Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج13وج14. كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج13وج14. كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد

  بن حسين القمي النيسابوري
أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة ، ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية . أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه ، ثم عاد إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة فقال { قد جاءكم بصائر } أي موجباتها والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين . { فمن أبصر } الحق وآمن { فلنفسه } أبصر وإياها نفع . { ومن عمي } عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر . قالت المعتزلة : فيه تصريح بأن العبد يتمكن من الأمرين : الفعل والترك . وعورض بالعلم والداعي { وما أنا عليكم بحفيظ } أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها ، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم . ثم حكى شبه المنكرين بقوله { وكذلك } أي مثل ذلك التقرير البليغ { نصرف الآيات } نأتي بها متواترة حالاً بعد حال { وليقولوا } عطف على محذوف أي لتلزمهم الحجة وليقولوا أو متعلق بما بعده أي وليقولوا درست نصرفها . ومعنى { درست } قرأت وتعلمت من الدرس ، ومن قرأ { دارست } أي قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة . وأما قراءة ابن عامر { درست } فهي من الدروس بمعنى أن هذه الآيات قد درست وعفت أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا من جملة أساطير القرون الخالية ، قالت العلماء : التركيب يدل على التذليل والتليين لأن من درس الكتاب فقد ذلله بكثرة القراءة ، ومنه قيل للثواب الخلق « دريس » ، لأنه قد لان فكأنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله صرف الآيات وهو أمران : أحدهما قوله { وليقولوا دارست } والثاني قوله { ولنبينه } أما الثاني فلا إشكال فيه لأنه بيّن أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والعلم والضمير في { لنبينه } للآيات لأنها في معنى القرآن ، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به ، أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل نحو : ضربته زيداً أي ضربت الضرب زيداً . وأما الأول فقد أورد عليه أن قولهم للرسول { دارست } كفر منهم بالقرآن والرسول ، وعلى هذا فتعود مسألة الجبر والقدر ، أما الأشاعرة فأجروا الكلام على ظاهره وقالوا : معناه أنا ذكرنا هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفراً على كفر ، ونبينه لبعض فيزدادوا إيماناً على إيمان كقوله { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم والقاضي : إن هذا الإثبات محمول على النفي والتقدير : نصرف الآيات لئلا يقولوا كقوله { يبين الله لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] أي لئلا تضلوا . أو المراد لام العاقبة ، وزيف بأن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وفتح هذا الباب يخرج الكتاب عن أن يكون حجة . وأيضاً إنه مناف للمقصود لأن إنزال الآيات نجماً فنجماً هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما أتى بالقرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة مع أقوام آخرين ، ولهذا كانوا يقولون لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة .

فالجواب الذي ذكره إنما يصح لو كان التصريف علة لأن يمتنعوا من هذا القول لكنه موجب له فسقط كلامهم ، وأيضاً حمل اللام على لام العاقبة مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى .
ثم إنه لما حكى عن الكفار أنهم نسبوه في شأن القرآن إلى الافتراء وإلى أنه دارس أقواماً واستفاد هذه العلوم منهم ثم نظمها قرآناً وادّعى أنه نزل عليه من الله أتبعه قوله { اتبع ما أوحي إليك من ربك } لئلا يصير ذلك القول سبباً لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي يعتريه بسماع تلك الشبهة ، ونبه بالجملة المعترضة أو الحال المؤكدة وهي قوله { لا إله إلا هو } على أنه سبحانه لما كان واحداً في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين . ثم ختم الآية بقوله { وأعرض عن المشركين } وحمله بعضهم على أنها منسوخة بآية القتال . وضعف بأن المراد واترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه ، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغيظ . { ولو شاء الله ما أشركوا } مذهب الأشاعرة فيه ظاهر . وحمله المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقسر . وأجيب بعد المعارضة بالعلم والداعي بأن الإيمان الاختياري هب أنه أنفع وأفضل من الإيمان القهري إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك لا يقع ولا يحصل فقد كان يجب في حكمته أن يخلق الله فيه الإيمان القهري كي يخلص من العقاب ، وإن لم يجب له الثواب كما أن الأب المشفق إذا علم أن ابنه لا يحسن الغوص يقول له : اترك الغوص في البحر ولا تطلب اللآلىء فإنك لا تجدها واكتف بالرزق القليل مع السلامة ، فأما أن يأمره بالغوص في البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فإن ذلك من الرحمة والشفقة بمعزل . ثم ختم الكلام بما يكمل به بصيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وآله ، وذلك أن بيّن له قدر ما جعل إليه فذكر أنه ما جعله حفيظاً ولا وكيلاً عليهم وإنما فوض إليه الإبلاغ والإنذار . ثم إنهم لما نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغضب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول . وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء . قال ابن عباس : لما نزل

{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] قال المشركون : لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت . وقال السدي : « لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا ، وأن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه . فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا تريدون؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك . فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك وبنو عمك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي؟ قال : قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها . فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها . فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية » قالت العلماء : إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلاً بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة ، أو لعل مرادهم شتم الرسول صلى الله عليه وسلم وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشطيان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد صلى الله عليه وسلم وآله . وههنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكراً وجب الاحتراز عنه ، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسوله وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم . وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر ، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب . وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب ، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها ، يقال : عدا فلان عدواً وعدواناً وعداء إذا ظلم ظلماً يتجاوز القدر .

قال الزجاج { عدواً } منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدو عدواً وقرىء { عدوّاً } بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء . ومعنى { بغير علم } على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به { وكذلك } أي مثل ذلك التزيين { زينا لكل أمة عملهم } قالت الأشاعرة : فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية ، وزيفه الكعبي بقوله تعالى { وزين لهم الشيطان أعمالهم } [ النمل : 24 ] [ العنكبوت : 38 ] وبقوله { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } [ البقرة : 257 ] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون ، أو المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا في زعمهم وقولهم أن الله أمرنا بهذا وزينه لنا ، وضعف بعد المعارضة بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى { كذلك زينا } بعد قوله { فيسبوا الله } مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى . وأيضاً الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً والعلم بذلك ضروري ، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيماناً وعلماً وحقاً وصدقاً ، ولولا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية ، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيماناً والجهل علماً . قال : { وأقسموا بالله جهد إيمانهم } والغرض حكاية شبهة أخرى لهم وهي أن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة ، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة باهرة وبينه قاهرة لآمنا بك وأكدوا هذا المعنى بالأيمان والأقسام . قال الواحدي : إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضعة لتوكيد الخبر وكانت الحاجة إلى ذكر الحلف عند انقسام الناس وقت سماع الخبر إلى مصدق ومكذب ، فمعنى الأقسام إزالة القسمة وجعل الناس كلهم مصدقين بواسطة الحلف واليمين . عن محمد بن كعب قال : « كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قريش فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كانت معه عصا فضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وأن عيسى كان يحيى الموتى ، وأن صالحاً كانت له ناقة ، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً . قال : فأن فعلت تصدقوني؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهباً ولكن لم أرسل بآية فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتركهم حتى يتوب تائبهم »

وأنزل الله الآيات إلى قوله { ولكن أكثرهم يجهلون } قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه . وقال الزجاج : معناه بالغوا في الإيمان . والمراد بقوله { لئن جاءتهم آية } ما روينا من جعل الصفا ذهباً . وقيل : هي الأشياء المذكورة في قوله { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا } [ الإسراء : 90 ] الآيات . وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم وآله يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين المكذبين فالمشركون طلبوا مثلها . { قل إنما الآيات عند الله } أي هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات لأن المعجزات لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ، أو المراد بالعندية هو العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي إيمانهم أم لا كقوله { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] أو المراد أنها وإن كانت معدومة في الحال إلا أنه تعالى متى شاء أحدثها وليس لكم أن تتحكموا في طلبها كقوله { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } [ الحجر : 21 ] { وما يشعركم } ما استفهام والجملة خبره ، ثم من قرأ { انها } بكسر الهمزة على الابتداء - وهي القراءة الجيدة - فالتقدير وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } وأما قراءة الفتح فقال سيبويه : سألت الخليل عن ذلك فقال : لا تحسن لأنها تصير عذراً للكفار ، لأن معنى قول القائل : ما يدريك أنه لا يفعل هو أنه يفعل . فمعنى الآية أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذراً لهم في طلبها ، لكن القراءة لما كانت متواترة فلا جرم ذكر العلماء فيه وجوها : قال الخليل : « أن » بمعنى « لعل » تقول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شياً أي لعلك . ويقوي هذا الوجه قراءة أبي { لعلها إذا جاءت لا يؤمنون } وثانيها « أن » تجعل « لا » صلة كما في قوله { ما منعك أن لا تسجد } [ الأعراف : 12 ] { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] وثالثها أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله : وما يدريكم أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق به على من أنهم لا يؤمنون . وأما من قرأ { لا تؤمنون } بتاء الخطاب فالمراد وما يشعركم أيها الكفار . قال القاضي والجبائي : في الآية دلالة على أنه تعالى يجب أن يفعل كل ما في مقدوره من الألطاف إذ لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده ، ثم إنه لا يفعل ذلك لم يكن لتعليل ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون وجه .

وأيضاً لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ولم يكن لفعل الألطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات لم يكن لإظهار تلك المعجزات أثر . وأجيب بأن تأثير المعجزات عندهم مبني على وجوب اللطف ، فلو أثبت اللطف به لزم الدور ، وبأن الآية التي بعد هذه وهي قوله { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } تدل على أن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره . ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنهم إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها عرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا إنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات . والتقليب تحريك الشيء عن وجهه . وكان صلى الله عليه وسلم وآله يقول « يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك » والمراد أنه تعالى يقلب القلوب تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس . وإنما قدم ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار ، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر عنه ، والحاصل أن السمع والبصر آلتان للقلب فلهذا السبب وقع الابتداء بتقليب القلب . قال الجبائي : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وحرها لتعذيبهم . وزيف بأن قوله { ونذرهم } إنما يحصل في الدنيا وهذا يستلزم سوء النظم . وقال الكعبي : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم بأنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم . وضعف بأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر وهو الذي أوقع نفسه في ذلك الحرمان فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله { ونقلب } وقال القاضي : القلب باقٍ على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل . واعترض بأن تقليب القلب نقله من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة . وأما قوله { كما لم يؤمنوا به أول مرة } فقال الواحدي : فيه حذف والتقدير ولا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة يعني أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره . والكناية في { به } إما عائدة إلى القرآن ، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم وآله ، أو إلى ما طلبوا من الآيات وقيل : الكاف للجزاء أي كما لم يؤمنوا أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم . قال الجبائي : { ونذرهم } أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم ، فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وأنه يوجب تأكيد الحجة عليهم . وقالت الأشاعرة : نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان والضلال والعمى .
التأويل : { قد جاءكم بصائر } دلالات السعادات الباقية ، فمن أبصرها بنظر البصيرة فاشتغل بتحصيلها وأقبل على الله لسلوك سبيلها فذلك تحصيل لنفسه { فإن الله غني عن العالمين } { ومن عمي } فبالعكس . { ولا تسبوا الذين يدعون } لا تخاطبوا أهل الضلال على مواجب نوازع النفس والطبيعة فيحملهم ذلك على ترك الإجلال وإظهار الضلال ، بل خاطبوهم بلسان الحجة والتزام الحجة ونفي الشبهة . { وأقسموا بالله } حسبوا أن البرهان يوجب الإيمان ولم يعلموا أنهم مقهورون تحت حكم السلطان ، وما يغني وضوح الأدلة لمن لم تدركه سوابق الرحمة { ونقلب أفئدتهم } عن الآخرة إلى الدنيا { وأبصارهم } عن شواهد المولى إلى مشاهدة النفس والهوى كأنهم لم يؤمنوا يوم الميثاق إذ قلت ألست بربكم؟ قالوا بلى .
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

القراآت : { قبلاً } بكسر القاف وفتح الباء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون : بضمتين . { منزل } بالتشديد : ابن عامر وحفص والمفضل . { كلمة ربك } عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب . الباقون { كلمات } { من يضل } من الإضلال : الأصبهاني عن نصير ، فصل على البناء للفاعل و { حرم } على البناء للمفعول : حمزة وخلف وعاصم غير حفص والمفضل ، وقرأ أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وحفص جميعاً بالفتح الباقون : على البناء للمفعول فيهما { ليضلون } بضم الياء : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، الباقون : بالفتح .
الوقوف : { يجهلون } ه { غروراً } ط { يفترون } ه { مفصلاً } ط { الممترين } ه { وعدلاً } ه { لكلماته } ج لابتداء الضمير المنفصل مع احتمال الواو الحال أي لا تبديل لكلماته وهو يسمع ويعلم ، { العليم } ه { عن سبيل الله } ط { يخرصون } ه { عن سبيله } ج { بالمهتدين } ه { مؤمنين } ه { إليه } ط { بغير علم } ط { بالمعتدين } ه { وباطنه } ط { يقترفون } ه { لفسق } ط { ليجادلوكم } ج { لمشركون } ه .
التفسير : هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] وكان المستهزؤن بالقرآن خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة ، أتوا الرسول صلى الله عليه وآله في رهط من أهل مكة فقالوا : أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً على ما تدعيه ، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان وإن أوتوا هذه المقترحات . قال أبو زيد : يقال لقيت فلاناً قبلاً وقبلاً ومقابلة كلها بمعنى واحد وهو المواجهة رواه الواحدي ، وقال أبو عبيدة والفراء والزجاج : قبلاً بكسر القاف معناه معاينة . روي عن أبي ذر قال : قلت للنبي صلى الله عليه وآله : أكان آدم نبياً؟ قال : نعم ، كان نبياً كلمه الله تعالى قبلاً ، وأما قبلاً بضمتين فقيل : إنه جمع قبيل ومعناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتى مثل الروم والزنج والعرب ولهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلاً قبيلاً . أو معناه الكفيل والعريف من قبل به يقبل قبالة ، والمعنى لو حشرنا عليهم كل شيء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا ، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق ، ومنها حي ومنها ميت ، فإذا حشرها الله تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها وأطبقوا على قبول هذه الكفارة كان ذلك من أعظم المعجزات ، أما قوله تعالى : { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } إيمانهم ، فقد قالت الأشاعرة : فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم ، وقالت المعتزلة : لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب ، ولو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعاً لله لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد ، ولو جاز من الله تعالى أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به ، ولجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر .

فالمراد من الآية أنه شاء من الكل الإيمان الاختياري وما شاء الإيمان القهري . والمعنى : ما كانوا ليؤمنوا إيماناً اختيارياً إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار فحينئذ يؤمنون ، وزيف بأن الاختيار لا بد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن ، ولا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق الله تعالى فكأنه لا اختيار . قال الجبائي : قوله : { إلا أن يشاء الله } يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة وهي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط . وأجيب بأنها قديمة إلا أن تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة . ثم ختم الآية بقوله : { ولكن أكثرهم يجهلون } قالت الأشاعرة : أي لا يعلمون أن الكل بقضاء الله وبقدره . وقالت المعتزلة : إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآية التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجيء الآيات المقترحات .
ثم قال : { وكذلك } قيل : إنه منسوق على قوله : { وكذلك زينا } [ الأنعام : 108 ] أي وكما زينا لكل أمة عملهم { جعلنا } وقيل : إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر . قالت الأشاعرة : لا شك أن تلك العداوة معصية وكفر ، وأن جعلها شرفاً لآية تدل على أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله . قال الجبائي : المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره ، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله . وقال الكعبي : إنه أمر الأنبياء . لأن العداوة تكون من الجانبين . أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمداً إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سبباً للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له . وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى ، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى ، وانتصاب { الشياطين } كما مر في قوله : { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] قال الزجاج وابن الأنباري : { عدوّا } في معنى الجمع ، ولقائل أن يقول : لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا : وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوّاً واحداً : إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحدة من الأنبياء أكثر من عدو واحد .

عن ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان . وقال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين ، وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه . « روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله قال لأبي ذر : هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال : قلت : وهل للإنس من شياطين؟ قال : نعم ، هم شر من شياطين الجن » وقيل : إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس ، والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن . وزيف بأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين . وعن مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً . ومعنى الإيحاء الإيمان أو القول السريع أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وكذلك بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وكأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلا على تقدير القول بالتسخير . و { زخرف القول } ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ، والتحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية أو نفعاً لم يرغب فيه . ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقاً للواقع فهو الحق والصدق والإلهام وكان صادراً من الملك وإلا كان مزخرفاً أي يكون باطنه فاسداً وظاهره مزيناً ، قال الواحدي : { غروراً } نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور . { ولو شاء ربك ما فعلوه } استدلال الأشاعرة به ظاهر والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء . { فذرهم وما يفترون } منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي وافتراءهم أو ما يفترونه . قال ابن عباس : يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به ، وفيه تحذير من الكفر وترغيب في الإيمان وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب وله من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم وتلطفه بهم . الصغو في اللغة الميل . يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت . وأصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض . ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى . قال الجوهري : صغا يصغو ويصغي صغواً أي مال ، وكذلك صغى بالكسر يصغي بالفتح صغى وصغياً ، واللام في { ولتصغي } لا بد لها من متعلق فقالت الأشاعرة : التقدير وإنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوّاً للنبي لتميل { إليه } أو إلى قوله المزخرف { أفئدة } الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي { وليرضوه } وليختاروه على أنفسهم { وليقترفوا } وليكتسبوا من الآثام { ما هم مقترفون } وقال الجبائي : إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله :

{ واستفزز من استطعت منهم بصوتك } [ الإسراء : 14 ] . وزيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف . وقال الكعبي : هي لام العاقبة تقديره : ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدواً . وعن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع { غرور } والتقدير : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك ولتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة . وأورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشيء على نفسه . وههنا بحث وهو أن الأشاعرة قالوا : البنية ليست شرطاً للحياة ، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به ، والعالم هو الجزء الذي قام العلم به . وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء . حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي ، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن . ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله : { أفغير الله أبتغي حكماً } الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه ، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين : الأول : أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله : { أفغير الله أبتغي حكماً } يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات ، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكماً فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز . الوجه الثاني : اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله حقاً ، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } ثم قال : { فلا تكونن من الممترين } والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد . وقيل : الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة . وقيل : الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله : { ولا تكونن من المشركين } [ الأنعام : 14 ] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم . قال الواحدي : الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة . وقال بعض أهل التأويل : الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق .
ثم لما بين أن القرآن معجز قال : { وتمت كلمة ربك } أي القرآن .

وقوله : { صدقاً وعدلاً } مصدران منتصبان على الحال من الكلمة ، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد ، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علماً وعملاً ، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء . واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان : الخبر والتكليف؛ فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادراً سميعاً بصيراً ويدخل فيه الخبر عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى : { لم يلد ولم يولد } [ الإخلاص : 3 ] { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام ، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات عن النبوات وأقسام المعجزات ، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار . والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات . وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكاً أو بشراً أو شيطاناً ، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربي الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى . فإذن المراد وتمت كلمات ربك صدقاً إن كان من باب الخبر وعدلاً إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط حسن . وقيل : إن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد أن يكون واقعاً ، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم . ثم قال : { لا مبدل لكلماته } والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالاً على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلالة ألبته لجلاء الدلالة ووضوحها . أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف والتغيير كما قال : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] أو المعنى أن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل لأنها أزلية والأزلي لا يزول ، وهذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقياً وبالضد . ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة وتبين المحجة لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } والمضل لا بد أن يكون ضالاً ويعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة وعبدة الكواكب والأصنام ، وكالذين يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل وعلى الباطل بأنه حق .

ثم قال : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } يقدرون على أنهم على شيء أو يكذبون في أن الله أحل كذا وحرم كذا . وأصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمراً . وليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن ، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط ، أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستنداً إلى إمارة فلم يتم أنه كذلك . ثم قال : { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } والمراد أنك بعدما عرفت أن الحق ما هو والباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن الله تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمله ، أو المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم ، ومطلع على تحيرهم في أودية الجهالة وتيه الضلال ، قال النحويون : إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر ، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله ، فإن لم يقدر محذوف قوي بالباء كما في القلم { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } [ القلم : 7 ] وهذا هو الأصل ، وإنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] وعدل إلى لفظ المستقبل تنبيهاً على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل « أفعل من » يستعمل مع الماضي نحو « أعلم من دب ودرج » و « أحسن من قام وقعد » و « أفضل من حج واعتمر » . فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى عن ذلك . وجوّز بعضهم أن يكون « من » للاستفهام كقوله : { لنعلم أي الحزبين أحصى } [ الكهف : 12 ] ثم قال : { فكلوا } والفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم . فقال الله سبحانه للمسلمين : إن كنتم محققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله . فإن قيل : إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه ، وإنما النزاع في أكل الميتة فإنهم كانوا يبيحونها والمسلمون يحرمونها ، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه؟ فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فرد الله تعالى عليهم في الأمرين بقوله : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } وبقوله :

{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 145 ] أو نقول : المراد اجعلوا أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه ، وعلى هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط والله أعلم . أما قوله : { وقد فصل لكم } فأكثر المفسرين قالوا : المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله : { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] إلى آخر الآية ، واعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة ، والآية تقتضي أن يكون المفصل مقدماً على هذا المجمل بل الأولى أن يقال : المراد قوله تعالى بعد هذه الآية : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً } [ الأنعام : 145 ] إلى آخرها . فإن هذا القدر من التأخر غير ضائر . وقوله : { إلا ما اضطررتم } أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة { وإن كثيراً ليضلون } المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالاً ، وقد يكون الضال غير مضل ، قيل : إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة . وقوله : { بأهوائهم بغير علم } يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة ، وقال الزجاج : المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرون في إحلالها ، أو يحتجون عليها بقولهم إذ حل ما تذبحونه أنتم فلأن يحل ما يذبحه الله تعالى أولى ، وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وآله . وفي الآية دلالة على أن النزاع في الدين بمجرد التقليد حرام { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } فيجازيهم عليها وفيه من التهديد ما فيه .
ثم ذكر آية جامعة فقال : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } فقيل : ظاهره الزنا في الحوانيت وباطنه الصديقة في السر . قال الضحاك : كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالاً ما كان سراً . والأصح أن النهي عام إذ لا دليل على تخصيصه . ثم قيل : المراد ما أعلنتم وما أسررتم . وقيل : ما عملتم وما نويتم . وقال ابن الأنباري : يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول : ما أخذت من هذا المال قليلاً ولا كثيراً أي ما أخذته بوجه من الوجوه . وقريب منه قول من قال : المراد النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج عن كونه إنما بسبب إخفائه وكتمانه . وقيل : المراد النهي عن الإقدام على الإثم . ثم قال : { وباطنه } ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس . وقيل : ظاهر الإثم أفعال الجوارح ، وباطنه أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة الشر للمسلمين ، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني والندم على أفعال الخيرات ، ومنه يعلم أن ما يوجد في القلب قد يؤاخذ به وإن لم يقترن به عمل { إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } أي يكتسبون من الآثام ومنه الاعتراف يمحو الاقتراف كما يقال : التوبة تمحو الحوبة .

وظاهر النص يدل على أنه يعاقب المذنب ألبتة إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب . وأهل السنة على أنه إذا لم يتب احتمل العفو { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } نقل عن عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من طعام أو شراب فهو حرام تمسكاً بعموم الآية . وأجمع سائر الفقهاء على تخصيص هذا العموم بالذبح ، ثم اختلفوا فمالك : كل ذبح لم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام ، ترك الذكر عمداً أو نسياناً وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين . أبو حنيفة : إن ترك عمداً حرام وإن ترك نسياناً حل . الشافعي : متروك التسمية عمداً وسهواً حلال إذا كان الذابح مسلماً لقوله تعالى : { وإنه لفسق } والضمير عائد إلى الأكل الذي دل عليه الفعل أو إلى الموصول على أنه في نفسه فسق مثل « رجل عدل » أو على تقدير حذف المضاف أي وإن أكله لفسق . وقد أجمع المسلمون على أنه لا يفسق بأكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية ولقوله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وهذه المناظرة كانت في مسألة الميتة؛ وذلك أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة من قتلها إذا ماتت؟ قال : الله قتلها ، قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتل الكلب والصقر حلال ، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله الآية ، فالمراد من الشياطين ههنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليخاصموا محمداً وأصحابه في أكل الميتة . وقال عكرمة : وإن الشياطين - يعني مردة المجوس - ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش . وذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أن ما يذبحونه حلال وأن ما يذبحه الله حرام ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين شيء فنزلت الآية . ثم قال : { وإن أطعتموهم } يعني في استحلال الميتة { إنكم لمشركون } قال الزجاج : وفيه دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله تعالى أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى . ثم قال الشافعي : الفسق في آية أخرى وهي ، قوله : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً } [ الأنعام : 145 ] إلى قوله : { أو فسقاً أهل لغير الله } [ الأنعام : 145 ] مفسر بما أهل به لغير الله فعلمنا أن الفسق في هذه الآية أيضاً مفسر به نزلنا عن هذا المقام وهو التمسك بالمخصصات ، فلم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله ههنا لما روي أنه صلى الله عليه وآله قال :

« ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل » فيحمل هذا الذكر على ذكر القلب . أو نقول : هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن معنا ما يدل على الحل ، وإذا تعارض الحل والحرمة فالحل راجح لأن الأصل في الأشياء الإباحة وللعمومات الدالة على الحل كقوله : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] { وكلوا واشربوا } [ الطور : 19 ] ولأنه مستطاب وقد قال : { أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4 ] ، ولأن الطبع يميل إليه وقد نهى عن إضاعة المال ، هذا تقرير مذهب الشافعي ومع ذلك فالأولى بالمسلم أن يحترز عنه لقوة ظاهر النص . قال الكعبي : في الآية دلالة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات لأنه تعالى سمى مخالفته شركاً . وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يراد بالشرك ههنا اعتقاد أن لله شريكاً في الحكم .
التأويل : { وكلمهم الموتى } أي : قلوبهم الميتة { وحشرنا } أي أريناهم جميع الآيات المودعة في المكونات { إلا أن يشاء الله } فإن المشيئة تغير السجية والعناية الأزلية كفاية الأبدية { ولكن أكثرهم يجهلون } أن الهدى ليس بالمنى وأنه بمشيئة المولى ، ثم أخبر أن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا فقال : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس } هي النفس الأمارة التي هي أعدى الأعداء . { والذين آتيناهم الكتاب } هديناهم بنور الكتاب إلى حضرة الجلال { فلا تكونن } نهى التكوين في الأزل { وتمت كلمة ربك } كلامه وقضاؤه في الأزل { صدقاً } فيما قال { وعدلاً } فيما حكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر ، وأحسن شيء خلقه هو الإنسان { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] وكذلك شر شيء هو الإنسان عند فساد استعداده { ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 5 ] ولأهل الكمال ترقٍ في كمال الحسن إلى الأبد ، ولأهل النقصان تسفل في القبح إلى الأبد أيضاً إظهاراً للقدرة الكاملة غير المتناهية { وهو السميع } لحاجة كل ذي حاجة { العليم } بما يستأهله كل موجود { وإن تطع أكثر من في الأرض } وهم أهل الأهواء وأقلهم أهل الحق { وإن هم إلا يخرصون } في دعوى طلب الحق . فإن سبيل الحق لا يسلك بالهوى وإنما يسلك بالصدق والهدى . { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } فمن أمارات الإيمان أن يأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع ويذيبوه بذكر الله كما قال صلى الله عليه وآله « أذيبوا طعامكم بذكر الله » فالأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان والحرمان من الجنان . { وقد فصل لكم } يا أهل الله { ما حرم عليكم } وهو الدنيا وما فيها والآخرة ونعيمها { إلا ما اضطررتم إليه } من ضروريات البشر في الدارين بأمر المولى لا بالطبع والهوى { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } الذين جاوزوا المولى وركنوا إلى الدنيا والعقبى { وذروا ظاهر الإثم } يعني الأعمال الطبيعية { وباطنه } يعني الأخلاق ، الذميمة الردية { سيجزون بما كانوا يقترفون } لأن الأخلاق الظلمانية توجب صدأ مرآة القلب وتزيدها ريناً إلى أن يصير حجاباً بين العبد وبين الله تعالى : ولا تأكلوا طعاماً إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته ، { وإنه } يعني ظلام الطعام يؤدي إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الكلمة النّفسانية . { وإن الشياطين ليوحون } فإن للشيطان مجالاً في الوسوسة إذا كانت النفوس في المجادلة مع القلوب لتدعوها إلى متابعة الهوى الله حسبي .
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)

القراآت : { ميتاً } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب { رسالته } بالنصب والتوحيد : ابن كثير وحفص والمفضل . الباقون : { رسالاته } على الجمع وبالكسر في موضع النصب { ضيقا } وبابه بالتخفيف : ابن كثير { حرجاً } بكسر الراء : أبو جعفر ونافع وسهل وأبو بكر وحماد . الباقون : بالفتح { يصعد } من الصعود : ابن كثير { يصاعد } من التصاعد بإدغام التاء في الصاد : أبو بكر وحماد . الباقون : { يصعد } بالإدغام من التصعيد . { يحشرهم } بياء الغيبة : حفص . الآخرون بالنون .
الوقوف : { بخارج منها } ط { يعملون } ه { فيها } ط { وما يشعرون } ه { رسل الله } ط { رسالاته } ط { يمكرون } ه { للإسلام } ج لابتداء شرط آخر مع العطف . { في السماء } ج { لا يؤمنون } ه { مستقيماً } ط { يذكرون } ه { يعملون } ه { جميعاً } ج للحذف أي يحشرهم ويقول لهم مع اتحاد المقصود { من الإنس } الأول ج لتبدل القائل مع اتفاق الجملتين { أجلت لنا } ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد القول وليست فاعله { يشاء الله } ط { عليم } ه { يكسبون } ه { يومكم هذا } ط { كافرين } ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد أن ذكر أن المشركين يجادلون المؤمنين ضرب مثلاً للفريقين فبيّن أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً فجعله الله حياً وأعطاه نوراً يهتدي به في مصالحه ، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيراً على الدوام ، وهل هما خاصان أو عامان فيه قولان : الأول قال ابن عباس : يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل؛ وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وآله بفرث وحمزة ولم يؤمن بعد ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول : يا أبا يعلي أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فنزلت الآية . وعن مقاتل : نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل؛ وذلك أنه قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه . والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وعن الضحاك هي في عمر بن الخطاب وأبي جهل . والقول الثاني أنها عامة في كل مؤمن وكافر لحصول المعنى في الكل . وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون . وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء وكذلك الجاهل ، والهدى علم وبصيرة وهما يوجبان الفوز بالمطالب كالحياة والنور ، قال بعض العلماء : قوله : { أو من كان ميتاً } إشارة إلى أول مراتب النفس الإنسانية وهي الاستعداد المحض المسماة بالعقل الهيولاني عند الحكيم .

وقوله : { فأحييناه } إشارة إلى ثانية مراتبها المسماة بالعقل بالملكة وهي أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية . وقوله { وجعلنا له نوراً } إشارة إلى ثالثة المراتب وهي التي قد حصلت لها المعقولات المكتسبة ولكنها لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها قدر عليه ولهذا يسمى عقلاً بالفعل أي الفعل القريب ، وقوله : { يمشي به في الناس } إشارة إلى رابعة المراتب وهي النهاية المسماة بالعقل المستفاد ، وقد حصلت المعارف القدسية والجلايا الروحانية للنفس حاضرة بالفعل وصار جوهر الروح مشرقاً بتلك المعارف مستضيئاً بها . ويمكن أن يقال : الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح ، والنور عبارة عن اتصال نور الوحي والتنزيل فإنه لا بد في الإبصار من أمرين : سلامة الحاسة والنور الخارجي من الشمس والسراج ، فكذلك البصيرة لا بد لها في الإدراك من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي فلهذا قال جمع من المفسرين : المراد بهذا النور القرآن ، ومنهم من قال : نور الدين أو نور الحكمة . والأقوال متقاربة ، وأما مثل الكافر فهو { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } وفيه أن ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت كالصفة اللازمة له لا تكاد تزول عنه فيبقى متحيراً خائفاً فزعاً نعوذ بالله من هذه الحالة . ومعنى المثل ههنا الصفة الغريبة أي كمن صفته هذه والمراد كمن هو في الظلمات . ثم قال : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } والمزين هو الله بالتحقيق عند الأشاعرة . والشيطان بالحقيقة أو الله مجازاً عند المعتزلة ، والإضافة إلى الله بالحقيقة أو المجاز أولى بدليل قوله : { وكذلك جعلنا } أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا ، أو وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا { في كل قرية أكابر } وهي جمع الأكبر و { مجرميها } مضاف إليه والظرف مفعول ثانٍ قدم ليعود الضمير إلى القرية . وقيل : التقدير جعلنا مجرميها أكابر . قال الزجاج : إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم ، ولأن كثرة المال وقوّة الجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظهما وذلك لا يتم إلا باستعمال بعض الأخلاق الذميمة من المكر والغدر والكذب والغيبة والنميمة والشح والأيمان الكاذبة وكفى بهذه الأمور دليلاً على خساسة المال والجاه . واللام في { ليمكروا } على أصله عند الأشاعرة ، واستدلوا به على أن الشر بإرادة الله تعالى . وحمله المعتزلة على لام العاقبة مجازاً حملوا الجعل في قوله : { وكذلك جعلنا } على التخلية والخذلان . ثم قال في معرض التهديد { وما يمكرون إلا بأنفسهم } لأن وباله يعود عليهم { وما يشعرون } وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتقديم موعد بالنصرة ، ثم إنه سبحانه حكى قول أبي جهل وأضرابه « زاحمنا بني عبد مناف في الشرف إلى آخره » وقول الوليد بن المغيرة « لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً » فقال : { وإذا جاءتهم آية } أي معجزة قاهرة أو وحي .

{ قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } قال الضحاك : أراد كل واحد منهم ذلك كما في الآية الأخرى . { بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } [ المدثر : 52 ] ويشبه أن يكون هذا الكلام الخبيث هو المراد بالمكر المذكور في الآية المتقدمة ، وللمفسرين في مقترحهم قولان : أحدهما - وهو الأشهر - أنهم أرادوا أن تحصل لهم النبوُّة والرسالة كما حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين . وثانيهما عن ابن عباس والحسن أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وآله { قالوا لن نؤمن حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] من الله تعالى إلى أبي جهل وفلان وفلان فالقوم ما طلبوا النبوّة وإنما طلبوا آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين تدل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . فقوله سبحانه في جوابهم على سبيل الاستئناف { الله أعلم حيث يجعل رسالته } على القول الأول ظاهر ، وأما على القول الثاني فوجهه أن القوم إذا اقترحوا تلك الآيات فلو أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة . قال بعض العقلاء : الأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوّة والرسالة لبعضها دون بعض تشريف من الله تعالى وإحسان وتفضل . وقال آخرون : بل النفوس مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة ، وبعضها خبيثة كدرة محبة للجسمانيات ، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة . ومراتب الرسل مختلفة فمنهم ذو معجزة واحدة وذو معجزتين أو أكثر ، ومنهم من له تبع قليل ومنهم من آمن به جم غفير ، ومنهم من كان الرفق غالباً عليه ومنهم من كان مدار أمره على التغليظ والتشديد . وفي الآية تعريض بأن حصول النبوّة والرسالة لا بد فيه من قلب سليم ، والمقترحون فيهم من المكر والحسد ما فيهم فكيف يعقل حصول الرسالة لهم وإنما يحصل لهم ما يناسب أخلاقهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار } ذل وهوان { عند الله } أي في الآخرة أو في الدنيا بحكم الله وإيجابه من الأسر والقتل . أو المراد من عند الله فحذف « من » .

أو قوله : { عند الله } مستأنف أي معدّ لهم ذلك ، واعلم أن كمال العقاب لا بد فيه من أمرين : الضرر ، والإهانة . ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد صلى الله عليه وآله طلباً للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم ، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } يقال : شرح فلان أمره ، إذا أظهره وأوضحه ومنه شرح المسأله إذا بينها . وقال الليث : شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر . ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن ههنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إلي وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله فسميت هذه الحالة سعة الصدر ، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر ، لأن المكان إذا كان ضيقاً لم يتمكن الداخل من الدخول فيه ، وإذا كان واسعاً قدر على الدخول فيه . وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضاً قال تعالى : { ولكن من شرح بالكفر صدراً } [ النحل : 106 ] قال المفسرون : « لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : كيف يشرح الله صدره؟ فقال صلى الله عليه وآله : يقذف الله تعالى فيه نوراً حتى ينفسخ وينشرح ، فقيل له : وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم : » الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله « » وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير ، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير ، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة . أما قوله : { حرجاً } فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت ، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة . قال الزجاج : الحرج في اللغة أضيق الضيق . وقيل : الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية . حكى الواحدي بإسناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال : هل ههنا أحد من بني بكر؟ قال رجل : نعم . قال : ما الحرجة فيكم؟ قال : الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه . فقال : كذلك قلب الكافر . ومعنى : { يصعد في السماء } كأنما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف الصعود إلى السماء .

وقيل : المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء . { كذلك يجعل } أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم . وقال الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس . عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم . وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه . وعن عطاء : الرجس هو العذاب . وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى؛ بيانه أن العبد قادرعلى الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية ، ولا معنى للداعية إلى علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة ، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعاً للتسلسل فإذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة - وهو المراد بشرح الصدر - مال القلب إليه ، وإذا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر . فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه ، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان . وقالت المعتزلة : إنه لا دلالة في الآية على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنساناً أو يضله فعل به كيت وكيت ، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله : { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا } [ الأنبياء : 17 ] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده ، ثمّ إنه لم يرد ذلك بالاتفاق وأيضاً لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافاً تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه . ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصاً عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين . وأيضاً لم لا يجوز أن يقال : المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجه من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه ، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار؟ وقال في الكشاف : { فمن يرد الله أن يهديه } أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف { يشرح صدره } للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه { ومن يرد أن يضله } أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان .

وأجيب عن قولهم « ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده » بأن قوله في آخر الآية : { كذلك يجعل الله الرجس } تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير : كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل . وفيه أيضاً دلالة على أن المراد من قوله : { ومن يرد أن يضله } هو أنه يضله عن الدين ، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله : « خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل » ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات . فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت . والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان ، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر ، فإن سمى الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي . قال القاضي في تفسيره : روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال : لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية . قال : ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاءً وقدراً وخلقاً لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره ، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله . أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة ، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه . هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا : كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وإن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان ، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولاً عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات ، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة ، ثم إنه لو ترك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية ، يحكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله ، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير ، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفياً عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز : إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ .

قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد ، وآخر في غاية الفسق ، الثالث كان صبياً لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم . فقال الجبائي : أما الزاهد ففي درجات الجنة ، وأما الكافر ففي دركات النار ، وأما الصبي فما أهل السلامة . فقال : قولي له إن الصبي لوأراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد فهل يمكن منه؟ قال الجبائي : لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك . فقال أبو الحسن : قولي له لو أن الصبي يقول : يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي ، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد ، فقال الجبائي : يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك . فقال لها أبو الحسن . قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال : يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين ، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي؟ قال الراوي : فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز . ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيباً عن الجبائي قائلاً : نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول : الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها ، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون : إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان . وقال البغداديون : إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله ، وعلى قول البغداديين فللَّه أن يقول : إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته ، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق .

وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلاً لأنه ليس فعلاً شاقاً عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه ، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس . فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولاً فليكن ههنا أيضاً مقبولاً وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم . وأورد على الشق الثاني أن قولنا : « تكليفه يتضمن مفسدة » ليس معناه أن ذات التكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق ، فمعناه إذاً أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنساناً آخر يختار من قبل نفسه فعلاً قبيحاً ، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض التحكم . هذا تمام مناظرة الفريقين ، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر .
ثم قال : { وهذا صراط ربك } في المشار إليه وجوه منها : أنه المذكور في الآية المتقدمة . أما على مذهب الأشاعرة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فيكون الفعل من الله ، ويلزم استناد الكل إلى قضائه وقدره . وأما على مذهب المعتزلة فالمراد هذا الذي قررنا طريقته التي اقتضتها الحكمة وعادته الجارية في عباده من التوفيق والخذلان . ومعنى { مستقيماً } عادلاً مطرداً . وانتصابه على الحال المؤكدة والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل . أو هو محذوف أي أحقه . وعن ابن عباس : يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك . وقال ابن مسعود : يعني القرآن : { قد فصلنا الآيات } ذكرناها فصلاً فصلاً بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر . قال في التفسير الكبير : قد بيّن الله تعالى صحة القول بالقضاء والقدر في آيات من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة . وختم الآية بقوله : { لقوم يذكرون } لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح عن الآخر إلا لمرجح فكأنه يقول للمعتزلي : تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك فإن حصول الفعل عن القادر لو لم يتوقف على الداعي مع تساوي طرفيه وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذٍ يلزم نفس الصانع وإبطال القول والفعل والفاعل والتأثير والمؤثر . ثم لما بيّن عظمة نعمته في الصراط المستقيم بيّن ما أعد وهيىء للمتذكرين فقال : { لهم دار السلام } أي دار الله يعني الجنة ، والإضافة للتشريف والتعظيم كما قيل : الكعبة بيت الله : أو دار السلامة من كل آفة وكرب والسلام والسلامة مثل : الضلال والضلالة والرضاع والرضاعة كلاهما مصدر .

وقيل : السلام جمع السلامة لأن أنواع السلامة حاصلة في الجنة . ومعنى { عند ربهم } أنها معدة عنده وفي ضمانه كما يقال لفلان عندي حق لا ينسى وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من حصولها { وهو وليهم } أي قريب منهم بالرحمة والرضوان أو مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم ، وذلك أن القوم قد عرفوا أن المدبر والمقدر ليس إلا هو جل جلاله ، وأن النافع والضار ليس إلا هو سبحانه ، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه ، وما كان توكلهم إلا عليه ، ولم يكن أنسهم إلا به ، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه : { وهو وليهم } على أنه متكفل لجميع مصالحهم ديناً ودنيا . ثم قال : { بما كانوا يعملون } أي بسبب أعمالهم ، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا ، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقاً شديداً وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس ، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كمال العلم والمعرفة . ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال : { ويوم نحشرهم } والمراد واذكر يوم كذا ، أو يوم نحشرهم قلنا ، أو متعلقة محذوف والتقدير : ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته ، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله : { شياطين الإنس والجن } أو يعود إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم ، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم . وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنهم وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف . وقال الزجاج : التقدير فيقال لهم : { يا معشر الجن } لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله : { ولا يكلمهم الله } [ البقرة : 174 ] { قد استكثرتم من الإنس } لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس ، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال : استكثر الأمير من الجنود . أما قوله : { وقال أولياؤهم من الإنس } فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفاً فكما قال للجن تبكيتاً ناسب أن يقول للإنس أيضاً مثل ذلك توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول .

ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جواب الإنس وهو قوله : { ربنا استمتع بعضنا ببعض } وفيه قولان : الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان : أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفرداً وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . فيبيت آمناً في نفسه . فهذا استمتاع الإنس بالجن ، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيماً منهم للجن؛ وذلك الجني يقول : قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه . وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } [ الجن : 6 ] وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم ، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج . والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي ذلك الاستمتاع كان حاصلاً إلى وقت محدود ثم جاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع . وما ذلك الإجل؟ قيل : هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول . وقيل : هو وقت التخلية والتمكين وقيل : وقت المحاسبة في القيامة { قال } الله تعالى في جوابهم { النار مثواكم } مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثوياً إذا أقام به . قال أبو علي الفارسي : المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى : { خالدين فيها } حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين . { إلا ما شاء الله } قيل : المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل : خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم . وقال ابن عباس : استثنى الله قوماً سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله . وعلى هذا يلزم أن يكون « ما » بمعنى « من » وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه ، وقيل : المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير . روي أنهم يدخلون وادياً فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم . وقال في الكشاف : أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله ، إن نفست عنك إلا إذا شئت ، فيكون قوله : « إلا إذا شئت » من أشد الوعيد مع تهكم لأن إطماع محض ويأس كلي .

وقال أبو مسلم : هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم كأنهم قالوا : وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الاخترامية { إن ربك حكيم } فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة . { عليم } بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول : إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك . ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضاً بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً } وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعاً للتسلسل ، وأيضاً لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله : { هو وليهم } ذكر أن أولياء أهل النار من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وأشار إليه بقوله : { بما كانوا يكسبون } أي بسبب كون ذلك البعض مكتسباً للظلم وهذه في مناسبة في غاية اللطف لأن الجنسية علة الضم فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين . وفي الآية دلالة على أن الرعية متى كانوا ظلمة فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم ، فإن أرادوا الخلاص منه فليتركوا الظلم وعن مالك بن دينار قال : جاء في بعض الكتب السموية « أنا الله مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة ، لا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم » .
ثم بيّن أن كفار الثقلين لا يكون لهم إلى الجحود يوم القيامة سبيل وأنهم لا يعذبون إلا بالحجة فقال : { يا معشر الجن والإنس } قال أهل اللغة : المعشر كل جماعة مختلطة يجمعهم أمير واحد { ألم يأتكم رسل منكم } استفهام على سبيل التقدير فلا جرم استدل الضحاك بالآية { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] على أن من الجن رسلاً كالإنس ، ولأن استئناس الجنس بالجنس أكمل ولهذا قال سبحانه : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] والأكثرون على أنه ما كان من الجن رسول ألبتة إنما كانت الرسل من بني آدم وزعموا أن ذلك مجمع عليه . ورد بأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف؟ واستدل بعضهم على المطلوب بقوله تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } [ آل عمران : 33 ] والمراد بالاصطفاء ههنا النبوّة بالإجماع . وأجيب عن قول الضحاك بأن الآية تقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضاً من أبعاض هذا المجموع فكان هذا القدر كافياً في حمل اللفظ على ظاهره فلا يلزم إثبات رسول من الجن . وأيضاً لا يبعد أن يقال : إن الرسل كانوا من الإنس ، ثم كان من الجن نفر يستمعون من رسول الإنس وينذرون قومهم بذلك قال :

{ وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن } [ الأحقاف : 29 ] الآية . وقد يسمى رسول الرسول رسولاً كما أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } [ يس : 14 ] ثم إنه سبحانه يكون قد بكت كفار الثقلين بهذه الآية لأنه أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إليهم فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل المقصود . وقال الواحدي : أراد رسل من أحدكم وهو الإنس كقوله : { يخرج منهما اللؤلؤ } [ الرحمن : 22 ] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب . وعن الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى الله عليه وآله بعث إلى الجن والإنس . أما قوله : { يقصون عليكم آياتي } فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتأويل وبالتلاوة { وينذرونكم لقاء يومكم هذا } يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بداً من الاعتراف فلذلك { قالوا شهدنا على أنفسنا } والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون؛ فتارة يقرّون وأخرى يجحدون . ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم . ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله : { وغرتهم الحياة الدنيا } وعن حالهم في الآخرة بقوله : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية . وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة .
التأويل : { أو من كان ميتاً } في حالة العدم { فأحييناه } بالحياة الحقيقية أي بالحي الذي لا يموت { وجعلنا له } نور الوجود الحقيقي الذي { يمشي به في الناس } وبه يسمع وبه يبصر { كمن هو } محبوس { في ظلمات } الطبيعة { وكذلك جعلنا في كل قرية } أي كل قالب { أكابر مجرميها } من النفس والهوى والشيطان { ليمكروا فيها } بمخالفات الشرع وموافقات الطبع . { ما أوتي رسل الله } من القلب والسر والروح . { يشرح صدره } أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان ، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام . وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقاناً والإيقان عياناً والعيان عيناً . { ضيقاً } لتزاحم ظلمات صفات البشرية { حرجاً } لتعلقاته بالدنيا وشهواتها { كأنما يصعد في السماء } لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر . { وهذا } الذي بينا من الهداية والضلالة { صراط ربك } باللطف والقهر فبجذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي . { لهم دار السلام } أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية .

{ ويوم يحشرهم } في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة { يا معشر الجن } أي الصفات الشيطانية { قد استكثرتم من الإنس } أي غلبتم على الصفات الإنسانية { وقال أولياؤهم من الإنس } يعني النفس الأمارة { ربنا استمتع بعضنا ببعض } واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها ، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائها كما استعان بحواء على إغواء آدم . { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضاً بقضاء الله { إلا أن يشاء الله } فيتوب عليهم { إن ربك حكيم } في تقدير الاستمتاع { عليم } بأهل الجنة وبأهل النار ، { وكذلك } أي كما جعلنا مردة الجن والإنس بعضهم أولياء بعض فكذلك نجعل بعض الظالمين أولياء بعض بما كانوا يكسبون من إفساد الاستعداد الفطري { ألم يأتكم رسل منكم } يعني الإلهامات الربانية . وشهدوا على أنفسهم أقروا عند الحرمان عن السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا صدأ مرآة قلوبهم { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى } [ النجم : 39 ، 40 ] وما التوفيق إلا منه .
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

القراآت : { عما تعملون } بتاء الخطاب : ابن عامر { مكاناتكم } بالجمع حيث كان : أبو بكر وحماد . الباقون { مكانتكم } على التوحيد . { من يكون } بالياء التحتانية : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بتاء التأنيث . { بزعمهم } بضم الزاي علي وكذلك ما بعده الباقون : بالفتح { زين } على البناء للمفعول { قتل } بالرفع { أولادهم } بالنصب { شركائهم } بالجر ابن عامر . الآخرون { زين } على البناء للفاعل { قتل } بالنصب { أولادهم } بالجر { شركاؤهم } بالرفع { وإن تكن } بتاء التأنيث : ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد { ميتة } بالرفع : ابن كثير وابن عامر ويزيد ، وقرأ { ميتة } بالتشديد ابن كثير وابن عامر : الباقون : بالتخفيف .
الوقوف : { غافلون } ه { مما عملوا } ط { يعملون } ه { ذو الرحمة } ط { آخرين } ه { لآت } لا لأن الواو بعده للحال { بمعجزين } ه { عامل } ج لابتداء التقرير مع فاء التعقيب { تعملون } ه لا لأن ما بعده مفعول سواء كان من استفهامية أو موصولة { عاقبة الدار } ط { الظالمون } ه { لشركائنا } ج للشرط مع الفاء { إلى الله } ج للفصل بين المتضادين معنى مع الاتفاق حكماً { شركائهم } ط { يحكمون } ه { دينهم } ط { يفترون } ه { افتراء عليه } ط { يفترون } ه { أزواجنا } ج للشرط مع العطف . { شركاء } ط { وصفهم } ط { عليم } ه { على الله } ط { مهتدين } ه .
التفسير : { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره { أن لم يكن } وهو للتعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك ، أو ذلك الذي ذكر لانتفاء كون ربك مهلك القرى و « أن » هي الناصبة للأفعال أو مخففة من الثقيلة ، وعلى هذا يكون ضمير الشأن محذوفاً أي أن الحديث كذا ، ويجوز أن يكون ، { أن لم يكن } بدلاً من { ذلك } كقوله : { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع } [ الحجر : 66 ] ومعنى قوله : { بظلم } أي بسبب ظلم أقدموا عليه وهذا أليق بأصول الأشاعرة . أو المراد ظالماً لكم فيكون من فعل الله وهذا أنسب بأصول المعتزلة . ومعناه أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل ولم ينبهوا برسول ولا كتاب كان ظالماً . وعلى هذا التفسير يمكن للأشاعرة أن يقولوا إنه لو فعل ذلك لم يكن ظلماً ولكنه يكون في صورة الظلم فأطلق الظلم على نفسه مجازاً وإلا فهو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله . وأما قوله : { وأهلها غافلون } فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به وإنما معناه أنه لا يبين لهم كيفية الحال وأن لا يزيل عذرهم وعلتهم . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع ، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب ألبتة لأنها تدل على أنه تعالى ما يعذب أحداً على أمر من الأمور قبل بعثة الرسل لكن بعدها .

والمعتزلة قالوا : إنها تدل من وجه آخر على تقرير الوجوب قبل الشرع لأن قوله : { بظلم } إن كان عائداً إلى العبد دل على أنه يمكن أن يصدر منه الظلم والقبيح قبل البعثة ، وإن كان عائداً إلى الله تعالى فقد تم الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه . ثم لما شرح أحوال أهل الثواب والعقاب ذكر كلاماً كلياً فقال : { ولكل درجات } أي ولكل عامل في عمله درجات ، وعلى حسب تلك الدرجات يكون الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر . ومعنى { مما عملوا } أي من جزاء أعمالهم . وقيل : إن أول الآية مختصة بأهل الطاعات لأن لفظ الدرجة يليق بهم ولأهل المعصية تكون الدركات وإليه الإشارة بقوله { وما ربك بغافل عما يعملون } قالت الأشاعرة : في الآية دليل على مسألة الجبر والقدر فإنه تعالى حكم لكل واحد بدرجة معينة في وقت معين وبحسب فعل معين ، وأثبت تلك الدرجة في اللوح المحفوظ وأشهد عليها الملائكة وخلاف علمه وإثباته وإِشهاده محال . ثم بين أنه ليس يحتاج إلى طاعة المطيعين ولا يدخل عليه نقص بمعصية العاصين فقال : { وربك الغني ذو الرحمة } أما أنه غني في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أحكامه عن كل ما سواه فلوجوب وجوده ، وأن ما سواه ممكن لذاته مفتقر في الوجود وفي الأمور التابعة للوجود إليه فلا غنيّ إلا هو ، وأما أنه ذو الرحمة فلأن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات من الروحانيات ومن الجسمانيات فهو من الحق وبإيجاده وتخليقه ، والاستقراء دل على أن الخير غالب كالصحة والشبع والسمع والبصر وما ذلك إلا لرحمته الكاملة ورأفته الشاملة . والذي يتصوّر من رحمة الوالدين وغيرهما فإنما ذلك بإيجاد داعية ذلك فيهم ومع ذلك فتمكن الشخص من الانتفاع بها ليس إلا منه تعالى . ومن هذا يعلم تنزهه تعالى عن الظلم والسفه والكذب والعبث . ومن رحمته تكليف الخلائق ليعرضهم للمنافع الباقيات الدائمات . ثم لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة كان لظانّ أن يظن أن للرحمة معدناً مخصوصاً وموضعاً معيناً فبين تعالى بقوله تعالى : { إن يشأ يذهبكم } أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوماً آخرين ويضع رحمته فيهم ، وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم . ومعنى الإذهاب الإهلاك وأن لا يبلغهم مبلغ التكليف { ويستخلف من بعدكم } أي : من بعد ذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون ، إلا على طريق البدل من فائت ، وقوله : { ما يشاء } أي خلق ثالث ورابع . ثم اختلفوا فقال بعضهم : خلقاً آخرين من أمثال الجن والإنس لكن أطوع ، وقال أبو مسلم : يعني خلقاً ثالثاً مخالفاً للثقلين ليكون أقوى في دلالة القدرة .

ثم بيّن سبب قدرته على ذلك فقال { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } لأن من قدر على تصوير النطفة المتشابهة الأجزاء بهذه الصور المخصومة قدر على تصويرها بصور أخرى مخالفة لها . وقال في الكشاف : المعنى كما أنشأكم من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام ، ثم ذكر حال المعاد فقال : { إنما توعدون لآت } قال الحسن : أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة ، ويحتمل أن يقال : { إنما توعدون لآت } إشارة إلى لطفه أي ما يتعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة . وقوله : { وما أنتم بمعجزين } أي خارجين عن قدرتنا وحكمنا إشارة إلى قهره ، يقال : أعجزه الشيء أي فاته . فالجزم في جانب الوعد والتعريض في جانب الوعيد دليل على أن جانب الرحمة والإحسان أغلب . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله بتهديد منكري البعث فقال : { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } قال الواحدي : قراءة الإفراد أوجه لأن المصدر لا يجمع في أغلب الأحوال ، وقال في الكشاف : المكانة تكون مصدراً . يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكين . وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة ، فمعنى الآية اعملوا على نمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها . يقال للرجل : على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه { إني عامل } على مكانتي التي أنا عليها . والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ، والغرض تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] { فسوف تعلمون } أينا تكون له العاقبة المحمودة ، والفاء لتعقيب الجزاء ألا يعادي أي قل اعملوا فستجزون وهكذا في سورة الزمر بخلاف سورة هود حيث لم يقل هناك « قل » فصار استئنافاً ومحل « من » نصب إن كان بمعنى « الذي » أو رفع والجملة مفعول تعلمون إن كان بمعنى أيّ و { عاقبة الدار } العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهي مصدر كالعافية . وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف وأدب ووثوق بأن المنذر محق ولهذا قيل له فإن الكافر تكون العاقبة عليه لا له .
ثم حكى أنواعاً من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيراً للعقلاء عن الالتفات إلى أقوال أمثالكم فقال : { وجعلوا لله } قال الزجاج : وجعلوا لله نصيباً ولشركائهم نصيباً بدليل قوله : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } وجعل الأوثان شركاء لأنهم جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونها عليها . ثم قال : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } وفي تفسيره وجوه : قال ابن عباس : كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً ، فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه ألبتة .

ثم إن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غنيّ عن هذا ، وإن سقط شيء مما جعلوا للأوثان في نصيب الله تعالى أخذوه وردّوه إلى نصيب الصنم وقالوا : إنه فقير . وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها . وعن الحسن والسدي : كان إذا هلك لأوثانهم شيء أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى . وقال مجاهد : إنه إذا انفجر من سقى ما جعلوه للشيطان في نصيب الله عز وجل سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه ، وقال قتادة : إذا أصابهم شدة استعانوا بالله وإذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى شركائهم . وقال مقاتل : إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة . وقالوا : لو شاء زكى نصيب نفسه . وأما إن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بدّ لآلهتنا من نفقة وأخذوا نصيب الإله تعالى فأعطوه السدنة . فمعنى { فلا يصل إلى الله } أنه لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين ، ومعنى الوصول إلى شركائهم أنهم ينفقونه عليها بذبح نسائك عندها والأجراء على سدنتها ونحو ذلك . وقوله : { مما ذرأ } فيه أن الله تعالى كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه أي خلقه . ثم إنه سبحانه ذم فعلهم فقال : { ساء ما يحكمون } وذكر العلماء فيه وجوهاً : الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانبه وهو سفه . الثاني جعلوا بعض الحرث لله وبعضه لغيره مع أنه تعالى هو الخالق للجميع . الثالث أن ذلك حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وأشار إليه بقوله { بزعمهم } الرابع لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز نصيب لكل حجر ومدر . الخامس لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها على الانتفاع بذلك النصيب ، فإفراز النصيب لها عبث . النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة قوله : { وكذلك زين } كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياءً خوفاً من الفقر أو من التزويج ، وكان الرجل يحلف بالله إن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب على ابنه عبد الله ، والشركاء على الوجه الأول الشياطين الذين أطاعوهم في معصية الله تعالى ، وعلى الثاني هم السدنة والخدام ، والأول قول مجاهد ، والثاني للكلبي . وتقدير الكلام ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة ، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين زين لهم شركاؤهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام { قتل أولادهم } بالوأد أو بالنحر . ثم إن وجه القراءة الأكثري ظاهر وليس فيها إلا تقديم المفعول وذلك لشدة الاعتناء به ، وأما قراءة أبن عامر فخطأها الزمخشري من جهة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف فإن ذلك قد جوز بالظرف كقوله :

لله در اليوم من لامها ... وضعف بغير الظرف كقوله :
فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزادة
وحملوه على ضرورة الشعر مع الاستكراه ، والحق عندي في هذا المقام أن القرآن حجة على غيره وليس غيره حجة عليه ، والقراآت السبع كلها متواترة فكيف يمكن تخطئة بعضها؟ فإذا ورد في القرآن المعجز مثل هذا التركيب لزم القول بصحته وفصاحته وأن لا يلتفت إلى أنه هل ورد له نظير في أشعار العرب وتراكيبهم أم لا ، وإن ورد فكثير أم لا؟ ومع ذلك فقد وجهه بعض الفضلاء بأن المضاف إليه من الأول محذوف على نحو قوله :
بين ذراعي وجبهة الأسد ... والمضاف مضمر مع الثاني كقراءة من قرأ { والله يريد الآخرة } [ الأنفال : 67 ] بالجر على تقدير غرض الآخرة ، فتقدير الآية : قتل شركائهم أولادهم قتل شركائهم . ومعنى { ليردوهم } ليهلكوهم بالإغواء . قال ابن عباس : ليردوهم في النار . واللام محمول على العاقبة إن كان التزيين من السدنة ، وعلى حقيقة التعليل إن كان من الشيطان { وليلبسوا عليهم دينهم } ليخلطوه عليهم ويشبهوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق . وقيل : دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه ، وقيل : وليوقعوهم في دين ملتبس { ولو شاء الله ما فعلوه } لما فعل المشركون ما زين لهم ، أو لما فعل الشياطين والسدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ما ذكر إن جعل الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة . والمعتزلة حملوا هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر . ثم قال : { فذرهم وما يفترون } على قانون قوله : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وفيه مع التهديد التسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر والشرك . قيل : إنما قال في هذه الآية { ولو شاء الله ما فعلوه } ليكون مناسباً لقوله : { وجعلوا لله } وقال فيما قبل : { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112 ] لأنه وقع عقيب آيات فيها ذكر الرب كقوله : { قد جاءكم بصائر من ربكم } [ الأنعام : 104 ] الآيات . النوع الثالث من أحكامهم الباطلة أنهم قسموا أنعامهم أقساماً فأوّلها أن قولوا { هذه أنعام وحرث حجر } وحجر « فعل » بمعنى « مفعول » كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ، وأصل الحجر المنع وسمي العقل الحجر لمنعه من القبائح ، وفلان في حجر القاضي أي في منعه . كانوا إذا عينوا شيئاً من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا : { لا يطعمها إلا من نشاء } يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء { و } ثانيها أن قالوا : { هذه أنعام حرمت ظهورها } وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد سبق في المائدة .

{ و } ثالثها : { أنعام لا يذكرون اسم الله عليها } في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام . وقيل : هي أنعام لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها وإنما فعلوا ذلك كله من غير حكم من الله وشرع منه بل { افتراء عليه } وانتصابه على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء . ثم قال : { سيجزيهم بما كانوا يفترون } والمقصود منه الوعيد ، { و } النوع الرابع من قضاياهم الفاسدة أن { قالوا ما في بطون هذه الأنعام } يعنون أجنة البحائر والسوائب { خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } هذا إن ولد حياً { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } أي اشترك فيه الذكور والإناث ، من قرأ بنصب ميتة فتقديره وإن يكن ما في بطونها ميتة ، ومن قرأ بالرفع فعلى أن « كان تامة » ، أو لأن التقدير : وإن يكن لهم أو هناك ميتة . وإنما جاز تذكير الفعل وتأنيثه لأن تأنيث الميتة غير حقيقي ، أو لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل : ميت ولهذا جاز عود الضمير إليه مذكراً في قوله : { فهم فيه شركاء } وتذكير الضمير في قوله : { فهم } للتغليب { سيجزيهم وصفهم } أي جزاء وصفهم على الله الكذب في التحليل والتحريم { إنه حكيم عليم } ليكون الزجر واقعاً على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق . فإن قيل : كيف أنث { خالصة } وذكر { محرماً } ؟ قلنا : الأول حمل على المعنى لأن ما في بطون الأنعام في معنى الأجنة ، والثاني حمل على اللفظ ، وفي الأول وجهان آخران : أن تكون التاء للمبالغة مثل رواية الشعر وأن يكون مصدراً كالعاقبة أي ذو خالصة . ثم إنه سبحانه جمع قبائح أحكامهم وأفعالهم وحكم عليهم بالخسران والسفاهة وعدم العلم والضلال وعدم الاهتداء فقال { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم } الآية . وذلك أن الولد نعمة عظيمة من الله تبقي ذكره ونسله فالسعي في إبطال مثل هذه النعمة لضرر مظنون هو الفقر أو نحوه ، أو لفائدة موهومة هي القربة إلى الأصنام دليل خفة العقل وعدم العلم وأنه موجب لخسران الدارين . وكذا تحريم ما أحل الله من الطيبات بالهوى والتقليد بل لمحض الافتراء على الله وإن ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، ولهذا سجل عليهم آخراً بالضلال ثم بعدم الاهتداء ليحصل كلا الأمرين لهم بالمطابقة كما حصل بالتضمن والله أعلم .
التأويل : { مهلك القرى } أي قرى أشخاص الإنسان { بظلم } وهو صرف الاستعداد الفطري في استيفاء اللذات الفانية { وأهلها غافلون } لم يبلغوا مبلغ التكليف بعد . { وربك الغني } عن كل مخلوق عامة وعن الإنسان خاصة { ذو الرحمة } خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم . { واعملوا على مكانتكم } أي على ما جبلتم عليه { إني عامل } على ما جبلت عليه { قتل أولادهم شركاؤهم } من الشياطين والنفس والهوى والدنيا { سيجزيهم بما كانوا يفترون } لأنهم ذهبوا مذهب الطبع لا مذهب الشرع ، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع مجاهدة النفس لا يكون له نور إذا لم يكن لامتثال الشرع { قد خسر الذين قتلوا أولادهم } لأن ذلك نتيجة انتزاع الرحمة عن قلوبهم وحرموا ما رزقهم الله صورة وهو ظاهر ، ومعنى وهو استعداد حصول مراتب أهل القرب { وما كانوا مهتدين } لأن خشية الفقر حملتهم على قتل الأولاد . وقال أهل التحقيق : من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

القراآت : { حصاده } بفتح الحاء : أبو عمرو وعاصم وابن عامر وسهل ويعقوب ، الباقون : بالكسر وكلاهما مصدر { من الضان } بغير همزة : أبو عمرو غير شجاع وأوقية والأعشى والأصبهاني عن ورش ويزيد وحمزة في الوقف . { ومن المعز } ساكن العين : عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وأبو جعفر وابن فليح وزمعة والخزاعي عن البزي والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل عنه ، الباقون : بفتحها { إلا أن تكون } بتاء التأنيث : ابن كثير وابن عامر ويزيد وحمزة وعباس مَن طريق ابن رومي عنه . { ميتة } بالتخفيف والرفع : ابن عامر وزاد يزيد التشديد . الباقون : بالياء وبالنصب . { الحوايا } ممالة : علي وحمزة وخلف . { فقل ربكم } وبابه مظهراً : الحلواني عن قالون والبرجمي .
الوقوف : { متشابه } ط . { ولا تسرفوا } ط { المسرفين } ه لا لأن قوله : { حمولة } منصوب ب { أنشأ } { وفرشاً } ط { الشيطان } ط { مبين } ه لا لأن { ثمانية } منصوب ب { أنشأ } { جنات } { أزواج } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى { المعز اثنين } ط { أرحام الأنثيين } ط لانتهاء الاستفهام { صادقين } ه لا لأن { اثنين } منصوب ب { أنشأ } أيضاً { ومن البقر اثنين } ط { أرحام الأنثيين } ط لأن « أم » في قوله : { أم كنتم } بمعنى ألف استفهام توبيخ . { بهذا } ج للاستفهام مع الفاء ولانقطاع النظم مع اتحاد المعنى { علم } ط { الظالمين } ه . { لغير الله } ج { رحيم } ه { ظفر } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى . { بعظم } ط { ببغيهم } ز للابتداء بأن وإثبات وصف الصدق مطلقاً . وللوصل وجه لأن المعنى وإنا لصادقون فيما أخبرنا عن التحريم ببغيهم . { واسعة } ط لاختلاف الجملتين { المجرمين } ه { من شيء } ط { بأسنا } ط { لنا } ط { تخرصون } ه { البالغة } ج للشرط مع الفاء { أجمعين } ه { حرم هذا } ج لذلك { معهم } ج لتناهي جزاء الشرط مع العطف { يعدلون } ه .
التفسير : إنه سبحانه جعل مدار هذا الكتاب الكريم على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وإنه بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة منكري البعث والقيامة ، ثم أتبعه حكاية أقوالهم الركيكة تنبيهاً على ضعف عقولهم ، فلما تمم هذه المقاصد عاد إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على إثبات ذاته ووجوب توحيده فقال : { وهو الذي أنشأ } الآية نشأ الشيء ينشأ نشأ إذا ظهر وارتفع ، وأنشأه الله ينشئه إنشاء أظهره ورفعه { جنات معروشات وغير معروشات } يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القبضان . وقيل : كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب تعرش وبعها يبقى على وجه الأرض منبسطاً كالقرع والبطيخ . وقيل : المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عروش يحمل عليها فتمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه ، وغير معروشات هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقة عن التعريش .

وقيل : المعروشات ما في البساتين والعمارات مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه ، وغير معروشات ما أنبته الله وحشياً في البراري والجبال فيبقى غير معروش . { والنخل والزرع } فسر ابن عباس الزرع بجميع الحبوب التي الذكر تقتات { مختلفاً أكله } والأكل كل ما يؤكل والمراد ههنا ثمر النخل والزرع فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] أي إليهما . والمراد أن لكل شيء منهما طعماً غير طعم الآخر و { مختلفاً } حال مقدّرة أي أنشأه مقدرّاً اختلاف أكله لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك { متشابهاً وغير متشابه } في القدر واللون والطعم . ثم قال { كلوا من ثمره } وقد قال في الآية المتقدمة أعني نظير هذه الآية وذلك قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } الآية إلى قوله { انظروا إلى ثمره } [ الأنعام : 99 ] تنبيهاً على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم متقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الأول سعادة روحانية أبدية ، والحاصل من الانتفاع سعادة جسمانية زائلة . وفائدة هذا الأمر الإباحة ، وقدم إباحة الأكل على إخراج الحق كيلا يظن أنه يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المتشاركين فيه . وفي الآية إشارة إلى أن خلق هذه النعم إما للأكل وإما للتصدق ، والأول لكونه حق النفس مقدم على الثاني لأنه حق الغير . وفيه أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله : { كلوا } خطاب عام يتناول الكل ، ويمكن أن يستدل به على أن الأصل عدم وجوب الصوم وأن من ادعى إيجابه فهو المحتاج إلى الدليل ، وأن المجنون إذا أفاق في أثناء النهار لا يلزمه قضاء ما مضى ، وأن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام . قال علماء الأصول : من المعلوم من لغة العرب أن صيغة الأمر تفيد ترجيح جانب الفعل؛ فحملها على الإباحة أو الوجوب لا يصار إليه إلا بدليل منفصل ، وفائدة قوله : { إذا أثمر } وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه هي أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت اطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع ، أما قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } فعن ابن عباس في رواية عطاء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك . ، أن الآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة وعلى هذا فكيف يؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل . والجواب أن المراد فاعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد واهتموا به حتى لا تؤخروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء ، وقال مجاهد : الآية مكية وإن هذا حق في المال سوى الزكاة وكان يقول : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم منه ، وكذا إذا دسته وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته وزيف بقوله صلى الله عليه وآله :

« ليس في المال حق سوى الزكاة » وبأن قوله : { وآتوا حقه } إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوماً قبل ورود هذه الآية والإلزام الإجمال . وعن سعيد بن جبير أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرض العشر أو نصف العشر فيما سقي بالسواقي نسخ ، والقول الأول أصح . ثم إن أبا حنيفة احتج بالآية على وجوب الزكاة في الثمار لأنه قال : { وآتوا حقه } بعد ذكر الأنواع الخمسة وهي العنب والنخل والزرع والزيتون والرمان . واعترض عليه بأن لفظ الحصاد مخصوص بالزرع . وأجيب بأن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل . واحتج هو أيضاً بها على أن العشر واجب في القليل والكثير للإطلاق . والجواب أن بيانه في الحديث « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة » ثم قال تعالى : { ولا تسرفوا } ولأهل اللغة فيه تفسيران : فعن ابن الأعرابي : السرف تجاوز ما حد لك . فعلى هذا إذا أعطى الكل ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف كما جاء في الخبر « إبدأ بنفسك ثم بمن تعول » وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فخذها فقسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئاً فنزلت الآية { ولا تسرفوا } أي لا تعطوا كله وإذا منع الصدقة فقد أسرف وبه فسر الآية سعيد بن المسيب ، فإن مجاوزة الحد تكون إلى طرف الإفراط وإلى طرف التفريط . وقال عمر : سرف المال ما هذب منه في غير منفعة . وعلى هذا فقد قال مقاتل : معناه لا تشركوا الأصنام في الأنعام والحرث . وقال الزهري : ولا تنفقوا في معصية الله تعالى . وعن مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً ، ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً ، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير . ثم ختم الآية بقوله : { إنه لا يحب المسرفين } والمقصود منه الزجر فإن كل مكلف لا يحبه الله فإنه من أهل النار لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادة إيصال الثواب إليه . قوله : { حمولة وفرشاً } معطوف على جنات أي وأنشأ من الأنعام هذين الجنسين . فالحمولة ما يحمل الأثقال « فعولة » بمعنى « فاعلة » والفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش مصدر بمعنى « مفعول » . وقيل : الحمولة الكبار التي تصلح للحمل ، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها مثل الفرش المفروش عليها . { كلوا مما رزقكم الله } قالت المعتزلة . أي مما أحلها لكم { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } لا تسلكوا طريقه الذي يدعوكم إليه في التحليل والتحريم من عن أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية { إنه لكم عدوّ مبين } بين العداوة .

وفي انتصاب { ثمانية أزواج } وجهان : قال الفراء : هو بدل من قوله : { حمولة وفرشاً } . وجوز غيره أن يكون مفعول { كلوا } والعرب تسمي الواحد فرداً إذا كان وحده فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً وهما زوجان ، قال عز من قائل : { خلق الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] وقال : { ثمانية أزواج } ثم فسرها بقوله : { من الضأن اثنين } أي زوجين اثنين { ومن المعز اثنين } وفي الآية الثانية : { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } قال الجوهري : الضائن خلاف الماعز والجمع يعني اسم الجمع الضأن والمعز مثل راكب وركب وسافر وسفر . وضأن أيضاً مثل حارس وحرس . وقال في الكشاف : إنه قرىء بفتح العين . والضأن ذوات الصوف من الغنم والمعز ذوات الشعر منها { قل ءالذكرين حرم الأنثيين } نصب بقوله : { حرم } والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله . ويريد بالذكرين الذكر من الضأن وهو الكبش ، والذكر من المعز وهو التيس ، وبالأنثيين الأنثى من الضأن وهي النعجة ، والأنثى من المعز وهي العنز ، وذلك على طريق الجنسية والمشاكلة . ومعنى الاستفهام إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما يشتمل عليه أرحام الأنثيين أي مما يحمل إناث الجنسين ، وكذلك الذكر من جنسي الإبل والبقر يعني الجمل والثور والأنثيان منهما الناقة والبقرة وما يحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً ، أو من خلط تارة وكانوا يقولون : قد حرمها الله فقيل لهم : إنكم لا تقرون بنبوّة نبي ولا شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم؟ وأكد ذلك بقوله : { نبؤني بعلم } أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم { إن كنتم صادقين } في أن الله حرمه . واعلم أنه سبحانه منّ على عباده بإنشاء الأزواج الثمانية من الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم إلا أنه فصل بين بعض المعدود وبعضه بالاحتجاج على من حرمها وليس ذلك بأجنبي وإنما هي جملة معترضة جيء بها تأكيداً وتشديداً للتحليل ، فالاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد ، أما قوله : { أم كنتم شهداء } ف « أم » منقطعة أي بل أكنتم شهداء ومعناه الإنكار وفحواه أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون إن الله حرم هذا فلم يبق إلا المشاهدة فتهكم بهم بذلك وسجل عليهم وعلى مثالهم بالظلم بقوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، قال المفسرون : يريد عمرو بن لحي بن قمعة الذي غيَّر شريعة إسماعيل عليه السلام وبَحَّر البحائر وسَيَّب السوائب . والأقرب أن للفظ عام فيتناول كل مفتر وإذا استحق هذا الوعيد على افتراء الكذب في تحريم مباح فكيف إذا كذب على الله تعالى في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والملائكة وفي النبوّات وفي المعاد؟! قال القاضي : في الآية دلالة على أن الإضلال عن الدين مذموم فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى .

وأجيب بأنه ليس كل ما كان مذموماً منا كان مذموماً من الله تعالى فإن تمكين العبيد من أسباب الفجور وتسليط الشهوة عليهم مذموم منّا دونه { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } قال القاضي : لا يهديهم إلى ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها . وقالت الأشاعرة : معناه أنه لا ينقل المشركين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ثم لما بيّن فساد طريقة الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطاعم أتبعه البيان الصحيح في الباب فقال : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً } أي طعاماً محرماً { على طاعم يطعمه } على آكل يأكله { إلا أن يكون } ذلك المأكول أو الموجود أو الطعام { ميتة أو دماً مسفوحاً } مصبوباً سائلاً . قال ابن عباس : يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما خرج من الأوداج عند الذبح فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما ، وما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل . وسئل أبو مجلز عما يتلطّخ باللحم من الدم وعن القدر التي سلف في أمثالها ، وانتصاب { فسقاً } على أنه معطوف على المنصوبات قبله ، و { أهل } صفة له منصوبة المحل سمي ما أهل به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق كما يقال : فلان كرم وجود . وجوز أن يكون { فسقاً } مفعولاً له من { أهل } وعلى هذا فقد عطف { أهل } على { يكون } والضمير في { به } يعود إلى ما يرجع إليه المستكن في { يكون } قالت العلماء : إن هذه السورة مكية وقد بيّن في الآية أنه لم يجد فيما أوحي إليه قرآناً أو غيره محرماً سوى هذه الأربعة ، وقد أكد هذا بما في النحل وفي البقرة مصدرة بكلمة « إنما » الدالة على الحصر فصارت المدنية مطابقة للمكية ، والذي جاء في المائدة { حرمت عليكم الميتة والدم } [ الآية : 3 ] إلى قوله : { وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } [ الآية : 3 ] من أقسام الميتة ولكنه خص بالذكر لأنهم كانوا يحكمون على تلك الأشياء بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى اخرها كانت مستقرة على هذا الحكم . وعلى هذا الحصر بقي الكلام في الخمر وفي سائر النجاسات والمستقذرات فنقول : إنه سبحانه قد وصف الخمر بأنه رجس وههنا علل تحريم لحم الخنزير بكونه رجساً فعلمنا أن النجاسة علة لتحريم الأكل وكل نجس فإنه يحرم أكله ، هذا بعد إجماع الأمة على تحريم الخبائث والنجاسات . وإن جوزنا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد كما روي أنه صلى الله عليه وآله نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور .

فلا إشكال . وقيل : المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرم على اليهود وزيف بأن تحريم شيء خامس نسخ والأصل عدمه . ثم بين سبحانه أنه حرم على اليهود أشياء أخر سوى هذه الأربعة فقال : { وعلى الذين هادوا حرمنا } وذلك نوعان : الأول أنه حرم عليهم { كل ذي ظفر } وفيه لغات : ضم الفاء والعين وهي الفصحى ، وكسرهما وهي قراءة ابن السماك ، والضم مع السكون والكسر مع السكون وهي قراءة الحسن ، واختلف في ذي الظفر فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه الإبل فقط ، وعنه في رواية أخرى وهو قول مجاهد أنه الإبل والنعام ، وقيل : كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب ، وسمي الحافر ظفراً على الاستعارة ، وزيف بأن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً وبأن البقرة والغنم مباحان لهم كما يجيء مع أن لهما حافراً فإذن يجب حمل الظفر على المخلب والبراثن من الجوارح والسباع بل على كل ما له إصبع من دابة وطائر . وكان بعض ذوات الظفر حلالاً لهم فلما ظلموا عمم التحريم . فعموم التحريم خاص بهم ولهذا قدم الجار في قوله { وعلى الذين هادوا حرمنا } فيستدل بذلك على حل بعض هذه الحيوانات على المسلمين وهو ما سوى ذات المخلب والناب فيكون الخبر مبيناً للآية لا مخالفاً كما ظن صاحب التفسير الكبير . النوع الثاني قوله { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } قال في الكشاف : هو كقولك : « من زيد أخذت ماله » تريد بالإضافة يعني إضافة الأخذ إلى زيد بواسطة من زيادة الربط . والمعنى أنه حرم عليهم من كل ذي ظفر كله ومن البقرة والغنم بعضهما وذلك شحومهما فقط ، هذا أيضاً ليس على الإطلاق لقوله : { إلا ما حملت ظهورهما } قال ابن عباس : إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه . وقال قتادة : إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها . وقيل : إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحفة وهي الشحمة التي على الظهر الملتزقة بالجلد فيما بين الكتفين إلى الوركين . وهي بالحقيقة لحم سمين لأنه يحمر عند الهزال ولهذا لو حلف لا يأكل الشحم فأكل من ذلك اللحم السمين لم يحنث على الأصح . والاستثناء الثاني قوله : { أو الحوايا } قال الجوهري : الحوايا الأمعاء واحدها حوية وفي معناها حاوية البطن وحاوياء البطن . وقال الواحدي : هي المباعر والمصارين والفحوى ، أو ما اشتمل على الأمعاء يعني أن الشحوم المتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة ، والاستثناء الثالث : { أو ما اختلط بعظم } قال جمهور المفسرين : يعني شحم الآلية . وقال ابن جريج : كل شحم في القوائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنين فإنه مخلوط بعظم فهو حلال لهم . والحاصل أن الشحم الذي حرم الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية . وقيل : إن الحوايا غير معطوف على المستثنى وإنما هو معطوف على المستثنى منه والتقدير : حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم .

ودخوله كلمة « أو » كدخولها في قوله تعالى : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الدهر : 24 ] والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا { ذلك } الجزاء وهو تحريم الطيبات { جزيناهم ببغيهم } بسبب قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وغير ذلك من قبائح أفعالهم { وإنا لصادقون } في هذه الأخبار أو فيما يوعد به العصاة . قال القاضي : نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان . وأجيب بأن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد الثواب ويمكن أن يكون بشؤم الجرم المتقدم { فإن كذبوك } في ادعاء النبوّة والرسالة أو في تبليغ الأحكام ، وعلى أصول المعتزلة فإن كذبوك في إنجاز إيعاد العصاة وزعموا أن الله واسع الرحمة وأنه يخلف الوعيد جوداً وكرماً . { فقل ربكم ذو رحمة واسعة } فلذلك لا يعجل بالعقوبة { ولا يردّ بأسه } إذا جاء وقت عذابه { عن القوم المجرمين } يعني المكذبين . وعلى أصولهم رحمته واسعة لأهل طاعته ولا يرد بأسه مع ذلك عن الذين ارتكبوا الكبائر فماتوا قبل التوبة .
ثم حكى أعذار الكفار الواهية فقال : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } وإنما جاز العطف عل الضمير المرفوع المتصل من غير أن أكد بالمنفصل لمكان الفصل بعد حرف العطف بلا الزائدة لتأكيد النفي . أخبر الله تعالى بما سوف يقولونه ولما قالوه . قال في سورة النحل : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [ النحل : 35 ] وإنما قال في سورة النحل بزيادة « نحن » و « من دونه » مرتين لأن الإشراك مستنكر مطلقاً . فلفظ الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته ، وعلى تحليل أشياء وتحريم أشياء من دون الله فلم يحتج إلى لفظ من دونه ، وأما العبادة فإنها غير مستنكرة على الإطلاق وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله سبحانه ، ولا تدل على تحريم شيء فلم يكن بد من تقييده بقوله : { من دونه } ولما حذف من الآية لفظة { من دونه } مرتين حذف معه { نحن } لتطرد الآية في حكم التخفيف . أما تفسير الآية فزعمت المعتزلة أنها تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه : الأول أن الذي حكى عن الكفار في معرض الذم والتقبيح وذلك قولهم : « لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك » هو صريح قول المجبرة فيكون هذا المذهب مذموماً . الثاني قوله : { كذلك كذب الذين من قبلهم } فلم يذكر المكذب به تنبيهاً على أنهم جاؤا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وعلا ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئته القبائح وإرادتها ، والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله ورسوله وكتبه ونبذ أدلة السمع والعقل وراء ظهره .

والحاصل أن هذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين منهم والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم لأنهم يقولون الكل بمشيئة الله تعالى . الثالث قوله : { حتى ذاقوا بأسنا } وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في هذا المذهب . الرابع قوله : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } وإنه استفهام على سبيل الإنكار أي لا علم لهؤلاء القائلين ولا حجة الخامس : { إن تتبعون إلا الظن } السادس : { وإن أنتم إلا تخرصون } السابع : { قل فلَّله الحجة البالغة } لأنه أزال الأعذار بالتمكين والإقدار فلم يبق لكم على الله حجة وإنما الحجة البالغة له عليكم وذلك أنكم تقولون : لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله لزم أن يكون الإله عاجزاً مغلوباً . وهذا الكلام غير لازم لأن الله قادر على أن يحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء إلا أن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف وهذا هو المراد من قوله : { فلو شاء لهداكم أجمعين } وبوجه آخر إن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلَّله الحجة الكاملة عليكم فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقنضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته فتوالوا جميع أهل الأديان ولا تعادوهم . أجابت الأشاعرة بأنا قد بينا بالدلائل القاطعة من أول القرآن إلى ههنا صحة مذهبنا فوجب تأويل هذه الآية دفعاً للتناقض فنقول : إن القول كانوا يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال دعوة الأنبياء ، وفي أن التكليف عبث فبين الله تعالى أن ذلك من تكاذيبهم وأكاذيبهم ، وأن التشبث بهذا العذر لا يفيدهم لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه ، شاء الكفر من الكافر ومع ذلك بعث الأنبياء وأمر بالإيمان ، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس : أول ما خلق الله القلم فقال : اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله « المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة » ثم إن ظاهر آخر الآية معناه وهو قوله : { فلو شاء لهداكم أجمعين } وحمل المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر تعسف والله أعلم . ثم لما أبطل جميع حجج الكفار بين أنه ليس لهم على قولهم شهود فقال : { قل هلم } ومعناه إذا كان لازماً أقبل وإذا كان متعدياً أحضر . قال الخليل : أصله « هالم » من قولهم لمَّ الله شعثه أي جمعه كأنه قال : لمَّ نفسك إلينا أي أقرب والهاء للتنبيه واستعطاف المأمور ، ثم حذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسماً واحداً يستوي فيه الواحد والجمع والتذكير والتأنيث في لغة أهل الحجاز ، وأهل نجد يصرفونها « هلما هلموا هلمي هلممن » والأول أفصح وقد يوصل بإلى كقوله تعالى :

{ والقائلين لإخوانهم هلم إلينا } [ الأحزاب : 18 ] وقال الفراء : أصلها « هل أم » أرادوا بهل حرف الاستفهام ومعنى أم اقصد . وقيل : إن أصل استعماله أن قالوا هل لك في الطعام أم أي اقصد . ثم شاع في الكل . أمر الله تعالى نبيه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه . وإنما لم يقل شهداء يشهدون لأنه ليس الغرض أحضار أناس يشهدون بالتحريم وإنما المراد إحضار شهدائهم الموسومين بالشهادة لهم المعروفين بنصرة مذهبهم ولهذا قال : { فإن شهدوا } أي فإن وقعت شهادتهم { فلا تشهد معهم } أي لا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأن شهادتهم محض الهوى والتعصب ولأجل ذلك قال أيضاً : { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالتكذيب وليرتب عليه باقي الآية فيعلم أن المتصف بهذه الصفات لا تكون شهادتهم عند العقلاء مقبولة .
التأويل : { وهو الذي أنشأ جنات } في القلوب { معروشات } من شجرة الإسلام والإيمان والإحسان { وغير معروشات } هي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء والحياء والوفاء والمودة والفتوة والشفقة والعفة والعلم والحلم والعقل والشجاعة والقناعة ونخل الإيمان وزرع الأعمال الصالحة وزيتون الأخلاق الحميدة ورمان الإخلاص بالشواهد والأحوال { متشابهاً } أعمالها { وغير متشابه } أحوالها { كلوا من ثمره } انتفعوا من ثمار الإيمان والأعمال والإخلاص بالشواهد والأحوال لا بالدعاوى والقيل والقال . { وآتوا حقه } وحقه دعوة الخلق وتربيتهم بالحكمة والمواعظة الحسنة و { يوم حصاده } أوان بلوغ السالك مبلغ الرجال البالغين عند إدراك ثمرة الكمال للواصلين دون السالك الذي يتردد بعد بين المنازل والمراحل . { ولا تسرفوا } بالشروع في الكلام في غير وقته والحرص على الدعوة قبل أوانها . { ومن الأنعام } أي ومن الصفات الحيوانية التي هي مركوزة في الإنسان ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع ، ومنها ما هو مستعد للأكل والشرب لصلاح القالب وقيام البشرية . { كلوا مما رزقكم الله } فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ، ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان ، ورزق السر هو شهود العرفان يلحظ العيان ، فانتفعوا من هذه الأرزاق بقدر ما ينبغي . { إنه لكم عدو مبين } يخرجكم بالتفريط والإفراط إلى ضد المقصود . ثم إن الصفات الحيوانية ثمان بعضها ذكور وبعضها إناث يتولد منها صفات أخر كلها محمودة إذ استعملت في محالها ، وبمقدار ما ينبغي { من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } والضأن والمعز من جنس الفرشية كما أن الإبل والبقر من جنس الحمولية .

والذكر من الضأن والمعز هما صفة شهوة البطن والفرج والأنثى منهما صفة حسن الخلق عند الاستمتاع بها وصفة التسليم عند تحمل الأذى ، والذكر من الإبل والبقر صفتا الظلومية والجهولية ، وأنثاهما الحمولية والاستسلام للاستعمال فبهذه الصفات الإنسانية صار الإنسان حامل أعباء الأمانة التي أبت المكونات عن حملها وهن أيضاً حملة عرش القلب فافهم ، وقد أحل الله تعالى استعمالها واستعمال المتولد منها على قانون الشرعية والطريقة ، ومن زعم أنه يجب تركها وفصلها بالكلية فقد افترى { لو شاء الله ما أشركنا } الكلام في نفسه حق وصدق إلا أنهم لما ذكروه في معرض الإلزام دفعاً للأذية والآلام كذبوا فيما قالوا والله سبحانه أعلم بالصواب .
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

القرآت : { تذكرون } بتخفيف الذال حيث كان : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد فحذفوا إحدى التاءين . الباقون : بالتشديد لأجل إدغام تاء التفعل في الذال { وأن هذا } بسكون النون . ابن عامر ويعقوب { وإن هذا } بكسر الهمزة وتشديد النون : حمزة وعلي وخلف ، الباقون : { وأن } بالفتح والتشديد { صراطي } بفتح الياء : ابن عامر والأعشى والبرجمي { فتفرق } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { أن يأتيهم } بالياء التحتانية وكذلك في النحل : علي وحمزة وخلف . الباقون : بالتاء الفوقانية . { فارقوا } وكذلك في الروم : حمزة وعلي الباقون { فرقوا } بالتشديد { عشر } بالتنوين { أمثالها } بالرفع : يعقوب . الباقون بالإضافة { ربي إلي } بفتح ياء المتكلم : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع ، { قيماً } بكسر القاف وفتح الياء : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل . الباقون : بالعكس مع تشديد الباء . { محياي } بالسكون { مماتي } بالفتح : أبو جعفر ونافع . الباقون : بالعكس . { وأنا أوّل } بالمد : نافع وأبو جعفر .
الوقوف : { شيئاً } ط للحذف أي وأحسنوا بالوالدين { إحساناً } ج لابتداء النهي مع احتمال العطف أي وأن لا تقتلوا ، { من إملاق } ط . { وإياهم } ج للعطف مع العارض . { وما بطن } ط للفصل بين الحكمين المعظمين مع اتفاق الجملتين { بالحق } ط لانتهاء بيان الأحكام إلى توكيد الإيصاء للأحكام { تعقلون } ه { أشده } ج للفصل بين الحكمين { بالقسط } ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف { ذا قربى } ج لتناهي جواب « إذا » وتقدّم مفعول { أوفوا } { تذكرون } ه لمن قرأ { وإن هذا } بالكسر . { فاتبعوه } ج للفصل بين النقيضين معنى مع الاتفاق نظماً . { عن سبيله } ط { تتقون } ه { يؤمنون } ه { ترحمون } ه لا لأن التقدير فاتبعوه لئلا تقولوا { من قبلنا } ص . { لغافلين } ه لا للعطف { أهدى منهم } ج للفاء مع أن « قد » لتوكيد الابتداء . { ورحمة } ج للاستفهام مع الفاء { وصدف عنها } ط { يصدفون } ه { بعض آيات ربك } ط { خيراً } ط { منتظرون } ه { في شيء } ط { يفعلون } ه { أمثالها } ج لابتداء شرط آخر مع العطف { لا يظلمون } ه { مستقيم } ج لاحتمال أن { دينا } نصب على البدل من محل { إلى صراط } أو على الإغراء أي الزموا . { حنيفاً } ج لابتداء النفي مع اتحاد المعنى { المشركين } ه { العالمين } ه لا . { لا شريك له } ج { المسلمين } ه { كل شيء } ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار { إلا عليها } ج لتفصيل الأمرين على التهويل مع اتفاق الجملتين { أخرى } ج لأنّ « ثم » لترتيب الإخبار مع اتحاد المقصود { تختلفون } ه { آتاكم } ط { العقاب } ز للتفصيل بين تحذير وتبشير والوصل للعطف أوضح { رحيم } ه .
التفسير : لما بين فساد ما يقوله الكفار في باب التحليل والتحريم أتبعه الشافي في الباب فقال : { قل تعالوا } وهو من الخاص الذي صار عاماً لأن أصله أن يقوله من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه .

و « ما » في قوله : { ما حرم } إما منصوب بفعل التلاوة أي أتل الذي حرمه ربكم فالعائد محذوف . وقوله : { عليكم } يكون متعلقاً ب { أتل } أو ب { حرم } وإما منصوب ب { حرم } على أن « ما » استفهامية فلا راجع . والمعنى أقل أي شيء حرم لأن التلاوة نوع من القول وتقديم المفعول للتخصيص . فإن قيل : قوله { أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } كالتفصيل لما أجمله في قوله : { ما حرم } فيلزم أن يكون ترك الشرك والإحسان إلى الوالدين محرماً . فالجواب أن المراد من التحريم البيان المضبوط ، أو الكلام تم عند قوله : { ما حرم ربكم } ثم ابتدأ فقال : { عليكم أن لا تشركوا } أو « أن » مفسرة أي ذلك التحريم هو قوله : { لا تشركوا } وهذا في النواهي واضح ، وأما الأوامر فيعلم بالقرينة أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله . ولا يجوز أن يجعل « أن » ناصبة السورة أحسن بيان ، وذلك أن منهم من يجعل الأصنام شركاء لله تعالى فأشار إليهم بقوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة } [ الأنعام : 74 ] ومنهم عبدة الكواكب الذين أبطل قولهم بقوله : { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] ومنهم القائلون بيزدان واهرمن ومنهم الذين يقولون الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وزيف معتقدهم بقوله : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } [ الأنعام : 100 ] ثم عمم النهي بقوله : { لا تشكروا به شيئاً } ثم حث على إحسان الوالدين وكفى به خصلة شريفة أن جعله تالياً لتوحيده . ثم أوجب رعاية حقوق الأولاد بعد رعاية حقوق الوالدين . ومعنى { من إملاق } أي من خوف الفقر كما صرح بذلك في الآية الأخرى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الإملاق وهو السبب الغالب فلذلك أزيل الوهم بقوله : { نحن نرزقكم وإياهم } فكما يجب على الوالد الاتكال في رزق نفسه على الله فكذا القول في حال الولد ، قال شمر : أملق لازم ومعتد . أملق الرجل افتقر ، وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده . وإنما قال ههنا : { نحن نرزقكم وإياهم } وقال في سبحانه بالعكس لأن التقدير في الآية من إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم ، وهناك زيدت الخشية التي تتعلق بالمستقبل فالتقدير خشية إملاق يقع بهم نحن نزرقهم وإياكم ، ثم نهى عن قربان الفواحش كلها . ومعنى ما ظهر منها وما بطن كما مر في قوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } [ الأنعام : 120 ] وفيه أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله تعالى وامتثال أمره ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس .

ثم أفرز من جملة الفواحش قتل النفس المحرمة تنبيهاً على فظاعتها ولما نيط بها من الاستثناء وهو قوله { إلا بالحق } وذلك أن قتل النفس المحرمة قد يكون حقاً لجرم صدر عنها كما جاء في الحديث « لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا لإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق » وينخرط في سلكه جزاء قاطع الطريق . والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا لأمر منفصل . ثم لما بيّن النواهي الخمسة أتبعه الكلام الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال : { ذلكم وصاكم } لما في لفظ التوصية من الرأفة والاستعطاف . ومعنى { لعلكم تعقلون } لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا . ثم ذكر أربعة أنواع أخر من التكاليف وذلك قوله : { ولا تقربوا مال اليتم إلا بالتي } أي بالخصلة أو الطريقة التي { هي أحسن } وهي السعي في تثميره وإنمائه ورعاية وجوه الغبطة لأجله كما مر في أول سورة النساء { حتى يبلغ أشده } أي احفظوا ماله إلى هذه الغاية أي أوان الاحتلام ولكن بشرط أن يؤنس منه الرشد . قال الفراء : واحد الأشد شدته في القياس ولم يسمع . وقال أبو الهيثم : الواحد شدّة كأنعم في نعمة ، والشدّة القوّة ومنه قولهم : « بلغ الغلام شدّته » وقيل : إنه واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } بالعدل والسوية . وإيفاء الكيل إتمامه خلاف البخس . وقوله : { والميزان } أي الوزن بالميزان . فإن قيل : إيفاء الكيل والوزن هو عين القسط فما فائدة التكرار؟ قلنا : أمر الله المعطى بإيفاء إيتاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة . ثم قال : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } ليعلم أن الواجب هو القدر الممكن من العدالة والسوية لا التحقيق المؤدي إلى الحرج والعسر . فزعمت المعتزلة ههنا أن هذا القدر من التضييق حيث لم يجوزه الله تعالى فكيف يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه أو يخلق القدرة الموجبة للكفر والداعية المقتضية له ثم ينهاه عنه وعورض بالعلم والداعي كما تقدّم مراراً { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان } المقول له أو عليه { ذا قربى } حمله المفسرون على أداء الشهادة وعلى الأمر والنهي والأولى أن يحمل على الأقوال كلها ويدخل فيه قول الرجل في الدعاء إلى الدين . وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل مخلصاً عن الحشو ومبرأ عن النقص ومجرداً عن العصبية والجدال على مقتضى الهوى والتشهي ، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذا الحكاية الرواية والرسالة . وحكم الحاكم بحيث يتسوي فيه بين القريب والبعيد ولا ينظر إلا إلى رضا الله ، وختم الأوامر بقوله : { وبعهد الله أوفوا } كما قال :

{ أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] ويندرج في هذه الخاتمة بالحقيقة جميع الأنواع المذكورة { وإن هذا صراطي } من قرأ بالفتح والتخفيف فبإعماله في ضمير الشأن والتقدير : تعالوا أتل ما حرم وأتل أنه هذا صراطي ، وكذا فيمن قرأ بالتشديد وبالفتح إلا أن ضمير الشأن لا يقدر . وإن شئت جعلتها خفضاً متعلقاً بما قبله أي ذلكم وصاكم به وبأن هذا ، أو بما بعده والتقدير وبأن هذا صراطي مستقيماً { فاتبعوه } ومن كسر فلأن التلاوة في معنى القول أو على الاستئناف والمعنى اتبعوا صراطي أنه مستقيم { ولا تتبعوا السبل } المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات { فتفرق بكم } الباء للتعدية أي فيفرقكم ذلك الأتباع { عن سبيله } المستقيم وهو دين الإسلام . وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه خط خطاً ثم قال : هذا سبيل الرشد . ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم تلا هذه الآية . فهذه الآية بالحقيقة إجمال لما في الآيتين المتقدمتين ولهذا ختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد وختم الأولى بقوله { لعلكم تعقلون } لأنها أمور ظاهرة جلية يكفي في تعقلها أدنى مسكة وعقل ، وختم الثانية بقوله : { لعلكم تذكرون } لأن المذكور فيها أمور خفية تحتاج إلى التدبر والتذكر حتى يقف فيها على موضع الاعتدال . أو نقل : الأمور الخمسة المذكورة في الآية الأولى كلها عظام جسام وكانت الوصية بها من أبلغ الوصايا فختم الآية بما في الإنسان من أشرف السجايا وهو العقل الذي امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان ، وأما المذكورة في الثانية فأشياء يقبح تعاطيها وارتكابها وكانت الوصية بها تجري مجرى الزجر والوعظ فختمها بقوله : { تذكرون } أي تتعظون بمواعظ الله تعالى .
قوله : { ثم آتينا موسى الكتاب } معطوف على { وصاكم } فسئل كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل الوصية بدهر طويل؟ وأجيب بأن التكاليف التسعة المذكورة تكاليف لا تختلف بحسب اختلاف الشرائع كما روي عن ابن عباس أن هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب ، وقيل : إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار ، وعن كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة . وأما الشرائع التي كانت التوراة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك . وقيل : إن في الآية حذفاً تقديره : ثم قل يا محمد صلى الله عليه وآله إنا آتينا . والمعنى اتل ما أوحي إليك ثم اتل عيلهم خبر ما آتينا موسى . وقيل : هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله :

{ ووهبنا له إسحق ويعقوب } [ الأنعام : 84 ] وقوله : { تماماً على الذي أحسن } مفعول له أي لتتم نعمتنا على الذي أحسن أي على من كان محسناً صالحاً ، أو المراد إتمام للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وكل ما أمر به ، أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه . وقرىء { أحسن } بالرفع أي على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه { وتفصيلاً لكل شيء } فيدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا صلى الله عليه وآله وصحة دينه وشرعه { وهدى } دلالة { ورحمة } لكي يؤمنوا بلقاء ما وعدهم ربهم به من ثواب وعقاب { وهذا كتاب أنزلناه } لا شك أنه القرآن { مبارك } كثير الخير والنفع أو ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين { فاتبعوه واتقوا } لكي ترحموا لأن الغرض من التقوى رحمة الله تعالى ، أو اتقوا لترحموا جزاء على التقوى ، أو اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة . قال الفراء قوله : { أن تقولوا } مفعول { واتقوا } وقال الكسائي : التقدير : إنا أنزلناه لئلا تقولوا . وقال البصريون : إنا أنزلناه كراهة أن تقولوا والخطاب لأهل مكة { إنما أنزل الكتاب } أي التوراة والإنجيل { على طائفتين من قبلنا } اليهود والنصارى { وإن كنا } هي المخففة من الثقيلة واللام في { لغافلين } هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وإنه كنا ومعنى الدراسة القراءة . وإنما قالوا : { لكنا أهدى منهم } لحدة أذهانهم وكثرة حفظهم لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأمثالها مع كونهم أميين قطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم . ثم قال : { فقد جاءكم } أي إن صدقتم أن عدم إنزال الكتاب يصلح للعذر وأنه لو أنزل عليكم الكتاب لكنتم أهدى منهم فقد جاءكم { بينة من ربكم } فيما يعلم سمعاً { وهدى } فيما يعلم سمعاً وعقلاً { ورحمة } من الله في إصلاح المعاش والمعاد { فمن أظلم } بعد هذه المعجزات والبينات { ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } أي منع غيره منها لأن الأول ضلال والثاني إضلال ، ثم ختم الآية بأشد الوعيد وأبلغ التهديد ثم ذكر أنهم بعد نصب الأدلة وإزاحة العذر لا يؤمنون ألبتة ، وشرح أحوالاً توجب المبادرة إلى الإيمان والتوبة فقال : { هل ينظرون } أي ينتظرون ومعنى الاستفهام النفي وتقدير الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا عند مجيء أحد هذه الأمور : مجيء الملائكة ، أو مجيء الرب ويعني به عذابه وبأسه كما سلف في البقرة ، أو مجيء المعجزات القاهرة . قال في الكشاف : الملائكة ملائكة الموت أو ملائكة العذاب ومجيء الرب مجيء كل آية ، ثم قال : { يوم يأتي بعض آيات ربك } وأجمعوا على أن المراد بهذه الآية علامات القيامة . عن البراء بن عازب قال : كنا نتذاكر أمر الساعة إذا أشرف النبي صلى الله عليه وآله فقال : « أتتذاكرون الساعة؟ إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى وناراً تخرج من عدن »

والمراد أنه إذا بدت أشراط الساعة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، ولا نفساً ما كسبت في إيمانها خيراً . ثم أوعدهم بقوله { قل انتظروا إنا منتظرون } ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله : { إن الذين فارقوا دينهم } أو فرقوا ومعنى القراءتين في الحقيقة واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وكفر ببعض فقد فارقه أي تركه . قال ابن عباس : يريد أن المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله ، وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فصاروا شيعاً أي فرقاً وإخواناً في الضلالة . والشيعة كل فرقة تشيع إماماً لها . وقال مجاهد وقتادة : هم اليهود والنصارى تفرقوا فرقاً وكفر بعضهم بعضاً وأخذوا بعضاً وتركوا بعضاً كقوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 85 ] وعن مجاهد أيضاً أنهم من هذه الأمة وهم أهل البدع والشبهات وفي الحديث « افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة - كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية - وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة - كلها في الهاوية إلا واحدة . وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في الهاوية إلا واحدة » { لست منهم في شيء } أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم لا يتعداهم إليك . وقال السدي : معناه لم تؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ . ويحتمل أن يقال : إن النهي عن القتال في وقت لا ينافي الأمر في وقت آخر فلا نسخ { إنما أمرهم إلى الله } بالاستئصال والإهلاك { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } وفيه من الوعيد ما فيه . وفي الآية حث على أن كلمة المسلمين يجب أن تكون واحدة ليستأهلوا الثواب الجزيل كما قال : { من جاء بالحسنة } هي لا إله إلا الله والسيئة الشرك . والأولى حملها على العموم { فله عشر أمثالها } أقام صفة الجنس المميز مقام الموصوف تقديره : عشر حسنات أمثالها كقراءة من قرأ { عشر أمثالها } بالرفع والتنوين ، قيل : هذا أقل الموعود وقد وعد سبعمائة وبغير حساب . وقيل : ليس المراد التحديد بل أراد الأضعاف مطلقاً كقول القائل : لئن أسديت إليّ معروفاً لأكافئنك بعشرة أمثاله . وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشراً . روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وآله قال عن الله تعالى : « الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره » وقال صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى : « إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فسيئة »

{ وهم لا يظلمون } أي لا ينقص من ثواب طاعاتهم ولا يزاد على عقاب سيآتهم . أسؤلة : ما الحكمة في الأضعاف؟ جوابه كان للأمم أعمار طويلة وطاعات كثيرة فوضع الله لهذه الأمة ليلة القدر خيراً من ألف شهر وأضعاف الأعمال { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } [ البقرة : 261 ] { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] وأيضاً لو أن الخصماء يتعلقون بهم يوم القيامة فيذهبون بأعمالهم إلى أن تبقى الأضعاف فيقول الله أضعافهم ليست من فعلهم هي من رحمتي فلا أقتص منهم أبداً . آخر : كيف يوجب الكفر عقاب الأبد؟ جوابه أن الكافر كان على عزم الكفر لو عاش أبداً فاستحق العقاب الأبدي بناء على ذلك الاعتقاد بخلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع فلا جرم تكون عقوبته منقطعة ، وأيضاً الذي جهله الكافر وهو ذات القديم سبحانه وصفاته شيء لا نهاية له فيكون جهله لا يتناهى فكذا عقابه . آخر : إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلاً عن صيام ستين يوماً وهو في كفارة الظهار وتارة بدلاً عن صيام أيام قلائل . آخر : أحدث في رأس إنسان موضحتين فوجب أرشان فإن عاد ورفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت الجناية وقل العقاب . آخر : قد يجتمع بسبب أطراف تبان ولطائف تزال ديات متعددة إذا حصل الاندمال ، وقد ترتقي إلى نيف وعشرين . الأذنان أو إبطال حسهما ، العينان أو البصر ، الأجفان ، المارن ، الشفتان ، اللسان أو النطق ، الأسنان ، اللحيان ، اليدان ، الذكر والأنثيان ، الحلمتان ، الشفران ، الإليتان ، الرجلان ، العقل ، السمع ، الشم ، الصوت ، الذوق ، الإمناء أو الإحبال ، إبطال لذة الجماع ، إبطال لذة الطعام ، الإفضاء ، البطش ، المشي . وقد تضاف إليها موجبات الجوائف والمواضح وسائر الشجات . فإن عاد الجاني قبل الاندمال وحز الرقبة أوقده بنصفين لم يجب إلاّ دية النفس ، وكل ذلك يدل على أن رعاية المماثلة غير معتبرة في الشرع . والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن هذه الأمور من تعبدات الشرع المطهر وتحكماته فلا سبيل بعقولنا إليها . ويمكن أن يجاب عن الثالث بأن بدل الأطراف لما لم يستقر بالاندمال دخل في دية النفس لعسر ضبط ذلك والجزاء الحقيقي موكول إلى يوم الجزاء والله أعلم . قال أهل السنة : كل الثواب تفضل من الله تعالى فلا إشكال . وقالت المعتزلة : إن بين الثواب والتفضل فرقاً لأن الثواب هو المنفعة المتسحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة . ثم اختلفوا فقال الجبائي : العشرة تفضل والثواب غيرها إذ لو كان الواحد ثواباً والتسعة تفضلاً لزم أن يكون الثواب دون التفضل فلا يكون للتكليف فائدة . وقال آخرون : لا يبعد أن يكون الواحد ثواباًً إلا أنه يكون أعلى شأناً من التسعة الباقية . ثم لما علم رسوله صلى الله عليه وآله أنواع الدلائل والرد على أصناف المشركين وبالغ في تقرير إثبات القضاء والقدر وردّ على أهل الجاهلية أباطيلهم أمره بأن يقول : { إنني هداني ربي } ليعلم أن الهداية لا تحصل إلا بالله عز وجل .

{ وقيماً } « فيعل » من قام كسيد من ساد . ومن قرأ { قيماً } فعلى أنه مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر وصف به للمبالغة و { ملة إبراهيم } عطف بيان و { حنيفاً } حال من إبراهيم أو من الملة ، والمعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم حال كونه أو كونها موصوفاً بالحنيفية . ثم قال في صفة إبراهيم : { وما كان من المشركين } رداً على من زعم عليه شيئاً من ذلك .
ثم كما عرفه الدين القويم والطريق المستقيم علمه كيف يصنع به ويؤديه فقال : { قل إن صلاتي ونسكي } أي عبادتي وتقربي إليه كما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة . وقيل : للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث . وقيل : المراد بالنسك ههنا الذبائح جمع بين الصلاة والذبح كما في قوله : { فصل لربك وانحر } [ الكوثر : 2 ] وقيل : صلاتي وحجي أخذاً من مناسك الحج . { ومحياي ومماتي } أي حياتي وموتي مصدران ميميان . وقال في الكشاف : المراد وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح . وفيه أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل لا بد أن يكون جيمع حركات المرء وسكناته لله رب العالمين { وبذلك } من الإخلاص { أمرت وأنا أول المسلمين } لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته . وقال في التفسير الكبير : إنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه ، وحكمه وذلك أن المحيا والممات بخلق الله فكذا الصلاة والنسك وبذلك من التوحيد أمرت ، ثم لما أمر نبيه بالتوحيد المحض أمره أن يذكر ما يجري مجرى الدليل عليه فقال : { قل أغير الله أبغي رباً } وتقريره أن طوائف المشركين من عبدة الأصنام والكواكب ومن اليهود والنصارى والثنوية كلهم معترفون بأن الله تعالى خالق الكل فكأنه سبحانه قال : قل يا محمد منكراً أغير الله أطلب رباً مع أن هؤلاء الذين اتخذوا من دونه آلهة مقرون بأنه خالق تلك الأشياء ولا يدخل في العقل جعل المربوب والعبد شريكاً للرب والمولى . وبوجه آخر الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، وقد ثبت أن الواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته فهو إذن رب كل شيء ، وصريح العقل شاهد بأن المربوب لا يكون شريكاً للرب فلا يختص إذن بالربوبية غيره . ثم لما بين الدليل القاطع على التوحيد ذكر أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى وهذا كالرد لقولهم :

{ اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] ثم بين أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم هناك إلا الله تعالى فقال : { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } ثم ختم السورة ببيان حال المبدإ والوسط والمعاد على سبيل الإجمال فقال { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } قيل : الخطاب لبني آدم لأنه جعلهم بحيث يخلف بعضهم بعضاً . وقيل : لأمة محمد صلى الله عليه وآله لأنه خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم ، وقيل : لخواص الأمة الذين هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها بالحق كقوله : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس } [ ص : 26 ] { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في الشرف والعقل والجاه والمال والرزق لا للعجز والبخل ولم لأجل شبه الابتلاء والامتحان ، ولظهور الموفر من المقصر وتميز المطيع من العاصي حسب ما تقتضيه الحكمة والعدالة والتدبير والتقدير . ثم وصف نفسه بالقدرة الكاملة على إيصال العقاب وإيفاء الثواب فقال { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } فأدخل اللام في قرينة الترغيب وأسقطها عن قرينة الترهيب ترجيحاً لجانب الرحمة والغفران فإن اللطف والرحمة تفيض عنه بالذات والقهر والتعذيب يصدر عنه بالعرض لأن ذلك من ضروريات الملك ولهذا قال « سبقت رحمتي غضبي » وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب . وإنما لم يسقط اللام عن قرينة العقاب في سورة الأعراف في قصة أصحاب السبت لأن ذلك قد ورد عقيب ذكر المسخ فناسب التأكيد باللام ، وإنما أخر قرينة الرحمة في الموضعين ليقع ختم الكلام على المغفرة والرحمة فيكون أدل على كمال رأفته ووفور إحسانه .
التأويل : { من إملاق } فيه ترك التوكل على الله وعدم الثقة بالله { وأوفوا الكيل } أوفوا بكيل العمر وميزان الشرع حقوق الربوبية واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد حظوظ العبودية من الألوهية . { وبعهد الله أوفوا } بأن لا تعبدوا ولا تحبوا ولا تروا إلا إياه { وإن هذا صراطي مستقيماً } إشارة إلى أن الصراط المستقيم الحقيقي إلى الله تعالى هو صراط محمد صلى الله عليه وسلم { تماماً على الذي أحسن } أي على من أحسن من أمتك إسلامه . وفيه أن الكتب المنزلة كلها وشرائع الأنبياء كانت تتمة للدين الحنيفي الذي هو الإسلام ، ولهذا أمر بأن يقتدى بالأنبياء ليجمع بين هداه وهداهم . ويحتمل أن يراد بالذي أحسن النبي صلى الله عليه وآله والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه { أنزلناه مبارك } وبركته أنه أنزل على قلبه فكان خلقه القرآن { فقد جاءكم بينة } ما يبين لكم طريق السير إلى الله ومهدي ما يهديكم إلى الله أتم وأكمل مما جاء في الكتابين

{ ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ] { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } عياناً وتسوقيهم إلى الله قهراً والجاء { أو يأتي ربك } إليهم إذ لم يأتوا إليه في متابعتك { قل انتظروا } للمستحيلات { إنا منتظرون } للميعاد في المعاد { إن الذين فارقوا } الدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان { وكانوا شيعاً } فرقاً مختلفة من المبتدعة والزنادقة والمتزيدة رياء وسمعة وعلماء السوء وملحدة المتفلسفة { لست منهم في شيء } لأنك على الحق وهم على الباطل وبينهما تضاد إنما أمرهم إلى الله في بدء الخلقة وقسم الاستعداد كما شاء { ثم ينبئهم } يوم الجزاء بما يستحقه كل منهم { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } قبل ذلك حتى يقدر على الإتيان بتلك الحسنة وهي حسنة الإيجاد من العدم ، وحسنة الاستعداد حيث خلقه في أحسن تقويم ، وحسنة التربية وحسنة الرزق وحسنة بعثة الرسل وحسنة إنزال الكتب ، وحسنة تبيين الحسنات من السيئات ، وحسنة التوفيق للحسنة وحسنة الإخلاص في الإحسان ، وحسنة قبول الحسنات { ومن جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها } لأن السيئة بذر يزرع في أرض النفس والنفس خبيثة لأنها أمارة بالسوء ، والحسنة بذر يزرع في أرض القلب والقلب طيب { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } [ الأعراف : 58 ] والتحقيق أنه كما للأعداد ثلاث مراتب الآحاد والعشرات والمئات وبعد ذلك تكون الألوف إلى حيث لا يتناهى ، فكذلك للإنسان أربع مراتب : النفس والقلب والروح والسر . فالعمل الواحد في مرتبة النفس أي إذا صدر عنها يكون واحداً ، وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها ، وفي مرتبة الروح يكون بمائة ، وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهى ، وهذا سر ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت جزاء الحسنات والله تعالى أعلم ورسوله . { قل إنني هداني ربي } من أسفل سافلين القالب بجذبه العناية الأزلية { ونسكي } أي سيري على منهاج « الصلاة معراج المؤمن » { ومحياي } أي حياة قلبي وروحي { ومماتي } أي موت نفسي لطلب { رب العالمين } والوصول إليه { وأنا أول } المستسلمين عند الإيجاد لأمر « كن » كما قال : « أول ما خلق الله نوري » . { قل أغير الله } كيف أطلب غير الله وهو حبيبي والمحب لا يطلب إلا الحبيب وإذا هو رب كل شيء فيكون ما له لي ، وإن طلبت غيره دونه يكون ذلك الغير علي لا لي كما قال { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } لأن النفس أمارة بالسوء والسوء عليها لا لها { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فإن كان القلب سليماً من كدورات صفات النفس باقياً على ما جبل عليه من حب الله تعالى وطلبه لا يؤاخذ بمعاملة النفس ولا يتألم بعذابها وإنما تكون النفس فقط مأخوذة بوزرها معاقبة بما هي أهله ، وإن كان القلب منقلب الحال وأزاغه الله تعالى بإصبع القهر إلى محاذاة النفس فتصدأ مرآة القلب بصفات النفس وأخلاقها فيتبع النفس وهواها فيزول عنه الصفاء والطهارة والسلامة والذكر والفكر والتوحيد والإيمان والتوكل والصدق والإخلاص ورعاية وظائف العبودية فيكون مأخوذاً بوزره لا بوزر غيره { وهو الذي جعل } كل واحد من بني آدم وقته خليفة ربه في الأرض .

وسر الخلافة أن صوره على صفات نفسه حياً قيوماً سميعاً بصيراً عالماً قادراً مريداً متكلماً { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في استعداد الخلافة { ليبلوكم } ليظهر من المتخلق بأخلاقه منكم القائم به وبأوامره في العباد والبلاد ، ومن الذي رجع القهقرى إلى صفات البهائم وأبطل الاستعداد للخلافة بالختم والطبع والحبس في سجين الطبيعة { لغفور رحيم } لمن وفقه لمرضاته ورفع درجاته الله حسبي .
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

القراآت : { يتذكرون } بياء الغيبة ثم تاء التفعل : ابن عامر . والباقون كما مر في آخر الأنعام .
الوقوف : { المص } ه كوفي { للمؤمنين } ه { أولياء } ط { تذكرون } ه { قائلون } ه { ظالمين } ه { المرسلين } ه لا للعطف { غائبين } ه { الحق } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { المفلحون } ه { يظلمون } ه { معايش } ط { تشكرون } ه .
التفسير : قد تقدم في أول الكتاب مباحث هذه المقطعة على سبيل العموم . وعن ابن عباس معنى المص أنا الله أعلم وأفصل . وقال السدي : معناه أنا المصوّر . وقيل : معناه ألم نشرح لك صدرك بدليل { فلا يكن في صدرك حرج منه } كما زاد في الرعد راء لقوله بعده { رفع السموات } [ الآية : 2 ] ثم إن جعلنا هذه الحروف بدل جملة فلا محل لها من الإعراب ، وإن كانت اسماً للسورة جاز أن يكون { المص } مبتدأ و { كتاب } يعني به السورة خبره والجملة بعده صفة له ، وجاز أن يكون { المص } خبر مبتدأ محذوف وكذا { كتاب } أي هذه المص هو كتاب أنزل إليك . والدليل على أنه منزل من الله تعالى هو أنه ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتاباً ولم يخالط أهل الأخبار والأشعار وقد مضى على ذلك أربعون سنة ثم ظهر عليه هذا الكتاب المشتمل على علوم الأولين والآخرين فلن تبقى شبهة في أنه مستفاد بطريق الوحي . القائلون بخلق القرآن زعموا أن الإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وهذا من سمات المحدثات . وأجيب بأن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو الحروف والألفاظ ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة . فإن قيل : الحروف أعراض غير باقية بدليل أنه لا يمكن الإتيان بها إلا على سبيل التوالي وعدم الاستقرار فكيف يعقل وصفها بالنزول؟ أجيب بأنه تعالى أحدث هذه الرقوم في اللوح المحفوظ ثم إن الملك طالع تلك النقوش وحفظها ونزل فعلمها محمداً صلى الله عليه وآله . ثم قال : { فلا يكن في صدرك حرج } أي شك . وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرج كما أن المتيقن منفسح الصدر منشرح ، ومعنى { منه } أي من شأن الكتاب أي لا تشك في أنه منزل من عند الله أو من تبليغه أي لا يضق صدرك من الأداء وتوجه النهي إلى الحرج كقولهم لا أرينك ههنا والمراد نهيه عن الكون بحضرته فإن ذلك سبب رؤيته ومثله قوله تعالى { وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ] ظاهره أمر للمشركين وإنه في الحقيقة أمر للمؤمنين بأن يغلظوا على المشركين . وفي متعلق قوله { لتنذر } أقوال . قال الفراء : إنه متعلق ب { أنزل } وفي الكلام تقديم وتأخير أي أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج . وفائدة التقديم والتأخير أن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر .

وقال ابن الأنباري : إنه متعلق بالنهي واللام بمعنى كي والتقدير : فلا يكن في صدرك شك كي تقدر على إنذار غيرك لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور لتوكله على ربه وثقته بعصمته . وقال صاحب النظم : اللام بمعنى « أن » كقوله : { يريدون أن يطفئوا } [ التوبة : 32 ] وفي موضع آخر { ليطفؤا } [ الصف : 8 ] والتقدير لا يضق صدرك ولا تضعف عن أن تنذر به . وقيل : إن تقدير الكلام هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله له حافظاً وناصراً لم يخف أحداً ، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإبلاغ والإنذار اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الضلال والإبطال . ثم قال : { وذكرى للمؤمنين } قال ابن عباس : يريد مواعظ للمصدقين . وقال الزجاج : هو اسم في موضع المصدر . قال الليث : الذكرى اسم للتذكرة . وقال صاحب الكشاف : محل ذكرى يحتمل النصب بإضمار فعلها كأنه قيل لتنذر به وتذكر تذكيراً ، والرفع عطفاً على كتاب ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف والجر للعطف على محل { أن تنذر } أي للإنذار وللذكرى . وإنما لم نقل على محل لتنذر لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً ولو صح ذلك لكان محله النصب لا الجر . وخص الذكرى بالمؤمنين كقوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] والتحقيق فيه أن النفوس البشرية منها بليدة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في بحر اللذات الجسمانية فتحتاج إلى زاجر قويّ ، ومنها مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة للإنجذاب إلى عالم القدس إلا أنها غشيتها غواش من عالم الجسم فعرض لها نوع ذهول وغفلة ، فالصنف الأول يحتاج إلى إنذار وتخويف وأما الصنف الثاني فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت معدنها وأبصرت مركزها واشتاقت إلى ما هنالك من الروح والراحة والريحان فلم تحتج إلا إلى تذكرة وتنبيه ، فثبت أنه سبحانه أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة وذكرى في شأن طائفة . ثم كما أمر الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليهم وهم الأمة بالمتابعة فقال : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } ومعنى كونه منزلاً إليهم أنهم مخاطبون بذلك مكلفون به وإلا فهو بالحقيقة منزل على الرسول ، قالت العلماء : المنزل متناول للقرآن والسنة جميعاً . عن الحسن : يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله . وفي الآية دلالة على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس غير جائز لأن متابعة المنزل واجبة فلو عمل بالقياس لزم التناقض .

فإن قيل : العمل بالقياس لكونه مستفاداً من القرآن وهو قوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] عمل بالقرآن أيضاً . قلنا : بعد التسليم إن الترجيح معنا لأن العمل بالمنزل ابتداء أولى من العمل بالمنزل بواسطة ، ثم أكد الأمر المذكور بقوله : { ولا تتبعوا من دونه } أي لا تتخذوا من دون الله { أولياء } من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع . ويجوز أن يكون الضمير في { من دونه } لما أنزل أي لا تتبعوا من دون الله أولياء . احتج نفاة القياس بأن الآية دلت على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس . متابعة غير ما أنزل فلا يجوز . لا يقال العمل بالقياس عمل بالمنزل لقوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] لأنا نقول : لو كان الأمر كذلك لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافراً لقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ الكافرون : 44 ] وقد أجمعت الأمة على عدم تكفيره . أجاب مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وظاهر العموم دليل مظنون فلا يعارض القاطع . وزيف بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] وبعموم قوله صلى الله عليه وآله « لا تجتمع أمتي على الضلالة » والفرع لا يكون أقوى من الأصل . أجاب المثبتون بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في إثبات القياس قوي الظن وحصل الترجيح . ومن الحشوية من أنكر النظر في البراهين العقلية تمسكاً بالآية . وأجيب بأن العلم بكون القرآن لحجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فكيف تنكر . ثم ختم المخاطبة بنوع معاتبة فقال : { قليلاً ما تذكرون } أي تذكرون تذكراً قليلا . و « ما » مزيدة لتوكيد القلة . ثم ذكر ما في ترك المتابعة من الوعيد فقال : { وكم من قرية } فموضع « كم » رفع بالابتداء و « من » مزيدة للتأكيد والبيان أي كثير من القرى { أهلكناها } مثل زيد ضربته وتقدم النصب أيضاً عربي جيد وفي الآية حذف لا لقرينة الإهلاك فقط فإن القرية تهلك بالهدم والخسف كما يهلك أهلها ولكنه يقال التقدير : وكم من أهل قرية لقوله { فجاءها بأسنا } والبأس بالأهل أنسب ولقوله : { أوهم قائلون } ولأن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بهلاكهم ولأن معنى البيات والقيلولة لا يصح إلا فيهم . وإنما قال : { فجاءها } رداً بالكلام على اللفظ أو كما يقال الرجال فعلت . وهنا سؤال وهو أن قوله : { فجاءها بأسنا } يقتضي أن يكون الهلاك مقدماً على مجيء البأس ولكن الأمر بالعكس . والعلماء أجابوا بوجوه منها : أن المراد حكمنا بهلاكها أو أردنا أهلاكها فجاءها كقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] ومنها أن معنى الإهلاك ومعنى مجيء البأس واحد فكأنه قيل : وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا وهذا كلام صحيح .

فإن قيل : كيف يصح والعطف يوجب المغايرة؟ فالجواب أن الفاء قد تجيء للتفسير كقوله صلى الله عليه وآله « لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه » فإن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذا ههنا مجيء البأس جار مجرى التفسير للإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم وقريب منه قول الفراء : لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال : أعطيتني فأحسنت . وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معاً . ومنها أن ذلك محمول على حذف المعطوف والتقدير : أهلكناهم فحكم بمجيء البأس لأن الإهلاك أمارة للحكم بوصول مجيء البأس . ومنها أنه من باب القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس كقوله : عرضت الناقة على الحوض . وقوله { بياتاً } قال الجوهري : بيت العدوّ أي أوقع بهم ليلاً والاسم البيات . وفي الكشاف أنه مصدر بات الرجل بياتاً حسناً . وعلى القولين فإنه وقع موضع الحال بمعنى بائتين أو مبيتين . ثم قال : { أوهم قائلون } والجملة حال معطوفة على { بياتاً } كأنه قيل : فجاءها بأسنا مبيتين أو بائتين أو قائلين . وإنما حسن ترك الواو ههنا من الجملة الاسمية الواقعة حالاً لأن واو الحال قريب من واو العطف لأنها استعيرت منها للوصل فالجمع بين حرف العطف وبينه جمع بين المثلين وذلك مستثقل . فقولك : جائني زيد راجلاً أو هو فارس . كلام فصيح ، ولو قلت : جاءني زيد هو فارس كان ضعيفاً . وقال بعض النحويين : الواو محذوفة مقدرة ورده الزجاج لما قلنا . أما معنى القيلولة فالمشهور أنها نومة الظهيرة . وقال الأزهري : هي الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن نوم لقوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً } [ الفرقان : 24 ] والجنة لا نوم فيها وإنما خص وقتا البيات والقيلولة لأنهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع . وكأنه قيل للكفار لا تغتروا بالفراغ والرفاه والأمن والسكون فإن عذاب الله إنما يجيء دفعة من غير سبق أمارة .
أيا راقد الليل مسوراً بأوّله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
فقوم لوط ألهكوا وقت السحر ، وقوم شعيب وقت القيلولة . ثم قرر حالهم عند مجيء البأس فقال : { فما كان دعواهم } أي ما كانوا يدعونه من قبل دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده والإقرار بالإساءة والظلم على أنفسهم . وقال ابن عباس : فما كان تضرعهم واستغاثتهم إلا قولهم هذا وذلك إقرار منهم على أنفسهم بالشرك . وقال أهل اللغة : الدعوى اسم يقوم مقام الدعاء . حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين أي فما كان دعاؤهم ربهم إلا اعترافهم بعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم فلا يزيدون على ذم أنفسهم وتحسرهم على ما فرط منهم وفرطوا فيه . ومحل { دعواهم } وعلى عكسه محل { إن قالوا } يجوز أن يكون نصباً أو رفعاً كما سبق في إعراب قوله :

{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } [ الأنعام : 23 ] ثم ذكر على ترك القبول والمتابعة وعيداً آجلاً فقال : { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } نسأل المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم كقوله : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } [ القصص : 65 ] { ولنسئلن المرسلين } { فلنقصن عليهم } أي على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بعلم } عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم { وما كنا غائبين } عنهم وعما وجد منهم . فإن قيل : ما الفائدة في سؤال المرسل إليهم بعدما أخبر عنهم أنهم اعترفوا بذنوبهم؟ فالجواب أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب الظلم أو التقصير تقريعاً وتوبيخاً . فإن قيل : ما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة؟ قلنا : ليلتحق كل التقصير بالأمة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع مواجب التقصير ، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار . فإن قلت : كيف الجمع بين قوله : { فلنسئلن } وبين قوله : { فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [ الرحمن : 39 ] فالجواب بعد تسليم اتحاد الزمان والمكان أن القوم لعلهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إليها وعن الصوارف التي صرفتهم عنها . أو المراد نفي سؤال الاستفادة والاسترشاد وإثبات سؤال التوبيخ والإهانة فلا تناقض . وفي الآية إبطال قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء ولا على الكفار ، وفيها أنه سبحانه عالم بالكليات وبالجزئيات ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السموات ، فالإلهية لا تكمل إلا بذلك . وفيها أنه غير مختص بشيء من الأحياز والجهات وإلا كان غائباً من غيره . ثم بيّن أن من جملة أحوال يوم القيامة وزن الأعمال فقال : { والوزن } وهو مبتدأ خبره { يومئذ } وقوله { الحق } صفة المبتدأ أي الوزن العدل يوم يسأل الله الأمم ورسلهم . وقيل : لا يجوز الإخبار عن شيء وقد بقيت منه بقية فيجب على هذا أن يكون { الحق } خبراً و { يومئذٍ } ظرفاً للوزن ومعنى الحق أنه كائن لا محالة . وفي كيفية الميزان قولان : الأول ما جاء في الخبر « إنه تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها » وكيف توزن فيه وجهان : أحدهما أن المؤمن تتصوّر أعماله بصور حسنة وأعمال الكافر بصور قبيحة فتوزن تلك الصور ذكره ابن عباس . وثانيهما أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد . « يروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عما يوزن يوم القيامة فقال : الصحف » وعن عبد الله بن سلام أن ميزان العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة والأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في إحدهما لوسعتهن ، وجبريل آخذ بعموده ناظر إلى لسانه ، وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله فيوضع في الآخرة فترجح » قال القاضي : يجب أن يحمل هذا على أنه يأتي بالشهادتين بحقهما من العبادات وإلا كان إغراء على المعصية . ورد بأنه خلاف الظاهر وبأنه لا يبعد أن يكون ثواب كلمة الشهادة أوفى وأوفر من سائر الأعمال لأن معرفة الله تعالى أشرف العقائد والأعمال . وروى الواحدي في البسيط أنه إذا خف حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجزته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم : بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وخلقك فمن أنت؟ فيقول : أنا نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصليها عليّ قد وافتك أحوج ما تكون إليها القول الثاني قول مجاهد والضحاك والأعمش وكثير من المتأخرين أن المراد من الميزان العدل لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالوزن والكيل فلا يبعد جعل الوزن مجازاً عن العدل . ومما يؤكد ذلك أن أعمال العباد أعراض وأنها قد فنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وكذا لو قدر بقاؤها . وأما قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول : المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقراً بأنه تعالى عادل حكيم وحينئذٍ يكفيه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب ، وإما أن لا يكون مقراً فلا نعرف من رجحات الحسنات على السيئات وبالعكس حقية الرجحان . أجاب الأولون بأن جميع المكلفين يعترفون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور لكن الفائدة في وضع الميزان ظهور الرجحان لأهل الموقف وازدياد الفرح والسرور للمؤمن وبالضدّ للكافر . واختلف العلماء أيضاً في كيفية الرجحان فقال بعضهم : يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات . وقال آخرون : بل يظهر الرجحان في الكفة . واختلف أيضاً في الموازين فقيل : إنها جمع موزون وأراد الأعمال الموزونة والميزان المنصوب واحد . ولئن سلم أنها جمع الميزان فالعرب قد توقع لفظاً لجمع على الواحد فتقول : خرج فلان إلى مكة على الأفراس والبغال . قاله الزجاج . وقال الأكثرون : كما لا يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل قال عز من قائل :

{ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] وأيضاً لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر . ثم إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان قالوا : إن الله حصر أهل الموقف في قسمين منهم من تزيد حسناته على سيئاته ومنهم على العكس ولا ريب أن هذا القسم أهل الكفر لأنه حكم عليهم بأنهم الذين خسروا أنفسهم بسبب الظلم بآيات الله أي التكذيب بها وهذا لا يليق إلا بالكافر . ولئن سلم أن العاصي معاقب لكنه يعاقب أياماً ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو بالحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الآباد من غير زوال ولا انقطاع . قيل : في الآية دلالة على أن الذي تكون حسنات وسيئاته متعادلتين متساويتين غير موجود والله أعلم .
ثم لما فرغ من التخويف بالعذاب الآجل رغب الخلائق في قبول دعوة الأنبياء بطريق آخر وهو تذكير النعم فإن ذلك يوجب الطاعة فقال : { ولقد مكناكم في الأرض } أقدرناكم على التصرف فيها { وجعلنا لكم فيها معايش } هي جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها ، أو ما يتوصل به إلى ذلك وبالجملة وجوه المنافع التي تحصل بتخليق الله تعالى ابتداء كالأثمار ، أو بواسطة كالاكتساب ولوجه في معايش تصريح الياء لأنها أصلية لا زائدة كصحائف بالهمز في صحيفة . وعن ابن عامر أو نافع في بعض الروايات الهمز تشبيهاً بصحائف واستبعده النحويون البصريون . ثم عاتب المكلفين بأنهم لا يقومون بشكر نعمه كما ينبغي فقال : { قليلاً ما تشكرون } وفيه إشارة إلى أنهم قد يشكرون { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] .
التأويل : { المص } هو إله من لطفه أفرد عباده للمحبة وللمعرفة وأنعم عليهم بالصدق والصبر لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة { كتاب أنزل على قلبك } فانفسح له صدرك وانشرح فلم يبق فيه ضيق وحرج بخلاف ما أنزل من الكتب في الألواح والصحف فقد عرض لبعضهم ضيق عطن فألقى الألواح . وكما شرف نبيه بالكتاب المنزل على قلبه حتى صار خلقه القرآن شرف أمته بأن أمرهم باتباع ما أنزل إليهم ليتخلقوا بأخلاق الله . { وكم من قرية } قبل أفسدنا استعدادها { فجاءها بأسنا } أي إزاغة قلوبهم بإصبع القهارية وأهلها نائمون على فراش الحسبان { قائلون } في نهار الخذلان فما كان ادّعاؤهم إلا أن قالوا من قصر نظرهم لا من طريق الأدب { إنا كنا ظالمين } فنسبوا التصرف إلى أنفسهم ولم يعلموا أن الله تعالى مقلب أفئدتهم وأبصارهم { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } وهم عامة الخلائق هل قبلتم الدعوة وعملتم بما أمرتم أم لا فيكون السؤال سؤال تعنيف وتعذيب أو هم الذين قبلوا الدعوة فيكون السؤال سؤال تشريف وتقريب { ولنسئلن المرسلين } سؤال إنعام وإكرام هل بلغتم وهل وجدتم أمماً قابِلِي الدعوة { فلنقصن عليهم بعلم } فليعلمن أنا ما أرسلنا الرسل إليهم عبثاً وإنما أرسلناهم لأمر عظيم وخطب جسيم { وما كنا غائبين } عن الرسل بالنصر والمعونة وعن المرسل إليهم بالتوفيق والعناية { والوزن يومئذ } لأهل الحق لا الباطل لا نقيم لهم يوم القيامة وزناً .

روي أنه يوم القيامة يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة . { فمن ثقلت موازينه } بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأحوال الكاملة { فأولئك هم المفلحون } من شر أنانيتهم وإنما جمع الموازين لأن لبدن كل مكلفٍ ميزاناً يوزن به أعماله ولنفسه ميزاناً يوزن به صفاتها ولقلبه ميزاناً يوزن به أوصافه ولروحه ميزاناً يوزن به نعوته ولسره ميزاناً يوزن به أحواله ولخفيه ميزاناً يوزن به أخلاقه . والخفي لطيفة روحانيّة قابلة لفيض الأخلاق الربانية ولهذا قال صلى الله عليه وآله : « ما وضع في الميزان شيء أقل من حسن الخلق » وذلك أنه ليس من نعوت المخلوقين وإنما هو خلق رب العالمين والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه { خسروا أنفسهم } أفسدوا استعدادها { ولقد مكناكم } هيأنا لكم خلافة الأرض دون غيركم من الحيوانات والملك { وجعلنا لكم } خاصة { معايش } ولكل صنف من الملك والحيوانات معيشة واحدة وذلك أن الإنسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية . فمعيشة الملك هي معيشة روحه ، ومعيشة الحيوان هي معيشة بدنه ، ومعيشة الشيطان هي معيشة نفسه الأمارة بالسوء ، وقد حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية وإنها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي القلب والسر والخفي ، فمعيشة قلبه هي الشهود ، ومعيشة سره هي الكشوف ، ومعيشة خفيه هي الوصال والوصول .
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

القراآت : { لأملأن } بتليين الهمزة الثانية حيث كان : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف : { تخرجون } من الخروج : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن ذكوان الباقون : مبنياً للمفعول من الإخراج والله أعلم .
الوقوف : { إلا إبليس } ط لأنه معرفة فلا تصلح الجملة صفة له . { الساجدين } ه { إذ أمرتك } ط { منه } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول . { طين } ه { الصاغرين } ه . { يبعثون } ه { المنظرين } ه { المستقيم } ه لا للعطف { شمائلهم } ط { شاكرين } ه { مدحوراً } ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف . { أجمعين } ه { الظالمين } ه { الخالدين } ه { الناصحين } ه { بغرور } ج لأن جواب « لما » منتظر مع الفاء { ورق الجنة } ط لأن الواو للاستئناف { مبين } ه { أنفسنا } سكتة للأدب إعلاماً بانقطاع الحجة قبل ابتداء الحاجة . { الخاسرين } ه { عدو } ط لعطف المختلفين { إلى حين } ه { تخرجون } ه .
التفسير : من جملة نعم الله تعالى علينا أن خلق أبانا آدم فجعله مسجوداً للملائكة فلذلك ذكر تلك القصة عقيب تذكير النعم ، ونظير هذه الآيات ما سبق في سورة البقرة { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] منع من المعصية بقوله : { كيف تكفرون } ثم علل ذلك المنع بكثرة نعمه على المكلفين وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع ، ثم ختم ذلك بقصة جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة ، والغرض من الكل أن التمرد والجحود لا يليق بإزاء هذه النعم الجسام . وقصة آدم وما جرى له مع إبليس ذكرها الله في سبعة مواضع : في « البقرة » وههنا وفي « الحجر » وفي « سبحان » وفي « الكهف » وفي « طه » وفي « ص » وسنبين بعض حكمة اختلاف العبارات بقدر الفهم إن شاء الله تعالى . وههنا سؤال وهو أن قوله : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا } يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا والأمر في الواقع بالعكس . وأجاب المفسرون بوجوه منها : أن المضاف محذوف أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ثم صورنا أباكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا . وإنما حسن هذه الكناية لأن آدم عليه السلام أصل البشر نظير قوله لبني إسرائيل المعاصرين { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } [ البقرة : 63 ] أي ميثاق أسلافكم . وقال صلى الله عليه وسلم : ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل . وإنما قتله أحدهم . ومنها أن المراد من خلقناكم آدم ثم صورناكم أي صورنا ذرية آدم في ظهره في صورة الذر ثم قلنا للملائكة وهذا قول مجاهد . ومنها خلقناكم ثم صورناكم ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة . ومنها أن الخلق في اللغة التقدير وتقدير الله تعالى عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كل شيء بمقداره المعين له .

فقوله : { خلقناكم } إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم . وقوله : { صورناكم } إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورهم كما أنه أثبت صور كل كائن كما جاء في الخبر « اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة » . ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له . قال الإمام فخر الدين رضي الله عنه . وهذا التأويل عندي أقرب الوجوه في تأويل هذه الآية . وأما أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا فقد تقدم في أوائل سورة البقرة فلا وجه لإعادته . أما قوله سبحانه . { ما منعك أن لا تسجد } فظاهره يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود كما قال في سورة ص { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] فلهذا الإشكال حصل للمفسرين رضي الله عنهم أقوال أوّلها وهو الأشهر : أن « لا صلة » زائدة كما في { لا أقسم } [ القيامة : 1 ] وكما في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين . قال في الكشاف : وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل في { لئلا يعلم } ليتحقق علم أهل الكتاب ، وفي { ما منعك أن لا تسجد } ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك . قلت : لعله أراد أن زيادة « لا » إشارة إلى نفي ما عدا المذكور ليلزم منه تحقق المذكور . وثانيها أن إثبات الزيادة في كلام الله تعالى خارج عن الأدب وأن الاستفهام للإنكار أي لم يمنعك من ترك السجود شيء كقول القائل لمن ضربه ظلماً : ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك؟ والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه فما امتنعت من ضربي . وثالثها قال القاضي : ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال : ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها . وقيل : الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه . وقيل : معناه ما الذي جعلك في منعة من عذابي؟ وقيل : معناه من قال لك لا تسجد . وأقول : يمكن أن لا يعلق قوله : { أن لا تسجد } بقوله : { ما منعك } وإنما يكون متعلقه محذوفاً التقدير : ما منعك من السجود أن لا تسجد أي لئلا تسجد توجه عليك هذا السؤال . والحاصل أن عدم سجودك ما سببه؟ { إذ أمرتك } أمر إيجاب . وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب توبيخه وإفشاء معاندته وجحوده . واستدل العلماء بالآية على أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب وإلا لم يترتب الذم عليه ، وأن الأمر يقتضي الفور وإلا لم يستوجب الذم بترك السجود في الحال .

ثم استأنف اللعين قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم زعماً منه أن مثله مستبعد أن يؤمر بما أمر به وتلك الخيرية هي التي منعته عن السجود فقال : { أنا خير منه } ثم بين هذه المقدمة بقوله { خلقتني من نار وخلقته من طين } والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها ، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها ، وأيضاً النار قوية التأثير والفعل ، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال . وأيضاً النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت . وأيضاً فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع . وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة ، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره ، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على البعض تطويل بلا طائل . ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [ البقرة : 22 ] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جداً . ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به رداً لكلامه ، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل . فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه وقد قال صلى الله عليه وسلم : « ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم » { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] وفي قوله : { أنا خير منه } باطلة . ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعاً وإسقاطاً لحق النفس؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره؟ قالت العلماء ههنا : إن قوله تعالى للملائكة { اسجدوا لآدم } خطاب عام يتناول جميع الملائكة : ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعصى ربه وقاس .

وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس . ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلاً للنص بالكلية لا مخصصاً . وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بسجوده لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بسجوده لما هو مخلوق من الأرض أولى . ويحتمل أن يزيد هذا الجواب بأن الشريف إذا رضي بتلك الخدمة فلا اعتراض عليه وحينئذٍ لا يقبح أمره بذلك . ثم إن الملائكة رضوا بذلك فلا بأس ، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فقبح أمره بالسجود ، فقياسه يوجب تخصيص النص لا رفعه بالكلية فعلمنا أن استحقاق الذم إنما كان لتخصيص النص بالقياس كما ادعينا . { قال } أي الله تعالى كلام تعنيف وتعذيب لا إكرام وتشريف أو قال على لسان بعض ملائكته { فاهبط } يعني إذ لم تمثل أمري فاهبط { منها } . قال ابن عباس : يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم . وقال بعض المعتزلة : أمر بالهبوط من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين { فما يكون } فما يصح { لك أن تتكبر فيها } وتعصي { فاخرج إنك من الصاغرين } من أهل الصغار والهوان . يقال للرجل قم صاغراً إذا أهين . وفي ضده قم راشداً ، قال الزجاج : إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله بالذلة والصغار كما قال النبي صلى الله عليه وآله : « من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله » { قال أنظرني إلى يوم يبعثون } طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين ، ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل { قال } مطلقاً { إنك من المنظرين } قيل : إن هذا المطلق مقيد بقوله في موضع آخر { إلى يوم الوقت المعلوم } [ ص : 81 ] أي اليوم الذي يموت الأحياء كلهم فيه وهو وقت النفخة الأولى ، وقال آخرون : لم يوقت الله تعالى له أجلاً . والمراد الوقت المعلوم في علم الله تعالى والدليل على ذلك أن إبليس كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فيقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحاً . أجاب الأولون بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء أو على الكفر والمعاصي كإبليس فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام { قال فبما أغويتني } الإغواء ضد الإرشاد وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل إذا بشم والبشم فساد يعرض في جوفه من كثرة شرب اللبن .

ولا يمكن أن يتعلق الباء بقوله : { لأقعدن } لأن لام القسم تأبى ذلك . لا يقال : والله يريد لأمرنّ . لأن حكم القسم وما يتلوه حكم همزة الاستفهام وحرف النفي الذي هو ما وهي تعمل من حيث المعنى لا من حيث اللفظ فكأنها عوامل ضعيفة فلم يتقدم عليها شيء من معمولاتها لضعفها . وإنما يتعلق بفعل القسم المحذوف و « ما » مصدرية تقديره : فبما أغويتني أي فبسبب إغوائك إياي أقسم . ويجوز أن تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك لأقعدن . ومعنى القسم بالإغواء أنه من جلمة آثار القدرة أي بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن . وقال في الكشاف : إن الأمر بالسجود كان سبب إغوائه وهو تكليف والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً بأن يقسم به وهذا يناسب أصول الاعتزال . قال مشايخ العراق : الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والجلال والعزة يمين ، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يميناً . ويعني بصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده فيقال : رحم فلاناً ولم يرحم فلاناً وغضب ولم يغضب . وقال بعضهم : ما للاستفهام كأنه قيل : بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ فقال : { لأقعدن } ويرد على هذا القول أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على « ما » الاستفهامية قليل . قيل : إن إبليس أضاف الإغواء ههنا إلى الله وفي قوله : { فبعزتك لأغوينهم } [ ص : 82 ] أضاف الإغواء إلى نفسه والأول يدل على الجبر والثاني على القدر ، وهذا دليل على أنه كان متحيراً في هذه المسألة . أجابت المعتزلة عن قوله : { فبما إغويتني } بأن قول إبليس واعتقاده ليس بحجة أو المراد أنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر منه كفر فلهذا المعنى أضاف الغي إلى الله . وقد يقال : لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضربك عنده ، أو المراد بالإغواء الإهلاك واللعن . وقالت الأشاعرة : نحن لا نبالغ في أن المراد بالإغواء ههنا هو الإضلال لأن حاصله كيفما كان يرجع إلى حكاية قول إبليس وهو ليس بحجة إلا أنا نقطع بأن الغاوي لا بد له من مغوٍ وليس ذلك نفسه لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والدور أو التسلسل محال فلا بد أن ينتهي إلى خالق الكل وهو المقصود . أما قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } فانتصابه على الظرف كقوله :
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
قال الزجاج : هو كقولهم ضرب زيداً الظهر والبطن أي على الظهر والبطن . والمراد لأعترضن لهم أي لبني آدم المذكورين في قوله : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم } على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة ، والحاصل أنه يواظب على الإفساد بالوسوسة مواظبة لا يفتر عنه ولهذا ذكر العقود لأن من أراد المبالغة في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود .

والعم أن العلماء اختلفوا في أن كفر إبليس كفر عناد أو كفر جهل . فمن قائل بالأول لقوله : { صراطك المستقيم } وصراط الله المستقيم هو دينه الحق . ومن قائل بالثاني لقوله : { فبما أغويتني } فدل ذلك على أنه اعتقد أن الذي هو عليه محض الغواية ، وإنما وصف الصراط بالمستقيم بناء على زعم الخصم واعتقاده ورد بأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغوايه فقد علم أن ضدّه هو الحق فكان إنكاره إنكار اللسان لا القلب وهو المعنى بكفر العناد ، ويمكن أن يجاب بأنه أراد بالإغواء أيضاً الإغواء بزعم الخصم ، قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دنيه ولا في دنياه وإلا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد والغوائل المترتبة على ذلك ، ومما يؤيد ذلك أنه بعث الأنبياء دعاة للخلق إلى الحق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال ، ثم إنه أمات الأنبياء وأبقى إبليس ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك . قال الجبائي في دفع هذا الاعتراض . إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد بل إنما يضل من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً بدليل قوله تعالى : { فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم } [ الصافات : 162 ] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة . وقال أبو هاشم : يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جارياً مجرى زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من المشقة توجب الزيادة في الثواب . وضعف قول الجبائي بأنا نعلم بالضرورة أن الإنسان إذا جلس عنده جلساء السوء وحسنوا في عينه أمراً من الأمور مرة بعد أخرى فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التحسين فكذا الشيطان المزين للقبائح في قلوب الكفار والفساق . وزيف قول أبي هاشم بأن خلق الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنه تعالى لا يراعي المصلحة ، وتقرير الحجة أن خلق تلك الزيادة يوقع في الكفر وعقاب الأب ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أن يزداد ثوابه وحصول هذه الزيادة شيء لا حاجة إليه والأهم رفع العقاب لا تحصيل زيادة الثواب . فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لم يهمل الأهم لطلب الزيادة التي لا ضرورة إليها . أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها { من بين أيديهم } أي أشككهم في صحة البعث والقيامة { ومن خلفهم } ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية . وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة ، ومن خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها؛ فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها ، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها ، وثالثها قول الحكم والسدي { من بين أيديهم } يعني الدنيا لأنهم بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها { ومن خلفهم } الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك .

وأما قوله : { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } فقيل : { عن أيمانهم } في الكفر والبدعة { وعن شمائلهم } في أنواع المعاصي . وقيل : { عن أيمانهم } في الصرف عن الحق { وعن شمائلهم } في الترغيب في الباطل . وقيل : { عن أيمانهم } افترهم عن الحسنات { وعن شمائلهم } أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري : وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين . وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس . وقال حكماء الإسلام : إن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية : إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : { من بين أيديهم } وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله : { ومن خلفهم } وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن . ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر . فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة . وقيل : { من بين أيديهم } الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد { ومن خلفهم } شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى ، { وعن إيمانهم } الترغيب في ترك المأمورات { وعن شمائلهم } الترغيب في فعل المنهيات . وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [ طه : 82 ] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } [ سبأ : 54 ] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام . فقال له : تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل » وعلى هذا فالقعود في الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله :

{ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } [ الإسراء : 64 ] وبقي ههنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال : { من بين أيديهم ومن خلفهم } بحرف الابتداء { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } بحرف المجاورة؟ قال في الكشاف : وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع . يقال : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، فمعنى « على » أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى « عن » أنه جليس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به « رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس » لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها ، وكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئته من الليل تريد بعض الليل ، وقال بعض المفسرين : خص اليمين والشمال بكلمة « عن » لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف . وقالت الحكماء { من بين أيديهم ومن خلفهم } هما الوهم والخيال كما مر والناشىء منهما العقائد الباطلة والكفر { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } الشهوة والغضب والناشىء منهما الأفعال الشهوية والغضبية . وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة « عن » تنبيهاً على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول . وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموضوعة في الجوانب الأربعة من البدن ، وأما في الظاهر فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريقة الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة . قال القاضي : هذا القول من إبليس كالدلالة على أن لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق . قلت : هذا منافٍ لما في الحديث « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » أما قوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } فسئل أنه من باب الغيب فكيف عرف؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين .

وقال آخرون : إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله : ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال : { ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه } [ سبأ : 20 ] { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] . وقيل : إن للنفس تسع عشرة قوة : الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم . وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل ، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لا سيما وهي في أول الخلقة تكون قوية ، والعقل يكون ضعيفاً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } { قال } الله تعالى في جوابه إذا كان هذا عزمك { اخرج منها مذؤماً مدحوراً } الذام العيب والذأم يهمز ولا يهمز ، والدحر الطرد والإبعاد وفي المثل : لا تعدم الحسناء ذاماً . واللام في { لمن تبعك } موطئة للقسم و { لأملأن } جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط . وعن عصام { لمن تبعك } بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله : { لأملأن جهنم } فغلب ضمير المخاطب كما في قوله : { إنكم قوم تجهلون } [ الأعراف : 138 ] أي إنكم وإنهم على هذا . فقوله : { لأملأن } في محل الابتداء { ولمن تبعك } خبره . قال القاضي : كما أن الكافر يتبعه كذلك الفاسق يتبعه فلذلك يجب القطع بدخول الفاسق النار . وأجيب بشرط عدم العفو . قوله : { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } الآية . فيها من المسائل أن قوله : { اسكن } أمر تعبد أو أمر إباحة من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف . وأن زوج آدم هي حواء وأن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض . وأن قوله { وكلا } أمر إباحة لا أمر تكليف . وأن قوله : { ولا تقربا } نهي تنزيه أو نهي تحريم وأن الشجرة المشار إليها شجرة واحدة بالشخص أو بالنوع وإنها أيّ شجرة كانت . وأن ذلك الذنب كان صغيراً أو كبيراً . وأن الظلم في قوله : { فتكونا من الظالمين } بأي معنى هو؟ وأن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم أو بعدها؟ ونحن قد قضينا الوطر عن جميعها في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة { فوسوس لهما الشيطان } الوسوسة حديث النفس وهو فعل غير متعد كولولت المرأة ووعوع الذئب والمصدر الوسواس أيضاً بكسر الواو والوسواس بالفتح الاسم كالزلزال . ويوصل إلى المفعول باللام وبإلى . فمعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ومعنى وسوس إليه ألقاها إليه أي تكلم معه كلاماً خفياً يكرره { ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما } قيل : اللام لام العاقبة لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهر عورتهما وإنما آل أمرهما إلى ذلك ، وقيل : لام الغرض وبدو العورة كناية عن زوال الحرمة وسقوط الجاه الذي كان غرضه ، أو لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وفي ذلك سقوط حشمته .

وقوله : { ووري } مجهول وارى أي ستر والسوءة فرج الرجل والمرأة . ثم بيّن وسوسة إبليس بأنه { قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } أي إلا كراهة أن تكونا ملكين إلى قوله : { إني لكما لمن الناصحين } . سؤال : كيف يطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة ساجدين معترفين بفضله؟ والجواب بعد تسليم أن هذه الواقعة كانت بعد النبوة وبعد سجود الملائكة له ، أن هذا أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وملائكة العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبته لآدم وإلا كان هذا التطميع فاسداً . وربما يجاب بأنه أراد أنه يصير مثل الملك في البقاء والدوام وزيف بلزوم التكرار من قوله : { أو تكونا من الخالدين } . قال الواحدي : كان ابن عباس يقرأ { ملكين } بكسر اللام كأن الملعون أتاهما من جهة الملك كقوله : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [ طه : 120 ] واعترض بأنه لا نزاع في هذه القراءة الشاذة وإنما النزاع في القراءة المشهورة . ويمكن أن يجاب بأن آدم لعله رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والبطش والخلقة بأن يصير جوهراً نورانياً مقره العرش والكرسي . نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن : إن آدم وحواء هل صدّقاه في قوله؟ فقال الحسن : معاذ الله لو صدّقاه لكانا من الكافرين . أراد الحسن أن تصديق الخلود يوجب إنكار البعث والقيامة وإنه كفر . ويمكن أن يقال : لو أراد بالخلود طول المكث لم يلزم التكفير ، ولو سلم أن الخلود مفسر بالدوام فلا نسلم أن اعتقاد الدوام من آدم يوجب الكفر لأن العلم بالموت ثم البعث يتوقف على السمع ولعل ذلك الدليل السمعي لم يصل إلى آدم وقتئذٍ . ثم إن المحققين اتفقوا على أن التصديق لم يوجد من آدم لا قطعاً ولا ظناً وإنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا عند الشهوة أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال . ثم إن بعضهم زعم أن الترغيب كان في مجموع الأمرين كونهما ملكين وكونهما خالدين والظاهر أنه على طريقة التخيير . سؤال : المقاسمة من الجانبين فكيف يتصور التقاسم بين آدم وإبليس؟ والجواب كأنه قال لهما : أقسم بالله إني لكما ناصح وقالا له : نقسم بالله إنك إن صدقت ناصح . أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها ، أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم { فدلاهما بغرور } أي أوقعهما فيما أراد من تغرير ، وأصله أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه .

وقيل : أي جرأهما على أكل الشجرة من قولهم : فلان يدل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده . قال ابن عباس : غرهما باليمين . وكان آدم يظن أن لا يحلف أحد بالله كاذباً . وعن ابن عمر أنه كان إذا رأى من بعض عبيده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق ، فقيل له : إنهم يخدعونك فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له . { فلما ذاقا الشجرة } فيه دلالة على أنهما تناولا اليسير قصداً إلى معرفة طعمه ولولا أنه ذكر في آية أخرى { فأكلا منها } [ طه : 121 ] لم يدل على الأكل لأن الذوق قد يكون من غير أكل . { بدت لهما سوآتهما } ظهرت عوراتهما أي عورتاهما مثل { صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] مكان قلباكما { وطفقا يخصفان } أخذا في الفعل وهو الخصف ، ويستعمل طفق بمعنى كاد . قال الزجاج : أي يجعلان ورقة على ورقة ليستترا بهما كما تخصف النعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور . والورق التين وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة؟ { ألم أنهكما } عتاب من الله وتوبيخ وباقي الآيات مفسر في سورة البقرة . عن ثابت البناني : لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني فيك . فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوا ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده .
وقد بقي علينا من التفسير أسرار المتشابهات الواقعة في هذه القصة فلنفرغ لها . قوله : { ما منعك } وفي ص { يا إبليس ما منعك } [ الآية : 75 ] وفي الحجر { يا إبليس ما لك } [ الآية : 32 ] حذف المنادى في هذه السورة لأن مضي ذكره هنا أقرب فلم يحتج إلى إعادة اسم اللعين بالنداء .
قوله : { ما منعك أن لا تسجد } وفي ص { ما منعك أن تسجد } [ الآية : 75 ] جمع بين لفظ المنع ولفظ « لا » في هذه السورة لأنه لما حذف النداء زاد لفظة « لا » زيادة في النفي وإعلاماً بأن المخاطب به إبليس . وإن شئت قلت : جمع في السورة بين ما في « ص » وما في « الحجر » فقال : { ما منعك أن تسجد } و { مالك أن لا تسجد } وحذف { أن تسجد } وحذف { مالك } لدلالة الحال ودلالة السورتين عليه فبقي { ما منعك أن لا تسجد } .
قوله : { أنا خير منه } الآية في ص مثله كلاهما في جواب { ما منعك } ظاهر إلا أنه زاد في الحجر لفظ الكون فقال :

{ لم أكن لأسجد } [ الآية : 33 ] ليكون مطابقاً للسؤال حيث قيل : ما لك أن لا تكون مع الساجدين .
قوله : { أنظرني إلى يوم يبعثون } وفي ص وفي الحجر { رب فانظرني } [ الآية : 36 ] لأنه لما اقتصر في السؤال على الخطاب دون صريح الاسم اقتصر ههنا أيضاً على الخطاب دون ذكر المنادى بخلاف السورتين . وأما زيادة الفاء في السورتين دون هذه السورة فلأن داعية الفاء ما تضمنه النداء من أدعو وأنادي نحو قوله : { ربنا فاغفر } [ آل عمران : 193 ] أي أدعوك فاغفر . فلما حذف النداء في هذه السورة تركت الفاء . وكذلك من قوله : { إنك من المنظرين } ليطابق الجواب السؤال .
قوله : { فبما أغويتني } وفي الحجر { رب بما أغويتني } [ الآية : 39 ] بزيادة النداء ليوافق ما قبله . وزاد في هذه السورة الفاء وكذا في « ص » { فبعزتك لأغوينهم } [ الآية : 82 ] لزيادة الربط . ولم يمكن دخول الفاء في « رب » لامتناع النداء منه لأن ذلك يقع مع السؤال والطلب .
{ قال اخرج منها مذؤماً } ليس في القرآن غيره وإنما اختص هذا الموضع بذلك لأن اللعين بالغ في العزم على الإغواء فقال : { لأقعدن لهم } إلى آخره فبالغ الله جل وعلا في ذمه إذ الذام أشد الذم .
قوله : { فكلا } بالفاء وفي البقرة { وكلا } [ الآية : 35 ] لأن اسكن ههنا من السكنى التي معناها اتخاذ الموضع مسكناً وهذا لا يستدعى زماناً ممتداً يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه بل يقع الأكل عقيبه ، وفي البقرة من السكون الذي يراد به الإقامة فلم يصلح إلا بالواو فإن المعنى أجمعا بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها ولو كان بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة . وإنما زاد في البقرة { رغداً } لما زاد في الخبر تعظيماً بقوله : { وقلنا } قال بعض الأفاضل في الجواب عن هذه المسائل : إن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها كان اختلافها واتفاقها سواء إذا أدى المعنى المقصود . وهذا جواب حسن إن رضيت به كفيت مؤنة السهر إلى السحر والله أعلم .
التأويل : { ولقد خلقنا } أرواحكم { ثم صورناكم } أي خلقنا لأرواحكم أجساداً كما جاء في الحديث « إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام » ولتصوير الأجساد بداية وهي قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } [ الأعراف : 172 ] فإن لفظ الذرية يقع على المصورين ووسط { يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] ونهاية هي حالة الكهولية في الأغلب { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وأنتم في صلبه وهذا من التمكين أيضاً { فسجدوا } لاستعدادهم الفطري للسجود ولائتمارهم لأمر الله { إلا إبليس لم يكن } من المستعدين للسجود لما فيه من الاستكبار الناري { قال ما منعك } خطاب الامتحان لجرم إبليس ليظهر به استحقاقه اللعن فإنه لو كان ذا بصيرة لقال في الجواب منعني تقديرك وقضاؤك ولكنه كان أعور العين اليمنى بصيراً بالعين التي رأى بها أنانيته فقال : { أنا خير منه } أي منعني خيريتي من أن أسجد لمن هو دوني ، واستدل على خيريته بأنه خلق من نار وهي علوية نورانية لطيفة وآدم خلق من طين وهو سفلي ظلماني كثيف .

وهذا القياس معارض بأن النار من خاصيتها الإحراق والفناء والطين من خواصه النشوء والإنماء والاستمساك الذي بقوته يصير الإنسان مستمسكاً للفيض الإلهي ونفخ الروح فيه فاستحق سجود الملائكة لأنه صار كعبة حقيقية . فلما ابتلي إبليس بالصغار وطرد من الجوار أخذ في النوح وأيس من الروح ورضي بالبعاد واطمأن بالحياة فقال : { أنظرني } فأجيب إلى ما سأل ليكون وبالاً عليه ويزي في شقوته ، ولكن لم يجبه بأن لا يذيقه ألم الموت لقوله في موضع آخر { إلى يوم الوقت المعلوم } [ ص : 81 ] { قال فبما أغويتني } لم تكن حوالته الإغواء إلى الله منه نظر التوحيد وإنما كان للمعارضة والمعاندة لقوله : { لأغوينهم } [ الحجر : 39 ] { لأقعدن } { ثم لآتينهم } من الجهات التي فيها حظوظ النفس { من بين أيديهم } من قبل الحسد على الأكابر من المشايخ والعلماء المعاصرين { ومن خلفهم } من قبل الطعن في الأكابر الأقدمين والسلف الصالحين . { وعن أيمانهم } من قبل إفساد ذات البين وإلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان { وعن شمائلهم } من جهة ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وترك الأمر بالمعروف مع عامة المسلمين . أو المراد { من بين أيديهم } من قبل الرياء والعجب { ومن خلفهم } من قبل الصلف والفخر { وعن أيمانهم } من قبل الادعاء وإظهار المواعيد والمواجيد { وعن شمائلهم } من قبل الافتراء على أنفسهم ما ليس فيها من الكشوف والأحوال . أو { من بين أيديهم } من قبل الاعتراض على الشيخ { ومن خلفهم } من قبل التفريق والإخراج عن صحبة الشيخ { وعن أيمانهم } من قبل ترك حشمة المشايخ { وعن شمائلهم } من قبل مخالفة الشيخ والرد بعد القبول . أو { من بين أيديهم } أثوّر عليهم أهاليهم وأولادهم ليمنعوهم عن طلب الحق { ومن خلفهم } أثور عليهم آباءهم وأمهاتهم { وعن أيمانهم } أثور عليهم أحباءهم { وعن شمائلهم } أثور عليهم أعداءهم وحسادهم . { ولا تقربا هذه الشجرة } يعني شجرة المحبة فإن المحبة مطية المحنة { فتكونا من الظالمين } على أنفسكما لأن للمحبة ناراً ونوراً فمن لم يرد نارها لم يجد نورها ومن يرد نارها احترقت أنانيته فيبقى بلا هوية نفسه مع هوية ربه فههنا يجد نور المحبة ويتنور به كقوله : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] فشجرة المحبة شجرة غرسها الرحمن بيده لأجل آدم كما خمر طينة آدم بيده لأجل هذه الشجرة ، وإنّ منعه منها كان تحريضاً له على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع . ولم تكن الشجرة طعمة لغير آدم وأولاده { إلا أن تكونا ملكين } أي من أهل السلو كملكين في زوايا الجنة { أو تكونا من الخالدين } في الجنة كالحور والرضوان فسقاهما إبليس في كأس القسم شراب ذكر الحبيب { وقاسمهما } فلما غرقا في لجّة المحنة وذاقا شجرة المحبة { بدت لهما سوآتهما } أي سوآت نار المحبة قبل نورها وهي نار فرقة الأحبة في البداية { وطفقا } لاشتعال نائرة المحبة يجعلان كل نعيم الجنة على نارهما ، فلما التهبت احترقت بلظى نارها حبة الوصلة ونعب غراب البين بالفرقة .

فبينما نحن في لهو وفي طرب ... بدا سحاب فراق صوبه هطل
وإن من كنت مشغوفاً بطلعته ... مضى وأقفر منه الرسم والطلل
فالصبر مرتحل والوجد متصل ... والدمع منهمل والقلب مشتعل
{ وناداهما ربهما } نداء العزة والكبرياء { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } فإنها تذل العزيز وتزيل النعيم وتذهب الطرب وتورث التعب والنصب { إن الشيطان لكما عدوّ مبين } ولكن في عداوته صداقة مخفية تظهر ولو بعد حين :
واخجلتا من وقوفي باب دارهم ... لو قيل لي مغضباً من أنت يا رجل
فانغسل بماء الخجل منهما رعونات البشرية ولوث العجب والأنانية فرجعا عما طمعا فيه ووقفا لديه وعلما أن لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه فقالا { ربنا ظلمنا أنفسنا } بأن أوقعناها في شبكة المحبة لا المحبة تبقينا بالوصال ولا المحنة تفنينا بالزوال { وإن لم تغفر لنا } بنوال الوصال { وترحمنا } بتجلي الجمال { لنكونن من الخاسرين } الذين خسروا الدنيا والعقبى ولم يظفروا بالمولى . فأمرا بالصبر على الهجر وقيل : { اهبطوا بعضكم لبعض عدو } النفس عدو القلب والروح ، والقلب عدو لما سوى الله { ولكم } للنفس والقلب والرفع في أرض البدن مقام وتمتع في الشريعة باستعمال الطريقة للوصول إلى الحقيقة إلى حين تصير النفس مطمئنة تستحق الخطاب ، ارجعي من الهبوط وارفعي بعد السقوط .
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا .
{ قال فيها } أي في المحبة { تحيون } بصدق الهمة وقرع باب العزيمة { وفيها تموتون } بطلب الحق على جادة الشريعة بإقدام الطريقة { ومنها تخرجون } إلى عالم الحقيقة .
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

القراآت : { ورياشا } أبو زيد عن المفضل . الباقون { ريشاً } { ولباس } بالنصب : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعليّ . الباقون بالرفع . { خالصة } بالرفع : نافع . الآخرون بالنصب { ربي الفواحش } مرسلة الباء : حمزة .
الوقوف : { وريشاً } ط لمن قرأ { ولباس } مرفوعاً ومن قرأ بالنصب وقف على { التقوى } { خير } ط { يذكرون } ه { سوآتهما } ط { لا يؤمنون } ه { أمرنا بها } ط { بالفحشاء } ط { ما لا تعلمون } ه { الدين } ط { تعودون } ه على جواز الوصل لرد النهاية إلى البداية { الضلالة } ج { مهتدون } ه { ولا تسرفوا } ج لاحتمال الفاء أو اللام . { المسرفين } ه { من الرزق } ط { يوم القيامة } ط { يعلمون } ه { ما لا تعلمون } ه { أجل } ج لأن جواب « إذا » منتظر مع دخول الفاء فيها { ولا يستقدمون } ه .
التفسير : لما ذكر أن الأرض لبني آدم ذكر أنه أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا فقال : { يا بني آدم قد أنزلنا } وأيضاً لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة وأنه كان يخصف عليها أتبعه ذكر اللباس الساتر للعورة إظهاراً للمنّة وإشعاراً بأن التستر باب من أبواب التقوى . ومعنى إنزال اللباس أنه قضى ثمة وكتب أو أنه حاصل بالمطر المنزل من أبواب التقوى . ومعنى إنزال اللباس أنه قضى ثمة وكتب أو أنه حاصل بالمطر المنزل من السماء ومثله { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] { وأنزلنا الحديد } [ الحديد : 25 ] والريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوآتكم ولباساً لزينتكم لأن الزينة غرض صحيح كما قال : { لتركبوها وزينة } [ النحل : 6 ] { ولكم فيها جمال } [ النحل : 6 ] ومن قرأ { رياشاً } فقد قيل : إنه جمع ريش كشعب وشعاب . وقال الجوهري : الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس وهو لباس الفاخر . ويقال : الريش والرياش المال والخصب والمعاش . وبالجملة كل شيء يعيش به الإنسان ومنه قولهم رشت فلاناً أصلحت حاله ، وقال ابن السكيت : الرياش مختص بالثياب والأثاث ، والريش قد يطلق على سائر الأموال . أما قوله : { ولباس التقوى } فمن قرأ بالنصب فعلى المنصوب قبله عطف ، ومن رفع فعلى الابتداء وخبره إما الجملة التي هي { ذلك خير } كأنه قيل : ولباس التقوى وهو خير لأن أسماء الإشارة كالضمائر في صلاح العود بسببها ، وإما المفرد الذي هو { خير } و { ذلك } بدل أو عطف بيان أو صفة بتأويل ولباس التقوى المشار إليه خير . والعدول إلى الإشارة إما لتعظيم لباس التقوى وإما أن يكون المراد بلباس التقوى هو اللباس المواري للسوأة لأن مواراة السوأة من التقوى تفضيلاً له على لباس الزينة . ثم من المفسرين من حمل لباس التقوى على نفس الملبوس أي اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري به السوأة هو لباس التقوى لأن قوماً من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب ويطوفون بالبيت عراة فيكون كقول القائل : قد عرفتك الصدق في أبواب البر والصدق خير لك من غيره فيعيده .

أو المراد به ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها في الحروب . أو يراد الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلاة ومنهم من حمله على لباس التقوى مجازاً فقال قتادة والسدي وابن جريج : إنه الإيمان . وقال ابن عباس : هو العمل الصالح . وقيل : هو السمت الحسن . وقيل : هو العفاف والتوحيد لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عارياً عن الثياب ، والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسياً . وقال معبد : هو الحياء . وقيل : هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخباث والأعمال الصالحات . وعلى هذا فمعنى الآية إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به فأضاف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع والخوف في قوله : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } [ النحل : 112 ] { وذلك من آيات الله } الدالة على فضله ورحمته على عباده { لعلهم يذكرون } فيعرفون عظيم النعمة فيه . ثم حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان لأن المقصود من قصص الأنبياء عليهم السلام أن تكون عبرة لمن يسمعها فقال : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } الفتنة الامتحان ، تقول : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته . وقال الخليل : الفتن الإحراق . وورق فتين أي فضة محرقة ، قال الله تعالى : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] من قدر على إخراج الأب من الجنة مع كمال قوته وقرب عهده من فيضان ربه فهو على منع أولاده عن أن يدخلوا الجنة أقدر . ومحل { كما أخرج } نصب على المصدر أي فتنة مثل إخراج أبويكم لأن هذا الإخراج نوع من الفتنة . ومحل { ينزع عنهما لباسهما } حال أي أخرجهما نازعا لباسهما بأن كان سبباً في أن نزع عنهما . واللام في { ليريهما سوآتهما } لام العاقبة أو لام الغرض كما تقدم في قوله : { ليبدي لهما } [ الأعراف : 20 ] قال ابن عباس : يرى آدم سوأة حواء ويرى حواء سوأة آدم وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر . وعن عائشة رضي الله عنها ما رأيت منه ولا رأى مني . وحمله العلماء على الكراهية لا على التحريم . واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقيل : الثوب الحائل بينهما وبين النظر . وعن سعيد بن جبير : كان لباسهما من جنس الأظفار . وقيل : اللباس الذي هو ثياب الجنة ، قال الكعبي : في الآية دلالة على أن المعاصي والفتن كلها منسوبة إلى الشيطان . وأجيب بأنه لا بد من الانتهاء إلى خالق الكل وموجد القدر والدواعي . ثم علل النهي وأكد التحذير بقوله : { إنه يراكم هو وقبيله } أي جماعته من الثلاثة فصاعداً . والقبيل بنو أب واحد .

وقال ابن قتيبة : أي أصحابه وجنده . وقال الليث : هو وقبيله أي وجماعته . { من حيث لا ترونهم } أي يكيدون ويغتالون من حيث لا تشعرون . قال بعض المتكلمين ومنهم المعتزلة : الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها ، والوجه في رؤية الجن الإنس كثافة أجسام الإنس ، والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضاً أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضاً ، ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم . وقال أهل السنة : إنهم يرون الإنسان لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً ، والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس . قال بعض العلماء : { من حيث لا ترونهم } يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص ففيه دليل على أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس ، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأن زعم من يدعي رؤيتهم فزور ومخرقة . ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا لارتفع الوثوق عن الناس حتى الزوجة والولد ، ولو كانوا قادرين على تخبيط الناس ، وإزالة العقل عنهم لكان أولى الناس بذلك العلماء والمشايخ لأن العداوة بينهم وبين خواص الإنس أشد . وعن مجاهد قال إبليس : أعطينا أربع خصال : نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى . وعن مالك بن دينار أن عدوّاً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله . والضمير في { إنه } للشأن وهو تأكيد ليصح العطف على المرفوع المتصل ، ثم قال { إنا جعلنا الشياطين } الآية . واحتج أهل السنة على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان عليهم حتى أضلهم وأغواهم ويتأكد هذا النص بقوله : { إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً } [ مريم : 83 ] اعتذر القاضي بأن المراد من الجعل الحكم بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن أو المراد التخلية بينهم وبينهم كمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل وأجيب بأن حمل الجعل على الحكم خلاف الظاهر ، وهب أنه حكم بذلك فهل يمكن مخالفة حكم الله؟ وبأن الإرسال إنما يصدق على التسليط لا على التخلية المجردة قوله : { وإذا فعلوا فاحشة } قال بعضهم : نزلت في اتخاذهم البحائر والسوائب . وقيل : في الطواف بالبيت عراة والأولى التعميم والفحشاء الخصلة المتزايدة في القبح أعني الكبيرة والمراد أنهم كانوا يفعلون أشياء هي في أنفسها فواحش ويعتقدون أنها طاعات فوبخوا على ذلك لينتهوا عنها . ثم إنه حكى عنهم حجتين : الأولى التقليد ولم يذكر جوابها لظهور بطلانها عند كل عاقل ، والثانية أن الله أمرهم بذلك فأجاب عنها بقوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } فللمعتزلة أن يحتجوا به على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه وأن كونه في نفسه من الفحشاء مغاير لتعلق الأمر والنهي ولهذا أكد هذا المعنى بقوله : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } ؟ والجواب أن عدم الأمر بالفحشاء لا ينافي إرادة الفحشاء ومشيئتها ونحن لا ندعي إلا أنه تعالى مريد لجميع الكائنات وأن شيئاً منها لا يخرج عن حكمه وأرادته وتقديره مع أنه لا يأمر إلا بالعدل والصواب كما قال : { قل أمر ربي بالقسط } قال عطاء والسدي : أي بالعدل وبما ظهر في العقول كونه حسناً .

وعن ابن عباس هو قول لا إله إلا الله ويندرج فيه معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه . أما قوله : { وأقيموا } فليس من باب عطف الطلب على الخبر وإنما التقدير : وقل أقيموا { وجوهكم } أي استقبلوا القبلة واستقيموا وأخلصوا { عند كل مسجد } في كل وقت سجود أو في مكان سجود كأن المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة . وقال ابن عباس : المراد أنه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحد إني لا أصلي إلا في مسجد قومي . ثم لما أمر بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر أن المراد به أعمال الصلاة سميت دعاء لأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر ، ويمكن أن يقال : الدعاء بمعنى العبادة فيكون كقوله { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] ثم برهن على المعاد ليتحقق الجزاء فقال : { كما بدأكم تعودون } قال الحسن ومجاهد : كما بدأ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً كذلك تعودون أحياء . وعن ابن عباس : المراد كما بدأ خلقكم مؤمناً أو كافراً تعودون فيبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً ، فإن من خلقه الله تعالى في أول الأمر للشقاوة يعمل بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته ذلك ، ومن خلقه للسعادة فإنه يعمل عمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة . ويؤيد هذا التفسير قوله عقيب ذلك { فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } وانتصاب { فريقاً } الثاني بفعل مضمر يفسره ما بعده أي وخذل أو أضل فريقاً حق عليهم الضلالة كقولك زيداً مررت به . قال القاضي : المعنى فريقاً هدى إلى الجنة والثواب وفريقاً حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيره إذ العبد لا يستحق أن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة . وأجيب بأن قوله : { هدى } و { حق } ماض وحمله على المستقبل خلاف الظاهر ، وبأن الهدى إلى الجنة أو الضلال عنها لا بد أن يكون محكوماً به في الأزل وخلاف حكمه محال . ثم بيّن ما لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة أعني السبب القريب وإلا فانتهاء الكل إلى مسبب الأسباب فقال : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } فقبلوا دعوتهم دون دعوته ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل .

ثم بين أن جهلهم مركب لا بسيط فقال : { ويحسبون أنهم مهتدون } وفيه أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في أصول الدين بل لا بد فيه من القطع واليقين .
ثم لما أمر بالقسط وكان من جملته أمر اللباس والمأكول والمشروب وأيضاً أمر بإقامة الصلاة وكان ستر العورة شرطاً لصحتها فلا جرم قال : { يا بني آدم خذوا زينتكم } عن ابن عباس قال : كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفليها سيوراً مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر تقيها من الذباب وهي تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
وعن طاوس : لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد . وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها : وقيل : كانوا يفعلون ذلك تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب . وقال الكلبي : كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله الآية . قال أكثر المفسرين : المراد من الزينة لبس الثياب لقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } [ النور : 31 ] يعني الثياب . وأيضاً الزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولأنه يناسب ما تقدم من ذكر اللباس والرياش ، ولأن ظاهر الأمر الوجوب وكل ما سوى اللبس غير واجب فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان . والسنة فيه أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة . وقيل : الزينة المشط . وقيل : الطيب . ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية تقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعاً بقي الباقي داخلاً تحت اللفظ . فإذن ستر العورة واجب في الصلاة وإلا فسدت صلاته . قال أصحاب أبي حنيفة : لبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ للزينة فيكفي في صحة الصلاة . وأجيب بأن اللام في قوله : { وأقيموا الصلاة } [ البينة : 5 ] تنصرف إلى المعهود السابق وهو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم قلتم إنه يصلي في الثوب المغسول بماء الورد؟ أما قوله : { وكلوا } أي اللحم والدسم . { واشربوا } فقد قيل إنهما أمر إباحة بالاتفاق فوجب أن يكون أخذ الزينة أيضاً على الإباحة . وأجيب بأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه مع أن الأكل والشرب قد يكونان واجبين . أيضاً في الجملة وهما يشملان جميع المطعومات والمشربات ويتناولان الأحوال والأوقات إلا ما خصه الدليل المنفصل . والعقل أيضاً مؤكد لهذا المعنى لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة .

وفي قوله : { ولا تسرفوا } وجهان : الأول أنه يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقداراً كثيراً يضره ولا يحتاج إليه . الثاني - وهو قول أبي بكر الأصم - أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتكروا الانتفاع بها . وأيضاً إنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج ما أحله الله تعالى لهم . قال بعض العلماء : إن حمل الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع مما يجوز وينبغي . وعن ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ، ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد صاحب المغازي : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم أبدان وعلم أديان . فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه . قال : وما هي؟ قال : قوله { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } فقال النصراني : ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة . قال : وما هي؟ قال : قوله : « المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته » فقال : النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً . قيل : كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها فأنكر ذلك عليهم بقوله : { قل من حرم زينة الله } قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هي اللباس الساتر للعورة . وقال آخرون : إنها تتناول جميع أنواع الزينة من الملابس والمراكب والحلي وكذا كل ما يستطاب ويستلذ من المآكل والمشارب والنساء والطيب . عن عثمان بن مظعون أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : غلبني حديث النّفس عزمت على أن اختصي فقال : مهلاً يا عثمان فإن خصاء أمتي الصيام . قال : فإن نفسي تحدثني بالترهب فقال : إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلوات . فقال : تحدثني نفسي بالسياحة قال : سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة . فقال : أن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك . فقال : الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم المسكين واليتيم وتعطيه ما فضل من ذلك . فقال : نفسي تحدثني أن أطلق خولة . فقال : أن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله تعالى . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها فقال : إن المسلم إذا غشى أهله وما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولداً كان له وصيف في الجنة وإن كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة ، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كانله شفيعاً ورحمة يوم القيامة . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم .

قال : مهلاً إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب . قال : مهلاً فإن جبريل يأمرني بالطيب غباً وقال : لا تتركه يوم الجمعة . ثم قال : يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإنه من رغب عن سنتي ومات فليس مني ، ولو مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي . واعلم أن كل واقعة تقع فإما أن لا يكون فيها نفع ولا ضر أو يتساوى ضرها ونفعها فوجب الحكم في القسمين ببقاء ما كان على ما كان ، وإن كان النفع خالصاً وجب لإطلاق الآية ، وإن كان الضرر خالصاً وكان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم ، وإن كان النفع راجحاً والضرر مرجوحاً تقابل المثل بالمثل وبقي القدر الزائد نفعاً خالصاً ، وإن كان الضرر راجحاً بقي القدر الزائد ضرراً خالصاً وكان تركه نفعاً خالصاً ، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة إلا أن نجد نصاً خاصاً في الواقعة فنقضي به تقديماً للخاص على العام . قال نفاة القياس : لو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقاً لحكمم هذا النص العام وحينئذٍ يكون ضائعاً لأن هذا النص مستقبل به ، وإن كان مخالفاً كان ذلك القياس تخصيصاً لعموم هذا النص فيكون مردوداً لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس ، فإذن القرن وافٍ بجميع الأحكام الشرعية والله تعالى أعلم . ثم بيّن أن الزنية والطيبات خلقت في الحياة الدنيا لأجل المؤمنين بالأصالة وللكفرة بالتبعية كقوله : { ومن كفر فأمتعه قليلاً } [ البقرة : 126 ] وأما في الآخرة فإنها خالصة لهم فقال : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة } من قرأ بالرفع فلأنه خبر بعد خبر . قال أبو علي : أبو على الخبر { والذين آمنوا } متعلق به والتقدير : هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا { يوم القيامة } وعلى هذا يكون { في الحياة } ظرفاً ل { آمنوا } و { يوم القيامة } ظرفاً ل { خالصة } فيفهم من ذلك أنها في غير يوم القيامة غير خالصة لهم بل تكون مشوبة برحمة الكفار . وعلى الأول يكون { في الحياة } ظرفاً لمحذوف أي هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة . ومن قرأ بالنصب فعلى الحال وباقي التقدير كما ذكرنا آنفاً { كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } أي لقوم يمكنهم النظر والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية . ثم بين أصول الأفعال المحرمة وحصرها في ستة أنواع لأن الجناية إما على الفروج وأشار إليها بقوله : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وإما أن تكون على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله : { والإثم } وقيل : الفواحش الكبائر والإثم الصغائر .

وقيل : الفواحش كل ما تزايد قبحه وتبالغ ، والإثم عام لكل ذنب كأنه خصص أوّلاً ثم عمم . وإما أن تكون الجناية على النفوس والأموال والأعراض وإليهن الإشارة بقوله : { والبغي بغير الحق } ومعنى بغير الحق أن لا يقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لهم فيه حق فحينئذٍ يخرج عن أن يكون بغياً ، وإما أن تكون الجناية على الأديان إما بالطعن في التوحيد وإليه أشارة بقوله : { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } أي لا سلطان حتى ينزل وإما بالافتراء على الله وذلك قوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فإن قيل : الفاحشة وغيرها هي التي نهى الله تعالى عنها فيصير تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهذا كلام خالٍ عن الفائدة . فالجواب أن كون الفعل فاحشة عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه فيزول الإشكال . ثم شدد أمر التكاليف بالآجال المحدودة والأنفاس المعدودة فقال : { ولكل أمة أجل } عن ابن عباس والحسن ومقاتل : معناه أنه تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين لا يعذبهم قبل ذلك ولا يؤخرهم عنه والمقصود وعيد أهل مكة . وقيل : معناه أن أجل العمر لا يتقدم ولا يتأخر سواء الهالك والمقتول . وأورد على القول الأول أنه ليس لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال . وعلى الثاني أنه كان ينبغي أن يقال : ولكل إنسان أو أحد أجل . ويمكن أن يقال : الأمة هي الجماعة في كل زمان والمعلوم من حالها التفاوت في الآجال فزال السؤال . وليس المراد أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته إلا في ذلك الوقت لأن هذا يقتضي خروجه سبحانه وتعالى عن كونه قادراً مختاراً أو صيرورته كالموجب لذاته ، بل المراد أنه تعالى اختار أن الأمر يقع على هذا الوجه وإنما ذكر الساعة لأن هذا الجزء من الزمان أقل ما يستعمل في تقليل الأوقات عرفاً . والساعة في اصطلاح أهل النجوم جزء من أربعة وعشرين جزءاً من يوم بليلته . قيل : إن عند حضور الأجل يمتنع عقلاً وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم فما معنى قوله : { ولا يستقدمون } ؟ وأجيب بأن مجيء الأجل محمول على قرب حضور الأجل كقوله العرب : جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك الوقت تارة والتأخر عنه أخرى .
التأويل : { قد أنزلنا عليكم لباساً } هو لباس الشريعة { يواري } سوآت الأفعال القبيحة في الظاهر وسوآت الصفات الذميمة النفسانية والحيوانية بآداب الطريقة في الباطن { وريشاً } زينةً وجمالاً في الظاهر والباطن { ولباس التقوى } وهو لباس القلب والروح والسر والخفي . فلباس القلب من التقوى هو الصدق في طلب المولى فيواري به سوآت الطمع في الدنيا وما فيها ، ولباس الروح من التقوى هو محبة المولى فيواري به سوآت التعلق بغير المولى ، ولباس السر من التقوى هو رؤية المولى فيواري بها رؤية غير المولى ، ولباس الخفي من التقوى بقاؤه بهوية المولى فيواري بها هوية غير المولى { ذلك خير } لأن لباس البدن بالفتوى هو الشريعة ولباس القلب بالتقوى هو الحقيقة { ذلك من آيات الله } أي إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على المولى .

{ لا يفتننكم الشيطان } بالدنيا وما فيها ومتابعة الهوى فيخرجكم عن جنة الصدق في طلب الحق { كما أخرج أبويكم من الجنة } وجوار الحق { ينزع عنهما لباسهما } من الشرع وذلك نهيهما عن شجرة المحبة { ليريهما سوآتها } من مخالفة الحق وما علما أن فيها هذه الصفة ، ومن جملة سوآتهما كل كمال ونقصان كان مستوراً فيهما فأراهما بعد تناول الشجرة { إنه يراكم هو وقبيله } يعني من الروحانيين الذين لا صورة لهم في الظاهر فإنهم يرون بنظر الملكوت الروحاني من الإنساني بعض الأفعال التي تتولد عن الأوصاف البشرية كما رأوا في آدم { وقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] { من حيث لا ترونهم } أي إنما يرونكم من حيث البشرية التي منشؤها الصفات الحيوانية فإنكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التي هي منشأ علوم الأسماء والمعرفة لإنهم لا يرونكم في هذا المقام ، وأنتم ترونهم بالنظر الروحاني بل بالنور الرباني . { إنا جعلنا الشياطين أولياء } خلقناهم مستعدين لتولية أمور أهل الغفلة والطبيعة . { وإذا فعلوا فاحشة } هي طلب الدنيا وحبها { قالوا إنا وجدنا آباءنا } على محبة الدنيا وشهواتها { والله أمرنا } بطلب الكسب الحلال { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } وإنما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضرورية لقوام القالب بالقوت واللباس ليقوم بأداء حق العبودية وذلك قوله : { قل أمر ربي بالقسط } { كما بدأكم } لطفاً أو قهراً { تعودون } إليه . فأهل اللطف يعودون إليه بالإخلاص والطاعة وأهل القهر الذين حقت عليهم الضلالة يعودون إليه جبراً واضطراراً فيسحبون في النار على وجوههم { خذوا زينتكم } فزينة الظاهر التواضع والخضوع ، وزينة الباطن الانكسار والخشوع ، وزينة نفوس العابدين آثار السجود ، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود فالعابد على الباب بنعت العبودية والعارف على البساط بحكم الحرية { وكلوا واشربوا } في مقام العندية كما قال : « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { ولا تسرفوا } بالإفراط فوق الحاجة الضرورية والتفريط في حفظ القوة بحيث تضيع حقوق العبودية . { زينة الله } فزين الأبدان بالشرائع وآثارها ، وزين النفوس بالآداب وأقدارها ، وزين القلوب بالشواهد وأنوارها ، وزين الأرواح بالمعارف وأسرارها ، وزين الأسرار بالطوالع وآثارها ، فمن تصدّى لطلب هذه المقامات فهي مباحة له من غير تأخير وقصور وحظر ومنع { والطيبات من الرزق } ما لم يكن مشوباً بحظوظ النفس ، فهذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادة في الدنيا مشوبة بشواهد الآفات النفسانية وكدورات الصفات الحيوانية { خالصة يوم القيامة } من هذه الآفات والكدورات كما قال :

{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } [ الحجر : 47 ] { الفواحش } ما يقطع على العبد طريق السلوك إلى الرب؛ ففاحشة العوام { ما ظهر منها } ارتكاب المناهي { وما بطن } خطورها بالبال ، وفاحشة الخواص { ما ظهر منها } تتبع ما لأنفسهم نصيب منه ولو بذرة { وما بطن } الصبر على المحبوب ولو بلحظة ، وفاحشة الأخص { ما ظهر منها } ترك أدب من الآداب أو التعلق بسبب من الأسباب { وما بطن } الركون إلى شيء في الدارين والالتفات إلى غير الله من العالمين . { والإثم } الإعراض عن الله ولو طرفة عين { والبغي } وهو حب غير الله فإنه وضع في غيره موضعه . وأن يستغيثوا بغير الله ما لم يكن فيه رخصة وحجة من الشريعة { وأن تقولوا } بفتوى النفس وهواها أو بنظر العقل { على الله ما لا تعلمون } حقيقتها أو تقولوا في معرفة الله وبيان أحوال السائرين ما لمستم به عارفين { وكل أمة } من السائرين إلى الله أو إلى الجنة مدة مضروبة في الأزل ، وفيه وعد للأولياء واستمالة لقلوبهم ووعيد للأعداء وسياسة لنفوسهم .
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

القراآت : { حتى إذا ادّاركوا } كان يعقوب : إذا وقف على « إذا » يبتدىء { تداركوا } بالتاء . سهل : مخير ، وكذلك قوله تعالى : { قلتم } { وقالوا إنا طيرنا } وافق الكسائي في { تثاقلتم } { أخراهم لأولاهم } بالإمالة الشديدة : إبراهيم بن حماد وحمزة وعلي وخلف . وقرأ أبو عمر وغير إبراهيم بن حماد { أولاهم } بالإمالة اللطيفة { أخراهم } بالإمالة الشديدة ، وافق ورش من طريق النجاري والخزاز عن هبيرة في { أخراهم } بالإمالة الشديدة { فآتهم } بضم الهاء : رويس وكذلك كل كلمة سقطت الياء لعلة . إلا قوله : { ومن يولهم } [ الأنفال : 6 ] { لا يعلمون } بياء الغيبة : أبو بكر وحماد { لا تفتح لهم } بتاء التأنيث والتخفيف : أبو عمرو . وقرأ حمزة وعلي وخلف بفتح ياء تحتانية وبالتخفيف . الباقون بتاء التأنيث والتشديد . { غواشي } بالياء في الوقف : يعقوب وكذلك كل كلمة سقطت الياء لأجل التنوين أو لاجتماع الساكنين وهو مذهب سهل من طريق ابن دريد ، { ما كنا } بغير واو العطف : ابن عامر . الآخرون بالواو . { أورثتموها } وبابه بإدغام الثاء : أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام .
الوقوف : { آياتي } لا لأن الفاء بعده لجواب الشرط { ولاهم يحزنون } ه { النار } ط { خالدون } ه { بآياته } ط { من الكتاب } ط { يتوفونهم } لا لأن ما بعده جواب « إذا » . { من دون الله } ط { كافرين } ه { في النار } ط { أختها } ط { جميعاً } لا لما قلنا . { من النار } ط { لا يعلمون } ه { يكسبون } ه { الخياط } ط { المجرمين } ه { غواش } ج { الظالمين } ه { وسعها } ط وجعل { أولئك } خبراً للموصول أوجه بناء على أن قوله : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } معترضة { الجنة } ط { خالدون } ه { الأنهار } ط للعطف مع العارض . { اهدنا الله } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { بالحق } ط لابتداء النداء بأنها جزاء بعد انتهاء الحمد والثناء على أنها عطاء { تعملون } ه .
التفسير : لما بيّن أحوال التكليف وأن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر بيّن أنهم بعد الموت إن كانوا قد قبلوا الشرائع الحقة فلا خوف عليهم ولا حزن ، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب فقال : { يا بني آدم إما يأتينكم } وإعرابه مثل ما مر في سورة البقرة { فإما يأتينكم مني هدى } [ الآية : 38 ] والراجع محذوف أي فمن اتقى وأصلح منكم والذين كذبوا منكم . وإنما قال : { رسل منكم } لأن ذلك يكون أقطع لعذرهم وأقرب إلى الفهم والآنس . ومعنى أياتي أحكامي وشرائعي الدالة على صحة المبدأ والمعاد . ثم قطع شأن الجاحدين بقوله : { فمن أظلم من افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } والأول الحكم بوجود ما لم يوجد كأقوال أصناف المشركين وطوائف المبتدعة . والثاني إنكار حكم وجد من نبي أو كتاب . ثم أخبر عن عاقبة أمرهم فقال { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } قيل : أي العذاب المعين من سواد الوجه وزرقة العين .

وقال الزجاج : أي أنواع البلايا المعدة لكل صنف منهم من السلاسل والأغلال وغيرها على مقدار ذنوبهم ، وقيل : هم اليهود والنصارى يجب علينا إذا كانوا في ذمتنا أن ننصفهم ولا نتعدى عليهم وأن نذب عنهم فذلك معنى النصيب . وعن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أن النصيب هو ما سبق لهم في حكم الله تعالى ومشيئته من الشقاوة والسعادة والختم على الكفر والشرك ، أو على الإيمان والتوحيد . وقال الربيع وابن زيد : يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار كأنه سبحانه بيّن من رزق وعمر تفضلاً من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } وذلك أن « حتى » هي التي يبتدأ بعدها الكلام وأنه ههنا جملة شرطية فدل على أن مجيء الرسل المتوفين كالغاية ، فحصول ذلك النصيب يكون مقدماً على حصول الوفاة وليس ذلك إلا العمر والرزق . ومحل { يتوفونهم } نصب على الحال من الرسل . قال ابن عباس : هم ملك الموت وأعوانه وإنهم يطالبون الكفار بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ . وقال الحسن والزجاج : إن هذا يكون في الآخرة والرسل ملائكة العذاب يتوفون عدّتهم عند حشرهم إلى النار أي يستكملون عدّتهم حتى لا ينفلت منهم أحد . قال في الكشاف : « ما » وقعت موصولة بأين في خط المصحف قلت : وإني رأيت النقل على العكس كما ذكرته في المقدمة السابقة من مقدمات الكتاب ، ومعنى الآية أي الآلهة التي تدعون أي تعبدونهم وتدعونهم في الشدائد { قالوا } على سبيل الاعتراف والعود إلى الإنصاف { ضلوا عنا } أي غابوا وذهبوا ولم ننتفع بهم { وشهدوا على أنفسهم } بالاعتراف أو بشهادة الجوارح عند معاينة الموت { أنهم كانوا كافرين } ثم شرح بقية أحوال الكفار وذلك قوله : { قال } أي الله . وعن مقاتل هو من كلام خازن النار . وهذا مبني على أنه سبحانه لا يجوز أن يكلم الكفار وإن كان كلام سخط { ادخلوا في أمم } قيل : أي ادخلوا في النار مع أمم والأولى أن لا يلتزم الإضمار والمجاز . والمعنى ادخلوا كائنين في جملة أمم تقدم زمانهم زمانكم في النار . وفيه دليل على أن أصحاب النار لا يدخلون النار دفعة واحدة ولكن فيهم سابق ومسبوق { كلما دخلت أمة لعنت أختها } في الدين والعقيدة . فالمشرك يلعن المشرك ، واليهودي يلعن اليهودي ، والنصراني يلعن النصراني ، وكذا المجوس وسائر أديان الضلالة وإذا لعنت نظيرها فلأن تلعن غيرها أولى { حتى إذا ادّاركوا فيها } أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضاً واستقر معه { قالت أخراهم } أي آخرتهم دخولاً في النار { لأولاهم } دخولاً فيها أو أتباعهم وسفلتهم لرؤسائهم وقادتهم والمعنيان متلازمان عندي لأن المضل لا بد وأن يكون مقدماً على الضال في دخول النار .

واللام بمعنى التعليل أي لأجل أولاهم وذلك لأن خطابهم مع الله لا معهم { ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم } الفاء للجزاء { عذاباً ضعفاً } أي مضاعفاً وذلك عذاب الضلال وعذاب الإضلال بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل . قال أبو عبيدة : الضعف مثل الشيء مرة واحدة وهو قول الشافعي في رجل أوصى فقال : أعطوا فلاناً ضعف نصيب ولدي يعطى مثل نصيبه مرتين . وقال الأزهري : العرب تريد بالضعف المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين بدليل قوله عز من قائل : { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } [ سبأ : 37 ] وأقل ذلك عشرة لقوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] وإنما قال الشافعي ما قال لأن ذلك متقن وما فوقه مشكوك { قال } أي الله أو خازن النار { لكل } من القادة والأتباع { ضعف } أما للقادة فلما قلنا ، وأما للأتباع فلأنهم عظموهم وقلدوهم وروّجوا أمرهم . سئل ههنا إن تضعيف العذاب للشخص الذي يستحق العذاب ظلم وأجيب في التفسير الكبير بأن عذاب الكفار مؤبد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير النهاية . قلت : وهذا لا يختص بصنف من الكفار دون صنف ولا بشخص دون شخص فلا يصلح للجواب والصواب أن يقال : معنى تضعيف عذاب التابع والمتبوع أن ذلك العذاب زائد على مقدار ما تستحقه تلك العقيدة لو حصلت لا من حيثية التابعية والمتبوعية والله أعلم { ولكن لا تعلمون } من قرأه على الغيبة فمعناه لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر لأن الاسم الظاهر يعود الضمير إليه على الغيبة ، ومن قرأ على الخطاب فالمعنى لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل منكم من العذاب أو لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك . { وقالت أولاهم لأخراهم } إذ قد حكم الله بأن لكل منا ضعفاً { فما كان } أي فما ثبت { لكم علينا من فضل } لأنكم مؤاخذون بالاتباع كما نحن مؤاخذون بالاستتباع { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } يحتمل أن يكون من قول القادة وأن يكون من قول الله تعالى فيهم . قال في التفسير الكبير : قول القادة ليس لكم علينا فضل كذب لأن الرؤساء لهم عذاب الضلال والكذب عليهم جائز عندنا كقولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] قلت : إن سلمنا أن الكذب يجوز أن يصدر عنهم يوم القيامة إلا أن هذا الكلام لا يجوز أن يكون كاذباً لأنهم بنو كلامهم على حكم الله سبحانه بأن لكل ضعفاً .
ثم ذكر ما يدل على خلودهم في النار فقال : { إن الذين كذبوا بآياتنا } وهي الدلائل الدالة على الذات والصفات والنبوات والمعاد { واستكبروا عنها } أي ترفعوا عن قبولها { لا تفتح لهم أبواب السماء } قال ابن عباس : أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله تعالى من قوله :

{ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] ومن قوله : { إن كتاب الأبرار لفي عليين } [ المطففين : 18 ] وقال السدي وغيره : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء التي هي موضع بهجة الأرواح وأماكن سعاداتها كما جاء في الحديث « إن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة . ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء » وقيل : بناء على أن الجنة في السماء معناه ولا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرّق لهم إليها حتى يدخلوا الجنة . وقيل : أي لا تنزل عليهم البركة والخير من قوله تعالى : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } [ القمر : 11 ] { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } الولوج الدخول . وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال : زوج الناقة استجهالاً للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف . والسم بالحركات الثلاثة وقد قرىء بها ثقب الإبراة وكل ثقب في البدن لطيف ومنه السم القاتل لنفوذه بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب . والخياط ما يخاط به قال الفراء : خياط ومخيط كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع . ولما كان جسم الجمل من أعظم الأجسام المشهورة عند العرب كما قال :
لا عيب بالقوم من طول ومن عظم ... جسم الجمال وأحلام العصافير
وكان سم الإبراة مثلاً في ضيق المسلك حتى قيل : أضيق من خرت الإبرة . وقالوا للدليل الماهر خريت لاهتدائه في المضايق المشبهة بأخرات الإبر ، وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط المحال ليلزم يأسهم من دخول الجنة قطعاً فإن الموقوف على المحال محال ومثله قول العرب : « لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض القار » . وقرىء الجمل بوزن القمل وكذا الجمل بوزن الحبل وبمعناه لأنه حبل ضخم من ليف أو خوص من آلات السفن . واختار ابن عباس هذا التفسير قائلاً : إن الله تعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه . وأهل التناسخ أوّلوا الآية بأن الأرواح التي كانت في الأبدان البشرية لمّا عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الذرة فتنفذ في سم الخياط ، وحينئذٍ تصير مطهرة عن تلك الذنوب فتدخل الجنة وتصل إلى السعادة { وكذلك } ومثل ذلك الجزاء الفظيع { نجزي المجرمين } قيل : هم الكافرون المكذبون المستكبرون المار ذكرهم ، وقيل : يدخل فيه الفساق بشرط عند التوبة عند المعتزلة ، وبشرط عدم العفو عند الأشاعرة . ثم لما بين أنهم لا يدخلون الجنة ذكر أنهم يدخلون النار فقال : { لهم من جهنم مهاد } أي فراش { ومن فوقهم غواش } هي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك ، والمراد الإخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف .

والتنوين في { غواش } مثله في « جوار » أعني أنه للتمكن عند بعض لأنه بعد حذف يائه لم يبق على زنة مساجد ، وللعوض عند بعض ، إما عن الياء أو عن إسكان الياء { وكذلك نجزي الظالمين } هم المشركون أو الفسقة الذين ظلموا أنفسهم . ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية . وقوله { لا نكلف نفساً إلا وسعها } وقد مر تفسيره في آخر سورة البقرة اعتراض بين المبتدأ وخبره وليس بأجنبي وإلا لم يحسن . وفيه تنبيه للمقصرين على أن الجنة مع عظم قدرها تحصل بالعمل السهل من غير ما حرج وصعوبة فبعداً لمن فاتته وسحقاً لمن فارقته . ومن جعله خبراً فالعائد محذوف أي لا نكلف نفساً منهم . ثم وصف أخلاق أهل الجنة فقال : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } نزع الشيء قلعه من مكانه ، والغل الحقد والتركيب يدور على الإخفاء ومنه الغلول كما مر في تفسير قوله : { وما كان لنبي أن يغل } [ آل عمران : 161 ] وللآية تفسيران : الأول أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا بتصفية الطباع وإسقاط الوسواس ومنعه من أن يرد على القلوب فإن الشيطان مشغول بالعذاب فلا يتفرغ لإلقاء الوسواس فلم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف . عن علي كرم الله وجهه أني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . الثاني : أن درجات أهل الجنة متفاوته بحسب الكمال والنقص ، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة الناقصة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة فيكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبريء بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضاً وليس هذا ببديع ولا بعيد من حال أهل الجنة ، فإن أولياء الله تعالى في دار الدنيا أيضاً بهذه المثابة بحسن توفيق الله تعالى ونور عنايته وهدايته كل منهم قد قنع بما حصل له من نعيم الدنيا وطيباتها لا يميل طبعه إلى زوجة لغيره أحسن من زوجته ولا إلى لا مشتهى ألذ مما رزقه الله ، وكل هذا نتيجة ملكه الرضا بالقضاء والتسليم لأمر رب الأرض والسماء ، فيموتون كذلك ويحشرون على ذلك وفقنا الله لنيل هذا المقام ببركة أولئك الكرام { تجري من تحتهم الأنهار } وهذه من جملة أسباب التنزه والترفه أن أجرى على ظاهره ، ومن جملة السعادات الروحانية أن أريد بها أنواع المكاشفات وأصناف التجليات { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } النعيم المقيم والفوز العظيم بأن يسر الأسباب وخلق الدواعي ومنع الصوارف ، أو بأن أعطى العقل ونصب الأدلة وأزاح العلة { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } من قرأ بواو العطف فظاهر ، ومن حذف الواو فلأنها جملة يقرب معناها من معنى الأولى وكأنها تفسرها فلا حاجة إلى العطف المؤذن بالتغاير .

ثم حكى عنهم سبب الاهتداء وذلك قوله : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } فجعله واسطة لهدايتنا أو لطفاً وتنبيهاً يقولون ذلك فيما بينهم سروراً واغتباطاً بما نالوا وتلذذاً بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً فإن الجنة ليست دار التكليف { ونودوا أن تلكم } بأنه تلكم { الجنة } والضمير للشأن والحديث ويجوز كونه بمعنى أي لأن النداء في معنى القول . وإنما قيل : { تلكم } لأنهم وعدوا بها في الدنيا وكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها ، ويجوز أن يكون التبعيد للتعظيم . ومعنى { أورثتموها } صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله . قد يستعمل الإرث ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا الفعل يورثك الشرف أو العار . وقيل : أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث . وقيل : إن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « ليس من مؤمن ولا كافر إلا له في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم » قالت المعتزلة قوله : { بما كنتم تعملون } يدل على أن الموجب للجزاء هو العمل لا التفضل . وقال غيرهم : لما كان الموفق للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة بفضله . وجعل العمل أمارة على ذلك والمنادي هو الله جل وعلا أو الملك الموكل بذلك والله تعالى أعلم .
التأويل : { يا بني آدم أما يأتينكم رسل } الهامات من أنفسكم من طريق قلوبكم وأسراركم وفيه أن بين آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته . { افترى على الله كذباً } بأن يقول أكرمني الله بالكرامات والمقامات ولم يعط { أو كذب } بمقامات أعطاها بعض أوليائه { أولئك ينالهم نصيبهم } من الشقاء الذي كتب لهم { حتى إذا جاءتهم } رسل الإلهامات الإلهية والواردات الربانية بعد أن كان هائماً في تيه البشرية { يتوفونهم } بجذبات الألطاف الإلهية عن الأوصاف البشرية { قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله } من الدنيا وشهواتها { وشهدوا } هؤلاء المجرمون المحرومون { أنهم كانوا كافرين } ساترين الحق بالباطل فهداهم الله تعالى . ثم قال لأهل الخذلان { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } وقدم الجن لأن الله تعالى خلق أولاً بني الجان منهم مؤمن ومنهم كافر ، فلما استولى أهل الكفر منهم بعث إليهم جنداً من الملائكة - وقيل رئيسهم إبليس - فاستأصلوهم ثم خلق آدم وذريته منهم مؤمن ومنهم كافر .

{ كلما دخلت أمة } في أعمال أهل النار { لعنت أختها } المتقدمة في تلك الأعمال لأنهم سنوها { حتى إذا } تدارك الكل في الأعمال الموجبة للنار . { عذاباً } { ضعفاً } لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها { لكل ضعف } لأن المتأخر أيضاً متقدم الذي يتلوه ويستن بسنته { ولكن لا تعلمون } أنكم متقدمون لمتأخريكم فما كان لكم علينا من فضل لأنكم سننتم لمتأخريكم كما سننا لكم { لا تفتح لهم أبواب } سماء القلوب إلى الحضرة { ولا يدخلون } جنة القربة والوصلة حتى يدخل جمل النفس المتكبرة في سم خياط أحكام الشريعة وآداب الطريقة ، وحتى تصير بالتربية في إزالة الصفات الذميمة وقطع تعلقات ما سوى الله أدق من الشعرة بألف مرة فيلج في سم خياط الفناء فيدخل جنة البقاء { وكذلك نجزي المجرمين } الذين صارت أنفسهم في حمل الأوزار كالجمل { لهم من جهنم } المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس قمع الهوى لحاف فتذهبهم وتحرق أنانيتهم . { لا نكلف نفساً إلا وسعها } فيرفع عن ظاهرهم وباطنهم كلفة الإيمان والعمل حتى تسير عليهم العبودية بحسن التوفيق .
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

القراآت : { نعم } بكسر العين حيث كان : علي . الباقون بالفتح { مؤذن } بغير همز : النجاري عن روش ويزيد والشموني وحمزة في الوقف . { أن } مخففة { لعنة الله } بالرفع : عاصم وأبو عمرو وأبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل . الباقون : مشددة وبالنصب .
الوقوف : { حقاً } ج لانتهاء الاستفهام . { نعم } ج للعطف مع الابتداء بالتأذين . { على الظالمين } ه لا لأن « الذين » صفتهم { عوجاً } ج لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال { كافرون } ه لأن ما بعده لم يدخل في التأذين ولم يجزأن يكون حالاً { حجاب } ج لتناهي حال الفئتين واتفاق الجملتين { بسيماهم } ط { يطمعون } ه { أصحاب النار } لا لأن ما بعده جواب « إذاً » { الظالمين } ه { تستكبرون } ه { برحمة } ط لتناهي الاستفهام والأقسام { تحزنون } ه { رزقكم الله } ط { الكافرين } ه { الحياة الدنيا } ج للابتداء مع فاء التعقيب { هذا } لا « وما » مصدرية كما في { كما نسوا } والتقدير ننساهم كنسيانهم وجحودهم { يجحدون } ه { يؤمنون } ه { إلا تأويله } ط { بالحق } ج لابتداء الاستفهام مع الفاء للتعقيب { كنا نعمل } ط { يفترون } ه .
التفسير : ولما شرح وعيد الكفار وثواب الأبرار أتبعه المناظرات التي تدور بين الفريقين فقال : { ونادى } وإنما ذكره بلفظ الماضي لأن المستقبل الذي يخبر الله تعالى عنه من حيث تحقق وقوعه كالماضي . والظاهر أن هذا النداء إنما يكون بعد الاستقرار في الجنة لأنه ورد بعد قوله : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } قيل : الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرض . ومع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء؟ وأجيب بأن البعد الشديد والقرب عندنا ليس من موانع الإدراك ، ولو سلم المنع في الشاهد فلا يسلم في الغائب . وهذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن أصحاب الجنة وأصحاب النار يفيد العموم لكن الجمع إذا قرن بالجمع يوزع الفرد على الفرد ، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار . و « أن » في { إن قد وجدنا } مفسرة أو مخففة من الثقيلة كما مر في قوله : { أن تلكم الجنة } [ الأعراف : 43 ] وكذا قوله : { أن لعنة الله } لأن النداء والتأذين في معنى القول : قال ابن عباس : { وجدنا ما وعدنا ربنا } في الدنيا من الثواب { حقاً } صحيحاً مطابقاً للواقع { فهل وجدتم ما وعد ربكم } من العقاب { حقاً } والغرض من هذا الاستفهام إظهار الشاشة والاغتباط وإيقاع الحزن في قلب العدو ، وفي هذه الحكاية لطف للمؤمنين وترغيب كما في سائر الأخبار . وإنما حذف المفعول في { وعد ربكم } لدلالة المفعول في { وعدنا } عليه ، ولأن كونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف وأنه لا يليق إلا بحال المؤمنين ويحتمل أن يكون الإطلاق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة { قالوا نعم } قال سيبويه : نعم عدة وتصديق أي تستعمل تارة عدة وتارة تصديقاً .

فإذا قال : أتعطيني؟ قال : نعم ، فهو عدة . وإذا قال : قد كان كذا وكذا فقلت : نعم فقد صدقت . والحاصل أن نعم للتصديق في الخبر والتحقيق في الاستفهام مثبتين كانا أو منفيين . فلو قيل : قام زيد أو أقام زيد فتقول : نعم . كان معناه نعم قام زيد مصدقاً أو محققاً ولو قيل : ما قام زيد أو ألم يقم زيد فقلت : نعم . كان المعنى ما قام زيد مصدقاً أو محققاً ومن ثم قال ابن عباس : لو قالوا في جواب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] « نعم » لكان كفراً . هذا من حيث اللغة وقد يكون العرف على خلاف ذلك كقول الفقهاء . لو قيل أليس لي عليك دينار فقلت : نعم التزمت بالدينار بناء على العرف الطارىء بعد الوضع . وكنانة تكسر العين من نعم . وروي عن عمر أنه سأل قوماً عن شيء فقالوا : نعم فقال عمر : أما النعم فالإبل وقولوا نعم وأنكر هذه الرواية أبو عبيد { فأذن مؤذن } قال ابن عباس : هو الملك صاحب الصور يأمره الله فينادي نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار . ومعنى التأذين النداء والتصويت للإعلام ومنه الأذان لأنه إعلام بالصلاة وبوقتها . والظالمون في الآية قيل : عام للكافر والفاسق والظاهر أنهم الكفار لأن الصد عن سبيل الله أي المنع عن قبول الدين الحق بالقهر أو بالحيلة وإلقاء الشكوك والشبهات في الدلائل وهو المراد بقوله : { ويبغونها عوجاً } وقد مر في آل عمران . والكفر بالآخرة كلها من أوصاف الكفرة وإنما قدم بالآخرة تصحيحاً لفواصل الآي ولم يزد لفظة هم هنا على القياس . وأما في سورة هود فلما تقدم { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } وقال : { ألا لعنة الله على الظالمين } [ الآية : 18 ] ولم يقل « عليهم » والقياس ذلك التبس أنهم هم أم غيرهم فكرر ليعلم أنهم هم المذكرون لا غيرهم . ثم وصف أهل الجنة والنار فقال : { وبينهما } يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين { حجاب } وهو السور المذكور في قوله سبحانه : { فضرب بينهم بسور له باب } [ الحديد : 13 ] قيل : أي حاجة إلى ضرب هذا السور والجنة فوق السموات والجحيم في أسفل سافلين . وأجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب . والأعراف لغة جمع عرف بالضم وهو الرمل المرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك ، وكل مرتفع من الأرض عرف لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه . الأعراف في الآية يفسر بالمكان تارة وبغيره أخرى . أما الذين فسروه بالمكان وهم الأكثرون فقال : إن الأعراف أعلى أعالي السور المضروب بين الجنة والنار ويروى عن ابن عباس .

وعنه أيضاً أن الأعراف شرف الصراط وعلى هذا التفسير فالذين هم على الأعراف من هم فيه قولان : أحدهما أنهم أقوام يكونون في الدرجة العليا من الثواب . وثانيهما : أنهم في الدرجة النازلة . وعلى الأول فيه وجوه : فقال أبو مجلز : هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار . فقيل له : يقول الله تعالى : { وعلى الأعراف رجال } وأنت تقول : إنهم ملائكة . فقال : الملائكة ذكور لا إناث . ويرد عليه أن الرجل لغة يطلق على من يصلح أن يكون من نوعه أنثى بل يطلق على الذكر من بني آدم . وقيل : إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على ذلك المكان العالي إظهاراً لشرفهم وليكونوا مشرفين على الفريقين مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم . وقيل : إنهم الشهداء . وعلى القول الثاني قيل : إنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أوقفهم الله على هذه الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار . ثم تؤل عاقبة أمرهم إلى الجنة برحمة من الله وفضل قاله حذيفة وابن مسعود واختاره الفراء . وخصصه بعضهم فقال : هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن أمهاتهم فاستشهدوا فساوت معصيتهم طاعتهم وفي هذا التخصيص نظر . وقال عبد الله بن الحرث : إنهم مساكين أهل الجنة . وقال قوم : هم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم الأعراف . وأما الذين فسروه بغير المكان وهو قول الحسن والزجاج فقد قالوا : إن المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يميزون البعض من البعض إما بالإلهام أو بتعريف الملائكة . قال الحسن : والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا . وعلى جميع التفاسير فهم يعرفون أهل الجنة وأهل النار . قال قوم : يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة مبيضة ، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم . وزيف بأن هذا النوع من المعرفة عام لأهل المحشر فلا وجه لتخصيص أصحاب الأعراف بذلك . ويمكن أن يقال : إن معرفتهم لكونهم على الأمكنة المرتفعة آمنين . وقال المحققون : إنهم كانوا يعرفون أهل الخير والإيمان والصلاة وأهل الشر والكفر والإفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية ، فهو تعالى يجلسهم على الأعراف ليكونوا مطلعين على الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به . ثم قال : { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } أي إنهم إذا نظروا إلى الجنة سلموا على أهلها . ثم أخبر على سبيل الاستئناف أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة { وهم يطمعون } كأن سائلاً سأل عن حالهم أو على أنه صفة أخرى لرجال . فإن قلنا : إن أصحاب الأعراف هم الأشراف فيكون الله تعالى أخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار ، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العلا في الجنة كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « ان أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في وسط السماء وإن أبا بكر وعمر منهم »

ومعنى يطمعون على هذا يتيقنون كقول إبراهيم : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] ولا يخفى ما في هذه العبارة من حسن الأدب . وإن قلنا أصحاب الأعراف هم الأوساط فلا إشكال لأنهم يطمعون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة { وإذا صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار } قال الواحدي : التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفاً . ولم يأت من المصادر على « تفعال » بالكسر إلا حرفان « تبيان » و « تلقاء » وإنه في الاسم كثير كتمثال وتقصار ، والمعنى أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى أن لا يجعلهم من زمرتهم . وفي بناء الفعل للمفعول وإن لم يقل وإذا أبصروا فائدة هي أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا . ثم بين أن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أكابر أهل النار واستغنى عن التصريح بهم بوصفهم بما لا يليق إلا بهم فقال : { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم } المال أو كثرتكم واجتماعكم { وما كنتم تستكبرون } عن الحق وعلى الناس ، وفيه تبكيت للمخاطبين وشماتة بهم ، ثم زادوا في التبكيت مشيرين إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم ، وربما استهزؤا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم لقلة حظوظهم من الدنيا فقالوا : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } أما قوله : { ادخلوا الجنة } إلى آخر الآية . فمن قول الله تعالى لأصحاب الأعراف ، أو من قول الملائكة لهم بأمره ، أو من قول بعضهم لبعض وذلك بعد أن يحبسوا ويجلسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويقولوا . قال المفسرون : الرجال ههنا الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام والعاص بن وائل السهمي ونظراؤهم . وكانوا يقولون إن بلالاً وسلمان وعماراً وأمثالهم يدخلهم الله الجنة ويدخلنا النار كلاً والله إن الله لا يفضل علينا خدمنا ورعاتنا ، أقسموا أن لا يخصهم بفضل دونهم فناداهم أصحاب الأعراف .
ثم ختم المناظرت بقوله : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } قال ابن عباس : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا : ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم ، فأمر الله بالجنة فزخرفت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر ، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا : { أفيضوا علينا من الماء } طلبوا الماء أوّلاً لما في بواطنهم من الاحتراق الشديد .

وفي الإفاضة نوع دلالة على أن أهل الجنة أعلى مكاناً من أهل النار . قال بعض العلماء : إنهم سألوا ذلك مع جواز الحصول . وقال آخرون : بل مع اليأس لأنهم عرفوا دوام عقابهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل : الغريق يتعلق بالزبد . وإن علم أنه لا يغنيه . قوله : { أو مما رزقكم الله } قيل : أي سائر الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة . وقيل : أي من الثمار أو الطعام . والمراد : وألقوا علينا من الطعام والفاكهة كقوله :
علفتها تبناً وماءً بارداً ... فيكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدّة جوعهم . ثم كأن سائلاً سأل فبماذا أجابهم أهل الجنة؟ فقيل : { قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } أي منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه وهذه نهاية الحسرة والخيبة أعاذنا الله منها . ثم وصف هؤلاء الكافرين بأنهم { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة } وقد مر تفسير الوصفين في أوسط سورة الأنعام . وقال ابن عباس : يريد المستهزئين المقتسمين ، وجملة الأمر أن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة الماء وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوباً عن طلب الدين غريقاً في بحر الدنيا ومشتهياتها . ثم ذكر جزاءهم يوم القيامة على سبيل الحكاية فقال : { فاليوم ننساهم } أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا قاله الحسن ومجاهد والسدي والأكثرون ، وقيل : أي نعاملهم معاملة من نسي بتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض عن آياتنا ، فسمي جزاء النسيان نسياناً كقوله : { وجزاء سيئة سيئة } [ الشورى : 40 ] والحاصل أنه لا يجيب دعائهم ولا يرحم ضعفهم وذلهم . عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ، ثم يذكرون الشراب فيستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فتقول أهل الجنة { إن الله حرمهما على الكافرين } ، ويقولون لمالك ليقض علينا ربك فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام إنكم ماكثون ، ويقولون ربنا أخرجنا منها فيجيبهم اخسؤا فيها ولا تكلمون ، فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في زفير وشهيق . وعن ابن عباس في صفة أهل الجنة : إنهم يرون الله عز وجل في كل جمعة ، ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معهم الهدايا الشريفة . وقال : إن نخل الجنة خشبها الزمرد وقوائمها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرتها أمثال القلال أشد بياضاً من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم فيها . فهذه صفة الفريقين من القرآن والحديث فتأهب لأيهما شئت والله الموفق . ولما شرح الله تعالى حال الطائفتين والمناظرات الجارية بينهم لتكون حاملاً للمكلف على الحذر من مواجب النار وعلى الرغبة في مستتبعات الجنة بيّن شرف هذا الكتاب الكريم وغاية منافعه الجليلة فقال : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه } ميزنا بعضه عن بعض تمييزاً يهدي إلى الرشاد ويؤمن من الغلط والتخليط .

وإنما فعلنا ذلك لا كيفما اتفق بل { على علم } بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد الكثيرة والمنافع الغزيرة حتى جاء بريئاً من كل خلل وقدح ومعجزاً باقياً على وجه الدهر . وقوله : { وهدى ورحمة } حالان من منصوب { فصلناه } كما أن { على علم } حالٍ من مرفوعه . ويحتمل أن يكونا مفعولاً لهما { لقوم يؤمنون } لأن فائدته تعود إليهم ، ثم لما بيّن إزاحة العلة بسب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب به فقال : { هل ينظرون إلا تأويله } والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع ، وكيف ينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟ الجواب لعل فيهم أقواماً تشككوا وتوقفوا ولهذا السبب انتظروه . وأيضاً إنهم كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة . قال الفراء : الضمير في تأويله للكتاب أي إلا عاقبة أمره وما يؤل إليه من بيان صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد ، أو عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب ، والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل { يوم يأتي } يريد يوم القيامة وانتصابه على أنه ظرف { يقول } ومعنى : { نسوه } تركوا العمل به والإيمان أو أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه { قد جاءت رسل ربنا بالحق } أي متلبسين بما هو الحق ، أو الباء للتعدية والمراد اعترافهم بثبوت الحشر والنشر وأحوال القيامة وأهوالها إذا عاينوها { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } منصوب بإضمار « أن » بعد الفاء والتقدير : هل يثبت لنا شفيع فيشفع { أو } هل { نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } فنوحد الله تعالى بدلاً عن الشرك ونطيعه بدلاً عن المعصية . وفيه دليل على أن أهل الآخرة لا تكليف لهم خلافاً للنجار ومن تبعه وإلا لم يسألوا الرد إلى دار التكليف ولم يتمنوه بل كانوا يتوبون في الحال . ثم حكم بأن ذلك التمني لا يفيدهم شيئاً وأن مطلوبهم لا يكون ألبتة فقال : { قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي لا ينتفعون بالأصنام التي عبدوها في الدنيا وليس تفيدهم نصرة الأوثان التي بالغوا في نصرها .
التأويل : نادى أهل المحبة أهل القطيعة { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً } يعني قوله : « ألا من طلبني وجدني » { فهل وجدتم ما وعدكم } { ربكم } حقاً وهو قوله : « ومن طلب غيري لم يجدني » { فأذن مؤذن } العزة والعظمة على الظالمين الذين وضعوا استعداد الطلب في غير موضع مطلوبه ، الذين يصدون القلب والروح عن سبيل الله وطلبه ، ويطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها { وبينهما حجاب } من الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة النفسانية فلا يرى أهل النار أهل الجنة وكذا بين أهل الجنة وأهل الله - وهم أصحاب الأعراف - حجاب من أوصاف الخلقية والأخلاق الحميدة الروحانية .

وسميت أعرافاً لأنها موطن أهل المعرفة ، وسموا رجالاً لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه ، فالأعراف مرتبة فوق الجنان في حظائر القدس عند الرحمن { يعرفون كلاً } من أهل الجنة وأهل النيران { بسيماهم } من آثار نور القلب وظلمته { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } يعني هنيئاً لكم ما أنتم فيه من النعيم والحور والقصور . ثم أخبر عن همة أهل الأعراف فقال : { لم يدخلوها } أي الجنة ونعيمها ولم يلتفتوا إلى غير المولى { وهم يطمعون } في الوصول إلى الحق سبحانه . { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } ابتلاء ليعرفوا أنه تعالى من أي دركة خلصهم وبأي كرامة خصهم ومن هذا القبيل يكون ما يسنح لأرباب الكمالات من الخواطر النفسانية وما أتاهم الله بشيء من الدنيا والجاه والقبول والاشتغال بالخلق ليعرفوا قدر العزلة والتجريد والأنس مع الله في الخلوات { رجالاً يعرفونهم بسيماهم } يعني أهل الجنة وأهل النار { ما أغنى عنكم جمعكم } يا أهل الجنة وأهل الله من الطاعات ويا أهل النار من الدنيا والشهوات { وما كنتم تستكبرون } عن السير في حقيقة لا إله إلا الله { أهؤلاء الذين أقسمتم } يعني أن من المؤمنين والعلماء بعلم الظاهر في بعض الأوقات من يقول لدناءة همته لأهل المحبة والمعرفة { لا ينالهم الله برحمة } الوصول { ادخلوا الجنة } يعني الجنة المضافة إليه في قوله : { ادخلي جنتي } [ الفجر : 30 ] في حظائر القدس وعالم الجبروت { لا خوف عليكم } من الخروج { ولا أنتم تحزنون } على ما فاتكم من نعيم الجنة إذ فزتم بشهود جمالنا . اعلم أن أهل الجنة وأهل النار يرون أهل الله وهم أصحاب الأعراف بالصورة ما داموا في مواطن الكونين ، فإذا دخلوا الجنة الحقيقية المضافة إلى الله في حظائر القدس وسرادق العزة انقطع عنهم نظرهم ونظر الملائكة المقرّبين فافهم . يحكى عن بابا جعفر الأبهري أنه دخل على بابا طاهر الهمداني فقال : أين كنت فإني حضرت البارحة مع الخواص على باب الله فما رأيتك ثمة؟ فقال بابا طاهر : صدقت كنت على الباب مع الخواص وكنت داخلاً مع الأخص فما رأيتني . { فيضوا علينا من الماء } كانوا في الدنيا عبيد البطون حراصاً على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا على ما ماتوا ، وإن أهل الجنة لما جوعوا بطونهم لوليمة الفردوس كان اشتغالهم في الجنة بشهوات النفس والمضايقة بها { فقالوا إن الله حرمهما على الكافرين } وفي الحقيقة إنما حرمهما عليهم في الأزل فلم يوفقوا لمعاملات تورث الجنة { هل ينظرون إلا تأويله } أي ما يؤل إليه عاقبته في شأنهم . فللمؤمنين كشف الغطاء وسبوغ العطاء ، ولأهل الجحود الفرقة الافتقار وعذاب النار أعاذنا الله تعالى منها .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

القراآت : { يغشي } بالتشديد حيث كان : حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد وسهل ويعقوب غير روح . { والشمس والقمر والنجوم مسخرات } كلها بالرفع : ابن عامر . الآخرون بالنصب . { الريح } على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلى خلف { نشرا } بالنون وسكون الشين : ابن عامر . وبفتح النون وسكون الشين : حمزة وعلي وخلف وأبو زيد عن المفضل . وبضم الباء الموحدة والشين الساكنة : عاصم غير أبي زيد الباقون بضم النون والشين . { ميت } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وحفص والمفضل { نكداً } بفتح الكاف : يزيد . الآخرون بكسرها .
الوقوف : { حثيثاً } ط لمن قرأ { والشمس } وما بعده مرفوعات { بأمره } ط { والأمر } ط { العالمين } ه { وخفية } ط { المعتدين } ه للعطف مع الآية . { وطمعاً } ط { المحسنين } ه { رحمته } ط { الثمرات } ط { تذكرون } ه { بإذن ربه } ج للابتداء مع العطف { نكداً } ط { يشكرون } ه .
التفسير : لما بالغ سبحانه في تقرير أمر المعاد عاد على عادته إلى بيان المبدإ وهو ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم تأكيداً للمعاد . والمعنى إن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكاره هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأجسام الجسام وأودع فيها أنواع المنافع وأصناف الفوائد ، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات ويعوّل على غيره في تحصيل السعادات؟ قال علماء الأدب : أصل ست سدس بدليل سديس وأسداس . ثم إن العرب كانوا يخاطبون اليهود فالظاهر أنهم سمعوا بعض أوصاف الخالق منهم فكأنه سبحانه يقول : لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتهما في ستة أيام . قيل : إنه تعالى كان قادراً على إيجادهما دفعة واحدة فما الفائدة في ذكر أنه خلقهما في ستة أيام في أثناء ذكر ما يدل على وجود الصانع؟ وأجيب بأنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور والصبر فيها كيلا يحمل المكلف تأخير الثواب والعقاب على التعطيل . ومن العلماء من قال : إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذلك إنما وقع على سبيل الاتفاق ، أما إذا أحدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للحكمة والمصلحة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث حكيم عليم قادر رحيم . وأيضاً ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أوّلاً ثم يخلق السموات . والأرض بعده لأن خلق ما لا ينتفع به في الحال يجر إلى العبث . ثم إن ذلك العاقل - ملكاً كان أو جنياً - إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على سبيل التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى في إفادة اليقين لأنه يتكرر على عقله ظهور هذه الدلائل لحظة فلحظة .

وأما تقدير المدة بستة أيام فلا يرد عليه إشكال لأن السؤال يعود على أي مقدار فرض ، وقيل : إن لعدد السبعة شرفاً عظيماً ولهذا خصت ليلة القدر بالسابع والعشرين . فالأيام الستة لتخليق العالم والسابع لتحصيل كمال الملك والملكوت . فإن قيل : كيف يعقل حصول الأيام قبل خلق الشمس التي نيط تقدير الأزمنة بطلوعها وغروبها؟ فالجواب أن المراد خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام كقوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا صباح عند الله ولا مساء . وعن ابن عباس أن هذه الأيام أيام الآخرة كل يوم ألف سنة مما تعدون . والأكثرون على أنها أيام الدنيا لأن التعريف بها يقع . والظاهر أنها الأيام بلياليها لا النهار . ونقول : يمكن أن تحمل الأيام الستة على الأطوار الستة التي للأجسام الهيولي والصورة والجسم البسيط ثم المركب المعدني والنباتي والحيواني والله تعالى أعلم بمراده . أما قوله سبحانه : { ثم استوى على العرش } فحمل بعضهم الاستواء على الاستقرار وزيف بوجوه عقلية ونقلية منها : أن استقراره على العرش يستلزم تناهيه من الجانب الذي يلي العرش ، وكل ما هو متناهٍ فاختصاصه بذلك الحد المعين يستند لا محالة إلى محدث مخصص فلا يكون واجباً . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الإله تعالى نوراً غير متناهٍ ويراد باستقراره على العرش بلا تناهيه إحاطته به من الجوانب ونفوذه في الكل لا كإحاطة الفلك الحاوي بالمحوى . ولا كنفوذ النور المحسوس في الشرف ، بل على نحو آخر تعوزه العبارة . ومنها أنه تعالى لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناهٍ من كل الجهات أو متناهياً من بعضها دون بعض . وعلى الأول يلزم اختلاطه بجميع الأجسام حتى للقاذورات ومع ذلك فالشيء الذي هو محل السموات ، إما أن يكون عين الشيء الذي هو محل الأرض أو غيره ، وعلى الأول يلزم أن يكون السماء والأرض حالين في محل واحد فهما شيء واحد لا شيئان . وعلى الثاني يلزم التركيب والتجزئة في ذاته تعالى . وأما إن كان متناهياً من الجهات فلو حصل في جميع الأحياز فهو محال بالبديهة ، وإن حصل في حيز واحد فلو كان جوهراً فرداً لزم أن يكون واجب الوجود أحقر الأشياء وإلا لزم التبعيض لأن جهة الفوق منه تكون مغايرة لمقابلتها . وكذا الكلام فيه إن كان متناهياً من بعض الجهات ، ولو جاز أن يكون الشيء المحدود من جانب أو جوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يجوز أن يقال فاعل العالم هو الشمس والقمر أو كوكب آخر؟ وأيضاً يصح على الشق المتناهي أن يكون غير متناهٍ وعلى غير المتناهي أن يكون متناهياً ، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي فيصح النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفريق والتمزق على ذاته تعالى فيكون ممكناً محدثاً لا واجباً قديماً .

ولقائل أن يقول : إنه غير متناهٍ ولا يلزم من ذلك أن يكون محلاً للعالم ولا حالاً فيه ، واستصحاب الشيء للمحل غير كونه نفس المحل أو مفتقراً إلى المحل . وحديث اختلاطه بالقاذورات تخييل لا أصل له عند الرجل البرهاني . ومنها أنه لو كان الباري يتعالى حاصلاً في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجوداً مشاراً إليه أو لا يكون . فإن كان موجوداً كان له بعد وامتداد وللحاصل فيه أيضاً بعد وامتداد فيلزم تداخل البعدين ومع ذلك يلزم كون الجهة والحيز أزليين ضرورة كون الباري تعالى أزلياً ومحال أن يكون ما سوى الواجب أزلياً ، وإن لم يكن موجوداً لزم كون العدم المحض ظرفاً لغيره ومشاراً إليه بالحس وذلك باطل . واعترض بأن ذلك أيضاً وارد عليكم في قولكم : « الجسم حاصل في الحيز والجهة » . وأجيب بأن مكان الجسم عندنا عبارة عن السطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى بالاتفاق في حق الله محال فسقط الاعتراض . ولقائل أن يقول : الجهة مقطع الإشارة الحسية وهذا في حقه محال لعدم تناهيه . ولم لا يجوز أن يكون المكان خلاء فلا يلزم تداخل البعدين ولو لزم هناك لزم في الأجسام أيضاً بل لا بعد هناك ولا امتداد ، ولو فرض فلن يلزم منه الانقسام في الخارج ، ومنها أنه لو امتنع وجود الباري تعالى بحيث لا يكون مختصاً بالحيز والجهة لكانت ذاته مفتقرة في تحققها ووجودها إلى غيره فيكون ممكناً . والجواب ما مر من أن استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إليه . ومنها أن الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض ، ولأن هذا المفهوم واحد فالأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية . فلو اختص ذاته تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لمخصص مختار ، وكل ما كان فعل الفاعل المختار فهو محدث ، فحصوله في الحيز محدث وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو أولى بالحدوث فالواجب محدث هذا خلف . ولقائل أن يقول : ما لا يتناهى لا يعقل له حيز معين ولو فرض لا تناهي الأحياز أيضاً فافتقاره إليها ممنوع ، وكيف يفتقر الشيء إلى ما تأخر وجوده عن وجود ذلك الشيء والمعية بعد ذلك لا تضر؟ ومنها لو كان في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بالحسن ، ثم إن كان قابلاً للقسمة لزم التجزي وإلا لكان نقطة أو جوهراً فرداً فلا يبعد أن يقال : إن إله العام جزء من ألف جزء من رأس إبرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة .

ولقائل أن يقول : لا نسلم أن كونه مع الحيز من جميع الجهات المفروضة يستلزم كونه مشاراً إليه حساً فإن العقل يعجز عن إدراكه فضلاً عن الحس وباقي الكلام لا يستحق الجواب . ومنها كل ذات قائمة بالنفس يشار إليها بحسب الحس فلا بد أن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب شماله فيكون منقسماً وكل منقسم مفتقر ممكن . قالوا : هذا الدليل مبني على نفي الجوهر الفرد . ومنها لو كان في حيز لكان إما أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه والثالث باطل بالإجماع والأولان يستلزمان الانقسام لأن المساوي للمنقسم منقسم وكذا الزائد عليه ، لأن القدر الذي فضل به عليه مغاير لما سواه . ولقائل أن يقول : لا نسبة بين الجسم وبين نور الأنوار وتستحيل هذه التقادير . ومنها أنه لو فرض كونه تعالى غير متناهٍ من جميع الجهات كما يزعم الخصم لزم لا تناهي الأبعاد وإنه محال لبرهان تناهي الأبعاد . ولقائل أن يقول : إن برهان تناهي الأبعاد لا يسلم ولو سلم فلا بعد فيما وراء العالم الجسماني ولا امتداد . ومنها أنه سبحانه لو كان حاصلاً في الحيز لكان كونه هناك أما أن يمنع من حصول جسم آخر فيه أو لا يمنع . وعلى الأول كان تعالى مساوياً لجميع الأجسام في هذا المعنى ، ثم إنه إن لم تحصل بينه وبينها ومخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال ، وإن حصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة فيكون الواجب مركبا بل ممكناً . وأيضاً إن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة أو حالاً فيه أو لا هذا ولا ذاك . فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه والأمور التي بها حصلت المخالفة أعراضاً وصفات ، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما يصح على بعضها يصح على البواقي ، وكل ما يصح على بعض الأجسام من التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد يصح على ذاته تعالى . وإن كان ما به المخالفة محلاً وذوات وما به المشاركة حالاً وصفة فذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة فيجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً وامتداداً هذا خلف . وإن لم يكن حالاً ولا محلاً كان أجنبياً مبايناً فتكون ذات الله تعالى مساوية لتمام الأجسام في الماهية ويصح عليه ما يصح عليها هذا محال ، وعلى التقدير الثاني - وهو أن ذاته تعالى لا تمنع من حصول جسم آخر في حيزه - لزم سريانه في ذلك الجسم وتداخل البعدين كما مر والكل محال ، فالمقدم وهو كونه تعالى في حيز محال ولقائل أن يقول : كون البارىء تعالى مع الحيز مغاير لكون الجسم في الحيز فأين الاشتراك؟ ولو سلم فالاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات فمن أين يلزم التركيب؟ قوله : « فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه » قلنا : كون البعد جوهراً قائماً بنفسه حق ، ولكن الملازمة ممنوعة ، وكذا قوله : « الأمور التي بها حصلت المخالفة » أعراض وصفات لجواز قيام العرض بالعرض كالبطء والسرعة القائمين بالحركة ، قوله : « وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً » ممنوع لما قلنا من احتمال وجود بعد مجرد بلا وجوبه ، والكلام في سريانه في الموجودات قد مر .

ومنها أنه لو كان في حيز فإن أمكنه التحرك منه بعد سكونه فيه كان المؤثر في حركته وسكونه فاعلاً مختاراً ، وكل فعل لفاعل مختار فهو محدث وما لا يخلو عن المحدث أولى بأن يكون محدثاً وإن لم يمكنه التحرك منه كان كالزمن المعقد العاجز وذلك محال . وأيضاً لا يبعد فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عنها فلا يمكن إثبات حدوث الأجسام بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر . ولقائل أن يقول : إن الحركة والسكون من خواص الأجسام المفتقرة إلى أحياز ، فأما النور المجرد فلا يوصف بالحركة والسكون وإن كان مع الحيز والمتحيز . سلمنا وجوب اتصافه بأحدهما فلم لا يجوز أن لا يمكنه التحرك لا لكونه زمناً مقعداً ولكن لأنه نور غير متناهٍ لا يصح وصفة بالتخلخل والتكاثف ونحو ذلك ، فتستحيل عليه الحركة لأنها موقوفة على شغل حيز وتفريغ حيز آخر ، ولأن العالم النوراني الذي لا نهاية له مملوء منه فكيف يتصور خلو حيز عنه؟ ومنها أنه لو كان مختصاً بحيز فإن كان لطيفاً كالماء والهواء كان قابلاً للتفرق والتمزق ، وإن كان صلباً كان إله العالم جبلاً واقفاً في الحيز العالي ، وإن كان نوراً محضاً جاز أن تفرض هذه الأنوار التي تشرق على الجدران إلهاً . وأيضاً إن كان له طرف وحدّ فإن كان ذا عمق وثخن كان باطنه غير ظاهره وإلا كان سطحاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منها ألف ألف مرة . قلت : إن أمثال هذه الكلمات لا تصدر إلا عمن لا يفرق بين النور المعقول والنور المحسوس ، والجوهر المجرد والجوهر المادي ، والشيء القائم بذاته والمفتقر إلى غيره . ومن العجب العجاب أن هذا المستدل قد سمع من جمهور العقلاء أن الأجرام الفلكية لا تطلق عليها الصلابة واللين ، وإذا جاز أن يكون في أنواع الأجسام نوع لا يمكن أن يتصف بهذين المتقابلين لأن ذلك الموضع أجل وأشرف من أن يتصف بأحدهما ، فلم لا يجوز أن يكون فيما هو أشرف من ذلك النوع شيء لا يتصف بهما؟! ومنها لو كان إله العالم فوق العرش لكان مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناهٍ أو غير متناهٍ .

وعلى الأول فإن لم يكن له ثخن كان سطحاً رقيقاً كما مر ، وإن كان له ثخن فالمماس مغاير لغير المماس ويلزم تركيبه ، وإن كان مبايناً ببعد متناهٍ فلا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى أن يماسه ويعدو الإلزام المذكور ، وإن كان مبايناً ببعد غير متناهٍ لزم أن يكون غير المتناهي محصوراً بين الحاصرين ، ولقائل أن يقول : المباينة والمماسة من خواص الأجسام وإنه تعالى نور مجرد محض فلا يصلح عليه الاتصال والانفصال والتماس والتباين والتداخل وأشباه ذلك . ومنها أن الاستقراء قد دل على أن الجرمية كلما كانت أقوى كانت الفاعلية والتأثير أضعف وبالعكس ، ولهذا كان تأثير الأرض أقل من تأثير الماء ، وتأثير الماء من تأثير الهواء ، وتأثير الهواء من تأثير النار بالإحراق والطبخ ، وتأثير النار من تأثير الأفلاك المؤثرة في العنصريات . ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئاً من الحجم والجرم والكثافة والرزانة . قلت : في الاستقراء نزاع إنه صحيح أولاً ، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالى شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته . وههنا حجج قد أوردت في أوائل سورة الأنعام في تفسير قوله سبحانه : { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام : 18 ] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه في تفسيره الكبير ، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لا اعتقاداً للتشبيه والتجسم أو تقليداً لأولئك الأقوام بل تشحيذاً للذهن وتقريباً إلى المعارف والحقائق وجذباً بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد والله الموفق للرشاد . ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال . ثم قال رضي الله عنه : وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها قوله تعالى : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] والأحد مبالغة في كونه واحداً والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحداً . وأجيب بأنه ذات واحدة حصلت في كل الأحياز دفعة واحدة ، وزيف بأن هذا معلوم الفساد بالضرورة لو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال جميع العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة الأحياز فظن أنه أشياء كثيرة . قلت : وهذه مغالطة فإن هذا الجزء الذي لا يتجزأ لصغره غير الشيء الذي لا يقبل التجزئة والأنقسام لذاته . وأيضاً المتحيز الذي مقداره ذراع في ذراع لا يشغل بالبديهة حيزين كل منهما ذراع في ذراع فلزم منه أن لا يشغل ذينك الحيزين متحيز مقداره . ضعف ذلك على أن الحق ما عرفت مراراً أن نور الأنوار قيوم في ذاته حاصل في جميع الأشياء لا منفصل عنها انفصال المحيط عن المحاط ، ولا متصل بها اتصال العرض الساري في الأجسام ، ولهذا لا يلزمه بانقسامها الانقسام .

ومنها قوله : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ويلزم منه أن يكون حامل العرش حاملاً للإله . والجواب أنك إن سميت المعية حملاً فلا نزاع . ومنها قوله : { والله الغني } [ محمد : 38 ] فوجب أن يكون غير مفتقر إلى المكان والجهة ، والجواب أن الاستصحاب غير الافتقار . ومنها أن فرعون طلب حقيقة الإله في قوله : { وما رب العالمين } [ الشعراء : 23 ] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف . وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله { فاطلع إلى إله موسى } [ القصص : 38 ] فعلمنا أن التنزية دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون . والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم ، وطلب فرعون إنما كان مذموماً لأنه تصور أن يكون الإله شخصاً مثله على تقدير وجوده لقوله : { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] . ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطرباً . والجوب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والأختلاط بقي ما وراءه نوراً محضاً . ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسماً لكان آفلاً في أفق الإمكان . والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول . ومنها أن أول الآية أعني قوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله { يغشي الليل النهار } إلى آخر الآية . فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبياً عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش . فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها . والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء ، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل : لو كان واجب الوجود بقاً أو بعوضاً صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالاً على المدح . ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما ، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقاً لنفسه . والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم ، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله :

=============

ج14. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقاننظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


{ الله خلق كل شيء } [ الرعد : 16 ] هذا ولغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان : الأول القطع بكونه متعالياً عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله ، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه : أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك . وثانيها : أن « استوى » بمعنى « استولى » كقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك . يقال : استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد . وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد . فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه ، فإذا قال : إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء ، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال : قادر . علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية ، وكذا القول في كل من صفاته . وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعاً يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد . وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه . وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال . ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل . وقال أبو مسلم : العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى : { ومن الشجر ومما يعرشون } [ النحل : 68 ] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها .
قوله سبحانه : { يغشي الليل النهار } قال صاحب الكشاف : يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعاً . وقال القفال : لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر . وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة ، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدةّ فقال { يطلبه حثيثاً } قال الليث : الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد واحد يتحرك ألفاً وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخاً من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه .

فإن قيل : ما محل الجملتين؟ قلت : أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل : فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض؟ فأجيب يغشي الليل النهار . وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة . وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن { حثيثاً } منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق بعينه . ثم قال : { والشمس والقمر والنجوم مسخّرات } من قرأهن منصوبات فمعناه وخلق هذه الأجرام حال كونهن تحت تسخيره ، ومن قرأها مرفوعات فعلى الابتداء والخبر ، وكلتا القراءتين حسنة لأنك إذا قلت : ضربت زيداً استقام أن يقال زيد مضروب . وقوله : { بأمره } متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره . قال في الكشاف : سمي ذلك أمراً على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك . ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الذي هو الكلام ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون { بأمره } متعلقاً ب { خلق } . بدأ بالشمس لأنه سلطان الكواكب ، وثنى بالقمر لأنه كالنائب ، وثلث بسائر النجوم لأنها كالخدم . فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، والشمس تأثيرها بالتسخين ، والقمر تأثيره بالترطيب ، وتوليد المواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة . ثم إنه سبحانه وتعالى خص كل كوكب بخاصية عجيبة وتأثير غريب لا يعلمه بتمامه إلا مبدعه وخالقه ، واعلم أن الأجسام متماثلة في الجسمية؛ فاختصاص جرم الشمس بالنور الباهر والتسخين الشديد والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي وكذا تخصيص كل واحد من سائر السيارات والثوابت بقوّة أخرى لا بد أن يستند إلى فاعل حكيم قدير عليم فلهذا قال : { مسخرات بأمره } . وأيضاً إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً من المغرب إلى المشرق ، وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم ، فقوله : { يغشي الليل النهار } تنبيه على أن حدوث الليل والنهار إنما هو بحركة الفلك الأعظم المسمى بالعرش ، وقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } إشارة إلى أن العرش يحرك جميع الأفلاك والكواكب وأنه سبحانه أودع في جرمه قوّة قاهرة قاسرة باعتبارها قويت على تحريك من دونه على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب . وأيضاً أن أقسام الأجسام ثلاثة : متحرك إلى الوسط وهما العنصران الثقيلان ، ومتحرك عن الوسط وهما الخفيفان ، ومتحرك على الوسط وهي الأجرام الفلكية ، فيكون الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة لا إلى المركز ولا عن المركز لا يكون إلا بتسخير الله تعالى ، ولأمر ما أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما قائلاً :

{ أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } [ الأعراف : 185 ] { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها } [ ق : 6 ] { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الروم : 8 ] وإن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان : منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال ، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال ، ولا ريب أن اعتقاد الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول : من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع ، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علماً مقعولاً مضاهياً لما عليه الموجود ، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب ، وأما قوله عز من قائل { ألا له الخلق والأمر } فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين ، فكل ما كان بريئاً عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر « كن » من غير سبق مادّة ومدّة ، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره . وههنا مسائل ذكرها العلماء : الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناهٍ مخبر مستخبر لأن قوله : { ألا له الخلق والأمر } دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق . الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله : { ألا له الخلق } بتقديم الخبر يفيد الحصر . ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء ، وحينئذٍ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين ، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثراً في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات . الثالثة قالت الأشاعرة : كل أثر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأثر في الحقيقة هو الله تعالى لقوله : { ألا له الخلق والأمر } ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبراً وخالقاً ، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم ، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل ، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل ، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى .

الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقاً لما صح هذا التمييز . أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق كقوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } { البقرة : 98 ] وعارض الكعبي بقوله : { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته } [ الأعراف : 158 ] فإنه لو وجب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه لزم أن تكون الكلمات غير الله تعالى ، وكل ما كان غير الله تعالى فإنه محدث ومخلوق فكلمات الله مخلوقة . وقال القاضي : اتفق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام الله تعالى بل المرا به نفاذ إرادته وإظهار قدرته ، وقال قوم : لا يبعد أن يقال الأمر داخل في الخلق ولكنه من حيث كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال . والمعنى له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى . ثم بعد الإيجاد والتكوين له الأمر والتكليف في المرتبة الثانية . وقال آخرون : معنى قوله : { ألا له الخلق } أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق ، فقوله : { والأمر } يجب أن يكون معناه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر ، ويلزم منه أن يكون الأمر محدثاً مخلوقاً لأنه لو كان قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فلا يصدق أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر هذا خلف . وأجيب بأنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق لزم التكرار والأصل عدمه فلا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة ههنا . الخامسة في الآية دلالة على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئاً إلا الله ، ففعل الطاعة لا يوجب الثواب ، وفعل المعصية لا يوجب العقاب ، وإيصال الألم لا يوجب العوض . السادسة دلت الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه ، وأن الحسن لا يحسن لأمر عائد إليه وإلا لم يأمر إلا بما حصل فيه وجه الحسن ولم ينه إلا عما حصل فيه وجه القبح ، فلا يكون متمكناً من الأمر والنهي كيف شاء وأراد هذا خلف . السابعة أطلق الخلق والأمر فيعلم أنه لو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والكواكب في أقل من لحظة لقدر عليه ، لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات . الثامنة قال قوم : الخلق صفة من صفات الله تعالى وهو غير المخلوق لأن أهل السنة يقولون : معنى قوله : { الأمر لله } أنه صفة له فكذا الخلق صفة قائمة بذاته فلا يكون مخلوقاً ، وأجيب بأن الخلق لو كان غير المخلوق فإما أن يكون قديماً ويلزم من قدمه قدم المخلوق ، وإما أن يكون حادثاً فيفتقر إلى خلق آخر ويتسلسل ، ويمكن أن يقال : الصفة قديمة والتعلق حادث .

التاسعة له الأمر يقتضي أن لا أمر لله . وقول النبي صلّى الله عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » لا ينافي ذلك لأن الموجب لأمره في الحقيقة هو أمر الله تعالى ، العاشرة في الآية دلالة على أن الله تعالى أمراً ونهياً على عباده والخلاف مع نفاة التكليف . قالوا : إن كان التكليف معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به تحصيلاً للحاصل ، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال . وأيضاً إنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع وإلا فلا فائدة في الأمر به . وأيضاً الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف ، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم . وأيضاً التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث ، وإن كان لفائدة فلا بد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً . والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد ، وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم ، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن ، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً أو من كونه موجب عوض أو ثواب . ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم والتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال : { تبارك الله رب العالمين } وللبركة تفسيران : أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه . وثانيهما كثرة الآثام الفاضلة . ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه . ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } قال في الكشاف : نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك { خوفاً وطمعاً } قلت : ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل : رجع القهقرى . والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العلانية . قال بعض العلماء : الدعاء ههنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله : { وادعوه خوفاً وطمعاً } والأظهر أنه على الأصل . ومن الناس من أنكر الدعاء قال : لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مراداً في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه .

وأيضاً إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطب ما ليس بنافع له . وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى . والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط ، ولو لم يكن فيه إلاّ معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة ، ولهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم وآله : « ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء » إلا أنه لا بد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة ، وإليهما أشار بقوله : { تضرعاً وخفية } ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله : { وإذا سألك عبادي عني } [ البقرة : 186 ] ثم ختم الآية بقوله : { إنه لا يحب المعتدين } وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند إطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن إيصاله الثواب والخير إلى العبد ، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة ، وأن كونه مريداً لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها ، وكونه مريداً لأفعال غيره هو كونه آمراً بها . وأما الأشاعرة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب . وقال بعض العلماء : إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها . غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال . إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب أو إرادة الإيصال؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء . نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئياً ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان . ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه . وقال الكلبي وابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ويؤيده أنه أمر بالدعاء مقروناً بالإخفاء وظاهره الوجوب إذ قد أثنى على زكريا فقال : { إذ نادى ربه نداء خفياً } [ مريم : 3 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية » وعنه صلى الله عليه وسلم « خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي » وعنه صلى الله عليه وآله : « سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين »

ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء أم الإظهار فقيل : الأولى الإخفاء صوناً لها عن الرياء . وقيل : الأولى الإظهار ليرغب غيره في الاقتداء . وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال : إن كان خائفاً على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء ، وإن بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً من شائبة الرياء فالأولى في حقه الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء . قال الشافعي : إظهار التأمين أفضل . وقال أبو حنيفة : الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى على ما قيل فكذلك لقوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة } فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ، ثم نهى عن مجامع المفاسد والمضار بقوله : { ولا تفسدوا في الأرض } فيدخل فيه خمسة أشياء : المنع من إفساد النفوس بالقتل ، ومن إفساد الأموال بقطع الطريق والسرقة ، وإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف ، وإفساد العقول بشرب المسكرات ، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة ، وذلك أن قوله : { لا تفسدوا } منع عن إدخال ماهية الفساد في الوجود والمنع من الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه . ومعنى : { بعد إصلاحها } بعد أن أصلح خلق الأرض على الوجه المطابق لمنافع الخلق الموافق لمصالح المكلفين ، أو المراد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع ، فإن الإقدام على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع يقتضي وقوع الهرج والمرج وحدوث الفتن في الأرض . وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار الحرمة فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام . وفيها أيضاً دلالة على أن كل عقد وقع التراضي به بين الخصمين فإنه منعقد صحيح لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح ، فإن وجدنا نصاً يدل على عدم صحة بعض تلك العقود قضينا فيه بالبطلان عملاً بالأخص . فجميع أحكام الله تعالى داخلة تحت عموم هذه الآية الدالة على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة كما كانت داخلة تحت عموم قوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] بأنها كانت تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ، فكل واحدة من الآيتين مطابقة ومؤكدة للأخرى ، ثم لما بين أن الدعاء لا بد أن يكون مقروناً بالتضرع والإخفاء وبعدم المنافي وهو الإفساد بالوجوه الخمسة ، ذكر أن فائدة الدعاء والباعث عليه أحد الأمرين الخوف من العقاب والطمع في الثواب . واعترض عليه بأن أهل السنة يقولون : التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية أي كونه إلهاً لنا ، وكوننا عبيداً له اقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ولا يعتبر فيه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً .

والمعتزلة يقولون : إنها وردت لأنها في نفسها مصالح . فعلى القولين من أتى بها للخوف من العقاب والطمع في الثواب لم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا يصح . وأجيب بأن المراد من الآية ادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها أي كونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في جميع أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم قد أديتم حق ربكم كقوله : { والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة } [ المؤمنون : 6 ] . والجواب الصحيح عندي أن غاية التكليف من الآمر غير غايته من المأمور إذاً فهب أن الغاية الأولى هي المصلحة أو الإلهية والعبودية فلم لا يجوز أن تكون الغاية الثانية الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب؟ ثم ختم الآية بقوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ظاهره أن يقال قريبة . وذكروا في حذف علامة التأنيث وجوهاً : فقيل : لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي . وقال الزجاج : لأن الرحمة غير حقيقي . وقال الزجاج : لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد ، أو لأن المراد بالرحمة الترحم أو الرحم . وقيل : إنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب ، أو شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول كما شبه ذاك به فقيل : قتلاء وأسراء ، وقيل : لأنه بزنة المصدر كالنقيض صوت العقبان أو الدجاجة والضغيب صوت الأرنب . وقيل : المراد ذات مكان قريب كلابن وتامر ، وروى الواحدي بإسناده عن ابن السكيت تقول العرب : هو قريب مني وهما قريب مني وهي قريب لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني . قال بعض المفسرين : معنى هذا القرب أن الإنسان يزداد بعداً عن الماضي وقرباً من المستقبل أي الآخرة التي هي مقام رحمة الله . ويمكن أن يقال : المراد به قرب الحصول سواء كان في الدنيا أو في الآخرة كقوله : { ألا إن نصر الله قريب } [ البقرة : 214 ] قالت المعتزلة : إن ماهية الرحمة لما كانت حصة المحسنين وجب أن لا يحصل للكافر والفاسق منها شيء ، والغرض أن صاحب الكبيرة لا يكون له نصيب من العفو . وأجيب بأن المحسن من صدر عنه الإحسان ولو من بعض الوجوه ، فكل من آمن بالله تعالى وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن والدليل عليه الإجماع . على أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فإنه يسمى مؤمناً محسناً ، على أن قوله ماهية الرحمة نصيب المحسنين ممنوع لأن الكافر أيضاً في رحمة الله ونعمته في الدنيا بدليل قوله : { ومن كفر فأمتعه } [ البقرة : 126 ] ثم إنه سبحانه لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي أتبعه ذكر الدلائل من أحوال هذا العالم وهي الآثار العلوية من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها أحوال الرياح والسحب والأمطار .

وأيضاً لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العليم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر ليتم بالآيتين تقرير المبدأ والمعاد فقال : { وهو الذي يرسل الرياح } الريح هواء متحرك ، وتحركه ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا دام بدوام الذات ، فهو بتحريك الفاعل المختار . قالت الحكماء : من أسباب الريح أن يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنت تسخيناً شديداً ، فبسبب تلك السخونة ترتفع وتتصاعد ، فإذا وصلت إلى قريب من الفلك فإن الهواء الملتصق بمقعر الفلك يمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها لتحرك تلك الطبقة على الاستدارة تشيعاً للفلك ، فحينئذٍ ترجع الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب تفرقها تحصل الرياح . وكلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد فكانت الرياح أقوى ، وزيف بأن صعود تلك الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها بالعرض ، فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة بردت فامتنع صعودها إلى الطبقة العليا المتحركة بحركة الفلك . سلمنا أنها تصعد إلى الطبقة المتحركة بالاستدارة لكن رجوعها يجب أن يكون على الاستقامة كما هو مقتضى طبيعة الأرض لكنها تتحرك يمنة ويسرة . وأيضاً إن حركة تلك الأجزاء لا تكون قاهرة فإن الرياح إذا أصعدت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها ، ونحن نرى هذه الرياح تقلع الأشجار وتهدم الجبال وتموج البحار ، وأيضاً لو كان الأمر على ما قالوا لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر وليس كذلك ، لأنه قد توجد الرياح العاصفة في وجه البحر وليس فيها شيء من الغبار . ويمكن أن يجاب بأن الحكم بامتناع الصعود استبعاد محض وحديث الرجوع على الاستقامة مبني على أن الريح هي تلك الأجزاء الراجعة فقط وليس كذلك ، فإن الراجع إذا خرق الهواء حدث فيما يجاوره من الهواء تحرك واضطراب وتموج شبه ما يحدث في الماء إذا ألقي فيه حجر ، وكذا الكلام في الوجهين الباقيين . وقال المنجمون : قد يحدث بسبب وصول كوكب معين إلى موضع معين من البروج ريح عاصفة ، وزيف بأنه لو كان كذلك لزم تحرك كل الهواء . والجواب أن وصول الكوكب إلى الموضع الفلاني إنما يوجب تحرك الهواء بتسخين أو تلطيف أو تكثيف يحدث في بعض المواد المستعدة لذلك فيطلب ذلك القابل مكاناً أكثر أو أقل مما كان عليه ، فيلزم من ذلك تحرك الهواء المجاور له لاستحالة التداخل والخلاء لا يتدافع إلى أن يتحرك جميع كرة الهواء بل يتموج بعض أجزاء الهواء ثم يستقر كل في موضعه ، ويختلف مقدار ذلك بحسب المؤثر والمتأثر والكل يستند إلى تدبير الله سبحانه وتقديره ، وإنما قال في هذه السورة { يرسل الرياح } بلفظ المستقبل وكذا في « الروم » لأن ما قبله ههنا ذكر الخوف والطمع وأنهما يناسبان المستقبل ، وأما في « الروم » فليناسب ما قبل

{ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } [ الروم : 46 ] وقال في الفرقان : { أرسل الرياح } [ الفرقان : 48 ] بلفظ الماضي ليناسب ما قبله : { كيف مد الظل } [ الفرقان : 45 ] وما بعده { وهو الذي جعل } [ الفرقان : 62 ] وكذا في « فاطر » مبني على أول السورة { فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة } [ فاطر : 1 ] وهما بمعنى الماضي والله تعالى أعلم . أما قوله : { نشراً } بنون مفتوحة وشين ساكنة فإنه مصدر نشر . وانتصابه إما على الحال بمعنى منتشرات وإما لأن أرسل ونشر متقاربان كأنه قيل : نشرها نشراً . ومن قرأ { نشراً } بضمتين فلأنه جمع نشور كرسول ورسل ، وقد تخفف كرسل ، ومن قرأ { بشراً } بضم الباء الموحدة وسكون الشين فلأنه مخفف بشر جمع بشير . ومعنى : { بين يدي رحمته } أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أجلِّ النعم وأحسنها وهذا بحسب الأغلب ، فإن المطر قلما لا يتقدمه رياح يسلطها الله تعالى على السحاب والعرب تستعمل اليدين بدل قدام وأمام مجازاً لأن اليدين من الحيوان متقدمان على الرجلين . { حتى إذا أقلت } حملت ورفعت واشتقاقه من القلة لأن الرافع الذي يقدر على حمل الثقيل يزعم أن ما يرفعه قليل { سحاباً } جمع سحابة ولهذا قال : { ثقالاً } على الجمع جمع ثقيلة والضمير في { سقناه } يعود إلى السحاب على لفظه ، وضمير المتكلم في { سقناه } على أصله . وأما الذي في قوله : { وهو الذي } فعلى طريقة الالتفات وإلا فالظاهر أن يقال : نحن أرسلنا . واعلم أن السحاب المستمطر للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً . ولتلك الحركات فوائد منها : أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر ثم تصير متفرقة . ومنها أن تتحرك الرياح يمنة ويسرة فتمنع الأجزاء المائية الرشية عن النزول فيبقى معلقاً في الهواء . ومنها أن ينساق السحاب إلى موضع علم الله احتياجهم إلى نزول الأمطار ، ومن الرياح مقوية للزروع والأشجار ومكملة لما فيها من النشوء والنماء وهي اللواقح . ومنها مبطلة لها كما في الخريف . ومنها طيبة لذيذة وموافقة للأبدان . ومنها مهلكة للحر الشديد كالسموم أو البرد الشديد . ومنها مشرقية ومغربية وشمالية وجنوبية ، وبالحقيقة تهب الرياح من كل جانب ولكنها ضبطت كذلك ، وقد يصعد الريح من قعر الأرض فقد يشاهد غليان شديد في البحر بسبب تولد الرياح في قعره ثم لا يزال يتزايد ذلك الغليان إلى أن ينفصل الريح إلى ما فوق البحر ، وحينئذٍ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر ، وعن ابن عمر : الرياح ثمان : أربع منها عذاب وهو العاصف والقاصف والصرصر والعقيم ، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وعن النبي صلى الله عليه وآله :

« نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة » وعن كعب : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض ، وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب ، ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فينزل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك برحمته وهي المطر . ومعنى { لبلد ميت } أي لأجل بلد ميت ليس فيه نبات ولا زرع ، والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خالٍ أو مسكون . { فأنزلنا به الماء } قال الزجاج وابن الأنباري : أي بالبلد . وجائز أن يراد بالسحاب أو بالسوق فالباء للسببية . { فأخرجنا به } قال الزجاج : أي بالبلد . { من كل الثمرات } ويجوز أن يراد أي بالماء . قال جمهور الحكماء : إنه تعالى أودع في الماء قوّة وطبيعة توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب . وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار ليست متولدة من الماء وإنما أجرى الله تعالى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب { كذلك } مثل ذلك الأخراج وهو إخراج الثمرات . { نخرج الموتى } فالتشبيه إنما وقع في أصل الإحياء أي كما أحيا هذا البلد وأنبت فيه الشجرة وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا تراباً لأن من قدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه كان قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت . وقال كثر من المفسرين : المراد أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الماء كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال مطر على الأجساد الرميمة . يروى أنه يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطر كالمني أربعين يوماً فينبتون عند ذلك أحياء . وعن مجاهد : تمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها . قال العلماء : إن هؤلاء المفسرين ذهبوا إلى هذا بناء على النقل وعلى إجراء العادة وإلا فإنه تعالى قادر على خلق الحياة في الجسم ابتداء من غير واسطة المطر كما أنه يجمع بقدرته الأجزاء المتفرقة والمتمزقة غاية التفرق والتمزق ولهذا ختم الآية بقوله : { لعلكم تذكرون } والمعنى أنكم شاهدتم أن الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف والخريف بالأزهار والثمار والأشجار ثم صارت وقت الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ، ثم أحياها مرة أخرى ، فالقادر على إحيائها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها ، ثم ضرب الله سبحانه مثلاً للمؤمن والكافر وشبه القرآن بالمطر ، وذلك أن الأرض الحرة إذا نزل بها المطر حصل فيها أنواع الأزهار والثمار والأرض السبخة بعد نزول المطر لا يخرج منها إلا النزر القليل من النبات ، فكذلك النفس الطاهرة النقية من شوائب الأخلاق الذميمة إذا اتصل بها أنوار القرآن ظهرت عليها أنواع المعارف والأخلاق الفاضلة ، والنفس الخبيثة لا ترجع من ذلك إلا بخفي حنين .

وقيل : ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة . فمن يطلب هذا النفع اليسير فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لابد منها ومن تحملها في أداء الطاعات كان أولى . وفي الآية دلالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس ، لأنها دلت على أن الأرواح قسمان : منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ومنها ما تكون بالضد لا تقبل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كالأرض السبخة التي لا يتولد فيها الأشجار والأنهار والثمار . ومما يقوّي هذا الكلام أن النفوس نراها مختلفة في الصفات؛ فمنها مجبولة على حب الإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانيات كقوله تعالى : { ترى أعينهم تفيض من الدمع } [ المائدة : 83 ] { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } [ البقرة : 273 ] ومنها قاسية قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة ، ومنها مائلة إلى الشهوة دون الغضب ، ومنها على العكس ، ومنها راغبة في المال دون الجاه ، ومنها بالخلاف ومن الراغبين في المال من يرغب في العقار دون الأثمان والنقود ، ومنهم من هو بالعكس . ومما يؤكد هذه المعاني قوله سبحانه وتعالى : { بإذن ربه } أي بتيسيره وهو في موضع الحال كأنه قيل : يخرج نباته حسناً كاملاً لوقوعه في طباق { نكداً } والنكد الذي لا خير فيه . وتقدير الآية ونبات البلد الخبيث لا يخرج ، أو البلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه وهو الضمير الراجع إلى البلد مقامه فانقلب مرفوعاً مستكناً بعد أن كان مجروراً بارزاً . من قرأ { نكداً } بفتح الكاف فعلى المصدر أي ذا نكد { كذلك } مثل ذلك التصريف نردّد الآيات ونكررها { لقوم يشكرون } نعمة الله لأن فائدة التصريف تعود عليهم وإنما ختم الآية بالحث على الشكر لأن الذي سبق ذكره هو أن الله تعالى يرسل الرياح النافعة فيجعلها سبباً للمطر الذي هو سبب الملاذ والطيبات فهذا يدل من أحد الوجهين على وجود الصانع وقدرته ، ومن الوجه الثاني على عظيم نعمته وقدرته فوجب من هذا الوجه مقابتلها بالشكر والله أعلم .
التأويل : عرّف ذاته للخلق بصفات الهوية والألوهية والقادرية والخالقية والمدبرية والحكيمية والاستوائية فقال : { إن ربكم الله } الآية وإنما خص ستة أيام لأن أنواع المخلوقات ستة : الأوّل الأرواح الإنسانية ( ب ) الملكوتيات منها الملائكة والجن والشياطين وملكوت السموات والأرض ومنها العقول المفردة والمركبة .

( ج ) النفوس السماوية الأرضية . ( د ) الأجرام البسيطة العلوية كالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار . ( ه ) الأجسام البسيطة السفلية وهي العناصر ، والأجسام الكثيفة المركبة من العناصر ، فلما خلق الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه . وخص العرش بالاستواء لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القبلة للفيض الرحماني . والاستواء كالعلم صفة من صفاته لا يشبه استواء المخلوقين كما أن علمه لا يشبه علم المخلوقين . ومن أسرار الخلافة الروح تتصرف في النطفة أيام الحمل فتجعلها عالماً صغيراً ، فبدنه كالأرض . ورأسه كالسماء والقلب كالعرش ، والسر كالكرسي ، والقلب يقسم فيض الروح إلى القالب كما أن العرش يقسم فيض الإله إلى سائر المخلوقات { يغشى } أي يستولي ليل ظلمات النفس وصفاتها على نهار أنوار القلب وبالعكس . { ألا له الخلق } بواسطة { الأمر } بلا واسطة { ادعوا ربكم تضرعاً } بالجوارح { وخفية } بالقلوب . أو تضرعاً بأداء حق العبودية وخفية بمطالب حق الربوبية { إنه لا يحب المعتدين } الذين يطلبون منه سواه { ولا تفسدوا } في أرض القلوب بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط . { وادعوه خوفاً } من الانقطاع { وطمعاً } في الاصطناع ، أو خوفاً من الاثنينية وطمعاً في الوحدة ، أو خوفاً من الانفصال وطمعاً في الوصال . { إن رحمة الله قريب من المحسنين } الذين لا يرون سواه يرسل رياح العناية فينشر سحاب الهداية سحاباً ثقالاً بأمطار المحبة ، سقناه لكل قلب ميت فأنزلنا به ماء المحبة فأخرجنا به ثمرات المكاشفات والمشاهدات ، كذلك نخرج موت القلوب من قبور الصدور ولعلكم تذكرون أيام حياتكم في عالم الأرواح إذ كنتم في رياض القدس وحياض الأنس . والبلد الطيب الحي يتخلق بأخلاقه الحميدة { كذلك نصرف الآيات } أي النفوس وصفاتها إلى أوصاف القلب وأخلاقه .


لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

القراآت : { إله غيره } بالجر على الوصف حيث كان : يزيد وعلي الباقون بالرفع حملاً على محل { من إله } { إني أخاف } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير { أبلغكم } بالتخفيف حيث كان : أبو عمرو . والباقون : بالتشديد . عباس : بالاختلاس { بصطة } بالصاد : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل وعاصم وعلي وسهل وشجاع وابن الأخزم عن ابن ذكوان الحلواني عن قالون مخيراً .
الوقوف : { غيره } ط { عظيم } ه { مبين } ه { العالمين } ه { لا يعلمون } ه { ترحمون } ه { بآياتنا } ط { عمين } ه { هوداً } ط { غيره } ط { تتقون } ه { الكاذبين } ه { العالمين } ه { أمين } ه { لينذركم } ط لتناهى الاستفهام { بسطة } ج تنبيهاً على الإنعام العام بعد ذكر إنعام خاص مع اتفاق الجملتين { تفلحون } ه { آباؤنا } ج للعدول مع فاء التعقيب { الصادقين } ه { وغضب } ط { من سلطان } ج لانتهاء الاستفهام إلى أمر التهديد { المنتظرين } ه { مؤمنين } ه .
التفسير : لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل قاهرة وبينات باهرة شرع في قصص الأنبياء وفي ذلك فوائد منها ، التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول الدلائل عادة معتادة فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها بيان سوء عاقبة المستكبرين وحسن عقبى المطيعين وفي ذلك تقوية قلوب المحقين وكسر قلوب المبطلين . ومنها التنبيه على أن الله سبحانه لا يهمل المبطلين وإن كان يمهلهم . ومنها العظة والاعتبار { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] ومنها الدلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث إنه إخبار بالغيب لأنه أمي لم يقرأ الكتب فيكون قد عرف ذلك بالوحي لا محالة . فمن القصص أولاها قصة آدم وقد مرت في أوّل السورة . الثانية قصة نوح وهو نوح بن لمك بن مثوشلخ بن أخنوخ ، وأخنوخ اسم إدريس . قيل : كان اسمه يشكر فسمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه فأهلكوا فندم ، أو حين راجع ربه في شأن ابنه ، أو حين مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك . قال الله له : أعبتني إذ خلقته أم عبت الكلب؟ وهذه الوجوه متكلفة فإن الإعلام لا تفيد صفة في المسمى . والصحيح أنه اسم أعجمي . قال ابن عباس : معنى أرسلنا بعثنا . وقال آخرون : معناه أنه تعالى حمله رسالة يؤدّيها ، فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث كالتابع لا أنه أصل . قال في التفسير الكبير : وهذا البحث مبني على مسألة أصولية هي أن الرسول أرسل إلى قوم ليعرّفهم أحكاماً لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم ، أو الغرض من بعثته مجرد تأكيد ما في العقول . وهذا الاختلاف بتفاريع المعتزلة أليق ، أمرهم نوح بعبادة الله ثم حكم بأنه لا إله إلا الله ثم حذرهم عذاب يوم عظيم هو القيامة أو الطوفان ، ولم يذكر دليلاً على هذه الدعاوى الثلاث لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهور المعجزة حجة ، أو لعله قد ذكر الحجج وما حكاها الله تعالى لأنه قد علم من القرآن ذم التقليد في مواضع كثيرة فيعلم أن نبي الله لا يأمر قومه بالتقليد المحض ، وأيضاً قد مر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة القرآن من أول سورة البقرة إلى ههنا غير مرة ، فوقع التعويل على ذلك هذا مع أن الحكم الثاني كالعلة للأوّل لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلاً منه ، ونهاية الإنعام توجب غاية التعظيم ومن هنا قال بعض العلماء : لا يحسن منا عبادة الله تعالى قبل العلم بأنه واحد لأنا إذا جوّزنا التعدد لم يتعين المنعم فتقع العبادة ضائعة ، والإله معناه المستحق للعبادة وإلا فهو في الأزل غير معبود .

ومعنى الخوف في الآية قال بعضهم : الجزم واليقين فإنه كان جازماً بنزول العذاب بهم عاجلاً وآجلاً . وقال آخرون : الشك لأنه كان يجوّز إيمانهم ومع هذا التجويز كيف يجزم بالعذاب ، أو لعل السمع لم يرد بعد فلهذا كان متوقفاً ، أو لعله وصف العذاب بالعظم ولكنه جر على الجوار . ثم إنه تردد في وصف العذاب بالعظم لا في نفس العذاب . وقيل : المراد من الخوف التحذير . وجملة قوله : { إني أخاف } بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون الأصنام { فقال الملأ من قومه } أي الأشراف وصدور المجالس الذين هم بعض قومه في جواب نوح { إنا لنراك في ضلال } في ذهاب عن طريق الحق . والصواب مبين بين والرؤية رؤية القلب بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والبديهة . نسبوه إلى الضلال فيما ادعاه من التكليف والتوحيد والنبوّة والمعاد { قال يا قوم ليس بي ضلالة } لم يقل ضلال ليكون أبلغ في عموم السلب كأنه قال : ليس بي نوع من أنواع الضلال ، ثم لما نفى عن نفسه العيب الذي نسب إليه وصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها فاستدرك قائلا : { ولكني رسول من رب العالمين } وهذا الاستدراك يسمى في علم البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم . وفي ذلك بيان فرط جهالتهم وعتوّهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال الظاهر الذي لا ضلال بعده ، وفيه أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز . ثم ذكر ما هو المقصود من البعثة وهو أمران : الأول تبليغ الرسالة ، والثاني تقرير النصيحة فقال { أبلغكم } الآية . والجملة استئناف بيان لكونه رسولاً من رب العالمين ، أو صفة لرسول . وإنما جاز أن تكون صفة ولفظ الرسول غائب نظراً إلى المعنى كقوله : أنا الذي سمتن أمي حيدره { رسالات ربي } ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة ، أو ما أوحي إليّ في المعاني المختلفة في الأوامر والنواهي .

وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا . ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده إدريس وهي ثلاثون صحيفة ، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة { وأنصح لكم } قال الفراء : العرب لا تكاد تقول نصحتك وإن كان جائزاً ولكن تقول نصحت لك . قال في الكشاف : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة . وحقيقة النصح الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكر . ومعنى الآية : وأبلغكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصلح الأصوب وأدعوكم إلى ما دعاني الله تعالى وأحب لكم ما أحب لنفسي { وأعلم من الله ما لا تعلمون } أي أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان ، وذلك أنهم لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم أو أعلم أن الله يعاقبكم في الآخرة عقاباً ، أو أعلم من توحيد الله من صفات جلاله ما لا تعلمون ، ويكون المقصود حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم . { أو عجبتم } الهمزة للإنكار ، والمعطوف محذوف والتقدير : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم . قال الحسن : يعني الوحي الذي جاءهم به . وقال آخرون : الذكر المعجز كتاباً أو غير كتاب . وقيل : هو الموعظة { على رجل } أي على لسانه قاله ابن قتيبة ونظيره { آتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] وقال الفراء « على » معنى « مع » تقول : جاءنا الخبر على وجهك ومع وجهك كلاهما جائز . وقيل : أي منزل على رجل . ومعنى { منكم } من بني نوعكم كأنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لاعتقادهم أن المقصود من الإرسال التكليف ، وأن التكليف لا منفعة فيه للمعبود لتعاليه ولا للعابد لتضرره في الحال ، وأما في المآل فالله تعالى قادر على تحصيلة بدون واسطة التكليف . وأيضاً إن العقل كافٍ في معرفة الحسن والقبيح ، وما لا يعلم حسنه ولا قبحه فإن كان المكلف مضطراً إليه فعل لأنه تعالى لا يكلف ما لا يطاق ، وإن لم يكن مضطراً إليه ترك حذراً عن الخطر وبتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لشدة بطشهم ووفور عصمتهم وطهارتهم واستغنائهم عن الأكل والشرب والنكاح ، وبتقدير جواز كون النبي من البشر فلعلهم اعتقدوا أن من كان فقيراً خاملاً لا يصلح للنبوّة فأنكر نوح عليه السلام كل هذه الأشياء لأنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عباده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء المنافي للتكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول ملكاً لأن الجنس إلى الجنس أسكن وقد مر في أوّل « الأنعام » .

ثم بين ما لأجله يبعث الرسول فقال { لينذركم } الآية . وإنه ترتيب أنيق لأن المقصود من البعثة الإنذار ، ومن الإنذار التقوى ، ومن التقوى الفوز برحمة الله . قال الجبائي والكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من المبعوث إليهم إلا التقوى والفوز بالجنة دون الكفر والعذاب ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً { فكذبوه } في ادعاء النبوّة وتبليغ التكاليف وأصروا قال بعض العلماء : ما في حق العقلاء من التكذيب فبغير الباء نحو كذبوا رسلي وكذبوه ، وما في حق غيرهم فبالباء نحو كذبوا بآياتنا . والتحقيق أن المراد كذبوا رسلنا برد آياتنا { فأنجيناه والذين } استقروا { معه في الفلك } وأنجيناهم في السفينة من الطوفان . قيل : كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة . وقيل : كانوا تسعة وهم بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به . وإنما قال في سورة يونس { فنجيناه ومن معه في الفلك } [ الآية : 73 ] لأن التشديد للتكثير ولفظة من أدل على العموم ولهذا يقع على الواحد والتثنية والجمع والذكر والمؤنث بخلاف الذين { إنهم كانوا قوماً عمين } قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوّة والمعاد . وقال أهل اللغة : يقال رجل عمٍ في البصيرة وأعمى في البصر . فالعمى يدل على عمّى ثابت والعامي على عمّى حادث .
القصة الثالثة قصة هود وذلك قوله سبحانه { وإلى عاد أخاهم هوداً } والتقدير لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً . واتفقوا على أن هوداً ما كان أخاهم في الدين . ثم قال الزجاج : معناه أنه كان من آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة والجن . وقيل : أراد واحداً منهم قاله الكلبي ، وهو من قولك يا أخا العرب لواحد منهم ، وقيل : خص واحداً منهم بالإرسال إليهم ليكونوا أعرف بحاله في صدقه وأمانته . وقيل : معناه صاحبهم . والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم قال صلى الله عليه وسلم « إن أخاكم أذن وإنما يقيم من أذن » يريد صاحبهم . ونسبه هود بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح { وهوداً } عطف بيان لأخاهم . وأما عاد فهم كانوا باليمين بالأحقاف . قال ابن إسحق : والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت . واعلم أن ألفاظ هذه القصة بعضها يوافق الألفاظ المذكورة في قصة نوح وبعضها يخالفها فلنبين أسرارها فمنها قوله هناك { فقال يا قوم اعبدوا الله } وههنا { قال يا قوم } والفرق أن نوحاً عليه السلام كان مواظباً على دعوتهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة ، وأما هود فما كان جدّه إلى هذا الحد فلا جرم جاء بالتعقيب في قصة نوح دون قصة هود . ويمكن أن يقال : لما أضمر { أرسلنا } أضمر الفاء لأن الداعي إلى الفاء { أرسلنا } وفي الكشاف أن هذا وارد على سبيل الاستئناف .

ومنها قوله : { ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } وفي قصة هود { ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } لأن واقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح فوقع الاقتصار على ذلك أي لعلكم تحذرون مثل ذلك العذاب العظيم الذي اشتهر خبره في الدنيا . ومنها { قال الملأ من قومه } وفي قصة هود { قال الملأ الذين كفروا من قومه } إما أن هذا وصف وارد للذم لا غير ، وإما أنه لم يكن في أشراف قوم نوح من يؤمن وكان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فأريد التفرقة بالوصف . ومنها أن قوم نوح { قالوا إنا لنراك في ضلال مبين } وقوم هود { قالوا إنا لنراك في سفاهة } أي متمكناً منها تمكن المظروف من الظرف . وذلك أن نوحاً كان يخوّفهم بالطوفان العام وكان يشتغل بإعداد السفينة مدّة طويلة فوصفوه بضعف الرأي والبعد عن السداد . وأما هو فما ذكر شيئاً إلا أنه زيف معتقدهم في عبادة الأصنام وطعن فيها فقابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة وخفة العقل حيث فارق دين قومه . ثم قالوا { وإنا لنظنك من الكاذبين } في ادعاء الرسالة . قيل : الظن بمعنى الجزم واليقين كقوله { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [ البقرة : 46 ] قال الحسن والزجاج : كانوا شاكين فيعلم أن الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر . ومنها قول نوح { وأنصح لكم } وقال هود { وأنا لكم ناصح } وذلك لأنه كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، وصيغة الفعل دلت على التجدد المستمر ولهذا { قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } [ نوح : 5 ] إلى آخر الآيات . وأما هود فكان ثابتاً على النصح غير مجدد إياه لحظة فلحظة كما كان يفعل نوح . ثم إن نوحاً عليه السلام قال { وأعلم من الله ما لا تعلمون } لأنه كان يعلم من أسرار الله تعالى ما لم يصل إليه هود فلا جرم أمسك هود لسانه واقتصر على وصف نفسه بكونه أميناً ثقة أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فليس من حقي أن آتي بالكذب والغش . أو المراد تقرير الرسالة فإنها تدور على الأمانة أي أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه ، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه . وفي هذين الجوابين عن مثل ذينك الشخصين مع جلالة قدرهما دليل على أن الحكيم يجب أن لا يقابل السفهاء إلا بالكلام المبني على الحلم والإغضاء . ومنها أن هوداً اقتصر على قوله { لينذركم } لما مر في قصة نوح أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة فلم يكن حاجة إلى الإعادة ولكنه ضم إلى ذلك شيئاً آخر يختص بهم فقال { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً قد استخلفكم فيها بعدهم وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأملاكهم وما يتصل بها من المنافع ، « وإذا » مفعول به لا ظرف أي اذكروا وقت جعلكم خلفاء { وزادكم في الخلق بسطة } فالخلق التقدير وقلما يطلق إلا على الشيء الذي له مقدار وحجمية .

والمراد حصول الزيادة في أجسامهم زيادة خارقة للعادة وإلا لم تذكر في معرض الامتنان . قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً . وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يد الإنسان إذا رفعها كانوا يفضلون على أهل زمانهم بهذا القدر . ومنهم من حمل اللفظ على الزيادة في القوة ، ومنهم من قال : الخلق الخليقة وبسطتهم فيهم كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدّة والجلادة متناصرين متوادّين { فاذكروا آلاء الله } في استخلافكم وبسطة أجرامكم وفيما سواهما من عطاياه وآلاء الله نعمه واحدها إلى ونحوه أني وآناء كعنب وأعناب . قال الجوهري : واحدها إني بالفتح وقد يكسر ويكتب بالياء . استدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرية بالآية قالوا : إنه تعالى رتب حصول الفلاح على مجرد التذكر . وأجيب بأن الآيات بالدالة على وجوب العمل مخصصة أو مقيدة والتقدير : فاذكروا آلاء الله واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام لعلكم تفلحون . ذكرهم نبيهم نعم الله عليهم ليرجعوا إلى عقولهم فيعلموا أن العبادة نهاية التعظيم ولا تلق إلا بمن صدر عنه نهاية الإنعام وليس للأصنام على الخلق شيء من النعم لأنها جماد والجماد لا قدرة له أصلا فلم يكن للقوم جواب عن هذه الحجة إلا التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم { أجئتنا لنعبد الله وحده } الهمزة لإنكار اختصاص الله وحده بالعبادة . وفي المجيء أوجه منها : أن يكون لهود معتزل يتحنث فيه أي يتعبد كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم . ومنها الاستهزاء اعتقاداً منهم أن الله لا يرسل إلا ملكاً فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك؟ ومنها أن يراد به القصد كما يقال : ذهب يشتمني ، ولا يراد حقيقة الذهاب كأنهم قالوا : أتعرضت لنا بتكليف عبادة الله وحده أي منفرداً عن الأصنام وهو من المعارف التي وقعت حالاً بتأويل . ولا يمكن أن يكون وحده ههنا اعترافاً كما يقول الموحد لا إله إلا الله وقال الله وحده لأن الفرض أنهم مشركون . ثم إن قول هود فيما قبل { أفلا تتقون } كان مشعراً بالتهديد والوعيد فلهذا استعجلوا العذاب زعماً منهم أنه كاذب وذلك قولهم { فأتنا بما تعدنا } فأجابهم هود بقوله { قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } ولا بد أن يحملا على معنييين متغايرين لمكان العطف . أما الغضب في حقه تعالى فإرادة إيقاع السوء كما سبق مراراً ، وأما الرجس فقيل : العذاب .

اعترض عليه بلزوم التكرار . وقيل : العقائد المذمومة والصفات القبيحة . وذلك أن الرجس ضد التطهير كما قال سبحانه في صفة أهل البيت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } [ الأحزاب : 33 ] وقال القفال : الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كما قال { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وهذا التفسير أخص . أما قوله { قد وقع } ولم يقع العذاب بعد ففيه وجوه : قال بعض من يقول بأن إرادة الله تعالى حادثة : معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت . وقيل : أراد هود أنه أخبر بنزول العذاب . وقيل : جعل المتوقع الذي لا شك فيه بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب منك حاجة قد كان ذلك . تريد أنها ستكون ألبتة . وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء أباه يبكي فقال له : يا بني ما لك؟ فقال : لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة فضمه إلى صدره وقال : يا بني قد قلت الشعر .
ثم أنكر عليهم قبيح فعالهم فقال { أتجادلونني في أسماء } تناظرونني في شأن آلهة أشياء ما هي إلا أسماء { سميتموها } أحدثتموها { أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } أي لا حجة على حقيقتها فتنزل . والحاصل أنها أسماء بلا مسميات لأنكم تسمونها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم محال . سموا واحداً بالعزي مشتقاً من العز وما أعطاه الله تعالى عزاً أصلاً . وسموا آخر منها باللات من الإلهية وماله من الإلهية أثر . وإنما قال في هذه السورة نزل وفي غيرها مما سيجيء { أنزل } لأن « نزل » للتكثير فيكون للمبالغة ويجري ما بعده مجرى التفصيل للجملة ، أو أنواع للجنس والله أعلم . ثم إنه ذكرهم وعيداً محدوداً فقال { فانتظروا } سوء عاقبة هذه الأصنام { إني معكم من المنتظرين } عاقبة السوء أو عاقبة الحسنى وذلك قوله { فأنجيناه والذين معه برحمة } بسبب رحمة كانوا يستحقونها { منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } أي استأصلناهم ودمرناهم عن آخرهم وقد مر مثله في الأنعام . وفائدة نفي الإيمان عنهم في قوله { وما كانوا مؤمنين } مع إثبات التكذيب بآيات ربهم أن يكون تعريضاً بمن آمن منهم ، كمرثد بن سعد وغيره كأنه قيل : ولقد قطعنا دابر الذين كذبوا ولم يكونوا مثل من آمن منهم ، أو معنى { وما كانوا مؤمنين } في علم الله تعالى أي لم يكونوا من المكذبين الذي لو بقوا لآمنوا . قال في الكشاف : وإن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها . صداء وصمود والهباء فبعث الله هوداً نبياً وكان من أوسطهم وأشرفهم وأفضلهم حسباً فكذبوه وازدادوا عتواً وتجبراً ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا . وإن الناس كانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج من ذلك عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر ، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلاً منهم قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فلما نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان كانتا لمعاوية إحداهما وردة والأخرى جرادة ولما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا لأجله أهمه ذلك وقال : قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وما يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا أنه ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل قولاً نغينهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية :

ألا ياقيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماماً
ويسقي أوض عاد إن عاداً ... قد آمسوا ما يبينون الكلاما
الهينمة إخفاء الكلام في الدعاء وغيره ، ومعنى يسقينا يجعله ساقياً لنا . وقوله ما يبينون الكلام أي لا يكادون يفقهون قولاً من ضعفهم وسوء حالهم . فلما غنتا به قالوا : إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم . فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا يسقون بدعائكم ولكم إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه . فقالوا لمعاوية : أحبس عنا مرثداً لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء ياقيل اختر لنفسك ولقومك . فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث فاستبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا . فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فتعبدوا الله فيها حتى ماتوا .
التأويل : لقد أرسلنا نوح الروح إلى قومه ببلاد القوالب وهم القلب وصفاته والنفس وصفاتها ، ومن صفة الروح العبودية والطاعة دعوة القلب والنفس وصفاتها إلى الله وعبوديته ، ومن صفات النفس تكذيب الروح ومخالفته والإباء عن نصحه والتعجب { فكذبوا } يعني النفس وصفاتها نوح والروح { فأنجيناه والذين معه } في الفلك الشريعة { وأغرقنا } النفس وصفاتها في البحر الدنيا وشهواتها { إنهم كانوا قوماً عمين } عن رؤية الله والوصول إليه { وزادكم في الخلق بسطة } كما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم وفيما يرجع إلى المعاني { قد رفع عليكم من ربكم رجس وغضب } أي مقالتكم تدل على حالتكم أنه أصابكم سطوات العذاب . فمن أمارات الإعراض رد العبد إلى شهود الأغيار وتغريقه إياه في بحار الظنون والأوهام والجدال .


وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

القرآات : { وقال الملأ } بالواو : ابن عامر { إنكم } بحذف همزة الاسفهام : أبو جعفر ونافع وحفص وسهل . { أئنكم } بهمزتين : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير جفص ، وهشام يدخل بينهما مدة ، { آينكم } بالمد وبالياء : أبو عمرو وزيد . { أينكم } بالهمزة والياء : ابن كثير ويعقوب غير زيد . الوقوف : { صالحاً } ج لئلا يظن أن { صالحاً } صفة لا علم فالجملة بعده نعت له وهذا بخلاف اسم شعيب وغيره من الأعلام العربية { غيره } ط { من ربكم } ط { أليم } ه { بيوتاً } ط لما مر في قصة هود { مفسدين } ه { من ربه } ج { مؤمنون } ه { كافرون } ه { المرسلين } ه { جاثمين } ه { ناصحين } ه { من العالمين } ه { من دون النساء } ط لمكان الإضراب . { مسرفون } ه { من قريتكم } ج لاحتمال التعليل استهزاء { إلا امرأته } ز لاحتمال الاستئناف والأشبه أنها حال المرأة { من الغابرين } ه { مطراً } ط { المجرمين } ه .
التفسير : القصة الرابعة قصة صالح مع قومه ثمود . قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل . وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى . وإنه لا ينصرف تارة بتأويل القبيلة وينصرف أخرى بتأويل الحي ، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح . وقيل : إن ثمود أخو جديس وطسم . وقد ورد القرآن بالصرف وبمنعه جميعاً قال تعالى { ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود } [ هود : 68 ] { قد جاءتكم بينة } آية ظاهرة دالة على صدقي وكأنه قيل : ما تلك البينة فقال { هذه ناقة الله لكم آية } وانتصابها على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو حرف التنبيه من معنى الفعل أي أشير إليه أو أنبه عليها آية . و { لكم } بيان لمن هي له آية موجبة للإيمان وهو ثمود . وسبب تخصيص أولئك الأقوام بها مع أنها آية لكل أحد أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا بها وليس الخبر كالمعاينة . أو لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا هذه المعجزة بعينها على سبيل الاقتراح فأطهرها الله تعالى لهم فلهذا حسن التخصيص . وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها حيث جاءت مكونة من عنده من غير فحل وطروقة آية من آياته كما تقول : آية الله وبيت الله ، وبالحقيقة هي آية تشتمل على آيات . فخروجها من الجبل آية ، وكونها لا من ذكر وأنثى آية ، وكمال خلقها من غير تدريج ومهل آية ، وأن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم آية ، وكذا الكلام في قوتها المناسب للماء وفي غزارة لبنها ، وأنكر الحسن فقال : إنها لم تحلب قطرة لبن قط . ويروى أن جميع الحيوانات كانت تمتنع عن الورود في يوم شربها .

وقيل : سميت ناقة الله لأنه لا مالك لها سوى الله تعالى . وقيل : لأنها حجة الله على القوم { فذروها تأكل في أرض الله } أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فدعوها تأكل في أرض ربها ومما أنبت منها { ولا تمسوها بسوء } من الضرب والطرد وسائر أنواع الأذى إكراماً لآية الله . { فيأخذكم عذاب أليم } يعني أخذ الاستفزاز والاستئصال { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } تفسيره كما في قصة هود { وبوأكم في الأرض } أنزلكم فيها والمباءة المنزل والأرض أرض الحجر { تتخذون من سهولها } أي تبنون من سهول الأرض قصوراً بما تعملون من الأراضي السهلة لبناً وآجراً ورهصاً . واتصاب { بيوتاً } على الحال المقدرة كما تقول خط هذا الثوب قميصاً لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب قميصاً في حال الخياطة . ويجوز أن تكون من مقدرة اكتفاء بقوله : { من سهولها } كما جاءت في موضع آخر { تنحتون من الجبال بيوتاً فارهين } [ الشعراء : 149 ] فيكون منصوباً على أنه مفعول به . وقيل : المراد أنهم كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء { فاذكروا آلاء الله } يعني إني قد ذكرت لكم بعض نعم ربكم فاذكروا أنتم تمامها { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } قيل : نهى عن عقر الناقة والأولى حمله على العموم . وإعرابه قد مر في أوائل سورة البقرة . { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا } أي المساكين الذين استحقرهم رؤساء الكفار . وقوله { لمن آمن منهم } بدل من إلى الذين استضعفوا فيكون البدل بدل البعض ودل على أن المستضعفين فريقان مؤمنون وكافرون ، وإما أن يرجع إلى قومه فيكون البدل بدل الكل ودل على أن الاستضعاف من شأن أهل الإيمان يستحقرهم المستكبرون ، ولا يكون صفة ذم في حقهم وإنما الذم يعود إلى المستحقرين . وفي الآية دلالة على أن الفقر خير من الغنى لأن الإستكبار يتولد من كثرة المال والجاه والتصديق والانقياد ينشأ من قلتهما { أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه } قالوه على سبيل التهكم والسخرية لا للاستعلام والاسترشاد . { قالو إنا بما أرسل به مؤمنون } جعلوا إرساله أمراً بيناً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب وإنما الكلام في وجود الإيمان فنخبركم أنا به مؤمنون ولذلك { قال الذي استكبروا } في جوابهم { إنا بالذي أمنتم به كافرون فعقروا الناقة } قال الأزهري : العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ثم أطلق على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، وأسند العقر إلى جميعهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم لأنه كان برضاهم ، وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا ولعله لم يفعله إلا واحد منهم كقوله { وإذ قتلتم } [ البقرة : 72 ] { وعتوا عن أمر ربهم } استكبروا عن امتثاله . قال مجاهد : العتو الغلو في الباطل وأمر ربهم شأنه أي دينه ، أو المراد أمر به صالح من قوله { فذروها } { ولا تمسوها } والمعنى أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم فإن الإنسان حريص على ما منع .

{ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين } أطلقوا الوعد وأرادوا ما وعدهم من العذاب واستعجالهم العذاب إنما كان لأجل تكذيبهم بكل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد ، ولذلك علقوه بما كانوا ينكرونه وهو كونه من المرسلين { فأخذتهم الرجفة } قال الفراء والزجاج : هي الزلزلة الشديدة قال تعالى { يوم ترجف الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] قال الليث : هي كرجفان البعير تحت الرحل وكما ترجف الشجرة إذا أرجفتها الريح وهذا لا يناقض ما ورد في موضع آخر أنهم أهلكوا بالطاغية وفي آخر أنهم أهلكوا بالصيحة لأن الطغيان مجاوزة الحد . قال تعالى { إنا لما طغا الماء حملناكم } [ الحاقة : 11 ] فالزلزلة هي الحركة الخارجة عن الحد المعتاد ، والغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة الهائلة . { فأصحبوا في دارهم } أي في بلدهم كقولك : دار الحرب ودار الإسلام . وقد جمع في آية أخرى فقال : { في ديارهم } [ هود : 67 ] لأنه أراد بالدار ما لكل واحد من منزلة الخاص إلا أنه حيث ذكر الرجفة وحد وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصحية كأنها من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة . ومعنى { جاثمين } موتى لا حراك بهم . قال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط وتجمع قوائمها لترمى { فتولى عنهم } الفاء للتعقيب . فالظاهر أن صالحاً عليه السلام أدبر عنهم بعدما أبصرهم جاثمين وكأنه تولى وهو مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي } وحد الرسالة بخلاف ما مر في قصتي نوح وهود لأن المراد هناك أشياء كانا يأمران بها قومهما بعد الإيمان بالله ، وههنا وقع في آخر القصة فأراد بها مجموع ما أدى من الرسالة ، أو أراد بذلك أداء حديث الناقة فقط . { ونصحت لكم } لم آل جهداً في النصيحة { ولكن لا تحبون الناصحين } حكاية لحال ماضية . واعترض على هذا التفسير بأنه كيف يصح خطاب الموتى؟ وأجيب بأنه قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه في حياته فلم يصغ إليه يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة . والفائدة في مثل هذا الكلام أن يسمعه بعض الإحياء فيعتبر به . ولعل القائل أيضاً يتسلى بذلك وتزول بعض الغصة عن قلبه ويخف عليه ما نزل به ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب قتلى بدر وقال : يا فلان ويا فلان قد وجدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له : كيف تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال : ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب .

وتفسير آخر وهو أن يكون تولى غنهم تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب . وجملة قصتهم ما روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض فكثروا وعمروا أعماراً طوالاً حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش ، فعتوا عن أمر الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً . وصالح من أوسطهم نسباً . فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال : أية آية تريدون؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فندعو آلهتنا وتدعوا إلهك ، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا . فقال صالح : نعم . فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم . ثم قال سيدهم جندع بن عمرو ، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء ، والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدّقناك وأجبناك ، فأخذ صالح عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدّقن . قالوا : نعم . فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا ، وكانت في غاية العظم حتى قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة يعني - موضع بروكها - فوجدته ستين ذراعاً . ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع بقاياهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة وولدها ترعي الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غباً كما قال عز من قائل { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } [ الشعراء : 155 ] وذلك أن الماء كان عندهم قليلاً فجعلوا ذلك الماء بالكلية شرباً لها يوماً وشرباً للقوم يوماً . قال السدي : وكانت الناقة في اليوم الذي شرب فيه الماء تحلب فيكفي الكل فكأنها كانت تصب اللبن صباً ، وفي اليوم الذي يشربون الماء لا تأتيهم وكانت إذا وقع الحر تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطن الوادي ، وإذا وقع البرد كان الأمر بالعكس فشق ذلك عليهم وقال لهم صالح : يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبحوا تسعة نفر من أبنائهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبح ابنه فنبت نباتاً سريعاً ، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يشربون الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء فاشتد ذلك عليهم . فقال الغالم : هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشدّ عليها لما بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى جانب صخرة فردّوها عليه ، فلما مرت به تناولها فعقرها فسقطت فذلك قوله تعالى

{ فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } [ القمر : 29 ] وأظهروا حينئذ كفرهم وقيل : زينت لهم عقرها امرأتان - عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار - لما أضرت الناقة بمواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق فصيلها حتى رقي جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : تصبحون غداً ووجوهكم مصفرة ، وبعد غد ووجوهكم محمرة ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب . فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين . ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا . واستبعد بعضهم أن العاقل مع مشاهدة هذه المعجزات والعلامات كيف يبقى مصراً على كفره؟ وأجيب بأنهم عنده مشاهدة العلامات خرجوا عن حدّ التكليف وأن تكون توبتهم مقبولة . « عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال : لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذ بهم الصيحة فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله . قالوا : من هو قال صلى الله عليه وسلم : ذاك أبو رغال » فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ، وروي أن صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره . وروي أن نبينا صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال : أتدرون من هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . فذكر قصة أبي رغال وأنه دفن ههنا وأنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن . وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت . وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ، وقال صلى الله عليه وسلم يا علي ، أتدري من أشقى الأوّلين؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : عاقر ناقة صالح أتدري من أشقى الآخرين : قال : الله ورسوله أعلم . قال قاتلك .
القصة الخامسة قوله سبحانه { ولوطاً إذ قال لقومه } تقديره أرسلنا لوطاً وقت قال لقومه ، ويجوز أن يكون معناه واذكر لوطاً إذ قال لقومه على أن « إذ » بدل من المفعول به لا ظرف . وإنما صرف نوح ولوط مع أن فيه سببين : العجمة والعلمية ، لأن سكون وسطه قاوم أحد السببين { أتأتون الفاحشة } أتفعلون الخصلة المتمادية في القبح { ما سبقكم بها } قال في الكشاف : الباء للتعدية من قولك : سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله أي ما عملت قبلكم .

قلت : ومن المحتمل أن تكون الباء فيه مثله في قولك : كتبت بالقلم . وفي قوله { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي ما سبقكم ملتبساً بها من أحاد من العالمين « من » الأولى زائدة لتأكيد النفي وإفادة الاستغراق . والثانية للتبعيض . وموقع هذه الجملة استئناف لأنه أنكر عليهم أوّلاً بقوله { أتأتون الفاحشة } ثم وبخهم عليها فقال : وأنتم أوّل من عملها . أو هو جواب سؤال مقدر كأنه قيل : لم لا نأتيها؟ فقال : { ما سبقكم بها من أحد } فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به . ويجوز أن تكون صفة للفاحشة كقوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... وههنا سؤال وهو أنه كيف يجوز دعوى عدم السبق في هذه الخصلة ولم تزل الشهة داعية إليها؟ والجواب لعل متقدميهم كانوا يستقذرونها وينفرون عنها طبعاً كسائر الحيوانات ، أو المراد أن الإقبال باكلية على ذلك العمل لم يوجد في الأعصار المتقدمة . قال الحسن : كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء . وقال عطاء عن ابن عباس : استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض { أئنكم لتأتون الرجال } بيان لما أجمله في قوله { أتأتون الفاحشة } وكلا الاستفهامين للإنكار . وفي الثاني أكثر ولهذا زيد فيه « إن » ومثله في النمل { أتأتون } وبعده { أئنكم لتؤتون } [ النمل : 55 ] وفي العنكبوت { إنكم لتأتون الفاحشة } [ الآية : 28 ] { أئنكم لتؤتون الرجال } [ النمل : 55 ] فجمع بين « إن » « وأئن » القصة { إنا منجوك } إنا منزلون . وانتصب { شهوة } على أنها مفعول له أي لا حامل لكم على غشيان الرجال من دون النساء إلا مجرد الشهوة ، أو مصدر وقع حالاً يقال : شهى يشهى شهوة { بل أنتم قوم مسرفون } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة الموجبة لارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء . وختم هذه الآية بلفظ الاسم موافقة لرؤوس الآيات التي تقدمت { العالمين } { الناصحين } { جاثمين } { المرسلين } وفي النمل { قال بل أنتم قوم تجهلون } [ الآية : 55 ] أما العدول من الإسراف إلى الجهل فلتغير العبارة ، وكل إسراف جهل وكل جهل إسراف . وأما العدول من الاسم إلى الفعل فلتوافق ما قبلها من الآيات وكلها أفعال { ينصرون } { تتقون } { يعلمون } واعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع ووجوه القبح فيه كثيرة منها : أن أكثر الناس يحترزون فيه عن الولد لأن الولد يحمل المرء على طلب المال وإتعاب النفس في وجوه المكاسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سبباً لحصول اللذة العظيمة حتى إن الإنسان يطلب تلك اللذة ويقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى ، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والغرض إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع .

فكل لذة لا تؤدي إلى هذا الغرض وجب الحكم بتحريمها لما فيه من ضياع البذر ولزوم خلاف الحكمة . ومنها أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال ، فانعكاس القضية يكون خروجاً عن مقتضى الطبيعة والحكمة ، ومنها أن الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهائم وخروج عن الغريزة الإنسانية . وهب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه سعى في إلحاق العار العظيم بالمفعول ما دام حياً ، والعاقل لا يرضى لأجل لذة زائلة إلحاق منقصة دائمة بغيره . ومنها أنه يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول إلى حيث يقدم المفعول على قتل الفاعل ، أو على إلحاق الضرر به بكل طريق يقدر عليه وذلك لنفور طبعه عن رؤيته . وأما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب زيادة الألفة والمحبة كما قال تعالى { خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] ومنها أنه تعالى أودع في الرحم قوّة جاذبة للمني بحيث لا يبقى شيء منه في مجاريه وأوعيته ، أما إذا واقع الذكر فإنه يبقى شيء من أواخر المني في المجاري فيعفن ويفسد ويتولد من العلل والأورام في الأسافل كما يشهد به القوانين الطبية قال بعضهم : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 5 ، 6 ] يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً ذكراً كان أو أنثى . ولا يمكن تخصيص هذا العموم بقوله { أتأتون الذكران من العالمين } [ الشعراء : 165 ] لأن كلاً من الآيتين أعم من الأخرى من وجه لأن المملوك قد يكون ذكراً وقد لا يكون ، والذكر قد يكون مملوكاً وقد لا يكون ، فتخصيص إحداهما بالأخرى ترجيح من غير مرجح بل الترجيح لجانب الحل لمقتضى الأصل وذلك لأن المالك مطلق التصرف ، ولأن شرع محمد أولى من شرع لوط . وأجيب بأن الاعتماد على التواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا العمل حرام قال تعالى { وما كان جواب قومه } بالواو كيلا يكون التعقيب بالفاء بعد الاسم . وفي النمل { تجهلون فما كان } [ النمل : 55 ] وفي العنكبوت { وتأتون في ناديكم المنكر فما كان } [ الآية : 29 ] لصحة تعقيب الفعل الفعل { إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } وفي النمل { أخرجوا آل لوط } [ الآية : 56 ] ليكون ما في النمل تفسيراً لهذه الكناية وقيل : إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف فيكون قد صرح في الأولى وكنى في الثانية . قال في الكشاف : يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة . ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله ولكنهم جاؤا بكلام آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم ، وقولهم { إنهم أناس يتطهرون } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد .

وقيل : المراد أن ذلك العمل في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر . وقيل : ان البعد عن الإثم يسمى طهارة ، فالمراد أنهم يتباعدون عن المعاصي والآثم { فأنجيناه وأهله } أي أنصاره وأتباعه والذين قبلوا دينه ، وعن ابن عباس : أراد المتصلين به في النسب بدليل قوله { إلا امرأته } يقال : امرأة الرجل بمعنى زوجته ولا يقال مرء المرأة يعني زوجها لأن المالكية حق الزوج { كانت من الغابرين } وفي النمل { قدرناها من الغابرين } [ النمل : 57 ] أي كانت في علم الله من الغابرين . { فقدرناها من الغابرين } وإن قلنا بتأخر نزول الأعراف فالمعنى قدرناها من الغابرين فصارت من الغابرين ، والغبور المكث والبقاء أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا ، أو التذكير لتغليب الذكور وكانت كافرة موالية لأهل سدوم . روي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت . ثم وصف العذاب فقال { وأمطرنا عليهم مطراً } أي أرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً . قيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن . وقيل كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة . فأمطر الله عليهم الكبريت والنار . وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم . وقيل : أمطر عليهم ثم خسف بهم . وروي أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه { فانظر } يا محمد أو كل من له أهلية النظر والاعتبار { كيف كان عاقبة المجرمين } وهذه الأمة وإن أمنت من عذاب الاستئصال إلا أن الخوف والاعتبار من شعار المؤمن لا ينبغي أن ينفك عنه على أن عذاب الآخرة أشدّ وأبقى ولم يأمنوه بعده .
مسائل : الأولى مذهب الشافعي أن اللواط يوجب الحدّ لأنه ثبت في شريعة لوط فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يظهر نسخ في شرعنا ، ولأن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على علية الوصف للحكم ، فالآية دلت على أن هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص . وقال أبو حنيفة : إن الواجب فيه التعزير لأنه فرج لا يجب المهر بالإيلاج فيه فلا يجب الحدّ كإتيان البهيمة ، وعلى الأول ففي عقوبة الفاعل قولان : أحدهما أن عقوبته القتل محصناً كان أو لم يكن لما روي انه صلى الله عليه وسلم قال « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول » وأصحهما أن حده حد الزنا فيرجم إن كان محصناً ويجلد ويغرب إن لم يكن محصناً لأنه حد يجب بالوطء ، ويختلف فيه البكر والثيب كالإتيان في القبل . وعلى قول القتل فيه وجوه أحدها : يقتل بالسيف كالمرتد ، والثاني وبه قال مالك وأحمد يرجم تغليظاً ، ويرى عن علي عليه السلام أيضاً . والثالث يهدم عليه جدار أو يرمى من شاهق جبل ليموت أخذاً من عذاب قوم لوط .

وأما المفعول فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكرهاً فلا حد عليه ولا مهر لأن منفعة بضع الرجل لا تتقوم ، وإن كان مكلفاً طائعاً فيقتل بما يقتل به الفاعل إن قلنا إن الفاعل يقتل ، وإن قلنا يحد حد الزنا فيجلد ويغرب محصناً كان أو لم يكن ، وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط لأنه إتيان في غير المأتي ويجيء في الفاعل والمفعول ما ذكرنا . وقيل : إنه زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل فعلى هذا حده حد الزنا بلا خلاف . وترجم المرأة إن كانت محصنة . وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه بالجملة .
التأويل : { هذه ناقة الله } معجزة الخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر عشراء بسقب سر السر وهو الخفي . وناقة الله هي التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ، { فذروها } ترتع في رياض القدس وحياض الإنس { ولا تمسوها بسوء } مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة { فيأخذكم عذاب أليم } بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة . { إذ جعلكم خلفاء } مستعدين للخلافة { وبوأكم } في أرض القلوب { تتخذون من سهولها } وهي المعاملات بالصدق والإخلاص { قصوراً } في الجنان { وتنحتون } من جبال أطوار القلب { بيوتاً } هي مقامات السائرين إلى الله { فاذكروا آلاء الله } النعماء والإخلاص . فالأول يتضمن ترويح الظاهر ، والثاني يوجب تلويح السر . فالترويح بوجود المسار والتلويح بشهود الأسرار { ولا تعثوا في الأرض } القلب بالفساد للاستعداد الفطري { الذين استكبروا } هم الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة { الذين استضعفوا } من أوصاف القلب والروح . { أتعلمون } أن صالح الروح { مرسل } بنفخة الحق إلى بلد القلب وساكنيه ليدعوهم من الأوصاف السفلية لظلمانية إلى الأخلاق العلوية النورانية { فعقروا } أي النفس وصفاتها ناقة سر القلب بسكاكين مخالفات الحق { فأخذتهم } رجفة الموت { فأصبحوا } في دار قالبهم { جاثمين } والله العزيز .


وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

القراءة كما مر .
الوقوف : { شعيباً } ط { غيره } ط { إصلاحها } ط { مؤمنين } ج ه لعطف المتفقتين أو وقوع العارض أو رأس الآية { عوجاً } ج لاتفاق الجملتين مع طول الكلام { فكثركم } ج لعطف المتفقتين { المفسدين } ه { بيننا } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { الحاكمين } ه { ملتنا } ط { كارهين } ه وقيل لا وقف لأن الابتداء بقوله { وقد افترينا } قبيح قلنا إذا كان محكياً عن شعيب كان أقبح ولكن الكلام معلق بشرط يعقبه . { منها } ط { الله } ط { ربنا } ط { علماً } ط { توكلنا } وللعدول { الفاتحين } ه { الخاسرون } ه { جاثمين } ه ج إن وصل وقف على { كأن لم يغنوا فيها } على جعل { الذين } بدلاً من الضمير في { أصبحوا } و { كأن لم يغنوا } حال لمعنى في الجاثمين . وإن على { الذين } مبتدأ خبره { كأن لم يغنوا } وقف على { جاثمين } وعلى { شعيب } ويستأنف ب { كانوا } ولا يخلو من تعسف . { الخاسرين } ه { ونصحت لكم } ط لأن { كيف } للتعجب فيصلح للابتداء مع أنه فيه فاء التعقيب . { كافرين } ه والله أعلم .
التفسير : القصة السادسة قصة شعيب ومدين اسم البلد . وقيل : اسم القبيلة لأنه شعيب بن توبب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وذلك أنه أمرهم بأشياء : الأوّل : عبادة الله ، أمرهم بها ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء . الثاني : تصديق ما ادعاه من النبوّة وأشار إليه بقوله { قد جاءتكم بينة } أي معجزة دالة على نبوّتي . ففي الآية دلالة مجملة على أن لشعيب معجزة ظاهرة كما ينبغي لكل مدعي نبوّة وإلا كان متنبئاً ، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم يذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وآله فيه . يحكى أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا ربت التنين وأيضاً قال لموسى : إن هذه الأغنام تلد أولاداً عنقها أسود وسائرها أبيض وقد وهبتها منك وكان الأمر كما أخبر . وكل ذلك قبل أن يستنبأ موسى . فقال أهل السنة : إن هذه الأمور علامات نبوّة موسى ويمسى إرهاصاً . وقالت المعتزلة : إنها معجزات شعيب بناء على أن الإرهاص عندهم غير جائز . الثالث قوله { فأوفوا الكيل } الآية . واعلم أن للأنبياء عليهم السلام أن يبدأوا في الموعظة بما يكون قومهم مقبلين عليه . وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فكأنه يقول : البخس عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة الموجبة لتحريمه فلم يبق لكم فيه عذر فأوفوا الكيل والميزان . قال في الكشاف : لم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود لأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال ، أو سمى ما يكال به بالكيل كما قيل العيش لما يعاش به ، أو أريد فأوفوا الكيل ووزن الميزان ، أو الميزان مصدر كالميعاد والميلاد .

الرابع { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } يقال : بخسته حقه إذا نقصته إياه ومنه قيل للمكس البخس . وفي المثل تحسبها حمقاء وهي باخس . قال ثعلب : وإن شئت قلت باخسة وذلك بتأويل الإنسان أن النسمة يضرب لمن لا يعبأ به وفيه دهاء وجربزة . خص أولاً ثم عمم ليشمل جميع أنواع الظلم كالغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بوجوه الاحتيال . يروى أنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه ، وكانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعاً ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفاً . الخامس { ولا تفسدوا في الأرض } وهذا أعم من البخس لشموله الأموال والأعراض والنفوس وكل ما يوجب مفسدة دنيوية أو دينية . والمعنى بعد إصلاح أهلاه على حذف المضاف أو هو كقوله { بل مكر الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] أي بعد الإصلاح فيها يعني إصلاح الصالحين من الأنبياء ومتابعيهم العالمين بشرائعهم { ذلكم } الذي ذكر من الأمور الخمسة { خيرٌ لكم } في الإنسانية وحسن الأحدوثة وزيادة البركة لرغبة الناس في متاجرتكم عند اشتهاركم بالأمانة والديانة . ولا يخفى أن حاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله { إن كنتم مؤمنين } مصدقين لي في قولي . ثم فصل بعض ما أجمل فقال { ولا تقعدوا بكل صراط } قيل : الصراط حقيقة وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرق والمراصد كما كانت تفعل قريش بمكة يخوّفون من آمن بشعيب ويقولون إنه كذاب لا يفتنكم عن دينكم ، أو كانوا يقطعون الطرق أو كانوا عشارين . وقيل : إنه مجاز عن الدين أي لا تقعدوا على طريق الدين ومنهاج الحق لأجل أن تمنعوا الناس عن قبوله اقتداء بالشيطان حيث قال { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ودليل هذا المجاز قوله { وتصدون عن سبيل الله } يقال : قعد بمكان كذا أي التصق به ، وعلى مكان كذا أي علا ذلك المكان وفيه إذا حل ، فحروف الجر تتعاقب في مثل هذا الموضع لتقارب معانيها . ومحل { توعدون } وما عطف عليه نصب على الحال ، نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأفعال . وإنما قال { بكل صراط } مع أن صراط الحق واحد لأنه يتشعب إلى معالم وحدود وأحكام كثيرة كل منها في نفسه سبيل ، وكانوا إذا رأوا أحداً يشرع فيها أوعدوه وصدوه . والضمير في { به } راجع إلى كل صراط والتقدير : توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التقبيح والتفظيع . ومعنى { وتبغونها } تطلبون لسبيل الله { عوجاً } أي تصفونها للناس بأنها معوجة وذلك بالقاء الشكوك والشبهات . قال في الكشاف : أو يكون تهكماً بهم وأنهم يطلبون لها ما هو محال لأن طريق الحق لا تعوج .

ثم ذكرهم نعم الله تعالى لأن ذكر النعم مما يحمل على الطاعة ويبعد عن المعصية فقال { واذكرا إذ كنتم } أي وقت كونكم { قليلاً فكثركم } قال الزجاج يحتمل كثرة العدد بعد القلة وكثرة الغنى بعد الفقر وكثرة القدرة والشدة بعد الضعف والذلة . قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء وصاروا كثيراً في العدة والعدة والشدّة . ثم حذرهم سوء عاقبة من أفسد قبلهم من الأمم وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فقال { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } رغبهم أولاً ثم رهبهم ثانياً وأكد الترهيب بقوله { وإن كان طائفة } الآية . وفيه وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين وحث لهم على الصبر على ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم بمقتضى العدل والحكمة خير الحاكمين . ثم حكى جواب قومه المحجوجين المستكبرين وذلك قولهم { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } أي أحد الأمرين كائن لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى الكفر . وههنا سؤال وهو أن الكفر على الأنبياء محال فكيف يتصور عوده إليه؟ وهب أن قول الكفار ليس حجة أليس قول شعيب حجة حيث قال { إن عدنا في ملتكم } ؟ وأجيب بأن الكلام بني على التغليب ، وأن شعيباً أراد عود قومه إلا أنه نظم نفسه في جملتهم لما ذكرنا ، أو لعل رؤساءهم قالوا ذلك تلبيساً على القوم وشعيب أجرى كلامه على وفق ذلك ، أو أنه كان في أوّل أمره يخفي مذهبه فتوهموا أنه على دينهم ، أو أريد بالملة الشريعة التي صارت منسوخة بشرعه ، أو يطلق العود على الابتداء كقوله :
وإن تكن الأيام أحسنّ مرّة ... إليّ فقد عادت لهن ذنوب .
قال شعيب في جوابهم { أوَلو كنا كارهين } الهمزة للاستفهام والواو للحال والتقدير : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهيتنا؟ . ثم صرح بأنه لا يفعل ذلك فقال { قد افترينا على الله كذباً } إن فعلنا ذلك وذلك أن أصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب والعود في ملتكم ينافي ذلك . ومعنى قوله { بعد إذ نجانا الله منها } بعد أن علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على بطلانه ، أو المراد نجى قومه فغلب ، أو المراد على حسب زعمكم ومعتقدكم كما مر . قال في الكشاف : وقوله { قد افترينا } إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأن الارتداد أعظم من الكفر حيث إن المرتد يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل وكفره أزيد . والثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام معناه والله لقد افترينا على الله كذباً { وما يكون لنا } أي ما ينبغي لنا وما يصح { أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } قال أهل السنة : في الآية دلالة على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى وكذا المعيد إليه قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام

{ واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وكثيراً ما كان يقول نبينا صلى الله عليه وسلم : « يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك » وقال يوسف { توفني مسلماً } [ يوسف : 101 ] أجابت المعتزلة بوجوه : الأوّل : أن قوله { إلا أن يشاء } قضية شرطية أي إن شاء يعد وليس فيه بيان أنه شاء أم أبى . الثاني : أن هذا على طريق التبعيد والإحالة . كما يقال لا يفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشار الغراب . الثالث : لعل المراد ما لو أكرهوا على العود فإن إظهار الكفر عند الإكراه جائز وإن كان الصبر أفضل وما كان جائزاً صح أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله وإن كان غسل الرجلين أفضل . الرابع : يحتمل أن يعود الضمير في { فيها } إلى قرية . كأنه قال : إن أخرجتمونا من القرية حرم علينا العود فيها إلا بإذن الله تعال . الخامس : المشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل فإنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولا يجوز فعله إنما الذي يوجب الجزواز هو الأمر فيحتمل أن يراد بالمشيئة ههنا الأمر فيكون التقدير : إلا أن يأمر الله أن نعود إلى شريعتكم المنسوخة ، فإن الشرع المنسوخ لا يبعد أن يأمر الله تعالى بالعمل به مرة أخرى . السادس : قال الجبائيّ : المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصوم والصلاة ، فمن الجائز أن يكون بعض أحكام الشريعة المنسوخة باقياً فيكون المعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعض تلك الملة فيدلنا عليها . ثم إن المعتزلة تمسكوا بالآية على صحة قولهم من وجهين : أحدهما : أن قوله { وما يكون لنا } معناه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود وذلك يقتضي أن كل ما شاء تعالى وجوده كان فعلاً جائزاً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراد الله تعالى . وثانيهما : أن قوله { لنخرجنك } أو { لتعودن } لا وجه للفصل بينهما فإن كان العود بخلق الله كان الإخراج أيضاً بخلقه . قلت : للسني أن يلتزم ذلك . أما قوله { وسع ربنا كل شيء } فوجه تعلقه بما تقدمه على قول الجبائيّ هو أن التكليف بحسب المصالح فيكون معنى قول شعيب إلا أن يشاء الله إلا أن تختلف المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعلم بالمصالح لا يكون إلا بأن وسع كل شيء علماً . وقالت الأشاعرة : وجه التعلق هو أن القوم لمّا قالوا لنخرجنك أو لتعودن قال شعيب { وسع ربنا كل شيء علماً } فربما كان في علمه قسم ثالث : وهو أن يبقينا في القرية مؤمنين ويجعلكم مقهورين خاسرين ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك { على الله توكلنا } أي لا على غيره وانتصاب { علماً } على التمييز .

وفي قوله { وسع } بلفظ الماضي دلالة على أنه تعالى كان في الأزل عالماً بجميع المعلومات فلا يخرج عن شيء عن مقتضى علمه وهو معنى جفاف الأقلام وطي الصحف ولزوم الأحكام وسعادة السعيد وشقاوة الشقي ويعلم من عموم كل شيء أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف يكون . فهذه أقسام أربعة يقع كل منها على أربعة أوجه لأنه علم الماضي كيف كان ، وعلم أنه لو لم يكن ماضياً بل كان حالاً أو مستقبلاً أو معدوماً محضاً فإنه كيف يكون ، وكذا الكلام في الأقسام الأخر فيكون المجموع ستة عشر . وإذا اعتبر كل منها بحب كل جنس أو نوع أو صنف أو شخص من الجواهر أو الأعراض صار مبلغاً تتحير فيه عقول العقلاء بل تقف دون أوّل قطرة من قطرات بحاره . ثم إن شعيباً لما أعرض عن الأسباب وارتقى بطريق التوكل إلى مسببها ختم كلامه بالدعاء قائلاً { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : احكم واقض . وعن ابن عباس : ما أدري ما معناه حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعالى أفاتحك أي أحاكمك . وجوز الزجاج أن يكون معنى الآية أظهر أمرنا حتى يتضح وينكشف ما بيننا وبين قومنا . والمراد أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين . ثم أثنى على الله بقوله { وأنت خير الفاتحين } كما قال { وهو خير الحاكمين } قالت الأشاعرة : الإيمان فتح باب الخيرات وهو أشرف صفات المحدثات ، فلو كان موجد الإيمان هو العبد كان خير الفاتحين هو العبد . وللمعتزلة أن يقولوا : لولا ألطافه المرجحة الداعية لم يوجد الإيمان من العبد فصح أن الله هو خير الفاتحين . ثم بيّن أن رؤساء قوم شعيب لمن يقتصروا على الضلال بل بادروا إلى الإضلال قائلين لمن دونهم { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } أي في الدين أو في الدنيا لأنه يمنعكم من ازداياد الأموال بطريق البخص والتطفيف { فأخذتهم الرجفة } قد سبق تفسيرها { الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها } يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها . والمغاني المنازل إذا كان فيها أهلها . وقال الزجاج : أي كأن لم يعيشوا فيها مستغنين من الغنى الذي هو ضد الفقر . وعلى التفسيرين شبه حال المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار كقوله : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر . قال في الكشاف { الذين كذبوا } مبتدأ خبره { كأن لم يغنوا } وكذلك { كانوا هم الخاسرين } وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في ديارهم لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله { الذين كذبوا شعيباً } هم المختصون بالخسران العظيم دون أتباعه فإنهم الرابحون ، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم .

قلت : والعرب قد تكرر للتفخيم والتعظيم فتقول : أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا . وأيضاً إن القوم لما قالوا { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } بيّن الله تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه وهم الخاسرون . وفي الآية فوائد أخرى منها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا حصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار . ومنها أن ذلك الفاعل عليم بالجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي . ومنها أن يكون معجزة لشعيب حيث وقع ذلك العذاب على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلد واحد { فتولى عنهم } قد تقدم أن هذا التولي جائز أن يكون قبل نزول العذاب وجائز أن يكون بعده . قال الكلبي : خرج من بينهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بين أظهرهم . ولما اشتد حزنه على قومه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الإلفة لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منم الإجابه للإيمان عزّى نفسه وقال { فكيف آسى على قوم كافرين } لأنهم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر . والأسى شدة الحزن . وقيل : المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم لأنكم لستم مستحقين لذلك؟ .
التأويل : { ولا تبخسوا } فيه أن البخاسة والدناءة والحرص والظلم من الصفات التي يجب تزكية النفس عنها فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها . { ولا تفسدوا في الأرض } أرض الطبيعة التي جبل الإنسان عليها { ولا تقعدوا بكل صراط } لا تقطعوا الطريق على الطالبين بأنواع الحيل والمكايد . { إذ كنتم قليلاً فكثركم } بالتناصر والتعاون في الأمور وبكثرة العدد والعدد نعمة تامة يجب أن تصرف في إعلاء كلمة الدين { وإن كان طائفة منكم } أي الروح والقلب { وطائفة لم يؤمنوا } وهم النفس وصفاتها { وهو خير الحاكمين } لا يجعل الروح والقلب المؤمنين تبعاً للنفس الكافرة في العذاب وإذاقة ألم الهجران { أو لتعودن في ملتنا } إشارة إلى أن كل جنس لا يميل إلا إلى أشكاله وإلا وجد في إيابه من يأمن نهج أضرابه { بعد إذ نجانا الله منها } في القسمة الأزلية { افتح بيننا } احكم بيننا وبينهم بإظهار حقيقة ما قدرت لنا من خاتمة الخير وإظهار ما قدرت لهم من خاتمة السوء { فأخذتهم الرجفة } فصارت صورتهم نبعاً لمعناهم فإنهم كانوا جاثمي الأرواح في ديار الأشباح { كأن لم يغنوا فيها } لأن الباطل زاهق لا محالة .


وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

القراآت : { لفتحنا } بالتشديد : ابن عامر ويزيد { أو أمن } بسكون الواو : أو جعفر ونافع غير ورش ، وابن عامر وابن كثير غير ابن فليح ، وقرأ ورش بنقل حركتها إلى الساكن قبلها { أولم نهد } النون حيث كان : زيد عن يعقوب . الباقون : بالياء التحتانية { رسلهم } بسكون السين حيث كان : أبو عمرو .
الوقوف : { يضرعون } ه { لا يشعرون } ه { يكسبون } ه { نائمون } ه لمن قرأ { أو أمن } بفتح الواو على أن الهمز للاستفهام ، ومن سكن الواو فلا وقف لأن « أو » للعطف { يلعبون } ه { مكر الله } ج للفصل بين الإخبار والاستخبار مع أن الفاء للتعقيب . { الخاسرون } ه { بذنوبهم } ج للفصل بين الماضي والمستقبل والتقدير : نحن نطبع مع اتحاد القصة . { لا يسمعون } ه { من أنبائها } ج لعطف المختلفتين { بالبينات } ط لأن ضمير { فما كانوا ليؤمنوا } لأهل مكة وضمير . { جاءهم } للأمم الماضية مع أن الفاء توجب الاتصال { من قبل } ط { الكافرين } ه { من عهد } ج لعطف الجملتين المختلفين { لفاسقين } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما عرّفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وما جرى على أممهم ذكر ما يدل على أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وليس مقصوراً عليهم ، وبيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل . والقرية مجتمع القوم فتشمل المدينة أيضاً وتقدير الكلام : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء . قال الزجاج : البأساء الشدة في الأموال والضراء الأمراض في الأبدان . وقيل بالعكس { لعلهم يضرعون } أي يتضرعون فأدغم التاء في الضاد والمعنى : ليحطوا أردية التعزز والاستكبار ويتبعوا نبيهم . ثم بيّن أن تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد فقال { ثم بدلنا مكان السيئة } وهي كل ما يسوء صاحبه { الحسنة } وهي ما يستحسنه الطبع والعقل أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من الفقر والضر السعة والصحة { حتى عفوا } كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم عفا النبات والشحم والوبر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « وأعفوا اللحى » { وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } كما هو دأب الأشرين يقولون هذه عادة الدهر في أهله يوم محنة ويوم منحة . والمراد أنهم لم ينتفعوا بتدبير الله تعالى فيهم من رجاء بعد شدّة وأمن بعد خوف وراحة بعد عناء { فأخذناهم بغتة } آمن ما كانوا عليه ليكون ذلك أعظم من الحسرة { وهم لا يشعرون } بنزول العذاب . والحكمة في جميع هذه الحكايات اعتبار من سمعها ووعاها وتعريف أن العصيان سبب الحرمان عن الخيرات وسد لجميع أبواب السعادات ولهذا قال { ولو أن أهل القرى } أي جنسها أو القرى المذكورة في قوله وما أرسلنا في قرية { آمنوا } بما يجب به الإيمان في باب المبدأ والمعاد { واتقوا } كل ما نهى الله عنه { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } أي لأتيناهم بالخير من كل وجه أو أراد القطر والنبات .

والمراد بفتح البركات عليهم تيسير أسباب النجاح كقولهم : فتحت على القارىء إذا يسرت القراءة عليه بالتلقين { ولكن كذبوا الرسل فأخذناهم } بالجذب والمحل وهو ضد البركة والخير { بما كانوا يكسبون } أي بشؤم كسبهم وهو الكفر والمعاصي . ثم خوف المكلفين نزول العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار ، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء في التشاغل باللذات والمهمات فقال { أفأمن } قال في الكشاف : الهمزة للإنكار والفاء للعطف على قوله { فأخذناهم بغتة } والآية بينهما اعتراض والتقدير : أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً ، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ فلهذا عطف الثانية بالواو . وأما قوله { أفأمنوا مكر الله } فتكرير لقوله { أفأمن أهل القرى } فلهذا رجع فعطف بالفاء . قلت : يجوز أن يقدّر المعطوف عليه بعد الهمزة والمعنى : أفعلوا ما فعلوا فأمن وأما من قرأ « أو » ساكنة فمعناه إما أحد الشيئين ويرجع المعنى إلى قولنا فأمنوا إحدى هذه العقوبات ، وإما للإضراب كما تقول : أنا أخرج ثم تقول أو أقيم . على أن المراد هو الإضراب عن الخروج وإثبات للإقامة أي لا بل أقيم . ومعنى { بياتاً } قد تقدم في أوّل السورة . و { ضحى } نصب على الظرف قال الجوهري : ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهو حين تشرق الشمس مقصورة ، وتذكر على أنه مفرد كصرد وتؤنث على أنها جمع ضحوة . ثم بعده الضحاء ممدوداً مذكراً وهو عند ارتفاع النهار الأعلى . في قوله { وهم يلعبون } يحتمل التشاغل بما لا يجدي عليهم من أمور الدنيا فهي لهو ولعب ، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه يضر ولا ينفع . ومكر الله كما تقدم في آل عمران عذاب بعد الاستدراج أو سمي جزاء المكر مكراً . وعن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت له : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات يعني المذكور في الآية . اللهم اجعلنا من الخائفين العاقلين لا من الآمنين الغافلين . ثم لما بيّن حال المهلكين مفصلاً ومحلاً ذكر أن الغرض من القصص حصول العبرة للباقين فقال { أولم يهد } من قرأ بالياء ففاعله { أن لو نشاء } والمعنى : أو لم يهد الذين يخلفون أولئك المتقدمين فيرثون أرضهم وديارهم هذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي بعقابها كما أصبنا من قبلهم . ومن قرأ بالنون فقوله { أن لو نشاء } منصوب والهداية بمعنى التبيين على القراءتين ولهذا عُدّي فعلها باللام ، والمفعول على القراءة الأولى محذوف والتقدير : أولم يكشف لهم الحال والشأن المذكور .

وأما قوله { ونطبع على قلوبهم } فإما أن يكون منقطعاً عما قبله بمعنى ونحن نطبع كما مر في الوقوف ، وإما أن يكون متصلاً بما قبله . قال الكشاف : وذلك هو يرثون أو ما دلّ عليه معنى { أولم يهد } كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع . ثم قال : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على { أصبناهم } و { طبعنا } لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم فيجري مجرى تحصيل الحاصل ولقائل أن يقول : لا يلزم من المذكور وهو كونهم مذنبين أن يكونوا مطبوعين ، فاقتراف الذنوب غير الطبع لأن يذنب أوّلاً أو يكفر ثم يستمر على ذلك فيصير مطبوعاً على قلبه . وأيضاً جاز أن يراد لو شئنا لزدنا في طبعهم أو لأدمناه والله سبحانه أعلم بمراده . ثم أخبر عن الأقوام المذكورين تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال { تلك القرى } وهي مبتدأ وخبر . وقوله { يقص } حال والعامل معنى اسم الإشارة ، أو خبر بعد خبر ، أو { القرى } صفة ل { تلك } و { نقص } خبر . وفائدة الإخبار على هذا التقدير ظاهرة . وأما على الأوّلين فترجع الفائدة إلى الحال أو الخبر الثاني كما ترجع إلى الصفة في قولك : هو الرجل الكريم . الحاصل أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك ، وأيضاً خصصنا تلك القرى بقصص بعض أنبائها لأنهم اغتروا بطول الأمهال مع كثرة النعم وكانوا أقرب الأمم إلى العرب فذكرنا أحوالهم تنبيهاً على الاحتراز عن مثل أعمالهم . ثم عزى رسوله بقوله { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا } من قبل اللام لتأكيد النفي وأن الإيمان كان منافياً لحالهم . قال ابن عباس والسدي : فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بسبب تكذيبهم يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم أقروا باللسان كرهاً وأضمروا التكذيب . وقال الزجاج : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به من قبل رؤية تلك المعجزات . وعن مجاهد فما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد الإهلاك ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] وقيل : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما كذبوا من قبل مجيئهم . وقيل : ما كانوا ليؤمنوا في الزمان المستقبل بما كذبوا به في الزمان الماضي أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إلى أن ماتوا مصرين لم ينجع فيهم تكرير المواعظ وتتابع الآيات { كذلك } أي مثل ذلك الطبع الشديد { يطبع الله على قلوب الكافرين } الذي كتب أن لا يؤمنوا أبداً . والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد كما سلف . وقال الجبائي : هو أن يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن صاحبها لا يؤمن . وقال الكعبي : إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى

{ فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } [ نوح : 6 ] ثم شرح حال المكلفين فقال { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } والضمير للناس على الإطلاق . قال ابن عباس : يعني بالعهد قوله للذر { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] أقروا به ثم خالفوا . عن ابن مسعود هو الإيمان كقوله { إلا من اتخذ عند الرحمن عهد } [ مريم : 87 ] يعني من قال لا إله إلا الله . وقيل : العهد عبارة عن الأدلة على التوحيد والنبوّة والمراد الوفاء بالعهد { وإن وجدنا } هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة في قوله { لفاسقين } وقد عملت في ضمير شأن مقدر والتقدير : وإن الشأن والحديث علمنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والآية اعتراض . ويحتمل أن يعود الضمير على الأمم المذكورين كانوا إذا عاهدوا الله في ضرر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن نكثوه بعد كشف الضر .
التأويل : { إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } الوفي يتضرع إليه عند البلاء ويتوكل عليه والعدوّ يذهل عن الحق ولا يرجع إليه { ولو أن أهل القرى } يعني صفات النفس { آمنوا } بما يرد إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق { واتقوا } مشتبهات النفس { فتحنا عليهم } أسباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب { فأخذناهم } عاقبناهم بعذاب البعد { بما كسبوا } من مخالفات الحق وموافقات الطبع { بياتاً } في صور القهر { ضحى } في صورة اللطف بسطوات الجذبات { وهم يلعبون } يشتغلون بالدنيا . { إلا القوم الخاسرون } من أهل القهر هم الذين خسروا سعادة الدارين من أهل اللطف هم الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } .


ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)

القراآت : { حقيق على } بالتشديد : نافع . الباقون : بالتخفيف { معي } بفتح الياء حيث كان : حفص { أرجه } بإسكان هاء الضمير : حمزة وعاصم غير المفضل { أرجه } بكسر الجيم والهاء من غير إشباع يزيد وقالون { أرجهي } بالإشباع : نافع غير قالون وعلي وعباس وخلف المفضل { أرجئه } بالهمزة : أبو عمرو غير عباس وسهل ويعقوب وابن الأخرم عن ابن ذكوان وهشام غير الحلواني { أرجئهو } بالإشباع : ابن كثير والحلواني عن هشام { أرجئه } بكسر الهاء : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { سحار } بالمبالغة : حمزة وعلي وخلف وكذلك في يونس . وقرأ قتيبة ونصير والدوري وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو بالإمالة . البقون { ساحر } . { أن لنا } بحذف همزة الاستفهام : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وحفص . { أئن لنا } بإثبات همزة الاستفهام : عاصم غير حفص وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام . يدخل بينهما مدة { آين لنا } المدة وقلب الهمزة ياء : أبو عمرو وزيد . { أين لنا } بالياء ولا مدة : سهل ويعقوب غير زيد { تلقف } بالتخفيف حيث كان : حفص والمفضل { تلقف } بالتشديد وإدغام التاء الأولى في الثانية : البزي وابن فليح . الباقون : بتشديد القاف وحذف تاء التفعل . { آمنتم } بهمزة واحدة ممدودة : حفص . { أأمنتم } بزيادة همزة الاستفهام : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص . { آمنتم } بالمد وتليين الهمزة : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل { فرعون وآمنتم } بالواو الخالصة : الهاشمي عن قنبل { وآمنتم } بالواو وتحقيق الهمزة الأولى : ابن مجاهد وأبو عون والهرندي عن قنبل .
الوقوف : { فظلموا بها } ج للفصل بين الخبر والطلب مع العطف بالفاء { المفسدين } ه { العالمين } ه ج وقف لمن قرأ { حقيق عليّ } بالتشديد أي واجب عليّ ، ومن قرأه مخففاً جاز له الوصل على جعل { حقيق } وصف الرسول و « على » بمعنى الباء { إلا الحق } ط { بني إسرائيل } ط { الصادقين } ه { مبين } ه للفصل بين الجملتين والوصل أجود للجمع بين الحجتين { للناظرين } ه { عليم } ه لا لأن ما بعده وصف لساحر { من أرضكم } ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الملأ لفرعون وحده ، والجمع للتعظيم أوله ولعظمائه حضرته ، وأن يكون ابتداء جواب من فرعون أي فماذا تشيرون { قاهرون } ه { حاشرين } ه لا لأن ما بعده جواب الأمر { عليم } ه { الغالبين } ه { المقربين } ه { الملقين } ه { ألقوا } ج للعطف { عظيم } ه { عصاك } ط لحق المحذوف لأن التقدير فألقاها فإذا هي { ما يأفكون } ه { وكذلك يعملون } ه { صاغرين } ه ج لمكان حروف العطف { ساجدين } ه ج لاحتمال كون { قالوا } حالاً بإضمار « قد » { العالمين } ه لا للبدر { هرون } ه { آذن لكم } ج للابتداء مع اتحاد القائل { أهلها } ج لأن « سوف » للتهديد مع العطف { تعلمون } ه { أجمعين } ه { منقلبون } ه للآية مع اتحاد المقول { جاءتنا } ط للعدول عن المحاباة إلى المناجاة { المسلمين } ه .

التفسير : القصة السابعة من قصص هذه السورة قصة موسى عليه السلام . وقد ذكر في هذه القصة من البسط والتفصيل ما لم يذكر في غيرها لأن جهل قومه أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام ولهذا كانت معجزاته أقوى من معجزات متقدميه من الأنبياء . والضمير في قوله { ثم بعثنا من بعدهم } يعود إلى الرسل أو إلى الأمم المذكورين ، في قوله { بآياتنا } دلالة على كثرة معجزاته وأن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن المتنبي . { فظلموا بها } أي بتلك الآيات والمراد كفرهم بها لأن وضع الإنكار في موضع الإقرار وإيراد الكفر بدل الإيمان وضع للشيء في غير موضعه ، أو تظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدوهم عنها وأذوا من آمن بها . { وانظر } أيها المعتبر المستبصر بعين بصيرتك { كيف كان عاقبة المفسدين } كيف فعلنا بهم؟ وهذه قصة إجمالية ثم شرع في تفصيلها وذلك قوله { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } أي إله قادر عليم حكيم . وفيه أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه { حقيق على أن لا أقول } من قرأ بالتشديد في { عليّ } و { حقيق } إما بمعنى فاعل أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا بالحق ، أو بمعنى مفعول أي حق عليّ ذلك . تقول العرب إني لمحقوق علي أن أفعل خيراً . وأما قراءة العامة { حقيق علي أن لا أقول } مرسلة الياء ففيه وجوه أحدها : أن يكون « علي » بمعنى « الباء » كقولهم جئت على حال حسنة وبحال حسنة ، قال الأخفش : وهذا كما قال { ولا تقعدوا بكل صراط } [ الأعراف : 86 ] أي على كل صراط ويؤكد هذا الوجه قراءة أبيّ { حقيق بأن لا أقول } أي أنا خليق بذلك : وثانيها : أن الحق هو الدائم الثابت والحقيق مبالغة فيه ، وكل ما لزمك فقد لزمته فكأن المعنى أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق . ثالثها : أن يضمن حقيق معنى حريص . ورابعها : أن يكون من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس فيؤل المعنى إلى قراءة نافع . وخامسها : أن يكون إغراقاً في الوصف ومبالغة بالصدق والمراد أنا حقيق على قول الحق أي واجب عليّ أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به . وسادسها : أن يكون على هذه هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } [ الروم : 30 ] ويقال : جاءني فلان على هيئته وعلى عادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات . فمعنى الآية لم أتحقق إلا على قول الحق . ولما كان ظهور المعجزة على وفق الدعوى دالاً على وجود الإله القادر المختار وعلى تصديق الرسول جميعاً قال { قد جئتكم ببينة من ربكم } أي بمعجزة قاهرة باهرة منه .

ثم فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله { فأرسل معي بني إسرائيل } أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم . وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط غلب فرعون نسلهم واستعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة { قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين } فيه سؤالان : أحدهما لفظي وهو أن القائل : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً . وثانيهما : أن قوله { إن كنت جئت بآية } وقوله { فأت بها } كلاهما واحد في المعنى فكيف يفيد تعليق أحدهما بالآخر؟ وجوابه المنع إذ المراد إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأحضرها لتصح دعواك . ثم إن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة الدالة على وجود الرب وعلى صحة نبوته قلب العصا ثعباناً وأظهر اليد البيضاء وذلك قوله سبحانه { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } ومعنى كون الثعبان مبيناً أن أمره ظاهر لا يشك في أنه ثعبان ليس مما جاءت به السحرة من التمويهات وإنما هو من قبيل المعجزات . أو المراد أنه أبان قول موسى عن قول المدعي الكاذب والثعبان في اللغة الحية الضخم الذكر . روي أنه كان أشقر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً وضع لحيه الأسفل على الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب واخذه البطن يومئذ أربعمائة مرة وكان لم ير منه الحدث قبل ذلك . وهرب الناس وصاحوا وحمل على الناس فانهزموا ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً ، ودخل فرعون البيت وصاحوا يا موسى خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذه موسى فعاد عصاً . والنزع في اللغة القلع والإخراج أن أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله في موضع آخر { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء } [ النمل : 12 ] روي أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه؟ فقال : يدك . ثم أدخلها في جيبه وعليه مدرعة صوف ثم نزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها الشمس ، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة وقوله { للناظرين } يتعلق ببيضاء فإنها لا تكون بيضاء للناظرين إلا إذا كان بياضها عجيباً خراجاً عن العادة اجتمع الناس للنظر إليه كما يجتمعون للعجائب . واعلم أن القول بجواز انقلاب العادات عن مجاريها مقام صعب مشكل ولهذا اضطربت أقوال العلماء فيه؛ فالأشاعرة جوّزوا ذلك على الإطلاق بناء على القول بالفاعل المختار فجوّزوا في الإنسان وسائر أنواع الحيوان أن يتولد دفعة واحدة من غير سابقة مادة ومدة ، وجوّزوا في الجوهر الفرد أن يكون حياً عالماً قادراً قاهراً من غير حصول بنية ولا مزاج ، وجوّزوا في الأعمى الذي بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقة التي تكون بأقصى المشرق وفي سليم البصر أن لا يرى الشمس في كبد السماء من غير حائل .

والمعتزلة جوّزوا انخراق العادات في بعض الصور دون بعض من غير ضابط ولا قانون اللهم إلا أن يحال على الشرع ، والطبيعيون المتفلسفون أنكروا ذلك على الإطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين والإلزام فتح باب الجهالات فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعباناً جاز في الشخص الذي شاهدناه كموسى وعيسى ومحمد مثلاً أنه ليس هو الشخص الأوّل وهذا يوجب القدح في النبوّة والرسالة . فإن زعم زاعم أن هذه الأمور تختص بزمان دعوة الأنبياء . قلنا : المخصص في ذلك الزمان لا يعرف إلا بدليل غامض ، وكل من لا يقف على ذلك الدليل يقع في تيه الإشكال والضلال مع أن زمان جواز الكرامات لا ينقرض عندكم أبداً فلا ينقضي التجويز سرمداً . هذا وإنما جمع بين العصا واليد مع أن المعجز الواحد كافٍ لأن كثرة الدلائل توجب مزيد اليقين . قال بعض المتحذلقين : هما شيء واحد والمراد أن حجة موسى كانت قوية ظاهرة فمن حيث إن الحجة أبطلت أقوال المخالفين كانت كالثعبان الذي يلقف ما يأفكون ، ومن حيث إنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال لفلان يد بيضاء في الأمر الفلاني أي قوّة كاملة ومرتبة ظاهرة . والتحقيق أن انقلاب العصا وغير ذلك أمور ممكنة في ذواتها لأن الأجسام متماثلة في الجسمية فكل ما صح على شيء صح على مثله والله سبحانه قادر على كل الممكنات ، فكل ما ثبت وقوعه بالتواتر وجب قبوله من غير تأويل ودفع ، ثم أن السحر كان غالباً في ذلك الزمان وكانت السحرة متفاوتين في ذلك ، فزعم أتباع فرعون أن موسى عليه السلام كان لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة وأنه كان يطلب بذلك الملك والرياسة وذلك قوله سبحانه { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم } ولا ينافي هذا ما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قال ذلك فرعون ، فإنه يحتمل صدور هذا القول في تلك الحالة منه ومنهم أو لعل فرعون قاله ابتداء فتلقفه الملأ فقالوه لغيرهم ، أو قالوا عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فأن الملوك إذا رأوا رأياً ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة . والأظهر أن قوله { فماذا تأمرون } من كلام فرعون إما لأن الأمر لا يجوز أن يكون من الأدنى للأعلى ، أو لأنه من قولهم أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ولهذا قال الملأ في جوابه { أرجه وأخاه } أي أخر أمره وأمر أخيه ولا تعجل بقضاء في شأنهما فتصير عجلتك حجة عليك .

قال الجوهري : أرجأت الأمر وأخرته يهمز ولا يهمز . وعن الكلبي وقتادة أن المعنى أحسبه ، وزيف بأنه خلاف اللغة إلا أن يقال حبس المرء نوع من التأخير في أمره وبأن فرعون ما كان يظن أنه قادر على حبس موسى بعد مشاهدة حال العصا . { وأرسل في المدائن حاشرين } أي جامعين جمع مدينة وهي فعيلة من مدن بالمكان يمدن مدوناً إذا أقم به ، ولهذا أطبق القراء على همز { مدائن } لأنه كصحائف . وقيل : إنها مفعلة من دنت أي ملكت وكأن هذا القائل لا يهمز مدائن . وقال المبرد : أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه ، فُعِلَ بها ما فعل بنحو « مبيع » في « مبيوع » وليس المراد مدائن الأرض كلها ولكن المقصود مدائن صعيد مصر . وقال ابن عباس : وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد { يأتوك بكلّ سحار } الباء بمعنى « مع » أو للتعدية . قيل : كانوا سبعين ساحراً سوى رئيسهم . وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً . وقيل : سبعين ألفاً . وقيل ثمانين ألفاً وقيل : كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى قرية بقرب الموصل . وضعف بأن المجوس من أتباع زرادشت وهو إنما جاء بعد موسى . وفي الآية دلالة على كثرة السحرة في ذلك الزمان ولهذا كانت معجزة موسى شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة في الحقيقة كما أن الطب لما كان غالباً على أهل زمن عيسى كانت معجزته من جنس ذلك كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وكانت الفصاحة والبلاغة غالبة في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت معجزته العظمى وهي القرآن من جنس الفصاحة ، وتحقيق السحر وسائر ما يتعلق به قد رمر في سورة البقرة فليتذكر { وجاء السحرة فرعون قالوا } لم يقل فقالوا بناء للكلام على سؤال مقدر كأن سائلاً سأل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب { قالوا إن لنا لأجراً } أي جعلاً على الغلبة والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة { قال نعم } أي إن لكم أجراً { وإنكم لمن المقربين } أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل لكم مع ذلك ما يقل معه الثواب وهو التقريب والتكريم لأن الثواب إنما يهنأ إذا كان مقروناً بالتعظيم . روي أنه قال لهم تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج . وروي أنه دعا برؤساء السحرة فقال لهم : ما صنعتم؟ قالوا قد عملنا سحراً لا يطيقة سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به . وفي الآية إشارة إلى أن أهل السحر ليسوا قادرين على قلب الأعيان وإلا قلبوا الحجر ذهباً بل قلبوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم يطلبوا منه الأجر ، فعلى العاقل أن لا يغترّ بأكاذيبهم ومزخرفاتهم .

ثم إن السحرة راعوا حسن الأدب فخيروا موسى أوّلاً وقدموه في الذكر ثانياً حيث قالوا { يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } كما هو دأب المتناظرين والمتصارعين ، مع أن في قولهم { وإما أن نكون نحن } بالأمر أليق منه بالخبر . وبدليل قوله { والله مع الصابرين } وفيه ترغيب في الثبات على الجهاد . فمعنى الآية إذن أن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين ، ثم الصبر لا يحصل إلا بكونه شديد الأعضاء قوياً جلداً شجاعاً غير جبان ولا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ، وعند حصول هذه الأمور كان يجب الواحد أن يثبت للعشرة لما سبق من وعد النصر في قوله { حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] وإنما كرر النسبة مرتين لأن السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينقص عددها على العشرين وما كانت تزيد على المائة فورد على وفق الواقعة ، وإما في الكرة الثانية فإنما كررت النسبة للطباق ولكيون فيه بشارة وإشارة إلى أن عدد عسكر الإسلام سيؤول من العشرات والمئات إلى الألوف والله أعلم بمراده . ثم بين السبب في الغلبة فقال { بأنهم قوم لا يفقهون } [ الأنفال : 65 ] أي بسبب أن الكفار قوم جهلة لا يعرفون معاداً وقد انحصرت السعادة عندهم في هذه الحياة العاجلة . وأيضاً إنهم يعولون على قوتهم وشوكتهم والمسلمون يتوكلون على ربهم ويستغيثونه ويتوقعون منه إنجاز ما وعد من النصر والتأييد ، ووجه آخر هو أن أهل العلم والمعرفة يكون لهم في أعين الناس هيبة وحشمة ويكونون في أنفسهم أقوياء أشداء لما تجلى عليهم من أنوار المعرفة والبصيرة يعرف ذلك أصحاب العلوم وأرباب المعارف بخلاف الجهلة الذين لا بصيرة لهم ولا نور . قال عطاء : عن ابن عباس لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون وقالوا : يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع ونحن في غربة وعدونا في أهليهم . وقال الأنصار . شغلنا بعدوّنا وواسينا إخواننا . وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة في ثلاثين راكباً قبل بدر فلقي أبا جهل في ثلثمائة راكب وأردوا قتالهم فمنعهم حمزة . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان وكان في جماعة وابتدر عبد الله فقال : يا رسول الله صفه لي فقال : إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة . وبلغني أنه جمع لي فأخرج إليه وأقتله ، فلما خرجت تعمية للمأفوك بالإفك . قال المفسرون : لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، فلما أخذها موسى صارت عصاً كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً ، فلعل الله سبحانه أعدم بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة ثم قال سبحانه وتعالى { فوقع الحق } .

قال مجاهد والحسن : ظهر ، وقال الفراء : فتبين الحق من السحر . وقيل : الوقوع ظهور الشيء ووجوده نازلاً إلى مستقره . وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد ، ولما فقدت ثبت أن ذلك بخلق الله وتقديره وبهذا تميز المعجزة عن السحر . وقال القاضي : معناه قوة الظهور بحيث لا يصح فيه نقيضه كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعاً . ومع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي وذلك قول { وبطل ما كانوا يعملون } أي الذي عملوه أو عملهم { فغلبوا هنالك } أي حين التحدي { وانقلبوا صاغرين } لأنه لا ذل ولا صغار أعظم من حق المبطل من دحوض حجته . روي أن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير ، فلما ابتلعها ثعبان موسى وصارت عصاً كما كانت قال بعض السحرة لبعض : هذا خارج عن حد السحر وإنما هو أمر إلهي . قال المحققون : إنهم لأجل كمالهم في علم السحر ميزوا السحر عن غيره فانتقلوا ببركة ذلك من الكفر إلى الإيمان ، فما ظنك بالإنسان الكامل في علم التوحيد والشريعة والحكمة . وفي قوله { وألقي السحرة ساجدين } دليل على أن ملقياً ألقاهم وما ذاك إلا الله سبحانه الموجد للدواعي والقدر . وقال الأخفش . من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين . قال بعض العلماء : الإيمان مقدم على السجود فكيف نقل عنهم أنهم سجدوا ثم قالوا آمنا برب العالمين؟ وأجيب بأنه لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا ذلك ، أو أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله في الحال شكراً على الفوز بذلك وإظهاراً للخشوع والتذلل وإقراراً باللسان بعد التصديق بالجنان . قال المفسرون : لما قالوا آمنا برب العالمين قال فرعون : إياي يعنون . فلما قالوا { رب موسى } قال : إياي يعنون لأني أنا الذي ربيته فلما زادوا { هارون } زالت الشبهة وعرف الكل أنهم آمنوا بإله السماء وكفروا بفرعون . وقيل : أفردا بالذكر من جملة العالمين ليعلم أن الداعي إلى إيمانهم هو موسى . وقيل : خصا بالذكر تعظيماً وتشريفاً . ثم إن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالحسر أقر بنبوّة موسى بمحضر جمع عظيم خاف أن يصير ذلك حجة عليه عند قومه فألقى في الحال شبهة في البين بعدما أنكر عليهم إيمانهم . أما الإنكار فذلك قوله { آمنتم له } من لم يزد حرف الاستفهام فعلى أنه إخبار توبيخاً أي فعلتم هذا الفعل الشنيع ، ومن قرأ بحرف الاستفهام فمعناه الاستبعاد والإنكار . وفي قوله قبل { أن آذن لكم } دلالة على مناقضة فرعون من ادعائه الإلهية لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا بغيره وهذا من جملة الخذلان والدحوض الذي يظهر على المبطلين .

وأما الشبهة فقوله { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها } أي هذه حيلة احتلتموها أنتم وموسى أو تواطأتم عليها لغرض لكم وهو أن تخرجوا القبط وتسكنوا بني إسرائيل . وروي محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ فقال الساحر : لآتين غداً بحسر لا يغلبه سحر وإن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمع فلذلك زعم التواطؤ { فسوف تعلمون } وعيد إجمالي وتفصيله { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } أي كل من شق طرفاً { ثم لأصلبنكم أجمعين } واختلف المفسرون هل وقع ذلك منه أم لا . فمن قائل إنه لم يقع لأنهم سألوا ربهم أن يتوفاهم من جهته لا بهذا القتل والقطع ، ومن قائل وقع وهو الأظهر وعليه الأكثر ومنهم ابن عباس لأنه حكى عن الملأ أنهم قالوا لفرعون { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } [ الأعراف : 127 ] ولو أنه ترك أولئك السحرة لذكورهم أيضاً وحذروه إياهم ، لأنهم قالوا { ربنا أفرغ علينا صبراً } والصبر لا يطلب إلا عند نزول البلاء وقد يجاب عن الأول بأنهم داخلون تحت قوله { وقومه } وعن الثاني بأنهم طلبوا الصبر على الإيمان والثبات عليه وعدم الالتفات إلى وعيده . وعن قتادة : كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة ، ثم حكى عن القوم أنهم قالوا عند الوعيد { إنا إلى ربنا منقلبون } أي نحن لا نبالي بالموت لأنا ننقلب إلى لقاء ربنا ونخلص منك ، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون يرجع إلى الله فيحكم بيننا ، أو إنا لا محالة ميتون فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه { وما تنقم منا } قال ابن عباس : ما أتينا بذنب تعذبنا عليه وما تعب منا { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } وهي المعجزات الظاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ثم لما لجأوا إلى الدعاء كما هو دأب الصديقين عند نزول البلاء فقالوا { ربنا أفرغ علينا صبراً } أفض علينا سجال الثبات على متابعة الدين أو على ما توعدونا به فرعون { وتوفنا مسلمين } ثابتين على الدين الذي جاء به موسى وأخبروا عن إيمانهم أوّلاً وسألوا التوفي على الإسلام ثانياً .

فيمكن أن يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد ، واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الإيمان والإسلام بخلق الله تعالى وإلا لم يطلبوا ذلك منه ، والمعتزلة يحملون أمثال ذلك على منح الألطاف . واعلم أن مبني القصة في هذه السورة على الاختصار وفي الشعراء على التطويل فلهذا قيل هناك { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } ، { وإنكم إذا لمن المقربين } ، { قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون } ، { فسوف تعلمون } وفي كل ذلك زيادة وأما قوله ههنا { وأرسل في المدائن } وهناك { وابعث } فلأن الإرسال يفيد معنى البعث مع العلو فخص هذه السورة بذلك ليعلم أنّ المخاطب به فرعون دون غيره . وإنما قال ههنا { آمنتم به } وفي طه والشعراء { آمنتم له } باللام لأن ضمير { به } في هذه يعود إلى رب العالمين ، وفي السورتين إلى موسى ، وقيل آمنت به وآمنت له واحد . وقال ههنا { ثم لأصلبنكم } وفي السورتين { لأصلبنكم } لأنه لما أفاد الترتيب كان العطف المطلق كافياً وكثر من متشابهات هذه السور الثلاث يعود إلى رعاية الفواصل فتنبه .
التأويل : { فظلموا بها } بأن جعلوها سحراً فوضعوها في غير موضعها { عاقبة المفسدين } الذين أفسدوا الاستعداد الفطري بالركون إلى الدنيا ولذاتها { حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق } لأن قائم بحقائق الجميع فانٍ على الخلق وآثار التفرقة { فإذا هي ثعبان } لأنه أضاف العصا إلى نفسه في قوله { هي عصاي } [ طه : 18 ] ويعلم منه أن كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك ولهذا قيل { ألقها يا موسى } [ طه : 19 ] { فإذا هي بيضاء } فيه أن الأيدي قبل تعلقها بالأشياء كانت بيضاء نقية نورانية روحانية وأن اليد لموسى كانت روحانية في جميع الأوقات ولكن ما كانت نورانيتها منظورة للناظرين إلا بإظهار الله تعالى في بعض الأوقات خرقاً للعادات على يده الجسمانية { يريد أن يخرجكم } لا شك أن موسى أراد أن يخرجهم من أرضهم ولكن من أرض بشريتهم إلى نور الروحانية . { قالوا أرجه وأخاه } توهموا أن التأخير وحسن التدبير يغير شيئاً من التقدير ، ولم يعلموا أن عند حلول الحكم لا سلطان للعلم والفهم . { أئن لنا لأجر } لم يعلموا أن أجرهم في المغلوبية لا في الغالبية { قال نعم وإنكم لمن المقربين } أجرى الله تعالى هذا على لسان فرعون حقاً وصدقاً فصاروا مقربين عند الله { قالوا يا موسى إما أن تلقي } أكرموا موسى بالتقديم والاستئذان فأكرمهم الله تعالى بالسجود والإيمان { بسحر عظيم } أي عظيم في الإثم كما قال { سبحانك هذا بهتان عظيم } وعظمة إثم السحر لمعارضة المعجزة { فإذا هي تلقف ما يأفكون } فيه أن عصا الذكر إذا ألقيتها عند إلقاء سحر سحرة صفات النفس تبتلع بفم لا النفي جميع ما سحروا به أعين الناس { فوقع الحق } بإثبات لا إله إلا الله { وبطل ما كانوا يعملون } من تزيين زخارف الدنيا في العيون { فغلبوا } أي سحرة صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر { وانقلبوا صاغرين } ذليلين تحت أوامر الشرع ونواهيه { وألقى السحرة ساجدين } أي صارت صفات النفس بعد التمرد منقادة للعبودية .

{ رب موسى } الروح { وهارون } القلب . واعلم أن صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر يتبدل كفرها بالإيمان ولكن النفس بذاتها لا تؤمن ولا تتبدل اللهم إلا عند غرقها في بحر الواردات والمواهب الربانية كحال فرعون وإيمانه عند الغرق . وفي القصة دلالة على أنه تعالى قد يبرز العدوّ في صورة الولي مثل بلعام وبالعكس كالسحرة { قبل أن آذن لكم } هذا من جملة جهل فرعون ، ظن أن الإيمان بإذنه ولم يعلم أن الإيمان بإذن الله { لمكر مكرتموه } في موافقة موسى الروح في مدينة القالب { لتخرجوا منها أهلها } هو اللذات والشهوات البدنية { لأقطعن } بسكين التسويل عن الأعمال الصالحة { ثم لأصلبنكم في جذوع } تعلقات الدنيا وزخارفها والله أعلم .


وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

القراآت : { سنقتل } بالتخفيف : ابن كثير وأبو جعفر ونافع { يورّثها } بالتشديد : الخزاز عن هبيرة { كلمات ربك } على الجمع : يزيد في رواية { يعرشون } بضم الراء حيث كان : ابن عامر وأبو بكر وحماد : الباقون : بالكسر { يعكفون } بكسر الكاف : حمزة وخلف . الباقون : بالضم { أنجاكم } ابن عامر . الآخرون { أنجيناكم } على الحكاية { يقتلون } بالتخفيف : نافع .
الوقوف : { وآلهتك } ط { نساءهم } ج للابتداء والعطف واتحاد القائل { قاهرون } ه و { اصبروا } ج لما قلنا { من عباده } ط { للمتقين } ه { ما جئتنا } ط { تعلمون } ه { يذكرون } ه { لنا هذه } ج لبيان تباين الإضافتين على التناقض { ومن معه } ج { لا يعلمون } ه { بها مؤمنين } ه { مجرمين } ه { بما عهد عندك } ج لأن جواب « لئن » منتظر مع اتحاد القائل { بني إسرائيل } ج لأن جواب « لما » منتظر مع دخول الفاء فيه { ينكثون } ه { غافلين } ه { باركنا فيها } ط للعدول عن الحكاية وكذلك { بما صبروا } ط لعكسه . { يعرشون } ه { يعكفون } ه { أصنام لهم } ج لاتحاد القائل بلا عطف { آلهة } ط { تجهلون } ه { يعملون } ه { العالمين } ه { سوء العذاب } ج لاحتمال كون ما بعده مستأنفاً أو حالاً { نساءكم } ط { عظيم } ه والله أعلم .
التفسير : ثم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض لموسى ولا أخذه ولا حبسه لأنه كان كلما يرى موسى يخافه أشدّ الخوف إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه فقالوا { أنذر موسى } أتتركه { وقومه ليفسدوا في الأرض } أي يغيروا على الناس دينهم الذي كانوا عليه فيتوسلوا بذلك إلى أخذ الملك . وقوله { ويذرك } عطف على { ليفسدوا } ، وقوله { وآلهتك } مفعول معه . والمراد أنه إذا تكرهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤدياً إلى تركه مع آلهته فقط ، ويحتمل أن يكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام والمعنى : أيكون منك أن تذر موسى ويكون من موسى أن يذرك وآلهتك . قال كثير من المفسرين : إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتهم وسمى نفسه الرب الأعلى . وقال الحسن : كان فرعون يعبد الأصنام ووجه بأنه لعله كان اتخذ أصناماً على صور الكواكب على أن الكواكب مدبرات العالم السفلي . وأما المجدي في هذا العالم للخلق المربي لهم فهو نفسه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى أي أنا مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم ، وكل ذلك بناء على أنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع . ثم إن فرعون أوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه لا للخوف منه فقال { سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم } فكأنه قال : إن موسى إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته { وإنا فوقهم قاهرون } أي سنعيد عليهم ما كنا محناهم به قبل من قتل الأبناء ليعلموا أما على ما كنا عليه من الغلبة ، ولئلا يتوهم العامة أنه المولود الموعود من قبل الكهنة ولكنه منتظر بعده { قال موسى } لما وصله ما جرى بين فرعون وملته { لقومه استعينوا بالله واصبروا } ولا ريب أن الصبر نتيجة الاستعانة بالله فإن من علم أنه لا مدبر للعالم إلا الله تعالى انشرح قلبه بنور المعرفة وعلم أن الكل بقضاء الله وقدره فيسهل عليه ما يصل إليه ، ثم لما أمرهم بشيئين بشرهم بآخرين فقال { إن الأرض } يعني أرض مصر أو جنس الأرض فيتناول مصر بالتبعية { لله يورثها من يشاء من عباده } ويعني بالتوريث جعل الشيء للخلف بعد السلف { والعاقبة للمتقين } والخاتمة الحميدة لمن هو بصدد التقوى منكم ومن القبط .

وهذا من كلام المنصف وإلا فمعلوم أن القبط لا تقوى لهم ، أو المراد أن كل من اتقى الله وخافه فالله الغني الكريم يعينه في الدنيا والآخرة . ثم إنهم خافوا وفزعوا من تهديد فرعون فشكوا إلى موسى مستعجلين النصر و { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } يعنون قتل أبنائهم قبل مولده إلى حين نبوته ثم إعادة ذلك عليهم في قوله { سنقتل } إلى غير ذلك من أنواع المحن والمهن . فعند ذلك قال لهم موسى مصرحاً بما رمز إليهم من البشارة قبل { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } أرض مصر ولا ريب أن في { عسى } طمعاً وإشفاقاً ومثل هذا الكلام إذا صدر عن النبي المؤيد بالمعجزات القاهرة الناظر بنور الحق أفاد قوة اليقين وأزال ما خامره من الضعف . ثم قال { فينظر كيف تعملون } قال الزجاج : أي يرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبحه شكره وكفره لوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم قديماً وإنما يجازيهم على ما يقع منهم حديثاً فتتعلق الرؤية الأزلية به . عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة . وعلى مائدته رغيف أو رغيفان . فطلب زيادة لعمرو فلم يكن فقرأ عمرو هذه الآية . ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي { فينظر كيف تعملون } . و { وكيف } نصب ب { تعملون } لا ب { ينظر } لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما يتقدمه . ثم حكى سبحانه ما نزل بفرعون وآله من المحن والبلايا بشؤم التكذيب والتمرد فقال { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } أي بسني القحط . فالسنة من الأسماء الغالبة غلبت على القحط كالدابة والنجم ، وقد يراد بها في غير هذا الموضع الحول والعام . قال أبو زيد والفراء : بعض العرب يقول هذه سنين ورأيت سنيناً فيعرب النون ومنه قول الشاعر :
دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيباً وشيبننا مرداً .
والسنون من الجموع المصححة الشاذة .

عن ابن عباس : السنون لأهل البوادي وأصحاب المواشي { ونقص من الثمرات } لأهل الأمصار . وفائدة توسيط من أن يعلم أن كل الثمرات لم تنقص وإنما نقص بعضها { لعلهم يذكرون } فيتنبهوا ويرجعوا إلى الانقياد والطاعة فإن مس الضر مما يلين الأعطاف ويرق القلوب . قيل : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة وأصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية . قال القاضي : في الآية دلالة على أنه تعالى أراد منهم أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر . وأجيب بأنه يعاملهم معاملة المختبر ولا اختبار في الحقيقة ولا يرعوي عن الكفر والطغيان إلا من شاء وأراد { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } فلهذا حكى عن فرعون وقومه { فإذا جاءتهم الحسنة } قال ابن عباس : أي العشب والخصب والمواشي والثمار وسعة الرزق والعافية والسلامة { قالوا لنا هذه } أي نحن مخصوصون بذلك ولم نزل في الرفاهية والنعمة وهكذا عادة الزمان فينا ولم يعلموا أنها من الله فيشكروه عليها ويقوموا بحق نعمته { وإن تصبهم سيئة } أضداد ما ذكرنا { يطيروا } يتشاءموا بموسى ومن معه . وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجهما وإنما عرفت الحسنة وخصت ب { إذا } ونكرت السيئة وقرنت ب { أن } لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته وشموله وأما السيئة فوقوعها نادر مشكوك فيه ولهذا قيل لقد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟ { ألا إنما طائرهم عند الله } قال الأزهري : يقال للشؤم طائر وطيرة . وعن ابن عباس : طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم ومنه قول العرب طار له سهم كذا أي حصل ووقع ذلك في حظه . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير لأن الفأل الكلمة الحسنة والتطير عيافة الطير . قال الإمام فخر الدين الرازي : وذلك لأن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية فيمكن الاستدلال بالأول على بعض الخفيات بخلاف الثاني . ومعنى الآية أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وبتقديره { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الكل رهين بمشيئته وتقديره فيقولون هذا بيمن فلان أو بشؤمه . وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله في المدينة فقالوا : غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا . قال في الكشاف : ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم ، وكما حكى عنهم أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله وقدره كذلك حكى عنهم أنهم لجهلهم وسفههم لم يميزوا بين المعجزات والسحر قالوا لنبيهم { مهما تأتنا به } الآية وفي « مهما » قولان : فعن البصريين أن أصلها ما الشرطية زيدت عليها « ما » المؤكدة إلابهاميه ثم كرهوا التكرار فجعلوا الألف من الأولى هاء .

وعن الكسائي أن « مه » بمعنى « أكفف » و « ما » للشرط كأنه قيل : كف ما تأتنا به . ومحل « مهما » الرفع بمعنى أيما شيء تأتنا به أو النصب بمعنى أي شيء تحضرنا تأتنا به . { ومن آية } بيان لمهما والضمير في « به » وكذا في « بها » يعود إلى « مهما » لأن البيان كالزيادة فلا يعود إليه شيء ما أمكن العود إلى المبين إلا أن الضمير ذكّر تارة حملاً على اللفظ وأنّث أخرى حملاً على المعنى . وسموها آية تهكماً إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً لم يردفوها بقولهم { لتسحرنا بها } وبقولهم { فما نحن لك بمؤمنين } قال ابن عباس : إن القوم لما قالوا ما قالوا وكان موسى رجلاً حديداً دعا عليهم فأرسل الله عليهم الطوفان . قيل : هو الجدري وهو أوّل عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض . وقيل : هو الموتان . وقيل : الطاعون . والأصح أنه المطر وأصله ما طاف وغلب من مطر أو سيل ، أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك . فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله وزعموا أن هذا الذي جزعوا منه هو خير لهم ولم يشعروا به فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب والسقوف والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد فألقته في البحر . وقيل : خرج موسى إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها فقالوا : ما نحن بتاركي ديننا . فأقاموا شهراً فسلط الله عليهم القمل وهو الحمنان كبار القردان . وعن أبي عبيدة وقيل : الدبى وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها . وقيل : البراغيث . وقرأ الحسن العمل بعم وسكون الميم يريد القمل المعروف . وعن سعيد بن جبير هو السوس فأكل كل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه وكان يأكل أحدهم طعاماً ممتلئاً قملاً . وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه بعصاه فصار قملاً فأخذ في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، وعزة فرعون لا نصدقك أبداً . فأرسل الله عليهم الضفادع بعد شهر فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم ، وكان أحدهم إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه وكان يمتلىء منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد ، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي .

فشكوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً ، وكان يجتمع القبطي
والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً . وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك وكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً . وقيل : الدم الرعاف سلطه الله عليهم . وقوله { آيات مفصلات } نصب على الحال من المذكورات ومعناها ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها معجزات أو فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بالعهد أم ينكثون كما روي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات . ولا شك أن كل واحدة من هذه معجزة في نفسها واختصاصها بالقبطي دون الإسرائيلي معجزة أخرى { واستكبروا } عن العبادة والطاعة { وكانوا قوماً مجرمين } مصرين على الذنب والجرم .
ثم فصل استكبارهم وإجرامهم فقال { ولما وقع عليهم الرجز } أي الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب . وعن سعيد بن جبير أنه الطاعون وهو العذاب السادس الذي كان أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي بعهده عندك وهو النبوة ف { ما } مصدرية والباء يتعلق ب { ادع } تعلق القلم بالكتبة في قولك : كتبت بالقلم أي ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك . أو تعلق المقسم عليه بالفعل فتكون باء الاستعطاف أي أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد وكرامته بالنبوة . ووجه آخر وهو أن يكون قسماً مجاباً ب { لنؤمنن } فيكون متعلقاً بالأقسام أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي نخيلهم وشأنهم فتذهب بهم حيث شئت { فلما كشفنا عنهم } العذاب لا مطلقاً ولا في جميع الوقائع بل { إلى أجل هم بالغوه } لا محالة ومعذبون فيه { إذا هم ينكثون } جواب « لما » أي لما كشفنا عنهم فاجأوا النكث وبادروه فانتقمنا منهم سلبنا النعمة عنهم بالعذاب { فأغرقناهم في اليم } وهو البحر الذي لا يدرك قعره . وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائة سمي باليم لأن المنتفعين به يتيممونه أن يقصدونه { بأنهم كذبوا بآياتنا } أي كان إغراقهم بسبب التكذيب { و } بأنهم { كانوا عنها } أي عن الآيات وقيل عن النقمة بدلالة انتقمنا أي وكانوا عن النقمة قبل حلولها { غافلين } أي معرضين غير متفكرين فإن نفس الغفلة ليس باختيار الإنسان حتى يترتب الوعيد عليها . ثم بين ما فعله بالمحقين بعد إهلاك المبطلين فقال { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } بقتل الأبناء واستحياء النساء والاستخدام في الأعمال الشاقة { مشارق الأرض ومغاربها } يعني أرض مصر والشام لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون .

وقوله { التي باركنا فيها } أي بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام . وقيل : المراد جملة الأرض لأنه خرج من بني إسرائيل من ملك جملتها كداود وسليمان { وتمت كلمة ربك الحسنى } تأنيث الأحسن صفة للكلمة . قيل : يريد بالكلمة قوله في سورة القصص { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة } [ القصص : 5 ] إلى تمام الآيتين . ومعى { تمت } مضت واستمرت من قولك تم على الأمر إذا مضى عليه . وقيل : معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض ، لأن الوعد بالشيء جعله كالمعلق فإذا حصل الموعود صار تاماً كاملاً { بما صبروا } أي بسبب صبرهم . وفيه أن الصبر عنوان الظفر وضمين بالنصر والفرج { ودمرنا } أي أهلكنا والدمار والهلاك { ما كان يصنع فرعون وقومه } قال ابن عباس : يريد المصانع . وقال غيره : يعني العمارات وبناء القصور . ولعله على العموم فيتناول المعاني والأعيان وما كانوا يعرشون من الجنات كقوله { هو الذي أنشأ جنات معروشات } [ الأنعام : 141 ] وقيل : وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره ، وههنا تمت قصة فرعون والقبط . ثم ذكر ما جرى على بني إسرائيل بعد ذلك فقال { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } روي أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكراً لله { فأتوا على قوم } أي فمروا بقوم { يعكفون } يواظبون { على } عبادة { أصنام لهم } قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل . وقيل : كانوا قوماً من لخم نزلوا بالرقة عن قتادة وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم { قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } ما كافة للكاف عن العمل ولهذا دخلت على الجملة . وكأنهم طلبوا من موسى أن يعين لهم أصناماً وتماثيل يتقربون بعباداتها إلى الله تعالى كقول الكفرة { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فتوجه الذم عليهم لأن العبادة نهاية التعظيم سواء اعتقد في المعبود أنه إله واعتقد أنه مقرب من الله ، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وكأن هذا القول لم يصدر من مشاهير بني إسرائيل وعظمائهم كالسبعين المختارين ، ولكنه صدر عن عوامهم وجهلتهم ولهذا { قال } لهم موسى { إنكم قوم تجهلون } تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظمى فوصفهم بالجهل المطلق المؤكد . وعن علي رضي الله عنه أن يهودياً قال له : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه ، فقال علي : اختلفنا عنه لا فيه . ثم قال : قلتم اجعل لنا إلهاً ولما تجف أقدامكم { إن هؤلاء } يعني عبدة تلك التماثيل { متبر } أي مكسر مهلك { ما هم فيه } من قولهم إنا متبر إذا كان فضاضاً والتبار الهلاك .

{ وباطل ما كانوا يعملون } أي يتبر الله أصنامهم ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي فيصير إلى الزوال والاضمحلال . وفي إيقاع { هؤلاء } اسماً ل { أن } وفي تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لأن إشارة إلى أن عبدة الأصنام ليسوا على شيء ألبتة وأن مصيرهم إلى النار لا محالة . { قال أغير الله أبغيكم إلهاً } انتصب « غير » على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول : أبغيكم ألهاً غير الله . وانتصب { إلهاً } على المفعول به . قال الواحدي : يقال بغيت فلاناً شيئاً وبغيته له قال تعالى { يبغونكم الفتنة } [ التوبة : 47 ] والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب معبوداً { وهو فضلكم على العالمين } خصكم بالنعم الجسام دون أبناء زمانكم . ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب مما اقترحوه مع كونهم مغمورين في نعم الله ، فإن الإله ليس شيئاً يطلب ويجعل بل الإله هو الموجود بنفسه القادر على الإيجاد والإعدام والإكرام والإنعام . والآية الباقية قد مر تفسيرها في البقرة ، والفائدة في إعادتها ههنا التعجب والتعجيب ممن اشتغل بعبادة غير هذا المنعم . وإنما قيل ههنا { تقتلون } دون { يذبحون } لتناسب قوله { سنقتل أبناءهم } والله أعلم .
التأويل : { وقال الملأ من قوم فرعون } من الهوى والغضب والكبر لفرعون النفس { أتذر موسى } الروح { وقومه } من القلب والسر والعقل { ليفسدوا } في أرض البشرية { ويذرك وآلهتك } من الدنيا والشيطان والطبع { قال } فرعون النفس { سنقتل أبناءهم } يعني أعمالهم الصالحة نبطلها بالرياء والعجب { ونستحيي نساءهم } أي الصفات التي عنها يتولد الأعمال { وأنا فوقهم قاهرون } بالمكر والخديعة والحيلة { قال موسى } الروح { لقومه } هم القلب والعقل والسر { استعينوا بالله واصبروا } على جهاد النفس ومخالفتها ومتابعة الحق { إن الأرض لله } أي أرض البشرية { يورثها من يشاء من عباده } يورث أرض بشرية السعداء الروح وصفاته فتتصف بصفاته ، ويورث أرض بشرية الأشقياء النفس وصفاتها فتتصف بصفاتها { والعاقبة للمتقين } يعني عاقبة الخير والسعادة للأتقياء السعداء بصفاتها . { أوذينا من قبل أن تأتينا } بالواردات الروحانية قبل البلوغ ، كنا نتأذى من أوصاف البشرية ومعاملاتها { ن بعد ما جئتنا } بالواردات والإلهامات الروحانية بعد البلوغ نتأذى من دواعي البشرية { عسى ربكم أن يهلك عدوّكم } النفس وصفاتها وفيه إشارة إلى أن الواردات الروحانية لا تكفي لإفناء النفس وصفاتها ولا بد في ذلك من تجلي صفات الربوبية { إذا جاءتهم الحسنة } الكفور لا يرى فضل المنعم .
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... مل الوصال وقال كان وكانا .
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } لأن بصائرهم مسدودة وعقولهم عن شهود الحق مصدودة { فأرسلنا عليهم الطوفان } العلم الكثير { والجراد } الواردات { والقمل } الإلهامات { والضفادع } الخواطر { والدم } أصناف المجاهدات والرياضيات { مفصلات } وقتاً بعد وقت وحيناً غب حين { فاستكبروا } عن قبولها والعمل بها { وكانوا قوماً مجرمين } في الأزل ، فلهذا لم تفدهم الوسائط والأسباب { ولما وقع عليهم الرجز } وهو عذاب القطيعة { فأغرقناهم } في يم الدنيا وشهواتها { وما كانوا يعرشون } أي يرفعون بالتجبر والتكبر أنفسهم .

يقال عرش الطائر إذا ارتفع بجناحيه على من تحته { وجاوزنا } بصفات القلب من بحر الدنيا وخلصناهم من فرعون النفس فوصلوا إلى صفات الروح . { يعكفون على أصنام لهم } من المعاني المعقولة والمعارف الروحانية فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح { قال لهم موسى } الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانيات { إنكم قوم تجهلون } يعني صفات الروح { متبر ما هم فيه } من الركون والعكوف على استحلاء المعاني المعقولة { وباطل ما كانوا يعملون } في غير طلب الحق والوصول إلى المعارف الرباينة { وهو فضلكم على العالمين } من الحيوان والجن والملك بفضيلة العبور من الجسمانيات والروحانيات إلى الوصول إلى المعارف والحقائق الإلهية .


وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

القراآت : { أرني أنظر } بسكون الراء وفتح الياء : ابن الفليح وزمعة والخزاعي عن البزي . الباقون : بكسر الراء وسكون الياء . { دكاء } بالمد : حمزة وعلي وخلف . { إني اصطفيتك } بفتح ياء المتكلم : ابن كثير وأبو عمرو { برسالتي } على التوحيد : أبو جعفر ونافع وابن كثير . الباقون : { برسالاتي } { آياتي الذين } مرسلة الياء : ابن عامر وحمزة . { الرشد } بفتحتين : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بضم الراء وسكون الشين . { من حليهم } بفتح الحاء وسكون اللام : يعقوب { حليهم } بالكسرات وتشديد الياء : حمزة وعلي . الباقون : مثله ولكن بضم الحاء . { ترحمنا ربنا وتغفر لنا } بالخطاب والنداء : حمزة وعلي وخلف والمفضل . الباقون : على الغيبة ورفع { ربنا } على الفاعلية { بعدي أعجلتم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { قال ابن أم } بكسر الميم : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل . الباقون : بفتحها ومثله { يا ابن أم } [ الآية : 94 ] في طه .
الوقوف : { أربعين ليلة } ج للعطف مع اختلاف القائل { المفسدين } ه { ربه } لا لأن ما بعده جواب { إليك } ط { فسوف تراني } ج { صعقا } ط { المؤمنين } ه { الشاكرين } ه { الشاكرين } ه { لكل شيء } ج للعدول مع فاء التعقيب { بأحسنها } ج { الفاسقين } ه { بغير الحق } ج { بها } ج لابتداء شرط آخر ولبيان تعارض الأحوال مع العطف { سبيلاً } ج { ذلك سبيلاً } ه { غافلين } ه { أعمالهم } ط { يعملون } ه { خوار } ط { سبيلاً } ه لئلا تصير الجملة صفة السبيل فإن الهاء ضمير العجل { ظالمين } ه { ضلوا } ج لأن ما بعده جواب . { الخاسرين } ه { أسفاً } ج لما { بعدي } ج للابتداء بالاستفهام مع اتحاد القائل { أمر ربكم } ج لأن قوله { وألقى } معطوف على قوله { قال بئسما } وقد اعترض بينهما استفهام { إليه } ط { يقتلونني } ط ز صلى والوصل أولى لأن الفاء للجواب أي إذا هم هموا بقتلي فلا تشمتهم بضربي . { الظالمين } ه { في رحمتك } ز صلى الأولى أن يوصل لأن الواو للحال تحسيناً للدعاء بالثناء { الراحمين } ه { الدنيا } ط { المفترين } ه { وآمنوا } ج لظاهر إن والوجه الوصل لأن ما بعده خبر والعائد محذوف والتقدير : إن ربك من بعد توبتهم لغفور لهم . { رحيم } ه { الألواح } ج صلى لاحتمال ما بعده الحال { يرهبون } ه .
التفسير : لما أهلك الله سبحانه أعداء بني إسرائيل سأل موسى ربه أن يؤتيه الكتاب الذي وعده فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر من نفسه خلوف الفم فتسوّك فقالت الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك ، فأوحى الله تعالى إليه : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره الله أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب . وقيل : فائدة التفصيل أنه تعالى أمره بصوم ثلاثين وأن يعمل فيها ما يقربه من الله ، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها .

وقال أبو مسلم الأصفهاني : من الجائز أن يكون موسى عند تمام الثلاثين بادر إلى ميقات ربه قبل قومه بدليل قوله في طه { وما أعجلك عن قومك يا موسى } [ طه : 83 ] فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه ، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة . وقيل : لا يمتنع أن يكون الوعد الأوّل لحضرة موسى وحده والوعد الثاني لحضرة المختارين معه ليسمعوا الكلام . ومن فوائد الفذلكة في قوله { فتم ميقات } ربع { أربعين ليلة } إزالة وهم من يتوهم أن الميقات كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين . والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء قدره مقدراً أم لا . وانتصب { أربعين } على الحال أي تم بالغاً هذا العدد . { وهارون } عطف بيان { لأخيه } وقرىء بالضم على النداء { أخلفني في قومي } كن خليفتي فيهم { وأصلح } كن مصلحاً أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائل ومن دعاك إلى الإفساد فلا تتبعه . وإنما جعله خليفة مع أنه شريكه في النبوّة بدليل { وأشركه في أمري } [ طه : 32 ] والشريك أعلى حالاً من الخليفة لأن نبوّة موسى كانت بالأصالة ونبوّة هارون بتبعيته فكأنه خليفته ووزيره . وإنما وصاه بالإصلاح تأكيداً واطمئناناً وإلا فالنبي لا يفعل إلا الإصلاح . { ولما جاء موسى لميقاتنا } اللام بمعنى الاختصاص كأنه قيل : اختص مجيئه بوقتنا الذي حددنا له كما يقال : أتيته لعشر خلون من شهر كذا { وكلمه ربه } للناس في كلام الله مذاهب فقيل : هو عبارة عن هذه الحروف المؤلفة المنتظمة . وقيل : صفة حقيقية مخالفة للحروف والأصوات وعلى الأول فمحل تلك الحروف والأصوات هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية ، أو جسم مغاير كالشجرة ونحوها وهو قول المعتزلة . وعلى التالي فالأشعرية قالوا إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الأزلية لأنه كما لا يتعذر رؤيته عندنا مع أنه ليس بجسم ولا عرض فكذا لا يمتنع سماع كلامه مع أنه ليس بحرف ولا صوت . وقال أبو منصور الماتريدي : الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة . واختلف العلماء أيضاً في أن الله تعالى كلم موسى وحده لظاهر الآية أو مع السبعين المختارين وهو قول القاضي لأن تكليم الله موسى معجز وقد تقدمت نبوّة موسى فلا بد من ظهور هذا المعنى لغيره { قال رب أرني أنظر إليك } أي أرني نفسك واجعلني متمكناً من رؤيتك فانظر إليك وأراك . عن ابن عباس : أن موسى عليه السلام جاء ومعه السبعون وصعد الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتاباً وقربه نجياً .

فلما سمع صرير القلم عظم شوقه فقال رب أرني انظر إليك . قالت الأشاعرة إن موسى سأل الرؤية وأنه عارف بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى . فلو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها . قال القاضي : للمحصلين من العلماء في هذا المقام أقوال : أحدها قول الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك في معرفته لأن العلم بامتناع الرؤية وجوازها لا يبعد أن يكون موقوفاً على السمع ، وزيف بأنه يلزم أن يكون موسى أدون حالاً من علماء المعتزلة العالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى ، وبأنهم يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ، فلو لم يكن هذا العلم حاصلاً لموسى كان ناقص العقل وهو محال ، وإن كان حاصلاً وجوّز موسى عليه المقابلة كان كفراً وهو أيضاً محال . وثانيها طريقة أبي علي وأبي هاشم أن موسى عليه السلام سألل الرؤية عن لسان قومه فقد كانوا يكررون المسألة عليه بقولهم { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] وزيف بأنه لو كان كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله لن يروني ، وبأنه لو كان محالاً لمنعهم كما منعهم لما قالوا اجعل لنا إلهاً ، وبأن ذكر الدليل القاطع في هذا المقام فرض مضيق فلم يمكن تأخيره مع أنهم كانوا مقرين بنبوّة موسى كفاهم في الامتناع عن السؤال قول موسى وإلا فلا انتفاع لهم بهذا الجواب فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن هذا المنع من الله بل هذا مما افتريته على الله . وثالثها وهو اختيار أبي القاسم الكعبي أن موسى سأل ربه المعرفة الضرورية بحيث تزول عندها الخواطر والوساوس كما في معرفة أهل الآخرة . وردّ بأنه تعالى أراه من الآيات كالعصا واليد وغيرها ما لا غاية بعدها فكيف يليق به أن يقول أظهر لي آية تدل على أنك موجود؟ ولو فرض أنه لائق بحال موسى فلم منعه الله تعالى عن ذلك؟ ولقائل أن يقول : منعه في الدنيا لحكمة علمها الله تعالى ولا يلزم منه المنع في الآخرة . ورابعها وهو قول أبي بكر الأصم أن موسى أراد تأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي ، وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء . وضعف بأنه كان الواجب عليه حينئذ أن يقول : أريد يا إلهي أن يقوى أمتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في عقلي . ولقائل أن يقول : هذا تعيين الطريق . وفي الآية سؤال وهو أنه تعالى لم قال { لن تراني } دون { لن تنظر إليّ } ليناسب قوله { انظر إليك } والجواب لأن موسى لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل { أرني } ومن حجج الأشاعرة أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز هو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز .

وردّ بأنه علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته بدليل قوله { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه } أي وقت النظر وعقيبه واستقرار الجبل حال حركته محال . ومنها قوله { فلما تجلى ربه } أي ظهر وبان ومنه جلوت العروس إذا أبرزتها ، أو ظهر للجبل اقتداره وتصدى له أمره وإرادته { جعله دكاً } أي مدكوكاً كالمصدر بمعنى « مفعول » . والدك والدق أخوان . ومن قرأ بالمد أراد أرضاً دكاء مستوية ومنه ناقة دكاء متواضعة السنام . والدكاء أيضاً اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة . والغرض من الجميع تعظيم شأن الرؤية وأن أحداً لا يقوى على ذلك إلا بتقوية الله وتأييده . وقالت المعتزلة : الرؤية أمر محال لقوله { لن تراني } وكلمة « لن » إن لم تفد التأبيد فلا أقل من التأكيد . وأيضاً الاستدراك في قوله { ولكن انظر } معناه أن النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر إلى الجبل لتشاهد تدكك أجزائه وتفرق أبعاضه من عظمة التجلي ، وإذا لم يطق الجماد ذلك فكيف الإنسان؟ قالت الأشاعرة ههنا : لم يبعد أن يخلق الله تعالى حينئذ في الجبل حياة وعقلاً وفهماً ورؤية . وأيضاً قوله { وخر موسى صعقاً } أي مغشياً عليه غشية كالموت دليل استحالة الرؤية على الأنبياء فضلاً عن غيرهم . روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم يقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة . وأيضاً قوله بعد الافاقة من الصعقة { سبحانك } أنزهك عما لا يليق بك من جواز الرؤية عليك { إني تبت إليك } من طلب الرؤية بغير إذن منك وإن كان لغرض صحيح هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنص من عندك { وأنا أوّل المؤمنين } بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس . وقالت الأشاعرة : وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك . ثم لما سأل الرؤية ومنعه الله إياها أخذ في تعداد سائر نعمه عليه وأمره أن يشتغل بشكرها { فقال يا موسى إني اصطفيتك } الآية . والمقصود تسلية موسى عن منع الرؤية . قيل : وفي هذا دليل على جواز الرؤية في نفسها وإلا لم يكن إلى هذا العذر حاجة . وإنما قال { اصطفيتك على الناس } ولم يقل « على الخلق » لأن الملائكة قد تسمع كلام الله تعالى من غير واسطة كما سمعه موسى . والغرض أنه تعالى خصه من دون الناس بمجموع أمرين الرسالة والكلام وسائر الرسل لهم الرسالة فقط . وإنما كان الكلام بلا وسط سبباً للشرف بناء على العرف الظاهر وقد جاء في الخبر أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج بعين الرأس . وفي ذلك دليل على أفضليته على موسى شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيباً وقرّبه إليه بلطفه تقريباً وبين من قرب له الحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب .

والمزاد بالرسالات ههنا أسفار التوراة { فخذ ما أتيتك } من شرف الرسالة والكلام { وكن من الشاكرين } لله على ذلك بأن تشتغل بلوازمها علماً وعملاً . ثم فصل تلك الرسالة فقال { وكتبنا له في الألواح } قيل : خر موسى صعقاً يوم عرفة وأعطاه الله التوراة يوم النحر . وذكروا في عدد الألواح وفيو جوهرها وطلولها أنها كانت عشرة ألواح ، وقيل سبعة ، وقيل لوحين ، وأنها كانت من خشب نزلت من السماء . وعن وهب أنها كانت من صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى قطعها بيده وشققها بأصابعه . وقيل : طولها كان عشرة أذرع . والتحقيق أن أمثال هذه يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا وجب السكوت عنه إذ ليس في الآية ما يدل على ذلك . وأما كيفية تلك الكتابة فقال ابن جريج كتبها جبرائيل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وحكم هذا النقل أيضاً كما قلنا { من كل شيء } مفعول { كتبنا } و « من » للتبعيض نحو أخذت من الدراهم { موعظة وتفصيلاً } بدل منه فيدخل في الموعظة كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد . وأراد بالتفصيل تبيين كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أقسام الأحكام ، ويجوز أن يكون { موعظة وتفصيلاً } مفعولين ل { كتبنا } والتقدير : وكتبنا له في الألواح موعظة من كل شيء وتفصيلاً لكل شيء . قيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى ويوشع وعزير وعيسى . وعن مقاتل : كتب في الألواح أني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيل ولا تحلفوا باسمي كذباً فإن من حلف باسمي كذباً فلا أزكيه ، ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تعقوا الوالدين . { فخذها } على إرادة القول أي وكتبنا فقلنا له خذها أو بدل من قوله { فخذ ما أتيتك } والضمير للألواح أو لكل شيء لأنه في معنى الأشياء ، أو للرسالات أو للتوراة { بقوّة } بجد وعزيمة فعل أولى بالعزم من الرسل { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } سئل ههنا أنه لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأموراً به ، فظاهر قوله { يأخذوا بأحسنها } يقتضي أن فيه ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز الأخذ به . وأجاب العلماء بوجوه منها ، أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر ، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب فيكون كقوله { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } [ الزمر : 55 ] وكقوله { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 18 ] قال قطرب : الأحسن بمعنى الحسن وكلها حسن . وقيل : الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح والأحسن الواجب والمندوب .

وقال في الكشاف : يجوز أن يراد يأخذوا بما أمروا به دون ما نهوا عنه كقولهم الصيف أحر من الشتاء . ثم ختم الآية بالوعيد والتهديد فقال { سأريكم دار الفاسقين } قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعني جهنم أي ليكن ذكر جهنم حاضراً في أذهانكم لتحذروا أن تكونوا منهم . وعن قتادة : يريد مواطن الجبابرة والفراعنة الخاوية بالشأم ومصر ليعتبروا بذلك فلا يفسقوا مثل فسقهم فيصبيهم مثل ما أصابهم . وقال الكلبي : هي منازل عاد وثمود وأقرانهم يمرون عليها في أسفارهم . وقيل : المراد الوعد والبشارة بأن الله تعالى سيرزقهم أرض أعدائهم ويؤيده ما قرىء { سأورثكم } . وقوله { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } [ الأعراف : 137 ] .
ثم ذكر ما به يعامل الفاسقين المتكبرين فقال { سأصرف عن آياتي } الآية . فاحتجت الأشاعرة بها على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصرف عنه . وقال الجبائي : قوله { سأصرف } للاستقبال والمصروفون موصوفون بالتكبر والانحراف عن الطريق المستقيم في الزمان الماضي ، فعلم أن المراد من هذا الصرف ليس هو الكفر . وأيضاً الصرف مذكور على وجه العقوبة على التكبر والاعتساف ولا تكون العقوبة عين المعاقب عليه فوجب تأويل الآية . وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله به موسى من النصرة والعصمة أي أصرفهم عن آياتي فلا يقدرون على منعك من تبليغها كما قال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم { بلغ ما أنزل إليك } إلى قوله { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] وقيل : سأصرف هؤلاء المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدَّة للأنبياء والمؤمنين ، فيكون ذلك الصرف المستلزم للإذلال والإهانة جارياً مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله تعالى . وقيل : إن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بما بعد ذلك فحينئذ يصرفم الله تعالى عنها . وبوجه آخر إن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها ، فإذا علم الله تعالى ذلك صح أن يصرفهم عنها ، أو عن الحسن : إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه وهي بالطبع والخذلان ، فالمراد بالمصروفين هؤلاء . وعن رسول صلى الله عليه وسلم : « إذا عظمت أمتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي » قوله { بغير الحق } أما أن يكون حالاً بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبير بالحق لله وحده ، إذ لا كمال فوق كماله فله إظهار العظمة والكبرياء على كل من سواه ، وإما أن يكون صلة للفعل أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الذي لا أصل له ، ومنه يعلم أن للمحق أن يتكبر على المبطل كما قيل : التكبر على المتكبر صدقة .

والرشد طريق الهدى والحق والصواب كلاهما واحد قاله الكسائي ، وفرق أبو عمرو فقال : الرشد بضم الراء الصلاح لقوله { فإن آنستم منهم رشد } [ النساء : 6 ] وبفتحتين الاستقامة في الدين قوله تعالى { مما علمت رشداً } [ الكهف : 66 ] وسبيل الغي ضد ما ذكرنا . ثم بين أن ذلك الصرف وتعكيس القضية إنما كان الأمرين : كونهم مكذبين بآيات الله ، وكونهم غافلين عنها ، ومحل ذلك الرفع على الابتداء أو النصب على معنى صرفهم الله ذلك الصرف بسبب أنهم كذا وكذا . ثم بيّن أن أولئك المتكبرين مجزيون شر الجزاء وإن صدر عنهم صورة الإحسان والخير فقال { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } أي جحدوا المعاد حبطت أعمالهم . ثم قال { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } احتجت الأشاعرة بها على فساد قول أبي هاشم إن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد ترك الواجب وإن لم يصدر عنه فعل ذلك . قالوا : لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس بعمل . أجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء . ورد بأن الجزأ ما يجزىء ، أي يكفي عن المنع عن النهي أو في الحث على المأمور ، لكن العقاب على ترك الواجب كافٍ في الزجر عن ذلك فكان جزاء . قيل : إن بني إسرائيل كان له عيد يتزينون فيه يستعيرون من القبط الحلي فاستعاروها مرة فأغرق الله القبط فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل ، فلهذا أضيفت إليهم على أن مجرد ملابسة الاستعارة أيضاً تحقق الإضافة وتصححها . والحليّ جمع حلي كثدي وثديّ . ومن كسر الحاء فللإتباع . فجمع السامري تلك الحليّ وكان رجلاً مطاعاً فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً بعبدونه فصاغ السامري لهم عجلاً . واختلف المفسرون بعد ذلك فقال قوم : كان قد أخذ تراب حافر فرس جبرائيل فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحماً ودماً وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلهكم وإله موسى . قال أكثر المفسرين من المعتزلة : إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفاً ووضع في جوفه أنابيب على وجه مخصوص ، ثم وضع التمثال على مهب الرياح فظهر منه صوت شديد يشبه خوار العجل . وقال آخرون : إنه صير ذلك التمثال أجوف وخبأ تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس . وإنما قال سبحانه { واتخذ قوم موسى } من أن المتخذ هو السامريّ وحده لأن القوم رضوا بذلك واجتمعوا عليه فكأنهم شاركوه ، أو لأن المراد باتخاذ العجل هو عبادته كقوله { ثم اتخذتم العجل من بعده } [ البقرة : 51 ] أي من بعد مضيه إلى الطور . قال الحسن : كلهم عبدوا العجل غير هارون لعموم الآية ولقول موسى في الدعاء { رب اغفر لي ولأخي } ولو كان غيرهما أهلاً للدعاء لأشركهم في ذلك .

وقال آخرون : بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه لقوله سبحانه { من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [ الأعراف : 181 ] وهل انقلب ذلك التمثال لحماً ودماً أو بقي ذهباً كما كان مال بعضهم إلى الأوّل لأنه تعالى قال { عجلاً جسداً له خوار } والجسد اسم للجسم ذي اللحم والدّم والخوار إنما يكون للبقرة لا للصورة . واستبعده بعضهم وناقش في أن الجسد مختص بذي الروح . ثم قال : إن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لما يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه . وقرأ على كرم الله وجهه { جؤار } بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح و { جسداً } بدلاً من { عجلاً } ثم إنه سبحانه احتج على فساد كون ذلك العجل إلهاً بقوله { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً } ومن حق الإله أن يكون متكلماً هادياً إلى سبيل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل من الكتب . قالت المعتزلة : ههنا سؤال فمن كان مضلاً عن الدين لا يصلح أن يكون إلهاً . قالت الأشاعرة : لو صح أن الإله يلزم أن يكون متكلماً هادياً لزم أن يكون كل متكلم هادٍ إلهاً . والحق أن الملازمة ممنوعة فإن الدعوى ليست إلا أن كل إله يجب أن يكون متكلماً هادياً والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها على أنه يمكن أن يقال لا متكلم ولا هادي في الحقيقة إلا الله تعالى . ثم ختم الآية بقوله { اتخذوه وكانوا ظالمين } وهذا كما قال في البقرة { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } [ البقرة : 51 ] ثم أخبر عن عقبى حالهم بقوله { ولما سقط في أيديهم } معناه ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل . واختلفوا في وجه هذه الاستعارة فقال الزجاج : أريد بالأيدي القلوب والأنفس كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين . وقال في الكشاف : إن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه وقع فيها ، فأصل الكلام سقط فوه في يده فحذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فيه كما يحذف الفعل ويبنى للمفعول فيه في قولهم « مُرَّ بزيد » وهذا من باب الكناية لأن عض اليد من لوازم الحسرة والندم . وقيل : كل عمل يقدم المرء عليه فذلك لاعتقاد أن ذلك العمل خير وصواب وأنه يورثه رفعة ورتبة ، فإذا بان أن ذلك العمل باطل فكأنه انحط وسقط من علو إلى أسفل ومنه قولهم للرجل إذا أخطأ « ذلك منه سقطة » ثم إن اليد آلة البطش والأخذ والنادم كأنه تدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم وكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث أنه بعد حصول ذلك الندم يشتغل بالتدارك والتلافي .

وحكى الواحدي أنه من السقط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج فمن وقع في يده السقط لم يحصل منه على شيء قط لأنه يذوب بأدنى حرارة ، فهذا مثل من خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعة . وقال بعضهم : الآله الأصلية في أكثر الأعمال اليد والعاجز في حكم الساقط فسقاط اليد هو العجز التام كما يقال في العرف ضل يده ورجله لمن لا يهتدي إلى صلاحه . وقيل : إن « في » بمعنى « على » أي سقط على أيديهم فإن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده تحت ذقنه . ثم قال الله تعالى { ورأوا أنهم قد ضلوا } أي قد تبينوا ضلالهم كأنهم أبصروه بعيونهم . قال القاضي : الكلام على التقديم والتأخير لأن الندم والتحسر بعد تعرف الحال وتبين الخطأ والترتيب الأصلي : ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم . ويمكن أن يقال : الواو لا تفيد الترتيب ، أو يقال : الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأً فاسد موجب للندم وقد يتكامل العلم فيظهر أنه خطأ جزماً . ثم إنهم اعترفوا بذنوبهم وانقطعوا إلى ربهم وذكروا مثل ما ذكر أبونا آدم وأمنا حواء { إن لم يرحمنا ربنا } الآية . { ولما رجع موسى إلى قومه } قال بعضهم إن موسى قد عرف خبر القوم بعد رجوعه إليهم . وقال الأكثرون وهو قول أبي مسلم : إنه كان عارفاً بذلك قبل رجوعه بدليل قوله { غضبان أسفاً } فإنه يدل على أن هاتين الحالتين حاصلتان له عند رجوعه إليهم ولما جاء في سورة طه { قد فتنا قومك من بعدك } [ الآية : 85 ] وفي دليل ظاهر على أنه تعالى أخبره بوقوع الواقعة في الميقات . والأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء والزجاج . وعن ابن عباس والحسن إنه الحزين . وقال الواحدي : هما متقاربان فإذا جاءك ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت ، فكأن موسى غضبان على قومه أسفاً من فتنة ربه { بئسما خلفتموني } خاطب عبدة العجل أو وجوه القوم - هارون والمؤمنين - حيث لم يكفوا العبدة . وفاعل { بئس } مضمر يفسره { ما خلفتموني } والمخصوص محذوف التقدير : بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم . ومعنى { من بعدي } مع قوله { خلفتموني } من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الأنداد أو من بعد ما كنت أحمل القوم عليه من التوحيد والكف من اتخاذ إله غير الله حيث قالوا جعل لنا إلهاً ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة مستخلفيهم من بعدهم ولا يخالفوهم ونظير الآية قوله { فخلف من بعدهم خلف } [ مريم : 58 ] أي من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة { أعجلتم أمر ربكم } قال الواحدي : العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة في الأغلب بخلاف السرعة فإنها عمل الشيء في أوّل وقته .

قال ابن عباس : يعني أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له . وقال الحسن : أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنهم قدّروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات . وروي أن السامري قال لهم : إن موسى لن يرجع وإنه قد مات . وروي أنهم عدوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا . وقال الكلبي ، أعجلتم عبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم . وقال عطاء : أعجلتم سخط ربكم . وفي الكشاف : يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدى تعديته فيقال : عجلت الأمر ومعنى : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به { وألقى الألواح } التي فيها التوراة لما لحقه من الدهش والضجر غضباً لله . عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « يرحم الله أخي موسى ما الخبر كالمعاينة » لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه مع ذلك متمسك بما في يده . وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة . قال في التفسير الكبير : إلقاء الألواح ثابت بالقرآن ، فأما إلقاؤها بحيث تكسرت فلا وإنه جراءة عظيمة ومثله لا يليق بالأنبياء . وأقول : الجراءة تحصل بنفس الإلقاء لا بالتكسر الذي لا يتعلق باختياره فكل ما يجعل عذراً عن نفس الإلقاء يصح أن يجعل عذراً عن التكسر { وأخذ برأس أخيه } أي بشعر رأسه يجره إليه بذؤابته . واعلم أن موسى عليه السلام كان في نفسه حديداً شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانباً ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى . وقد استتبع غضبه أمرين : أحدهما إلقاء الألواح والآخر أخذ رأس أخيه جار إليه ، فزعم مثبتو عصمة الأنبياء أنه جر برأس أخيه إلى نفسه ليسارّه ويستكشف منه كيفية الواقعة لا لأجل الإهانة والاستخفاف ، ثم إن هارون خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى فعل ما فعل به إهانة { فقال يا ابن أم } من كسرها فعلى طرح ياء المتكلم ، ومن فتحها فتشبيهاً بخمسة عشر لكثرة الاستعمال أو على الألف المبدلة من ياء الإضافة . وإنما أضافه إلى الأم إشارة إلى أن أمهما واحدة على ما روي أنه كان أخاه لأمه ليكون أدعى إلى العطف والرقة لأنها كانت مؤمنة فافتخر . بنسبها ولأنها هي التي تحملت فيه الشدائد فذكره حقها { إن القوم استضعفوني } استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري { وكادوا يقتلونني } حين منعتهم عبادة العجل ونهيتهم عنها { فلا تشمت بي الأعداء } العابدي العجل فإنهم يحملون هذا لذي تفعل بي على الإهانة لا على الإكرام { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } في اشتراك العقوبة والإذلال ، ولا تعتقد أني واحد منهم .

ولا يخفى ما في بعض هذا التفسير من التعسف والتكلف ، والحق أن هذا القدر من الحدة الناشئة من عصبية الدين لا يقدح في العصمة وغايته أن يكون من قبيل ترك الأولى فلذلك { قال } موسى { رب اغفر لي } ما أقدمت عليه من الحدة قبل جلية الحال { ولأخي } أن عساه فرّط في شأن الخلافة ثم أخبر عن مجازاة القوم فقال { إن الذين اتخذوا العجل } إلهاً { سينالهم غضب من ربهم وذلة } كلاهما في الحياة الدنيا . فالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم والذلة خروجهم من ديارهم وذل الغربة لا يخفى . واعترض بأن قوله { سينالهم } للاستقبال وفي وقت نزول الآية كان القتل واقعاً . وأجيب بأن هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى موسى به في الميقات من افتتان قومه وكان سابقاً على وقوعهم في الغضب والذلة . قلت : ويجوز أن يكون الآيتان من تتمة قول موسى إلا أن قوله { وكذلك نجزي المفترين } ينبو عن ذلك إلا أن يحمل على الاعتراض . ولما في هذا التفسير من التكلف ذهب به بعض المفسرين إلى أن المضاف في الآية محذوف والتقدير : إن الذين اتخذ آباؤهم العجل يعني الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا بضرب الجزية ، أو غضب وذلة كلاهما في الدنيا بالقتل والجلاء كما نال بني قريظة والنضير ، أو التقدير : إن الذين اتخذا العجل سينال أولادهم { وكذلك نجزي المفترين } أي كل مفتر في دين الله فجزاؤه الغضب والذلة . قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا } ظاهر الآية يدل على أن التوبة شرط العفو وأنه لا بد مع التوبة من تجديد الإيمان فما أصعب شأن المذنبين ، ولكن عموم لفظ السيئات يدل على أن من أتى بجميع المعاصي ثم تاب فإنه الله يغفرها له فما أحسن حال التائبين { لغفور } ستور عليهم محَّاء لما صدر منهم { رحيم } منعم عليهم بالجنة . وفيه أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل .
ولما بين ما كان من موسى مع الغضب بين ما كان منه بعد الغضب فقال { ولما سكت عن موسى الغضب } قال علماء البيان : إنه خرج على قانون الاستعارة فكأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول ألق الألواح وغير ذلك ، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء . وعن عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب فقلب كما يقال : أدخلت الخف في رجل وإنما أدخل الرجل في الخف . وقيل : السكوت بمعنى السكون وقد قرىء به .

{ أخذ الألواح } التي ألقاها منبهاً على زوال غضبه لأنه أوكد ما تقدم من إمارات الغضب { وفي نسختها } فعلة بمعنى مفعول كالخطبة من النسخ والكتب أي في مكتوبها من اللوح المحفوظ سواء قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها أو قلنا إنها تكسرت وأخذ ما بقي منها ، وقيل : النسخ بمعنى الإزالة لما روي عن ابن عباس أنه لما ألقى الألواح تكسرت فصام أربعين يوماً فأعاد الله تعالى الألواح وفيها غير ما في الأولى { هدى } من الضلال { ورحمة } من العذاب { للذين هم لربهم يرهبون } أدخل اللام في المفعول لتقدمه فإن تأخير الفعل يكسبه ضعفاً ونظيره { للرؤيا تعبرون } [ يوسف : 43 ] وقولك : لزيد ضربت ويجوز أن يكون المراد للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء وسمعة ، وجوّز بعضهم أن تكون اللام صلة نحو ردف لكم .
التأويل : { ثلاثين ليلة } لئلا تستكثر النفس الأربعين من ضعف البشرية { وأتممناها بعشر } الخصوصية الأربعين في ظهور ينابيع الحكمة من القلب على اللسان { وقال موسى } الروح { لأخيه هارون } القلب عند توجهه لمقام المكالمة والتجلي كن خليفتي في قومي من الأوصاف البشرية و { وأصلح } ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة { ولا تتبع سبيل المفسدين } من الهوى والطبيعة . وهذه الخلافة هي السر الأعظم في بعثة الروح من ذروة عالم الأرواح إلى حضيض عالم الأشباح { ولما جاء موسى } ولما حصل الروح على بساط القرب وتتابع عليه كاسات الشرب أثر فيه سماع الكلمات فطال لسان انبساطه عند التمكن على بساطه ف { قال رب أرني أنظر إليك } فقيل : هيهات أنت بعد في بعد الأثنينية وحجب جبل الأنانية فلن تراني لأنه لا يراني إلا من كنت له بصراً فبي يبصر { ولكن انظر } إلى جبل الأنانية { فإن استقر مكانه } عند التجلي { فسوف تراني } ببصر أنانيتك { وخر موسى صعقاً } بالأنانية فكان ما كان بعد أن بان ما بان وأشرقت الأرض بنور ربها .
قد كان ما كان سراً أبوح به ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
فلو لم يكن جبل أنانية النفس بين موسى الروح وتجلي الرب لطاش في الحال وما عاش ، ولولا أن القلب يحيا عند الفناء بالتجلي لما أمكنه الإفاقة والروح إلى الوجود ، ولو لم يكن تعلق الروح بالجسد لما استسعد بالتجلي ولا بالتحلي فافهم . { فما أفاق } من غشية الأنانية بسطوة تجلي الربوبية { قال } موسى بلا هويته { سبحانك } تنزيهاً لك من خلقك واتصال الخلق بك { وانا أوّل المؤمنين } بأنك لا ترى بالأنانية وإنما ترى بنور هويتك . { برسالاتي وبكلامي } دون رؤيتي { وكن من الشاكرين } فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يورث الزيادة والزيادة هي الرؤية { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] { فخذها بقوّة } أي بقوة الصدق والإخلاص أو بقوة وإعانة منا { سأريكم دار الفاسقين } الخارجين عن طلب الله إلى طلب الآخرة أو الدنيا { سأصرف عن آياتي } فبحجاب التكبر يحجب المتكبر عن رؤية الآيات { واتخذ قوم موسى } أي سامري الهوى من بعد توجه موسى الروح لميقات مكالمة الحق .

اتخذ حلى زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس { عجلاً } هو الدنيا { له خوار } يدعو الخلق به إلى نفسه { ولما سقط في أيديهم } عند رجوع موسى الروح إلى قومه وهم الأوصاف الإنسانية ندمت من فعلها وعادت إلى ما كانت فيه من عبودية الحق والإخلاص له قائلة { إن لم يرحمنا } بجذبات العناية { ربنا } الآية { غضبان } مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا { أسفاً } على ما فاتها من عبودية الحق { أعجلتم أمر ربكم } بالرجوع إلى الدنيا وزينتها والتعلق بها قبل أوانه من غير أن يأمركم به ربكم . وفيه إشارة إلى أن أصحاب السلوك لا ينبغي أن يلتفتوا إلى شيء من الدنيا في أثناء الطلب اللهم إلا إذا قطعوا مفاوز النفس والهوى ووصلوا إلى كعبة وصال المولى فيأمرهم المولى أن يرجعوا إلى الدنيا لدعوة الخلق { وألقى الألواح } يعني ما لاح للروح من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي . { وأخذ برأس أخيه } القلب فإنه أخو الروح { يجره إليه } قسراً عند استيلاء طبيعة الروحانية { قال ابن أم } هما من أب وأم واحد أبوهما الأمر وأمهما الخلق ، وإنما نسبه إلى الخلق لأن في عالم الخلق تواضعاً وتذللاً بالنسبة إلى عالم الأمر . { إن القوم استضعفوني } يعني أن أوصاف البشرية استذلوني بالغلبات عند غيبتك { وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء } وهم الشيطان والنفس والهوى { ولا تجعلني مع القوم الظلمين } فيه أن صفات القلب تتغير وتتلون بلّون صفات النفس ورعونتها ، ولكن القلب من حيث هو هو لا يتغير عما جبل عليه من محبة الله وطلبه وإنما يمرض بتغير صفاته كما أن النفس لا تتغير من حيث هي عما جبلت عليه من حب الدنيا وطلبها ، وإنما تتغير صفاتها من الأمارية إلى اللوّامية والملهمية والمطمئنية والرجوع إلى الحق ، ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت إلى طبعها { رب اغفر لي ولأخي } إشارة إلى أن اللوح والقلب استعداد قبول الجذبة الإلهية التي يدخلها بالسير في عالم الصفات { وكذلك نجزى المفترين } الذين يدّعون أن الله أعطاهم قوّة لا يضرهم عبادة الهوى والدنيا وشهواتها .


وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

القراآت { عذابي أصيب } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع { أصارهم } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل . الباقون على التوحيد .
الوقوف { لميقاتنا } ج للابتداء بكلمة الجزاء مع فاء التعقيب { وإياي } ط { منا } ج لتصدر « ان » النافية مع اتحاد القائل { فتنتك } ج لأن ما بعده مستأنف { وتهدي من تشاء } ط { الغافرين } ه { إليك } ط { من أشاء } ط للفصل بين الجملتين تعظيماً لشأنهما مع الاتفاق في اللفظ { كل شيء } ط للتبيين واختلاف الجملتين والفاء لاستئناف وعد على الخصوص { يؤمنون } ه ج لاحتمال ما بعده النصب أو الرفع على المدح والجر على البدل { الإنجيل } ج لأن { يأمرهم } يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو يأمرهم ، وأن يكون نعتاً أي مكتوباً أمراً أو بدلاً من { مكتوباً } أو مفعولاً بعد مفعول أي يجدونه أمراً ، أو يكون التقدير الأمي الذي يأمرهم فيكون كالبدل من الصلة { كانت عليهم } ط { أنزل معه } لا لأن ما بعده خبر « فالذين » . { المفلحون } ه { والأرض } ج لاحتمال ما بعده الابتداء والحال أي استحق ملك السموات غير مشارك { ويميت } ط لطول الكلام وإلا فالفاء للجواب أي إذا كنت رسولاً فأمنوا إجابة . { تهتدون } ه { يعدلون } ه .
التفسير : الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال : اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره ومن هنا سمي فعل الحيوان فعلاً اختيارياً ، وذلك أن صدور الفعل عن الحيوان موقوف على حكمه بكون ذلك الفعل خيراً له من تركه . قال النحويون : أصله واختار موسى من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل ، فمن الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف الحرف . من ذلك قولهم : اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيداً . وكذا استغفرت الله من ذنبي واستغفرته ذنبي . وجوّز بعضهم في الآية أن يراد بالقوم المعتبرون منهم إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم فيكون مفعولاً أوّل من غير واسطة ويكون { سبعين } بدلاً أو بياناً قيل : اختار من اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فصاروا اثنين وسبعين فقال : ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال : إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع . وروي أنه لم يجد إلا ستين شيخاً فأوحى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً . وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سينا لميقات ربه . وللمفسرين خلاف في أن هذا الميقات عين ميقات الكلام والرؤية أم غيره؟ الذاهبون إلى الأوّل قالوا : إن موسى كان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فلما سمعوا الكلام طلبوا الرؤية وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة في هذه الآية .

والذاهبون إلى الثاني حملوا القصة على ما مر في البقرة في تفسير قوله { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك } وقد ذكرنا هنالك أن منهم من قال هذه الواقعة كانت قبل قتل الأنفس توبة من عبادة العجل ، ومنهم من قال إنها كانت بعد القتل . واحتج أصحاب هذا المذهب على المغايرة بأنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها ذكر قصة العجل ثم ختم الكلام بهذه القصة ، فظاهر الحال يتقضي أن تكون هذه القصة مغايرة لتلك القصة وإلا انخرم التناسب . عن علي عليه السلام أن موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل فنام هارون فتوفاه الله تعالى ، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا إنه قتل هارون فاختار من قومه سبعين فذهبوا إلى هارون فأحياه الله تعالى فقال : ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك . قيل : كانت موتاً . وقيل أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم فخاف موسى عليهم الموت فدعا الله تعالى وقال { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } قال في الكشاف : هذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا { أتهلكنا } جميعاً يعني نفسه وإياهم { بما فعل السفهاء منا } قال أهل العلم : لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى أهلك قوماً بذنوب غيره ، فهذا الاستفهام بمعنى الجحد أراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول : أتهين من يخدمك تريد أنك لا تفعل ذلك ، وقال المبرد : إنه استفهام استعطاف أي لا تهلكنا . قيل : لو كان تسفيههم لقولهم { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ النساء : 153 ] ناسب أن يقال : أتهلكنا بما قاله السفهاء . فإذن التسفيه لفعل صدر عنهم كعبادة العجل أو غيرها ، ومنه يعلم أن هذا الميقات غير ميقات طلب الرؤية { إن هي إلا فتنتك } الضمير يعود إلى الفتنة أي كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند قاله الواحدي . ولعله يعود إلى مقدر ذهني والمعنى أن الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك ابتلاءك ومحنتك حين كلمتني وسمعوا كلامك أو حين أسمعتهم صوت العجل { تضل بها } أي بالفتنة من تشاء فيفتتن { وتهدي من تشاء } فيثبت على الحق . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة ظاهرة على مذهبنا أن الإضلال والهداية من الله تعالى . وقالت المعتزلة : إن محنته لما كانت سببباً لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أو الضمر يعود إلى الرجفة أي { تضل } على الجنة بسبب عدم الصبر على تلك الرجفة ، أو لعدم الإيمان بأنها من عندك { من تشاء وتهدي } إلى الجنة بها الأضداد ما قلنا { من تشاء } أو المراد بالإضلال الإهلاك أي تهلك من تشاء بالرجفة وتصرفها عمن تشاء { أنت ولينا } يفيد الحصر أي لا ولي لنا ولا ناصر إلا أنت { فاغفر لنا وارحمنا } قيل : تذكر أن قوله { إن هي إلا فتنتك } جراءة عظيمة فأشرك نفسه مع قومه في طلب المغفرة والرحمة { وأنت خير الغافرين } لأن غفرانك غير متوقف على جلب نفع أو دفع ضر بل لمحض الفضل والكرم .

{ واكتب } أوجب { لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } نظيره سؤال المؤمنين من هذه الأمة { ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } [ البقرة : 201 ] وقد فسرنا في سورة البقرة . واعلم أن كونه تعالى ولياً للعبد يناسبه أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وإلهيته . وأيضاً اشتغال العبد بالتوبة والخضوع يناسب طلب هذه الأشياء . فذكر السبب الأوّل ثم رتب عليه الدعاء وختمه بالسبب الثاني وهو قوله { إنَّا هدنا إليك } قال أهل اللغة : النهود التوبة أي تبنا ورجعنا . وقد تم بذكر السببين عهد عز الربوبية وعهد ذل العبودية فلا يبعد وقوع الإجابة ولأن دفع الضر مقدم على تحصيل النفع ، قدم طلب المغفرة والرحمة على طلب إيجاب الحسنة في الدارين { قال } الله تعالى في جواب موسى { عذابي } من حالة وصفته أني { أصيب به من أشاء } إذا ليس لأحد عليّ اعتراض في ملكي . وقالت المعتزلة : أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة . وقرأ الحسن { من أساء } من الإساءة { ورحمتي } من شأنها أنها { وسعت كل شيء } قالت الأشاعرة : هذا من العام الذي أريد به الخاص . وقال أكثر المحققين : إن رحمته في الدنيا تعم الكل ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمته . وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وذلك قوله { فسأكتبها للذين يتقون } وقيل : الوجود خير من العدم فلا موجود إلا وهو مشمول بنعمته . وقيل : الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب . وقالت المعتزلة : الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة والخير واللذة وإن حصل هناك ألم فله أعواض كثيرة . واعلم أن تكاليف الله تعالى كثيرة ولكنها محصورة في نوعين : التروك والأفعال . فقوله { فسأكتبها للذين يتقون } إشارة إلى التروك . التكليف الفعلي إما ما لي وهو قوله { ويؤتون الزكاة } وإما غيره وذلك قوله { والذين هم بآياتنا يؤمنون } فإنه يشمل كل ما يجب على الإنسان علماً وعملاً . ثم ضم إلى ذلك اتباع النبي الأمي إلى آخره . وصف محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفات تسع : الأولى الرسالة .

الثانية النبوة . فإن قيل : النبوة مندرجة تحت الرسالة فلم أفردها بالذكر؟ قلت : لا بل بينهما عموم وخصوص من وجه فقد يكون رسولاً ولا يكون نبياً كقوله { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] وقد يكون نبياً لا رسولاً ككثير من الأنبياء ، فلا يكون أحد الوصفين على الإطلاق مغنياً عن الآخر . ولو سلم فذكر الآخر تتميم وتصريح بما علم ضمناً . الثالثة . كونه أمياً . قال الزجاج : معناه أنه على صفة أمة العرب . قال صلى الله عليه وآله : « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » وقيل : إنه منسوب إلى الأم أي إنه على هيئته يوم ولد لم يكتسب خطأ ودراسة . وكان هذا من جملة معجزاب نبينا صلى الله عليه وسلم وبيانه من وجوه : الأول أنه كان يقرأ عليهم كتاب الله منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل . والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها وينقص ، فهذا المعنى من مدد سماوي كقوله { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] الثاني لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً بأنه طالع كتب الأوّلين ، ولما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على جلائل العلوم من غير تعلم ومطالعة عرف أنه من السماء وإليه الإشارة بقوله { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] الثالث : أن تعلم الخط لا يتفقر إلا إلى فطنة قليلة ومع ذلك كان الخط مشكلاً عليه . ثم إن الله تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من العالمين ، فالجمع بين هاتين الحالتين من الأمور الخارقة للعادة كالجمع بين الضدين . الصفة الرابعة { الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } الضمير في يجدون للذين يتبعونه من بني إسرائيل . ثم إن كان المراد أسلافهم فالوجه أن يراد بالاتباع اعتقاد نبوته من حيث وجدوا نعته في التوراة إذ لا يمكن أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثه إلى الخلق ، ويكون المراد من قوله { والإنجيل } أنهم يجدون نعته مكتوباً عندهم في الإنجيل فمن المحال أن يجدوه في الإنجيل قبل إنزال الإنجيل ، وإن كان المراد المعاصرين فالمعنى أن هذه الرحمة لا يفوز بها بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى واتبع نبي آخر الزمان في شرائعه ، وفي هذا دليل على أن نعته وصحة نبوّته مكتوب في التوراة والإنجيل ، وإلا كان ذكر هذا الكلام من أعظم القوادح والمنفرات لأهل الكتابين عن قبول قوله ، لأن الإصرار على الزور والبهتان يوجب نقصان حال المدعي فلا يرتكبه عاقل فلما أصر على ذلك دل على أن الأمر في نفسه كذلك . الخامسة والسادسة { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } وقد ذكرنا تفصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آل عمران ومجامع ذلك محصورة في قوله صلى الله عليه وسلم :

« ملاك الدين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله » فإن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً على توحيد الله وتنزيهه فإنه يجب النظر إليها بعين الاحترام والإشفاق كما يليق بها . السابعة { ويحل لهم الطيبات } قيل : أي ما يستطاب طبعاً لأن تناول ذلك يفيد لذة . وقيل : يعني الأشياء التي حكم الله تعالى بحلها وزيف بأنه يجري مجرى قول القائل : ويحل المحللات وهو تكرار . ويمكن أن يجاب بأن المراد ويبين لهم المحللات . وفائدة العدول أن يعلم أن كل حلال مستطاب طبعاً وأن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا الدليل منفصل . وقيل : يعني ما يحرم عليه من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها . الثامنة { ويحرم عليهم الخبائث } قال عطاء عن ابن عباس : الميتة والدم ونحوهما من المحرمات . وقيل : كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا بدليل منفصل . التاسعة { ويضع عنهم إصرهم } الإصر الثقل الذي يأصر حبه أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لصعوبة تكاليفهم كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة . وكذا الأغلال التي كانت علهيم مثل لما في شرائعهم من الأمور الشاقة كالقصاص بتة من غير شرع الدية ، وكقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب . وإحراق الغنائم ، وتحريم العروق في اللحم جعلها الله تعالى أغلالاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل . عن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم ، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبدة . فالأغلال على هذا القول غير مستعارة ، وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار والمشاق الحرمة كما قال صلى الله عليه وسلم : « بعثت بالحنيفية السهلة السمحة » وهذا أصل عظيم في هذه الشريعة . ثم لما وصفه بالصفات التسع أكد الإيمان به بقوله { فالذين آمنوا به } قال ابن عباس : يعني من اليهود والأولى حمله على العموم { وعزروه } وقروه وعظموه . قال في الكشاف : وأصل العزر المنع ومنه التعزير للضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح . فالمراد ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّه ، وعلى هذا لم يبق بينه وبين قوله { ونصروه } فرق كبير { واتبعوا النور الذي أنزل معه } وهو القرآن أي أنزل مع نبوّته لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن أو يتعلق ب { اتبعوا } أي اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته ، واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي مصاحبين له في اتباعه { أولئك هم المفلحون } الفائزون بالمطلوب في الدارين ، اعلم أنه سبحانه لما قال { فسأكتبها للذين يتقون } بين أن من شروط نزول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين لرسول آخر الزمان ، ثم أراد أن يحقق عموم رسالته إلى المكلفين فقال { قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً } وانتصابه على الحال من { إليكم } وفيه دليل على أن محمداً صلى الله عليه وآله مبعوث إلى الخلق كافة خلافاً لطائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أتباع عيسى الأصفهاني ، زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول صادق لكنه مبعوث إلى العرب خاصة وفساده ظاهر لأنه من المعلوم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي عموم الرسالة فإن كان رسولاً إلى العرب وإلى غيرهم .

وزعم بعض العلماء أنه عام دخله التخصيص لأنه غير مبعوث إلى غير المكلفين بقوله : صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق » وأيضاً يمكن وجود قوم في طرف من أطراف العمارة لم يصل إليهم خبر وجوده فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوّته . والجواب أن رفع القلم عن الأصناف الثلاثة أيضاً حكم عليهم بهذا الاعتبار يدخلون تحت الخطاب وإن وجود قوم كما زعمتم من المستبعدات فلا يستحق الالتفات إليه . قال بعض الأكابر : إن الآية وإن دلت على أنه صلى الله عليه وسلم مبعثوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء ما كان مبعوثاً إلى كلهم . وقد تمسك جمع من العلماء بالحديث المشهور : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، وختم بي النبيون » ورد بأن مجموع هذه الأمور من خواصه لا كل واحد واحد ، وبأن آدم بعث إلى كل أولاده في ذلك الزمان فيكون مبعوثاً إلى كل الناس وقتئذ . ولا يخفى ضعف هذا الرد لأنا نعلم من دين محمد أنه خاتم النبيين وحده في رواية أخرى : « وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي » وإذا كان بعض هذه الأمور من خواصه لزم أن يكون كل واحد منها كذلك . وأيضاً أن آدم لم يكن مبعوثاً إلى حواء لأنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل ولا تقرباً . ثم لما أمر رسول الله بأن يقول للناس أني رسول الله إليكم أتبعه ذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى وأنها لا تتم إلا بتقرير أصول أربعة : أوّلها إثبات أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً وأشار إليه بقوله { الذي له ملك السموات والأرض } إذ لو لم يكن للعالم مؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار لم يمكن القول ببعثة الرسول . ومحل { الذي } نصب أو رفع على المدح أو جر بدلاً أو وصفاً لله . وثانيها أن إله العالم واحد وذلك قوله { لا إله إلا هو } إذ لو فرض إلهان لم يكن عبادة أحدهما أولى من عبادة الآخر .

وثالثها أنه تعالى قادر على الخير والشر والبعث والحساب كما قال { يحيى ويميت } وإنما لم يوسط العاطف بين هذه الجمل لأن كل واحد منها مبينة لما قبلها ، وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت أصل رابع وهو أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف . أما بالأصل الأوّل والثاني فلأنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ولا سيما إذا كان فرداً منزهاً عن الشريك والنظير مستقلاً بالأمر والنهي . وأما الأصل الثالث فلأنه يحسن من القادر تكليف المكلف بنوع من طاعته إيصالاً له إلى الجزاء إلى لذة الجزاء ، فإن تحصيل لذة الأجر بدون كونه أجر ممتنع وأشار إلى هذا الأصل الرابع بقوله { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي } اقتصر من الصفات المذكورة ههنا على الأمية لأنها أجل الأوصاف وأدلها على حقيته ، وذلك أنه لم يتفق له مطالعة كتاب ولا مصاحبة معلم لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبة طويلة يمكن التعلم فيها ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين فليس ذلك إلا بتأييد سماوي وفيض إلهي . ثم وصفه بقوله { الذي يؤمن بالله وكلماته } لأن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون ممن آمن بالله وبكتبه . وإنما لم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قول { إني رسول الله } بل عدل إلى المظهر ليمكن أن يجري عليه الصفات المذكورة . ولما في طريقة الالتفات من البلاغة ، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً من كان ، أنا أو غيري إظهاراً للنصفة واحترازاً عن العصبية . واعلم أن الكمالات إما نظرية وأشار إليها بقوله { فآمنوا بالله } وإما عملية وإليها الإشارة بقوله { واتبعوه } والأولى إشارة إلى التكاليف المستفادة من أقواله ، والثانية إشارة إلى المستفادة من أفعاله ، فإن كل فعل يصدر عنه وقد واظب عليه فلا بد أن يكون جانب فعله ذلك الفعل جانب فعله راجحاً على تركه . ثم إن ظاهر الأمر للوجوب فيجب علينا اتباعه وإن كان ذلك مندوباً له إلا أن يدل دليل منفصل على أن ذلك الفعل من خصائصه . ومعنى الترجي في { لعلكم تهتدون } قد مر في نظائره ولا سيما في أوّل البقرة في قوله { لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] ثم لما ذكر الرسول وأنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن في قوم موسى من اتبع الحق وهدي إليه فقال { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } أي يهدون الناس بكلمة الحق { وبه } أي بالحق { يعدلون } بينهم في الحكم لا يجورون . وهذه الآية متى حصلت في أي زمان كانت؟ اختلف المفسرون في ذلك . فقيل : هم اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كعبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما .

ولفظ الأمة قد يطلق على القليل إذا كان لهم شأن كما أطلق على الواحد في قوله { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] وقيل : إنهم قوم ثبتوا على دين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع ، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه ، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك ، وقال السدي وجماعة من المفسرين : إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين . ثم من المفسرين من قال : إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن بناء على أن خبر نبينا لم يصل إليهم فيهم معذورون ، ومنهم من استبعد عدم وصول الخبر إليهم مع أن خبر هذه الشريعة طار في كل أفق وتغلغل في كل نفق فقال : إنهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل ذهب به صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبرائيل : هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا : لا . قال : هذا محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي فآمنوا به . وقالوا : يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام ، فرد محمد على موسى عليه السلام ثم أقرأهم عشر سور من القران نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت والله أعلم .
التأويل : { واختار موسى قومه } المختار من الخلق من اختاره الله تعالى { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة } [ القصص : 68 ] فالذي اختاره الله كان مثل موسى { وأنا اخترتك } [ طه : 13 ] . والذين اختارهم موسى كانوا مستحقين بسوء الأدب للرجفة والصعقة . وههنا نكتة هي أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصاً بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله للرؤية شعلة نار المحبة مقروناً بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله { رب أرني أنظر إليك } قدّم عزة الربوبية وأظهر ذلة العبودية ، وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية فتصاعد دخان الشوق بسوء الأدب فقالوا { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] قدّموا الجحود والإنكار وطلبوا الرؤية جهاراً فأخذتهم الصاعقة . فصعقة موسى كانت صعقة اللطف مع تجلي صفة الربوبية ، وصعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار صفة العزة والعظمة . ولما كان موسى عليه السلام ثابتاً في مقام التوحيد كان ينظر بنور الواحدة فيرى الأشياء كلها من عند الله ، فرأى سفاهة القوم من آثار صفات قهره فتنة واختياراً لهم فقال { إن هي إلا فتنتك } تزيع بها قلب من تشاء بأصبع صفة القهر ، وتقيم قلب من تشاء بإصبع صفة اللطف .

{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } الرؤية كما كتبت لمحمد صلى الله عليه وسلم { فسأكتبها } يعني حسنة الرؤية والرحمة { للذين يتقون } بالله عن غيره { ويؤتون } عن نصاب هذا المقام { الزكاة } إلى طلابه والذين هم بأنوار شواهد الآيات بالتحقيق لا بالتقليد يؤمنون ، وفي قوله { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } إشارة إلى أن في أمته من يكون مستعداً لاتباعه في هذه المقامات الثلاثة ، ومعنى الأمي أنه أم الموجودات وأصل المكوّنات كما قال صلى الله عليه وسلم : « أول ما خلق الله روحي » وقال حكاية عن الله لولاك لما خلقت الكون . فأما اتباعه في مقام الرسالة فبأن تأخذ منه ما أتاك وتنتهي عما نهاك { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] فالرسالة تتعلق بالظاهر والنبوة بالباطن فللعوام شركة مع الخواص في الانتفاع من الرسالة وللخواص اختصاص بالانتفاع من النبوة ، فمن أدى حقوق أحكام الرسالة في الظاهر يفتح له ببركة ذلك أحوال النبوة في الباطن فيصير صاحب الإشارات والإلهامات الصادقة والرؤيا الصالحة والهواتف المملكية ، وربما يؤل حاله إلى أن يكون صاحب المكالمة والمشاهدة والمكاشفة ، ولعله يصير مأموراً بدعوة الخلق إلى الحق بالمتابعة لا بالاستقلال كما قال صلى الله عليه وآله : « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » وأما اتباعه في مقام أمبته فذلك لأخص الخواص وذلك أنه صلى الله عليه وآله يرجع بالسير من مقام بشريته إلى مقام روحانيته الأولى ، ثم بجذبات الوحي أنزل في مقام التوحيد وهو قاب قوسين ، ثم اختطف بأنوار الهوية عن أنانيته إلى أو أدنى وهو مقام روحانيته ثم بجذبات النبوة أنزل في مقام التوحيد ، ثم اختطف بأنوار المتابعة عن أنانيته إلى مقام الوحدة فقد حظي من مقام أميته { مكتوباً عندهم } بالحقيقة هو مكتوب عنده في مقعد صدق { يأمرهم بالمعروف } وهو طلب الحق { وينهاهم عن المنكر } طلب ما سواه { ويحل لهم الطيبات } كل ما يقرّب إلى الله فإن الله هو الطيب { ويحرم عليهم الخبائث } الدنيا وما فيها { ويضع عنهم أصرهم } أي العهد الذي بين الله وبين حبيبه أو لا يوصل أحد إلى مقام أميته إلا أمته وأهل شفاعته كقوله : « الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم » فكان من هذا العهد عليهم شدة وأغلال يمنعهم من الوصول إلى هذا المقام . فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإصر والأغلال بالدعوة إلى متابعته ، وأشار إلى هذه المعاني بقوله { فالذين آمنوا به وعزروه } وقروه باعتقاد اختصاص هذا المقام به دون سائر الأنبياء والرسل ونصروه بالمتابعة { واتبعوا } نور الوحدة الذي { أنزل معه } له ملك سموات القلوب وأرض النفوس لا مدبر فيهما غيره ، يحيي قلب من يشاء من عباده بنور الوحدة ، ويميت نفسه عن صفات البشرية .

وكلماته هي ما أوحى إليه ليلة المعراج بلا واسطة { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } يعني خواصهم الذين يرشدون الخلق بالكتاب المنزل بالحق على موسى { وبه يعدلون } في الحكم بين العوام فشتان بين أمة غايتهم القصوى هي هداية الخلق وكان نبيهم محجوباً بحجاب الأنانية عند سؤال الرؤية فأجيب ب { لن تراني } وبين أمة أمية بلغوا بجذبات أنوار المتابعة إلى مقام الوحدة حتى سموا أمة أميين وقال في حقهم : « كنت له سمعاً وبصراً ولساناً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق » فلهذا دعا موسى عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقاء ربه فافهم جداً .


وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

القراآت : { تغفر } بالتاء الفوقانية مضمومة وفتح الفاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل . الباقون : بالنون وكسر الفاء { خطاياكم } مجموعاً جمع التكسير : أبو عمرو { خطيئتكم } بالرفع وعلى الواحدة : ابن عامر { خطيئاتكم } بالرفع مجموعاً جمع السلامة : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب والمفضل . الباقون : مثله ولكن بالنصب الذي يليق بجمع سلامة المؤنث . { يسبتون } من الإسبات . زيد عن المفضل معذررة بالنصب حفص والمفضل . الباقون : بالرفع { يئس } مثل رئم : أبو جعفر ونافع { بيِّس } على فعيل كسيد : ابن عامر { بيئس } على فيعل بفتح العين : الأعشى والبرجمي . الباقون { بئيس } على فعيل . { تأذن } بالتليين : الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة في الوقف { تعقلون } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص . الباقون بياء الغيبة { يمسكون } من الإمساك : أبو بكر وحماد والآخرون بالتشديد .
الوقوف : { أمماً } ط وإن اتفقت الجملتان لأن { أوحينا } عامل { إذا استسقاه } دون { قطعنا } فإن تفريق الأسباط لم يكن في زمان الاستسقاء { الحجر } ط للحذف مع اتحاد الكلام أي فضرب فانبجست { عيناً } ط { مشربهم } ط { والسلوى } ط { ما رزقناكم } ط لحذف جمل أي قلنا كلوا ولا تدخروا فادخروا فانقطع عنهم { وما ظلمونا } ط { يظلمون } ه { خطيئاتكم } ط { المحسنين } ه { يظلمون } ه { البحر } لا كيلا يصير ما بعده ظرفاً لقوله { وأسألهم } فإنه محال { لا تأتيهم } ج لاحتمال تعلق { كذلك } به أي يوم لا يسبتون لا تأتيهم إتياناً كإتيانهم يوم السبت . والأصح أن كذلك صفة مصدر محذوف أي نبلوهم بلاء كذلك فالوقف على { كذلك } جائز أيضاً { يفسقون } ه { قوماً } { العذاب } ط { رحيم } ه { وأمماً } ج لاحتمال كون ما بعده صفة أو مستأنفاً { دون ذلك } ز للعطف على { قطعنا } فإن لم تجعل الجار صفة للأمم كان عطفاً مع عارض { يرجعون } ه { سيغفر لنا } ج { يأخذوه } ط { يتقون } ه { تعقلون } ه { الصلاة } ص على تقدير حذف أي لا نضيع أجرهم إذ هم المصلحون { ولا نضيع أجر المصلحين } ، وللوصل وجه على تقدير وضع الظاهر موضع الضمير أي إنا لا نضيع أجرهم المصلحين { واقع بهم } ط الحق المحذوف { تتقون } ه .
التفسير : إنه سبحانه ختم قصة بني إسرائيل بتعداد جمل من أحوالهم تبصرة للمكلفين بعدهم . ومعنى { قطعناهم } أي صيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم عن بعض كيلا يتحاسدوا ويتباغضوا فيقع بينهم الفتن والهرج . الأسباط أولاد الأولاد جمع سبط وأصله من السبط نبت يعتلفه الإبل فكان الأب كالشجرة والأولاد كالأغصان الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل من العرب وههنا سؤال وهو أن مميز ما عدا العشرة إلى تسعة وتسعين مفرد فهلا قيل اثني عشر سبطاً؟ وأجيب بأن كل قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطاً موضع قبيلة كقوله :

بين رماحي مالك ونهشل ... ولهذا أنث اثنتي عشرة
وقال الزجاج : المميز محذوف و { أسباطاً } نعت لذلك المحذوف والتقدير : اثنتي عشرة فرقة أسباطاً . وقال الفارسي والجوهري : { أسباطاً } بدل من { اثنتي عشرة } والمميز كما قال الزجاج . وقوله { أمماً } بدل من { اثنتي عشرة } لأن كل أسباط كانت جماعة كثيرة العدد تؤم خلاف ما كانت تؤمه الأخرى . وباقي الآية إلى قوله { بما كانوا يظلمون } قد مر تفسيره في البقرة ، وكذا بيان المتشابهات فلنذكر النوع الآخر من أحوالهم . قوله تعالى { واسئلهم عن القرية } أي عن أهلها وليس المقصود تعرف هذه القصة من قبل اليهود لأنها معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى ، ولكن المراد تقرير ما كانوا قد أقدموا عليه من الاعتداء والفسق ليعلم أن هلم سابقة في ذلك ، وليس كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أول مناكيرهم . وقد يقول الإنسان لغيره : هل كان هذا الأمر كذا وكذا ليعرف ذلك الغير أنه محيط بتلك القصة؟ وفيه أنه إذا أعلمهم به من لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً كان ذلك مستفاداً من الوحي فيكون معجزاً . والكثرون على أن تلك القرية أيلة ، وقيل مدين ، وقيل طبرية ، والعرب تسمي المدينة قرية . ومعنى { حاضرة البحر } قريبة من البحر وعلى شاطئه { إذ يعدون في السبت } يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت . ومحل { إذ يعدون } مجرور بدلاً عن القرية بدل الاشتمال أي واسألهم عن وقت عدوانهم . قال في الكشاف : يجوز أن يكون منصوباً بحاضرة أو بكانت بناء على أن كان الناقصة تعمل في غير الاسم والخبر وفيه نظر إذ لا معنى لكون القرية حاضرة البحر في قوت العدوان لأنها حاضرته في جميع الأحيان وقوله { إذ تأتيهم } منصوب ب { يعدون } أو مجرور بدلاً بعد بدل . والحيتان جمع الحوت وهو السمكة { شرعاً } ظاهرة على وجه الماء جمع شارع كركع وراكع وكل شيء دان من شيء فهو شارع ، ودار شارعة إذا دنت من الطريق ، ونجوم شوارع إذا دنت من المغيب ، فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها ، وعن الحسن تشرع على ابوابهم كأنها الكباش البيض . وقال ابن عباس ومجاهد : إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله تعالى به وحرم عليهم الصيد فيه ، وباقي القصة مذكور في البقرة ، وفيها دلالة على أن من أطاع الله تعالى خفف عليه أهوال الدنيا والآخرة ، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلايا والمحن . قالت الأشاعرة : لو وجب رعاية الأصلح على الله تعالى لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية وهذا الاعتراض وارد على خلق إبليس وسائر أسباب الشرور . والنوع الثالث قوله { وإذ قالت } وهو معطوف على { إذ يعدون } وحكمه حكمه في الإعراب { أمة منهم } جماعة من صلحاء أهل القرية الذين بالغوا في موعظتهم حتى آيسوا الآخرين كانوا لا يتركون وعظهم { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } مدمرهم { أو معذبهم عذاباً شديداً } لعلمهم بأن عاقبة المعصية شؤم والمنهمك في الفساد لا يكاد يفلح { قالوا معذرة } من رفع فبتقدير هذه أو موعظتنا أو قولنا إبداء عذر إلى الله .

والمعذرة مصدر كالمغفرة ، ومن نصب فعلى أنَّا نعتذر معذرة أو وعظناهم معذرة إلى ربكم أي إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين { ولعلهم يتقون } ولأنا نرجو أن يتقوا بعض الاتقاء فيتركوا الصيد في السبت { فلما نسوا } يعني أهل القرية تركوا ما ذكرهم به الصالحون { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } ومعناه على اختلاف القراآت شديد من بؤس بأساً إذا اشتد . والظاهر أن هذا العذاب عير المسخ المتأخر في قوله { فلما عتوا } تكبروا وتمردوا أو أبوا عن ترك ما نهوا عنه بحذف المضاف لأن الإباء عن المنهي عنه يكون طاعة { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } والمراد أمر التكوين والإيجاد لا أن هناك قولاً . وقيل : فلما عتوا تكرير لقوله { فلما نسوا } والعذاب البئيس هو المسخ . عن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة . هاه وأيم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله جعل موعداً والساعة أدهى وأمر . وقد ذكرنا هذه القصة مع تحقيق المسخ في سورة البقرة إلا أنه بقي ههنا بحث هو أن أهل القرية كم فرقة كانوا؟ فقيل : فرقتان المذنبة والواعظة ، وأما الأمة القائلة « لم تعظون » فهم المذنبة بعينها قالوا للفرقة الواعظة { لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم } بزعمكم . والاعتراض على هذا القول أنه لو صح ذلك لكان اللائق أن يقال في الجواب معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون لأن الجميع خطاب من الفرقة الناهية للفرقة العاصية . والصحيح أنهم ثلاث فرق فرقة مذنبة وفرقة واعظة وفرقة قالوا للواعظين { لم تعظون } أما المذنبة فقد هلكوا بالاتفاق ، وأما الواعظة فقد نجوا . بقي الكلام في الثالثة : فعن ابن عباس أنه توقف فيهم وكان يقول فيهم ليت شعري ما فعل بهؤلاء . وعنه أيضاً أنهم هلكوا وكان إذا قرىء عليه هذه الآية بكى . وقال : أن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا ونحن نرى أشياء ننكرها ثم نسكت ولا نقول شيئاً . وعن الحسن أنهم نجوا لأنهم كانوا ينكرون عليهم ويحكمون بأن الله سيهلكهم أو يعذبهم وإنما تركوا الوعظ لأنهم لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال لقوم ، وإذا علم الناهي بحال المنهي وأن النهي لا ينجع فيه سقط عنه النهي . ولعل الواعظين لم يستحكم يأسهم بعد كما استحكم يأس هؤلاء أو لعلهم كانوا أحرص الطائفتين .

ولعل الأمة سألوا عن علة الوعظ سؤال المسترشدين لا سؤال المنكرين والله تعالى أعلم بالسرائر . النوع الرابع : { وإذ تأذن ربك } هو تفعل من الإيذان وهو الإعلام والمعنى عزم ربك لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه فكأنه يؤذن النفس بأنه يفعله وأجري مجرى فعل القسم في الجزم بالجزاء نحو « علم الله » و « شهد الله » . فأجيب بجواب القسم أي ختم ربك وكتب على نفسه { ليبعثن } ومعناه التسليط كقوله { بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد } [ الإسراء : 5 ] واختلف في العائد في { عليهم } فقيل : يرجع إلى الممسوخين بناء على أن لهم نسلاً . وقيل : إلى صلحاء تلك القرية فكأنه مسخ المعتدين وألحق الذل بالبقية . وقال الأكثرون : هم اليهود الذين أدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شريعته فثبتوا على الكفر واستمروا على اليهودية . أما العذاب فقيل : هو أخذ الجزية كانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم ، فلا تزال مضروبة عليهم إلى يوم القيامة . وقيل : الاستخفاف والإهانة . وقيل : القتل والقتال كما وقع في زمن بختنصر وغيره . وقيل : الإخراج عن الأوطان كما في يهود خيبر وبني قريظة والنضير . وإذ قد أخبر الله تعالى بلزوم الذل والصغار إياهم ونحن نشاهد أن الأمر كذلك فهو إذاً إخبار عن الغيب فيكون معجز . قيل : والخبر المروي في أن أتباع الدجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهود ، ثم دانوا بآلهيته فذكروا بالاسم الأول ، وإنما تكلف ذلك لأنهم يكونون في وقت اتباع الدجال قاهرين غالبين . النوع الخامس : { وقطعناهم في الأرض أمماً } فرقناهم فيها تفريقاً شديداً فلا يكاد يوجد بلد إلا وفيه منهم طائفة { منهم الصالحون } الذين كانوا في زمن موسى يهدون بالحق أو الذين هم وراء الصين . وعن ابن عباس ومجاهد : الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وآمنوا به . { ومنهم دون ذلك } أي ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه فيجوز أن يكون فيهم بعض الصلاح وإن كان أدون من صلاح الأولين إلا أن قوله بعد ذلك { لعلهم يرجعون } يدل على أن المراد بهم الكفرة الفسقة الباقية على ضد الخير والرشاد . ومحل { دون ذلك } رفع على أنه صفة مرفوع محذوف كما قلنا { وبلوناهم } عاملناهم معاملة المبتلى المختبر { بالحسنات } الخصب والعافية { والسيئات } بالجدب والشدائد { لعلهم يرجعون } لأن كلاً من الحالتين تدعو إلى الطاعة والإنابة والنعم بالترغيب والنقم بالترهيب { فخلف من بعدهم خلف } ظاهره يدل على أن الأوّل ممدوح والثاني مذموم . فالمراد فخلف من بعد أولئك الصلحاء خلف سوء . قال الجوهري الخلف القرن بعد القرن يقال : هؤلاء خلف سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم .

قال الأخفش : وقد يحرك ومنهم من يقول خلف سوء من أبيه بالتسكين وخلف صدق من أبيه بالتحريك قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والخلف الردىء من القول يقال : سكت ألفاً ونطق خلفاً أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ { ورثوا الكتاب } أي التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي ولا يعملون بها { يأخذون عرض هذا الأدنى } أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها . يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر . وفي الإشارة بقوله { هذا الأدنى } تحقير وتخسيس . وأراد بالدنو القرب لأنه عاجل . أو دنو الحال وسقوطها وقلتها . والمراد كانوا يأخذونه من الرشا في تحريف الأحكام والنعوت { ويقولون سيغفر لنا } يؤاخذنا الله بما أخذنا . وإسناد الفعل إما إلى الجار والمجرور وإما إلى الأخذ الدال عليه { يأخذون } ، { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } الواو للحال أي يرجون المغفرة جزماً وهم مصرون والمراد الإخبار عن إصرارهم على الذنوب . وقال الحسن : هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يشبعون منها .
ثم بين نكث عهدهم فقال { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } أي التوراة . ومحل { ألا يقولوا على الله إلا الحق } رفع عطف بيان للميثاق المذكور في التوراة وهو أن لا يحرّفوا الكلم عن مواضعه ولا يقبلوا الرشا أو لا يصروا على الذنب مع الجزم بالغفران . فإن خلاف كل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله وتقول عليه ما ليس بحق . ويجوز أن يكون { ألا يقولوا } مفعولاً لأجله ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون « أن » مفسرة { ولا يقولوا } نهياً كأنه قيل : ألم نقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق؟ { ودرسوا } عطف على { ألم يؤخذ } لأنه تقرير كأنه قيل : أخذ عليهم الميثاق وقرأوا ما فيه أي أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم قد قرأوه ودرسوه . { والدار الآخرة خير } من ذلك العرض الخسيس { للذين يتقون } الرشا والمحرمات . ثم لما ذكر حال من ترك التمسك بالتوراة أتبعها حال من تمسك أي اعتصم به فقال { والذين يمسكون } الآية والتشديد للتكثير وفي إفراد إقامة الصلاة بالذكر مع أن التمسك بالكتاب مشتمل على كل عبادة إظهار لمزية الصلاة وإشعار بأنها عماد الدين . النوع السادس : { وإذ نتقنا الجبل } قال أبو عبيدة : أصل النتق قلع الشيء عن موضعه والرمي به ومنه امرأة ناتق إذا كثر ولدها كأنها ترمي بأولادها رمياً . والمعنى إذا قلعنا الجبل من أصله وجعلناه { فوقهم كأنه ظله } وهي كل ما أظلك من سقف أو حائط { وظنوا أنه واقع بهم } علموا وتيقنوا أنه ساقط عليهم . وقيل : قوي في نفوسهم أنه يقع بهم إن خالفوا . روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ .

وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم . فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً عل حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة . ولما نشر موسى الألواح وفيه كتاب الله لم يبق جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهودياً تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه . { خذوا } على إرادة القول أي قلنا لهم أو قائلين خذوا { ما آتيناكم } من الكتاب { بقوة } بجد وعزيمة على احتمال مشاقه وتكاليفه { واذكروا ما فيه } من الأوامر والنواهي ، أو من التعريض للثواب ، أو المراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله { إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة { لعلكم تتقون } ما أنتم عليه من الإباء .
التأويل : { القرية التي كانت حاضرة البحر } هي قرية الجسد الحيواني على شاطىء بحر البشرية ، وأهل قرية الجسد الصفات الإنسانية صنف روحاني كصفات الروح ، وصنف قلبي كصفات القلب ، وصنف نفساني كصفات النفس الأمارة بالسوء ، وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله ، فلم تنتهك الحرمة إلا الصفات النفسانية { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً } لأن الإنسان حريص على ما منع فتهيج الدواعي في المحرمات دون المحللات { بما كانوا يفسقون } أي بما كان من طبيعة النفس وصفاتها من الخروج عن أمر الله أنها أمارة بالسوء { وإذ قالت أمة منها } هي صفات القلب قالوا لصفات الروح { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } بالمخالفات عند استيفاء اللذات والشهوات { أو معذبهم عذاباً شديداً } وهو المسخ بتبديل الصفات الإنسانية إلى الصفات الحيوانية { قالوا معذرة إلى ربكم } لأنه خلقنا هكذا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنقضي ما علينا ليعلم أنّا ما تغيرنا عن أوصافنا الروحانية والملكية ، ولعل النفس وصفاتها { يتقون } فتتصف بالمأمورية والاطمئنان فإنها قابلة لذلك { بعذاب بئيس } وهو إبطال استعداد قبول الفيض الإلهي { ليبعثن عليهم } على الأرواح والقلوب الذين يتبعون النفس وصفاتها { من يسومهم } وهو الشيطان المنظر إلى يوم القيامة { سوء العذاب } عذاب البعد عن الله وعذاب ذلة الخدمة للنفس والشيطان { وقطعناهم } فرقنا الأرواح والقلوب في أرض الأجساد { منهم الصالحون } قابلون لفيض نور الله { ومنهم دون ذلك } في القبول { وبلوناهم بالحسنات } وهي الطاعات { والسيئات } وهي المعاصي { لعلهم يرجعون } إلى الحق . وذلك أن السير إلى الله يتم بقدم الطاعة وبقدم ترك المعصية ومن هنا قيل خطوتان وقد وصلت . أو بلوناهم بالحسنات ليرجعوا إلينا بقدم الشكر ، والسيئات ليرجعوا بقدم الصبر أو بلوناهم بكثرة الطاعات والعجب بها كما كان حل إبليس وبكثرة المعاصي والندامة عليها كما كان حال آدم { فخلف } من بعد الأرواح والقلوب لما سلكوا طريق الحق ووصلوا إلى مقعد صدق خلفهم النفوس الأمارة بالسوء { ورثوا الكتاب } وهو ما ألهم الله تعالى الأرواح والقلوب من المواعظ والحكم والمعاني والأسرار وورثتها النفوس وجعلوها ذريعة للعروض الدنياوية وتحصيل المال والجاه واستيفاء اللذات { ويقولون سيغفر لنا } مثل هذه الزلات لأنا واصلون كاملون كما هو مذهب أهل الإباحة ، أو سيغفر لنا إذا اسغفرنا وهم يستغفرون باللسان لا بالقلب { وإذ نتقنا الجبل } فيه أن الإنسان لو وكل إلى طبعه ونفسه لا يقبل شيئاً من الأمور الدينية وإنما يعان على القبول بأمر ظاهر أو باطن .

وفيه أن على رؤوس أهل الطلب جبل أمر الحق وهو أمر التحويل فيحولهم بالقدرة إلى أن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم .


وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

القراآت : { ذريتهم } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل . الباقون : على الجمع { يقولوا } بياء الغيبة في الحرفين : أبو عمرو { يلهث ذلك } بالإظهار : حفص والأصفهاني عن ورش ، والحلواني عن قالون والنقاش عن أبي ربيعة عن قنبل { يلحدون } بفتح الياء والحاء : حمزة ، الباقون : بضم الياء وكسر الحاء من الإلحاد { ولقد ذرأنا } مظهراً : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ورش وعاصم غير الأعشى { ذرأنا } بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف . الباقون : بالهمز .
الوقوف : { أنفسهم } ج لأن التقدير وقال ألست بربكم مع اتحاد الكلام . بربكم ط فصلاً بين السؤال والجواب . { بلى } ج لأن { شهدنا } يصلح أن يكون من قولهم فيوقف على { شهدنا } ويعلق أن بمحذوف أي فعلنا ذلك لئلا تقولوا ، ويصلح أن يكون { شهدنا } من قول الملائكة أي قيل للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا فيكون منفصلاً من جملة بلى متصلاً بأن تقولوا . { غافلين } ه لا للعطف { من بعدهم } ج لابتداء الاستفهام واتحاد القائل . { المبطلون } ه { يرجعون } ه { الغاوين } ه { هواه } ج لأن قوله { فمثله } مبتدأ ولدخول الفاء فيه { كمثل الكلب } ج لابتداء الشرط من أن الجملة تفسير للمثل { أو تتركه يلهث } ط { بآياتنا } ط { يتفكرون } ه { يظلمون } ه { المهتدي } ج للعطف ولأن التفصيل بين الجملتين أبلغ في التنبيه { الخاسرون } ه { والإنس } ط والوصل أولى لأن الجملة بعده صفة ل { كثيراً } ، { لا يفقهون بها } ج لأن العطف صحيح ولكن الوقف لإمهال فرصة الاعتبار وكذا الثانية ولهذا كرر لفظة { لهم } في أول كل جملة { لا يسمعون بها } ط { أضل } ط { الغافلون } ه { فادعوه بها } ص لعطف المتفقتين { في أسمائه } ط { يعملون } ه { يعدلون } ه { لا يعلمون } وج وعطف { وأملي } على { سنستدرجهم } احسن من جعله مستأنفاً فيوقف على { أملي } ، { لهم } ، { متين } ه .
التفسير : لما شرح قصة موسى على أقصى الوجوه ذكر ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين . وفي الآية للمفسرين قولان : أحدهما ما روى مسلم بن يسار الجهني ان عمر بن الخطاب قال : سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : « إن الله تبارك خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون . قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت في عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار »

وهذا القول ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي وابن عباس . وأما المعتزلة وأصحاب النظر والمعقولات فإنهم فسروا الآية بأنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشراً سوياً وخلقاً كاملاً ، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب في عقولهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته وكأنه قررهم وقال { ألست بربكم } وكأنهم { قالوا بلى } أنت ربنا { شهدنا على أنفسنا } وأقررنا بوحدانيتك . وباب التمثيل باب واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب نظيره { فقال له وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وقال الشاعر .
امتلأ الحوض وقال قطني ... وهذا القول الثاني غير منافٍ للقول الأول ولا هو مطعون في نفسه إنما الكلام في صحة القول الأول . والمنكرون طعنوا فيه بوجوه : منها أن قوله { من ظهورهم } بدل { من بني آدم } بدل البعض من الكل . فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم . وعلى هذا فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر بني آدم شيئاً . ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد من آدم ومن فلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن ، وثبت إخراج الذرة من ظهر آدم بالخير ، فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن الطعن . ومنها أن أولئك الذر إن لم يكونوا عقلاء لم يمكن أخذ الميثاق منهم وإن كانوا عقلاء وجب أن يتذكروا تلك الحالة في هذا الوقت ، وبهذا الدليل بعينه يبطل التناسخ . ويحتمل أن يجاب بالفرق وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهوراً امتنع في مجرى العادة نسيانها ، وأما أخذ هذا الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصور النسيان فيه . ومنها أن جميع الخلق من أولاد آدم جمع عظيم وجم غفير ، وصلب آدم على صغره لن يتسع لذلك المجموع على أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم فكل واحدة من أولئك الذر لها بنية وإن كانت صغيرة والمجموع يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار ، وأجيب بأن البنية عندنا ليست شرطاً في الحياة والعقل . فمن الجائز أن يكون كل من الذر جوهراً فرداً . ومنها أن فائدة أخذ الميثاق أن يكون حجة عليهم في ذلك الوقت أو في الدنيا ، والإجماع منعقد على أنهم بسبب ذلك لا التكليف على الطفل فكيف يتوجه على الذر؟ وأجيب بأنه لا يسأل عما يفعل .

وإن المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء نطق فكذا ههنا ، ولا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق نطق . وقيل : إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة . ومنها أنه سبحانه قال { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] وقال { فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق } [ الطارق : 5 ، 6 ] وكون أولئك الذر أناساً ينافي كون الإنسان مخلوقاً من الماء والطين . والجواب لا يجوز أن يخرج الله تعالى من صلب آدم ذرة من الماء ثم منها ذرة أخرى وهلم جراً إلى آخر نسلها ثم يعدم الكل أو يميتها فتحصل الحياة للإنسان أربع مرات : أولها؟ وقت الميثاق ، وثانيها : في الدنيا ، وثالثا : في القبر ، ورابعها في القيامة ، ويحصل له الموت ثلاثة مرات بين كل حياتين واحد . ولا ينافي هذا حكاية قول الكفرة { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } [ غافر : 11 ] لأنهم قالوا ذلك بناء على حسب ظنونهم . أما قوله { أن تقولوا } فالتقدير : وأشهدهم على أنفسهم بكذا لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا { يوم القيامة أنا كنا عن هذا } المشهود له { غافلين } من قرأ بياء الغيبة فلأن الكلام على الغيبة وهو قوله { من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم } لئلا يقولوا . ومن قرأ على الخطاب فلأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله { ألست بربكم } وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى . { أو يقولوا } يعني الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا فقلدناهم في ذلك الشرك فكان الذنب لأسلافنا فكيف تعذبنا على هذا الشرك وهو معنى قوله { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } والحاصل أن الله تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع منهم التمسك بهذا العذر . وعند المعتزلة معناه أشهدنا عليهم كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم فلا عذر معهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء . وقال في الكشاف : المراد ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله ، وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهم لأن الآيات السابقة في شأن اليهود . وكذلك قوله { واتل عليهم } أي على اليهود { نبأ الذي آتيناه آياتنا } أما قوله { وكذلك } أي ومثل ذلك التفصيل البليغ { نفصل الآيات } لهم { لعلهم يرجعون } وإرادة أن يرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل نفصلها أو يرجعوا إلى ما أخذ الله عليهم من الميثاق في التوحيد . ولبعض العلماء في الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها ، وهذا العلم ليس مما يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهو المراد بأخذ الميثاق عليهم ، لكنها بعد التعلق بالأبدان يشغلها التعلق عن معلومها فربما تتذكر بالتذكير والتنبيه وربما لا تتذكر { واتل عليهم } على بني آدم أو اليهود خاصة .

وقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد : نزلت في بلعم بن باعوراء؛ وذلك أن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفاراً فطلبوا أن يدعو على موسى وقومه . وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم . فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليهم فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل بدعائه في التيه . فقال موسى : يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال : بدعاء بلعم . فقال : كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه . ثم دعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع عنه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته . ويقال أيضاً أنه كان نبياً من أنبياء الله تعالى فلما دعا عليه موسى عليه السلام انتزع الله تعالى منه الإيمان فكان كافراً وهذا بعيد لأنه سبحانه قال { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] وفيه أنه تعالى لا يشرف عبداً من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر عبيده بمزيد الشرف والفضل ، ومن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر؟ وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق : نزلت في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى يرسل رسولاً في ذلك الوقت فرجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمد صلى الله عليه وآله حسده ثم مات كافراً ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : « لقد كاد يسلم » وذلك أنه يوحد الله تعالى في شعره وذكر دلائل توحيده من خلق السماء والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار . وقيل : نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاسق وكان يتزهد في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وآله فمات هناك طريداً وحيداً وهو قول سعيد ابن المسيب . وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي الحق عن الحسن والأصم . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيها ، وكانت له امرأة يقال لها البسوس وكان له منها ولد وكان يحبها فقالت : اجعل لي منها دعوة . قال : لك منها واحدة فماذا تأمرين؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل . فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئاً آخر فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان ، وجاء بنوها فقالوا : ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا بها الناس فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وبها يضرب المثل فيقال : « أشأم من البسوس » .

وقيل : هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم . ومعنى قوله { آتيناه آياتنا } عند الأكثرين علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عارفاً بها { فانسلخ منها } فخرج من محبة الله تعالى إلى معصيته ومن رحمته إلى سخطه . يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية إنه انسلخ منه . وقال أبو مسلم { آتيناه آياتنا فانسلخ منها } أي بيناها فلم يقبل وعري منها وتباعد كما هو شأن كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر . والقول الأول أولى لأن الانسلاخ يدل على أن الشيء كان موجوداً فيه ثم خرج منه لا على إنه لم يوجد فيه أصلاً . وأيضاً ثبت بالأخبار أن الآية نزلت في إنسان كان عارفاً بدين الله ثم خرج من المعرفة إلى الكفر والغواية وذلك قوله { فأتبعه الشيطان } أي أدركه ولحقه وصار قريناً له ، أو أتبعه الشيطان خطواته أو كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له { فكان من الغاوين } في علم الله تعالى أو فصار منهم { ولو شئنا لرفعناه } إلى منازل الأبرار { بها } أي بتلك الآيات { ولكنه أخلد إلى الأرض } أصل الإخلاد اللزوم على الدوام فكأنه قيل : لزم الميل إلى الأرض ومنه أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به . قال ابن عباس : معناه مال إلى الدنيا . وقاتل مقاتل : رضي بالدنيا . وقال الزجاج : سكن إلى الدنيا . وقال الواحدي : فهؤلاء فسروا الأرض بالدنيا لأن ما في الدنيا من الضياع والعقار كلها أرض وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وبها يكمل ويقوى ، ومعنى قوله { واتبع هواه } أنه أعرض عن التمسك بما آتاه من الآيات ، ثم إنه لو جاء الكلام على ظاهره لقيل : ولو شئنا لرفعنا بها ولكنا لم نشأ إلا أن قوله { ولكنه أخلد إلى الأرض } لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه . قالت الأشاعرة : لفظة « لو » تدل على أن الله تعالى قد لا يريد الإيمان ويريد الكفر . وقال الجبائيّ : معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن يحترمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى تسلم له الرفعة لكنا عرضناه بزيادة التكليف لمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان ، أو المراد لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهراً أو جبراً إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره . وقال صاحب الكشاف : ومعناه لو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها ، وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله { ولكنه أخلد إلى الأرض } فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون { ولو شئنا } في معنى ما هو فعله .

ثم وضع قوله { فمثله كمثل الكلب } موضع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في هذا المعنى ومحل قوله { أن تحمل عليه } النصب على الحل كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالين ، ويجوز أن يكون تفسيراً للمثل كما مر . قال الليث : اللهث هو أن الكلب ونحوه إذا ناله الإعياء عند شدّة العدو وعند شدّة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش ، وكل شيء يلهث فإنه يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في جميع أحواله لا لحاجة وضرورة بل لطبيعته الخسيسة . فمعنى الآية أن هذا الكلب إن شدّ عليه وهيج لهث ، وإن ترك لهث أيضاً لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له . عن ابن عباس : الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه . قيل : لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب فيكون هذا وجه التمثيل . واعلم أن التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلاب هو اللاهث ، وإن الرجل إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذلك إنما يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن من قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حاله شبيهة بحال ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا ضرورة بل لمجرد الطبيعة الجسدية . وأيضاً هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسار عادة أصيلة وطبيعة ذاتية له كما أن ذلك الكلب إن شدّ عليه لهث وإن ترك لهث . ثم عمم بالتمثيل جميع المكذبين الضالين فقال { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } وقال ابن عباس : يريد أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته كذبوه . وقيل : هم اليهود قرأوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . { فاقصص القصص } يريد قصص المكذبين أو قصص بلعم الذي هو نحو قصص المكذبين { لعلهم يتفكرون } فيحذرون مثل عاقبته إذ ساروا نحو سيرته .

ثم ذكر تأكيداً آخر في باب التحذير فقال { ساء مثلاً لقوم } ولا بد من تقدير مضاف ليناسب التمييز المخصوص بالذم فيصير التقدير : ساء مثلاً القوم ، أو ساء أصحاب مثل القوم . وفي { ساء } ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده . وظاهر الآية يقتضي كون المثل مذموماً فقيل : كيف يتصور ذلك مع أن الله تعالى ذكره؟ والجواب أن الذم إنما يتوجه إلى ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في ذلك بمنزلة الكلب اللاهث . أما قوله { وأنفسهم كانوا يظلمون } فإما أن يكون معطوفاً على كذبوا فيدخل في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، وإما أن يكون كلاماً منقطعاً بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، وتقديم المفعول للاختصاص كأنه قيل : وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها . ثم بين أن الهداية والضلال بتقديره فقال { من يهد الله فهو المهتدي } وهو محمول على اللفظ من حيث إن « من » مفرد اللفظ ومن حيث إن اهتدى مطاوع هدى { ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } محمول على المعنى لأن من معناه ههنا الجمع ولأن الخسار ليس مطاوع والإضلال بل الإضلال . مطاوع له والخسار لازم اللازم . ولا يخفى أن ظاهر الآية موافق لمعتقد الأشاعرة أن الهداية والضلال بل جميع الأفعال بخلق الله تعالى ، والمعتزلة أولوها بأن المراد من يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا ، ومن يضلله عن الجنة والثواب يضلله عن طريق الجنة . وقال بعضهم : التقدير من يهد الله فقبل هداه فهو المهتدي ، ومن يضل بأن لم يقبل فهو الخاسر . وقيل : من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ، ومن يضلله عن ذلك بما تقدم منه بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر ، وزيف بالعلم والداعي وبأن الأصل عدم الإضمار وبأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار وبالآية بعدها وهي قوله { ولقد ذرأنا } إلى آخره . وذلك أنه بين أنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم وقد علم ذلك في الأزل وخلاف مقدوره ومعلومه محال . وأيضاً العاقل لا يريد الكفر والجهل . الموجبين لدخول النار ، فحصول ذلك على خلاف قصده واجتهاده لا يكون إلا من قبل غيره ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مسبب الأسباب لا محالة . لا يقال العبد إنما يسعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الباطل لأنه اشتبه لأمر عليه وظنه اعتقاداً صحيحاً لأنا نقول على هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل جهل متقدم ، ولا تسلسل بل ينتهي إلى جهل حصل ابتداء فيتوجه الإلزام . قالت المعتزلة : الآيات الدالة على أنه سبحانه أراد من العبد الطاعة والعبادة والخير فقط كثيره كقوله

{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] وأيضاً أنه قال في معرض الذم { لهم قلوب لا يفقهون بها } إلى آخره . ولو كانوا مخلوقين للنار غير قادرين على الإيمان لم يحسن ذمهم . وأيضاً لو خلقهم للنار لما كان له نعمة على الكفار أصلاً لأن منافع الدنيا بأسرها لا اعتداد بها في جنب العذاب الدائم لكن القرآن مملوء من أنه تعالى منعم على جميع الخلائق . وأيضاً مذهبكم يوجب أن لا يكون للمدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب فائدة ، ولو خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم في النار ابتداء لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم . وأيضاً الآية متروكة الظاهر لأن لام الاختصاص لا تفيد فيها إلا إذا قدر « ولقد ذرأناهم » لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم فيجب بناؤها على قوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لأن ظاهره يصح من غير حذف . وعلى هذا أوجب أن تؤول الآية بأن اللام فيها لام العاقبة كقوله { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً } [ القصص : 8 ] أو يقال إنه جعلهم لإغراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه كأنهم مخلوقون للنار كقولهم ما خلق فلان إلا لكذا إذا كان غريقاً في بعض الأمور . وأجيب إجمالاً بأنه لا يسأل عما يفعل ، وتفصيلاً بأن النعمة وإن قلت فهي في نفسها نعمة ، وبأن الوسائط معتبرة ، وبأن حمل اللام على العاقبة تجوّز لا يصار إليه إلا لضرورة تصحيح المعنى ، وههنا لا ضرورة فقد تعاضدت الدلائل العقلية كالعلم والداعي والنقلية كآيات كثيرة على أن الكل من الله فوجب المصير إلى طرف الجبر ولا سيما فإن ما قبل هذه الآية وهو قوله { من يهد الله فهو المهتدي } وما بعدها وهو قوله { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم } يدل على ما قلنا . وأيضاً لا ريب أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالح الدنيا ، وكذا أعين مبصرة وآذان سامعة ، فالمراد أنهم كانوا يفقهون ويبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين . ثم إنه تعالى كلفهم تحصيل الدين مع عدم القابلية كيف وإن الكفار بلغوا في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شدة النفرة عن قبول دينه مبلغاً لا يكتنه كنهه . والعلم الضروري حاصل بأن حصول الحب والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حالة حاصلة في القلب كره الإنسان أو أراد ، حئنئذ يثبت القول بالجبر . وروى الشيخ أحمد البهقي في كتاب مناقب الشافعي أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام خط الناس فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع ، وإن وجد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط له مفسد .

وهذا الفصل كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب ، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها . وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر . وذكر الإمام الغزالي في الإحياء فصلاً ثم قال : فإن قلت أني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري . أجبنا وقلنا : هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئت ، وإن شئت أن لا تشاءه لم تشأ ، ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له ، فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار . والله تعالى أعلم . قال بعض العلماء أنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم ، وفيه دليل على أن محل الفقه هو القلب . وأقول : ليس المراد بالقلب ههنا اللحم الصنوبري بل اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وبالروح . أما قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل } فتقريره أن الإنسان يشاركه سائر الحيوان في القوى الطبعية الغاذية والنامية والمولدة ، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة ، وفي أحوال التخيل والتفكر . وإنما يحصل الامتياز بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فإذا لم تحصل هذه الغاية للإنسان صار في درجة الأنعام بل أضل وأدون لأن الذي أعرض عن اكتساب الفضائل مع القدرة على تحصيلها من حيث النوع كان أخس حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها . وقيل : وجه الأضلية أن الأنعام مطيعة لله والكافر غير مطيع . وقال مقاتل : الأنعام تعرف ربها وتبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيلها ودفعها ، وهؤلاء الكفار أكثرهم معاندون مصرون وقيل : إنها تفر أبداً إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها ، والكافر يهرب عن ربه إلى الأصنام . وقيل : إنها لا تضل إذا كان معها مرشد والكافر يضل بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة . وقال عطاء : إنهم الغافلون عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب . ثم نبه بقوله { ولله الأسماء الحسنى } على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكره سبحانه ، والمخلص من عذاب جهنم هو ذكره ، وكل من له ذوق وجد من نفسه أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن الذكر وأقبل على الدنيا وقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا فتح على قلبه الذكر خلص من نيران الآفات وخسران الحسرات إلى معرفة رب الأرض والسموات .

وهذا اللفظ مذكور في ثلاثة مواضع أخر : في آخر بني إسرائيل وفي أوّل طه وفي آخر الحشر . ومعنى حسن الأسماء حسن معانيها ومفهوماتها لأنها أسماء دالة على معاني الكمال ونعوت الجلا وهي محصورة في نوعين : عدم افتقاره تعالى إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه . وقد عرفت في تفسير البسملة أن أسماء الله تعالى لا تكاد تنحصر بحسب السلوب والإضافات ، فكل من كان وقوفه على أسرار حكمه في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله الحسنى أكثر . والآن نقول : إن من تقسيمات أسماء الله ما يقوله المتكلمون من أن صفات الله أنواع ما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه تعالى . ومنها أن يقال إن أسماء الله إما أن يجوز إطلاقها على غيره كالرحيم والكريم وإن كان معناها في حق الله مغايراً لمعناها في حق غيره ، وإما أن لا يجوز نحو « الله » و « الرحمن » . وقد يقيد القسم الأوّل بقيود مثل « يا أرحم الراحمين » و « يا أكرم الأكرمين » و « يا خالق السموات والأرضين » . ومنها أن يقال من الأسماء ما يمكن ذكره وحده كقولنا « يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم » . ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا « مميت » و « ضارّ » فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال « يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع » . ومنها أن يقال أوّل ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثاً للأشياء مرجحاً لوجودها على عدمها ، وذلك إنما يعلم بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه ، وذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة ، والأوّل باطل وإلا لزم دوام العالم بدوامه ، والثاني هو المعنيّ بكونه قادراً . ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالماً ثم نقول : إن القادر العالم يمتنع أن لا يكون حياً فظهر أن العلم بصفاته وبأسمائه ليس واقعاً في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض ، ومن البين أن الأسماء الحسنى لا تكون إلا لله تعالى لأن كل الشرف والجلالة يستلزم وجوب الوجود ، وكل نقص وخساسة فإنه يعقب الإمكان وكل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى . ومن هنا اختلف في أنه هل يطلق عليه اسم الشيء أم لا؟ وقد مر تحقيق ذلك في تفسير البسملة وفي الأنعام في قوله

{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [ الأنعام : 19 ] أما قوله { فادعوه بها } ففيه دليل على أن الإنسان لا يجوز أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى بعد أن عرف معانيها ويكون مستحضراً الأمرين : عزة الربوبية وذلة العبودية ، كما أنه في قوله عند التحريم « الله أكبر » يشير إلى أنه لا نسبة لكبريائه وعظمته إلى ما سواه من الروحانيات والجسمانيات والعلويات والسفليات وإنما هو أكبر من هذه الأشياء وأكبر من أن يقال له أكبر من هذه الأشياء { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق والمدخل فيه ما ليس منه . يقال قد ألحد في الدين ولحد . وقال غيره من أهل اللغة : الإلحاد العدول عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه للحد الذي يحفر إلى جانب القبر . قال الواحدي : الأجود قراءة العامة ولا يكاد يسمع من العرب لأحد بمعنى ملحد . والإلحاد في أسماء الله تعالى يقع على ثلاثة أوجه : الاوّل : إطلاق أسمائه المقدسة على الأصنام كاشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز ، ومناة من المنان ، وكان مسيلمة الكذاب يسمى نفسه الرحمن . والثاني أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمع عن البدو وإن قالوا بجهلهم « يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، يا نخّي » بناء على أن النخوة مدح . الثالث : أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى كالرحمن مثلاً . قال بعض العلماء : إن ورود الإذن في بعض الأسماء لا يجوز إطلاق سائر الألفاظ المشتقة منه عليه ، فلا يجوز أن يقال « يا معلم » وإن ورد { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] وكذا في حق الأنبياء لا يجوز أن يقال إن آدم عاصٍ أو غاوٍ وإن ورد { وعصى آدم ربه فغوى } [ طه : 121 ] ثم أوعد الملحدين في أسمائه بقوله { سيجزون ما كانوا يعملون } ثم لما أخبر أن كثيراً من الثقلين مخلوقون لنار حكى أن بعضاً منهم مخلوقون للجنة فقال { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } وقد مر مثل هذه الآية في قصة موسى فعن قتادة وابن جريج وابن عباس أن المراد في الآية أمة محمد صلى الله عليه وآله . وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : « إذ قرأها هذه الكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها » وعن الربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال : « إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى » وعن الكلبي : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب . وقال الجبائي : هم العلماء والدعاة إلى الدين في كل حين ثم أعاد ذكر المكذبين وما عليهم من الوعيد فقال { والذين كذبوا بآياتنا } قال ابن عباس : يري أهل مكة والظاهر أنه عام . والاستدراج استفعال من الدرجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه ، وأدرج الكتاب إذا طواه شيئاً بعد شيء .

ومعنى الآية سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم { من حيث لا يعلمون } ما يراد بهم . وذلك أنهم كلما أقدموا على ذنب فتح الله عليهم باباً من أبواب الخير فيزدادون بطراً وانهماكاً في الغي والفساد ، ثم يأخذهم أغفل ما يكونون { وأملي لهم } أطيل لهم مدة عمرهم { إن كيدي متين } عن ابن عباس : يريد أن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي . يقال متن متانة . واحتجت الأشاعرة بألفاظ الاستدراج والإملاء والكيد في مسألة القضاء والقدر حتى قال بعض المجبرة : المراد سنستدرجهم إلى الكفر مع أنه فاسد لأن جزاء الكفر لا يكون كفراً آخر . وحملها المعتزلة على أن المراد سنستدرجهم إلى العقوبات إما في الدنيا وفي الآخرة ، وزيف بأن هذا الاستدراج والإمهال مما يزيد الكافر به كفراً وعتواً واستحقاقاً للعقاب ، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجباً لتلك الزيادات من العقوبة بل كان يجب في حكمته ورعايته للأصلح أن لا يخلقه ابتداء ، أو يميته قبل التكليف لما خلقه وألقاه في ورطة التكليف وأمهله ومكنه من المعاصي مع علمه بأن كل ذلك لا يفيده إلا مزيد استحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للنار كما قال { لقد ذرأنا لجهنم } الآية .
التأويل : { وإذا أخذ ربك } لم يقل « ربكم » ليعلم أن في الآية غموضاً لا يطلع عليه غيره صلى الله عليه وسلم وغير من أنعم الله به عليه من خواص متابعيه صلى الله عليه وسلم ، وأنه تعالى لم يكلم أحداً وهو يجيبه في العدم إلا بني آدم كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود ، فهذا بدايتهم وإلى أن تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى سمعهم وأبصارهم وألسنتهم { إنما أشرك آباؤنا } بأن رضوا بالأثنينية وما جعلوا إلى الوحدة بالفناء في الله { بما فعل المبطلون } الذين أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة لله { ولعلهم يرجعون } بهذه الدلالات من البداية إلى النهاية وهو مقام الوحدة { فانسلخ منها } أي وقع فرخ همته العلية عن ذكر طلب الحق ومحبته فأدركته هزة الشيطان وجعلته من الهالكين ليعلم أن المعصوم من عصمة الله وأن السلك الواصل يجب أن لا يأمن مكر الله فلا يفتح على نفسه أبواب التنعم والترفه ، ولا يميل إلى حب المال والجاه { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً } وهم مظاهر القهر { فادعوه بها } بأن تتصفوا بصفاته بالنيات الصالحات وبالأعمال الزاكيات ثم تتخلقوا بها بالأحوال بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا } بأن لم توافق أقوالهم أفعالهم { سنستدرجهم } فينحطون عن مراتبهم بالتدريج والله أعلم .


أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

القراآت : { فبأي } بتليين الهمزة حيث كان : الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف { ويذرهم } بالياء مرفوعاً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير عياش والمفضل { ويذرهم } بالياء مجزوماً : عياش وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون مرفوعاً { أن أنا إلا } بالمد : أبو نشيط { شركاً } بكسر الشين وسكون الراء : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد . الآخرون : { شركاء } على الجميع { يتبعوكم } مخففاً : نافع . الباقون : بالتشديد . { يبطشون } بضم الطاء يزيد { قل ادعوا } بكسر اللام للساكنين وكذا بابه : حمزة وعاصم وسهل ويعقوب وعياش . الآخرون : بالضم للإتباع { كيدوني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل والحلواني عن هشام في الوصل { ينظرون } بالياء في الحالين : يعقوب وافق سهل وعياش في الوصل . { إن وليّ الله } بياء واحدة مشددة : أبو زيد عن المفضل وشجاع وعياش إذا قرأ الإدغام الكبير { وليي } بثلاث ياآت : رويس والبرجمي . الباقون : بياءين أولاهما مشددة مكسورة والثانية مفتوحة .
الوقوف : { من جنة } ط { مبين } ه { من شيء } لا لأن التقدير وفي أن عسى { أجلهم } ط لابتداء الاستفهام مع الفاء { يؤمنون } ه { هادي له } ط لمن قرأ { ويذرهم } . بالرفع على الاستئناف ، ومن جزم فلا وقف لأنه معطوف على موضع { فلا هادي له } ، { يعمهون } ه { مرساها } ط { عند ربي } ج لاختلاف الجملتين { إلا هو } ط { والأرض } ط { بغتة } ط { عنها } ط { لا يعلمون } ه { ما شاء الله } ط { من الخير } ج لاحتمال أن يفسر السوء بالجوع فيكون معطوفاً على جواب « لو » . واحتمال أن يفسر بالجنون الذي نسبوه إليه فيكون ابتداء نفي { يؤمنون } ه { إليها } ج لأجل الفاء { فمرت به } ج لذلك { الشاكرين } ه { فيما آتاهما } ج لابتداء التنزيه ووجه الوصل تعجيل التنزيه { يشركون } ه { وهم يخلقون } ه والوصل أولى للعطف { ينصرون } ه { لا يتبعوكم } ط { صامتين } ه { صادقين } ه { يمشون بها } ز لأن « أم » عاطفة مع أنها في معنى ابتداء استفهام للإنكار الثانية والثالثة كذلك { يسمعون بها } ط { ينظرون } ه { الكتاب } ط والوصل أولى لتكون الواو عاطفة { الصالحين } ه { وينصرون } ه { لا يسمعوا } ط { لا يبصرون } ه .
التفسير : إنه تعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في بيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال { أو لم يتفكروا } وإذا علم أن الرؤية بالصبر حالة مخصوصة بالانكشاف والجلاء ولها مقدمة هي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي ، كذلك رؤية البصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حال متعينة بالوضوح والإنارة ولها مقدمة هي تقليب حدقة القلب إلى الجوانب طلباً لذلك ، وهذه الحالة تسمى بنظر العقل وفكرته . وفي اللفظ محذوف والتقدير : أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة وهي حالة من الجنون كالجلسة .

كان جهال أهل مكة ينسبونه إلى الجنون لوجهين : أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يغشاه حالة عجيبة عند الوحي شبيهة بالغشي يتربد وجهه ويتغير لونه ، والثاني أن فعله وهو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والدعاء إلى الله تعالى كان مخالفاً لفعلهم . وعن الحسن وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلاً على الصفا يدعو فخذاً فخذاً من قريش : يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه . فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح إلى الصباح . فأمرهم الله تعالى بالتفكر والتدبر في أمره وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده ويقيم عليهم الدلائل القاطعة بألفاظ فصيحة عجز الأولون والآخرون عن معارضتها ، وكان حسن الأخلاق طيب العشرة مرضي السيرة مواظباً على أعمال حسنة ، صار بسببها قدوة لعقلاء العالمين ، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإنما هو نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين . ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على دلائل التوحيد قال { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } أي في مدلولاتهما . والملكوت الملك العظيم ، وفي إنكار عدم النظر دلالة على وجوب الاستدلال فيما للعقل إليه سبيل وقد مر في هذا الكتاب كيفية دلالة السموات والأرض على وجود الصانع ولا سيما في سورة البقرة عند قوله { إن في خلق السموات والأرض } [ البقرة : 164 ] ثم قال { وما خلق الله من شيء } أي مما يقع عليه اسم الشيء من اجناس غير محصورة . والغرض التنبيه على أن الدلالة على التوحيد ليست مقصورة على السموات والأرض ، بل كل ذرة من ذارت هذا العالم . فيها برهان باهر ودليل ظاهر على الوحدانية لأنها مختصة بحيز معين من الأحياز غير المتناهية ، وبقدر معين من الأقدار ، وبوضع معين من الأوضاع وكذا الكلام في لونها وشكلها وطبعها وطعمها وسائر صفاتها ، وكل واحد من هذه الاختصاصات لا بد له من مخصص ولا بد من الانتهاء إلى واجب واحد في ذاته وفي جميع اعتباراته { وأن عسى } هي مخففة من الثقيلة والأصل « وأنه عسى » على أن الضمير للشأن وفي أن يكون ضمير الشأن أيضاً والمعنى : أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى { أن يكون } الشأن { قد اقترب أجلهم } الموت أو القيامة . وإذا كان أحد هذين الاحتمالين قائماً وجب على العاقل المسارعة إلى هذا الفكر والنظر سعياً في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم ، أما قوله { فبأي حديث بعده يؤمنون } فمتعلق بقوله { عسى أن يكون } كأنه قيل : لعل أجلهم قد أقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا .

ودلالة في إطلاق لفظ الحديث على القرآن على أنه ليس بقديم لأن المراد بالحديث ما يرادف الكلام ، ولو سلم فإنه محمول على الألفاظ والكلمات ولا نزاع في حدوثها ، قوله { من يضلل الله } قد سبق تفسير مثله ، ثم لما تكلم في النبوة والتوحيد والقضاء والقدر أتبعه الكلام في المعاد فقال { يسألونك عن الساعة } وأيضاً لما ذكر اقتراب الأجل بين أن وقت الساعة مكتوم عن الأفهام ليصير ذلك حاملاً للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الفرائض . ومن السائل؟ عن ابن عباس أنهم اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً فإنا نعلم متى هي . وعن قتادة . إنهم قريش قالوا : يا محمد إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة . قال في الكشاف . الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ، سميت القيامة ساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها كما يقال للحبشي أبو البيضاء ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق و { أيان } استفهام عن الزمان ويختص بالأمور العظام نحو { أيان مرساها } [ النازعات : 42 ] { وأيان يوم الدين } [ الذاريات : 12 ] ولا يقال أيان نمت . وكسر همزته لغة بني سليم . وعن ابن جني أن اشتقاقه من أيّ « فعلان » منه وأيّ فعل من أويت إليه لأن البعض يأوي إلى الكل ، وأنكر أن يكون اشتقاقه من « أين » لأنه للزمان و « أين » للمكان ولقلة « فعال » في الأسماء وكثرة « فعلان » فيها . وقال الأندلسي : أصله « أي أو أن » حذفت الهمزة مع الياء الأخيرة فبقي « أيوان » فأدغم بعد القلب . وقيل : أصله « أي آن » بمعنى « أيّ حين » فخفف بحذف الهمزة فاتصلت الألف فاتصلت الألف والنون بأي . ورد بأن « آنا » لا يستعمل إلا بلام التعريف . والمرسى بمعنى الإرساء والإثبات ، والرسّو الثبات والاستقرار ولعله لا يطلق إلا على ما فيه ثقل ومنه رسا الجبل وأرست السفينة ولا أثقل من الساعة على الخلائق { قل إنما علمها } أي علم وقت إرسائها وإثباتها وإقرارها { عند ربي } قد استأثر به لم يخبر به أحداً من ملك مقرب ولا نبي مرسل يكاد يخفيها من نفسه ليكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى وقت الموت لذلك { لا يجليها } لا يظهرها { لوقتها } أي للخبر عن وقتها قبل مجيئها أحد { إلا هو } والحاصل أنه لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإخبار والإعلام إلا هو { ثقلت في السموات والأرض } قال الحسن : أي ثقل مجيئها على أهل السموات لانشقاق السماء وتكوير الشمس وانتثار النجوم ، وعلى أهل اللأرض لأن في ذلك اليوم فناءهم وهلاكهم . أو ثقل هذا اليوم على الخلائق بما فيه من الشدائد والأهوال ، أو ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين عليهم أي أشكل واستبهم حتى صار ثقيلاً على الأفهام { لا تأتيكم إلا بغتة } إلا فجأة على حين غفلة منكم .

وهذه الجمل مؤكدات ومبينات لما تقدمها ولهذا فقد العاطف . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه » وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك » ثم كرر { يسألونك } للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله { كأنك حفي عنها } فكان السؤال الأول عن وقت قيام الساعة ، والسؤال الثاني عن كنه ثقل الساعة شدتها ومهابتها ولهذا خص باسم الله في قوله { قل إنما علمها عند الله } لأن أعظم أسماء الله مهابة هو الله ، وأما الرب فيدل على التربية والرحمة دون الهيبة والعزة ، وفي الحفي وجوه : فقيل إنه البار اللطيف و « عن » بمعنى « الباء » أي كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم وهذا قول الحسن وقتادة والسدي ، والضمير عائد إلى قريش التي ادعت القرابة وجعلوها وسيلة إلى أن يخبرهم بالساعة . والمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما داموا على كفرهم ولو أخبرت بوقتها وأمرت بالإخبار عنها لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك . وعلى هذا القول جاز أن يكون { عنها } متعلقاً ب { يسألونك } أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها فحذف قوله « بها » لطول الكلام أو لأنه معلوم . وقيل : { عنها } يتعلق بمحذوف . وحفي « فعيل » من حفي فلان بالمسألة أي استقصى ، والمعنى كأنك بليغ في السؤال عنها لأن من أكثر السؤال علم . وهذا التركيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب ، وأحفى في المسألة إذا ألحف . وقيل : المراد كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره يعني أنك تكره السؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه مختص بذلك العلم أو لا يعلمون أن القيامة حق وإنما يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا ، أو لا يعلمون السبب الذي لأجله خفيت معرفة وقتها المعين عن الخلق . ثم أمر نبيه بإظهار ذلة العبودية حتى لا ينسب إليه نقص ولا يعاب من قبل عدم العلم بالغيب فقال { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } وفيه أن قدرته قاصرة وعلمه قليل ، وكل من كان عبداً كان كذلك ، والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليس إلا لله تعالى . واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال قالوا : الإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى .

وأجابت المعتزلة بأن المراد لا أملك لنفسي من النفع والضر إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه . وظاهر الآية وإن كان عاماً إلا أنها مخصوصة بصورة النزول . قال الكلبي : إن أهل مكة قالوا : يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح ، وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل عنها إلى ما قد أخصب ، فأنزل الله هذه الآية ، فالمراد بالخير في قوله { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } هو جلب منافع الدنيا وخيراتها من الخصب والأرباح والأكساب . وقيل : المراد ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم بالغيب لكنت أعلم أن الدعوة إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في لك فكنت أشتغل بدعوة هذا دون ذاك . وقال بعضهم : « لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق جاء في الطريق ريح نفرت ناقته منها فأخبر صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال : » انظروا أين ناقتي « . فقال عبد الله بن أبيّ لقومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته . فقال صلى الله عليه وآله : » إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة « فوجدوها على ما قال فنزلت » أما قوله { وما مسني السوء } فمعناه لكان حالي على خلاف ما هي عليه من المغلوبية في بعض الحروب والخسران في بعض التجارات والأخطاء في بعض التدبير { إن أنا } إلا عبد مرسل للنذارة والبشارة وما من شأني أن أعلم الغيب . وقوله { لقوم يؤمنون } إما أن يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير وهو للكافرين محذوفاً للعلم به كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] أو يتعلق بالوصفين جميعاً إلا أن المؤمنين لما كانوا هم المنتفعين به خصوا بالذكر كقوله { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] واعلم أن أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضر والنفع معاً جاءا بتقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد يعبد معبوده خوفاً من عقابه أولاً ثم طمعاً في ثوابه ثانياً يؤيده قوله { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] وحيثما تقدم النفع على الضر فذلك لسابقة لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة تقدم لفظ الهداية على الضلال في قوله { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل } [ الكهف : 17 ] وتقدم الخير على السوء في قوله { لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } وفي الرعد تقدم ذكر الركوع في قوله { طوعاً وكرهاً } [ آل عمران : 83 ] والطوع نفع . وفي الفرقان تقدم قوله { هذا عذاب فرات } [ الفرقان : 53 ] وهو نفع وفي سبأ تقدم البسط في قوله { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] وقس على هذا .

ثم رجع إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك فقال { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } والمروي عن ابن عباس أنها نفس آدم وقد تقدم مثل ذلك في أول سورة النساء . قال مجاهد : كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد فقال لهما الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث وذلك قوله { فلما آتاهما صالحاً } ولداً سوياً { جعلا } يعني آدم وحوّاء { له شركاء } والمراد تسميته بعبد الحرث وهذا تمام القصة وقد زيفها النقاد بوجوه منها : أنه تعالى قال { فتعالى الله عما يشركون } بلفظ الجمع لا التثنية ومنها قوله { أيشركون ما لا يخلق شيئاً } إلى آخر الآيات وفي ذلك تصريح بأن المراد الأصنام ولو كان المراد إبليس لكان « أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهو يخلق »؟ . ومنها أن آدم عليه السلام كان عالماً بجميع الأسماء فكيف ضاقت عليه الأسماء ، أم كيف لم يعرف أن اسم إبليس كان حارثاً ، أم كيف لم يتنبه لغدر إبليس بعد أن جرى عليه منه ما جرى؟ ومنها أنه أراد بذلك اسم علم أو اسم صفة والأوّل لا يستلزم محذوراً إلا أن أسماء الأعلام لا تفيد في المسميات فائدة فلا يلزم الإشراك ، والثاني يوجب الكفر الصريح ولا قائل بإمكان نسبته إلى آدم فعند ذلك ذكر العلماء في تأويله وجوهاً : أحدها أن هذا مثل فكأنه تعالى يقول هو الذي خلقكم أي كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية يسكن أي تلك النفس ، فذكر بعد ما أنث حملاً على المعنى ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويطمئن إليها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى { فلما تغشاها } أي جامعها لأنه إذا علاها صار كالغاشية لها { حملت حملاً خفيفاً } قالوا : يريد النطفة . والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الجرة ، وبكسر الحاء ما حمل على الظهر أو على الدابة { فمرت به } أي استمرت وقضت على ذلك الحمل من غير إذلاق . وقيل : فقامت وقعدت به من غير ما ثقل . وقيل : المراد بالخفة أنها لم تلق ما تلقاه بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى { فلما أثقلت } كان وقت ثقل حملها ولادتها { دعوا } أي الزوج والزوجة { الله ربهما } ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا { لئن آتيتنا صالحاً } ولداً قد صلح بدنه أو ولد ذكراً لأن الذكورة من الصلاح والجودة { لنكونن من الشاكرين } لنعمائك { فلما آتاهما صالحاً } كما طلب { جعلا له شركاء } ومن قرأ { شركاً } فعلى حذف المضاف أي ذوي شرك وهم الشركاء أيضاً . أو المراد أحدث لله إشراكاً في الولد لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، وتارة إلى الكواكب ، وتارة إلى الأوثان والأصنام ، وثانيها أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصيّ والمعنى : هو الذي خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية قرشية ، فلما أتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار .

والضمير في { يشركون } لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك ، وثالثها سلمنا أن الآية وردت في قصة آدم إلا أنه لا يجوز أن يكون قوله { جعلا } وارداً بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد؟ . ثم قال { فتعالى الله عما يشركون } أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقول لذلك المنعم إن ذلك المنعم عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة إنه بريء من ذلك . فغرضه من قوله « إنه يقابلني بالشر » النفي والتبعيد . أو نقول : لم لا يجوز أن يكون قوله { جعلا له } على حذف المضاف أي جعلا أولادهما له شريكاً؟ وكذا فيما { آتاهما } أي آتى أولادهما عبر عنهم بلفظ التثنية مرة لكونهم صنفين أو نوعين ذكراً وأنثى وبلفظ الجمع أخرى وهو قوله { فتعالى الله عما يشركون } سلمنا أن الضمير في { جعلا } وفي آتاهما } لآدم وحواء إلا أنهما كانا عزماً أن يجعلا وقفاً على خدمة الله وطاعته ثم بدا لهما فكانا ينتفعان به في مصالح الدنيا ، فأريد بالشرك هذا القدر . وعلى هذا فإنما قال تعالى { عما يشركون } لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين . أو نقول : إنما سمياه عبد الحرث اعتقاداً منهما إنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه ، وقد يسمى المنعم عليه عبد المنعم ومنه قول بعض العلماء أنا عبد من علمني حرفاً . فلما حصل الإشراك في لفظ العبد صارا معاتبين بذلك والله تعالى أعلم . ثم أقام الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقال { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } اعتبر اللفظ أوّلاً فوحد والمعنى ثانياً ، وإنما جمع بالواو والنون بناء على معتقدهم أنهم عقلاء . واحتجت الأشاعرة بها في مسألة خلق الأعمال فإنها تدل على أن غير الله لا يخلق ثم بيّن أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فقال { ولا يستطيعون لهم نصراً } وهو المعونة على العدة { ولا أنفسهم ينصرون } ولا يدفعون عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه . والحاصل أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تقتص ممن عصاها بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم .

ثم ذكر أنها كما لا تنفع ولا تضر فكذلك لا علم لها بشيء من الأشياء وأنها لا يصح منها إذا دعيت إلى الخير والصلاح الاتباع ولا ينفصل حال من يخاطبهم ممن يسكت عنهم فقال { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } ويجوز أن يكون المراد وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله بدليل قوله بعد { فادعوهم فليستجيبوا لكم } ثم قوّى هذا الكلام بقوله { سواء عليكم أدعوتموهم أو أنتم صامتون } وإعرابه شبيه بما تقدم في أول سورة البقرة في قوله { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] وإنما عطف الاسمية على الفعلية لأن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم ومعضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام ، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين فقيل لهم : لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم . ثم أكد بيان أنها لا تصلح للإلهية بقوله { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } فسئل أنه كيف يحسن وصف الجمادات بأنها عباد؟ وأجيب بعد تسليم اختصاص العباد بالعقلاء بأن ذلك ورد على معتقدهم أنها عقلاء . وفيه أيضاً نوع من الاستهزاء أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم قبلتموها آلهة لكم وأرباباً؟ . ثم بين عدم التفاضل بقوله { فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } في أنها آلهة ولام الأمر للتعجيز فإنه إذا ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للعبودية وأنها والعباد سواء بل هم أخس وأدون بدليل قوله { ألهم أرجل يمشون بها } الآية . وذلك أن كل ما هو من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء والآلات فإذا كان فيها قوي محركة ومدركة كان هو أفضل ممن خلت أعضاؤه عن هذه القوى فكيف يليق بالأفضل الأكرم الأشرف خدمة المفضول الخسيس الدنيء؟ وإنما قلنا كل ما من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء لأن من جل عن ثبوت هذه الأعضاء والجوارح له فعدم هذه الأشياء بالنسبة إليه فضيلة وكمال ، فإن القادر القاهر من غير افتقار إلى آلة وعدّة كان أشرف ممن يفتقر في أفعاله إلى الآلات فضلاً عمن لا فعل لآلته ، فلا يرد اعتراض بعض أغمار المشبهة أن الله تعالى لو لم تكن له هذه الأعضاء لكان عدمها دليلاً على عدم إلهيته .
ثم إنهم كانوا يخوّفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بآلهتهم كما قال قوم هود { أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] فقال عز من قائل لنبيه { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون } أمر من الكيد المكر { فلا تنظرون } نهي عن الإنظار والإمهال والخطاب لهم ولشركائهم جميعاً .

وهذا قول واثق بعصمة الله أن لا يبالي بغي الله كائناً من كان . ثم لما أمره صلى الله عليه وسلم بالتبري حثه على التولي فقال { إن وليي } أي ناصري عليكم { الله } الآية . وفيه أن الواجب على كل عامل عبادة الذي يتولى تحصيل منافع الدارين . أما الدينية الأخروية فبسبب إنزال الكتاب المشتمل على العلوم الجمة ، وأما الدنيوية فهو المراد بقوله { وهو يتولى الصالحين } أي من عباده أن ينصرهم فلا يضرهم عداوة من عاداهم في ذلك يأس المشركين أن يضره كيدهم . يحكى أن عمر بن عبد العزيز كان لا يدخر لأولاده شيئاً فقيل له في ذلك فقال : إما أن يكون ولدي من الصالحين فوليه الله ولا حاجة له إلى مالي ، وإما أن يكون من المجرمين وقد قال تعالى { فلن أكون ظهيراً للمجرمين } ومن رده الله لم أشتغل باصلاح مهماته . أقول : وفي التقريب بالآية الثانية نظر لأنها حكاية كلام موسى اللهم إلا أن يقال التقريب في التقرير . ثم أعاد وصف الأصنام بمثل الصفات المذكورة فقال { والذين تدعون من دونه } الآية . قال الواحدي : إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من يجوز له العبادة وبين من لا يجوز كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكون صالحة للإلهية { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } لا سماع سمع ولا سماع إجابة { وتراهم } تحسبهم { ينظرون إليك } يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليك { وهم لا يبصرون } لا يدركون المرئي . وقيل : الضمير في قوله { وإن تدعوهم } إلى آخر الآية يعود إلى المشركين المار ذكرهم في قوله { قل ادعوا } والمراد أنهم بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بعقولهم ألبتة { وتراهم } إلى الناس وإليك ينظرون ولكنهم لشدّة إعراضهم عن قبول الحق لم ينتفعوا بذلك النظر فكأنهم عمي يصدقه قوله في موضع آخر { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46 ] .
التأويل : { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } لأرباب العقول النظر والاستدلال لتحصيل الإيمان ، ولأرباب القلوب الولوج والكشف لحصول الإيقاف والعيان { وما خلق الله من شيء } يعني عالم الملك المخلوق من مادة بخلاف عالم الملكوت الذي أبدع من غير شيء { وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } يعني أجل فنائهم عما سوى الحق ، فإن لم يؤمنوا بطريق النظر استدلالاً { فبأي حديث بعده } أي بعد النظر { يؤمنون } ، { يسألونك عن الساعة } يريد الساعة التي يظهر الله تعالى فيها آثار صفة القهارية لإفناء عالم الصورة فلا يبقى منه داع ولا مجيب فيجيب هو بنفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار { لاستكثرت من الخير } من الحياة الأبدية ورفع الحاجات البشرية



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...