجيء . حجة هؤلاء أن قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } يدل على أنه كان عالماً بالله ، وبأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، والاستبعاد إنما هو في القرية المخصوصة . وأيضاً قد شرفه الله تعالى بالتكلم في قوله { قال كما لبثت } وفي قوله { وانظر } { ولنجعلك } وفي نفس قصته من الإعادة وغيرها إكرام له أيضاً . روي عن ابن عباس أن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير - ومنهم عزير وكان من علمائهم - فجاء بهم إلى بابل . فدخل عزير تلك القرية ونزل تحت ظل شجرة وربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، فعجب من ذلك وقال { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } أي من أين يتوقع عمارتها؟ لا على سبيل الشك في القدرة ، بل بسبب اطراد العادة في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً . وكانت الأشجار مثمرة فتناول منها التين والعنب وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عنه في موته أبصار الإنس والطير والسباع ، ثم أحياه بعد المائة ونودي من السماء يا عزير { كم لبثت؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } من التين والعنب { وشرابك } من العصير لم يتغير . فنظر فإذا التين والعنب كما شاهد . ثم قال { وانظر إلى حمارك } فنظر فإذا عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله . فسمع صوتاً : أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به ، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب ، ثم العروق ، ثم انبسط اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور من الجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخر عزير ساجداً فقال { أعلم أن الله على كل شيء قدير } ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرحيا مات ببابل ، وقد كان يختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة وكان فيهم عزير . والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً . وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورضت بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله .

وعن وهب وقتادة وعكرمة والربيع أن القرية إيليا وهو بيت المقدس . وقال ابن زيد : هي القرية التي خرجت منها الألوف حذر الموت . ومعنى قوله { خاوية على عروشها } ساقطة على سقوفها من خوى النجم إذا سقط . والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب ، كان حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة ، وهذا من أحسن ما يوصف به خراب المنازل . ويحتمل أن يكون من خوى المنزل إذا خلا عن أهله ، وخوى بطن الحامل . « وعلى » بمعنى « عن » أي خاوية عن عروشها ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع بقاء عروشها وسلامتها . قال في الكشاف : ويجوز أن يكون { على عروشها } خبراً بعد خبر كأنه قيل : هي خالية وهي على عروشها أي هي قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان بحالها فيه مشرفة على السقوف الساقطة ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة ، وكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية أن يبطل ما فياه من عروش الفواكه { فأماته الله مائة عام } لأن الإحياء بعد مدة طويلة أغرب فيكون أدخل في كونه آية { ثم بعثه } أي أحياه كما كان أوّلاً عاقلاً فهماً مستعداً للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال أحياه لم تحصل هذه الفوائد . { قال كم لبثت } أي كم مدة؟ فخذف المميز . والحكمة في السؤال هو التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق وإلا فمن المعلوم أن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته طويلة أو قصيرة { قال } بناء على الظن لا بطريق الكذب { لبثت يوماً أو بعض يوم } روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غروب الشمس . فقال قبل النظر إلى الشمس : يوماً . ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم . والظاهر أنه علم أن ذلك اللبث كان سبب الموت بأمارات شاهدها في نفسه وفي حماره { لم يتسنه } لم يتغير . وأصله من السنة أي لم يأت عليه السنون لأن مرّ السنين إذا لم يغيره فكأنها لم تأت عليه . وعلى هذا فالهاء إما للسكت بناء على أن أصل سنة سنوة بدليل سنوات في الجمع وسنية في التحقير ، وقولهم « سانيت الرجل مساناة » إذا عامله سنة . وإما أصلية على أن نقصان سنة هو الهاء بدليل سنيهة في التصغير ، وقولهم « أجرت الدار مسانهة » . وقيل : أصله لم يتسنن إما من السن وهو التغير قال تعالى { من حمإ مسنون } [ الحجر : 26 ] أي متغير منتن . وإما من السنة أيضاً بناء على ما نقل الواحدي من أن أصل سنة يجوز أن يكون سننة بدليل سنينة في تحقيرها وإن كان قليلاً .

وعلى التقديرين أبدلت النون الأخيرة ياء مثل تقضي الباري في تقضض . ثم حذفت الياء للجزم وزيدت هاء السكت في الوقف . وعن أبي علي الفارسي أن السن هو الصب فقوله « لم يتسن » أي الشراب بقي بحاله لم ينصب . فعلى هذا يكون قوله { لم يتسنه } عائداً إلى الشراب وحده ، ويوافقه قراءةٍ ابن مسعود { فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن } وأما على سائر الأقوال فيكون عدم التغير صالحاً لأن يعود إلى الطعام وإلى الشراب جميعاً . فإن قيل : إنه تعالى لما قال { بل لبثت مائة عام } كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك ، ولكن قوله { فانظر } يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم . فالجواب أن الشبهة كلما كانت أقوى كان الاشتياق إلى الدليل الكاشف عنها أشد ولهذا قيل : { وانظر إلى حمارك } فرآه عظاماً نخرة فعظم تعجبه حيث رأى ما يسرع إليه التغير وهو الطعام والشراب باقياً ، وما يمكن أن يبقى زماناً طويلاً وهو الحمار غير باقٍ فعرف طول مدة لبثه بأن شاهد عظام حماره رميماً . وهذا بالحقيقة لا يدل بذاته لأن القادر على إحياء الحيوان قادر على إماتته وجعل عظامه نخرة في الحال ، ولكن انقلاب عظام الحمار إلى حالة الحياة كانت معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله { بل لبثت مائة عام } . { ولنجعلك آية } قال الضحاك : معناه أنه جعله دليلاً على صحة البعث . وقال غيره : كان آية { للناس } لأن الله تعالى بعثه شاباً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والمفارق . وقيل : إنه كان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه فذلك كونه آية . وقيل : إن حماره لم يمت . والمراد وانظر إلى حمارك سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الأيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير ، وأما فائدة الواو في قوله { ولنجعلك آية للناس } فقد قال الفراء : فإنما دخلت لنية فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطاً وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام . بل المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء . ومثله في القرآن كثير { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون } [ الأنعام : 105 ] { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] { وانظر إلى العظام كيف ننشرها } بالراء المهملة أي كيف نحييها . وقرىء { كيف ننشرها } من نشر الله الموتى بمعنى أنشرهم . ويحتمل أن يكون من النشر ضد الطي فإن الحياة تكون بالانبساط . وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله { من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة }

[ يس : 79 ] ومن قرأ بالزاء فمعناه نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب . والنشز ما ارتفع من الأرض ومنه نشوز المرأة لأنها ترتفع عن حد رضا الزوج . « وكيف » في موضع الحال من العظام والعامل فيه « ننشرها » لا « انظر » لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . ثم أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، وأن اللام فيه بدل من الكناية . وعن قتادة والربيع وابن زيد : أن العظام عظام هذا الرجل نفسه . قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة وكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه ، وزيف بأن قوله { لبثت يوماً أو بعض يوم } إنما يليق بمن لا يرى في نفسه أثر التغير لا بمن شاهد أجزاء بدنه متفرقة وعظامه رميمة . وأيضاً قوله { ثم بعثه } يدل على أن المبعوث هو تلك الجملة التي أماتها ، وقيل : هي عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وفاعل تبين مضمر تقديره { فلما تبين له } أن الله على كل شيء قدير { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قوله « ضربني وضربت زيداً » أو التقدير : فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر الإماتة والإحياء قال أعلم . وتأويله إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك استدلالاً . ومن قرأ { اعلم } على لفظ الأمر فمعناه أنه عند التبين أمر نفسه بذلك . والله تعالى أمره بذلك كما في آخر قصة إبراهيم { واعلم أن الله عزيز حكيم } قال القاضي : القراءة الأولى أولى لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله { فلما تبين له } فلا يحسن الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك . أما الإخبار عن أنه حصل فجائز . قلت : ليس هذا من باب الأمر بتحصيل الحاصل ، وإنما الأمر فيه عائد إلى شيء آخر غير حاصل وهو عدم التعجب من إيجاد سائر الممكنات البعيدة ، فإن من قدر على إيجاد أمر مستبعد الحصول كان قادراً على نظائره من الغرائب والعجائب لا محالة ، ولهذا أوردت القضية كلية . نعم لو قيل : اعلم أن الله قادر على إحياء الموتى لأشبه أن يكون أمراً بتحصيل الحاصل ، على أن ذلك أيضاً ممنوع فإن الأمر حينئذٍ يعود إلى شيء آخر غير حاصل هو عدم الشك فيما يستأنف من الزمان أي لتكن هذه الآية على ذكر منك كيلا يعترض لك شك فيما بعد ، وذلك كقولك للمتحرك « تحرك » أي واظب على الحركة ولا تفتر . وليت شعري كيف يطعن بعض العلماء في بعض القراآت السبع مع ثبوت التواتر وكونها كلها كلام الحكيم العليم تقدس وتعالى؟
القصة الثالثة قوله عم طوله { وإذ قال إبراهيم } التقدير : واذكر وقت قول إبراهيم .

وقيل : معطوف على قوله { إلى الذي } أي ألم تر إلى وقت قول إبراهيم . وههنا دقيقة وهي أنه لم يسم عزيراً في قصته بل قال { أو كالذي مرّ على قرية } وههنا سمى إبراهيم لأن عزيراً لم يحفظ الأدب بل قال ابتداء { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } وإبراهيم أثنى على الله أولاً بقوله { رب أرني } وأيضاً إن عزيراً استبعد الإحياء فأرى ذلك في نفسه ، وإبراهيم التمس ودعا بقول { أرني } فأرى ذلك في غيره . ومعنى أرني بصرني . وذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً . الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج : إنه رأى جيفة مطروحة على شط النهر ، فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت ، فإذا أكل السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : رب أرني كيف تجمع أجزاء هذا الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر . فقيل : أو لم تؤمن؟ قال : بلى . ولكن المطلوب بالسؤال أن يصير العلم الاستدلالي ضرورياً . الثاني : قال محمد بن إسحق والقاضي : إنه في مناظرته مع نمرود لما قال ربي الذي يحيي ويميت قال الكافر أنا أحيي وأميت فأطلق محبوساً وقتل آخر فقال إبراهيم : ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال { رب أرني كيف تحيي الموتى } لتنكشف هذه المسألة عند نمرود وأتباعه ، ويزول الإنكار عن قلوبهم . وري أن نمرود قال له : قل لربك يحيي وإلا قتلتك ، فسأل الله ذلك ، وقوله { ليطمئن قلبي } أي بنجاتي من القتل ، أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني ، وأن عدولي إلى غيرها كان بسبب جهل المستمع . الثالث : عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أوحى إليه أني أتخذ بشراً خليلاً ، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه السلام وقال : إلهي ، ما علامة ذلك؟ فقال : علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله أني لعلي أكون ذلك الخليل . فسأل الله إحياء الموتى فقال الله : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي على أني خليل لك . الرابع : لا يبعد أن يقال : إنه لما جاء الملك إلى ابراهيم وأخبره بأن الله بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم . الخامس : لعله طالع في الصحف المنزلة عليه أن الله تعالى يحيي الموتى بدعاء عيسى ، فطلب ذلك ليطمئن قلبه أنه ليس أقل منزلة عند الله من عيسى وأنه من أولاده . السادس : أمر بذبح الولد فسارع إلى ذلك فقال : إلهي ، أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح فامتثلت فشرفني بأن تجعل بدعائي فاقد الروح ذا روح .

السابع : أراد أن يخصصه الله بهذا التشريف في الدنيا بأن جميع الخلائق يشاهدون الحشر في الآخرة . الثامن : لعل إبراهيم لم يقصد إحياء الموتى بل قصد سماع الكلام بلا واسطة . وأما أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في المعاد فلا ينبغي أن يعتقد فيه ، ومن كفر النبي المعصوم فهو بالكفر أولى وكيف يظن ذلك بإبراهيم عليه السلام وقوله { بلى } اعتراف بالإيمان ، وقوله { ليطمئن قلبي } كلام عارف طالب لمزيد اليقين . والشك في قدرة الله يوجب الشك في نبوّة نفسه ، والذي جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم « نحن أحق بالشك من إبراهيم » فذلك أنه « لما نزلت هذه الآية قال بعض من سمعها : شك إبراهيم ولم يشك نبينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه » نحن أحق بالشك منه « » والمعنى أننا لم نشك ونحن دونه ، فكيف يشك هو؟ والاستفهام في قوله { أولم تؤمن } للتقرير كقوله : ألستم خير من ركب المطايا؟ وأيضاً المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمناً بذلك عارفاً به ، وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر . واللام في قوله { ليطمئن } تتعلق بمحذوف أي ولكن سألت ليزيد قلبي سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال . وقد تعرض الخواطر للمستدل بخلاف المعاين ، هذا إذا قلنا : المطلوب حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أما إذا قلنا : إن الغرض شيء آخر فلا إشكال { فخذ أربعة من الطير } عن ابن عباس : هنّ طاوس ونسر وغراب وديك . وفي قول مجاهد وابن زيد : حمامة بدل النسر { فصرهن إليك } بضم الصاد وكسرها من صاره يصوره ويصيره أي أملهن وضمهن إليك . وقال الأخفش : يعني وجههنّ إليك . وفائدة أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها أن يتأملها ويعرف أشكالها وهيئتها وحلاها كيلا تلتبس بعد الإحياء ، ولا يتوهم أنها غير تلك . وفي الآية حذف كأنه قبل أملهن وقطعهن { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } وقيل : معنى صرهن قطعهن فلا اضمار . روي أنه أمر بذبحها ونتف ريشها وأن يقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال التي بحضرته وفي أرضه على كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله . فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها . وأنكر أبو مسلم هذه القصة وقال : إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الموتى من الله أراه الله تعالى مثالاً قرب به الأمر عليه . والمراد ب { صرهن إليك } الإمالة والتمرين على الإجابة أي قعود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة ، والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، ويؤكده قوله { ثم ادعهن } أي الطيور لا الأجزاء { يأتينك سعياً } وزيف قول أبي مسلم بأنه خلاف إجماع المفسرين ، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم فلا يلزم له مزية .

وأيضاً إن ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ما سأل ، وعلى قوله لا تكون الإجابة حاصلة . ولأن قوله { على كل جبل منهنَّ جزءاً } دليل ظاهر على تجزئة الطيور وحمل الجزء على أحد الطيور الأربعة بعيد ، ثم ظاهر قوله { على كل جبل } جميع جبال الدنيا . فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل : فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه . وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع : أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة والجهات الأربع . وقال السدي وابن جريج : المراد كل جبل كان يشاهده إبراهيم وكانت سبعة . أما قوله { ثم ادعهنّ يأتينك سعياً } فقيل : عدواً ومشياً على أرجلهنّ لأن ذلك أبلغ في الحجة ، وقيل : طيراناً . ورد بأنه لا يقال للطير إذا طار سعى . وأجيب بأن السعي هو الاشتداد في الحركة مشياً كانت أو طيراناً ، واحتج الأصحاب بالآية على أن البنية ليست شرطاً على صحة الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً قادراً على السعي والعدو . قال القاضي : دلت الآية على أنه لا بد من البينة من حيث إنه أوجب التقطيع بطلان حياتها ، والجواب أن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فيدل على المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ، ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء حال تفرقها كان دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة . { واعلم أن الله عزيز } غالب على جميع الممكنات { حكيم } عالم بعواقب الأمور وغايات الأشياء .
التأويل : إن الله تعالى لما أعطى نمرود ملكاً ما أعطى أحداً قبله ادّعى الربوبية وما ادّعاها أحد قبله . وسبب ذلك أن الإنسان لحسن استعداده للطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال لا يتوقف لحظة إلا لمانع ، ولكنه جبل ظلوماً جهولاً ، فمتى وكل إلى نفسه مال إلى عالم الحس ، موافقاً لسيره الطبيعي لأنه خلق من تراب وطبعه الميل إلى السفل فيرى الكمال في جمع المال ثم طلب الجاه فيصرف المال فيه ثم في الحكم والتسلط . فإذا ملك السفليات بأسرها وقهر ملوك الأرض أراد أن ينازع ملك الملوك وجبار الجبابرة فيقول : أنا أحيي وأميت ، وليس للعالم رب إلا أنا جهلاً بالكمال وذلك عند فساد جوهره وبطلان استعداده ، كما أنه إذا صلح جوهره بحسن تربية النبي صلى الله عليه وسلم أو من ينوب منابه - وهو الشيخ - قال : ليس في الوجود سوى الله .

وهذا هو حقيقة { فاعلم أن لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] يعني كن فانياً عن وجودك بالكلية ، واستغفر لذنب حسبان وجود غير وجوده فافهم جداً وإن لم تكن مجداً ، فإن المجد من يدق بمطرقة « لا إله إلا الله » دماغ نمرود النفس إلى أن يؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده كل ما سوى الله . { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } اعتراض على قول الكافر أنا أحيي وأميت ، والمراد أن إرسال النفس الناطق لتدبير البدن اطلاع شمس الحياة من أفق البدن ، فإن كنت صادقاً في دعواك أن هذا يتأتى منك فأمسكها عندك وهو الإتيان بالشمس من مغربها ، وأنه آية القيامة من مات فقد قامت قيامته . { فبهت الذي كفر } لأنه إن أمكنه أن يدعي الإحياء بمعنى الإبقاء وهو اطلاع الشمس من المشرق ، فلن يمكنه أن يدعي الإماتة بمعنى قبض الروح من غير آلة القتل وهو الإتيان بالشمس من المغرب ، فهذه طريقة لا يرد عليها شيء من الاعتراضات المذكورة في التفسير . ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعي في حجته عقيب الدعوى بقوله تعالى { أو كالذي مر على قرية } وذلك أن قوماً أنكروا حشر الأجساد بعد اعترافهم بحشر الأرواح ، وزعموا أن الأرواح إذا خرجت من سجن الأشباح وتقوت بالعلوم الكلية التي استفادتها من عالم الحس فما حاجتها أن ترجع إلى السجن والقيد ، كما أن الصبي إذا استفاد العلوم في المكتب وكبر قدره وعظم وقعه لم يحتج إلى أن يرجع إلى المكتب وحال صباه ، فهو سبحانه لكمال فضله ورأفته دفع هذه التسويلات النفسية ورفع هذه الشبهات الفلسفية بأن أمات عزيراً مائة سنة وحماره معه ثم أحياهما جميعاً ليعلم أن الله تعالى مهما أحيا عزير الروح أحيا معه حمار الجسد ، وكما أن عزير الروح يكون عند الملك الجبار يكون حمار الجسد في جنات تجري من تحتها الأنهار . فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلي صفات الجلال والجمال { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } [ الدهر : 21 ] « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » ولحمار الجسد مرتع من الرياض ومشرب من الحياض { فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } [ الزخرف : 71 ] و { قد علم كل أناس مشربهم } [ البقرة : 60 ] .
شربنا وأهرقنا على الأرض قسطها ... وللأرض من كأس الكرام نصيب
ثم أكد حديث الحشر بقصة عن خليله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله { رب أرني كيف تحيي الموتى } فيفوح منه رائحة قول موسى { رب أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] إلا أن موسى لم يحفظ الأدب في الطلب فما رأى غير النصب والتعب ، وأدب بتأديب الخاطىء الجاني ، وعرك بتعريك { لن تراني } وذلك أنه كان صاحب شرب وكان الخليل صاحب ري ، وصاحب الشرب سكران ، وصاحب الري صاح .
شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفذ الشراب وما رويت

فلسكر موسى كان يبسط تارة مع الحق بقوله { رب أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] ويعربد أخرى بقوله { إن هي إلا فتنتك } [ الأعراف : 155 ] ومن كمال صحو الخليل ما زل قدمه في أدب من اداب العبودية في الحضور والغيبة فلا جرم أكرم اليوم بكرامة الشيبة « إن أول ما شاب شيبة إبراهيم » ويحترم غداً بالكسوة « إن أول من يكسى إبراهيم » ولما ابتلي في ماله فبذل للضيفان وابتلي في ولده فأسلم وتله للجبين وابتلي بنفسه فاستسلم لمنجنيق ابن كنعان ، وابتلي بجبرائيل فقال : أما إليك فلا . لا جرم أكرمه الله بالإمامة { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] ومن إمامته أنه كان أول من دق باب طلب الحق وقال { هذا ربي } [ الأنعام : 76 ] وأول من سلك طريق الحق وقال { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 69 ] وأول من نطق بالمحبة وقال { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] وأول من أظهر الشوق وقال { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } [ الأنعام : 78 ] وأول من أظهر العداوة مع غير المحبوب { فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 77 ] وأول من اشتاق فسأل الرؤية وقال { رب أرني } ولا تظن أن اشتياقه إلى الرب إنما كان وقت سؤاله .
ولست حديث العهد شوقاً ولوعة ... حديث هواكم في حشاي قديم
ولكنه من حفظ آداب الإجلال كان لا يفتح على نفسه باب السؤال ، ويقول حسبي من سؤالي علمه بحالي إلى أن ساقه التقدير إلى حسن التدبير . وسأله نمرود من ربك؟ فأجرى الحق على لسانه من فضله وإحسانه { ربي الذي يحيي ويميت } فقال نمرود : هل رأيت منه ما تقول؟ فوجد الخليل فرصة للمأمول فأدرج في السؤال السول فأخفى سره وهو أدنى في علينه وهو { كيف تحيي الموتى } وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى . فأول باب فتح عليه من مقصوده أن أسمعه من كلامه بفضله وجوده . و { قال أولم تؤمن } فكان في هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة معان مضمرة : أو لم تؤمن وقت ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت فما كان إيمانك حقيقاً؟ أو لم تؤمن لميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة؟ أو لم تؤمن بما طلبت من الإحياء؟ مضمراً في كل منها الإثبات في لفظة النفي . فأجاب الخليل عن الاستفهامات الثلاثة ببلى سراً بسر أي بلى آمنت . وكان إيماناً حقيقياً ولكن ما كان مقصودي الإيمان والإيقان فإنه حاصل ، ولا إحياء الموتى فإني فارغ من الموتى وإحيائهم ، ولكني سألت ليطمئن قلبي بما تريد ، أو بلى آمنت بميعاد رؤيتك في الجنة ولكن ليطمئن قلبي برؤيتك ، فإنه كلما ازداد اليقين ازداد الشوق فاضطراب قلبي من غاية يقيني ، أو بلى آمنت بقدرتك على الإحياء ولكن ما سألتك عن الإحياء وإنما سألتك عن كيفية الإحياء ، ففي ضمن ذلك يحصل مقصودي كما أن من له معشوق خياط وهو يريد مشاهدة معشوقه ويحتشم أن يقول : أرني وجهك لأنظر إليك .

لأنه يعلم أن الدلال فرين الجمال ، وأن العزة والحسن توأمان : وفي مذهب الملاح الطلب رد والسبيل سد فيقول : أرني كيف تخيط الثياب؟ فكل صانع فاخر في صنعته يريد أن يرى جودة عمله فيحضر المعشوق عنده بلا حجاب وهو يخيط الثوب فيقول : انظر إليّ كيف أخيطه؟ فالعاشق ينظر بعلة الصنع إلى الصانع ويحظى منه بلا مانع ودافع ويطمئن قلبه بذلك . فالخليل لما اعتذر عن الجليل من اضطراب قلبه واضطرار حاله وتضرع بين يدي مولاه ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه حقق رجاءه وقال { خذ أربعة من الطير } الآية . والمراد أنك محجوب بك عني فبحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب ، وبحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع ، فمهما تموت عن صفاتك تحيا بصفاتي ، فإذا فنيت عن ذاتك بقيت ببقاء ذاتي { فخذ أربعة من الطير } وهي الصفات الأربع التي تولدت من العناصر الأربعة التي خمرت طينة الإنسان منها فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان : فمن التراب وقرينها وهو الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان يوجدان معاً ، ومن الناء وقرينها وهو الهواء تولد الغضب والشهوة ، ولكل واحد من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن إليها . فالحرص زوجه الحسد ، والبخل زوجه الحقد ، والغضب زوجه الكبر ، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات فتعلق بها كل صفة ، فهن الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر : 44 ] يعني من الخلق . فمن كان الغالب عليه صفة منها دخل النار من ذلك الباب ، فأمر الله تعالى خليله بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة ، طاوس البخل فلو لم يزين المال في نظر البخيل ما بخل به ، وغراب الحرص وبكوره من حرصه ، وديك الشهوة ، ونسر الغضب لترفعه في الطيران وهذه صفة المغضب . فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقي له باب يدخل به النار فصارت النار عليه لما ألقي فيها برداً وسلاماً . والمبالغة في تقطيعها ونتف ريشها وخلط أجزائها إشارة إلى محو آثار الصفات المذكورة وهدم قواعدها علي يدي إبراهيم الروح بأمر الشرع { ثم اجعل على كل جبل } هي الجبال الأربعة التي جبل الإنسان عليها : النفس النامية وهي النباتية ، والأرواح الثلاثة الحيواني والطبيعي والإنسان الملكي . فهذه الجبال كالأشجار والزروع ، وأجزاء الطيور كالتراب المخلوط بالزبل يجعل على الزروع فيتقوى كل واحد من هؤلاء بقوّة واحد من أولئك ، ويتربى بتربيتها ويتصرف فيها الروح الإنساني فيحييها بنور هو من خصائص أرواح الإنسان ، فتكون تلك الصفات ميتة عن أوصافها حية باخلاق الروحانيات . هذا لخواص الخلق الذي الغالب على أحوالهم الروح ، وأما خواص الخواص ومن أدركته العناية كالخليل ، فالله تعالى بعد خمود هذه الصفات يتجلى له بصفته المحيي فيحيي هذه الصفات الفانية عن أوصافها بنور صفته المحيية فيكون العبد في تلك الحالة حياً بحياته محيياً بصفاته كما قال

« لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش » كما أن أمياً يقول لكاتب : أرني كيف تكتب . فيجعل الكاتب قلمه في يد الأمي ويأخذ يده بيده ويكتب فتظهر الكتابة من يدي الأمي على الصحيفة ، ففي تلك الحالة يظن الأمي أنه صار كاتباً فيقول أنا الكاتب كقوله :
عجبت منك ومني ... أفنيتني بك عني
أدنيتني منك حتى ... ظننت أنك أني
فإذا رفع الكاتب يده عن يد الأمي فيعلم الأمي أنه أمي والكاتب هو الكاتب فيستغفر عن ذنب حسبانه أنه هو الكاتب وإليه الإشارة بقوله { واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] أي ذنب حسبان أنك كاتب وأنت نبي أمي عربي ما وصلت إلى ما وصلت إلا بفضلنا { وكان فضل الله عليك عظيماً } [ النساء : 113 ] ثم إن الله تعالى إن تجلى لخليله بصفة واحدة وهي صفة المحيي ليريه آية من آياته وهي كيفية الإحياء ، فقد تجلى لحبيبه بجميع صفاته ليلة المعراج كما قال { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 18 ] والخليل طلب الرؤية لنفسه { رب أرني } والحبيب طلبها له ولأمته « أرنا الأشياء كما هي » وذلك لعلو مرتبته وهمته ورفعته وكمال معرفته ، فلعلو همته قال : أرنا . ولرفعة مرتبته قال : الأشياء كما هي ، فإن فيه مع رعاية الأدب إخفاء المقصود . فكان قول الخليل بالنسبة إلى هذا تصريحاً وإن كان بالنسبة إلى قول الكليم تعريضاً . وفيه أيضاً طلب كمال الرؤية بجميع الصفات فإن جميعها داخلة في الأشياء ، ولكمال معرفته طلب رؤية الماهية فقال « كما هي » وهذا هو الملك الحقيقي الذي لا يكتنه كنهه . ثم قيل للخليل { واعلم أن الله عزيز } أعز من أن يعرف كنه صفاته { حكيم } لا يطلع على أسراره إلا من يليق بذلك من مخلوقاته .


مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

القراآت : { أنبتت سبع } وبابه بالإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل . { يضعف } وبابه : ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب . الباقون { يضاعف } { رياء الناس } غير مهموز حيث كان يزيد والشموني والخزاعي عن ابن فليح وحمزة في الوقف . الباقون بالهمزة . { الكافرين } بالإمالة : أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه ورويس عن يعقوب ، وكذلك ما كان محله النصب من الإعراب كل القرآن { بربوة } بفتح الراء حيث كان ابن عامر وعاصم . الباقون بضمها { أكلها } وبابه ساكنة الكاف : ابن كثير ونافع وافق أبو عمرو فيما اتصلت بالهاء والألف { بما يعملون بصير } بالياء التحتانية : أبو عون عن قنبل . الباقون بالتاء للخطاب .
الوقوف : { مائة حبة } ط ، { لمن يشاء } ط ، { عليم } ه ، { عند ربهم } ج لعطف المختلفتين ، { يحزنون } ه ، { أذى } ط { حليم } ه ، { والأذى } ( لا ) لتعلق كاف التشبيه أي إبطالاً مثل إبطال الذي ، { الآخر } ط ، { صلدا } ط ، { كسبوا } ط ، { الكافرين } ه ، { ضعفين } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب واتحاد الكلام ، { فطل } ط ، { بصير } ه ، { الأنهار } ( لا ) لأن ما بعده صفة لجنة أيضاً ، { الثمرات } ( لا ) لأن الواو وللحال ، { ضعفاء } ص والوصل أولى والوقف على { فاحترقت } ط لتناهي مقصود الاستفهام والمعنى : أيحب أحدكم احتراق جنة صفتها كذا في حال كذا؟ { تتفكرون } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من أصول المبدأ والمعاد ما اقتضاه المقام أتبعه ببيان التكاليف والأحكام . قال القاضي في كيفية النظم : إنه تعالى لما أجمل في قوله { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [ البقرة : 245 ] ، فصّل بعد ذلك بهذه الآية تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته على الإحياء والإماتة لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب بعد الحشر لكان التكليف بالإنفاق وسائر الطاعات عبثاً كأنه قال : قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمي عليك بالإحياء والإقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة ، فليكن علمك بهذه الأصول داعياً إلى إنفاق الأموال فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً وهو من الواحد إلى سبعمائة . وعن الأصم أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد ما احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته . وقيل : إنه تعالى لما بين أنه وليّ المؤمنين ، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت ، بيّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت . قلت : لما بين صحة المعاد ولا بد له من زاد ولا يمكن التزود من الأموال التي يمتلكها العباد بالإنفاق ، أتبعه أحكامه فقال { مثل الذين } ولا بد من إضمار ليصح التشبيه أي مثل صدقاتهم كمثل حبة أو مثلهم باذر حبة .

وسبيل الله دينه . فقيل الجهاد ، وقيل جميع أبواب الخير . والمنبت هو الله ، ولكن الحبة لما كنت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء . ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعب لكل واحد سنبلة . وهذا التمثيل تصوير للأضعاف سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم توجد ، على أنه قد يوجد في الجاورس والذرة وغيرهما مثل ذلك . وسبع سنابل مثل ثلاثة قروء في إقامة جمع الكثرة مقام القلة . { والله يضاعف } أي تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين في الإخلاص ، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستحق ذلك في مشيئته . { والله واسع } كامل القدرة على المجازاة لأن فيضه غير متناه { عليم } بمقادير الإنفاقات وبمواقعها ومصارفها بإخلاص صاحبها ، وإذا كان الأمر كذلك فلن يضيع عمل عامل له عنده . ثم لما عظم أمر الإنفاق أردف ببيان الأمور التي يجب رعايتها حتى يبقى ذلك الثواب منها : ترك المن والأذى ، والمنّ قد يراد به الإنعام قال تعالى { ولا تمنن تستكثر } [ المدثر : 6 ] وقد يراد به إظهار الاصطناع وهو مذموم ولهذا قيل : صنوان من منح سائله ومنّ ومنع نائله وضنّ . وذلك لما فيه من انكسار قلب الفقير ، ومن تنفير ذوي الحاجة عن صدقته ، ومن عدم الاعتراف بأن النعمة نعمة الله والعباد عباده ، وأن المعطي هو الله . وإذا كان العبد في هذه الدرجة كان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقية ، وكان في درجة البهائم التي لا يترقى نظرهن من المسحوس إلى المعقول ، ومن الآثار إلى المؤثرات . وأما الأذى فمهم من حمله على أذى المؤمنين على الإطلاق ، والمحققون خصصوه بما تقدم ذكره وهو أن يتطاول على الفقير بما أدل إليه ويقول له : ألست إلا مبرماً وما أنت إلا ثقيل ، وباعد الله ما بيني وبينك . ومعنى « ثم » تراخي الرتبة وإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق بل ترك كل منهما لأنهما نكرتان في سياق النفي { لهم أجرهم } وقال فيما يجيء { فلهم أجرهم } [ البقرة : 274 ] لأن الموصول ههنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة ، وفرق معنوي وهو أن الفاء دلالة على أن الإنفاق سبب استحقاق الأجر وطرحها عارٍ عن تلك الدلالة . ثم إنه ذكر هنالك الإنفاق منهم على سبيل المواظبة والاستمرار فكان التأكيد بما يوجب الربط بينهما ما هنالك أنسب . { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي لا يخافون فوات ثواب الإنفاق . ولا يحزنون بالفوات كقوله { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } [ طه : 112 ] والمراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ولا يحزنهم الفزع الأكبر . ويعلم من قوله { في سبيل الله } أن قوله { لهم أجرهم } مشروط بأن لا يوجد منهم الكفر ، ويعلم من قوله { ثم لا يتبعون } أن المن والأذى من قبيل الكبائر حيث يخرجان هذه الطاعة العظيمة عن الاعتداد بها .

احتجت المعتزلة بالآية من وجهين : الأول أن العمل يوجب الأجر لقوله { لهم أجرهم } وأجيب بأن ذلك بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل . الثاني أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وإلا لم يكن المن والأذى مبطلين ثواب الإنفاق ، وأجيب بأن الإنفاق على تقدير المن والأذى لا ثواب له أصلاً ، فكيف يتصور رفع ما لم يوجد؟ { قول معروف } تقبله القلوب ولا تنكره وذلك أن يرد السائل بطريق أحسن وعدة حسنة { ومغفرة } عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول لأنه إذا رد بغير مقصوده فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل أو عفو من جهة السائل بأن يعذر المسؤول إذا رده رداً جميلاً { خير من صدقة يتبعها أذى } لأنه إذا أتبع الإيذاء الإعطاء فقد جمع بين الإنفاع والإضرار ، وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر . وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إيصال السرور إلى قلب المؤمن ولا إضرار ، فكان الأولى { ومن الناس } الناس من خصص الآية بالتطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل فيه . ورد بأن الواجب قد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير { والله غني } عن صدقة كل منفق ، فما وجه المن؟ { حليم } عن معاجلته بالعقوبة إذا مَنّ ، ولا يخفى ما فيه من الوعيد . ثم إنه تعالى ضرب لكل واحد من المؤذي وغير المؤذي مثلاً فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } وعن ابن عباس : بالمن على الله والأذى للفقير ، { كالذي } أي كإبطال المنافق الذي { ينفق ماله رئاء الناس } وهو أن يرائي بعمله غيره ولا يريد رضا الله وثواب الآخرة ، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين للذي ينفق ، فمثله الضمير إما أن يكون عائداً إلى المنافق على أنه تعالى شبه المانّ بالمرائي المنافق ، ثم شبه المنافق بالحجر . وإما أن يعود إلى المانَّ المؤذى على أنه شبهه بالمنافق ثم شبهه بالحجر . والصفوان الحجر الأملس ، الوابل المطر العظيم القطر ، والصلد الأجرد النقي ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق . وهذا المثل ضربه الله لعمل المانِّ المؤذي ولعمل المنافق ، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ولم يؤت بها على وجه يستحق الثواب كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب . وأما المعتزلة فقالوا : إن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ، ثم إن المنَّ والأذى أزالا ذلك الأجر بناء على مذهبهم من الإحباط والتكفير .

فعلى مذهبنا : العمل الظاهر كالتراب ، والمان المؤذي أو المنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل . وعلى قولهم : المن والأذى كالوابل ، وعن القفال : ان عمل المانِّ مشبه بما إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل ، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودع بذره خالياً لا شيء فيه . ألا ترى أنه ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ وعلى هذا فقوله { لا يقدرون على شيء } الضمير فيه عائد إلى معلوم غير مذكور ، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي فرض على الصفوان لأنه خرج عن الانتفاع به ، فكذا المانُّ والمؤذي والمنافق لا ينتفع واحد منهم بعمله يوم القيامة ، وناهيك بكون المانِّ والمنافق ملزوزين في قرن شناعة شأن المن والأذى ، وقيل : الضمير عائد إلى الذي إما لأن « من » و « الذي » متعاقبان فكأنه قيل : كمّن ينفق ، وإما لأن المراد المراد الفريق الذي ، وإما لأنه أشير بالذي إلى الجنس والجنس في حكم العام . وقيل : المعنى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فإنكم إن فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم ، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة كقوله { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس : 22 ] . { والله لا يهدي القوم الكافرين } معناه - على قولنا - سلب الإيمان عنهم ، وعلى قول المعتزلة أنه يضلهم عن الثواب وطريق الجنة لسوء اختيارهم { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } طلباً لمرضاته { وتثبيتاً من أنفسهم } قيل : أي يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها من المن والأذى . وقيل : تثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد { وتبييناً } من البيان . وقيل : إن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالرياضة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال ، فإذا بذل ماله وروحه معاً فقد ثبت نفسه كلها { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } [ الصف : 11 ] وإذا بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، فعلى هذا « من » للتبعيض ذكره في الكشاف ، قال الزجاج : تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم جازمين بأن الله تعالى لا يضيع ثوابهم ف « من » على هذا للابتداء ، وجزمهم بالثواب هو المراد بالتثبيت . وعن الحسن ومجاهد وعطاء : المراد أنهم يثبتون أنفسهم تثبيتاً في طلب المستحق وصرف المال في وجهه . قال الحسن : كان الرجل إذا هَمَّ بصدقة يتثبت فإن كان لله أمضى وإن خالطه شك أمسك . وقيل : إنه إذا أنفق لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وحظ من حظوظها فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعة مع قلبه فذلك الاستقرار هو التثبيت . ويحتمل أن يكو ن المراد به حصول ملكة الإنفاق بحيث يحصل عنه بطريق الاطراد والاعتياد لا بطريق البخت والاتفاق ، فإن الأخلاق ما لم تصر ملكات لصاحبها لم تكد يظهر على جوهر النفس صفاؤها ونوريتها .

والمعنى أن مثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله كمثل جنة وهي البستان . وقرىء { كمثل جنة بربوة } بمكان مرتفع من ربا الشيء يربو إذا زاد وارتفع ، ومنه الربو لزيادة التنفس ، والربا في المال . قيل : وإنما خص المكان المرتفع لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً . واعترض عليه بأن المكان المرتفع لا يحسن ريعه لبعده عن الماء وربما تضربه الرياح كما أن الوهاد لكونها مصب المياه قلما يحسن ريعها ، فإذن البستان لا يصلح له إلا الأرض المستوية ، فالمراد بالربوة أرض طيبة حرة تنتفخ وتربو إذا نزل عليها المطر ، فإنها إذا كانت على هذه الصفة كثر دخلها وكمل شجرها كقوله تعالى { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } [ الحج : 5 ] ومما يؤكد ما ذكرنا أن هذا المثل ، في مقابلة المثل الأول ، فكما أن الصفوان لا يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فينبغي أن تكون هذه الأرض بحيث تربو وتنمو { فآتت أكلها } أي ثمرتها وما يؤكل منها { ضعفين } مثلي ما كان يعهد منها . وقيل : مثلي ما يكون في غيرها { فإن لم يصبها وابل فطل } مطر صغير القطر يصيبها ولا ينتقص شيء من ثمرها لكرم منبتها ، أو المراد أنها على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر قل أم كثر ، وكذلك من أخرج صدقة لوجه الله لا يضيع كسبه وفّر أم نزر . ويحتمل أن يمثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل ، وكما أن الكل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم تزيد في زلفاهم وحسن حالهم { والله بما تعملون } من وجوه الإنفاق وكيفيتها والأمور الباعثة عليها { بصير } فيجازي بحسب النيات وخلوص الطويات . ثم إنه سبحانه رغب في الإنفاق المعتبر الجامع لشرائطه وحذر عن ضده بأن ضرب مثالاً آخر فقال { أيود أحدكم } والهمزة للإنكار البالغ أي لن يود . قرىء { له جنات } وقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف الأول : كونها من نخيل وأعناب كأن الجنة إنما تكوّنت منهما لكثرتهما فيها . الثاني : تجري من تحتها الأنهار ، ولا شك أن ذلك يزيد في رونقها وبهائها . والثالث : فيها من كل الثمرات ، وإنما خص النخيل والأعناب أولاً بالذكر لأنهما أكرم الشجر أو أكثرها منافع . قال في الشكاف : ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيهما كقوله { وكان له ثمر } [ الكهف : 34 ] بعد قوله { جنتين من أعناب وحففناهما بنخل } [ الكهف : 32 ] . ثم شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال { وأصابه الكبر } أي والحال أنه قد أصابه الكبر . وقال الفراء : إنه معطوف على { يود } واستقام نظر المعنى لأنه يقال : وددت أن يكون كذا ، ووددت لو كان كذا ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة واصابه الكبر وله ذرية ضعفاء .

وقرىء { ضعاف } أي صبيان وأطفال { فأصابها إعصار } ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود { فيه نار فاحترقت } أي الجنة ولا يخفى أن هذه المثل في المقصود أبلغ الأمثال ، فإن الإنسان إذا كان له جنة في غاية الكمال ، وكان هو في نهاية الاحتياج إلى المال - وذلك أوان الكبر مع وجود الأولاد الأطفال - فإذا أصبح وشاهد تلك الجنة محترقة بالصاعقة ، فكم يكون في قلبه من الحسرة وفي عينه من الحيرة؟ فكذا الإنفاق نظير الجنة المذكورة وزمان الاحتياج يوم القيامة ، فإذا أتبع الإنفاق النفاق أو المن والأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة ويورثه الخيبة والندامة .
التأويل : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } فلهم الجنة ، والذين ينفقون أرواحهم وقلوبهم في سبيل الله فلهم الله ، ومن أعطى تمرة إلى فقير يأخذها الله بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم فلوة أو فصيلة حتى تكون أعظم من الجبل . فمن أعطى قلبه إلى الله فهو يربيه بين أصبعي جلاله حتى يصير أعظم من العرش بما فيه ، وإن قوماً بذلوا المال لله ، وقوماً بذلوا الحال بإيثار صفاء الأوقات وفتوحات الخلوات على طلاب الحق وأرباب الصدق للقيام بأمورهم في تشفي ما في صدورهم { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] فبذلوا ليحصلوا ، وحصلوا لينفصلوا ، وانفصلوا ليتصلوا ، واتصلوا ليصلوا الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله في طلبه لا في طلب غيره من الثناء والجزاء { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } [ الدهر : 9 ] { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا } على الله بأن يقول : عملت هذا العمل لأجلك ووجب لي عليك الأجر { ولا أذى } بأن يطلب من الله غير الله . رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام فقال له : كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني { لهم أجرهم عند ربهم } ينزلهم في مرتبة العندية { عند مليك مقتدر } [ القمر : 55 ] لا عند الجنة ولا عند النار . { قول معروف } يصدر عن العارف بالله في طلب المعروف { ومغفرة } له وأن لم يكن عنده ما يتصدق { خير } له عند ربه { من صدقة يتبعها } من الجهل { أذى } طلب غير الحق من الحق { والله غني } عن غيره { حليم } لا يعجل بالعقوبة على من يختار في الطلب غيره ، ولولا حلمه فما للتراب ورب الأرباب { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } فالمعاملات إذا كانت مشوبة بالأغراض ففيها نوع من الإعراض ، ومن أعرض عن الحق فقد أقبل على الباطل ومن أقبل على الباطل فقد أبطل حقوقه في الأعمال { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] . ولو كان قصدك في الصدقة طلب الحق لما مننت على الفقير بل كنت رهين منته حيث صار سبب وصولك إلى الحق ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم

« لولا الفقراء لهلك الأغنياء » أي لم يجدوا سبيلاً إلى الحق . وفسر بعضهم اليد العليا بيد الفقير ، واليد السفلى بيد الغني . لأن الفقير يأخذ منه الدنيا ويعطيه الآخرة { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } لأنه لو كان مؤمناً بالله لكان ينفق لله ، ولو كان يؤمن بالآخرة لأنفق للآخرة لا للناس فمثل المرائي { كمثل صفوان عليه تراب } هو عمله { فأصابه وابل } وهو وابل الرد . « أنا أغنى الأغنياء عن الشرك » { فتركه صلداً } مفلساً خائباً . { لا يقدرون عل شيء مما كسبوا } ليتوسلوا به إلى الله . { والله لا يهدي القوم الكافرين } بنعمة طلب شهود جماله فحرموا عن دولة وصاله . { وتثبيتاً من أنفسهم } وتخليصاً لنياتهم في طلب الحق ومرضاته من خطوط أنفسهم { كمثل جنة } هي قلب المخلص { بربوة } في رتبة عالية عند الحق { أصابها وابل } الواردت الربانية { فإن لم يصبها وابل فطل } الإلهامات { فآتت أكلها ضعفين } ضعف من نعيم الجنة وضعف من دولة الوصال وشهود ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فإن الله تعالى كما يعطي أهل الآخرة نصيباً من الدنيا بالتبعية ولا يعطي أهل الدنيا نصيباً من الآخرة ، فكذلك يعطي أهل الله نصيباً من الآخرة بالتبعية ولا يعطي أهل الآخرة ما لأهل الله من القربة { والله بما تعملون بصير } كيف تعملون ولماذا تعملون لابتغاء المرضاة أو لاستيفاء اللذات واستبقاء الحياة . ثم ضرب مثلاً لروح الإنسان وقلبه بجنةٍ له فيها من كل الثمرات إذا خلق في أحسن تقويم ، مستعداً لجميع الكرامات ، مشرفاً بعلم السمات ، منوراً بأنوار العقل والحواس السليمات ، متوحداً بحمل الأمانة ، متفرداً برتبة الخلافة . جنة هي منظور نظر العناية تجري من تحتها أنهار الهداية ، وأصاب صاحبها ضعف الإنسانية ، { وله ذرية ضعفاء } من متولدات القوى البشرية في غاية الافتقار إلى التربية بأغذية ثمراتها { فأصابها إعصار } من أعمال البر { فيه نار } من الرياء والنفاق { فاحترقت } جنة الروحانية بنار صفات البشرية وتبدلت الأخلاق الروحية بالنفسية ، والملكية بالشيطانية { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلك تتفكرون } في إحسانه معكم بإيتاء الاستعداد الفطري ، فلا تبطلوه بقبيح فعالكم ، ولا تضيعوا أعماركم في طلب آمالكم ، وتستعدوا للموت قبل حلول آجالكم والله المستعان وهو حسبي .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

القراآت : { ولا تيمموا } بتشديد التاء ومد الألف : البزي وابن فليح الباقون على الأصل { ومن يؤت الحكمة } بكسر التاء : يعقوب أي من يؤتيه الله . الباقون بالفتح { فنعما هي } ساكنة العين : أبو عمرو والمفضل ويحيى وأبو جعفر ونافع غير ورش { فنعما هي } بفتح النون وكسر العين : ابن عامر وعلي وحمزة وخلف والخراز ، الباقون { فنعما هي } بكسر النون والعين والميم مشددة في القراآت ، { ونكفر } بالنون والراء ساكنة : أبو جعفر ونافع وحمزة وخلف وعلي { ويكفر } بالياء والراء مرفوعة : ابن عامر وحفص والمفضل . الباقون { ونكفر } بالنون ورفع الراء { يحسبهم } وبابه بفتح السين : ابن عامر ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة . { بسيماهم } بالإمالة : حمزة وعلي وابن شاذان عن خلاد مخيراً . وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة ، وكذلك كل كلمة على ميزان « فعلى » .
الوقوف : { من الأرض } « ز » لعطف المتفقتين { تغمضوا فيه } ( ط ) ، { حميد } ه ، { الفحشاء } ج ، وإن اتفقت الجملتان ولكن للفصل بين تخويف الشيطان الكذاب ووعد الله الحق الصادق ، { فضلاً } ط ، { عليم } ه ، وقد يوصل على جعل ما بعده صفة ، { من يشاء } ج لابتداء الشرط مع العطف . ومن قرأ { ومن يؤت الحكمة } بالكسر فالوصل أجوز . { كثيراً } ط ، { الألباب } ه ، { يعلمه } ط ، { أنصار } ه ، { فنعما هي } ج ، { خير لكم } ط ، لمن قرأ { ونكفر } مرفوعاً بالنون أو الياء على الاستئناف . ومن جزم بالعطف على موضع فهو خير لكم لم يقف { سيئاتكم } ط ، { خبير } ه ، { من يشاء } ط لابتداء الشرط { فلأنفسكم } ط لابتداء النفي ، { وجه الله } ط ، { لا يظلمون } ه ، { في الأرض } ز لأن { يحسبهم } وإن صلحت حالاً بعد حال نظماً ، ولكن لا يليق بحال من أحصر . { التعفف } ز لأن { تعرفهم } تصلح استئنافاً والحال أوجه أي يحسبهم الجاهل أغنياء وأنت تعرفهم بحقيقة ما في بطونهم من الضر وهم لا يسألون الناس على إلحاف . وقد يجعل { لا يسألون } استئنافاً فيجوز الوقف على { سيماهم } { إلحافاً } ط ، { عليم } ه ، { عند ربهم } ج { يحزنون } ه .
التفسير : لما رغب في الإنفاق وذكر أن منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك ، وشرح ما يتعلق بكل من القسمين وضرب لكل واحد مثلاً ، ذكر بعد ذلك أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف يجب أن يكون فقال { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا } أي من طيبات ما أخرجنا ، فحذف لدلالة الأول عليه . عن الحسن : أن المراد من هذا الإنفاق الفرض بناء على أن ظاهر الأمر للوجوب ، والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة ، وقيل : التطوع لما روي عن علي والحسن ومجاهد أن بعض الناس كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم فأنزل الله هذه الآية .

عن ابن عباس : « جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة لأهل الصفة على حبل بين أسطوانيتن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : بئسما صنع صاحب هذا » فنزلت . وقيل : يشمل الفرض والنفل ، لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك فقط ، ويتفرع على قول الوجوب وجوب الزكاة في كل مال يكسبه الإنسان ، فيشمل زكاة التجارة وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم وزكاة كل ما ينبت من الأرض ، إلا أن العلماء خصصوها بالأقوات لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « الصدقة في أربعة : في التمر والزبيب والحنطة والشعير وليس فيما سواها صدقة » فهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة ، لكن ثبت أخذ الزكاة من الذرة وغيرها بأمر صلى الله عليه وسلم فعلم وجوب الزكاة في الأقوات دون غيرها . ولا يكفي في وجوب الزكاة كون الشيء مقتاتاً على الإطلاق ، بل المعتبر حالة الاختيار لا وقت الضرورة ومثله الشافعي بالقت وحب الحنظل وسائر البذور البرية ، وشبهها ببقرة الوحش لا زكاة فيها لأن الناس لا يتعهدونها . وأيضاً لا تجب الزكاة في القوت ما لم يبلغ خمسة أوسق وبه قال مالك وأحمد لرواية أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ليس فيما دون خمسَة أوسق صدقة » وقال أبو حنيفة : يجب العشر في القليل والكثير استدلالاً بعموم الآية . وتفصيل الكلام في الأموال الزكوية وكيفية إخراجها ونصاب كل منها مشهور مذكور في الفروع ، فلذلك ولطولها لم نشرع فيها . وما المراد بالطيب في الآية؟ قيل : الجيد فيكون المراد بالخبيث الرديء لما مر في سبب النزول أنهم كانوا يتصدقون برذالة أموالهم فنهوا عن ذلك ، ولأن المحرم لا يجوز أخذه بالإغماض وبغيره ، والآية دلت على جواز أخذ الخبيث بالإغماض ، وعن ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام ، والمراد من الإغماض هو المسامحة وترك الاستقصاء . والمعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال من حلاله أو من حرامه ، ويحتمل أن يراد ما يكون طيباً من جميع الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال وبمعنى الجودة أيضاً ، لأن الاستطابة قد تكون شرعاً وقد تكون عقلاً . واعلم أن المال الزكوي إن كان كله شريفاً وجب أن يكون المأخوذ منه كذلك ، وإن كان الكل خسيساً فلا يكلف صاحبه فوق طاقته ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحال لا يكون خبيثاً من ذلك المال وإنما الكلام فيما لو كان في المال جيد ورديء فحينئذٍ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك ، ولا تكلف أيضاً جيده لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن :

« اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم » بل الواجب حينئذٍ هو الوسط . ثم إن قلنا : المراد من الإنفاق في الآية التطوع أو هو والفرض جميعاً ، فالمعنى أن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه قضاء لحقوق التعظيم والإخلاص ، ومعنى { لا تيمموا الخبيث } لا تقصدوه . يقال : تيممته وتأممته كله بمعنى قصدته . ومحل { تنفقون } نصب على الحال ، وقدم { منه } عليه ليعلم أن المنهي عنه هو تخصيص الخبيث بالإنفاق منه أي إذا كان في المال طيب وخبيث . ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله : { ولا تيمموا الخبيث } ثم ابتدأ مستفهماً بطريق الإنكار فقال : { منه تنفقون } وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم إلا بالإغماض وهو غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء . يقال للبائع : أًغْمِضْ أي لا تستقص كأنك لا تبصر . وأصله أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه كيلا يرى ذلك ، فكثر حتى جعل كل مساهلة إغماضاً أي لو أهدي لكم مثل هذه الأشياء أخذتموها إلا على استحياء وإغماض ، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟ ويحتمل أن يراد إلا إذا أغمضتم بصر البائع أي كلفتموه الحط من الثمن . عن الحسن : لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه . { واعلموا أن الله غني } عن صدقاتكم { حميد } محمود على ما أنعم من البيان والتكليف بما تحوزون به النعيم الأبدي ، أو حامد شاكر على إنفاقكم كقوله : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] ثم إن الله تعالى لما رغب في أجود ما يملكه الإنسان أن ينفق ، حذر عن وسوسة الشيطان فقال : { الشيطان يعدكم الفقر } أما الشيطان فيشمل إبليس وجنوده وشياطين الإنس والنفس الأمارة بالسوء . والوعد يستعمل في الخير والشر . قال تعالى : { النار وعدها الله الذين كفروا } [ الحج : 72 ] ويمكن أن يكون استعماله في الشر محمولاً على التهكم مثل { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار وقرىء الفقر بضمتين ، والفقر بفتحتين . { ويأمركم بالفحشاء } يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور . والفاحش عند العرب البخيل . والتحقيق أن لكل خلق طرفين ووسطاً ، فالطرف الكامل للإنفاق هو أن يبذل كل ماله في سبيل الله ، والطرف الأفحش أن لا ينفق شيئاً لا الجيد ولا الرديء ، والوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء . فالشيطان إذا أراد نقله من الأفضل إلى الأفحش ، فمن خفي حيلته أن يجره إلى الوسط وهو وعده بالفقر ، ثم إلى الطرف وهو أمره بالفحشاء . وذلك أن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يمكنه أن يجره ابتداء إليها إلا بتقديم مقدمة هي التخويف بالفقر إذا أنفق الجيد من ماله ، فإذا أطاعه زاد فيمنعه من الإنفاق بالكلية .

وربما تدرج إلى أن يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة ، فإذا صار هكذا ذهب وقع الذنوب عن قلبه ويتسع الخرق فيقدم على المعاصي كلها . ثم لما ذكر درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال : { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً } فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الملك ينادي كل ليلة : اللهم أعط منفقاً خلفاً وممسكاً تلفا » فالشيطان يعدكم الفقر في غد الدنيا ، والرحمن يعدكم المغفرة في غد العقبى ، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا مشكوك فيه ، وغد العقبى مقطوع به . وعلى تقدير وجدان غد الدنيا فقد لا يبقى المال بآفة أخرى ، وعند وجدان العقبى لا بد من حصول المغفرة فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد . ولو فرض بقاء المال فقد لا يتمكن صاحبه من الانتفاع به لخوف أو مرض أومهم بخلاف الانتفاع بما في الآخرة فإنه لا مانع منه . وبتقدير التمكن من الانتفاع بالمال فإن ذلك ينقطع ويزول بخلاف الموعود في الآخرة فإنه باق لا يزول . وأيضاً لذات الدنيا مشوبة بالآلام والمضار ألبتة ، فلا لذة إلا وفيها ألم من وجوه كثيرة بخلاف لذات الآخرة فإنه لا نغص فيها ولا نقص . والمراد بالمغفرة تكفير الذنوب ، والتنكير فيه للدلالة على الكمال والتعظيم لا سيما وقد قرن به لفظة « منه » فإن غاية كرمه ونهاية جوده مما يعجز عن إدراكها عقول الخلائق . ويحتمل أن يكون نوعاً من المغفرة وهو المشار إليه في آية أخرى { فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات } [ الفرقان : 70 ] أو أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب إخوانه المؤمنين . وأما الفضل فيحتمل أن يراد به الفضيلة الحاصلة للنفس وهي ملكة الجود والسخاء ، وذلك أن المال فضيلة خارجية وعدمه نقصان خارجي ، وملكة الجود فضيلة نفسانية وملكة البخل رذيلة نفسانية ، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي ، وإذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي ، فيكون الإنفاق أولى وأفضل . وأيضاً متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل . وأيضاً مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى { والله واسع } كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد { عليم } بحال من نفق ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان . ثم نبه على الأمرالذي لأجله يحصل ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان وهو الحكمة والعقل ، فإن وعد الشيطان إنما ترجحه الشهوة والنفس . عن مقاتل : إن تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه : أحدها : مواعظ القرآن

{ وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [ البقرة : 231 ] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم { وآتيناه الحكم صبياً } [ مريم : 12 ] { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة { وآتاه الله الملك والحكمة } [ البقرة : 251 ] ورابعها القرآن بما فيه من الأسرار { يؤتي الحكمة من يشاء } وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم . فتأمل يا مسكين شرف العلم فإن الله تعالى سماه الخير الكثير { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } والتنكير للتعظيم . وسمى الدنيا بأسرها قليلاً { قل متاع الدنيا قليل } وذلك أن الدنيا متناهية العدد ، متناهية المقدار ، متناهية المدة والعلوم ، لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادات الحاصلة منها . واعلم أن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به . فمرجع الأول إلى العلم والإدراك المطلق ، ومرجع الثاني إلى فعل العدل والصواب ، ولذلك سأل إبراهيم صلى الله عليه وسلم { رب هب لي حكماً } [ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة النظرية ، { وألحقني بالصالحين } [ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة العملية . ونودي موسى عليه السلام { إنى أنا الله لا إله إلا أنا } وهو الحكمة النظرية ثم قال : { فاعبدني } [ طه : 14 ] وهو العملية . وحكي عن عيسى عليه السلام أنه { قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت } [ مريم : 30 ، 31 ] وكلها النظرية { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً } [ مريم : 31 ، 32 ] وجميعها العملية . وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } [ محمد : 19 ] وهو النظرية ثم قال { واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] وهو العملية . وقال في حق جميع الأنبياء { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا } [ النحل : 2 ] وأنه الحكمة العلمية ثم قال { فاتقون } [ النحل : 2 ] وهو الحكمة العملية . فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن كمال حال الإنسان في هاتين القوتين . والحكمة فعلة من الحكم كالنحلة من النحل . ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي ، فعيل بمعنى فاعل ويجيء بمعنى مفعول { فيه يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] أي محكم . وفي الآية دليل على أن جميع العلوم النظرية والأخلاق المرضية إنما هي بإيتاء الله تعالى . والذين حملوا الإيتاء على التوفيق والإعانة كالمعتزلة ما زادوا إلا أن وسعوا الدائرة إذ لا بد من الانتهاء إليه أية سلكوا { وما يذكر إلا أولوا الألباب } الذين إذا حصل لهم الحكم والمعارف لم يقفوا عند المسببات ، فلم ينسبوا هذه الأحوال إلى أنفسهم بل يرقون إلى أسبابها حتى يصلوا إلى السبب الأول . وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا : هذه الحكمة لا تفيد بنفسها وإنما ينتفع بها المرء إذا تدبر وتذكر فعرف ماله وما عليه ، وعند ذلك يقدم أو يحجم . ثم إنه تعالى نبه على أنه عالم بما في قلب العبد من نية الإخلاص أو الرياء ، وأنه يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها فقال { وما أنفقتم من نفقة } لله أو للشيطان { أو نذرتم من نذر } في طاعة الله أو معصيته { فإن الله يعلمه } وتذكير الضمير إما لأنه عائد إلى « ما » وإما لأنه عائد إلى الأخير كقوله :

{ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } [ النساء : 112 ] وهذا قول الأخفش ، والنذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه وأصله من الخوف كأنه يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ومنه الإنذار إبلاغ مع تخويف . واعلم أن النذر قسمان : نذر اللحاج والغضب ونذر التبرر . أما الأول فهو أن يمنع نفسه من الفعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك كقوله « إن كلمت فلاناً أو أكلت كذا أو دخلت الدار أو لم أخرج من البلد فللَّه علي صوم شهر أو صلاة أو حج أو إعتاق رقبة » ثم إنه إذا كلمه أو أكل أو دخل أو لم يخرج فللعماء ثلاثة أقوال : أحدها يلزمه الوفاء بما التزم ، والثاني : وهو الأصح أن عليه كفارة يمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم : « كفارة النذر كفارة اليمين » ، والثالث : التخيير بين الوفاء وبين الكفارة . وأما نذر التبرر فنوعان : نذر المجازاة وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة مثل « إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا فللَّه علي أن أعتق رقبة أو أصوم أو أصلي كذا » فإذا حصل المعلق عليه لزمه الوفاء بما التزم لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » ونذر التنجيز وهو أن يلتزم ابتداء غير معلق على شيء كقوله « لله علي أن أصوم أو أصلي أو أعتق » فالأصح أنه يصح ويلزم الوفاء به لمطلق الخبر . وما يفرض التزامه بالنذر إما المعاصي وإما الطاعات وإما المباحات . فالمعاصي كشرب الخمر والزنا ونذر المرأة صوم أيام الحيض ونذر قراءة القرآن في حال الجنابة لا يصح التزامها بالنذر لأنه لا نذر في معصية الله تعالى ، ومن هذا القبيل نذر ذبح الولد أو ذبح نفسه . وإذا لم ينعقد نذر فعل المعصية فعليه أن يمتنع منه ولا يلزمه كفارة يمين ، وما روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين » محمول على نذر اللجاج ، وأما الطاعات فالواجبات ابتداء بالشرع كالصلوات الخمس وصوم رمضان لا معنى لالتزامها بالنذر معلقاً أو غير معلق ، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني ، وإذا خالف ما ذكره فلا يلزمه الكفارة على الأصح ، وأما غير الواجبات فالعبادات المقصودة وهي التي وضعت للتقرب بها وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة فتلزم بالنذر وذلك كالصوم والصلاة والزكاة والصدقة والحج والاعتكاف والإعتاق وكذا فروض الكفايات التي يحتاج فيها إلى معاناة تعب وبذل مال كالجهاد وتجهيز الموتى ، ذكره إمام الحرمين - وفي الصلاة على الجنازة والأمر بالمعروف ، وما ليس فيه بذل مال وكثير مشقة الأظهر اللزوم أيضا ، وكما يلزم أصل العبادات بالنذر يلزم رعاية الصفة المشروطة فيها إذا كانت من المحبوبات كالصلاة بشرط طول القراءة أو الركوع أو السجود أو الحج بشرط المشي إذا جعلناه أفضل من الركوب وهو الأصح ولو أفرد الصفة بالالتزام .

والأصل واجب كتطويل الركوع والسجود أو القراءة في الفرائض ، فالأشبة اللزوم لأنها عبادات مندوب إليها . وأما الأعمال والأخلاق المستحسنة كعيادة المريض وزيارة القادم وإفشاء السلام على المسلمين فالأظهر لزومها أيضاً بالنذر ، وكذا تجديد الوضوء لأن كلها مما يتقرب بها إلى الله سبحانه ، وقد رغب الشارع فيها . وأما المباحات التي لم يرد فيها ترغيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعلها أو تركها لم ينعقد نذره ، « روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال صلى الله عليه وسلم : مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه » ولو قال : « لله عليّ نذر » من غير تسمية لزمه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين » { وما للظالمين } الذين يمنعون الصدقات ، أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو للرياء ، أو لا يوفون بالنذور ، أو ينذرون في المعاصي { من أنصار } ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه . والأنصار جمع ناصر كأصحاب في صاحب ، أو جمعٍ نصير كأشراف في شريف . وقد يتمسك المعتزلة بهذا في نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، فإن الشفيع ناصر . ورد بأن الشفيع في العرف لا يسمى ناصراً وإلا كان قوله { ولا هم ينصرون } [ البقرة : 48 ] بعد قوله : { ولا يقبل منها شفاعة } [ البقرة : 48 ] تكراراً . وأيضاً إن هذا الدليل النافي عام في حق كل الظالمين وفي كل الأوقات ، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام . وأيضا اللفظ لا يكون قاطعاً في الاستغراق بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطاً . سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت : { إن تبدوا الصدقات } والتركيب موضوع للصحة والكمال ومنه « فلان صادق المودة » و « هذا خل صادق الحموضة » و « صدق فلان في خبر » إذا أخبر على وجه الصحة والكمال ، ومنه « الصداق » لأن عقد الصداق به يتم ويكمل ، والزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويبقى وبها يستدل على صدق العبد وكماله في إيمانه ، { فنعما هي } من قرأ بسكون العين فمحمول على أنه أوقع على العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس وإلا لزم التقاء الساكنين على غير حدة ، ومثله ما يروى في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص :

« نعم المال الصالح للرجل الصالح » بسكون العين . ومن قرأ بكسر النون والعين فلتحصيل المشاكلة ، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين فعلى الأصل . قال طرفة :
نعم الساعون في الأمر المبر ... قال سبيويه : « ما » في تأويل الشيء أي نعم الشيء هي . وقال أبو علي : الجيد في مثله أن يقال : « ما » في تأويل شيء لأن « ما » ههنا نكرة إذ لو كانت معرفة بقيت بلا صلة . فإن « هي » مخصوصة بالمدح . فالتقدير : نعم شيئاً إبداء الصدقات . فحذف المضاف للدلالة ، أو نعم شيئاً تلك الصدقات ، أو تلك الخصلة وهي الإبداء . قال الأكثرون : المراد بها صدقة التطوع لقوله تعالى : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } والإخفاء في صدقة التطوع أفضل كما أن الإظهار في الزكاة أفضل أما الأول فلأن ذلك أشق على النفس فيكون أكثر ثواباً ، ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان » والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء ، وقد بالغ قوم في الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فبعضهم كان يلقي الصدقة في يد الأعمى ، وبعضهم يلقيها في طريق الفقير أو في موضع جلوسه بحيث يراها ولا يرى المعطي ، وبعض يشدها في ثوب الفقير وهو نائم ، وبعض يوصل إلى الفقير على يد غيره ، وقال صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر » وقال أيضاً : « إن العبد ليعمل عملاً في السر فيكتبه الله سراً ، فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء » وقال صلى الله عليه وسلم : « صدقة السر تطفىء غضب الرب » وأيضاً في الإظهار هتك ستر الفقير وإخراجه من حيز التعفف ، وربما أنكر الناس على الفقير أخذ تلك الصدقة لظن الاستغناء به فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة ، ولأن في الإظهار إذلالاً للآخذ وإهانة له ، وإذلال مؤمن غير جائزة ولأن الصدقة كالهدية ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاء فيها » وربما لا يدفع الفقير إليهم شيئاً فيقع في حيز اللوم والتعنيف .

نعم لو علم أنه إذا أظهرها اقتدى غيره به لم يبعد والحالة هذه أن يكون الإظهار أفضل . وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : « السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء » واعلم أن الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة ، فههنا الشيطان يردد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكره . فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فيكون إخفاؤه يفضل علانيته سبعين ضعفاً كما روي عن ابن عباس : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً . ثم إن الله تعالى عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنوار هدايته ، وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله فلم يحتاجوا إلى المجاهدة . فإذا أعلنوا بالعمل أرادوا أن يقتدي بهم غيرهم ، فهم كاملون في أنفسهم ويسعون في تكميل غيرهم كما قال تعالى : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } [ الأعراف : 181 ] { واجعلنا للمتقين إماماً } [ الفرقان : 74 ] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدى في الذهاب إلى الله . وأما أن الإظهار في إعطاء الزكاة أفضل فلأن الله أمر الأئمة بتوجيه السعادة لطلب الزكوات ، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها ، ولأنه ينفي التهمة ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة . وعن ابن عباس : صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً . هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره ، فإن لم يعرف باليسار كان الإخفاء له أفضل ولا سيما إذا خاف الظلمة أن يطمعوا في ماله . وعن بعضهم أن معنى قوله { خير لكم } أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير من الأطعمة . وإنما قيل { وتؤتوها الفقراء } لأن المقصود من بعث المتصدق أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالماً بالفقراء مميزاً لهم عن غيرهم ، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة فلهذا شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء . وأما في الإبداء فقلما يخفى حال الفقير فلهذا لم يصرح بالشرط . { ونكفر عنكم } من قرأ بالنون مرفوعاً فهو عطف على محل ما بعد الفاء ، لأن الأصل في الشرط والجزاء أن يكونا فعلين . فإذا وقع الجزاء فعلاً مضارعاً مع الفاء كان خبر مبتدأ محذوف . فقوله : { فهو } في تأويل . فيكون خيراً لكم { ونكفر } بالرفع عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر ، وأن يكون جملة من فعل وفاعل مستأنفة . ومن قرأ مجزوماً فهو عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط كأنه قيل : وإن تخفوها تكن أعظم أجراً . وأما من قرأ { ويكفر } بياء الغيبة مرفوعاً فالإعراب كما مر في النون والضمير لله أو للإخفاء .

وقرىء { وتكفر } بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والضمير للصدقات ، وقرأ الحسن بالياء والنصب بإضمار « إن » ومعناه : وإن تخفوها تكن خيراً لكم وأن يكفر عنكم خير لكم . والتكفير في اللغة الستر والتغطية ومنه « كفر عن يمينه » أي ستر ذنب الحنث . وقوله : { من سيئاتكم } يحتمل أن يكون « من » للتبعيض لأن السيئات كلها لا تكفر وإنما يكفر بعضها ، ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغراء على ارتكابها ، وأحسن أحوال العبد أن يكون بين الخوف والرجاء . ويحتمل أن يكون للتعليل أي من أجل سيئاتكم كما لو قلت : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك . وقيل : إنها زائدة . { والله بما تعملون خبير } كأنه ندب بهذا الكلام إلى الإخفاء الذي هو أبعد من الرياء .
عن الكلبي أنه قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء وكانت معه أسماء بنت أبي بكر ، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها فسألتاها وهما مشركتان فقالت : لا أعطيكما شيئاً حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني . فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى : { ليس عليك هداهم } فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها أن تتصدق عليهما فأعطتهما ووصلتهما . قال الكلبي : ولها وجه آخر ، وذلك أن ناساً من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود ، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا . فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وراودوهم أن يسلموا واستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأعطوهم بعد نزولها . وعن سعيد بن جبير قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تصدقوا إلا على أهل دينكم « فأنزل الله { ليس عليك هداهم } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » تصدقوا على أهل الأديان « » وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك . والعلماء أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون الآية مخصوصة بالتطوع . وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وأباه غيره ، ومعنى الآية ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم فأعلمهم الله تعالى أنه بعث بشيراً ونذيراً ودعاياً إلى الله ومبيناً للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك . فالهدى ههنا بمعنى الاهتداء ، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم . وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة توقيف الصدقة على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل الإيمان المطلوب منهم هو الإيمان طوعاً واختياراً { ولكن الله يهدي من يشاء } إثبات للهداية التي نفاها أولاً .

لكن المنفي أولاً هو الهداية أي الاهتداء على سبيل الاختيار فكذا الثاني . ومنه يعلم أن الاهتداء الاختياري واقع بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وهذا التفسير هو المناسب لسبب النزول . وفي الكشاف : أن المعنى لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب { ولكن الله يهدي من يشاء } يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه . ثم ظاهر قوله : { ليس عليك هداهم } إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به هو وأمته ، لأن ما قبله عام { إن تبدوا الصدقات } وما بعده عام { وما تنفقوا من خير } من مال { فلأنفسكم } ثوابه فليس يضركم كفرهم أو فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } أي لستم في صدقتكم على أقاربكم المشركون تقصدون إلا وجه الله من صلة رحم أو سد خلة مضطر ، قد علم الله هذا من قلوبكم . وقيل : خبر في معنى نهي أي لا تنفقوا إلا لله ، وقيل : معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم المفيد للمدح حتى تبتغوا وجه الله ، وقيل : ليست نفقتكم إلا لطلب ما عند الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وفائدة إقحام الوجه أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أشرف من قولك فعلته له ، لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقاً . وأيضاً قول القائل : « فعلت هذا الفعل له » احتمل الشركة وأن يكون قد فعله لأجله ولغيره ، أما إذا قال « فعلت لوجهه » فلا يحتمل الشركة عرفاً { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } جزاؤه في الآخرة أضعافاً مضاعفة ، وإنما حسن قوله { إليكم } مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية { وأنتم لا تظلمون } لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً .
ثم لما بيّن أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان ، أراد أن يبين أن اشد الناس استحقاقاً من هو فقال { للفقراء } أي ذلك الإنفاق لهؤلاء الفقراء كما لو تقدم ذكر رجل فتقول : عاقل لبيب أي ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب ، وقيل : اعمدوا للفقراء أو أجلوا ما تنفقون للفقراء ، أو المراد صدقاتكم للفقراء . قيل : نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة رجل وهم أصحاب الصفة ، لم يكن لهم سكن ولا عشائر بالمدينة ، كانوا ملازمين للمسجد يتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى . وعن ابن عباس : « وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي » «

ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفات : الأولى قوله { الذين أحصروا في سبيل الله } أي حصروا أنفسهم ووقفوا على الجهاد في سبيل الله لأن سبيل الله مختص بالجهاد في عرف القرآن ، ولأن وجوب الجهاد في ذلك الزمان كان آكد فكانت الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ، فموضع الصدق فيهم يكون أوقع سداً لخلتهم وتقوية لقلوبهم وإعلاء لمعالم الدين . وعن سعيد بن المسيب واختاره الكسائي ، أن هؤلاء قوم أصابتهم جراحات في الغزوات فأحصرهم المرض والزمانة ، وعن ابن عباس : هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد فعذرهم الله . الثانية { لا يستطعيون ضرباً في الأرض } أي سيراً فيها وذلك إما لاشتغالهم بالعبادة أو بالجهاد فلا يفرغون للكسب والتجارة ، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر ، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه . الثالثة { يحسبهم } يظنهم { الجاهل } بحالهم ومن لم يخبر أمرهم { أغنياء من التعفف } من أجل تركهم المسألة وإظهارهم التجمل تكلفاً منهم . والتعفف إظهاء العفة وهي ترك الشيء والكف عنه . الرابعة { تعرفهم } أي أنت يا محمد أو كل راء { بسيماهم } والسيما والسيمياء العلامة التي يعرف بها الشيء من السمة العلامة فوزنه « عفلى » قال مجاهد : سيماهم التخشع والتواضع . الربيع والسدي : أثر الجهد من الجوع والفقر . الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع . أبو زيد : رثاثة ثيابهم . وقيل : المهابة في العيون . وقيل : آثار الفكر . روي أنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الفكر . الخامسة { لا يسألون الناس إلحافاً } أي إلحاحاً وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطى له . والتركيب يدل على الستر كأنه لزم المسؤول لزوم الساتر للمستور . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذيء السآل الملحف » قيل : معنى الآية أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا ، وأورد عليه أنه ينافي التعفف الذي وصفوا به قبل . فالوجه أن يراد نفي السؤال والإلحاف جميعاً كقوله : « ولا ترى الضب بها يتجحر » أي لا ضب ولا انجحار ليكون موافقاً لوصفهم بالتعفف . وفائدة الكلام التنبيه على سوء طريقة الملحف كما إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور والآخر طياش خفيف وأردت أن تمدح أحدهما وتذم الآخر قلت : فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ليس بخواض ولا مهذار . لم يكن غرضك من قولك « ليس خواض ولا مهذار » وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عنه ، بل غرضك التنبيه على سوء طريقة الثاني . وقيل : معناه لا يتركون السؤال إلا بإلحاح شديد منهم على أنفسهم لشدة حاجتهم كقوله :

ولي نفس أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني
وقيل : إن عدم السؤال بطريق الإلحاف يتضمن نفي السؤال عنهم رأساً لأن كل سائل فلا بد أن يلح في بعض الأوقات كأنه يقول : إذا أرقت ماء وجهي فلا أرجع بغير مقصود . وقيل : لعل الساكت عن السؤال يطهر من نفسه أمارات الحاجة فيكون في حال سكوته أنطق ما يكون فترق القلوب له ، فالمراد أنهم وإن سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السؤال من رثاثة الحال وآثار الانكسار ما يقوم مقام السؤال فإن ذلك نوع إلحاف ، بل يتجملون للخلق بحيث لا يطلع على سرهم غير الخالق . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يفتح أحد باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن استعف يعفه الله » « لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب به فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس » { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } فيه أن ثواب هذا الإنفاق الذي هو أعظم المصارف لا يكتنه كنهه فلذلك وكل إلى علم الله تعالى بخلاف الآية المتقدمة فإنه لما رغب في التصدق على أهل الأديان قال في آخره { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } كما لو قال السلطان لعبده الذي حسن عنده موقع خدمته : إني بحسن خدمتك عالم ولحقك عارف . كان أبلغ مما لو قال : إن أجرك واصل إليك . ثم أرشد في خاتمة الآيات إلى أكمل وجوه الإنفاقات بقوله : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } الآية . وذلك أن الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة يكون ذلك منهم دليلاً على الحرص البالغ والاهتمام التام كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه متعللين بوقت وحال . والباء بمعنى « في » أي في الليل والنهار و { سراً وعلانية } منصوبان على الظرفية أيضاً أي في أوقات السر والعلن ، أو على وصف المصدر أي إنفاقاً سراً وعلانية ، أو على الحال لكونه بياناً عن كيفية الإنفاق ، وقيل : لما نزل { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير إلى أصحاب الصفة وبعث عليّ بوسق من تمر ليلاً فنزلت الآية . وفي تقديم ذكر الليل وتقديم السر على العلانية دليل على أن صدقة علي رضي الله عنه كانت أكمل . وعن ابن عباس : « ما كان علي رضي الله عنه يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم نهاراً وبدرهم ليلاً وبدرهم سراً وبدرهم علانية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما حملك على هذا؟ فقال : أن استوجب ما وعد لي ربي . فقال : ذلك لك » ونزلت الآية . وقيل : نزلت في أبي بكر حين تصدق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية .

وقيل : في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله . وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
التأويل : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } فيه صلاح المتصدق من وجوه : أحدها لو فسر الطيب بالحلال فليقبل الله منه ، ولو فسر بالجودة فليجز به بقدر جودته . وثانيها ليثاب على التعظيم لأمر الله . وثالثها ليثاب على الشفقة على خلق الله . ورابعها ليثاب على الإيثار { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] وخامسها ليستحق البر { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] . وسادسها ليثاب على زيادة الإيمان وأن المتصدق في صدقته كالزارع في زراعته . فكما أن الزارع كلما ازداد إيقانه بحصول الثمرة اجتهد في جودة البذر فكذا المتصدق كلما ازداد إيمانه بالبعث والجزاء زاد في جودة صدقته لتحققه { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } [ النساء : 40 ] وقدم ذكر الكسب على ذكر المخرج من الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم « إن أطيب ما يأكل الرجل من كسب يده » وفي الآية معنى آخر لطيف { انفقوا من طيبات ما كسبتم } من تزكية النفوس وتصفية القلوب { ومما أخرجنا لكم } من أرض طينتكم من تحلية سرائركم بمكارم الأخلاق ، ولتكن النفقة طيبة من خباثة الشبهات طيباً إنفاقها من خباثة الأغراض الدنيوية والأخروية ، طيباً منفقهاً من خباثة الالتفات والنظر في الإنفاق إلى غير الله ، فإذا كانت النفقة طيبة في نفسها فلله قبول طيب من الوسائط فيأخذها بيده ويربيها قبل أن تقع في يد الفقير ، وإذا كانت اليد طيبة في إنفاقها فلله قبول طيب فإنها أبلغ عند الله من عملها ، وإذا كان القلب المنفق طيباً عن الالتفات إلى غير الله فلله قبول طيب عن الأغيار بين أصبعين من أصابع الرحمن ، وهذا تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم « إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب » ولستم بآخذي هذا الخبيث لا في أصل الفطرة ولا في عهد الخلقة لأنكم خلقتم من أصل طيب وطينة طيبة . فالروح من أطيب الأطايب لأنه أقرب الأقربين إلى حضرة رب العالمين ، والجسد من التراب الطيب { فتيمموا صعيداً طيباً } [ النساء : 43 ] ثم أحياكم بالإيمان { فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] ثم يرزقكم من الطيبات { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 57 ] فليس منكم شيء خبيث في الظاهر والباطن { إلا أن تغمضوا فيه } فتقبلوه تكلفاً وقسراً « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه » فلما لم تكن الخباثة ذاتية للإنسان بل كانت طارئة عليه عارية لديه أنزل الله تعالى كلمة طيبة هي « لا إله إلا الله » ليطيب بالمواظبة عليها أخلاقهم ويستحقوا يوم القيامة أن يقال لهم { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }

[ الزمر : 73 ] { واعلموا أن الله غني } فمن كمال غناه أراد أن يغنيكم بثواب الإنفاق { حميد } على ما أنعم بهذا التكليف ليتوسل به إلى الكمال الأبدي . { الشيطان يعدكم الفقر } ظاهراً فهو يأمركم بالفحشاء باطناً لأنها اسم جامع لكل سوء فيتضمن البخل والحرص واليأس من الحق والشك في مواعيد الحق بالخلف والتضعيف وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه ونسيان فضله وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبذر كل بلية . فمن فتح على نفسه باب وسوسة فسوف يبتلى بهذه الآفات وأضعافها ، ومن فتح على نفسه باب عدة الحق أفاض عليه سجال غفرانه وبحار فضله وإحسانه . فالمغفرة تكفير الذنوب والآثام ، والفضل ما لا تدركه الأوهام { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] فمن ذلك أن يفتح على قلبه باب حكمته عاجلاً كما قال { يؤتي الحكمة من يشاء } وليست الحكمة مما يحصل بمجرد التكرار كما ظنه أهل الإنكار والذين لم يفرقوا بين المعقولات وبين الأسرار والحكم الإلهيات . فالمعقولات ما تكتسب بالبرهان وهي مشتركة بين أهل الأديان ، والأسرار الإلهية مواهب الحق لا ترد إلا على قلوب الأنبياء والأولياء { نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] { وما يذكر إلا أولوا الألباب } الذين لم يقفوا عند القشور وارتقوا إلى لب عالم النور . ثم أخبر عن توفية الأجور للمنفق في المفروض والمنذور { وما للظالمين } الذين وضعوا الشيء في غير موضعه فبدلوا بالإنفاق النفاق وبالإخلاص الرياء { من أنصار } ولا ناصر بالحقيقة إلا الله ، ومن أذن له الله إبداء الصدقات ضد إخفائها ، وإخفاؤها تخليتها عن شوب الحظوظ وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : « سبعة يظلهم الله في ظله » ثم قال : « ورجل تصدق بيمينه فأخفاها عن شماله » أي عن حظوظ نفسه لتكون خالصة لوجه الله . فصاحبها يكون في ظل الله قال صلى الله عليه وسلم : « إن المرء يكون في ظل صدقته يوم القيامة » أي إن كانت صدقته لله كان في ظل الله ، وإن كانت للجنة كان في ظل الجنة ، وإن كانت للهوى كان في ظل الهاوية . فمعنى قوله : { إن تبدو الصدقات } أي تظهروها لطمع ثواب الجنة فإن طمع الصواب شوب حظ { فنعما هي } فإنها مرتبة الأبرار { إن الأبرار لفي نعيم } [ الانفطار : 13 ] { وإن تخفوها } عن كل حظ ونصيب { وتؤتوها الفقراء } الذين تعطونها إياهم لوجه الله لا لحظ النفس { فهو خير لكم } لأن جزاءها لقاء الله . ثم أخبر عن الهداية وأن ليس لأحد عليها الولاية وأن الله فيها ولي الكفاية ، يا محمد لك المقام المحمود واللواء المعقود ولك الوسيلة وعلى الأنبياء الفضيلة ، وأنت سيد الأولين والآخرين وأنت أكرم الخلائق على رب العالمين ولكن { ليس عليك هداهم } ولكن الهداية من خصائص شأننا ولوائح برهاننا ، أنت تدعوهم ونحن نهديهم .

ثم نبه على أن أفضل وجوه الإنفاق هو الفقير الذي أحصرته المحبة في الله عن طلب المعاش لا الذي أحصره الفقر والعجز عن طلب الكفاف ، أخذ عليه سلطان الحقيقة كل طريق فلا له في المشرق مذهب ولا له في المغرب مضرب ، ولا منه إلى غيره مهرب .
كأن فجاج الأرض ضاقت برحبها ... عليه فما تزداد طولاً ولا عرضاً
{ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } لأنهم مستورون تحت قباب الغيرة محجوبون عن معرفة أهل الغيرية « أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غير ي يا محمد » { تعرفهم بسيماهم } لأنك لست بك فلست غيري ، ما رأيت إذ رأيت ولكن الله رأى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] وإن سيماهم لا يرى بالبصر الإنساني بل يرى من نور رباني ، فمن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن أنهم { لا يسألون الناس إلحافاً } لا بقليل ولا بكثير . لأن اثار أنوار غنى قلوبهم انعكست على ظواهرهم فتنورت بالتفف نفوسهم ، واضمحلت ظلمة فقرهم وفاقتهم { وما تنفقوا من خير } من المال أو الجاه أو خدمة بالنفس أو إكرام أو إرادة حتى السلام على هؤلاء السادة استحقاقاً وإجلالاً لا استخفافاً وإذلالاً { فإن الله به عليم } ومن سيماهم في الظاهر أنهم إذا وجدوا مالاً لم يبيعوا عزة الفقر به بل ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية { فلهم أجرهم عند ربهم } عند مليك مقتدر { ولا هم يحزنون } في الدنيا على ما يفوتهم لأنهم تركوها لله وهو لهم خلف عن كل تلف ، ولا في الآخرة { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور } [ فاطر : 34 ] .


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

القراآت : { الربا } حيث كان بالإمالة : حمزة وعلي وخلف . وهذا إذا كان معرّفاً ولا يميلون المنكر في الوصل لأجل التنوين كقوله : { وما آتيتم من ربا } [ الروم : 39 ] ويميلون في الوقف لزوال التنوين { فأذنوا } ممدودة مكسورة الذال : حمزة وحماد وأبو بكر غير ابن غالب والبرجمي حمزة يقف بغير همزة أي بالتليين . الباقون فأذنوا بسكون الهمزة وفتح الذال { لا تظلمون ولا تظلمون } الأول مبني للمفعول والثاني للفاعل المفضل . الباقون بالعكس { ميسره } بضم السين : نافع { ميسرة } بضم السين وإثبات التاء : زيد عن يعقوب ، الباقون بفتح السين وعدم التاء . { وأن تصدقوا } خفيفاً بحذف إحدى التاءين : عاصم . الباقون بتشديد الصاد لإدغام تاء التفعل في الصاد . { ترجعون } بفتح التاء وكسر الجيم : أبو عمرو ويعقوب عباس مخير . الباقون مبنياً للمفعول .
الوقوف : { من المس } ط ، { مثل الربا } م كيلا يظن أن ما بعده من قولهم وإن أمكن جعل { وأحل } حالاً بإضمار « قد » { وحرم الربا } ط لابتداء الشرط واستئناف المعنى ، { ما سلف } ط لتناهي الجزاء ، { إلى الله } ج ، { النار } ج ، { خالدون } ه ، { الصدقات } ط ، { أثيم } ه { عند ربهم } ج ، { يحزنون } ه ، { مؤمنين } ه ، { ورسوله } ج ، { أموالكم } ج لأن ما بعده مستأنف أو حال عاملة معنىلفعل في لام التمليك ، { ولا تظلمون } ه ، { ميسرة } ط ، { تعلمون } ه ، { لا يظلمون } ه .
التفسير : الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع حكم الربا . وذلك أنَّ بين الصدقة وبين الربا مناسبة التضاد ، فإن الصدقة تنقيص مأمور بها ، والربا زيادة منهي عنها . وأيضاً لما أمر بالإنفاق من طيبات المكاسب وجب أن يردف بالكسب الحرام وهو الربا ، والحلال وهو البيع ما يناسب من الدين والرهن وغيرهما فقال { الذين يأكلون الربا } أما الأكل فيعم جميع التصرفات إلا أنه عبر عن الشيء بمعظم مقاصده وكيف لا وقد « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل له » وأيضاً نفس الربا لا يمكن أن يؤكل ولكن يصرف إلى المأكول فيؤكل ، فالمراد التصرف فيه . والربا في اللغة الزيادة من ربا يربو ، ومن أمالها فلمكان كسرة الراء . وهو في المصاحف مكتوب بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو . وفي الكشاف : كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة . وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . ثم الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل . أما الأول فهو الذي كانوا يتعارفونه في الجاهلية ، كانوا يدفعون المال مدة على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ثم إذا حل الدين طالب المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل . وأما ربا الفضل فأن يباع مَنٌّ من الحنطة بمنوين مثلاً .

والمروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول وكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة . ويجوّز ربا النقد فقال له أبو سعيد الخدري : أشهدت ما لم نشهد أسمعت ما لم نسمع؟ فروى له الحديث المشهور في هذا الباب . وله روايات منها . « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء » ثم قال أبو سعيد : لا أرني وإياك في ظل بيت ما دمت على هذا . فيروى أنه رجع عنه . قال محمد بن سيرين : كنا في بيت معنا عكرمة فقال رجل : يا عكرمة ، أما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس؟ فقال : إنما كنت استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمه فاشهدوا أني قد حرمته وبرئت إلى الله منه . حجة ابن عباس أن قوله تعالى : { وأحل الله البيع } يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً . وقوله : { وحرم الربا } لا يتناوله لأن كل زيادة ليست محرمة فوجب أن تبقى على الحل ولا يخرج إلا العقد المخصوص الذي كان يسمى فيما بينهم ربا وهو ربا النسيئة . وقد تأكد هذا الرأي بما روى أسامة ين زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الربا في النسيئة » وفي رواية « لا ربا فيما كان يداً بيد » وذكر أبو المنهال أنه سأل البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال : إن كان يداً بيد فلا بأس ، وإن كان نسيئة فلا يصح . وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على حرمة الربا في القسمين . أما النسيئة فبالقرآن ، وأما النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة : النقدان والمطعومات الأربعة . ولا شك أن الربا إنما ثبت فيها لمعنى ، فإذا عرف ذلك المعنى ألحق بها ما يشاركها فيه . أما الأشياء الأربعة فللشافعي في علة الربا فيها قولان : الجديد أن العلة الطعم لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « الطعام بالطعام مثل بمثل » علق الحكم باسمي الطعام ، والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق كالقطع المعلق باسم السارق ، والجلد المعلق باسم الزاني . والقديم أن العلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « الذهب بالذهب وزناً بوزن والبر بالبر كيلاً بكيل » فعلى هذا يثبت الربا في كل مطعوم مكيل أو موزون دون ما ليس بمكيل ولا موزون كالسفرجل والرمان والبيض والجوز .

وقال مالك : العلة الاقتيات ، فكل ما هو قوت أو يستصلح به القوت كالملح يجري فيه الربا . وعند أبي حنيفة العلة الكيل حتى ثبت الربا في الجص والنورة . وعن أحمد رواية كأبي حنيفة والأخرى كالجديد . وأما النقدان فعن بعض الأصحاب أن العلة فيهما لعينهما لا لعلة . والمشهور أن العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة فيشمل التبر والمضروب والحلي والأواني المتخذة منها ، ولا يتعدى الحكم إلى الفلوس على الأصح وإن راجت رواج الذهب والفضة لانتفاء العلة . وقال أحمد وأبو حنيفة : العلة فيهما الوزن فيتعدى الحكم إلى كل موزون كالحديد والرصاص . فهذا ضبط المذاهب وتفاريعها إلى الفقه . وأما السبب في تحريم الربا فهو أن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة يحصل له زيادة درهم من غير عوض ، وأخذ مال المسلم من غير عوض محرم لقوله صلى الله عليه وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » وإبقاء رأس المال في يده مدة مديدة وتمكينه من أن يتجر فيه وينتفع به أمر موهوم فقد يحصل وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد متيقن وتفويت المتيقن لأجل الموهوم لا يخلو من ضرر . وقيل : سبب تحريمه أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب ، لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً أو نسيئة أعرض عن وجوه المكاسب فيختل نظام العالم . وقيل : لما يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، ولأنه تمكين للغني من أن يأخذ مالاً زائداً من الفقير . وقيل : إن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ولا يجب أن تكون حكمة كل تكليف معلومة لنا . { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } التخبط الضرب على غير استواء ومنه خبط العشواء وتخبط الشيطان . قيل : من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع فورد على ما كانوا يعتقدون . والمس الجنون رجل ممسوس أي مسه الجني فاختلط عقله ، وكذلك جن الرجل ضربته الجن وهذا أيضا من زعماتهم . وقيل : من عادة الناس إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى : { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } [ الصافات : 65 ] فورد القرآن على ذلك . وقيل : إن الشيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الفزع فيصرع كما يصرع الجبان في الموضع الخالي ، ولهذا لا يوجد هذا الخبط في العقلاء وأرباب الحزم واللب . وأكثر المسلمين على أن الشيطان لا يبعد أن يكون قوياً على الصرع والقتل والإيذاء بتقدير الله تعالى . وللمفسرين في الآية أقوال : أحدها أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف . وقوله : { من المس } يتعلق ب { لا يقومون } أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع . أو يتعلق ب { يقوم } أي كما يقوم المصروع من جنونه ، وقال ابن قتيبة : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم فأثقلهم .

وقيل : إنه مأخوذ من قوله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } [ الأعراف : 201 ] وذلك أن الشيطان يدعوه إلى الهوى ، والملك يجره إلى التقوى ، فيقع هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة وهو الخبط ، فإذا مات آكل الربا على ذلك أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذلك الحجاب بينه وبين الله تعالى . { ذلك } العقاب بسبب قولهم { إنما البيع مثل الربا } وذلك أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع وإلا كان حق النظم في الظاهر أن يعكس فيقال : إنما الربا مثل البيع . لأن الكلام في الربا لا في البيع ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، ثم إنهم كانوا يعولون في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر نقداً أو نسيئة فهذا حلال ، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر لا فرق بين الصورتين إذا حصل التراضي من الجانبين ، والبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات . ولعل الإنسان يكون صفر اليد في الحال وسيحصل له أموال كثيرة في المآل فإعطاؤه الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال . فأجاب الله تعالى عنها بحرف واحد وهو قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا } وحاصلة إنكار التسوية وأن النصر لا يعارض بالقياس فإن ذلك من عمل إبليس ، أمره الله تعالى بالسجود فعارض النص بالقياس وقال أنا خير منه . ثم ظاهر الآية يدل على أن الوعيد إنما لحقهم باستحلالهم الربا دون الإقدام على أكله مع اعتقاد التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون أكل الربا من الكبائر ، ويجب تأويل مقدمة الآية بأن المراد من أكلهم الربا استطابته واستحلاله كما يقال : فلان يأكل مال الله قضماً وهضماً . أي يستحل التصرف فيه إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد . قيل : ويحتمل أن يكون قوله { وأحل الله البيع وحرم الربا } من تمام كلام الكفار على سبيل الاستبعاد . وأكثر المفسرين على خلافه لأن جعله من كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار هو أن يحمل ذلك على الاستفهام بطريق الإنكار ، أو على الرواية عن قول المسلمين والإضمار خلاف الأصل . وأيضاً لو كان من تمام كلامهم فلم يكشف الله تعالى عن فساد شبهتهم ، فلم يكن قوله بعد ذلك { فمن جاءه موعظة من ربه } لائقاً بالمقام وأيضاً المسلمون لم يزالوا متمسكين في البيع بهذه الآية ، ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار لم يصح منهم الاستدلال بها .

وههنا بحث للشافعي وهو أن الآية من المجملات التي لا يجوز التمسك بها بناء على أن الاسم المفرد باللام لا يفيد العموم وليس فيه إلا تعريف الماهية فيكفي في العمل به ثبوت صورة واحدة . ولو سلم إفادة العموم فلا شك أن إفادته مما لو قيل : وأحل الله البياعات : بلفظ الجمع . ومع ذلك فقد تطرق إليه تخصيصات خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله لأنه قريب من الكذب . نعم إطلاق اللفظ المستغرق على الأغلب عرف مشهور ، وأيضاً روي أن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا . ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لم يقل ذلك . وأيضاً قوله { وأحل الله البيع } يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وقوله : { وحرم الربا } يقتضي أن يكون كل رباً حراماً . لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة ، وإذا تعارضا وتساقطا ووجب الرجوع إلي بيان النبي صلى الله عليه وسلم . { فمن جاءه موعظة } فمن بلغه وعظ { من ربه فانتهى } امتنع من استحلال الربا وتبع النهي { فله ما سلف } فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم كقوله { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] عن الزجاج : والتنوين في { موعظة } للتعظيم أو للتقليل أي موعظة بليغة أو شيء من المواعظ . وقيل : النهي المتأخر كيف يؤثر في الفعل المتقدم حتى يكون ما سلف ذنباً؟ فالمراد له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف . عن السدي : والسلوف التقدم ومنه الأمم السالفة ، وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها ، { وأمره إلى الله } لأنه إن انتهى عن أكل الربا كما انتهى عن استحلاله فهو المقر بدين الله العامل بتكليفه فيستحق المدح والثواب ، وإن انتهى عن الاستحلال دون الأكل فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له لقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] { ومن عاد } إلى استحلال الربا وأنه مثل البيع { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لأنه كفر باستحلال ما هو محرم إجماعاً . وأما القائلون بتخليد الفساق فيقولون : ومن عاد إلى أكل الربا . ثم إنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآي السالفة في الحث على الصدقات ، ذكر ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الربا وفعل الصدقة فقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } والمحق نقص الشيء حالاً بعد حال ومنه « محاق القمر » وكل من محق الربا وإرباء الصدقات إما في الدنيا وإما في الآخرة . وذلك أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله .

عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الربا وإن كثر إلى قل » وذلك لدعاء الناس عليه وبغضهم إياه لسقوط عدالته وشهرته بالفسق والعدوان ، وربما يطمع الظلمة في ماله ظناً منهم من أن المال في الحقيقة ليس له . وعن ابن عباس في تفسير هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلة . ثم إن مال الربا لا يبقى عند الموت وتبقى التبعة عليه . وقد ثبت في الحديث « أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام » هذا حال الغني من الحلال فكيف حال الغني من الحرام المقطوع بحرمته؟ قال القفال : نظير قوله { يمحق الله الربا } المثل الذي ضربه فيما تقدم { كمثل صفوان عليه تراب } [ البقرة : 264 ] ونظير قوله : { ويربي الصدقات } المثل الآخر { كمثل جنة بربوة } [ البقرة : 265 ] . { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } [ البقرة : 261 ] عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد » وأيضاً المتصدق يزداد كل يوم جاهه وذكره الجميل وتميل القلوب إليه وتنقطع الأطماع عنه متى اشتهر منه أنه متشمر لإصلاح مهمات الضعفاء وسد خلة الفقراء ، فتبين أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في المآل ، والصدقة وإن كانت نقصاناً في الحال إلا أنها زيادة في الاستقبال . فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الحس والطبع ويعوّل على ما ندب إليه العقل والشرع { والله لا يحب كل كفار أثيم } الكفار فعال من الكفر ومعناه المقيم على ذلك ، والصيغة للمزاولة ك « تمار وقوال » والأثيم « فعيل » بمعنى « فاعل » وهو أيضا للمبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام ، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً . ووجه آخر وهو أن يكون الكفار عائداً إلى المستحل ، والأثيم إلى الآكل مع اعتقاد التحريم . ويحتمل أن يعود كلاهما إلى أكل الربا ويكون تغليظاًَ في أمر الربا وإيذاناً بأنه من فعل الكفرة لا من فعل المسلمين . وفي الآية دلالة على أنه تعالى سبقت رحمته غضبه . بيانه أنه لم ينف المحبة إلا عن الجامع بين الإصرار على الكفر وبين المواظبة على سائر الآثام كالربا . فإن استحلاله كفر وهو في نفسه إثم مذموم في جميع الأديان ، لأنه سلب مال المحتاج بنوع من الإكراه والإلجاء ، فتبقى الآية ساكنة عمن جمع بين الأمرين لا على سبيل الإصرار والمواظبة وعن الذي لم يجمع بينهما . نعم قد عرف بدليل آخر أن الكفار الذي لم يواظب على سائر الآثام لا يستأهل محبة الله تعالى وذلك لا ينافي السكوت عن حكمه ههنا والله أعلم .

ثم ذكر الترغيب عقيب الترهيب على عادته من ذكر الوعد مع الوعيد فقال { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية . فاحتج به من قال العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان كما مر . وأجيب بأنه قال في الآية : { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } مع أن الصلاة والزكاة من الأعمال الصالحة . ورد بأن الأصل حمل كل لفظ على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر فيبقى في غيره على الأصل { لهم أجرهم عند ربهم } لم يقل « على ربهم » لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد وذلك النقد حاضر متى شاء البائع أخذه ، والثاني جارٍ مجرى البيع في الذمة نسيئة ، ولا شك أن الأول أفضل { ولا خوف عليهم } عن ابن عباس : أي فيما يستقبلهم من أحوال القيامة { ولا هم يحزنون } بسبب ما تركوه في الدنيا ، فإن المنتقل من حال إلى حال أخرى فوقها ربما يتحسر على بعض ما فاته من الأحوال السالفة وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلف وعادة ، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الندامة لا يلحق أهل الثواب والكرامة . وقال الأصم : لا خوف عليهم من عذاب يومئذٍ ولا هم يحزنون بسبب أنهم فاتهم النعيم الزائد الذي حصل لغيرهم من السعداء لأنه لا منافسة في الآخرة ، وأيضاً إنهم لا يحزنون بسبب إنه لم يصدر منا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا بها مستحقين بثواب أزيد مما وجدناه لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة . وههنا سؤال وهو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله ، ولما بلغت حاضت . وعند انقطاع حيضها ماتت . أو الرجل بلغ عارفاً بالله ، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات . فهما بالاتفاق من أهل الثواب مع خلوهما عن الأعمال ، فكيف وقف الله ههنا حصول الأجر على حصول الأعمال؟ والجواب أن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها ، وقد دلت الآية على أن كل مؤمن عمل صالحاً فله الأجر فلا يلزم العكس الكلي ثم إنه تعالى لما بيَّن أن من انتهى عن الربا فله ما سلف كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم فقال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } فبين أنه يحرم أخذ ما بقي من الربا في ذمتهم . فإن قيل : كيف قال { يا أيها الذين آمنوا } ثم قال في آخره { إن كنتم مؤمنين } ؟ فالجواب أن هذا كما يقال : إن كنت أخي فأكرمني . معناه أن من كان أخاً أكرم أخاه . ومعناه إذ كنتم مؤمنين أو إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان ، أو يا أيها الذين آمنوا بلسانكم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم .

قال القاضي : وفيه دلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق متى تجنب كل الكبائر . وأجيب بأن المراد إن كنتم عاملين بمقتضى الإيمان . وهذا بناء على أن العمل الصالح غير داخل في مسمى الإيمان ، وإنما شدد الله في ذلك لأن المنتظر لحلول الأجل إذا حضر الوقت وطن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له ففطامه عنها يكون شديداً عليه فقال { اتقوا الله } واتقاؤه إنما يكون باتقاء ما نهى عنه . وهذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار . إذا أسلموا ، فإن ما مضى في الكفر يبقى ولا ينقض ولا يفسخ ، وما لم يوجد منه في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب وإن كان النكاح وقع على مهر حرام فقبضته المرأة فقد مضى ، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون ما سمى وهذا مذهب الشافعي . وأما سبب نزول الآية فعن ابن عباس : بلغنا - والله أعلم - أنها نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف وفي بني المغيرة بني مخزوم . كانت بنو المغيرة يربون لثقيف ، فلما أظهر الله ورسوله على مكة وضع يومئذ الربا كله فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالربا أوضع عن الناس غيرنا . فقال بنو عمر : وصولحنا على أن لنا ربنا ، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله . وقال عطاء وعكرمة : نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر : لا يبقى لي ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقكما كله . فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا . فلما جاء الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما ونزلت الآية فسمعا وأطاعا وأخذ رؤوس أموالهما . وقال السدي : « نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب « » { فإن لم تفعلوا فأذنوا } قيل : خطاب مع الكفار المستحلين للربا . ومعنى قوله : { إن كنتم مؤمنين } معترفين بتحريم الربا { فإن لم تفعلوا } أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه { فأذنوا } ومن ذهب إلى هذا القول قال : فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام فهو خارج عن الملة كما لو كفر بجميع شرائعه ، وعلى هذا يكون مالهم فيئاً للمسلمين .

وقيل : خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا لأنه خطاب مع قوم تقدم ذكرهم وما هم إلا المخاطبون بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } ومعنى قوله : { فأذنوا } عند من جعله من الإيذان أعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ، فالمفعول محذوف . وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضا قد علموا ذلك ، لكن ليس في علمهم دلالة علي إعلام غيرهم . فهذه القراءة في الإبلاغ آكد ممن قرأ { فأذنوا } من أذن بالشيء إذا أعلم به أي كونوا على إذن وعلم . فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟ قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر « من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة » وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله » وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] أصلاً في قطاع الطريق من المسلمين . فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وسنة رسوله . ثم التفضيل فيه أن المصر على عمل الربا إن كان شخصاً قدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى عليه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن كان له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكر مانعي الزكاة . وكذا القول لو أجمعوا على ترك الأذان وترك دفن الموتى فإنه يفعل بهم ما ذكرناه { وإن تبتم } من استحلال الربا أو عن معاملة { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } الغريم يطلب زيادة على رأس المال { ولا تظلمون } أنتم بنقصان رأس المال . { وإن كان ذو عسرة } إن وقع غريم من غرمائكم ذو إعسار على أن « كان » هي التي تسمى تامة بمعنى وجد الشيء وحدث في نفسه لا بمعنى وجد موصوفاً بشيء فإنها حينئذٍ تكون ناقصة تحتاج إلى الخبر . وقرأ عثمان { ذا عسرة } بمعنى وإن كان الغريم أو المستربي ذا عسرة . والقراءة المشهورة أولى كيلا تكون النظرة مقصورة على الغريم المستربي بل تعمه وغيره من أرباب العسرة وهي اسم من الإعسار وهو تعذر الموجود من المال . والنظرة التأخير والإمهال وفي الآية حذف والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة . وقرىء { فنظرة } بسكون الظاء ، وقرأ عطاء { فناظره } على الأمر أي سامحه بالإنظار وناظره أي صاحب الحق ناظره أي منتظره ، أو ذو نظرته مثل مكان عاشب أي ذو عشب . والميسرة اليسار ضد الإعسار .

وقرىء بضم السين كمقبرة ومقبرة . ومن قرأ بالإضافة إلى الضمير فقد حذف التاء كقوله : { وأقام الصلاة } واختلفوا في أن حكم الإنظار مختص بالربا أو عام في الكل؟ فعن ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا . قال الكلبي : قال بنو عمرو لبني المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم . فقال بنو المغيرة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فنزلت { وإن كان ذو عسرة } وعن مجاهد وسائر المفسرين أنها عامة في كل دين ، ولهذا ورد « كان » تامة . ولو فرض أن سبب النزول خاص فلا بد من إلحاق سائر الصور به لأن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به وهو قول أكثر الفقهاء كمالك وأبي حنيفة والشافعي . والإعسار في الشرع هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ولا يكون له ما لو باعة لأمكن أداء الدين من ثمنه . فمن وجد داراً أو ثوباً لا يعد من ذوي العسرة إذا أمكنه بيعها وأداء ثمنها ، ولا يجوز له أن يحبس إلا قوت يومه لنفسه وعياله وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع الحر والبرد عنهم . وهل يلزمه أن يؤخر نفسه من صاحب الدين أو غيره؟ الأصح أنه لا يلزمه ، وكذا لو بذل له غيره ما يؤديه لا يلزمه القبول . فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يمكن إلا ذلك . وإذا علم الإنسان أن غريمه معسر حرام عليه حبسه وأن يطالبه بما له عليه ووجب الإنظار إلى وقت اليسار فأما إن كان غريمه في إعساره جاز أن يحبسه إلى ظهور الإعسار . وإذا ادعى الإعسار وكذبه الغريم فإن كان الدين الذي حصل لزمه حصل له عن عوض كالبيع أو القرض فلا بد له من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، فإن لم يكن عن عوض كإتلاف وضمان وصداق فالقول قوله وعلى الغريم البينة ، لأن الأصل هو الفقر ، { وأن تصدقوا } على المعسر بما عليه من الدين يدل على ذلك ذكر المعسر وذكر رأس المال { خير لكم } لحصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى { إن كنتم تعلمون } أن هذا التصدق خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه ، أو تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض بعده ، أو تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم . وقيل : المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام : « لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة » وزيف بأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى فلا بد من فائدة جديدة ولأن قوله { خير لكم } إنما يليق بالمندوب لا بالواجب . ثم إن المعاملين بالربا كانوا أصحاب شرف وجلالة وأعوان وتغلب على الناس ، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد فلا جرم وقع ختم أحكام الربا بقوله { واتقوا يوماً } والمراد اتقاء ما يحدث فيه من الشدائد والأهوال .

واتقاء ذلك لا يمكن إلا باجتناب المعاصي وفعل الأوامر في الدنيا فهذا القول يتضمن الإتيان بجميع التكاليف . وانتصب { يوماً } على أنه مفعول به . والمعنى : تأهبوا بما تسلفون من العمل الصالح للقاء يوم { ترجعون فيه إلى الله } أي إلى ما أعد لكم من ثواب أو عقاب ، وإلى علمه وحفظه وذلك أن الإنسان له أحوال ثلاث على الترتيب : الأولى كونه جنيناً لا يملك تصرفاً فلا تصرف فيه إلا لله ، والثانية خروجه إلى فضاء وهنالك يرى للأبوين لغيرهما تصرف فيه ظاهر . الثالثة ما بعد الموت وهنالك لا يكون التصرف فيه ظاهراً وفي الحقيقة إلا لله تعالى فكأنه عاد إلى الحالة الأولى . وهذا معنى الرجوع إلى الله { ثم توفى كل نفس ما كسبت } أي جزاء ذلك أو المكتسب هو الجزاء كما يقال : كسب الرجل لما يحصله بتجارته . والمراد أن كل مكلف فإنه يصل إليه جزاء عمله بالتمام عند الرجوع إلى الله تعالى كقوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ثم كان لقائل أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين إيصال العذاب إلى عبيده الكفار والفساق فقال { وهم لا يظلمون } بل العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره وسهل طريق الاستدلال عليه وأمهل . هذا على أصول المعتزلة . وأما على أصول الأصحاب فهو إشارة إلى أنه تعالى ملك الملوك وخالق الخلائق ، والملك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً . عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بها جبريل وقال : ضعها على رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وثمانين يوماً ، وقيل أحداً وعشرين ، وقيل سبعة أيام ، وقيل ثلاث ساعات ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
التأويل : أخبر عن حرص أهل الدنيا وهم أكلة الربا بعد ذكر قناعة أهل العقبى . فمثل آكل الربا كمثل من به جوع الكلب يأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فلا يقوم إلا كما يقوم المصروع لأنه كلما أقام صرعه ثقل بطنه ، ومثله قوله عليه السلام : « إن هذا المال خضر حلو وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت فمن أخذه بحقه ووضعه بحقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع » وفي الحديث مثلان : أحدهما للمفرط في جمع الدنيا بحيث يفضي به إلى الهلاك في الدنيا والعقبى وأشار إليه بقوله :

« وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم » وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول فتستكثر منها الماشية لاستطابتها إياها حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاعتدال فتنشق أمعاؤها فتهلك أو تقارب الهلاك . والمثل الآخر للمقتصد وذلك قوله « إلا آكلة الخضر » وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول وجيدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره ولكنها من كلإ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لا تجد سواها ، فلا ترى الماشية تكثر منها وهو مثل التاجر الذي يكتسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدي حقه وإن كان له حرص في الطلب والجمع . ولكن لما كان بأمر الشرع وطريق الحل ما أضربه { وأحل الله البيع وحرم الربا } يعني كيف يكون ما أزال نور الأمر ظلمته مثل ما زاد ظلمته ارتكاب المنهي؟ فمرتكب الربا في ظلمات ثلاث : ظلمة الحرص وظلمة الدنيا وظلمة المعصية . { وأمره إلى الله } يرزقه من حيث لا يحتسب { والله لا يحب كل كفار } بنعمة الشرع وأنواره { أثيم } عامل بالطبع مقيم في ظلمة إصراره . ثم أخبر عن العاملين بالشرع الخارجين عن الطبع الذين آمنوا إيمان التصديق بالتحقيق مقروناً بالتوفيق ، ثم خرجوا عن ظلمة اتباع الهوى بإقامة الصلاة وعالجوا ظلمة الركون إلى الدنيا بأنوار إيتاء الزكاة ، فجذبتهم العناية من حضيض العبدية إلى ذروة العندية { ولهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم } من الرجوع إلى ظلمات الطبيعة { ولا هم يحزنون } لفوات أنوار الشريعة . ثم أخبر عن أهل الإيمان المجازي فقال { يا أيها الذين آمنوا } باللسان { اتقوا الله } أي بالله كما جاء . « كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم » . أي جعلناه قدامنا . ومن شرط المؤمن الحقيقي اتقاؤه بالله في ترك الزيادات كما قال : « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » و { ذروا ما بقي من الربا } تركوا ما سوى الله في طلبه { إن كنتم مؤمنين } إيماناً حقيقياً . { فإن لم تفعلوا } لم تتركوا كل زيادة تمنعكم { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ببعد منهما وبغض . { وإن تبتم } تركتم غيره { فلكم رؤوس أموالكم } وهي الكرامة التي فضلكم بها على كثير من خلقه وهي المحبة يحبهم ويحبونه { لا تظلمون } بوضع محبتي في غير موضعها من المخلوقات { ولا تظلمون } بوضع محبتكم في غير موضعها . { وإن كان ذو عسرة } لم يصل إليه ما أعد لأجله عاجلاً { فنظرة إلى ميسرة } وهو وقت وصوله إليه آجلاً { وأن تصدقوا } تبذلوا فينا ما تتمنون من صنوف برنا في الدنيا والعقبى على قدر همتكم { فهو خير لكم } لأنا نجازيكم على قدر مواهبنا { إن كنتم تعلمون } قدرها { ومن يتوكل على الله فهو حسبه }

« من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين » ثم إنه سبحانه كما جمع في القرآن خلاصة الكتب السماوية جمع في خاتمة الوحي خلاصة أي القرآن فقال : { واتقوا يوماً } الآية . وذلك أن فائدة جميع الكتب راجعة إلى معنيين : النجاة من الدركات السفلى وهي سبعة : الكفر والشرك والجهل والمعاصي والأخلاق المذمومة وحجب الأوصاف وحجاب النفس . والفوز بالدرجات العلى وهي ثمانية : المعرفة والتوحيد والعلم والطاعات والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته . فقوله { واتقوا } شامل لما يتعلق بالسعي الإنساني من هذه المعاني ، لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك إليه ، فتقوى العام الخروج بسبب الإقامة بشرائط { جاهدوا فينا } [ العنكبوت : 69 ] عن الكفر بالمعرفة ، وعن الشرك بالتوحيد ، وعن الجهل بالعلم ، وعن المعاصي بالطاعات ، وعن الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة . ثم من ههنا تقوى الخاص تخرجهم جذبات { لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] من حجب أوصافهم إلى درجة تجلي صفات الحق فيستظلون بظل سدرة المنتهى { عندها جنة المأوى } [ النجم : 15 ] فينتفعون بمواهب { إذ يغشى السدرة ما يغشى } [ النجم : 16 ] ثم من ههنا تقوى خاص الخاص فتخرجه العناية بجذبات { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] من سدرة المنتهى الأوصاف إلى قاب قوسين نهاية حجاب النفس وبدية أنوار القدس . وهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه وهو مقام أو أدنى ترجعون فيه إلى الله . لأن مبدأ وجودك النفخة ، وآخر حالك الجذبة ، وبها اصطفى آدم وكرم نبيه ولهذا لم يقل : ولقد كرمنا أولاد آدم ، لأن أهل الكرامة منهم من هو بوصف الرجال دون النساء . ثم وصف الرجال بقوله : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكرالله } [ النور : 37 ] فمن كان من النساء بهذا الوصف بهذا الوصف فهو من الرجال في المعنى ، ومن لم يكن من الرجال بهذا الوصف فهو من النساء في الحقيقة ، وفي هذا الرجوع وعد وبشارة للأولياء ، وويعد وإنذار للأعداء { ثم توفى كل نفس ما كسبت } فبقدر مراتبه في العبودية والتقوى يهتدي إلى مقامات القرب من المولى ، وبحسب فنائه عن حجاب نفسه يبقى ببقاء ذاته وهويته ، { وهم لا يظلمون } فإن دخول النور في البيت وخروج الظلمة منه إنما يكون على مقدار سعة فتح الروزنة وضيقة ولا تظلم الشمس عليه مثقال ذرة { فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 37 ، 41 ] .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

القراآت : { أن يمل } هو بسكون الهاء : قتيبة والحلواني عن قالون . الباقون بالضم على الأصل { أن تضل } بكسر الهمزة على الشرط : حمزة والمفضل . الباقون بالفتح على أنها ناصبة { فتذكر } بالتشديد والرفع : حمزة وجبلة { فتذكر } بالرفع ، ومن الإذكار : أبو زيد عن المفضل { فتذكر } من الإذكار وبالنصب : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة . الباقون { فتذكر } بالتشديد والنصب . { تجارة حاضرة } بالنصب فيهما : عاصم . الباقون بالرفع فيهما . { فرهن } بضم الراء والهاء : ابن كثير وأبو عمرو . الباقون { فرهان } .
الوقوف : { فاكتبوه } ط ، للعدول . { بالعدل } ص ، لعطف المتفقين { فليكتب } ج { شيئا } ط . { بالعدل } ط ، { من رجالكم } ج للشرط مع فاء التعقيب { الأخرى } ط { دعوا } ط للعدول { أجله } ط { ألا تكتبوها } ط لابتداء الأمر . { تبايعتم } ص لعطف المتفقين { ولا شهيد } ط { بكم } ط { واتقوا الله } ط ه ، { ويعلمكم الله } ط { عليم } ه ، { مقبوضة } ط لابتداء شرط واستئناف معنى آخر { ربه } ط للعدول { الشهادة } ط { قلبه } ط { عليم } ه .
التفسير : الحكم الثالث المداينة . وسبب النظم أن الحكمي المتقدمين وهما الإنفاق وترك الربا كانا سببين لنقصان المال ، فأرشد الله تعالى في هذه الآية بكمال رأفته إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن التلف والبوار ورعاية وجوه الاحتياط ، فإن مصالح المعاش والمعاد متوقفة على ذلك ، ولهذه الدقيقة بالغ في الوصاية وأطنب . عن ابن عباس أن المراد به السلم وقال : لما حرم الربا أباح السلم وأنزل فيه أطول آية . ولهذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا وجعل الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثلها طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً . والتداين تفاعل من الدين . يقال : داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً . والمراد إذا تعاملتم بما فيه دين . وذلك أن البياعات على أربعة أوجه : أحدها بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة البتة . والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فيبقى ههنا بيعان : بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل ، وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهم داخلان تحت الآية . وأما القرض فلا يدخل فيه وإنه غير الدين لغة فإن الدين يجوز فيه الأجل ، والقرض لا يجوز فيه الأجل . والفائدة في قوله : { بدين } تخليصه من التداين بمعنى المجازاة ، أو التأكيد مثل { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] أو ليشمل أي دين كان صغيراً أو كبيراً سلماً أو غيره . وفي الكشاف : فائدته رجوع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن . ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال فإنه كالمطابقة ، ودلالة تداينتم على ذلك كالتضمن . وقيل : ليكون المعنى تدايناً يحصل فيه دين واحد فيخرج بيع الدين بالدين .

وإنما لم يقل كلما تداينتم ليكون نصاً في العموم لأن الكلية تفهم من بيان العلة في قوله : { ذلكم أقسط عند الله } فإن العلة قائمة في الكل فيكون الحكم حاصلاً في الكل ، أو نقول : العلة هي التداين والعلة لا ينفك عنها معلوها فتكون القضية كلية كما في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] والأجل مدة الشيء ومنه أجل الإنسان لمدة عمره . وفائدة قوله { مسمى } أن يعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام . وأنه لو قال إلى الحصاد أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية . ثم إنه تعالى أمر في المداينة بشيئين : الكتبة والاستشهاد ليكون كلا المتداينين أوثق وآمن من النسيان والتفاوت والتخالف في مقدار الدين وفي انقضاء الأجل وفي سائر ما تشارطا عليه . وهذا الأمر قيل للوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي ، وجمهور المجتهدين على أنه للندب لإجماع المسلمين قديماً وحديثاً على البيع بالأثمان المؤجلة من غير كتبة ولا إشهاد ، ولأن في إيجابهما حرجاً وتضييقاً . وقيل : كانا واجبين فنسخا بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته } وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم بن عتيبة . أما المخاطب بقوله : { فاكتبوه } فليس كل أحد لوجود أميين كثيرين في الدنيا ، بل من له استئهال لكتبه ولهذا قال : { وليكتب بينكم كاتب } وليس ذلك أيضاً على الإطلاق ولكنه يجب أن يكون الكاتب متصفاً بالعدل فيكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص عنه ولا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، ويحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد منها . وهذا بالحقيقة أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً أديباً ديناً . قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين المجتهدين ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله { ولا يأب كاتب } ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى التنكير في كاتب { أن يكتب } وقوله { كما علمه الله } إما أن يكون متعلقاً بما قبله فالتقدير : ولا يأب كاتب أن يكتب مثل ما علمه الله تعالى فيقع قوله بعد ذلك { فليكتب } تأكيداً للأول أي فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله تعالى إياها أو بما بعده فيكون الأول نهياً عن الامتناع مطلقاً ، والثاني أمراً بالكتابة المقيدة والمطلق لا دلالة له على المقيد ، فلا يكون الثاني تأكيداً للأول وإنما يكون بياناً له . ثم النهي عن الامتناع عن الكتابة لكل كاتب إنما هو على سبيل الإرشاد والأولى تحصيلاً لحاجة المسلم وشكراً لما علمه الله من كتابة الوثائق فهو كقوله : { وأحسن كما أحسن الله إليك } [ القصص : 77 ] وقيل : إنه على سبيل الإيجاب ولكنه نسخ بقوله { ولا يضار كاتب ولا شهيد } . وعن الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد إلا كاتباً واحداً وجبت الكتابة عليه ، وإن وجد أشخاصاً فالواجب كتابة أحدهم .

وقيل : متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أنه بتقدير أن يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشروط كيلا يضيع مال المسلم بإهماله . واعلم أن الكتابة بعد حصول الكاتب العارف بشروط الصكوك والسجلات لا تتم إلا بإملاء من عليه الحق ليدخل في جملة إملائه اعترافه بمقدار الحق وصفته وأجله إلى غير ذلك ، فلهذا قال سبحانه { وليملل الذي عليه الحق } والإملال والإملاء لغتان : قال الفراء : أمللت عليه الكتاب لغة الحجاز وبني أسد ، وأمليت لغة بني تميم وقيس ، وقد نطق القرآن بهما . قال : { فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } [ الفرقان : 5 ] .
{ وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً } أمر أن لهذا المملي الذي عليه الحق بأن يقر بتمام المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً . والبخس النقص { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف وضعف عقله { أو ضعيفاً } صبياً أو شيخاً مختلاً { أو لا يستطيع أن يمل هو } أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس { فليملل وليه بالعدل } والمراد بولي الذي عليه الحق الذي يلي أمره ويقوم بمصالحه من وصي إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه . وفائدة توكيد المتصل بالمنفصل في قوله : { أن يمل هو } أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره وهو الذي يترجم عنه . وعن ابن عباس ومقاتل والربيع أن الضمير في { وليه } عائد إلى الدين أي الذي له الدين ليمل . قيل : وفيه بعد لأن قول المدعي كيف يقبل؟ ولو كان قوله معتبراً فأي حاجة إلى الكتابة والإشهاد؟ ثم المقصود من الكتابة هو الاستشهاد ليتمكن بالشهود من التوصل إلى تحصيل الحق إن جحد فلهذا قال تعالى : { واستشهدوا } أي أشهدوا . والإشهاد والاستشهاد بمعنى ، لأن معنى استشهدته سألته أن يشهد شهيدين أي شاهدين « فعيل » بمعنى « فاعل » . وإطلاق الشهيد على من سيكون شهيداً تنزيل لما يشارف منزلة الكائن . ومعنى قوله { من رجالكم } أي من رجال أهل ملتكم وهم المسلمون . وقيل يعني الأحرار ، وقيل من رجالكم الذين تعدّونهم للشهادة من أهل العدالة { فإن لم يكونا } أي الشهيدان رجلين { فرجل وامرأتان } أي فليكن أو فليشهد أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يشهدون جميع هذه التقديرات جائز حسن ذكره علي بن عيسى { ممن ترضون من الشهداء } وفيه دليل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة . والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة أن يكون حراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً عالماً بما يشهد به لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع مضرة عنها ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ولا بترك المروءة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة .

وعن علي عليه السلام : ولا يجوز شهادة العبد في شيء وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وذلك لأنه تعالى قال { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } والإجماع منعقد على أن العبد لا يجب عليه الذهاب بل يحرم عليه ذلك إذا لم يأذن له السيد ، فيعلم منه أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً . وعند شريح وابن سيرين وأحمد : تجوز شهادة العبد قالوا : لأن العقل والعدالة والدين لا يختلف بالحرية والرق . وعند أبي حنيفة يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل { ان تضل } أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها لغلبة البرد والرطوبة على أمزجتهن أو إحدى النفسين ، فإن الإنسان لا يخلو من النسيان { فتذكر إحداهما الأخرى } وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل . قال في الكشاف : فإن قلت : كيف يكون ضلالها مراداً لله؟ قلت : لما كان الضلال سبباً للإذكار والإذكار مسبباً عنه وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما ، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار ، فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ونظيره قولهم « أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه » . وفي التفسير الكبير أن ههنا غرضين : أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يتأتى إلا بتذكير إحدى المرأتين . والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يتأتّى إلا بضلال إحدى المرأتين ، فلهذا صار كل من الغرضين صحيحاً ولا محذور . ومن قرأ بكسر « إن » على الشرط والجزاء فلا إشكال . وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال { فتذكر إحداهما } معناه فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر ولا يخفى ما فيه من التعسف . واعلم أن الشهادة خبر قاطع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « على مثل الشمس فاشهد أو فدع » وقد يقام الظن المؤكد فيه مقام اليقين ضرورة . وقول الشاهد الواحد لا يكفي للحكم به إلا في هلال رمضان كما مر ، ولا يحتاج إلى أزيد من اثنين إلا في الزنا لقوله تعالى : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } [ النور : 4 ] وقال : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] ولا يعتبر فيه شهادة النساء . عن الزهري أنه قال مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود وغير هلال رمضان والزنا إما عقوبة أو غيرها . فإن كان عقوبة فلا يثبت إلا برجلين لما مر من حديث الزهري يستوي فيه حق الله تعالى كحد الشرب وقطع الطريق ، وحق العباد كالقصاص والقذف ، وأما غير العقوبات فما ليس بمالي .

ولا يقصد به المال إن كان مما يطلع عليه الرجال غالباً كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإسلام والردة والبلوغ والولاء وانقضاء العدة وجرح الشهود وتعديلهم والعفو عن القصاص ، فكل ذلك لا يثبت إلا برجلين أيضاً . وإن كان ممن يختص بمعرفته النساء غالباً فتقبل فيه شهادتهن على انفرادهن لما روي عن الزهري أنه قال : مضت السنة أن تجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن وذلك كالولادة والبكارة والثيابة والرتق والقرن والحيض والرضاع وعيب المرأة من برص وغيره تحت الإزار ، ولا يثبت شيء من ذلك بأقل من أربع نسوة تنزيلاً لاثنتين منهن منزلة رجل . وما يثبت بهن يثبت برجل وامرأتين وبرجلين بالطريق الأولى . وأما ما هو مال أو يقصد به المال كالأعيان والديون والعقود المالية من البيع والإقالة والرد بالعيب والإجارة والوصية بالمال والحوالة والضمان والصلح والقرض ، فيثبت بشهادة رجل وامرأتين ثبوتها بشهادة رجلين ونص القرآن منزل على هذا القسم والذي قبله . وجوز الشافعي القضاء بالشاهد واليمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين وأنكره أبو حنيفة { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } « ما » زائدة مبهمة أي إذا دعوا فقيل : أي إلى أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها . وقيل : إلى تحمل الشهادة وهو قول قتادة واختاره القفال قال : كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة ، أمر الشاهد أن لا يأبى تحمل الشهادة وقيل : أمر بالتحمل إذا لم يوجد غيره . وحمله الزجاج على مجموع الأمرين : التحمل أولاً والأداء ثانياً . والقول الأول أصح لأنه أطلق عليهم لفظ الشهداء . والأصل في الإطلاق الحقيقة وتسميتهم قبل التحمل شهداء مجاز لا يعدل إليه إلا لضرورة . وأيضاً التحمل غير واجب على الكل بخلاف الأداء بعد التحمل . وأيضاً الأمر بالإشهاد يتضمن الأمر بتحمل الشهادة ، فكان صرف قوله { ولا يأب الشهداء } إلى الأمر بالأداء أولى ليفيد فائدة جديدة وهي أن الشاهد إن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة ، وإن كان فيهم كثرة كان الأداء فرضاً على الكفاية . { ولا تسأموا } لا تضجروا ولا تملوا أن تكتبوه أي الدين أو الحق لتقدم ذكرهما على أي حال كان الحق صغيراً أو كبيراً مما جرت العادة بكتبته لا كالحبة والقيراط ، فإن القليل من المال ربما أفضى إلى نزاع كثير . وإنما نهى عن السآمة لأنها من الكسل والكسل صفة المنافق . وأيضا من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتاباً فربما مل كثرة الكتب فاقتضى المقام ترغيبه وإلهابه . ويجوز أن يكون الضمير للكتاب ، وأن تكتبوه مختصراً أو مشبعاً ، ولا يخلوا بكتابته إلى أجله إلى وقته الذي اتفقا على تسميته { ذلكم } الكتب أو ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد { أقسط } أعدل { عند الله وأقوم للشهادة } أعون على إقامة الشهادة وهما إما من أقسط وأقام فيكون محمولاً على قولهم « أفلس من ابن المذلق » وإما من قويم وقاسط بمعنى ذو قسط على طريقة النسب وإلا فالقاسط الجائر .

ولا يصح ذلك المعنى ههنا يقال : قسط إذا جار ، وأقسط أي عدل { وأدنى ألا ترتابوا } أقرب من انتفاء الريب . رتب الله تعالى على الكتبة والإشهاد ثلاث فوائد :
الأولى : تتعلق بالدين لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين أقرب وعن الجهل أبعد فيكون أعدل عند الله . والثانية تتعلق بالدنيا وهو كونه أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وأعون للحفظ والذكر .
والثالثة أنه يدفع الضرر عن نفسه بأن لا يضل في أمره ولا يتردد ، وعن غيره بأن لا ينسبه إلى الكذب والخيانة فلا يقع في الغيبة والجهالة . فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في الضبط والترتيب { إلا أن تكون تجارة حاضرة } قيل : هو راجع إلى قوله { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد ، فاستثنى عن المداينة ما يكون أجله قريباً . ويحتمل أن يكون استثناء من قوله : { ولا تسأموا أن تكتبوه } وقد يقال : إنه استثناء منقطع والتقدير : لكنه إذا كانت التجارة حاضرة فليس عليكم جناح . فيكون كلاماً مستأنفاً على سبيل الإضراب عن الأول . والتجارة تصرف في المال لطلب الربح . فسواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة . فإذاً المراد بالتجارة ههنا ما يتجر فيه من الأبدال . ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد . والمعنى إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد . ومن قرأ { تجارة } بالرفع فعلى « كان » التامة أو الناقصة والخبر { تديرونها } ومن قرأ بالنصب فالتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب .
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوماً . واليوم الأشنع هو الذي ارتفع شره وعلا . وذو كواكب أي شديد . ويقال في التهديد : لأرينك الكواكب ظهراً . وقال الزجاج : تقديره إلا أن تكون المداينة تجارة أي يكون ديناً قريب الأجل . { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } ومعنى رفع الجناح عدم الضرر لا عدم الإثم إلا لزم أن تكون الكتابة المذكورة أولاً واجبة ، وقد أثبتنا خلاف ذلك . وإنما رخص تعالى في هذا النوع من التجارة لكثرة جريانها فيما بين الناس . فتكليفهم الكتابة والإشهاد في كل لحظة حرج عليهم مع أن خوف التجاحد في مثله قليل . { وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا التبايع كأنه لما رفع عنهم الكتابة في التجارة الحاضرة ، كرر الأمر بالإشهاد ليعلم أن حكمه باق فيها لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته . ويحتمل أن يكون أمراً بالإشهاد مطلقاً ناجزاً كان التبايع أو كالئاً لأنه أحوط .

عن الحسن : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد . وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل . { ولا يضار كاتب ولا شهيد } يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل فيكون أصله لا يضارر بكسر الراء وبه قرأ عمر وعليه أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ومعناه : نهى الكاتب أن يزيد أو ينقص والشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة إلى ما يطلب منهما ولهذا قال : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } فإن التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم . وعن ابن مسعود وعطاء ومجاهد أن التقدير لا يضارر بفتح الراء وبه قرأ ابن عباس ، وأنه نهي للمتداينين عن الضرار بالكاتب والشهيد كأن يعجلا عن مهم ويلزا ، أولا يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئة من بلد . { وإن تفعلوا } ما نهيتكم عنه من الضرار أو كل ما نهيتكم عنه من فعل معصية أو ترك طاعة ليكون عاماً { فإنه } فإن الضرار أو ارتكاب المنهي { فسوق بكم } خروج عن أمر الله وطاعته . ومعنى { بكم } أي ملتصق بكم . { واتقوا الله } في أوامره ونواهيه { ويعلمكم الله } ما فيه صلاح الدارين { والله بكل شيء } من مصالح عباد { عليم } .
واعلم أنه سبحانه جعل البياعات في هذا المقام على ثلاثة أقسام : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع بالأمانة . ولما بين القسم الأول شرع في الثاني وقال { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } واتفق الفقهاء على أن الارتهان لا يختص بالسفر ولا بحالة عدم وجدان الكاتب ، كيف وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه في غير سفر ، ولكنه وردت الآية على الغالب ، فإن الغالب أن لا يوجد الكاتب في السفر ولا يوجد أدوات الكتابة ولهذا قال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة وقرأ { ولم تجدوا كاتباً } ونظيره قوله { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } [ النساء : 101 ] وليس الخوف من شرط جواز القصر . وكان مجاهد والضحاك يذهبان إلى أن الرهن لا يجوز في غير السفر أخذاً بظاهر الآية ، ولا يعمل بقولهما اليوم . وأصل الرهن من الدوام . رهن الشيء إذا دام وثبت . ونعمة راهنة أي دائمة ثابة والرهن مصدر جعل اسماً وزال عنه عمل الفعل . فإذا قلت رهنت عنده رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر ولكن انتصاب المفعول به كما تقول : رهنت ثوباً . ولهذا جمع الأسماء . وله جمعان : رهن بضمتين كسقف في سقف ، ورهان مثل كباش في كبش . وقيل : إن أحدهما جمع الآخر . وفي الكلام حذف تقديره فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين ، أو فعليه رهن ، أو فالوثيقة ، أو الذي يستوثق به رهن . ويعلم من قوله : { مقبوضة } أن الرهن لا بد في لزومه من القبض ، والمراد باللزوم أن لا يكون للراهن الرجوع عن الرهن ولا للمرتهن عن الارتهان .

وقبض المرهون المشاع إنما يحصل بقبض الكل وقبل القبض يصح الرهن ولكن لا يلزم . وأما صورة القبض فقبض العقار إنما يحصل بتخلية الراهن أو وكيله بينه وبين المرتهن أو وكيله وتمكينه منه بتسليم المفتاح فيما له مفتاح . وقبض المنقول يحصل بالنقل من موضعه إلى موضع لا يختص بالراهن كالشارع والمسجد وملك المرتهن ، وإن كان المنقول مقدراً فلا بد من التقدير أيضاً بوزن أو كيل أو ذرع . ولو نقل من بيت من دار الراهن إلى بيت آخر بإذنه ، أو وضعه الراهن بين يدي المرتهن إذا امتنع من قبضه ، حصل القبض . ثم إنه تعالى ذكر بيع الأمانة فقال { فإن أمن بعضكم بعضاً } فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } فليكن المديون عند ظن الدائن به . وسمى الدين أمانة وإن كان مضموناً لائتمانه عليه بترك الارتهان منه والحاصل أنه مجاز مستعار . وذلك أنه لما اشترك هذا الدين مع الأمانة الشرعية في وصف وجود الأمانة اللغوية أطلق أحدهما على الآخر . والائتمان افتعال من الأمن { وليتق الله ربه } حتى لا يدور في خلده جحود واختيان . وفي الآية قول آخر وهو أنها خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنها أمانة في يده . والصحيح هو الأول . ومن الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتبة والإشهاد وأخذ الرهن . والحق أن تلك الأوامر محمولة على الإرشاد رعاية وجوه الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة . وعن ابن عباس أنه قال : في آية المداينة نسخ . ثم قال : { لا تكتموا الشهادة } وفيه وجوه :
الأول عن القفال : أنه تعالى لما أباح ترك الكتبة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ، ثم كان من الجائز أن يكون هذا الظن خطأ وأن يخرج المديون جاحداً للحق ، وكان من الممكن أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم ، ندب الله ذلك الإنسان أن يشهد لصاحب الحق بحقه ، سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لا ، وشدد فيه بأن جعله إثم القلب لو تركه . وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم : « خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد » وقيل : المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة . وقيل : المراد بالكتمان الامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، فإن في ذلك إبطال حق المسلم ، وحرمه مال المسلم كحرمة دمه ، فلهذا بالغ في الوعيد وقال { ومن يكتمها فإنه اثم قلبه } والآثم الفاجر ، والآثم مرتفع بأن و { قلبه } فاعله . ويجوز أن يكون { قلبه } مبتدأ و { آثم } خبره مقدماً عليه ، والجملة خبر « إن » .

وفائدة ذكر القلب والشخص بجملته آثم لا قلبه وحده ، هو أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلب من الدواعي والصوارف ، وإسناد الفعل إلى القلب الذي هو محل الاقتراف ومعدن الاكتساب أبلغ كما يقال عند التوكيد : هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب » وزعم كثير من المتكلمين أن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب ، { والله بما تعملون عليم } فيه تحذير للكاتم وتهديد له . عن ابن عباس : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : { فقد حرم الله عليه الجنة } وشهادة الزور وكتمان الشهادة .
التأويل : إنه تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستشهدوا عليه العدول ، فقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عباده في الميثاق { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } [ التوبة : 111 ] إلى قوله : { واستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } [ التوبة : 111 ] وأشهد الملائكة الكرام { وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين } [ الانفطار : 10 ، 11 ] وإنه تعالى كما أمركم أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً أمرالملائكة أن يكتبوا معاملاتكم الصغيرة والكبيرة ، ثم عند خروجكم من الدنيا يجعلون ذلك في أعناقكم { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } [ الإسراء : 13 ] ثم نودي من سرادقات الجلال : يا قوي الظلم ضعيف الحال { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] ثم إن الكتاب يكتبون عليه في صباحه ومسائه ، وما يكتبون إلا من إملائه وإنه بالقليل والكثير مما يملي يخاطب ، وبالنقير وبالقطمير على ما يميل عن الحق يعاتب ، فليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، فعليه أن يملي الحق للحق . فإن كان الذي عليه حق للحق سفيهاً جاهلاً بإملاء الحق للحق لاشتغاله بالباطل ، أو ضعيفاً عاجراً مغلوباً بغلبات نفسه ، أو لا يستطيع أن يمل هو لكونه ممنوعاً بالعواتق والعلائق لا قدرة له على إملاء ما ينفعه ولا يضره ، ولا قوة له في إنهاء ما لا يحزنه ويسره ، { فليملل وليه بالعدل } فإن لكل قوم ولياً يخرجهم من الأحزان إلى السرور ، ومن الأسجان إلى القصور ، ومن الأشجان إلى الحبور ، ومن العجز والفتور إلى القوة والحضور . { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] و { استشهدوا شهيدين } استصحبوا من أرباب القلوب اثنين من رجالكم الذين هم بالنسبة إليكم رجال وأنتم نساء { فإن لم يكونا رجلين } أرباب القلوب { فرجل } منهم { وامرأتان } أي رجلان من أهل الصلاح ليكونا بمثابة رجل من أهل الولاية في فائدة الصحبة { ممن ترضون من الشهداء } ممن يصلح أن يكون من شهداء الله كما قال : « أنتم شهداء الله في أرضه » { أن تضل إحداهما } عن جادة الاستقامة في بادية النفس المملوءة من شياطين الهوى { فتذكر إحداهما الأخرى } فالرفيق ثم الطريق .

واعلم أن أهل الدين طائفتان : الواقفون والسائرون . والمراد بالواقف من وقف في عالم الصورة ولم يفتح له باب إلى عالم المعنى كالفرخ المحبوس في قشر البيضة فيكون شربه من عالم المعاملات البدنية ولا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس في سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام يكتبان عليه من أعماله الظاهرة بالنقير والقطمير { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ ق : 18 ] وأما السائر فلا يقف في محل ولا ينزل في منزل يسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى ، ومن مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح وهم صنفان : سيار وطيار . فالسيار من يسير بقدمي الشرع والعقل على جادة الطريقة ، الطيار من يطير بجناحي العشق والهمة في فضاء الحقيقة وفي رجله جلجلة الشريعة . فالإشارة في قوله : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً } إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل ، فلم يوجد له كاتب يكتب عليه كما قال بعضهم : ما كتب عليّ صاحب الشمال منذ عشرين سنة ، وقال بعضهم : كاشف لي صاحب اليمين وقال لي : أمل علي شيئاً من معاملات قلبك لأكتبه فإني أريد أن أتقرب به إلى الله . قال : فقلت له : حسبك الفرائض . فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق أو يكون هارباً منه . فأما الذي آناء الليل وأطراف النهار يغدو ويروح في طلب غريمه وما يبرح في حريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد ، فالذي هو موكل على الهارب يكون وكيلاً وحفيظ للطالب { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } [ الرعد : 11 ] وللسائرين رهان مقبوضة عند الله ، رهان وأية رهان ، قلوب ليس فيها غير الله قبض ، وأي قبض؟ مقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمن . أما الطيار الذي هو عاشق مفقود القلب ، مغلوب العقل ، مجذوب السر ، فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش ببطشه الشديد .
مستهام ضاق مذهبه ... في هوى من عز مطلبه
كل أمر في الهوى عجب ... وخلاصي منه أعجبه
وإنما يحتاج إلى الرهن المتهم بالخيانة لا المتعين للأمانة ، فلم يوجد في السموات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن لتحمل أعباء أمانته إلا العاشق المسكين . لما نظر إليها كان فراش تلك الشمعة عشقها فطار فيها وأتى بحملها ، فلما حملها واستحسن منه ما تفرد به من أصحابه جاءت له من الحضرة ألقاب فنسب في البداية إلى الإفساد وسفك الدماء { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] ولقب في النهاية بالظلم والجهل { إنه كان ظلوماً جهولاً } [ الأحزاب : 72 ] هذا أمر عجيب ونقش غريب ، من لم يطع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى المكانة والطاعة والأمانة مكين مطاع ثم أمين . ومن أطاع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى الظلم والجهل والفساد والخيانة ، نعم إنما يكون ذلك لوجهين : أحدهما أن الذلة والمسكنة وقعت في قسم العاشق كما أن العزة والعظمة وقعت في طرف المعشوق بل جمال عزة المعشوق ، لا يظهر إلا في مرآه ذلة العاشق .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...