Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج15وج16.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج15وج16.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


{ خلقكم من نفس واحدة } هي الروح { وخلق منها زوجها } وهي القلب { يسكن إليها } لأن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن فكان الروح يشم من القلب نسائم نفحات ألطاف الحق { حملت حملاً خفيفاً } في البداية بظهر أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني { فلما أثقلت } كثرت آثار الصفات خاف الروح والقلب على أنفسهما عن تبدل الصفات الروحانية الأخروية النورانية بالصفات النفسانية الدنيوية الظلمانية { فدعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً } قابلاً للعبودية { لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا } أي الروح والقلب { له شركاء } أي جعلا وجه النفس إلى الدنيا ونعيمها فصارت عبد البطن وعبد الخميصة وعبد الدرهم والدينار . { ولا يستطيعون لهم نصراً } أي لا تستطيع الدنيا ومن فيها للروح والقلب والنفس تقوية وتربية إلا بالله { ولا أنفسهم ينصرون } للبقاء والدوام .
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

القراآت : { طيف } بسكون الياء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي . الباقون : { طائف } على وزن « فاعل » { يمدونهم } من الإمداد : أبو جعفر ونافع . الآخرون : بفتح الياء وضم الميم من المد { العفو وأمر } مدغماً : أبو عمرو . وقرىء بغير همز حيث كان : يزيد والشموني وحمزة في الوقف .
الوقوف : { الجاهلين } ه { بالله } ط { عليم } ه { مبصرون } ه ج لأن قوله { وإخوانهم } مبتدأ إلا أن المعنى يقتضي الوصل لبيان اختلاف حالي الفريقين { لا يقصرون } ه { اجتبيتها } ط { من ربي } ج لاختلاف الجملتين بلا عطف مع اتحاد المقول { يؤمنون } ه { ترحمون } من الغافلين } ه { يسجدون } ه .
التفسير : لما ذكر فساد طريقة عبدة الأصنام وبين النهج القويم والصراط المستقيم أرشد إلى مكارم الأخلاق والعفو الفضل وكل ما أتى من غير كلفة . واعلم أن الحقوق التي تستوفى من الناس إما أن يجوز إدخال المساهلة فيها وهو المراد بقوله { خذ العفو } ويدخل في التخلق مع الناس بالخلق الحسن وترك الغلظة والفظاظة ، ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف كما قال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] وإما أن لا يجوز دخول المسامحة فيها وذلك قوله { وأمر بالعرف } وهو والمعروف . والعارفة كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به ويكون وجوده خيراً من عدمه ، فلو اقتصر في هذا القسم على الأخذ بالعفو ولم يبذل في ذلك وسعه كان راضياً بتغيير الدين وإبطال الحق . ثم أمر بالمعروف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا قال { وأعرض عن الجاهلين } قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا جبرائيل ما هذا؟ فقال : لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال : يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك » قال أهل العلم : تفسير جبرائيل مطابق للفظ الآية فإنك إذا وصلت من قطعك فقد عفوت عنه ، وإذا أعطيت من حرمك فقد أمرت بالمعروف ، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهل . يروى عن جعفر الصادق رضي الله عنه : ليس في القرآن العزيز آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ولبعض المفسرين في تفسير الآية طريق آخر قالوا { خذ العفو } أي ما أتوك به عفواً فخذه ولا تسأل ما وراء ذلك فنسخت بآية الزكاة { وأمر بالعرف } أي بإظهار الدين الحق وهذا غير منسوخ { وأعرض عن الجاهلين } أي المشركين وهذا منسوخة بآية القتال . والحق أن تخصيص أخذ العفو بالمال تقييماً للمطلق من غير دليل ، ولو سلم فإيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة لا ينافي ذلك لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس وأن لا يشدد الآمر على المزكي .

وأيضاً لا يمتنع أن يؤمر النبي بأن لا يقابل سفاهة المشركين بمثلها ولكن يقاتلهم ، وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكناً فلا حاجة إلى التزام النسخ . قال أبو زيد : لما نزل قوله { وأعرض عن الجاهلين } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يا رب والغضب؟ فنزل { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } أي غرز ونخس جعل النزغ نازغاً كما قيل : جدّ جدّه . عن أبي زيد : نزغت ما بين القوم أي أفسدت ما بينهم وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر ، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب . ونزغ الشيطان وسوسته في القلب بما يسوّل للإنسان من المعاصي وعلاجه ودفعه إنما يكون بالاستعاذة وهي الاستخلاص عن حول الإنسان وقوته إلى حول الرحمن وقوته والإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أوامر الشرع عن معاذ بن جبل قال : استبَّ رجلان عند النبي حتى عرف الغضب في وجه أحدهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب غضبه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » قال بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء : لو لم يجز على النبي الإقبال على وسوسة الشيطان لم يأمر بالاستعاذة . والجواب أن كلمة « إن » لا تفيد وقوع الشرط ، ولو سلم فمن أين علم أنه صلى الله عليه وسلم قبل تلك الوسوسة منه؟ ولو سلم فمحمول على ترك الأولى . ثم ختم الآية بقوله { إنه سميع عليم } ليعرف أن القول اللساني بدون المعارف الحقيقية عديم الفائدة وكأنه تعالى قال : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع . وأحضر معنى الاستعاذة في ضميرك فإني عليم . ثم بين أن حال المتقين قد تزيد على حال النبي في باب وسوسة إبليس فإن النبي لا يكون له إلا النزع الذي هو كابتداء الوسوسة ، وأما المتقون فقد يمسهم الشيطان وذلك قوله { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف } قال الفراء : الطائف كالخاطر وجوز بعضهم أن يكون مصدراً كالعاقبة ولكنه بلا تاء . والأصح أنه اسم فاعل من طاف يطوف أو من طاف به الخيال يطيف طيفاً . ومن قرأ طيف فهو إما مصدر أي لمسة من الشيطان ، وإما مخفف طيف « فيعل » من طاف يطيف كلين ، أو من طاف يطوف كهين . قال في الكشاف : وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان وأن المتقين هذه عادتهم إذا أصابهم نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته . ومفعول { تذكروا } محذوف أي تذكروا ما أمر الله به ونهى عنه فأبصروا السداد . واعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملاً من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادراً وفي المغضوب عليه كونه عاجزاً هذا إذا كان واقفاً على ظلمات عالم الأجسام فيغتر بظواهر الأمور ، أما إذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية جازمة وقد علم منه تلك الحالة في الأزل ، ومتى كان كذلك فلا سبيل إلى تركها فحينئذ يفتر غضبه كما قال صلى الله عليه وسلم :

« من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب » وأيضاً إنه كم أساء في العمل وقد تجاوز عنه وإن الله أقدر عليه وإنه إذا أمضى الغضب كان شريكاً للسباع المؤذية ، وإذا اختار العفو كان مضاهياً للأنبياء والأولياء مستأهلاً للثواب الجزيل ، وإنه ربما انقلب الضعيف قوياً . وبالجملة فالمراد من قوله تعالى { إذا مسهم طائف من الشيطان } ما ذكرنا من الاعتقادات ، والمراد من قوله { تذكروا } الأمور تفيد ضعف تلك الاعتقادات ، أما قوله { وإخوانهم } فالضمير فيه يرجع إلى الشيطان ، وجمع لأن المراد به الجنس كقوله { أولياؤهم الطاغوت } [ البقرة : 257 ] والضمير المرفوع في { يمدون } يرجع إلى الأخوان لأن شياطين الإنس يعضدون شياطين الجن على الإغواء والإضلال ، أو إلى الشياطين فيكون الخبر جارياً على غير من هو له . والمعنى وإخوان الشياطين ليسوا بمتقين فإن الشياطين يمدونهم أي يكونون مدداً لهم في الغي . وجوّز أن يراد بالإخوان الشياطين والضمير المجرور يعود إلى الجاهلين فيكون الخبر جارياً على ما هو له . قال في الكشاف : والأوّل أوجه لأن { إخوانهم } في مقابلة { الذين اتقوا } قال الواحدي : عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على « أفعلت » كقوله { إنما نمدهم به من مال } [ المؤمنون : 55 ] { وأمددناهم بفاكهة } [ الطور : 22 ] { أتمدونن بمال } [ النمل : 36 ] وما كان بخلافه فإنه يجيء على مددت قال { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } [ البقرة : 15 ] فالوجه ههنا قراءة العامة ووجه الضم الاستهزاء والتهكم نحو { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] أما قوله { ثم لا يقصرون } فالإقصار الكف عن الشيء . قال ابن عباس : أي لا يمسك الغاوي عن الضلال والمغوي عن الإضلال ، ومعنى « ثم » تبعيد عدم الإقصار عن المدد فإنه يجب على العاقل إذا أقبل علي غي أن يمسك عنه سريعاً أن يتمادى فيه وينهمك ولهذا قيل : الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل . ثم ذكر نوعاً واحداً من إغوائهم فقال { وإذا لم تأتهم } بآية وذلك أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقولهم { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] ثم إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأتيهم بها فعند ذلك { قالوا لولا اجتبيتها } ياقل اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه ، وجبى إليه فاجتباه أي أخذه ، والمعنى هلا افتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون إن هذا إلا إفك مفترى وكانوا ينسبونه إلى السحر .

والمراد هلا أخذتها واقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقاً في أن الله يجيب دعاءك ويسعف باقتراحك؟ وعند هذا أمر رسوله أن يذكر في الجواب { إنما أتبع ما يوحى إليَّ من ربي } ولست بمفتعل للآيات أو لست بمقترح لها . ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها ألا يقدح في الغرض لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة قاهرة كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من التعنت فقال { هذا } يعني القرآن { بصائر } إطلاق لاسم المسبب على السبب ، وذلك أن فيه حججاً بينة تفيد القلوب بصيرة وكشفاً { هدى } للمستدلين الواصلين بالنظر والاستدلال إلى درجة العرفان . فالبصائر لأصحاب عين اليقين ، والهدى لأرباب علم اليقين ، والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين ، والجميع { لقوم يؤمنون } ولما عظم شأن القرآن بتلك الأوصاف علم المكلفين أدباً حسناً في بابه فقال { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } والإنصات السكوت للاستماع . قال العلماء : ظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة وهو قول الحسن وأهل الظاهر . وعن أبي هريرة كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت . وقال قتادة . كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم وكم بقي وكانوا يتكلمون في الصلاة لحوائجهم فنزلت . ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن . وقيل : نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه صلى الله عليه وسلم فنزلت . وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة : نزلت في الإنصات عند الخطبة يوم الجمعة ، وزيف بأن اللفظ عام فكيف يجوز قصره على قراءة القرآن في الخطبة أو على الخطبة نفسها بناء على أنها قد تسمى قرآناً لاشتمالها عليه . وأجيب بأن كلمة « إذا » لا تفيد العموم بدليل أنه إذا قال لزوجته إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنها لا تطلق مرة ثانية بدخول الدار مرة أخرى ، وبدليل أن الشافعي أوجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة ، ورد بأن المأموم إنما يقرأ الفاتحة في حال سكتة الإمام كما قال أبو سلمة : للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت يعني سكتة بين التكبير إلى أن يقرأ ، وأخرى بين القراءة إلى أن يركع . واعترض بأن سكوت الإمام واجب أم لا . والأول باطل بالإجماع ، وعلى الثاني يجوز أن لا يسكت وحينئذ يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام فيفضي إلى ترك الاستماع . وأيضاً فهذا السكوت ليس له حد محدود والمئمومون مختلفون ببطء القراءة وسرعتها ، فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام فيلزم المحذور المذكور .

وأيضاً الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم وذلك غير جائز . قال الواحدي : الإنصات هو ترك الجهر عند العرب وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحداً . وأورد عليه أن غاية توجيهه هو أن الإنصات مع قراءة الإمام ممكن لكن إمكان حصول الاستماع مع قراءته ممنوع ، فإن الاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل ، ولعل الإنصاف أن الاستماع على تقدير الإنصات المفسر ممكن أي يحصل مع قراءة الإمام . هذا وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ إلا أنهم جوّزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وذلك ههنا قوله صلى الله عليه وآله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » وذهب الإمام مالك وهو القول القديم للشافعي : إنه لا يجوز للمأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية عملاً بمقتضى هذا النص ويجب عليه القراءة في الصلاة السرية لأن الآية دلالة لها على هذه الحالة . وفي الآية تفسير آخر وهو أن الخطاب في الآية مع الكفار وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على مبانيه ومعانيه في فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك على طلب سائر المعجزات ، ومما يؤكد هذا التفسر قوله في آخر الآية { لعلكم ترحمون } والترجي إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزماً في قوله { ورحمة لقوم يؤمنون } ويمكن أن يجاب بأن الأطماع من الكريم واجب فلم يبق إلا الفرق . وقيل : المراد باستماع القرآن العمل بما فيه .
ثم أمر نبيه وأمته تبعيته صلى الله عليه وسلم بالذكر العام - قرآناً كان أو غيره - على سبيل الدوام ، وذلك أن استماع القرآن كان الذكر الخفي فقال { واذكر ربك في نفسك } وفي الآية قيود : الأوّل : تخصيصه اسم الرب دون الإله وغيره تنبيهاً على أن سبب الذكر هو التربية والإنعام وليدل على الطمع والرجاء . والثاني : ذكر الرب في النفس ليكون أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء . قيل : ذكره في النفس هو أن يكون عارفاً بمعاني الأسماء التي يذكرها بلسانه . قال بعض المتكلمين : الذكر النفساني هو الكلام النفسي الذي يثبته الأشاعرة . الثالث والرابع : { تضرعاً وخيفة } أي متضرعاً وخائفاً ، فالتضرع لإظهار ذلة العبودية . والخوف إما خوف العقاب فهو مقام المذنبين ، وإما خوف الجلال وهو مقام العارفين فإذا كوشفوا بالجمال عاشوا وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا ، وأما خوف الخاتمة بل خوف السابقة فإنها علة الخاتمة . الخامس : قوله { ودون الجهر من القول } والمراد أن يقع ذلك الذكر متوسطاً بين الجهر والإخفاء ، قال ابن عباس : هو أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه وإنما أخر هذا عن الذكر القلبي لأن الخيال يتأثر من الذكر القلبي فيوجب قوة في النفس ولا يزال يتزايد في ذلك إلى أن يجري الذكر على لسانه بل يسري في جميع أعضائه وجوارحه وأركانه سرياناً معتدلاً خالياً عن التكلف بريئاً من التعسف .

السادس : قوله { بالغدو والآصال } والغدوّ مصدر غدا يغدو والمراد وقت الغدو كما يقال دنا الصباح أي وقته . وقيل : إنه يقال : اشتقاقه من الأصل واليوم بليلته . إنما يبتديء في الشرع من أول الليل فسمي آخر النهار أصيلاً لكونه ملاصقاً لما هو الأصل لليوم الثاني . وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الغدو عندما ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة ، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية ، وفي الآصال الأمر بالضد وهدان النوعان من التغير العجيب دليلان قاهران باهران على وجود صانع قدير وحكيم خبير فوجب أن يكون المكلف فيهما مشتغلاً بالذكر والحضور ، ويمكن أن يكون المراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان . السابع : قوله { ولا تكن من الغافلين } وفيه إشارة إلى أن الذكر القلبي يجب أن يداوم عليه ولا يزال الإنسان يستحضر جلال الله وكبرياءه بحسب الطاقة البشرية ليتنور جوهر النفس ويستعد لقبول الإشراقات القدسية فيضاهي سكان حظائر الجبروت مدحهم الله بقوله { إن الذين عند ربك } ومعنى عند دنو الشرف والقرب من عنايته وألطافه { لا يستكبرون عن عبادته } فيداومون على ذلك { ويسبحونه } يبرئونه وينزهونه عن كل سوء وهذا يرجع إلى المعارف والعلوم { وله يسجدون } بحضرته بغاية الخضوع والاستكانة ، وهذا يعود إلى أعمال الجوارح . وفي هذا الترتيب دليل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ويتفرع عليه أعمال الجوارح . والمقصود من الآية أن الملائكة مع غاية طهارتهم ونهاية عصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والحسد والغضب ودواعي الحقد والحسد يواظبون على العبودية والطاعة ، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الطبيعة وكدورات الزلات البشرية أولى بأن يداوم على ذكر معبوده ، وينجذب ما أمكن إلى العالم العقلي ومقره الأصلي ويصفي مرآة قلبه عن أصداء الهواجس وينتقش بالجلايا القدسية والمعارف الحقية والله وليّ التوفيق .
التأويل : { وأمر بالعرف } وهو طلب الحق لأنه معروف العارفين { وأعرض عن الجاهلين } الذين يطلبون غير الله { من الشيطان نزغ } في طلب غير الله { فاستعذ بالله } من طلب غير الله { إن الذين اتقوا } هم أرباب القلوب لإن التقوى من شأن القلب كما قال صلى الله عليه وسلم : « التقوى ههنا » وأشار إلى صدره . { طائف من الشيطان } نزغ من العمل الشيطاني يراه القلب بنور التقوى ويعرفه فيذكره أنه يفسده ويكدر صفاءه فيجتنبه { وإخوانهم } يعني إخوان القلوب وهم النفوس الأمارة { وإذا لم تأتهم } أي لم تأت القلوب { بآية } من الله لتعجز النفوس عن تكذيبها { قالوا } أي النفوس للقلب لولا اختلقتها من خاصية قلبيتك لتزكية النفوس { قل إنما أتبع } إلهام فلا أقدر على تزكية النفوس إلا بقوة الإلهام الرباني .

{ فاستمعوا } بآذانكم الظاهرة { وأنصتوا } بألسنتكم الباطنة { لعلكم ترحمون } بالاستماع بالسمع الحقيقي وذلك قوله : « كنت له سمعاً وبصراً فبي يسمع وبي يبصر » فمن سمع القرآن من بارئه فقد سمع من قارئه وهذا سر الرحمن علم القرآن فهو المستعد لخطاب { واذكر ربك في نفسك } بأن تبدل أخلاقها الله { تضرعاً } في البداية وهو من باب التكلف { وخيفة } في الوسط { ودون الجهر من القول } في النهاية وهو مقام الفناء فإن إفشاء سر الربوبية كفر في غدوّ الأزل وآصال الأبد ، فإن الذاكر والذكر والمذكور هو الله ولهذا قال في الأزل { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] ومن هنا قال يوسف بن الحسين الرازي : ما قال أحد الله إلا الله { ولا تكوننَّ من الغافلين } والذين لا يعلمون أن الذاكر والذكر والمذكور هو الله { إن الذين عند ربك } وهم الذين بقوا ببقاء الله { يستكبرون عن عبادته } لأنهم أفنوا أخلاقهم في أخلاقه { يسبحونه } ينزهونه عن الحلول والاتصال والاتحاد { وله يسجدون } في الوجود والعدم من الأزل إلى الأبد منه المبدأ وإليه المنتهى .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

القراآت : { مردفين } فتح الدال : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل . الباقون : بالكسر .
الوقوف : { عن الأنفال } ط { والرسول } ج لعطف المختلفين مع الفاء { ذات بينكم } ص { مؤمنين } ه { يتوكلون } ه ج لاحتمال جعل { الذين } مبتدأ والوصل أولى فيكون الوقف على { ينفقون } ويكون الثناء بحقيقة الإيمان منصرفاً إلى قوله { هم المؤمنون } { حقاً } ط { كريم } ه ج لما يجيء في التفسير { بالحق } ص لطول الكلام { لكارهون } ه { لا ينظرون } ه { الكافرين } ه { المجرمون } ه ج لاحتمال كون « إذ » متعلقاً بمحذوف وهو « اذكر » أو بقوله { ويحق } { مردفين } ه { قلوبكم } ج لابتداء النفي مع احتمال الحال { عند الله } ط { حكيم } ه .
التفسير : روى عكرمة عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من فعل كذا فله كذا ، فذهب شبان الرجال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت القسمة جاء الشبان يطلبون نفلهم وقالت الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو انهزمتهم كنا ردأ لكم فأنزل الله تعالى { يسألونك عن الأنفال } فقسمها بينهم بالسواء . وعن عبادة بن الصامت قال : لم هزم العدوّ يوم بدر واتبعتهم طائفة يقتلونهم ، أحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم واستولت طائفة بالعكسر والنهب ، فلما نفى الله العدوّ رجع الذين طلبوهم وقالوا : لنا النفل نحن طلبنا العدوّ وبنا قفاهم الله وهزمهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنتم بأحق به منا نحن أحدقنا برسول الله لا ينال العدوّ منه صلى الله عليه وسلم غرة . وقال الذين استولوا على العسكر والنهب : نحن أخذناه واستولينا عليه فهو لنا فنزلت الآية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بالسواء . وعن سعد بن أبي وقاص لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص فأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف . فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض أي في المقبوض من الغنائم ، فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال عليه فقال : « يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وإنه الآن قد صار لي فاذهب فخذه » والنفل بالتحريك الغنيمة وجمعه الأنفال وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً . قال الأزهري : هو ما كان زيادة على الأصل فسميت الغنائم بذلك لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم .

وصلاة التطوّع نافلة لأنها زائدة على الفرض وقال تعالى { ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة } [ الأنبياء : 72 ] أي زيادة على ما سأل . والضمير في { يسألونك } عائد إلى جامع معينين من الصحابة لهم تعلق بالغنائم كما قررنا . وحسن العود وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ لدلالة الحال عليهم ، ولفظ السؤال وإن كان مبهماً إلا أن تعيين الجواب يدل على أن المراد أنهم سألوا عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها . قال الزجاج : إنما سألوا عنها لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم . وضعف بأن الآية دلت على أنها مسبوقة بالتنازع والتنافس فسألوا عن كيفية قسمتها لا عن حلها وحرمتها . وعن عكرمة أن المراد من هذا السؤال الاستعطاء أي يطلبون منك الغنائم وقال في الكشاف : النفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائداً على سهمه من المغنم وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب . من قتل قتيلاً فله سلبه . أو قال السرية ما أصبتم فهو لكم أو فلكم نصفه أو ربعه . ولا يخمس النفل ويلزم الإمام الوفاء بما وعد به . وهذا التفسير يناسب خبر سعد بن أبي وقاص في إعطاء السيف إياه . وعن ابن عباس في بعض الروايات أن المراد بالأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من دابة أو عبد أو متاع فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء . وعن مجاهد : إن الأنفال الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس . وعلى هذا فالقوم إنما سألوا عن الخمس فنزلت الآية . ثم أمر بالشروع في الجواب فقال { قل الأنفال لله والرسول } أي حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوّضاً إلى رأي أحد . قال مجاهد وعكرمة والسدي : إنها منسوخه بقوله { واعلموا أن ما غنمتم } [ الأنفال : 41 ] الآية . وضعف بأن جعل أربعة أخماسها ملكاً للغانمين لا ينافي كون الحكم فيها لله والرسول ، ولو فسر الأنفال بالخمس أو بالسلب فلا إشكال . ثم حثهم على ترك المنازعة وعلى المؤاخاة والمصافاة فقال { فاتقوا الله } أي عقابه ولا تقدموا على معصيته واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأموال { وأصلحوا ذات بينكم } أي التي هي بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومودة وموافقة . لما كانت الأحوال واقعة في البين قيل لها ذات البين كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور . ثم ختم الآية بقوله { إن كنتم مؤمنين } أي كاملي الإيمان تنبيهاً على أن كمال الإيمان موقوف وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله . ثم وصف المؤمنين الكاملين فقال { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي فزعت لذكره استعظاماً لجلاله وحذراً من أليم عقابه .

وقد يطمئن القلب بعد ذلك إذا تذكر كمال رأفته وجزيل ثوابه كقوله { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } [ الزمر : 23 ] وقيل : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم لمعصية فيقال له اتق الله فينزع { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } قالت العلماء : زيادة الإيمان تكون على ثلاثة أنحاء الأوّل : بقوّة الدليل وبكثرته ، فإن كل دليل مركب لا محالة من مقدمات . ولا شك في أن النفوس مختلفة في الأشراق والإنارة ، والأذهان متفاوته بالذكاء والغباوة ، فكل من كان جزمه بالمقدمات أكثر وأدوم كان علمه بالنتيجة أكمل وأتم ، وكذا من سنح له على المطلوب دليلان كان علمه أتم ممن لا يجد على المطلوب دليل واحد ولذا يورد العلماء دلائل متعددة على مدلول واحد ولله در القائل : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد . الثاني : بتعدد التصديق وتجدده؛ فمن المعلوم أن من صدق إنساناً في شيئين كان تصديقه أزيد من تصديق من صدقه في شيء واحد ، فمعنى الآية أنهم كلما سمعوا آية متجددة أتوا بإقرار جديد . الثالث : أن يقال : الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل كما ينبىء عنه ظاهر الآية لأنه لما ذكر الأمور الخمسة قال { أولئك هم المؤمنون } فدل ذلك على أن كل تلك الخصال داخلة في مسمى الإيمان ويؤيده ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان » وإذا كان الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة فبسبب التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان ، وإن لم يكن التفاوت في الإقرار والاعتقاد متصوراً . أما قوله { وعلى ربهم يتوكلون } فيفيد الحصر أي لا يتوكلون إلا على ربهم وهذه الصفات مرتبة على أحسن جهات الترتيب؛ فأولى الفزع من عقاب الله ، والثانية الانقياد لتكاليفه ، والثالثة الانقطاع بالكلية عما سواه . ثم لما فرغ من أعمال القلوب وهي الخشية والتسليم والتوكل شرع في وصفهم بأعمال الجوارح وذكر منها رأسها وسنامها وهما الصلاة والصدقة ، ثم عظمهم بقوله { أولئك هم المؤمنون حقاً } وفي { أولئك } وفي توسيط الفصل وتعريف الخبر وإيراد { حقاً } من المبالغات ما لا يخفى و { حقاً } صفة مصدر محذوف أي إيماناً حقاً وهو مصدر مؤكد للجملة قبله ، وقال الفراء : معناه أخبركم بذلك إخباراً حقاً ، وقيل : إنه منوط بما بعده أي حقاً لهم درجات . واعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الرجل المؤمن يجوز له أن يقول أنا مؤمن ، ثم اختلفوا في أنه هل يجوز له أن يضيف إليه حقاً أو لا بل يستثني فيقول إن شاء الله . والأوّل مذهب أصحاب أبي حنيفة لما ورد في الآية ، ولأن الشك في الإيمان لا يجوز لأن التصديق والإقرار كلاهما محقق .

والثاني مذهب أصحاب الشافعي ، وأجابوا عن الآية بأنه لا نزاع في أن الموصوف بالصفات المذكورة مؤمن حقاً إنما النزاع من أن القائل أنا مؤمن هل هو موصوف بتلك الصفات جزماً أم لا . وأما حديث الشك فمبني على أن الإيمان عبارة عن الأركان الثلاثة ، ولا ريب أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فإن النزاع لفظي على أنا لا نسلم أن الاستثناء لأجل الشك وإنما هو لزوال العجب أو لعدم القطع بحسن الخاتمة ، أو لنوع من الأدب ففيه تفويض بالأمر إلى علم الله وحكمه كقوله { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } [ الفتح : 27 ] وإنه تعالى منزه عن الشك والريب . عن الحسن أن رجلاً سأله أمؤمن أنت؟ قال : الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله { إنما المؤمنون } فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا . وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية . وهذا إلزام منه يعني كما لا يقع بأنه من أهل الجنة حقاً فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً . ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك؟ فقال : اتباعاً لإبراهيم في قوله { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي } [ الشعراء : 82 ] فقال له : هلا اقتديت به في قوله { أو لم تؤمن قال بلى } [ البقرة : 260 ] قيل : وكان لقتادة أن يقول { ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] وفيه ما فيه . ثم أخبر عن مآل حالهم فقال { هم درجات عند ربهم } أي سعادات روحانية متفاوتة في الصعود والارتفاع ، ولكن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به يمنعه عن التألم من حال من فوقه كما قال سبحانه { ونزعنا ما في صدورهم من غل } ، { ومغفرة } [ الحجر : 47 ] وتجاوز عن سيئاتهم { ورزق كريم } هو نعيم الجنة المقرون بالدوام والتعظيم . والكرم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه نقله الواحدي عن أهل اللغة . فالله سبحانه موصوف بأنه كريم لأنه محمود في كل ما يحتاج إليه ، والقرآن كريم لأنه يوجد فيه بيان كل شيء { وقال إني ألقي إليّ كتاب كريم } [ النمل : 29 ] وقال { من كل زوج كريم } [ لقمان : 10 ] وقال { وقل لهما قولاً كريماً } [ الإسراء : 23 ] قال بعض العارفين : المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله . والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته .
قوله عز من قائل { كما أخرجك } يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوهاً : الأوّل : أن المشبه محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك . والمعنى أن حالهم في كراهة ما صنعت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين يوم بدرٍ وقلة المسلمين قال :

« » من قتل قتيلاً فله كذا وكذا « . ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا » ترغيباً لهم في القتال ، فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة : يا رسول الله لو أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق كثير بغير شيء فنزلت { قل الأنفال لله والرسول } يصنع فيها ما يشاء فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة . والثاني : أن ينتصب الكاف على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله { قل الأنفال لله والرسول } أي ثبت الحكم واستقر بأن الأنفال لله وإن كرهوا ثباتاً مثل إخراج ربك إياك إلى القتال وإن كرهوا ، ووجه تخصيص هذا المشبه به بالذكر من بين سائر أحكام الله أن القصة واحدة ووجه جعل الإخراج مشبهاً به كونه أقوى في وجه الشبه لأن مدار القصة عليه . وقيل : التقدير هو أن الحكم بكونهم مؤمنين حق كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك لأجل القتال حق . الثالث : قال الكسائي : الكاف متعلق بما بعده وهو قوله { يجادلونك } والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه . والبيت بيته صلى الله عليه وآله بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مهاجره ومسكنه فلها به اختصاص كاختصاص البيت بساكنه ، ومعنى بالحق أي إخراجاً ملتبساً بالحكمة والصواب { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهة بعضهم .
ثم بين الكراهة بقوله { يجادلونك } ويجوز أن تكون الجملة بدلاً أو خبراً بعد خبر . روي أن قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة ومعهم أربعون راكباً - منهم أبو سفيان وعمر بن العاص وعمرو بن هشام - فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم ، أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً . وقد رأت أخت العباس ابن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها : إني رأيت عجباً رأيت كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل فرمى بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة . فحدث بها العباس فقال أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبأوا حتى تتنبأ نساؤهم . فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير على ما قيل السائر : « لا في العير ولا في النفير » فقيل له : إن العير ولا في النفير « فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة فقال : لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمداً لم يصب العير .

فمضى بهم إلى بدر ونزل جبرائيل فقال : يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي صلىلله عليه وسلم أصحابه وقال : ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ . فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّ عليهم فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدوّ . فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر فأحسنا أي الكلام ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر فامض فوالله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار . ثم قال : المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين تطرف . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : « أشيروا عليّ أيها الناس » وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف أن يكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة . فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : أجل . قال : قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أدرت فوالذي بعثك بالحق نبياً لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا ، إنا بالصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك بنا ما
تقرُّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال : « سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم » ولنرجع إلى التفسير . قوله { في الحق } أي في تلقي النفير بعد ما تبين أي بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم هم المنصورون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير . وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب وذلك لكراهتهم القتال { كأنما يساقون إلى الموت } المتيقن لمشاهدة أسبابه من قلة العدد والعدد .

روي أنه ما كان منهم إلا فارسان . وانتصب بإضمار « اذكر » . قوله { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } وقوله { أنها لكم } بدل من { إحدى الطائفتين } وهما العير أو النفير { وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } أي تتمنون أن يكون لكم العر لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدّة . والشوكة الحدّة مستعارة من واحدة الشوك { ويريد الله أن يحق الحق } يثبته ويعليه { بكلماته } بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة من إنزال الملائكة وأسر الكفرة وقتلهم وطرحهم في قليب بدر { ويقطع دابر الكافرين } أي يستأصلهم . والدبر الآخر يعني أنكم تريدون العاجل وسفساف الأمور والله يريد معاليها وما يرجع إلى تقوية الدين وشتان ما بين المرادين . قوله { ليحق الحق } متعلق بمحذوف أي لإظهار الإسلام وإبطال الكفر . فعل ما فعل وإنما قدّر المحذوف متأخراً ليفيد معنى الاختصاص أي ما فعل ذلك إلا لتحقيق الحق وإبطال الباطل وقيل : يتعلق ب { يقطع } فإن قيل : الحق حق لذاته والباطل باطل في ذاته وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل . قلنا : المراد إظهار كون الحق حقاً والباطل باطلاً وذلك يكون تارة بإظهار الدلائل والبيان ، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل . فإن قيل : أليس في الكلام تكرار؟ قلنا : لا إذ المراد بالأوّل تثبيت ما وعده في هذه الواقعة من الظفر بالأعداء ، والمراد الثاني إعلاء الإسلام ومحق الكفر . والحاصل أن الأول جزئي أي أنتم تريدون العير والله يريد إهلاك النفير ، الثاني كلي يشمل هذه القضية وغيرها من القضايا التي حصل في ضمنها إعلاء كلمة الله وقمع بكلمة الكفر . احتجت الأشاعرة بقوله { كما أخرجك ربك } وقوله { ليحق الحق } على أن الأعمال والعقائد كلها بخلق الله وبتكوينه ولا يمكن أن يقال : المراد من إظهار الحق وضع الدلائل عليه لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى المسلم والكافر وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يبقى للتخصيص فائدة . والمعتزلة تمسكوا بالآية على إبطال قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله مريد له ، لأن ذلك ينافي إرادة تحقيق الحق وإبطال الباطل . واجيب بأن اللام في { الحق } ينصرف إلى المعهود السابق أي في هذه القضية فلم قلتم : إنه كذلك في جميع الصور { ولو كره المجرمون } أي الكافرون أو المشركون كقوله { ويأبى الله إلا أن يُتم نوره ولو كره الكافرون } [ التوبة : 32 ] وفي موضع آخر { ولو كره المشركون } [ الصف : 90 ] وقوله { إذ تستغيثون } بدل من قوله { وإذ يعدكم } وقيل : يتعلق بقوله { ليحق الحق } واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال طفقوا يدعون الله يقولون : يا غياث المستغيثين أغثنا . وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه ثلثمائة ، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه ، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك منا شدّتك بالدعاء ربك فإنه سينجز لك ما وعدك .

ويروى أنه لما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره . ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بالدعاء المذكور . ومعنى تستغيثون تطلبون الإغاثة ، يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني { فاستجاب لكم } ، { أني } أي بأني { ممدكم بألف من الملائكة مردفين } بكسر الدال وفتحها من أردفته إياه إذا أتبعته متعدياً إلى مفعولين ، أو من ردفته إذا أتبعته أي جئت بعده متعدياً إلى مفعول واحد . ومعنى الأوّل جاعلين بعضهم أو مجعولين بعضهم تابعاً لبعض أو أنفسهم تابعين للمؤمنين يحرسونهم أو لملائكة أخرى . ومعنى الثاني تابعين بعضهم للبعض أو للمؤمنين يقدمونهم على ساقتهم يحفظونهم أو لغيرهم من الملائكة . واختلف في قتال الملائكة يوم بدر فقيل : نزل جبرائيل في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت ، وقيل : قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين . وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً؟ قال : من الملائكة . فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم . وروي أن رجلاً من المسلمين بينا هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه فنظر إلى المشرك قد خر مستلقياً وشق وجهه ، فحدث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : « صدقت ذاك من مدد السماء » وعن أبي داود المازني قال : تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي . قيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا ، وقد أجبنا عن هذه الشبهة في تفسير سورة آل عمران وكذا في تفسير قوله { وما جعله الله } الآية . وقد مر هنالك وقد بقي علينا بيان المتشابه فنقول : حذف { لكم } ههنا لأن المخاطبين معلومون في قوله { فاستجاب لكم } وقدم { قلوبكم } وأخر به في « آل عمران » ازدواجاً بين الخطابين وعكس ههنا ازدواجاً بين الغائبين . ثم إن قصة بدر سابقة على قصة أحد فقيل في الأنفال { إن الله عزيز حكيم } ليستقر الخبر وجعله في آل عمران صفة لأن الخبر قد سبق والله أعلم .
التأويل : كثرة السؤال توجب الملال وإنما سألوا ليكون لهم الأنفال فأجيبوا على خلاف ما تمنوا .

وقيل : الأنفال لله والرسول قطعاً لطريق الاعتراض والسؤال . وأصلحوا ما بينكم من الأخلاق الردية والهمم الدنية { وأطيعوا الله ورسوله } بالتسليم والائتمار { زادتهم إيماناً } بحسب تزايد الأنوار { كما أخرجك ربك } فيه أنه أخرج المؤمن الحفي عن أوصاف البشرية إلى مقام العبودية بجذبات العناية { كما أخرجك } من وطن وجودك بالحق وهو تجلي صفات الجمال والجلال { وإن فريقاً } هم القلب والروح { لكارهون } للفناء عند التجلي ، فإن البقاء محبوب عند كل ذي وجود { يجادلونك } أي الروح والقلب { في } مجيء { الحق بعد ما تبين } مجيئه كأنهم ينظرون إلى الفناء ولا يرون البقاء بعد الفناء كمن يساق إلى الموت { وإذ يعدكم الله } أيها السائرون { إحدى الطائفتين } إما الظفر بالأعداء وهي النفوس وإما عير الواردات الروحانية وغنائم الأسرار الربانية . { وتودون أن غير ذات الشوكة } أي أردتم أن لا تجاهدوا عدوّ النفس ذات المكر والحيلة والهوى ، واستحليتم الواردات والشواهد الغيبية وذلك أن السير قسمان : سير السالكين على أقدام الطاعات وتبديل الصفات النفسانية إلى جنات الروحانية ، وسير المجذوبين على أجنحة عنقاء الجذبات إلى وراء قاف الأنانية ، فكان موسى من السالكين إلى ميقات ربه لم يجاوز طور النفس فكان مقامه مع الله المكالمة ، وكان محمد من المجذوبين وكان سيره على جناح جبرائيل إلى سدرة المنتهى ومنها على رفرف الجذبة الإلهية إلى قاب قوسين أو أدنى ، فكان مكانه المشاهدة فمن العناية أن لا يكل الله السائر إلى ما يوافق طبعه وهواه كما قال { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } أي بجذباته { ويقطع دابر الكافرين } النفوس الأمارة بالسوء . { إذ تستغيثون ربكم } يعني استغاثة الروح والقلب من النفس إلى الله عند استيلاء صفاتها { بألف من الملائكة } هم الصفات الملكية والروحانية { إلا بشرى لكم } بتبديل الأخلاق { وما النصر } بإهلاك النفس وصفاتها إلا بتجلي صفته القهارية { إن الله عزيز } لا يوصل إليه إلا بعد فناء الوجود { حكيم } في كل ما يفعل بمن يفعل والله أعلم .
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

القراآت : { يغشاكم النعاس } ابن كثير وأبو عمرو . { يغشيكم النعاس } من باب الأفعال : أبو جعفر ونافع . الباقون { يغشكيم النعاس } من باب التفعيل . ويقال من الإنزال : ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر . والآخرون : بالتشديد { رمى } بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى . { موهن } من الأفعال { كيد } بالنصب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وسهل ورويس { موهن } من الأفعال { كيد } بالجر للإضافة : حفص . الباقون { موهن } بالتشديد { كيد } بالنصب { وإن الله } بالفتح : ابن عامر وأبو جعفر ونافع وحفص والمفضل . الباقون : بالكسر .
الوقوف : { الإقدام } ه ط لتعلق « إذ » بمحذوف هو « اذكر » . { الذين آمنوا } ط { كل بنان } ط { ورسوله } الأوّل ج { العقاب } ه { النار } ه { الأدبار } ه { جهنم } ط { المصير } ه ط { قتلهم } ص لعطف المتفقتين { رمى } ج لاحتمال أن تكون الواو مقحمة واللام متعلقاً بما قبله واحتمال أن تكون عاطفة على { ولكن الله رمى } أو على محذوف أي لتستبشروا وليبلى { حسناً } ط { عليهم } ط { الكافرين } ه { الفتح } ج للفصل بين الجملتين المتضادتين مع العطف { خير لكم } ج لذلك { نعد } ج { كثرت } ط لمن قرأ « وإن » بالكسر { المؤمنين } ه .
التفسير : قال في الكشاف { إذ يغشيكم } « إذ » بدل ثانٍ من { إذ يعدكم } أو منصوب بالنصر أبو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكروا و { أمنة } مفعول لأجله { ومنه } صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من عند الله . ولما كان غشيان النعاس وكذا إغشاؤه وتغشيته متضمناً لمعنى تنعسون كان فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً كما هو شريطة انتصاب المفعول له . والمعنى إذ تنعسون لأمنتكم أو يغشاكم النعاس فتنعسون أمناً . وجوّز على قراءة الإغشاء والتغشية أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان أي ينعسكم إيماناً منه . وجوّز أن ينتصب الأمنة على أنها للنعاس الذي هو فاعل { يغشاكم } أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة ، أو على أن المراد أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل ، وقد مر فوائد هذا النعاس في سورة آل عمران . ومن نعم الله تعالى عليهم في تلك الواقعة إنزال المطر عليهم وكان فيه فوائد : إحداها : تحصيل الطهارة ، والثانية : إذهاب رجز الشيطان . وقيل : هو الجنابة التي أصابتهم لأنها من تخييل الشيطان ولا تكرار لأن الأولى عام وهذه خاص . وقيل : المراد المني لأنه شيء مستخبث مستقذر وعلى هذا يكون في الآية دلالة على نجاسة المني لقوله

{ والرجز فاهجر } [ المدثر : 5 ] وقيل : المراد وسوسة الشيطان إليهم وتخويفه إياهم من العطش وذلك أن المشركين سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم فتمثل لهم إبليس في صورة إنسان فقال لهم : أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة قد عطشتم ، ولو كنتم على حق لما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة . فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله المطر فمطروا ليلاً حتى جرى الوادي واتخذ أصحاب رسول الله الحياض على عدوة الوادي وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضأوا وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتى ثبتت عليه الأقدام وكانت هذه ثالثة الفوائد وأشار إليها بقوله { ويثبت به } أي بالماء { الأقدام } وقيل : الضمير عائد إلى الربط الذي يدل عليه قوله { ليربط على قلوبكم } والمراد من تثبيت الأقدام الصبر في مواطن القتال ، وذلك أن من كان قلبه ضعيفاً فرّ ولم يقف فلما ربط الله على قلوبهم أي قوّاها ثبتت أقدامهم ومعنى « على » أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأن علاها وارتفع فوقها . قال الواحدي : يشبه أن يكون على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما أوقع فيها من اليقين . روي أن المطر نزل على الكافرين أيضاً ولكن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب فعظم الوحل وصار مانعاً لهم من المشي والاستقرار . فقوله { ويثبت به الأقدام } يدل مفهومه على أن حال الأعداء كان بخلاف ذلك . ومن جملة النعم قوله { إذ يوحي ربك } وهو بدل ثالث من { إذ يعدكم } ومنصوب ب { يثبت } أو بذكر أني معكم الخطاب للملائكة والمراد أني معينكم على التثبيت فثبتوهم . وقيل : الخطاب للمؤمنين لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار . وقوله { فثبتوا الذين آمنوا } في هذا التثبيت وجوه : أحدها : أنه مفسر لقوله { سألقي } { فاضربوا } ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة . وثانيها : أن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال فالإلهام من الملائكة كالوسوسة من الشياطين . وثالثها : أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يعدونهم النصر والظفر . ومعنى { فوق الأعناق } أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها إزالة الرأس من الجسد . وقيل : أراد ضرب إلهام لأن الرؤوس فوق الأعناق . والبنان الأصابع سميت بذلك لأن بها صلاح أحوال الإنسان التي يريد أن يقيمها من أبن بالمكان أي أقام به ، والمراد نفي الأطراف من اليدين والرجلين .

ثم اختلفوا فمنهم من قال : المراد أن يضربوهم كما شاؤا لأن ما فوق العنق هو الرأس وهو أشرف الأعضاء والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء . بوجه أخر الضرب إما وقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً . ومنهم من قال : الأوّل إشارة إلى القتل ، وقطع البنان عبارة عن إفناء آلات المدافعة والمحاربة ليعجزوا عن القتال . وجوّز في الكشاف أن يكون قوله { سألقي } إلى قوله { كل بنان } تلقيناً للملائكة ما يثبتونهم به أي قولوا لهم قول سألقي ، أو يكون وارداً على الاستئناف كأنهم قالوا : كيف نثبتهم؟ فقيل : قولوا لهم قول سألقي . فالضاربون على هذا هم المؤمنون { ذلك } العقاب العاجل من الضرب والقتل وقع عليهم { بأنهم شاقوا } بسبب مشاقتهم ومخالفتهم { الله ورسوله } ثم بيّن أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء يسير وقدر نزر في جنب ما أعد الله لهم ولأمثالهم في الآجل فقال { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } أي له . والكاف في { ذلك } للرسول أو لكل من له أهلية الخطاب ، في { ذلكم } للكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع تقديره : ذلكم العذاب المعجل من القتل والأسر أو العذاب ذلكم ، أو النصب والتقدير : عليكم ذلكم أي الزموه فذوقوه أو هو كقولك زيداً فاضربه . قال في الكشاف : { وإن للكافرين } عطف على { ذلكم } في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى « مع » والمعنى : ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة . فوضع الظاهر موضع ضمير الخطاب . قلت : ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي وأن للكافرين عذاب النار حق أو بالعكس أي والحكم والشأن أن للكافرين . وفي ذكر الذوق إشارة إلى أن عذاب الدنيا شيء قليل بالنسبة إلى عذاب الآخرة .
قوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } قال الأزهري : أصل الزحف هو أن يزحف الصبي على أسته قبل أن يقوم ، شَبَّهَ بزحف الصبي مشي الطائفتين تتمشى كل فئة مشياً رويداً إلى الفئة الأخرى تتدانى للضرب . فانتصابه على الحال من الفريقين أي ، إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم ، ويجوز أن يكون حالاً من الذين كفروا . والزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيباً سمي بالمصدر ، والجمع زحوف والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفروا فضلاً عن حالتي المداناة والمساواة ، ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين وهم المؤمنون أي إذا ذهبتم إليهم للقتال فلا تنهزموا ومعنى { فلا تولوهم الأدبار } لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم أو هو تقدمه نهي عن الفرار يوم حنين حين تولوا مدبرين وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفاً . وفي قوله { من يولهم يومئذ دبره } أمارة عليه ، ثم بين أن الانهزام محرم إلا في حالتين فقال { إلا متحرفاً لقتال } هو المكر بعد الفرّ يخيل إلى عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو نوع من خدع الحرب { أو متحيزاً } أي منحازاً { إلى فئة } إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها .

وعلى هذا انتصب { متحرفاً } و { متحيزاً } على أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ووجد صحته من أنه ليس في الكلام نفي ظاهر هو أنه في معنى النفي كأنه قيل : ومن لا يقدم أو لا يعطف عليهم في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أن التحيز ، ويجوز أن يكون الاستثناء تاماً على أن الموصوف محذوف والتقدير : ومن يولهم دبره إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً . ووزن متحيزاً « متفيعل » لأنه من حاز يحوز فعل به ما فعل بأيام ، لو كان « متفعلاً » لقيل « متحوزاً » . عن ابن عمر : خرجت سرية وأنا فيهم ففروا ، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم . والعكرة البكرة . وعن ابن عباس أن الفرار من الزحف في غير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر . واحتج القاضي بالآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة . وأجيب بأنه مشروط بعدم العفو . وعن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بيوم بدر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاضراً بنفسه ، لأنه تعالى وعدهم النصرة ، ولأنه كان أول جهاده فناسب التشديد ولهذا منع من أخذ الفداء . وأكثر المفسرين على أنه عام في جميع الحروب لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . قال أكثر المفسرين : إن المؤمنين لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر وكان القائل يقول قتلت وأسرت فقيل لهم : فلم تقتلوهم . والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن صلى الله عليه وسلم قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم وربط عليها . ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني » فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال : -لما التقى الجمعان - لعلي : أعطني قبضة من حصباء الوادي فأعطاه فرمى بها في وجوههم وقال : « شاهت الوجوه » فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا فنزلت { وما رميت إذ رميت } أي وما رميت أنت يا محمد إذ رميت { ولكن الله رمى } أثبت الرمية للرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه عليه السلام ونفاها عنه لأن أثرها فوق حد تأثير القوى البشرية .

قال حكيم بن حزام : لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء فانهزمنا ، وعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : أقبل أبي بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا سبيله فاستقبله مصعب ابن عمير أخو بني عبد الدار ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوه أبيّ من فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فسقط أبي من فرسه ولم يخرج من طعنته دم وكسر ضلعاً من أضلاعه ، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا له : ما أعجزك إنما هو خدش فقال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لما أتوا أجمعين فمات أبيّ إلى النار قبل أن يقدم مكة فأنزل الله في ذلك { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وقيل : نزلت في خيبر حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوس فرمى منها بسهم فأقبل السهم يهوي حتى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه . وأصح الأقوال هو الأوّل كيلا يدخل في أثناء القصة كلام أجنبي ، نعم لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . { وليبلى المؤمنين منه بلاء حسناً } وليعطهم عطاء جميلاً فعل ما فعل وما فعله إلا لذلك . قال القاضي : ولولا أن المفسرين أجمعوا على أن معنى البلاء ههنا النعمة وإلا لكان يحتمل المحنة أي الذي فعله تعالى يوم بدر كان كالسبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات . { إن الله سميع } لكلامكم { عليم } بضمائركم . وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب كيلا يغتر العبد بظواهر الأمور { ذلكم } الغرض أي الغرض ذلكم { وإن الله موهن كيد الكافرين } إعرابه كما مر في قوله { وأن للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] قال ابن عباس : ينبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول إني قد أوهنت كيد عدوّك حتى قتلت جبابرتهم وأسرت أشرافهم . قال السدي والكلبي والحسن : كان المشركين حين خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين فأنزل الله تعالى خطاباً لهم على سبيل التهكم { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } وقال عكرمة : قال المشركون : اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فنزلت . وروي أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم أي فأهلكه . وقيل : إنه خطاب للمؤمنين الذين استغاثوا الله وطلبوا النصر .

ثم خاطب الكفار بقوله { وأن تنتهوا } أي عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فهو خير لكم } وأسلم وإن تعودوا لمحاربته نعد لنصرته عليكم . وجوّز بعضهم أن يكون الخطاب في الجميع للمؤمنين أي إن تكفوا عن المنازعة في أمر القتال أو عن طلب الفداء فهو خير لكم { وإن تعودوا } إلى تلك المنازعات { نعد } إلى ترك نصرتكم . ثم ختم الآية بقوله { وإن الله مع المؤمنين } تقديره على قراءة الفتح ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك .
التأويل : { إذ يغشاكم النعاس أمنة } فيه تغليب الحال إلى ضده بأمر التكوين كما قال للنار { كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } [ الأنبياء : 69 ] كذلك قال للخوف كن أمناً على محمد وأصحابه فكان { ينزل عليكم } من سماء الروحانية ماء الإلهام الرباني { ليطهركم به } من دنس الصفات النفسانية والحيوانية { ويذهب عنكم } وساوس الشيطان وهواجسه { وليربط على قلوبكم } بالصدق والإخلاص والمحبة والتوكل واليقين { ويثبت به الأقدام } على طريق الطلب { إني معكم فثبتوا } فيه أن التثبيت من الله لا من غيره ، وكذلك إلقاء الرعب في قلوبهم وغير ذلك . { إذا لقيتم الذين كفروا } إذا لقيتم كفار النفوس وصفاتها مجتمعين على قهر القلوب وصفاتها فلا تنهزموا فتقعوا عن صراط الطلب { إلا متحرفاً } إلا قلباً يتحرك ليتهيأ لأسباب القتال مع النفس أو راجعاً إلى الاستمداد من الروح وصفاتها أو إلى ولاية الشيخ أو إلى حضرة الله تعالى مستمداً في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة فإنها تورث المشاهدة { فلم تقتلوهم } نفى القتل عن الصحابة بالكلية أو حاله إلى نفسه فقال { ولكن } ولم ينف الرمي عن النبي بالكلية حيث قال { إذ رميت } لأن الله تعالى كان قد تجلى بالقدرة وكأن يده يد الله كما كان حل عيسى حين تجلى له بصفة الإحياء كان يحيي الموتى { وليبلى المؤمنين منه } فيجتهدوا في متابعته إلى أن يبلغوا هذا المقام { إن تستفتحوا } أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفتاح الصدق والإخلاص وترك ما سوى الله في طلب التجلي { فقد جاءكم الفتح } بالتجلي فأنه تعالى متجل في ذاته أزلاً وأبداً فلا تغير له وإنما التغير في أحوال الخلق ، فهم عند انغلاق أبواب قلوبهم محرومون وعند انفتاح أبوابها محظوظون { وأن تنتهوا } عن طلب غير الله { فهو خير لكم وأن تعودوا } إلى طلب الدنيا وزخارفها { نعد } إلى خذلانكم ونكالكم ونكلكم إلى أنفسكم ودواعيها { ولن تغني عنكم } لا يقوم شيء من الدنيا والآخرة وما فيهما مقام شيء مما أعدّ لأهل الله وخاصته .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)

القراآت : { ولا تولوا } بالإدغام : البزي وابن فليح .
الوقوف : { تسمعون } ه ج للآية وللعطف { لا يسمعون } ه { لا يعقلون } ه { لأسمعهم } ط { معرضون } ه { لما يحييكم } ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الظرف { تحشرون } ه { خاصة } ج لما مر { العقاب } ه { تشكرون } ه { تعلمون } ه { فتنة } لا للعطف { عظيم } ه { ويغفر لكم } ط { العظيم } ه { أو يخرجوك } ط { ويمكر الله } ط { الماكرين } ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد ذكر نحو من قصة بدر والغنائم . أدَّب المؤمنين أحسن تأديب فأمرهم بطاعته وطاعة رسوله في قسمة الغنائم وغيرها ثم قال { ولا تولوا عنه } فوحد الضمير لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد ، أو لأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] وكقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان وجوّز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة أي لا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله { وأنتم تسمعون } لم يبين أنهم ماذا يمسعون إلا أنه يعلم من مساق الكلام في السورة أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد أو المراد وأنتم تسمعون الأمر المذكور ، أو وأنتم تصدقون بدليل قوله { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } لأنهم ليسوا بمصدقين فلا يصح دعوى السماع منهم . وتحقيق ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يقبل التكليف ويلتزمه إلا بعد أن يسمعه ، فجعل السماع كناية عن القبول ، ثم أكد التكاليف المذكورة بقوله { إن شر الدواب } أي إن شر من يدب على الأرض ، أو إن شر البهائم . والفرق بين التفسيرين أن الأوّل حقيقة إلا أنه ذكر في معرض الذم كقولك لمن لا يفهم الكلام هو شبح وجسد . والثاني مذكور في معرض التشبيه بالبهائم بل جعلهم شرّها لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بالحواس كقوله { بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] ومعنى { عند الله } أي في حكمه وقضائه . ثم قال { ولو علم الله فيهم } أي في هؤلاء الصم البكم { خيراً لأسمعهم } عن ابن جريج : هم المنافقون . وعن الحسن : أهل الكتاب ، وقيل : بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون : نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحاب اللواء . وروي أنهم سألوا النبي أن يحيي لهم قصي ابن كلاب وعيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوّته ، فبيّن تعالى أنه لو علم فيهم خيراً وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت .

وأنهم لو أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه على عادتهم المستمرة . واعلم أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام : جملة الموجودات ، وجملة المعدومات ، وإن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف يكون حاله ، وإن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً فكيف يكون حاله ، والأولان علم بالواقع ، والآخران الباقيان علم بالمقدر ومن هذا القبيل . قوله تعالى { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } وتقدير الكلام لو حصل فيهم خيراً لأسمعهم الله الحجج والمواعظ فعبر عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده ، وأورد على الآية أنها على صورة قياس شرطي فإذا حذفنا الحد الأوسط بقيت النتيجة : لو علم الله فيهم خيراً لتولوا ولكن كلمة « لو » وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيكون التولي منتفياً لأجل انتفاء علم الله الخير فيهم بل لأجل انتفاء الخير فيهم . لكن انتفاء التولي خير من الخيرات فأوّل الكلام يقتضي نفي الخير عنهم وأخره يقتضي . حصول الخير فيهم وهذا تناقض والجواب المنع من أن الحد الأوسط مكرر لأن المراد بالإسماع الأوّل إسماع التفهم وإلزام القبول ، والمراد بالإسماع الثاني صورة الإسماع فحسب ، وأيضاً كلمة « لو » في المقدمة الثانية هي التي تجيء للمبالغة بمعنى « أن » كقوله صلى الله عليه وسلم : « نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه » فإذاً لا تعلق لإحدى الجملتين بالأخرى فلا قياس . واستدلت الأشاعرة بالآية على أن صدور الإيمان عن الكافر محال لأن الصادق قد أخبر أنهم على تقدير الإسماع معرضون وخلاف علمه وخبره محال . وقال في الكشاف : لو علم الله فيهم خيراً أي انتفاعاً باللطف للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه ، أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا وتزييف هذا التفسير سهل . ثم علم المؤمنين أدباً آخر فقال { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } فوحد الضمير كما مر . والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال ، وبالدعوة البعث والتحريض . عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبيّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي؟ قال : كنت أصلي . قال : ألم تخبر فيما أوحي إليّ { استجيبوا لله وللرسول } ؟ قال : لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك ، وقد يتمسك الفقهاء بهذا الخبر على أن ظاهر الأمر للوجوب وإلا فلم يتوجه اللوم . ثم قيل : إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : إن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته . ثم الإحياء لا يمكن أن يحمل على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فذكروا فيه وجوهاً : قال السدي : هو الإسلام والإيمان لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته بدليل قوله

{ يخرج الحي من الميت } [ الأنعام : 95 ] أي المؤمن من الكافر . وقال قتادة : يعني القرآن لأن فيه العلم الذي به الحياة الحقيقية . والأكثرون على أنه الجهاد لأن وهن أحد العدوّين سبب حياة الآخر ، ولأن الجهاد سبب حصول الشهادة التي توجب الحياة الدائمة لقوله { بل أحياء عند ربهم } [ آل عمران : 169 ] ، وقيل : إنه عام في كل حق وصواب فيدخل فيه القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة . والمراد لما يحييكم الحياة الطيبة كما قال { فلنحيينه حياة طيبة } [ آل عمران : 169 ] ، { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } اختلف الناس فيه بحسب اختلافهم في مسألة الجبر والقدر فنقل الواحدي عن ابن عباس والضحاك : يحول بين الكافر وطاعته ويحول بين المطيع ومعصيته . فالسعيد من أسعده الله والشقي من أضله الله ، والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ويخلق فيها القصود والدواعي والعقائد حسبما يريد ، وتقرير ذلك من حيث العقل وجوب انتهاء جميع الأسباب إليه ، ثم ختم الآية بقوله { وإنه إليه يحشرون } ليعلم أنهم مع كونهم مجبورين خلقوا مثابين ومعاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين . وقالت المعتزلة : إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز وأمر العاجز سفه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وإنه تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول فلو لم تكن الإجابة ممكنة فكيف يأمر بها ، ولو كان الأمر بغير المقدور جائزاً لكان القرآن حجة للكفار على الرسول لا له عليهم . فإذا لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر . فتأويلها أن الله يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت يدل عليه قوله { وإنه } أي وأن الشأن أو الله إليه تحشرون والمقصود الحث على الطاعة قبل نزول سلطان الموت ، أو أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه تسمية للشيء باسم محله فكأنه قيل : بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على طول البقاء فإن الأجل يحول دون الأمل أو المراد سارعوا إلى الطاعة ولا تمتنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن فإن الله مقلب القلوب من حالة العجز والجبن إلى القوة والشجاعة وقد يبدل بالأمن خوفاً وبالخوف أمناً ، وبالذكر نسياناً وبالنسيان ذكراً ، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى ، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا . وقال مجاهد : المراد بالقلب العقل والمعنى بادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون . ولا تأمنوا زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف فلا يقدر على الكفر والإيمان . وعن الحسن : إن الغرض التنبيه على أنه تعالى مطلع على بواطن العبد وضمائره ، وإن قربه من عبده أشد من قرب قلبه منه كقوله { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }

[ ق : 16 ] ثم حذرهم الفتن والاختلاف فقال { واتقوا فتنة } قيل : هو العذاب . وقيل : افتراق الكلمة . وقيل : إقرار المنكر بين أظهرهم . وقوله { لا تصيبن } إما أن يكون جواباً للأمر وجاز دخول النون المؤكدة فيه مع خلوه من الطلب لأن فيه معنى النهي كقولك : انزل عن الدابة لا تطرحك وإن شئت قلت لا تطرحنك . وعلى هذا « من » في { منكم } للتبعيض . وقيل : الجواب محذوف والمعنى إن أصابتكم لا تصيب بعضكم وهم الظالمون حال كونهم { خاصة } ولكنها تعم الظالمين وغيرهم لأنه يحسن من الله تعالى ذلك بحكم المالكية أو لاشتمال ذلك على نوع من الصلاح ، وإما أن يكون نهياً بعد أمر و « من » للبيان كأنه قيل : احذروا ذنباً أو عقاباً . ثم قيل لا تصيبنكم تلك العقوبة خاصة على ظلمكم كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص على طريق الاستعارة . وهكذا إن جعلت الجملة الناهية صفة للفتنة على إرادة القول أي اتقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبن كقوله .
جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط ... عن الحسن : نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة على ما قال الزبير : نزلت فينا وقرأناها زماناً وما رأينا أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها . وعن السدي : نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل . وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إذ أقبل علي فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف حبك لعلي؟ فقال : يا رسول الله يأبى أنت وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حباً . قال : فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟ ثم ختم الآية بقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب } والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة . ثم ذكرهم نعمه عليهم فقال { واذكروا إذ أنتم } وانتصابه على أنه مفعول به أي وقت أنكم { قليل } يستوي فيه الواحد والجمع { مستضعفون في الأرض } أرض مكة قبل الهجرة { تخافون أن يتخطفكم الناس } يستلبونكم لكونهم أعداء لكم { فآواكم } إلى المدينة { وأيدكم بنصره } بمظاهرة الأنصار وبإمدادكم بالملائكة يوم بدر { ورزقكم من الطيبات } من الغنائم { لعلكم تشكرون } أي ينقلكم من الشدة إلى الرخاء ، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة في الأنفال؟ ، ثم منعهم من الخيانة في الأمانة . يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة بن مروان بن المنذر وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله في أيديهم .

فبعثه إليهم فقالوا له : ما ترى هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه أي إن حكم سعد بن معاذ هو الذبح . قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت الآية . فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ . فمكث سبعة أيام حتى خرّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه فقيل له : قد تيب عليك في نفسك . فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني . فجاءه فحله بيده فقال : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي . فقال صلى الله عليه وسلم : يجزيك الثلث أن تتصدق به . وقال السدي : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فيفشونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك . وقال ابن زيد نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ويسرون الكفر . وعن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم على الذهاب إليه فكتب إليه رجل من المنافقين إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فنزلت . وقال الزهري والكلبي : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إليها حكاه الأصم . قال القاضي : والأقرب أنها في الغنائم . فالخيانة فيها خيانة الله لأنها عطيته ، وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمتها ، وخيانة للمؤمنين الغانمين فلكل منهم فيها حق . قال : ويحتمل أن يراد بالأمانة كل ما تعبد به كأن معنى الآية إيجاب أداء التكاليف بأسرها في الغنيمة وغيرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال ، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام فإذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت النقصان فيه ، وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب ، وخان الشتار السبب . والكرب حبل قصير يوصل بالرشاء ويكون على العراقيّ سمي كرباً لأنه يكرب من الدلو أي يقرب منه . واشتار العسل إذا اجتناه وجمعه . وتخونوا يحتمل أن يكون جزماً داخلاً في حكم النهي وأن يكون نصباً بإضمار أن كقوله { وتكتموا الحق } [ البقرة : 42 ] ومعنى الآية على الوجه العام لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه ورسوله بأن لا تستنوا به وأماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله ، أو تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عمداً لا سهواً . وقيل : وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن . ثم لما كان الداعي إلى الخيانة وهو محبة الأموال والأولاد ولعل ما فرط من أبي لبابة كان بسبب ذلك نبه الله سبحانه على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي أنها سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو هي محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون على حدوده في ذلك الباب { وإن الله عنده أجر عظيم } فعليكم أن تزهدوا في الدنيا وما يتعلق بها وتنوطوا هممكم بما يفضي إلى السعادات الروحانية الباقية .

ويمكن أن يتمسك بالآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل لكونه مفضياً إلى الأجر العظيم عند الله هو أفضل من الاشتغال بالنكاح لأدائه إلى الفتنة . ثم رغب في التقوى التي توحب الإعراض عن محبة الأموال والأولاد وعن التهالك في شأنهم فقال { يا أيها الذين آمنوا أن تتقوا الله } في ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر { ويجعل لكم فرقاناً } فارقاً بينكم وبين الكفار في الأحوال الباطنة بالاختصاص بالمعرفة والهداية وانشراح الصدر وإزالة الغل والحسد والمكر وسائر الأخلاق الذميمة والأوصاف السبعية والبهيمية ، وفي الأحوال الظاهرة بإعلاء الكلمة والإظهار على أهل الأديان كلهم ، وفي أحوال الآخرة بالثواب الجزيل والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة . { ويكفر عنكم سيئاتكم } يستر عليكم في الدنيا صغائركم إن فرطت منكم { ويغفر لكم } في دار الجزاء { والله ذو الفضل العظيم } فإذا وعد بشيء وفى به أحسن الإيفاء . ومن عظيم فضله أنه يتفضل بذاته من غير واسطة وبدون التماس عوض وكل متفضل سواه فإنه لا يتفضل إلا بعد أن يخلق الله فيه داعية التفضل وبعد أن يمكن المتفضل عليه من الانتفاع بذلك . وبعد أن يكون قد تصوّر فيه ثواباً أو ثناء ، أو حمله على ذلك رقة طبع أو عصبية وإلا فلا فضل في الحقيقة إلا لله سبحانه فلهذا وصفه بالعظم . ثم لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقولهم { واذكروا إذ أنتم قليل } ذكر رسوله نعمته عليه وذلك دفع كيد المشركين عنه حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم وفيما أتاح له من حسن العاقبة . والمعنى واذكر وقت مكرهم . فإن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين : ذكروا أن قريشاً اجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً . فقالوا : هذا من نجد لا بأس عليكم به . فقال أبو البختري من بني عبد الدار : رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة وتلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون ، فقال إبليس : بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم . فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم .

فقال : بئس الرأي يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا . فقال الشيخ : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً . فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة فأمر علياً عليه السلام فنام في مضجعه وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه . وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتصوا أثره فأبطل مكرهم . ومعنى { ليثبتوك } قال ابن عباس : ليوثقوك ويسجنوك لأنه لا يقدر على الحركة وهو إشارة إلى رأي أبي البختري . وقوله { أو يقتلوك } إشارة إلى رأي أبي جهل . وقوله { أو يخرجوك } أي من مكة إشارة إلى رأي هشام . وأنكر القاضي حديث إبليس في القصة وتصويره نفسه بصورة الإنس . قال : لأن ذلك التغيير إن كان بفعل الله فهو إعانة للكفار على المكر ، وإن كان من فعل إبليس فلذلك لا يليق بحكمة الله تعالى لأن إقدار إبليس على تغيير صورة نفسه إعانة له على الإغواء والتلبيس . هذا ما حكى عن القاضي وذهب عليه أن هذا الاعتراض وارد على خلق إبليس نفسه وعلى خلق سائر أسباب الشرور والآثام وقد أجبنا عن أمثال ذلك مراراً ، وقد عرفت تفسير المكر في سورة آل عمران . والحاصل أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد والله نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله . فإن قيل : لا خير في مكرهم فكيف قال والله أنه خير الماكرين؟ وأجيب بأن المراد أقوى الماكرين ، أو المراد أنه لو قدر في مكرهم خير لكان الخير في مكره أكثر ، أو المراد أنه في نفسه خير .
التأويل : إن شر من دب في الوجود هم { الصم } عن استماع كلام الحق . يسمع القلب والقبول { إليكم } عن كلام الحق والكلام مع الحق . والأصم لا بد أن يكون أبكم فلذلك خصا بالذكر { الذين لا يعقلون } أنهم لماذا خلقوا فلا جرم يؤل حالهم من أن يكونوا خير البرية إلى أن يكونوا شرّ الدواب { استجيبوا لله } إنه تعالى يطلب بالمحجة من العبد الإجابة كما يطلب العبد للحاجة منه الإجابة ، فالاستجابة لله إجابة الأرواح للشهود وإجابة القلوب للشواهد ، وإجابة الأسرار للمشاهدة ، وإجابة الخفي للفناء في الله ، والاستجابة للرسول بالمتابعة لما يحييكم يفنيكم عنكم ويبقكيم به { واعلموا أن الله يحول } بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه وظلمة أوصاف قالبه { وإنه إليه تحشرون } بالفناء عنكم والبقاء به { واتقوا } أيها الواصلون فتنة ابتلاء النفوس بحظوظها الدنيوية والأخروية .

لا تصيب النفوس الظالمة فقط بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية فتجتذبها من حظائر القدس ورياض الأنس إلى حضائض صفات الإنس { واعلموا أن الله شديد العقاب } يعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عن الالتفات إلى ما سواه { واذكروا إذ أنتم } أيها الأرواح والقلوب { قليل } لم ينشأ بعد لكما الصفات الأخلاق الروحانية { مستضعفون } من غلبات صفات النفس لإعواز التربية بألبان آداب الطريقة ولانعدام جريان أحكام الشريعة عليكم إلى أوان البلوغ . { يخافون } أن تسلبكم النفوس وصفاتها والشيطان وأعوانه { فآواكم } إلى حظائر القدس { وأيدكم } بالواردات الربانية { ورزقكم } المواهب الطاهرة من لوث الحدوث . { يا أيها الذين آمنوا } يعني الأرواح والقلوب المنوّرة بنور الإيمان المستسعدة بسعادات العرفان { لا تخونوا الله } فيما آتاكم من المواهب فتجعلوها شبكة لاصطياد الدنيا ولا تخونوا الرسول بترك السنة والقيام بالبدعة { وتخونوا أماناتكم } التي هي محبة الله ، وخيانتها تبديلها بمحبة المخلوقات { وأنتم تعلمون } إنكم تبيعون الدين بالدنيا والمولى بالأولى { فتنة } يختبركم الله بها بالتمييز الموافق من المنافق ، والصديق من الزنديق . { يا أيها الذين آمنوا } بهذه المقامات والكرامات { أن تتقوا الله } من غير الله { يجعل لكم فرقاناً } يفض عليكم من سجال جماله وجلاله القديم ما تفرقون به بين الحدوث والقدم { ويكفر عنكم } سيئات وجودكم الفاني { ويغفر لكم } يستركم بأنوار جماله وجلاله { والله ذو الفضل العظيم } وهو البقاء بالله بعد الفناء فيه { ليثبتوك } أيها الروح في أسفل سافلين الطبيعة أو يعدموك بانعدام آثارك { أو يخرجوك } من عالم الأرواح { والله خير الماكرين } يصلح حال أهل الصلاح ألبته .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)

القراآت : { بما تعملون } ، { بصير } بتاء الخطاب : يعقوب .
الوقوف : { مثل هذا } لا لأن الابتداء بأن هذا إلا أساطير الأولين قبيح { الأولين } ه { أليم } ه { وأنت فيهم } ط { يستغفرون } ه { وما كانوا أولياءه } ط { لا يعلمون } ه { وتصدية } ط { تكفرون } ه { عن سبيل الله } ط { يغلبون } ط لأن ما بعده مبتدأ { يحشرون } ه لا لتعا اللام { في جهنم } ط { الخاسرون } ه { ما سلف } ط لابتداء الشرط مع العطف { الأولين } ه { كله لله } ط { بصير } ه { مولاكم } ط { النصير } ه .
التفسير : لما حكى مكرهم في ذات محمد صلى الله عليه وآله حكى مكرهم في دينه . وروي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجراً واشترى أحاديث كليلة ودمنة وقصة رستم واسفنديار ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين فيقرأ عليهم ويقول هذا مثل ما يذكره محمد من قصص الأوّلين ، ولو شئت لقلت مثل قوله ، وهذا منه ومن أمثاله صلف تحت الراعدة لأنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة . ويروى عن النضر أو عن أبي جهل على ما في الصحيحين أن أحدهما قال ما معناه { اللهم إن كان هذا هو الحق } الآية . وهذا أسلوب من العناد بليغ لأن قوله { هو الحق } بالفصل وتعريف الخبر تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق . ومعنى { حجارة من السماء } الحجارة المسوّمة للعذاب أي إن كان القرآن هو المخصوص بالحقية فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بنوع أخر من جنس العذاب الأليم . ومراده نفي كونه حقاً فلذلك علق بحقيته العذاب كما لو علق بأمر محال فهو كقول القائل إن كان الباطل حقاً فأمطر علينا حجارة . وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة . قال : أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة } ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له . ثم شرع في الجواب عن شبهتهم فقال { وما كان الله ليعذبهم } اللام لتأكيد النفي دلالة على أن تعذيبهم بعذاب الاستئصال والنبي بين أظهرهم غير مستقيم عادة تعظيماً لشأن النبي { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } قال قتادة والسدي : المراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم . وقيل : اللفظ عام لأن المراد بعضهم وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين المؤمنين فهو كقولك : قتل أهل المحلة فلاناً وإنما قتله واحد منهم أو اثنان . وقيل : وصفوا بصفة أولادهم والمعنى وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه ، وفي علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان كحكيم بن حزام والحرث بن هشام وعدد كثير ممن آمن يوم الفتح وقبله وبعده .

وفي الآية دلالة على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب . قال ابن عباس : كان فيهم أمانان : نبي الله والاستغفار . أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باقٍ إلى يوم القيامة . ثم بين أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم فقال { ومالهم ألا يعذبهم الله } وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم يعني لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة . قيل : لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر . وقيل : يوم فتح مكة بدليل قوله { وهم يصدون } أي كيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عام الحديبية . والأوّلون قالوا : إن إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ . وعن ابن عباس أن هذا العذاب عذاب الآخرة والذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء فنفى الله استحقاقهم الولاية بقوله { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } من المسلمين وليس كل مسلم يصلح لذلك فضلاً عن مشرك { ولكن أكثرهم لا يعلمون } كان فيهم من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة . أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم . ثم ذكر بعض أسباب سلب الولاية عنهم فقال { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } المكاء « فعال » كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر . والتصدية التصفيق « تفعلة » من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل فيكون في الأصل معتل اللام ، أو من صدّ يصدّ مضاعفاً أي صاح فقلبت الدال الأخيرة ياء كالتقضي في التقضض ، وأنكر هذا الاشتقاق بعضهم وصوّبه الأزهري وأبو عبيدة . قال جعفر بن ربيعة : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء والتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيراً . وقيل : هو أن يجعل بعض أصابع اليمين وبعض أصابع الشمال في الفم ثم يصفر به . وقيل : تصويب يشبه صوت المكَّاء بالتشديد وهو طائر معروف . عن ابن عمر : كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون . فالمكاء والتصدية على هذا نوع عبادة لهم فلهذا وضعا موضع الصلاة بناء على معتقدهم . وفيه أن من كان المكاء والتثدية صلاته فلا صلاة له كقول العرب : ما لفلان عيب إلا السخاء أي من كان السخاء عيبه فلا عيب له . وقال مجاهد ومقاتل : كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف والصلاة عند المسجد الحرام يستهزؤن به ويخلطون عليه فجعل المكاء والتصدية صلاة لهم كقولك : زرت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة .

ثم خاطبهم على سبيل المجازاة بقوله { فذوقوا العذاب } عذاب القتل والأسر يوم بدر أو عذاب الآخرة { بما كنتم تكفرون } بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة .
ولما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية فقال { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم } الآية . قال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً : أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبيّ بن خلف وزمعة بن أسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب . وكلهم من قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر . وقال سعيد بن جبير وابن أبزى : نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش - والأحبوش جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة - وأنفق عليهم أربعين أوقية من فضة . والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً - قاله في الكشاف . وقال محمد بن إسحق عن رجاله : لما أصيب قريش يوم بدر فرجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً لمن أصيب منا فأنزل الله تعالى الآية . ومعنى { ليصدّوا عن سبيل الله } أن غرضهم في الإنفاق كان هو الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك . ثم أخبر عن الغيب على وجه الإعجاز فقال { فيسنفقونها } أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة فكأن ذاتها تصير ندماً وتنقلب حسرة ثم يغلبون آخر الأمر وإن كانت الخرب بينهم وبين المؤمنين سجالاً لقوله { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] ومعنى « ثمك » في الجملتين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكوروبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد ، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة . ثم قال { والذين كفروا } أي الكافرون منهم ولم يقل « ثم يغلبون وإلى جهنم يحشرون » لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه فذكر أن الذي بقوا على الكفر لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم دون من أسلم منهم . ثم بين الغاية والغرض فيما يفعل بهم من الغلبة ثم الحشر إلى جهنم فقال { ليميز الله الخبيث } أي الفريق الخبيث من الكفار { من } الفريق { الطيب } وهم المؤمنون { ويجعل } الفريق { الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً } عبارة عن الجمع والضم وفرط الازدحام .

يقال : ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض { أولئك } الفريق الخبيث { هم الخاسرون } وقيل : الخبيث والطيب صفة المال أي ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المال الطيب الذي أنفقه المهاجرون والأنصار في نصرته فيركمه فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها على بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كقوله { فتكوى بها جباههم وجنوبهم } [ التوبة : 35 ] وعلى هذا فاللام في قوله { ليميز الله } يتعلق بقوله { ثم تكون عليهم حسرة } قاله في الكشاف . ولا يبعد عندي أن يتعلق ب { يحشرون } و { أولئك } إشارة إلى الذين كفروا . ولما بين ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى الطريق المستقيم وما يتبعه من الصلاح فقال { قل للذين كفروا } أي قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عما هم عليه من عداوة الرسول وقتاله بالدخول في السلم والإسلام { يغفر لهم ما قد سلف } من الكفر والمعاصي . ولو كان المراد خطابهم بهذا القول لقيل : « أن تنتهوا يغفر لكم » . وقد قرأ بذلك ابن مسعود { وإن تعودوا } لقتاله { فقد مضت سنة الأوّلين } منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر أو سنة الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم فأهلكوا أو غلبوا كقوله { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] واستدل كثير من العلماء منهم أصحاب أبي حنيفة الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام لأن الخطاب مع الكفر باطل بالإجماع وبعد زواله لا يؤمر بقضاء العبادات الفائتة ، بل ذهب أبو حنيفة إلى أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردة وقبلها وفسر { وإن يعودوا } بالعودة إلى الردة . واختلفوا في أن الزنديق هل تقبل تبوته أم لا؟ والصحيح أنها مقبولة لشمول الآية جميع الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم : « نحن نحكم بالظاهر » ولأنه يكلف بالرجوع ولا طريق له إلا التوبة ، فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق . ثم أمر بقتالهم إن أصروا على الكفر فقال { وقاتلوهم } الآية . وقد مر تفسيره في سورة البقرة إلا أنه زاد ههنا لفظة { كله } في قوله { ويكون الدين كله لله } لأن القتال ههنا مع جميع الكفار وهناك كان مع أهل مكة فحسب { فإن انتهوا } عن الكفر وأسلموا { فإن الله بما يعملون بصير } يثيبهم على توبتهم وإسلامهم . ومن قرأ بتاء الخطاب أراد فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه بصير يجازيكم عليه أحسن الجزاء . { وإن تولوا } ولم ينتهوا { فاعلموا أن الله مولاكم } ناصركم ومتولي أموركم يحفظكم ويدفع شر الكفار عنكم فإنه { نعم المولى ونعم النصير } فثقوا بولايته ونصرته .

التأويل : قالوا قد سمعنا وما سمعوا في الحقيقة وإلا لم يقولوا لو نشاء لقلنا فإن كلام المخلوق لن يكون مثل كلام الله . ثم انظر كيف استخرج الله منهم عقيب دعواهم { لقلنا مثل هذا } قولهم { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر } ليعلم أن من هذا حاله كيف يكون مثل القرآن مقاله ، ولو كان لهم عقل لقالوا إن كان هذا حقاً فاهدنا له ومتعنا به وبأنواره وأسراره { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } لأنه رحمة للعالمين والرحمة تنافي العذاب { إن أولياؤه إلا المتقون } ، { ولكن أكثرهم } يعني أكثر المتقين أو { لا يعلمون } أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم } كذلك دأب كفار النفوس ينفقون أموال الاستعداد الفطري في غير طلب الله وإنما تصرفها في استيفاء اللذات والشهوات فستندم حين لا ينفع الندم { ثم يغلبون } لا يظفرون بمشتهيات النفس كلها ولأجلها ، والذين كفروا من الأرواح والقلوب التابعة والنفوس { إلى جهنم } البعد والقطعية { يحشرون } ، { ليميز الله } الأرواح والقلوب الخبيثة من الطيبة التي لا تركن إلى الدنيا ولا تنخدع بانخداع النفوس { فيركمه جميعاً } فيجعل الأرواح الخبيثة فوق النفوس الخبيثة فيلقي الجميع في جهنم القطيعة { قل للذين كفروا } من الأرواح والقلوب أي ستروا النور الروحاني بظلمات صفات النفس { إن ينتهوا } عن اتباع الهوى { يغفر لهم } يستر لهم تلك الظلمات بنور الفرقان والرشاد . { وقاتلوا } كفار النفوس { حتى لا تكون } آفة مانعة عن الوصول { ويكون الدين كله لله } ببذل الوجود وفقد الموجود لنيل الوجود وكرامة الشهود والله تعالى أعلم .
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

القراآت : { بالعدوة } بكسر العين في الحرفين : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب . الباقون : بالضم . { من حيي } بياءين : أبو جعفر ونافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي ونصير وأبو بكر وحماد . الباقون : بالإدغام { ولا تنازعوا } بالإدغام : البزي وابن فليح { وتذهب } بالجزم للجزاء عن هبيرة { وإذ زين } وبابه مدغماً : أبو عمرو وعلي وحمزة في رواية خلاد ابن سعدان وهشام { إني أرى } ، { إني أخاف } بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { تراءت الفئتان } بالإمالة : نصير .
الوقوف : { وابن السبيل } ط لتعلق حرف الشرط بمحذوف يدل عليه ما قبلها تقديره : واعلموا واعتقدوا هذه الأقسام إن كنتم . { الجمعان } ط { قدير } ه { أسفل منكم } ط { في الميعاد } لا لعطف لكن { مفعولا } لا لتعلق اللام { من حيَّ عن بينه } ط { عليم } لا لتعلق « إذ » { قليلاً } ط { منكم } ط { الصدور } ه { مفعولا } ط { الأمور } ه { تفلحون } ه ج للآية وللعطف { واصبروا } ط { الصابرين } ه ج لما ذكر { عن سبيل الله } ط { محيط } ه { جار لكم } ط { أخاف الله } ط { العقاب } ه { دينهم } ط { حكيم } ه .
التفسير : لما أمر سبحانه بالقتال في قوله { وقاتلوهم } [ الأنفال : 39 ] والمقاتلة مظنة حصول الغنيمة أعاد حكم الغنيمة ببيان أوفى وأشفى فقال { واعلموا أنما غنمتم } أي الذي حزتم من أموال الكفرة قهراً . وقوله { من شيء } بيان « ما » أي من كل ما يقع عليه اسم الشيء حتى المخيط والخيط . وقوله { فأن الله } بالفتح مبتدأ محذوف الخبر . وروى الجعفي عن أبي عمرو { فإن الله } بالكسر . قال في الكشاف : والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب كأنه قيل : فلا بد من ثبات الخمس فيه ولا سبيل إلى الإخلال به لأنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات كقولك : ثابت واجب حق لازم كان أقوى لإيجابه من النص على واحد . عن الكلبي أن الآية نزلت ببدر . وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً في الهجرة . واعلم أن الآية تقتضي أخذ الخمس من الغنائم واختلفوا في كيفية قسمة ذلك الخمس على أقوال أشهرها : أن ذلك الخمس يخمس حتى يكون مجموع الغنيمة ومقسماً بخمسة وعشرين قسماً عشرون الغنائم بالاتفاق لأنهم كسبوها كالاحتطاب والاصطياد ، وأما الخمسة الباقية فواحد منها كان لرسول الله ويصرف الآن ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كسد الثغور وعمارة الحصون والقناطر والمساجد وأرزاق القضاة والأئمة الأهم فالأهم ، وواحد لذوي القربى يعني أقارب رسول الله من أولاد هاشم والمطلب ابني عبد مناف دون عبد شمس ونوفل وهما ابنا عبد مناف أيضاً لما روي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم - وكان عثمان من بني عبد شمس وجبير من بني نوفل - أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد - وشبك بين أصابعه - يستوي في هذا السهم غنيهم وفقيرهم إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين .

وثلاثة أخماس الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل . وهذا عند الإمامين أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال : إن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقط بموته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء . فعلى مذهب الإمامين . معنى قوله سبحانه { فأن لله خمسه وللرسول } [ التوبة : 62 ] فأن لرسول الله خمسة كقوله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وعن أبي العالية إيجاب سهم آخر لله وأنه يقسم الخمس على ستة أسهم . والذاهبون إلى هذا القول اختلفوا فقيل : إن ذلك السهم لبيت المال . وقيل : يصرف إلى مصالح الكعبة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة فهو سهم الله . وعن ابن عباس أنه كان يقسم على ستة لله وللرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ، وكذلك روي عن عمرو ومن بعده من الخلفاء . وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال : إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يعطى هو ولا يتيم موسر من الصدقة شيئاً ، وروي عن زيد بن علي أنه قال : ليس لنا أن نبني منه قصوراً ولا أن نركب منه البراذين . وقيل : الخمس كله للقرابة لما روي عن علي عليه السلام أنه قيل له : إن الله تعالى قال { واليتامى والمساكين } فقال : أيتامنا ومساكيننا . وعن الحسن : في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لولي الأمر من بعده . وعند مالك بن أنس الأمر في الخمس مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين الأصناف الخمسة عند الشافعي وإن رأى أعطى بعضهم دون بعض ، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فذاك . فعند هذا يكون معنى قوله { فأن لله خمسه } أن من حق الخمس أن يكون متقرباً به إلى الله لا غير . ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلاً لها على غيرها كقوله { وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل } وحاصل الآية إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا فاعلموا علماً يتضمن العلم والطاعة أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة { يوم الفرقان } يوم بدر لأنه فرق فيه بين أهل الحق وأهل الباطل .

والجمعان فريقاهما والذي أنزل عليه يومئذ الآيات والملائكة والنصر والتأييد { والله على كل شيء قدير } فبذلك نصر القليل على الكثير { إذ أنتم } بدل من يوم الفرقان { بالعدوة } بالكسر والضم شط الوادي أي جانبه وحافته . وقال أبو عمرو ، هي المكان المرتفع و { الدنيا } تأنيث الأدنى يعني الجانب الذي يلي المدينة وقلب الواو ياء فيه على القياس لأن « فعلى » من بنات الواو وتقلب ياء كالعليا ، وأما القصوى تأنيث الأقصى فإنه كالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا أيضاً قليلاً والعدوة القصوى مما يلي مكة { والركب } يعني الأربعين الذين كانوا يقودون العير { أسفل منكم } بالساحل وهو نصبب على الظرف مرفوع المحل خبراً للمبتدأ أي مكاناً أسفل من مكانكم والفائدة في ذكر مراكز الفرق الثلاث تصوير وقعة بدر وما دبر الله سبحانه من عجيب صنعه وكمال رأفته ونصره حتى كان ما كان . وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كانت في مكان فيه الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ، وأما العدوة الدنيا فهي رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وعبدتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحروب بعيالهم وأثقالهم ليبعثهم الذب عن الحرم على بذل مجهودهم حيث لم يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه . { ولو تواعدتم } أنتم وأهل مكة على موضع تتلاقون فيه { لاختلفتم في الميعاد } فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من هيبة الرسول والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما تيسر بتوفيق الله وتسبيبه { ولكن ليقضي الله } أي ليظهر { أمراً كان مفعولاً } مقدراً وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك . وقوله { ليهلك } بدل من { ليقضي } بدل الخاص من العام واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، وذلك أن وقعة بدر كان فيها من الآيات والمعجزات ما يكون الكافر بعدها كالمكابر لنفسه فكفره صادر عن وضوح بينة أي لا شك في كفره وعناده كما أنه لم يبق شك للمسلمين في حقية دين الإسلام . وفي قوله { ليقضي } و { ليهلك } دلالة على أن أفعاله تعالى مستتبعة للحكم والمقاصد والغايات خلاف ما عليه ظاهر الأشاعرة . { وإن الله لسميع } لدعائكم { عليم } بنياتكم { إذ يريكم } منصوب باذكر أو بدل آخر من يوم الفرقيان أو متعلق بعليم أي يعلم تدابيركم إذ يريكهم { في منامك } أي في رؤياك { قليلاً } أراه وإياهم في رؤياه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم . وقيل : في منامك أي في عينك في اليقظة لأن العين موضع النوم وفيه تكلف .

{ ولو أراكهم كثيراً } على ما هم عليه { لفشلتم } والفشل الجبن والخور . { ولتنازعتم في الأمر } أمر الحرب والإقدام { ولكن الله سلم } عصم من الفشل والتنازع { إنه عليم بذات الصدور } يعلم ما سيحدث فيها من مواجب الإقدام والإحجام { وإذ يريكموهم } يبصركم إياهم { إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } نصب على الحال لأن الرؤية رؤية العين لا القلب وقد استوفت الإراءة مفعولية فلن يتعدى إلى ثالث { ويقللكم في أعينهم } الحكمة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة مع أن في ذلك تصديقاً لرؤيا النبي ، وأما تقليل المؤمنين في أعين الكفار فالحكمة في ذلك أن يجترىء الكفار عليهم قلة مبالاة بهم وأن يستعدّوا لهم كما ينبغي { ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } فعل ما فعل من التقليل { وإلى الله ترجع الأمور } فيه أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها . وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً للمعاد . ثم علم المؤمنين آداب اللقاء في الحروب فقال { إذا لقيتم فئة فاثبتوا } لقتالهم ولا تفروا واللقاء اسم غلب في القتال فلهذا ترك وصف الفئة بالمحاربين ونحو ذلك ، والأمر بالثبات في القتال لا ينافي الرخصة في التحرف والتحيز فلعل الثبات في الحرب لا يحصل إلا بهما . { واذكروا الله كثيراً } في مواطن الحرب { لعلكم تفلحون } تظفرون بمرادكم من النصر والمثوبة . وفيه إشعار بأن العبد لا يجوز له أن يفتر عن ذكر ربه في أي شغل وعمل كان ، ولو أن رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق منفقاً أمواله لله ، والآخر من المشرق إلى المغرب ضارباً بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجراً . وقيل : المراد من هذا الذكر أن يدعو على العدو : اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم ونحو ذلك والأولى حمله على العموم { وأطيعوا الله ورسوله } في سائر ما يأمر به لأن الجهاد لا ينفع إلى مع التمسك بسائر الطاعات { ولا تنازعوا فتفشلوا } منصوب بإضمار « أن » أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ويظهر التقدير « أن » في قوله { وتذهب ريحكم } على القراءتين . والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته على وفق المشيئة بالريح وهبوبها . يقال : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره . وقيل : الريح حقيقة ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله . وفي الحديث : « نصرت بالصبا » حذرهم التنازع واختلاف الرأي نحو ما وقع لهم بأحد بمخالفتهم رسول الله . احتج نفاة القياس بالآية لأن القول به يفضي غالباً إلى النزاع المنهى عنه . وكذا القائلون : بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس .
قال أهل السير : إن أهل مكة حين نفروا لحماية العير أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب .

فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين مرائين بأعمالهم كإطعام الطعام ونحوه فقال { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } الآية . وصفهم بأوصاف ثلاثة : أولها : البطر وهو الطغيان في النعمة ويقال أيضاً شدّة المرح . والتحقيق إن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها في مرضاته وعرف حق الله فيها فذاك هو الشكر وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أبناء الزمان فذاك هو البطر . وثانيها : رئاء الناس وهو القصد إلى إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية ، أو هو إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية ، أو هو إظهار الطاعة مع إبطان المعصية كما أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر . وثالثها قوله { ويصدون عن سبيل الله } أي يمنعون عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم . قال الواحدي : معناه وصدا عن سبيل الله ليكون عطفاً للاسم على الاسم ، أو يكون الكل أحوالاً على تأويل بطرين مرائين صادّين أو يبطرون ويراءون ويصدّون . واعترض عليه في التفسير الكبير بأنه تارة يقيم الاسم مقام الفعل والأخرى بالعكس ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها ، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر وعن الثالث بالفعل . ثم ذكر السبب فقال : إن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على البطر والرياء فذكرا بلفظ الاسم تنبيهاً على أصالتهم فيهما ، وأما الصدّ فإنما حصل في زمان ادعاء محمد النبوة فذكر بلفظ الفعل الدال على التجدد . قلت : لو جعلنا قوله { ويصدون } عطفاً على صلة « الذين » لم يحتج إلى هذه التكلفات التي اخترعها الإمامان . { والله بما يعملون محيط } فيه زجر عن التصنع والافتخار ، ويعلم منه أن المعصية مع الانكسار أقرب إلى الخلاص من الطاعة مع الاستكبار . { وإذ زين } معناه واذكر إذ زين أو هو معطوف على ما قبله من النعم وأقربها قوله { وإذ يريكموهم } وفي هذا التزيين وجهان : أحدهما . أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتمثل بصورة إنسان وهو قول الحسن والأصم . وفي الكشاف : زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجرئهم . فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم أي بطل كيده حين نزلت جنود الله . وثانيهما : أنه ظهر في صورة إنسان وذلك أن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر ذكروا الذي بينهم وبين بني كنانة من الحرب فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني وكان من أشرافهم في جند من الشياطين معه راية { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } أي لا غالب كائن لكم ولو كان لكم مفعولاً بمعنى لا غالب إلا إياكم لانتصب كما يقال لا ضارباً زيداً .

{ وإني جار لكم } أي مجيركم من بني كنانة أو من كل عدوّ يعرض من البشر . ومعنى الجار ههنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار . { فلما تراءت الفئتان } أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى { نكص على عقبيه } والنكوص الإحجام عن الشيء أي رجع . { وقال إني بريء منكم } قيل : كانت يده في يد الحرث بن هشام فلما نكص قال له الحرث إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة فقال { إني أرى ما لا ترون } أي من نزول الملائكة ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان . وفي الحديث : « ما رؤي إبليس يوماً أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزل الرحمة إلا ما رأى يوم بدر » وأما قوله { إني أخاف الله } فقد قيل : إنه لما رأى جبريل خافه ، وقيل : لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خافهم لأنه ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر . قال قتادة : صدق في قوله { إني أرى ما لا ترون } وكذب في قوله : { إني أخاف الله } وقوله { والله شديد العقاب } يجوز أن يكون من بقية حكاية كلام إبليس ، ويجوز أن يكون اعتراضاً وظرفه { إذ يقول } أو لا ظرف له { وإذ يقول } ينتصب بذكر على أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ولهذا فقد العاطف . و { المنافقون } قوم من الأوس والخزرج بالمدينة { والذين في قلوبهم مرض } يجوز أن يكون من صفة المنافقين وأن يراد قوم من قريش وأسلموا وما قوي الإسلام في قلوبهم ولم يهاجروا . ثم إن قريشاً لما خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه ، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا ، وقال محمد بن إسحق . ثم قتلوا جميعاً مع المشركين يوم بدر . { غرّ هؤلاء دينهم } قال ابن عباس : معناه أنه خرج بثلثمائة وثلاثة عشر إلى زهاء ألف وما ذلك إلا لأنهم اعتمدوا على دينهم . وقيل : المراد أن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت . ثم قال جواباً لهم { ومن يتوكل على الله } يكل أمره إليه ويثق بفضله { فإن الله عزيز } غالب يسلط الضعيف القليل على القوي الكثير { حكيم } يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه .
التأويل : { واعلموا } يا أهل الجهاد الأكبر { أنما غنمتم } عند رفع الحجب من أنوار المشاهدات وأسرار المكاشفات فلكم أربعة أخماسه تعيشون بها مع الله وتكتمونها عن الأغيار وتنفقون خمسها في الله مخلصاً وللرسول متابعاً { ولذي القربى } يعني الإخوان في الله مواصلاً { واليتامى } يعني أهل الطلب من الذين غاب عنهم مشايخهم قبل بلوغهم إلى حد الكمال { والمساكين } الذين تمسكوا بأيدي الإرادة بأذيال إرشادكم { وابن السبيل } يعني الصادر والوارد من الصدق والإرادة مراعياً جانب كل طائفة على حسب صدقهم وإرادتهم واستعدادهم .

إن كنتم وصلتم في متابعة الرسول إلى الإيمان بالله عياناً { وبما أنزلنا على عبدنا } في سفر { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] { يوم الفرقان } الذي فيه الرحمن علم القرآن { يوم التقى الجمعان } جمع الصفات الإنسانية وجمع الأخلاق الربانية فصار لمحمد صلى الله عليه وسلم مع الله خلوة لا يتبعه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل { والله على كل شيء قدير } فيقدر على أن يوصلكم في متابعة رسوله إلى هذا المقام وهو الفناء عن الوجود والبقاء بالمعبود { إذ أنتم } أيها الصادقون في الطلب { بالعدوة الدنيا } نازلة { وهم بالعدوة القصوى } أي الأرواح بأقصى عالم الملكوت بارزة { والركب أسفل منكم } يعني الهياكل والقوالب في أسفل سافلي الطبيعة . { ولو تواعدتم } أيها الأرواح والنفوس والأجساد { لاختلفتم في الميعاد } لما بينكم من التباين والتضاد { ولكن } جمعكم الله بالقدرة والحكمة { ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } وهو إيصال كل شخص إلى رتبته التي استعد لها { فيهلك من هلك عن بينة } عن حجة ثابتة عليه { ويحيا من حيى عن بينة } فالأشقياء يبقون في سجين الطبيعة ونار القطيعة ، وأما السعداء فأرواحهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، قال { ارجعي إلى ربك راضية } [ الفجر : 28 ] ونفوسهم مع الملائكة المقربين كما قال { فادخلي في عبادي } [ الفجر : 29 ] وأبدانهم في جنات النعيم كما قال { وادخلي جنتي } [ الفجر : 30 ] { إن الله لسميع } من دعاه للوصول والوصال بالغدو والآصال { عليم } بمن يستحق الإذلال أو يستأهل الإجلال { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً } مع كثرتهم في الصورة ليدل على قلتهم في المعنى { لفشلتم } على عادة طبع الإنسان { ولكن الله سلم } من الخوف البشري { ويقللكم في أعينهم } لأنهم نظروا إليكم بالأبصار الظاهرة فلم يدركوا كثرة معناكم ومددكم بالملائكة . { وإذا لقيتم فئة } هي النفس وهواها والشيطان وأعوانه والدنيا وزينتها { فاثبتوا } على ما أنتم عليه من اليقين والصدق والإخلاص والطلب { ولا تكونوا كالذين خرجوا } من ديار أوصافهم وتركوا الدينا وداروا البلاد وزاروا العباد ليتباهوا بذلك على الإخوان والأقران . { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } فظنوا أنهم بلغوا مبلغ الرجال وأنه لا يضرهم التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات بل ينفعهم في نفي الرياء والعجب إذ هو طريق أهل الملامة . { فلما تراءت الفئتان } فئة الأرواح والقلوب وفئة النفوس وصفاتها وأمد الله تعالى فئة الأرواح والقلوب بالأوصاف الملكية والواردات الربانية حتى انقادت النفوس لها { نكص على عقبيه } زهق باطله وصار مخالفاً للنفس كما قال { إني بريء منكم } ، { إني أرى ما لا ترون } لأنه يرى بنظر الروحانية تجلي الأنوار الربانية من القلوب ، ولو وقع على الشيطان من ذلك تلألؤ لأحرقه ولهذا قال { إني أخاف الله } وفيه إشارة إلى أنه غير منقطع الرجاء من رحمة الله إنه أرحم الراحمين .
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

القراآت : { تتوفى } بتاء التأنيث : شامي . الباقون : بالتذكير { ولا يحسبن } بياء الغيبة : ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل . الآخرون : بتاء الخطاب . { أنهم } بالفتح : ابن عامر { السلم } بكسر السين : أبو بكر وحماد { ترهبون } بالتشديد : رويس . الباقون : بالتخفيف من الإرهاب { وإن يكن منكم } بالياء التحتانية : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالتاء الفوقانية { وعلم } مبنياً للمفعول { ضعفاء } بالمد جمعاً : يزيد وقرأ حمزة وعاصم غير المفضل وخلف لنفسه { ضعفاً } بفتح الضاد . الآخرون بالضم . { فإن لم يكن منكم مائة } بالتحتانية : عاصم وحمزة وعلي وخلف .
الوقوف : { كفروا } لا لأن فاعل { يتوفى } الملائكة . وما قيل إن المتوفي هنا الله غير صحيح لاختلال النظم وفساد المعنى لأن الكفار لا يستحقون أن يتوفاهم الله بلا واسطة . { وأدبارهم } ج لحق الإضمار أي يقولون ذوقوا { الحريق } ه { للعبيد } ه لا لتعلق الكاف { فرعون } لا للعطف . { من قبلهم } ط { بذنوبهم } ط { العقاب } ه { بأنفسهم } لا لعطف « أنّ » على « أنَّ » { عليم } ه لا للكاف { من قبلهم } ط { بآيات ربهم } ج لاختلاف الجملتين من الفاء { آل فرعون } ج لأن الواو تصلح للاستئناف والحال { ظالمين } ه { لا يؤمنون } ه ج لاحتمال الوصف واحتمال النصب والرفع على الذم { لا يتقون } ه { يذكرون } ه { على سواء } ط { الخائنين } ه { سبقوا } ط لمن قرأ { إنهم } بالكسر { لا يعجزون } ه { من دونهم } ج لاحتمال الجملة الجملة بعده الوصف والاستئناف { لا تعلمونهم } ج لذلك { يعلمهم } ط { لا تظلمون } ه { على الله } ط { العليم } ه { حسبك الله } ط { بين قلوبهم } الأول ط { بينهم } ط { حكيم } ه { من المؤمنين } ه { على القتال } ط { مائتين } ج لابتداء الشرط مع العطف { لا يفقهون } ه { ضعفاً } ج { مائتين } ج { بإذن الله } ط { الصابرين } ه .
التفسير : لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في حياتهم شرح أحوالهم حين وفاتهم . وجواب « لو » محذوف ، وترى في معنى الماضي الخاصية « لو » ، وكذا { يتوفى } لخاصية « إذ » وإذ نصب على الظرف قاله في الكشاف . ويمكن أن يكون مفعولاً به والمعنى لو رأيت أو عاينت أو شاهدت وقت قبض الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً فظيعاً . { يضربون وجوههم وأدبارهم } قال مجاهد : يريد بالأدبار الأستاه ولكن الله كريم يكني . وفي تخصيص العضوين بالضرب نوع من الخزي والنكال . وعن ابن عباس : المراد ما أقبل منهم وما أدبر . وذلك أن المشركين كانوا إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف . وإذا ولّوا ضربوا أدبارهم فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت خروج أرواحهم . ومعنى { عذاب الحريق } مقدمة عذاب النار أو عذاب النار نفسها في الآخرة تبشيراً لهم بذلك .

وعن ابن عباس أن معهم مقامع من حديد كلما ضربوا بها التهبت النار . قوله { ذلك بما قدمت أيديكم } الآية قد مر تفسيرها في آخر آل عمران ، ويحتمل أن يكون هنا حكاية كلام الملائكة . ولما بين سبحانه ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلاً أم آجلاً ذكر أن هذه سنة في فرق الكفرة كلهم فقال { كدأب آل فرعون } يريد أن عادتهم وعملهم الذي داموا عليه كعادة آل فرعون فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإهلاك والإغراق . ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في العقاب الذي أنزله بهم فقال { ذلك بأن الله لم يك } حذف النون لكثرة الاستعمال . ومعنى الآية أن ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم يستقم في حكمته وتدبيره أن يغير { نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما } بهم من الأحوال والأخلاق . والغرض أن آل فرعون ومشركي مكة قد فتح الله عليهم أبواب الخيرات وأزال الموانع وسهل السبل ومنّ عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل ، ثم إنهم قابلوا هذه النعم بالكفر والفسوق والعصيان فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن { وأن الله سميع } للأقوال { عليم } بالأحوال فيجزي كل فريق بما يستأهله . ثم ذكر مرة أخرى قوله { كدأب آل فرعون } وفي التكرير بعد التأكيد فوائد استنبطها العلماء منها أن الثاني كالتفصيل للأول لأن الإغراق كالبيان للأخذ بالذنوب . ومنها أن الأول لعله في حال الموت والثاني لما بعد الموت . قلت : ويشبه أن يكون بالعكس لأن الإهلاك والإغراق بحال الموت أنسب . ومنها أن الأول إخبار عن عذاب لم يمكن الله أحداً من فعله وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم . والثاني إخبار عن عذاب مكن الناس من فعل مثله وهو الإهلاك والإغراق . ومنها أن المراد في الأول { كدأب آل فرعون } فيما فعلوا وفي الثاني { كدأب آل فرعون } فيما فُعل بهم فهم فاعلون في الأول ومفعولون في الثاني . ومنها أن المراد بالأول كفرهم بالله ، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء لأن التقدير : كذبوا الرسل برد آيات ربهم . ومنها أن يجعل الضمير في { كفروا } و { كذبوا } لكفار قريش أي كفروا بآيات الله كدأب آل فرعون ، وكذبوا بآيات ربهم كدأب آل فرعون . ومنها أن الأول إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل الإليهة فكان لازمه الأخذ ، والثاني إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل التربية والإحسان فكان لازمه الإهلاك والإغراق . ثم ختم الآية بقوله { وكل كانوا ظالمين } أي وكل واحد من غرقى القبط وقتلى قريش وممن قبلهم من الكفرة كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي ، وظالمي غيرهم بالإيذاء والإيحاش ، فلا جرم دمرهم الله بسبب ظلمهم .
ثم خص من الظلمة سرهم فقال { إن شر الدواب } الآية . جعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون منهم وأشار إلى هذا بقوله { فهم لا يؤمنون } وشر المصرين الناكثون للعهود وأشار إليهم بقوله { الذين عاهدت منهم } و « من » للتبعيض ومفعول { عاهدت } محذوف أي الذين عاهدتهم وهم بعض أولئك الكفرة يعني الأشراف الذين معهم تليق المعاهدة { ثم ينقضون } عطف المستقبل على الماضي لفائدة الاستمرار وأن من شأنهم نقض العهد { في كل مرة } من مرات المعاهدة .

ومعنى « ثم » تبعيد النقض عن المعاهدة . قال ابن عباس : هم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح يوم بدر وقالوا : قد نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا وأعانوا عليه يوم الخندق { وهم لا يتقون } عاقبة الغدر وما فيه من العار والنار . ثم أمر رسوله بالمخاشنة معهم والغلظة عليهم جزاء على قبح فعلهم وسوء عقيدتهم فقال { فأما تثقفنهم } تصادفنهم وتظفرن بهم في الحرب { فشرد بهم من خلفهم } والتشريد التفريق مع الاضطراب أي ففرق عن محاربتك من وراءهم . وقال عطاء : معناه أكثر فيهم القتل حتى يخافك غيرهم . والضمير في { لعلهم يذكرون } لمن خلفهم لأنه إذا نكل بالناكثين وقتلهم شر قتلة لن يجسر عليه أحد بعدهم اتعاظاً بحالهم { وإما تخافنّ من قوم } معاهدين { خيانة } ونكثاً بأمارات تلوح لك { فانبذ إليهم } فاطرح إليهم العهد { على سواء } على طريق مستوٍ قصد أي أخبرهم أخباراً مكشوفاً بيناً أنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك . وقيل : على استواء في العلم بنقض العهد . وقيل : على استواء في العداوة . قال في الكشاف : الجار والمجرور في موضع الحال كأنه قيل : فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوي ، أو حاصلين على استواء في العلم ، أو العداوة على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً . قلت : ويحتمل أن يكون حالاً من المنبوذ أي حال كون المنبوذ وهو العهد واقعاً على طريق واضح فيكون كناية عن تحقير شأن العهد إذ ذاك ، أو عن انكشاف حاله في النبذ . قال أهل العلم : إن آثار نقض العهد إذا ظهرت فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به . فإن كان الأول وجب الإعلام به كما هو مذكور في الآية . وذلك أن قريظة عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وآله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب ، أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً قطعياً فلا حاجة إلى نبذ العهد إليهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد . ثم بيّن حال من فاته يوم بدر ولم يتمكن من التشفي منه والانتقام كيلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذيته مبلغاً عظيماً فقال { ولا يحسبن } من قرأ بتاء الخطاب فمفعوله الأول { الذين كفروا } وثانيه { سبقوا } أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم { إنهم لا يعجزون } كل من المكسورة والمفتوحة تعليل له إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف كأن سائلاً سأل ما لهم لا يحسبون سابقين؟ فأجيب بما أجيب .

والمفتوحة تعليل صريح والجار محذوف أي لأنهم يعجزون الله من الانتقام منهم ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم . أو عجزت فلاناً وعجزته جعلته أو وجدته عاجزاً . والمراد لا تحسبنهم أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل يوم بدر فقد تخلصوا من العقاب عاجلاً أم آجلاً . ومن قرأ بالياء التحتانية تذكر فيه وجوهاً منها « أن » فاعله { الذين كفروا } ومفعولاه { سبقوا } على أن الأصل أن سبقوا فحذفت « أن » كقوله { ومن آياته يريكم البرق } ويؤيده قراءة ابن مسعود أنهم سبقوا . ومنها أن الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال . ومنها أن المفعول الأول محذوف للعلم به والتقدير لا يحسبنهم أو لا يحسبن أنفسهم الذين كفروا وسبقوا . ومنها أن فاعله محذوف أي لا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا . ثم إنه لما أنفق لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة وعدة ، أمرهم أن لا يعودوا لمثله ويتأهبوا لقتال الأعداء فقال { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } عن عكرمة : هي الحصون . وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال : إلا إن القوة الرمي قالها ثلاثاً ومات عقبة عن سبعين قوساً في سبيل الله والأصح أنها عامة في كل ما يتقوى به في الحرب من آلة وعدّة . وقوله صلى الله عليه وسلم : « القوة الرمي » كقوله : « الحج عرفة » وفيه تنبيه على أن المذكور جزء شريف في جملة المقصود { ومن رباط الخيل } هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله الخمس فما فوقها . ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصال وفصيل ، والظاهر أنه بمعنى المرابط . ويجوز أن يكون قوله { ومن رباط الخيل } تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوّى به كقوله { وجبريل وميكائيل } فلا ريب أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد . روي عن ابن سيرين أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون فقال : يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزي عليها . فقيل له : إنما أوصى في الحصون . فقال : ألم تسمع قول الشاعر :
ولقد علمت على توقّي الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى
وعن عكرمة أن الخيل ههنا الإناث لأنها أولى بالربط لتفيد النسل . وقيل : هي الفحول لأنها أقوى على الكر والفر . والظاهر العموم .

ثم ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال { ترهبون به } أي بما استطعتم { عدو الله وعدوكم } لأن الكفار إذا علموا تأهب المسلمين للقتال لم يجسروا عليهم وخافوهم وربما يدعوهم ذلك إلى الانقياد والطاعة { وآخرين من دونهم } يريد بالأوّلين أهل مكة وبالآخرين اليهود على قول ولكنه لا يجاريه قوله { لا تعلمونهم الله يعلمهم } والمنافقين على قول . واعترض عليه بأنهم لا يرهبون لانخراطهم في سلك المسلمين ظاهراً . وأجيب بأن الخائن خائف فلكما اشتدت شوكة المسلمين ازداد المنافقون في أنفسهم خوفاً ورعباً فربما يدعوهم ذلك إلى الإخلاص . وعن السدي : هم أهل فارس . وروي ابن جريج عن سليمان بن موسى أنهم كفرة الجن وجاء في الحديث إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا داراً فيها فرس عتيق وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن . وقيل : المراد بالآخرين أعداء المرء من دينه فإن المسلم قد يعاديه مسلم آخر . ثم رغبهم في الإنفاق في باب الجهاد فقال { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } أي ثوابه { وأنتم لا تظلمون } لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً . ثم رخص في المصالحة إن مال الأعداء إليها فقال { وإن جنحوا للسلم } الآية جنح له وإليه جنوحاً إذا مال . وإنما قيل { فاجنح لها } لأن السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب ، أو بتأويل الخصلة أو الفعلة . عن ابن عباس ومجاهد أن الآية منسوخة بقوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } [ التوبة : 29 ] وبقوله { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] والأوْلى أن يقال : إنها ثابتة فليس بحتم أن يقاتل المشركون أبداً ، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً ، وإنما الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وذويه ، فإذا رأى الصلاح في الصلح فذاك . والمصلحة قد تظهر عند ضعف المسلمين إما لقلة العدد أو لقلة المال وبعد العدوّ وقد تكون مع القوة للطمع في إسلامهم أو قبولهم الجزية إذا خالطوا المسلمين أو بأن يعينوه على قتال غيرهم . وأما مدة المهادنة فإذا لم يكن بالمسلمين ضعف ورأى الإمام الصلاح في المهادنة فقد قال الشافعي يهادن أربعة أشهر فما دونها لقوله تعالى { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] وذلك كان في أقوى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك . وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة بحسب الحاجة إلى عشر سنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حين صالح أهل مكة بالحديبية على وضع القتال عشر سنين : إلا أنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة وإن نقضت المدة والحاجة باقية استأنف العقد . ثم قال { وتوكل على الله } أي فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عوناً لك على السلامة وينصرك عليهم . إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء كما كان من شأن قريظة والنضير . وعن مجاهد نزلت فيهم { إنه هو السميع } للأقوال { العليم } بالأحوال .

وفيه زجر عن نقض الصلح ما أمكن . ثم ذكر حكماً من أحكام المهادنة فقال { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك } محسبك وكافيك { الله } والمعنى أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم فيه يبنى على الظاهر كما أن أصل الإيمان مبني على الظاهر . ولا تنافي بين هذه الاية وبين ما تقدم من قوله { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم } [ الأنفال : 58 ] لأن هذه المخادعة محمولة على أمور خيفة تدل على الغل والنفاق ، وذلك الخوف محمول على أمارة قوية يدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة . ثم أكد كون الله تعالى كافياً له بقوله { هو الذي أيدك بنصره } أي من غير واسطة أسباب معتادة . { وبالمؤمنين } أي بوساطة الأنصار . ثم بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال { وألف بين قلوبهم } قال جمع من المفسرين : هم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك أشرافهم ودق جماجمهم ، فرفع الله تعالى ذلك بلطيف صنعه ، والأولى حمله على العموم والتأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغائن في الأمور المستحقرة لم تكد تأتلف أهواؤهم وينتظم شملهم ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله حتى بذلوا دونه المهج والأرواح والأموال فليس ذلك الأمن مقلب القلوب والأحوال . والتحقيق في الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير من المحبوب . ثم إن كان سبب انعقاد المحبة أمراً سريع التغير كالمال أو الجاه أو اللذة الجسمانية كانت تلك المحبة بصدد الزوال والاضمحلال ، فالمعشوق يريد العاشق لماله ، والعاشق يحب المعشوق لاستيفاء لذة بهيمية ، فمهما حصل مرادهما كانا متحابين ومتى لم يحصل عادا متباغضين وإن كان سبب انعقاد المودة كمالاً حقيقياً روحانياً دائماً لم يتصور لها تغير وزوال . ثم إن العرب كانوا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم مقبلين على المفاخرة والتسابق في المار والجاه والتعصب والتفرق ، فلا جرم كانوا متحابين تارة ومتباغضين أخرى ، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على تحصيل السعادة الأبدية الروحانية توحد مطلبهم وصاروا إخواناً متراحمين متحابين في الله ولله . { إنه عزيز حكيم } أي قادر قاهر على تقليب القلوب والدواعي فاعل لكل ما يفعل على وجه الإحكام والإتقان أو على حسب المصالح على اختلاف القولين في مسألة الجبر والقدر . قال القاضي : لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة لما حصلت هذه الأحوال . ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته ، وأجيب بأنه عدول عن الظاهر والآية صريحة في أن العقائد والإرادات والكراهات كلها بخلق الله تعالى وإيجاده ، اللهم يا مصرف القلوب ومقلبها ثبت قلبي على دينك ووفقني لمتابعة نبيك إنك قادر على ما تشاء ولا يكون إلا ما تشاء .

ثم إنه سبحانه لما وعد نبيه النصر والكفاية عند مخادعة الأعداء وعده النصر والكفاية على الإطلاق فقال { يا أيها النبي حسبك الله } ومحل { ومن اتبعك } منصوب بمنزلة « زيداً » في قولك « حسبك وزيداً درهم » قال الفراء : وليس بكثير في كلامهم أن يقولوا حسبك وأخيك بل المستعمل أن يقال : حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار . فلو كان قوله { ومن اتبعك } مجروراً لقيل حسبك وحسب من اتبعك . ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً . وجوّز أن يكون محل الرفع أي كفاك الله وكفاك المؤمنون فيكون كقوله { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } ويؤكده ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فصاروا أربعين فأنزل الله تعالى الآية . ثم بيّن سبحانه أن كفايته مشروطة بالجد والاجتهاد في الجهاد فقال { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } والتحريض . في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء . وذكروا في اشتقاقه أنه من الحرض وهو الإشراف على الهلاك من شدّة الضنى كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور ، أو كأنه يأمره أن يبالغ فيه وفي تحصيله حتى يدنو من التلف . وفي قوله { إن يكن منكم عشرون صابرون } عدّة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم بعون الله وتأييده . واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ، ويمكن أن يجاب بعد تسليم وقوع مثل ذلك أن الخلل لعله يكون من فقدان الشرط وهو الصبر . قال بعض العلماء : هذا خبر في معنى الأمر كقوله { والوالدات يرضعن } [ البقرة : 233 ] { والمطلقات يتربصن } [ البقرة : 228 ] بدليل قوله { الآن خفف الله عنكم } والنسخ أبدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر ، أو من جهة تعريف الخبر وإقحام الفصل . قال الفراء : قد جمع بين « إما » و « أن » في هذه الآية بخلاف قوله { وما يعذبهم } { وإما يتوب عليهم } لأن الفعل ههنا في موضع أمر بالاختيار أعني في موضع نصب كقول القائل : اختر ذا أو ذا . كأنهم قالوا : اختر أن تلقى بخلاف تلك الآية فإن الأمر لا يصلح هناك . قال موسى للسحرة ألقوا ما ترغبون فيه ازدراء بشأنهم وقلة مبالاة وثقة بأن الأمر الإلهي يغلب ولن بالكفر كفر . فالجواب من وجوه : أحدها : أنه إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقاً فإذا لم يكن كذلك فلا أمر ألبتة كقول القائل : اسقني الماء من الجرة .

فهذا إنما يكون أمراً بشرط حصول الماء من الجرة . والثاني : أن موسى علم أنهم جاءوا لذلك فلا بد أن يفعلوه ودفع النزاع في التقديم والتأخير . الثالث : أنه أذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليتمكن من الإقدام على إبطاله كمن يريد سماع شبهة ملحد ليبحث عنها ويكشف عن ضعفها يقول له : هات وقل ومراده أن يجيب عنها ويبين لكل أحد ضعفها وسقوطها { فلما ألقوا سحروا أعين الناس } [ الأعراف : 116 ] قال القاضي : لو كان السحر حقاً لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أنهم خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه . وقال الواحدي : بل المراد أنهم قلبوا الأعين عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات . وروي أنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق دواخل العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض فخيل إلى الناس أنها تسعى { واسترهبوهم } [ الأعراف : 116 ] أي أرهبوهم والسين زائدة كأنهم استدعوا رهبتهم . وقال الزجاج : اشتدت رهبة الناس فبعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب { وجاؤا بسحر عظيم } [ الأعراف : 116 ] كما زعموا أن ذلك سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض . عن ابن عباس أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن الق عصاك . وفي رواية الواحدي عنه أن المراد بالوحي ههنا الإلهام وههنا إضمار والتقدير : فألقاها فإذا هي تلقف . قال الجوهري : لقفت الشيء بالكسر ألقفه وتلقفته أيضاً تناولته بسرعة و « ما » في ما يأفكون موصولة أو مصدرية بمعنى ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه ، أو أفكهم نحوه ودنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي : من الرجل؟ قلت له : من العرب سمعت بك وبجمعك ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أني قتلته فأعطاني عصاه وقال : أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة . وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين فلما كثروا خفف الله عنهم ولهذا قال ابن عباس : أيما رجل فر من ثلاثة فمل يفر ، فإن فر من اثنين فقد فر . والحاصل أن الجمهور ادّعوا أن قوله { الآن خفف الله عنكم } ناسخ لحكم الآية المتقدمة وأنكر ذلك أبو مسلم الأصفهاني قال : لأن لفظ الآية ورد على الخبر . سلمنا أنه بمعنى الأمر لكن لم قلتم إن التقدير ليكن العشرون يغلب فإن قيل : إن إلقاءهم الحبال والعصي معارضة المعجز بالسحر وذلك كفر والأمر صابرين في مقابلة المائتين ، ولم لا يجوز أن يكون المراد إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم وإذا كان الشرط غير حاصل في حق هؤلاء لقوله { وعلم أن فيكم ضعفاً } فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم فلا يتصور النسخ .

ولفظ التخفيف لا يقتضي ورود التثقيل قبله لأن مثل هذا الكلام قد تقوله العرب ابتداء . ومما يدل على عدم النسخ تقارن الآيتين ، والناسخ يجب أن يكون بعد المنسوخ بزمان . وهذا حاصل قول أبي مسلم وهو إنما يستحق الجواب لو لم يحصل قبله إطباق على حصول هذا النسخ والله تعالى أعلم . ومعنى قوله { وعلم أن فيكم ضعفاً } ظهر معلومه فلا يبقى لهشام حجة في مذهبه أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعد وقوعها . والمراد بالضعف قبل الضعف في البدن وقيل في البصيرة والاستقامة في الدين وكانوا متفاوتين في ذلك . والظاهر أن المراد الضعف الإنساني المذكور في قوله { وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] .
التأويل : { يضربون وجوههم وأدبارهم } لأن الكافر ذاهب عن الدنيا مع تعلقه بها فيحصل له ألم من جهة الخلف ويقبل على الآخرة ولا نور له يبصر به ما أمامه فيحصل له تألم من قدام و { لم يك مغيراً نعمة } مبدلاً حسن تقديم واستعداد أعطاهم الله بضده { حتى يغيروا } بالكفر والتكذيب { ما بأنفسهم } من نعم الاستعداد الفطري { الذين عاهدت منهم } يا روح في الأزل لأن نورك وصفتك غلب على ظلمة النفس وصفاتها { فشرد } يا روح { بهم من خلفهم } أي بالغ في تبديل صفات النفس وفي تزكيتها بحيث يؤثر نور تبدلها في الصفات التي وراءها { فانبذ إليهم على سواء } أي أظهر عداوتك معهم { وجاهدهم } أنهم لا يعجزون أي النفوس الكافرة تحت تصرفي فلا تقنطوا من رحمتي في إصلاح حالهم من قوة الروح وغلبات صفاتها وإعداده بمداومة الذكر وقطع التعلق ومن رباط الخيل } ومن ربط القلب بطريق المراقبة لئلا يلتفت إلى الدنيا وزينتها { ترهبون } من نفوس شياطين الإنس { لا تعلمونهم } أنهم عدّوكم من الأحباب والأصدقاء والأقرباء { الله يعلمهم } أنهم عدوّ لكم كقوله { إن من أزواجكم وأولادكم } [ التغابن : 14 ] { وما تنفقوا من شيء } من شهوات النفس ولذاتها وزينتها بطريق الذكر والمراقبة { يوف إليكم } فوائد من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً { وألف بين قلوبهم } بين الروح والقلب والسر وبين النفس وصفاتها . { لو أنفقت ما في أرض } وجودك من السعي والجد والاجتهاد لما بين الروح النوراني والنفس الظلماني من التضاد { ولكن الله ألف } بين الروح والنفس وبين القلب والقالب ليكون الشخص الإنساني طلسماً على كنز وجوده لم يكسر الطلسم للوصول إلى الكنز والله أعلم .
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

القراآت : { أن تكون } بالتاء الفوقانية : أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد { أسارى } يزيد والمفضل . الآخرون { أسرى } من الأسارى . يزيد أبو عمرو والمفضل . الباقون من الأسرى . { من ولايتهم } بكسر الواو حمزة . والباقون : بفتحها .
الوقوف : { في الأرض } ط لتقدير الاستفهام أي أتريدون { الآخرة } ط { حكيم } ه { عظيم } ه { واتقوا الله } ط { رحيم } ه { ويغفر لكم } ط { رحيم } ه { منهم } ط { حكيم } ه { أولياء بعض } ط { حتى يهاجروا } ج { ميثاق } ط { بصير } ه { أولياء بعض } ط { كبير } ه { حقا } ط { كريم } ه { منكم } ط { في كتاب الله } ط { عليم } ه .
التفسير : هذا حكم آخر من أحكام الجهاد ومعنى ما كان ما صح وما استقام والإثخان كثرة القتل وإشاعته من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والمعنى فيه تذليل الكفر وإضعافه وإعزاز الإسلام وإظهاره بإشاعة القتل في الكفرة . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيراً - فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب - فاستشار أبا بكر . فيهم فقال : قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك . وقال عمر : كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء ، مكن علياً من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان لنسيب له فلنضرب أعناقهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليليِّن قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 36 ] ومثلك يا عمر مثل نوح قال { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] ثم قال لأصحابه : أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق » وروي إنه قال لهم : « إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم . فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية » وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهماً . « وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية فدخل عمر على رسول الله صل الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال : أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه » وروي أنه قال : « لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر . وسعد بن معاذ لقوله : كان الإثخان في القتل أحب إليّ »

واعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام تمسكوا في هذا المقام بوجوه : الأول : { وما كان لنبي } صريح في النهي وقد حصل الأسر بدليل { قل لمن في أيديكم من الأسرى } الثاني : أنهم أمروا بالقتل يوم بدر في قوله { فاضربوا فوق الأعناق } فكان الأسر معصية . وأجيب بأن قوله { حتى يثخن } يدل على أن الأسر كان مشروعاً ولكن بشرط الإثخان ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً فلعل العتاب إنما ترتب لأن الإثخان أمر غير مضبوط فظنوا أن ذلك القدر من القتل بلغ حد الإثخان فأخطأوا في الاجتهاد وكان قوله { فاضربوا فوق الأعناق } تكليفاً مختصاً بحالة الحرب فلم يتناول الأسر بعد انهزام الكفار . الثالث : قالوا : الحكم بأخذ الفداء معصية وإلا لم يتوجه الذم في قوله { تريدون عرض الدنيا } أي حطامها سمي بذلك لأنه سريع الزوال كالعرض قسيم الجوهر { والله يريد الآخرة } أي ثوابها أو ما هو سبب بالجنة وهو إعزاز الإسلام بإشاعة القتل في أعدائه . وقرىء بجر الآخرة أي عرض الآخرة على التقابل . { والله عزيز } يغلب أولياؤه على أعدائه ويقهرونهم ويلجئونهم إلى القتل والفداء بعد الأسر ولكنه { حكيم } لا يرخص في أخذ الفداء إلا بعد إفشاء القتل في الأعداء . والجواب أن كل ذلك محمول على ترك الأولى وكذا الكلام في قوله { لولا كتاب من الله سبق } أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحداً يخطىء في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم وحصول أولاد منهم مسلمين ، وإن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفي عليهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهيب لمن وراءهم . قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي إسلامهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء } [ محمد : 4 ] قال بعض العلماء : هذا الكلام يوهم أن مقتضى الآيتين مختلف وليس كذلك فإن كلتاهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان على الداء . وعن سعيد بن جبير { لولا كتاب من الله سبق } بأنه سيحل لكم الفدية وكأن قرب الوقت من التحليل يوجب تخفيف العقاب . وقال محمد بن إسحق { لولا كتاب من الله سبق } أنه لا يعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي . وحاصل هذا القول يرجع إلى ترك الأولى ذلك أن الأولى وغير الأولى يشتركان في كونهما مباحين وإنما يعاتب على ترك الأولى لا على سبيل العقوبة بل على سبيل الحث على فعل الأولى . وعن بعضهم المراد حكم الله بأنه لا يعذب من شهد بدراً . واعترض بأنه يلزم أن لا يكونوا مكلفين .

والجواب أن عدم العقاب على الذنب لا يوجب عدم التكليف فلعل التكليف لأجل زيادة الثواب . وقيل : لولا كتاب سبق بالعفو عن هذه الواقعة لكان استحقاق مس العذاب حاصلاً . روي أنهم أمسكوا عن الغنائم أو عن أخذ الفداء لأنه من جملة الغنائم فنزلت { فكلوا } والفاء للتسبيب ومعنى الآية قد أبحت لكم الغنائم فكلوا و { حلالاً } نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً { واتقوا الله } فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم تؤمروا به { إن الله غفور } لما فرط منكم من ترك الأولى { رحيم } فبذلك رخص لكم فيما رخص من أخذ الفداء ثم قال لاستمالة قلوب الأسارى { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى أن يعلم الله } إن يظهر معلومه أن { في قلوبكم خيراً } وهو الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته { يؤتكم } في الدنيا { خيراً مما أخذ منكم } من المنافع العاجلة { ويغفر لكم } في الآخرة ، أو المراد بالخير إيصال الثواب وبالمغفرة إزالة العقاب . ثم إنا قد نعلم أن كل من خلص من الأسر وآمن فقد آتاه الله في الدنيا خيراً لدلالة الآية على ذلك إجمالاً ، وذلك الخير إن كان دينياً فلا شك أن كلهم قد وجدوا ذلك لأن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر ، وإن كان دنيوياً فتفضيل ذلك غير معلوم إلا ما روي عن بعضهم كالعباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة . وقال ابن عباس : نزلت الآية في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث . وكان العباس أسر بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس ، وكان أحد العشر الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه النوبة حتى أسر فقال العباس . كنت مسلماً إلا أنهم استكرهوني فقال صلى الله عليه وسلم : إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا . قال العباس : وكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك ذلك الذهب عليّ فقال : أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا . قال : وكلفني الرسول صلى الله عليه وسلم فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية وفداء نوفل بن الحرث . فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشاً : فقال رسول الله عليه وسلم : فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي فإن حدث فيّ حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل .

فقال العباس : وما يدريك؟ قال : أخبرني به ربي . قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب . قال العباس : فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جمع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي . ثم قال { وإن يريدوا خيانتك } أي نكث ما بايعوك عليه ، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاضدة المشركين كما هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر . وقيل : المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء . { فقد خانوا الله من قبل } في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه . { فأمكن } أي المؤمنين { منهم } يوم بدر قتلاً وأسراً فذاقوا وبال أمرهم فسيمكن المؤمنين منهم مرة أخرى إن أعادوا الخيانة { والله عليم } بأحوالهم { حكيم } فيجازيهم على حسب أعمالهم .
واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ثم انتقل منها إلى المدينة ، فمن المؤمنين من وافقه في الهجرة وهم المهاجرون الأولون ، ومنهم من لم يوافقه في ذلك ، ومنهم من هاجر بعد هجرته فذكر في خاتمة هذه السورة أحكام هذه الأصناف وأحوالهم مع ذكر أنصاره بالمدينة ومع ذكر الكفار أيضاً فقال { إن الذين آمنوا } ويدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والانقياد لجميع التكاليف { وهاجروا } فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } أما المجاهدة بالأموال فلأنهم إذا فارقوا الديار ضاعت مساكنهم ومزارعهم وضيعاتهم وبقيت في أيدي الأعداء واحتاجوا إلى الإنفاق في تلك العزيمة والسفرة وفي الغزوات والمحاربات ، وأما المجاهدة بالأنفس فيكفي في وصف ذلك أنهم أقدموا على قتال أهل بدر من غير آلة ولا عدّة والأعداء في غاية الكثرة ونهاية الشدّة ، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أرواحهم في سبيل الله وكانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الخصال ، ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } [ الحديد : 10 ] وذلك أن غيرهم يقتدي بهم وتقوى دواعيهم بما يرون منهم ، والمحن تخف على القلوب بالمشاركة ، ولأن المهاجرين لهم سابقة في الإسلام ذكر الله تعالى الأنصار بعدهم فقال { والذين آووا ونصروا } أي الذين أنزلوا المهاجرين بهم وجعلوا لهم مأوى أي نصروهم على أعدائهم { أولئك بعضهم أولياء بعض } أطبق جم غفير من المفسرين كابن عباس وغيره على أن المراد بهذه الولاية الإرث؛ كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون القرابة حتى نسخ ذلك بقوله { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } واستبعد الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله هذا التفسير لأنه يستلزم النسخ واستلزام النسخ محذور منه ما أمكن ، ولأن لفظ الولاية يشعر بالقرب حيث يطلق دون الإرث كقولهم : السلطان ولي من لا ولي له .

وقال سبحانه { ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم } [ يونس : 62 ] فإذن المراد أن المهاجرين والأنصار يعظم بعضهم بعضاً وبينهم معاونة وتناصر وأنهم يد واحدة على الأعداء ، وأن حب كل واحد لغيره جار مجرى حبه لنفسه ، أما قوله { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } فوجهت قراءة حمزة بأن تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة والتجارة والقصارة كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً . قال المفسرون : لا يجوز أن يكون المراد بهذه الولاية النصرة والمعونة وإلا لم يصح عطف { وإن استنصروكم } عليه لأن الشيء لا يعطف على مثله ، فالمراد بها الإرث كما مر . وأجيب بأنا لو حملناهما على التعظيم زال الإشكال وحصل التغاير لأن أهل الإيمان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض الأحوال مع أنهم لا يوالونهم بمعنى الإجلال والتعظيم ، وكذا قد ينصر المرء عبده ولا تعظيم جعل الله تعالى حكم هؤلاء المؤمنين متوسطاً بين الأولين وبين الكفرة من حيث إنه نفى عنهم الولاية قبل أن يهاجروا وأثبت لهم النصرة عند الاستنصار إلا على الكفار المعاهدين لأنهم لا يبدأون بالقتال . ثم قال { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } ظاهره إثبات الموالاة بينهم والغرض نهي المسلمين عن مولاتهم وإن كانوا أقارب ، وأن يتركوا يتوارث بعضهم بعضاً . وفيه أن المشركين واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وإن كان كل واحد منهم في نهاية الإنكار لصاحبه ذلك من أدل الدلائل أن تلك العداوة ليست لأجل الدين ولكنها محض الحسد والعناد ، ومن جعل الولاية في هذه الآيات بمعنى الإرث استدل بذلك على أن الكفار في التوارث على اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة ، فالمجوسي يرث الوثني ، والنصراني يرث المجوسي ، واليهودي يرث النصراني وبالعكس . ثم قال { لا تفعلوه } أي ما أمرتكم به من موالاة المسلمين المهاجرين ومن عدم موالاة غير المهاجرين إلا في حالة الاستنصار ومن عدم موالاة الكفرة أصلاً { تكن فتنة } أي تحصل مفاسد عظيمة { في الأرض } من تفرق الكلمة واختلاط المؤمن بالكافر ووقوع الهرج والمرج . ثم كرر تعظيماً لشأن المؤمنين وثناء عليهم قوله { والذين آمنوا وهاجروا } الآية .

فوصفهم بأنهم هم المؤمنون حقاً و { لهم مغفرة ورزق كريم } وقد تقدم تفسير مثله في أول السورة . والحاصل أن هذه السعادات العالية إنما حصلت لهم لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال ، وفيه تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات . ثم وصف اللاحقين بالهجرة بعد السابقين إليها فقال { والذين آمنوا من بعد } نقل الواحدي عن ابن عباس : أن المراد بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية . وقيل : بعد نزول الآية . وقيل : بعد يوم بدر والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى { فأولئك منكم } ألحقهم بالأولين تشريفاً للآخرين وتعظيماً لشأن السابقين ، ولولا كون القسم الأول أشرف لما صح هذا الإلحاق . ثم ختم الكلام بقوله { وأولوا الأرحام } أي ذوو القرابات { بعضهم أولى ببعض } أي أحق بهم وأجدر { في كتاب الله } أي في حكمه وقسمته أو في اللوح أو في القرآن وهو آية المواريث . وهذه الآية ناسخة عند الأكثرين للتوارث بالهجرة والنصرة ، أما الذين فسروا تلك الولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم فإنهم قالوا : لما كانت تلك الولاية مخالفة للولاية بسبب الميراث بيّن الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة ذلك الوهم أعني إزالة وهم من يجعل الولاية بمعنى الإريث . وقد تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام وهم ذوو قرابة ليست بسبب فرض ولا عصوبة أو كل قريب يخرج عن أصحاب الفروض والعصبات وإنهم عشرة أصناف : الجد أو الأم وكل جد وجدة ساقطين ، وأولاد البنات ، وبنات الإخوة ، وأولاد الأخوات ، وبنو الإخوة للأم والعم للأم ، وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات . والخلاف في أنه إذا لم يوجد ذو فرض أو عصبة فهل يورث ذوو الأرحام أو يوضع المال في بيت المال؟ فقدمهم أبو حنيفة على بيت المال للآية ، وعكس الشافعي وقال : إن الآية مجملة في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلما قال { في كتاب الله } كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه فصارت هذه الآية مقيدة بأحكام آية الميراث فلا تبقى حجة في توريث ذوي الأرحام . واعلم أنه سبحانه قال في أول الآيات { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } في براءة بتقديم { في سبيل الله } لأن في هذه السورة تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة في قوله { تريدون عرض الدنيا } وفي قوله { لمسكم فيما أخذتم } أي من الفداء وفي قوله { فكلوا مما غنمتم } وفي براءة تقدم ذكر الجهاد في سبيل الله وهو قوله { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } [ التوبة : 16 ] وفي قوله { كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } [ التوبة : 19 ] ثم إنه حذف من الآية الثانية { بأموالهم وأنفسهم } اكتفاء بما في الأولى وحذف في الثالثة { في سبيل الله } أيضاً اكتفاء بما في الآيتين قبلها والله أعلم .

ثم ختم السورة بقوله { إن الله بكل شيء عليم } والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكم وصواب وصلاح وليس فيها عيب وعبث ، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أن الملائكة لما { قال أتجعل فيها من يفسد فيها } قال مجيباً لهم { أني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] .
التأويل : { ما كان لنبي } الروح { أن يكون له أسرى } أي نفس مأسورة وقوى موجهة إلى تدبير أمور المعاش والدعوة إلى الله وإن كان تصرفاً بالحق للحق حتى يشيع في أرض البشرية قتل القوى والنفوس المنطبعة بسيف الرياضة والمجاهدة ، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحي يتحنث في غار حراء { تريدون عرض الدنيا } فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا وكل إلى نفسه وطبعه يكون مائلاً إلى الدنيا راغباً فيها { والله يريد الاخرة } منكم أي ليس الإنسان من سجيته وطبعه أن يميل إلى الآخرة إنما هو بتوفيق الله إياه وبعنايته الأزلية { لولا كتاب من الله سبق } بأن الإنسان لا يكون منجذباً نحو عالم الأرواح بالكلية وإنما يكون متوسطاً بين العالمين مراعياً للطرفين { لمسكم فيما أخذتم } من فداء النفس المأسورة وهو التفاتها إلى تدبير البدن { عذاب عظيم } هو عذاب القطيعة والبعد عن عالم النور { فكلوا مما غنمتم } من أوقات الجهاد الأكبر من الأنوار والأسرار عند رفع الأستار { حلالاً طيباً } نفوسكم عن لوث محبنها فكل ما يشغل المرء عن الالتفاف إلى الله فهو شرك وصنم . { واتقوا الله } عما سواه { إن الله غفور } يستر بأنوار وجوده ظلمات وجودكم { رحيم } بكم حيث يغنيكم عنكم ويبقيكم به . { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } من النفوس المأسورة التي أسرت في الجهاد الأكبر عند استيلاء سلطان الذل عليها { أن يعلم الله في قلوبكم خيراً } من الاطمئنان إلى ذكر الله والانقياد لأحكامه { يؤتكم خيراً } مما أخذ منكم من اللذات الفانية وأسبابها وذلك البقاء الحقيقي والذوق السرمدي { وإن يريدوا خيانتك } يعني الميل إلى ما جبلت النفوس عليه من طموح إلى الزخارف الدنيوية { فقد خانوا الله من قبل } بالتجاوز عن حدود الشريعة ورسوم الطريقة { فأمكن منهم } عند استيلاء الذكر عليها وقتلها بسيف الرياضة { والله عليم } بأحوالهم { حكيم } فيما دبر من أمر جهادها وتزكيتها . { والذين آووا } ذكر الله ومحبته في القلوب { ونصروا } المحبة بالذكر الدائم والطلب القائم { أولئك بعضهم أولياء بعض } في المرافقة والموافقة في الطلب والسير إلى الله { والذين آمنوا } بأن الطلب حق { ولم يهاجروا } عن أوصافهم وأفعالهم ووجودهم المجازي . { وإن استنصروكم } تمسكوا بأذيال إرادة الواصلين منكم { فعليكم النصر } بأن تدلوهم على طريق الحق بمعاملتكم وسيركم ليقتدوا بكم وبأحوالكم { إلا على قوم } أي إلا على بعض أحوالكم مما سالحتهم عليه نفوسكم بعد ما جاهدتموها وأسرتموها وأمنتم شرها ، فلا تدلوا الطلاب على هذه الأحوال لئلا يميلوا إلى الصلح في أوان الجهاد { فأولئك منكم } يشير إلى أن المتأخرين إذا دخلوا في زمرة المتقدمين الواصلين فهم منهم وإنهم ذوو رحم الوصول لأنه ليس عند الله صباح ولا مساء ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « أمتي كالمطر لا يدري أوّلهم خير أم آخرهم » .
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)

القراآت : { ورسوله } بالنصب : روح وزيد . الباقون : بالرفع . { أئمة } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة الباقون { أيمة } بهمز ثم ياء . { لا إيمان } بكسر الهمزة : ابن عامر . الباقون : بالفتح جمع يمين { يعملون } بياء الغيبة : عباس .
الوقوف : { من المشركين } ط { معجزي الله } لا للعطف { الكافرين } ه { من المشركين } لا للعطف { ورسوله } ط { لكم } ج لابتداء الشرط مع الواو { معجزي الله } ط { أليم } ه للاستثناء { مدتهم } ط { المتقين } ه { مرصد } ج { سبيلهم } ط { رحيم } ه { مأمنه } ط { لا يعلمون } ه { المسجد الحرام } ج لأن « ما » للجزاء مع اتصالها بالفاء { فاستقيموا لهم } ط { المتقين } ه { ولا ذمة } ط { قلوبهم } ج { فاسقون } ه ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً . { يعملون } ه { ولا ذمة } ط { المتعدون } ه { في الدين } ط { يعلمون } ه { أئمة الكفر } لا لتعلق « لعلهم » بقوله { فقاتلوا } وما بينها اعتراض { ينتهون } ه { أوّل مرّة } ط { أتخشونهم } جل لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء { مؤمنين } ه لا للعطف { قلوبهم } ط { من يشاء } ط { حكيم } ه { وليجة } ط { تعملون } ه .
التفسير : قد عد في الكشاف من أسماء هذه السورة « براءة » وذلك واضح ، و « التوبة » لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين و « المقشقشة » لأنها تقشقش من النفاق أي تبرىء منه و « المبعثرة » و « المثيرة » و « الحافرة » و « الفاضحة » و « المنكلة » و « المشردة » و « المخزية » و « المدمدمة » لأنها تبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم . وعن حذيفة : إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب ، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه . وعن ابن عباس : ما زالت تقول { ومنهم } حتى حسبنا أن لا تدع أحداً . وللعلماء خلاف في سبب إسقاط التسمية من أولها . فعن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان في ذلك فقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نلزت عليه سورة يقول : ضعوها في موضع كذا ، وكانت براءة آخر القرآن نزولاً وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين موضعها ، وكانت قصتها شبيهة بقصة الأنفال فقرنت بينهما وكأنه أراد بالمشابهة . ما روي عن أبيّ بن كعب في الأنفال ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود ، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى . واستبعد جمع من العلماء هذا القول لأنا لو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السورة الواحدة وذلك يفضي إلى تجويز الزيادة والنقصان في القرآن على ما يقول به الإمامية .

وقال بعض العلماء : إن الصحابة اختلفوا في أن « الأنفال » مع « التوبة » سورتان أم سورة واحدة لأنهما مائتان وست آيات فهما بمنزلة إحدى الطوال ، وكلتاهما وردت في القتال والمغازي ، فلمكان هذا الاختلاف فرجوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول إنهما سورتان ، ولم تكتب البسملة تنبهاً على قول من يرى أنهما واحدة فعملوا عملاً يدل على أن هذا الاشتباه حاصل . وفيه أنهما لما لم يسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا متشددين في ضبط الدين وحفظ القرآن من التغيير والتحريف وذلك يبطل قول الإمامية ، وفيه دليل على أن البسملة آية من كل سورة والإجازات كتابتها ههنا بل عند كل مقطع كلام . وعن ابن عباس : سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك فقال : لأن { بسم الله الرحمن الرحيم } أما وأن هذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود . وذكر سفيان بن عيينة هذا المعنى وأكده بقوله تعالى { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } [ النساء : 94 ] فقيل له : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب « بسم الله الرحمن الرحيم »؟ . فأجاب بأن ذلك ابتداء منه يدعوهم إلى الله ولم ينبذ إليهم عهدهم ولهذا قال في آخر الكتاب { والسلام على من اتبع الهدى } [ طه : 47 ] ومما يؤكد شبهة من زعم أنهما سورة واحدة هو أن ختم الأنفال وقع بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ، وقوله { براءة من الله ورسوله } و « من » لابتداء الغاية متعلق بمحذوف لا بالبراءة لفساد المعنى . والمعنى هذه براءة واصلة من الله ورسوله { إلى الذين عاهدتم } كما تقول : كتاب من فلان إلى فلان . ويجوز أن يكون { براءة } مبتدأ لتخصصها بصفتها هي الجار والمجرور كما قلنا والخبر محذوف كما ذكرنا نظيره قولك : رجل من بني تميم في الدار . كان قد أذن الله في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله وعاهدوهم فلما نقضوا العهد أوجب الله النبذ إليهم وكأنه قيل للمسلمين : اعلموا ان الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين . روي أنهم كانوا عاهدوا المشركين من غير أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين ساروا . والأشهر هي الحرم لقوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } والسياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب منه يقال للصائم سائح لتركه المطعم والمشرب . والمعنى في هذا الأمر إباحة الذهاب مع الأمان وإزالة الخوف .

روي أن فتح مكة كان سنة ثمان من الهجرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّى عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم ، فاجتمع في تلك السنة في المواقف ومعالم الحج المسلمون والمشركون ونزلت هذه السورة سنة تسع ، وكان أمر فيها أبا بكر على الموسم فلما نزلت السورة أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر؟ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور . وروي أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام وقال : يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك فأرسل علياً فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أشيء نزل من السماء؟ قال : نعم . فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي . فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدّثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم . فقال : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية . وعن مجاهد ثلاث عشرة . ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده . فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهرونا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب السيوف . استدلت الإمامية بهذا القصة على تفضيل علي كرم الله وجهه وعلى تقديمه . وأجاب أهل السنة بأنه أمر أبا بكر على الموسم وبعث علياً خلفه لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي علي خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر . وأما قوله : « لا يبلغ عني إلا رجل مني » فذلك لأن المتعارف بين العرب أنه إذا عقد السيد الكبير منهم لقوم حلفاً أو عاهد عهداً لم يحل ذلك العهد إلا هو أو رجل من ذوي قرابته كأخ أو عم . فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينافي نقص العهد فأزيلت علتهم بتولية ذلك علياً . وقيل : لما أحضر أبا بكر لتولية أمر الموسك أحضر علياً لهذا التبليغ تطبيباً للقلوب ورعاية للجوانب . ولنرجع إلى التفسير . قال ابن الأنباري : في الكلام إضمار التقدير : فقل لهم سيحوا . ويكون ذلك رجوعاً من الغيبة إلى الحضور كقوله { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاء } [ الدهر : 21 ، 22 ] واختلفوا في الأشهر الأربعة . فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال والمراد شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم .

وقيل : هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر . وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم ، أو سميت حرماً على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها . وقيل : ابتداء المدّة من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة . قال المفسرون : هذا تأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطت إلى أربعة ومن كانت مدته أقل رفعت إليها . والمقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا في أنفسهم ويحتاطوا في الأمر ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة : الإسلام أو قبول الجزية أو السيف . فيصير ذلك حاملاً لهم على قبول الإسلام ظاهراً وإلى هذا المعنى أشار بقوله { واعلموا أنكم غير معجزي الله } أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب ، وفيه ضرب من التهديد كأنه قيل : افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد اللآلات والأدوات فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب . وقوله { مخزي الكافرين } من باب الالتفاف من الحضور إلى الغيبة . ومن وضع الظاهر موضع المضمر ليكون فيه إشارة إلى أن سبب الإخزاء هو الكفر . ثم أراد أن يعلم جميع الناس البراءة المذكورة فقال { وأذان } وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها . وخطىء الزجاج في قوله « إنه معطوف على براءة » لأنه لو عطف عليها لكان هو أيضاً مخبراً عنه بالخبر الأوّل وهو { إلى الذين عاهدتم } لكنه غير مقصود بل المقصود الإخبار عنه بقوله { إلى الناس } والأذان اسم بمعنى الإيذان الإعلام كالأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ومنه أذان الصلاة . أمر الله تعالى بهذا الإعلام { يوم الحج الأكبر } وهو الجمع الأعظم الذي حضر فيه المؤمن والمشرك والعاهد الناكث وغير الناكث ليصل الخبر إلى جميع الأطراف ويشتهر ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يحج في السنة الآتية فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يحضر الموقف غير . المؤمنين الموحدين وقيل : يوم الحج الأكبر يوم عرفة لأن فيه أعظم أعمال الحج وهو الوقوف بعرفة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة » وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد وإحدى الروايتين عن علي عليه السلام وابن عباس ورواية المسوّر بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه سلم أنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة فقال : « أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر »

وقال ابن عباس في رواية عطاء : هو يوم النحر . ووافقه قول الشعبي والنخعي والسدي والمغيرة بن شعبة وسيعد بن جبير . وذلك أن معظم أفعال الحج من الطواف والحلق والرمي والنحر يقع فيه . ومثله ما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال : ما يوم الحج الأكبر؟ فقال : يومك هذا خلّ عن دابتي يعني يوم النحر . وعن ابن عمر أن رسول الله صلى عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في الوداع فقال : هذا يوم الحج الأكبر . قال ابن جريج عن مجاهد : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وهو قول سفيان الثوري . وكان يقول : يوم الحج الأكبر أيامه كلها كيوم صفين ويوم الجمل يراد به الحين والزمان ، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً كثيرة . وعلى هذا فقد وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر . وقيل : الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد . عن مجاهد أيضاً : هذا وقد حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً والتقدير { أن الله بريء من المشركين } وقوله { ورسوله } بالرفع مبتدأ محذوف الخبر أي ورسوله أيضاً كذلك ، أو هو معطوف على المنوي في { بريء } أي بريء هو ورسوله . وجاز العطف من غير تأكيد بالمنفصل للفصل . وقرىء بالجر على الجوار أو على أن الواو للقسم كقوله سبحانه { لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون } [ الحجر : 72 ] والفرق بين قوله { براءة من الله } وبين قوله { إن الله بريء } أن المقصود من الكلام الأول هو الإخبار بثبوت البراءة ، والمقصود من هذا الثاني إعلام جميع الناس بما حصل وثبت . وأيضاً المراد بالأول البراءة من العهد ، وبالثاني البراءة التي هي نقيض المولاة ، ولهذا لم يصف المشركين ثايناً بوصف معين كالمعاهدة تنبيهاً على أن الموجب لهذه البراءة وهو كفرهم وشركهم ولهذا أتبعه قوله { فإن تبتم } أي عن الشرك { فهو خير لكم } وفيه ترغيب في التوبة والإقلاع الموجب لزوال البراءة { وإن توليتم } أعرضتم عن التوبة أو بقيتم على التولي والإعراض عن الإيمان والوفاء { فاعلموا أنكم غير } فائتين أخذ الله وعقابه . قال بعض العلماء : قوله سبحانه { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } ليس بتكرار لأن الأول للمكان والثاني للزمان . { وبشر } يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب . وفيه من التهكم والتهديد ما فيه كيلا يظن أن عذاب الدنيا لو فات وزال خلصوا من العذاب بل العذاب الشديد معدّ لهم يوم القيامة . أما قوله { إلا الذين } قد قال الزجاج : إن الاستثناء يعود إلى قوله { براءة } والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلا الذين لم ينقضوا العهد . وقال في الكشاف : وجهه أن يكون مستثنى من قوله { فسيحوا في الأرض } لأن الكلام خطاب للمسلمين والتقدير : فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم .

وقيل : استثناء من قوله { إلى الذين عاهدتم } ومعنى { لم ينقصوكم شيئاً } لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط . ومعنى { لم يظاهروا } لم يعاونوا أي لم يقدموا على المحاربة بأنفسهم ولم يهيجوا أقواماً آخرين . وقرىء { ينقضوكم } بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم . ومعنى { فأتموا إليهم } أدوه إليهم تاماً كاملاً . قال ابن عباس : بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم . ثم ختم الآية بقوله { إن الله يحب المتقين } يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلين ولا يجعل الوفي كالغادر ، ومن جملة الغادرين بنو بكر عدواً على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد :
لا هم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيك الأتلدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال صلى الله عليه وسلم : « لا نصرت إن لم أنصركم » ومعنى ناشد محمداً أذكر له الحلف والعهد لأنه كان بين أبيه عبد المطلب وبين خزاعة حلف قديم . والأتلد الأقدام .
ثم بين حكم انقضاء أجل الناكثين فقال { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } أي التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا . وانسلاخ الشهر تكامله جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه ، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه فكلاهما ظرف { فاقتلوا المشركين } يعني الناقضين { حيث وجدتموهم } من حل أو حرم وفي أي وقت كان . { وخذوهم } وأسروهم والأخيذ الأسير { واحصروهم } امنعوهم من التصرف في البلاد وقيدوهم . وقال ابن عباس : حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام . { واقعدوا لهم في كل مرصد } أي في كل ممر ومجاز ترقبوهم هناك . وانتصابه على الظرف كما مر في قوله { لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } إن حصلوا على شروطها { فخلوا سبيلهم } المراد من التخلية الكف عنهم وإطلاقهم من الأسر والحصر عن البيت الحرام ، أو عن التصرف في مهماتهم { إن الله غفور رحيم } يغفر لهم ما سلف لهم من الكفر والغدر . قال الشافعي : إنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فما لم يوجد أحد هذه الأمور لم يوجد هذا المجموع ، فوجب أن تبقى إباحة الدم على الأصل . فتارك الصلاة يقتل ، ولعل أبا بكر استدل بمثل ذلك على جواز قتال مانعي الزكاة . وحمل أكثر الأئمة الإقامة والإيتاء ههنا على اعتقاد وجوبهما والإقرار بذلك وإن كان له وجه عدول عن الظاهر . وعن الحسن أن أسيراً نادى بحيث يسمع النبي صلى الله عليه وسلم أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثاً .

فقال صلى الله عليه وسلم : « عرف الحق لأهله فأرسلوه » قال بعض العلماء : ذكر التوبة ههنا عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل ، وذكر الصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي ، ولا ريب أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى جعلنا الله من أهلها . لما أوجب الله سبحانه بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفي في إزاحة علتهم فينتج ذلك أن أحداً من المشركين لو طلب الدليل والحجة يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام أو بالجزية أو بالقتل ، فأزال الله تعالى بكمال رأفته هذه الشبهة فقال { وإن أحد من المشركين استجارك } الآية . قال علماء العربية : ارتفع { أحد } بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وإن استجارك أحد استجارك . كرهوا الجمع بين المفسر والمفسر فحذفوا المفسر . والغرض بناء الكلام على الإبهام ثم التفسير من حيث إنّ « إن » من مظان وقوع الفعل بعده . وأيضاً ذكر الفاعل ههنا أهم لما بينا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشرك فقدم ليدل على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار . يقال : استجرت فلاناً أي طلب منه أن يكون جاراً لي أي محامياً وحافظاً من أن يظلمني ظالم ، ومنه يقال : أجاره الله من العذاب أي أنقذه . والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انسلاخ الأشهر لا عهد بينك وبينه . فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمنه { حتى يسمع كلام الله } سماع تدب وتأمل { ثم أبلغه } داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت فيها ، وفيه أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد وأن النظر في دين الله من أعلى المقامات فإن الكافر الذي دمه مهدر لما أظهر من نفسه كونه طالباً للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه ، أما زمان مهلة النظر فليس في الآية ما يدل على ذلك ولعله مفوّض إلى اجتهاد الإمام ، فمتى ظهر على ذلك المشرك علامات كونه طالباً للحق باحثاً عن وجه الاستدلال أمهل وترك ، ومتى ظهر عليه كونه معرضاً عن الحق دافعاً للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه وأبلغ المؤمن . ويشبه أن يقال : المدة أربعة أشهر وهو الصحيح من مذهب الشافعي . والمذكور في الآية كونه طالباً لسماع القرآن إلا أنه ألحق به كونه طالباً لسماع الدلائل والجواب الشبهات لأنه تعالى علل وجوب الإجارة بكونه غير عالم حيث قال في آخر الآية { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } فكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته . وفي سماع كلام الله وجوه : قيل أراد جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه .

وقيل : سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين والأولى حمله على كل الدلائل ، وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الحاوي لمعظم الدلائل . واعلم أن الأمان قد يكون عاماً يتعلق بأهل إقليم أو بلدة أو ناحية وهو عقد المهادنة ويختص بالإمام وقد مر في تفسير قوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } وقد يكون خاصاً يتعلق بأفراد الكفار وهذا يصح من الولاة ومن آحاد المسلمين أيضاً وهذا مقصود الآية وإنه ثابت غير منسوخ . روي عن سعيد بن جبير أن رجلاً من المشركين جاء إلى علي رضي الله عنه فقال : أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال : « لا » . واستدل بالآية . وعن السدي والضحاك هو منسوخ بقوله { فاقتلوا المشركين } وشرط الأمان الإسلام والتكليف فيصح من العبد والمرأة والفاسق . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « يسعى بذمتهم أدناهم » وعن أم هانىء قالت : أجرت رجلين من أحمائي فقال صلى الله عليه وسلم : « أمنا من أمنت » ويعتبر أن الإسلام والتكليف الاختيار فلا يصح أمان المكره على عقد الأمان ، وينعقد الأمان بكل لفظ مفيد للغرض صريحاً كقوله : أجرتك أو لا تخف ، وكناية كقوله : أنت على ما تحب أو كن كيف شئت ، ومثله الكتابة والرسالة والإشارة المفهمة . روي عن عمر أنه قال : والذي نفسي بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك فنزل على ذلك ثم قتله لقتلته . هذا إذا دخل الكافر بلا سبب أما إذا دخل لسفارة فلا يتعرض له ، وكذا إذا دخل لسماع الدلائل وقصد التجارة لا يفيد الأمان إلا إذا رأى الإمام مصلحة في دخول التجار . وحكم الأمان إذا انعقد عصمة المؤمن من القتل والسبي فإن قتله قاتل ضمن بما يضمن له الذمي ، ولا يتعدى الأمان إلى ما خلفه في دار الحرب من أهل ومال ، وأما الذي معه منهما فإن وقع التعرض لأمانه اتبع الشرط وإلا فالأرجح أن لا يتعدى الأمان إلى ذلك . وقد بقي في الآية مسألة أصولية هي أن المعتزلة استدلوا بالآية على أن كلام الله تعالى هو هذه الحروف المسموعة ويتبع ذلك أن يكون كلامه محدثاً لأن دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب . وأجيب بأن هذه المسموعة فعل الإنسان وليست هي التي خلقها الله تعالى أوّلاً عندكم فعلمنا أن هذا المسموع ليس كلام الله بالاتفاق فيجب ارتكاب التجوز ألبتة ، ونحن نحمله على أنها هي الدالة على الكلام النفسي فلهذا أطلق عليها أنها كلام الله كما أن الجبائي قال : إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات وهو باقٍ مع قراءة كل قارىء . وزعم بعض الناس حين رأوا أنه تعالى جعل كلامه مسموعاً أن هذه الحروف والأصوات قديمة ليلزم قدم كلامه تعالى وفيه ما فيه ، ثم أكد المعاني المذكورة من أول السورة إلى ههنا فقال على سبيل الاستنكار والاستبعاد { كيف يكون للمشركين عهد } المرفوع اسم كان وفي خبره ثلاثة أوجه : الأول { كيف } وقدم للاستفهام ، الثاني { للمشركين } وعند على هذين ظرف للعهد أو ليكون أو للجار أو هو وصف للعهد .

الثالث الخبر { عند الله } و { للمشركين } تبيين أو متعلق ب { يكون } و { كيف } حال من العهد يعني محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم يضمرون الغدر في كل عهد ، فلا تطعموا في الوفاء منهم ولا تتوانوا في قتلهم . ثم استثنى منهم المعاهدين عند المسجد الحرام الذين لم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ثم بيّن حكمهم فقال { فما استقاموا لكم } في « ما » وجهان : أحدهما أن تكون زمانية وهي المصدرية على التحقيق أي استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم . الثاني شرطية أي إن استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله . { إن الله يحب المتقين } فيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين .
ثم كرر الاستبعاد فقال { كيف } وحذف الفعل لكونه معلوماً أي كيف يكون لهم عهد { و } حالهم أنهم { إن يظهروا عليكم } أي يغلبوكم ، ويظفروا بكم وذلك أن الغلبة من الكمال عند الشخص وكل من تصور في نفسه كمالاً فإنه يريد أن يظهر ذلك لغيره فأطلق الظهور على الغلبة لكونه من لوازمها { لا يرقبوا } لا يراعوا { فيكم } ولا ينتظروا بكم { إلا ولا ذمة } قال في الصحاح : الأل العهد والقرابة . ووجه ذلك في الكشاف بأن اشتقاقه من الأل هو الجؤار والأنين لأنهم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم ، وسميت به القرابة لأنها تعقد بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق . وفي الصحاح أيضاً أن الأل بالكسر من أسماء الله عزّ وجلّ . وفي الكشاف أنه قرىء « إيلا » بمعناه . وقيل : جبرئيل وجبرئلّ من ذلك . وقيل : منه اشتق الأل بمعنى القرابة كما اشتقت الرحم من الرحمن . قال الزجاج : الأل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدّة من ذلك الألة الحربة ، وأذن مؤللة محدّدة . ومعنى العهد والقرابة غير خارج من ذلك ، والذمة العهد وجمعها ذمم وذمام وهو كل أمر لزمك وكان بحيث لو ضيعته لزمك مذمة . وقال أبو عبيدة : الذمة ما يتذمم منه أي ما يجتنب فيه الذم . قال في الكشاف { يرضونكم } كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل . ثم قال سبحانه { وأكثرهم فاسقون } عن ابن عباس : لا يبعد أن يكون بعض هؤلاء الكفار قد أسلم وتاب فلهذا لم يحكم بالفسق على الكل .

والظاهر أنه أراد أن أكثرهم فساق في دينهم لا يتحرزون عن الكذب ونقض العهد الذي هو مذموم في جميع الأديان والنحل { اشتروا } استبدلوا { بآيات الله } بالقرآن أو بالإسلام { ثمناً قليلاً } هو اتباع الأهواء { فصدوا عن سبيله } فصرفوا عنه غيرهم وعدلوا هم أنفسهم . قال مجاهد أراد الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم . وقيل : يبعد أن يراد طائفة من اليهود الذين أعانوا المشركين على نقض العهود ، فإن هذا اللفظ من القرآن كالأمر المختص باليهود ولأنه وصفهم بقوله { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } ولو أراد المشركين كان تكراراً { وأولئك هم المعتدون } المتجاوزون حدود الله في دنيه وما يوجبه العهد والعقد . ثم قال { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } فإن كان هذا في اليهود وما ذكره قبل في الكفار فلا تكرار ، وإن كان كلاهما في الكفار فجزاء الأول تخلية سبيلهم وجزاء الثاني قوله { فإخوانكم } أي فهم إخوانكم { في الدين } فلم يكن من التكرار في شيء . قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة : { ونفصل الآيات } نبينها { لقوم يعلمون } لأنهم هم المنتفعون بالبيان . وهذه جملة معترضة تفيد الحث على التأمل في أحكام المشركين وعلى المحافظة على مواردها { وإن نكثوا } يعني هؤلاء التائبين { أيمانهم من بعد عهدهم } أي من بعد إسلامهم حتى يكونوا مرتدين ، أو المراد نكث المشركين عهودهم ومواثيقهم . والنكث نقض طاقات الخيط من بعد برامه . { وطعنوا في دينكم } ثلبوه وعابوه { فقاتلوا أئمة الكفر } هي جمع إمام وأصلها « أأممة » كمثال وأمثلة نقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت الميم في الميم ، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن من كان بهذه المثابة من الغدر وقلة الوفاء وعدم الحياء فهو عريق في الكفر متقدم فيه لا يشق كافر غباره . وقيل : خص سادتهم بالذكر لأن من سواهم يتبعهم لا محالة . ثم أبدى غرض القتال بقوله { لعلهم ينتهون } ليعلم أن الباعث على قتالهم هو ردهم إلى طاعة معبودهم رحمة عليهم لا أمر نفساني وداعٍ شهواني ووسط بين الأمر بالقتال وبين الحامل عليه قوله { إنهم لا أيمان لهم } تنبيهاً على العلة الفاعلية للقتال ، أثبت لهم الأيمان أوّلاً في الظاهر حيث قال { وإن نكثوا أيمانهم } ثم نفاها عنهم في الحقيقة لأن إيمانهم ليست مما يعد أيماناً إذ لم يوفر بها . وبهذا تمسك أبو حنيفة في أن يمين الكافر لا تكون يميناً ، وعند الشافعي يمينهم يمين لأنه تعالى وصفها بالنكث ولو لم تكن منعقدة لم يتصور نكثها . ومن قرأ { لا إيمان } لهم بالكسر أي لا إسلام لهم أو لا يعطون الأمان بعد الردة والنكث فظاهر . قال العلماء : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة .

ثم شرع في ذكر سائر الأسباب المحرّضة على القتال فقال { ألا تقاتلون } قال أهل المعاني : إذا قلت : ألا تفعل كذا . فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده . وإذا قلت : ألست تفعل تقول فى ذلك في فعل تحقيق وجوده . والفرق أن « لا » ينفي بها المستقبل فإذا دخلت عليه الألف صار تحضيضاً على فعل ما يستقبل و « ليس » مستعمل في نفي الحال فإذا دخلت عليه الألف صار لتحقيق الحال . قال ابن إسحق والسدي والكلبي : نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهموا بإخراج الرسول من مكة حتى هاجر أو من المدينة . يريد اليهود هموا بإخراجه منها ونكثوا عهده وظاهروا أبا سفيان عليه صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب . وقيل : همت قريش يوم الحديبية بأن يدخلوه صلى الله عليه وسلم مكة ثم يخرجوه قبل أن يتم حجه استخفافاً به صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا أريد بالهم العزم على الفعل وإن لم يوجد { وهم بدؤكم أول مرّة } بالقتال يعني يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه . أو المراد أنهم قاتلوا حلفاءه من خزاعه ، أو المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى المقاتلة والبادىء أظلم . والحاصل أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء للقتال حقيق بأن لا تترك مقاتلته وأن يوبخ من فرط فيها . ثم زاد في التوبيخ فقال فيه { أتخشونهم } تقريراً للخشية منهم وتقوية لداعية القتال كما إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك لأنه يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفاً من خصمه . ثم بيّن ما يجب أن يكون الأمر عليه قائلاً { فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا الله ، لأن قدرته أتم وعقابه أشدّ بل لا قدرة إلا له ولا يكون إلا ما يريد . وفي الفاء نوع من تعليل لأن الاستفهام في معنى النهي كأنه قيل : لا تخشوهم لأن الله أحق بالخشية وأحرى بالطاعة ، وفيه نوع مجازاة كأنه قيل : إن صح أنكم مؤمنون فلا تخشوا إلا الله . ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال { قاتلوهم } ورتب عليه خمس نتائج : الأولى : قوله { يعذبهم الله بأيديكم } أي القتل والأسر واغتنام الأموال ، وهذا لا ينافي { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] لأنه أراد هناك عذاب الاستئصال . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن الذي يدخل في الوجود من الأفعال كلها من الله يظهرها على أيدي العباد .

واعترض الجبائي بأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال : كذب الله أنبياءه على لسان الكفرة . وأجيب بأن الأمر كذلك عندنا إلا أنا لا نقوله رعاية للأدب كما لا يقال يا خالق الخنافس والحشرات . وكما أنكم لا تقولون يا مسهل أسباب الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها . الثانية : { ويخزهم } قيل : هو الأسر وقيل : المراد ما نزل بهم من الذل والهوان حين شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين وهو قريب من الأول . أو هو هو . وقيل : هو عذاب الآخرة . والثالثة : { وينصركم عليهم } أورد عليه أن النصر يستتبعه إزاء الخصم فأي حاجة إلى إفراده بالذكر؟ والجواب أن المغايرة كافية في إفراد كل من المتلازمين بالذكر على أنه من المحتمل أن يحصل لهم الخزي من جهة المؤمنين إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة لسبب آخر ، فلما وعدهم النصر على الإطلاق زال ذلك الاحتمال . الرابعة : { ويشف صدور قوم مؤمنين } هم خزاعة . وعن ابن عباس : بطون من اليمن وسبأ ، قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديداً فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال : أبشروا فإن الفرج قريب . الخامسة : { ويذهب غيظ قلوبهم } قيل : شفاء الصدر وإذهاب غيظ القلب كلاهما بمعنى فيكون تكراراً . والجواب أن القلب أخص من الصدر كقوله :
يا دار ميَّة بالعلياء فالسند ... أو شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالفتح ، ولا ريب أن الانتظار شاق وإن كان مع الثقة بالموعود فإذهاب غيظ القلب إشارة إلى الفتح وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها وكان ذلك دليلاً على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإعجازه . ثم قال { ويتوب الله على من يشاء } وهو ابتداء كلام للإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وقد وقع ، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم . وقرىء { ويتوب } بالنصب بإضمار « أن » ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى كقوله { فأصدق وأكن } [ المنافقون : 10 ] أما أن التوبة كيف تقع جزاء للمقاتلة فذلك من قبل الكفرة واضح فإن القتال قد يصير سبباً لتوبة بعضهم عن الكفر ، وأما من جهة المؤمنين فلعل القتال كان شاقاً على بعضهم فإذا أقدم عليه صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهة . وأيضاً أن حصول النصر والظفر إنعام عظيم والعبد إذا شاهد توالي النعم لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى أن يتوب عن جميع الذنوب وقد تصير كثرة المال والجاه سبباً لتحصيل اللذات بالطريق الحلال فينتهي عن الحرام . وأيضاً الإنسان حريص على ما منع فإذا انفتحت عليه أبواب الخيرات الدنيوية فربما يصير ذلك سبباً لانقباضه عن الدنيا وإعراضه عنها وهذا هو أحد الوجوه التي ذكروها في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان { رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي }

[ ص : 35 ] يعني بعد حصول هذا الملك لا ينبغي للنفس الاشتغال بالدنيا { والله عليم } بكل ما يجري في ملكه وملكوته { حكيم } مصيب في أفعاله وأقواله وأحكامه وتدابيره . عن ابن عباس أن قوله { ألا تقاتلون } الآية . ترغيب في فتح مكة لأن النتائج المذكورة مشاكلة لتلك الأحوال . واستبعده الحسن لأن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة بسنة . ثم بين أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال وإنما المقصود أن يؤتى به انقياداً لأمر الله ولتكاليفه ليظهر المخلص من المنافق فقال { أم حسبتم } الآية . وقد مرّ وجه إعرابه في آل عمران عند قوله { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا } [ آل عمران : 142 ] . وقوله { ولم يتخذوا } معطوف على { جاهدوا } داخل في حيز الصلة . والوليجة لبطانة يعني الحبيب الخالص « فعيلة » من ولج كالدخيلة من دخل ، أو هو الرجل يكون في القوم وليس منهم . قال الواحدي : يقال هو وليجتي وهم وليجتي يستوي فيه الواحد والجمع . ومعنى الآية لا تحسبوا أن تتركوا على ما أنتم عليه ولم يظهر بعد معلوم الله من تميز المجاهدين المنافقين من المجاهدين الخلص الذين جاهدوا لوجه الله ولم يتخذوا حبيباً من الذين يضادون رسول الله والمؤمنين . ثم ختم الآية بقوله { والله خبير بما تعملون } ليعلموا أنه لم يزل عالماً بالأشياء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فيجدّوا في استقامة السيرة ويجتهدوا في نقاء السريرة .
التأويل : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم } من النفوس المشركة التي اتخذت الهوى وصنم الدنيا معبوداً فهادنها الروح والقلب في أوان الطفولية لاستكمال القالب وتربيته { فسيحوا } في أرض البشرية { أربعة أشهر } هي مدة كمال الأوصاف الأربعة : النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية { وأذان من الله ورسوله } إلى الصفات الناسوتية { يوم الحج الأكبر } يوم الوصول إلى كعبة الجمال والحج الأصغر الوصول إلى كعبة القلب إن زيارة كعبة الوصال حرام على مشركي الصفات الناسوتية { فإن تبتم } عن الناسوتية بإفنائها في اللاهوتية { فهو خير لكم } من قيامكم بالناسوت { وإن توليتم } ركنتم إلى غير الله { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } عن التصرف فيكم . أما لأهل السعادة فبالجذبات الأزلية ، وأما لأهل الشقاوة فبأليم عذاب القطيعة { إلا الذين عاهدتم } أيها القلوب والأرواح من مشركي النفوس على التوافق في العبودية { ثم لم ينقصوكم } شيئاً من وظائف الشريعة { ولم يظاهروا عليكم أحداً } من الشيطان والدنيا { فأتموا إليهم عهدهم } بالمداراة والرفق إلى أوان طلوع قمر العناية ونجم الجذبة والهداية . { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } استكملت مدة التربية تمام الأوصاف الأربعة { فاقتلوا } النفوس المشركة بسيف النهي عن الشهوات { حيث وجتموهم } في الطاعة بأن تكلفوها إياها وفي المعصية بأن تزجروها عنها { وخذوهم } بآداب الطريقة { واحصروهم } احبسوهم في حصار الحقيقة { واقعدوا لهم كل مرصد } راقبوهم في الأحوال كلها { فإن تابوا } رجعوا إلى طلب الحق { وأقاموا الصلاة } أدّوا حق العبودية { وآتوا الزكاة } تزكت عن الأخلاق الذميمة { فخلوا سبيلهم } اتركوا التشديد عليهم بالرياضات ليعملوا بالشريعة بعد الوصول إلى الحقيقة فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية { وإن أحد } من مشركي صفات النفس { استجارك } يا قلب لترك ما هو المخصوص به من الصفات الذميمة { فأجره حتى يسمع كلام الله } حتى يلهم بإلهام { ثم أبلغه مأمنه } وهو وارد الجذبة الإلهية ، وإن الجذبة إذا تعلقت بصفة من صفات النفس تنجذب النفس بجميع صفاتها { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } الله وأسراره فلا يميلون إليه ويعلمون الدنيا وشهواتها فيركنون إليها .

{ كيف يكون } لمشركي النفوس ثبات على العهد وقد جبلت ميالة إلى السفليات وغايتها بعد إصلاح حالها أن تميل إلى نعيم الجنات { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } وهو مقام الوصول المحرم على أهل الدنيا وهو مقام أهل الله وخاصته ، الذين تنورت نفوسهم بأنوار الجمال والجلال فيثبتها الله على العهد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة { فما استقاموا لكم } على الصراط المستقيم { فاستقيموا لهم } بشرحها في متسع رياض الشريعة { ولا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة } لا يحفظوا حقوق الجنسية فإن الأرواح والقلوب والنفوس مزدوجة في عالمي الأمر والخلق { يرضونكم } بالأعمال الظاهرة { وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون } فيما يعملون خارجون عن الصدق والإخلاص { اشتروا } بدلالات توصلهم إلى الله { ثمناً قليلاً } من متاع الدنيا ومصالحها { فصدّوا عن سبيله } قطعوا طريق الحق على الأرواح والقلوب { فإخوانكم في الدين } رفقاؤكم في طلب الحق فارعوا حقوقهم فإن لنفسك عليك حقاً . { لقوم يعلمون } أن السير إلى الله من أعظم المقامات وأهم المهمات { وطعنوا في دينكم } أنكروا مذهب السلوك { أئمة الكفر } النفوس { وهموا بإخراج الرسول } يعني الواردات الغيبية بانسداد روزنة القلب { أول مرّة } في أوان الطفولية . { أتخشونهم } في فوات حظوظهم { فالله أحق أن تخشوه } بفوات حقوقها . { ويذهب غيظ قلوبهم } يعني وحشة الأرواح والقلوب وكدورتها { ويتوب الله على من يشاء } بالرجوع إلى الحق قبل التمادي في الباطل من غير حاجة إلى رياضة شديدة { والله عليم } باستعدادات النفوس { حكيم } فيما يدبر لكل منها . { أم حسبتم } أيها النفوس الأمارة { أن تتركوا } بلا رياضة { وليجة } أولياء من الشيطان والدنيا والهوى .
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

القراآت : { مسجد الله } ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون : على الجمع { يبشرهم } خفيفاً : حمزة { وعشيراتكم } على الجمع : أبو بكر وحماد وجبلة { وضاقت } ونحو ممالة : حمزة { رحبت ثم } مظهراً : أبو جعفر ونافع وابن كثير وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى .
الوقوف : { بالكفر } ط { أعمالهم } ج لعطف المختلفين { خالدون } ه { المهتدين } ه { في سبيل الله } ط { عند الله } ط { الظالمين } ه لئلا يشتبه بالوصف { وأنفسهم } لا لأن ما بعده خبر « الذين » { عند الله } ط { الفائزون } ه { مقيم } ه لا لأن ما بعده حال { أبداً } ط { عظيم } ه { على الإيمان } ط { الظالمون } ه { بأمره } ط { الفاسقين } ه { كثيرة } لا لعطف الظرف على الظرف { حنين } لا لأن « إذ » ظرف { نصركم } . { مدبرين } ه ج للآية والعطف . { كفروا } ط { الكافرين } ه { من يشاء } ط { رحيم } ه { هذا } ج { إن شاء } ط { حكيم } ه .
التفسير : إنه سبحانه بدأ السورة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم ، ثم أراد يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون في أن هذه البراءة غير جائزة مع الجواب عنها . قال المفسرون : لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي رضي الله عنه له القول فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال علي عليه السلام ألكم محاسن؟ فقال : نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى رداً عليهم { ما كان للمشركين } ما صح لهم وما استقام { أن يعمروا مساجد الله } يعني المسجد الحرام . ومن قرأ على الجمع فإما أن يراد جميع المساجد فيشمل المسجد الحرام أيضاً الذي هو أشرفها وهذا آكد لأن طريقه طريق الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفي لقراءته القرآن من تصريحك بذلك ، أو يراد المسجد الحرام وجمع لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد ، أو لأن بقعة منه مسجد . قال الفراء : العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم : فلان كثير الدرهم ، وبالعكس كقولهم : فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً . وعمارة المسجد إما لزومه وإما كثرة إتيانه للصلاة والاعتكاف ، ولا شك أنه ليس للمشرك ذلك وإما مرمته وتعهده ، وليس للمشرك هذا أيضاً لأنه يجري مجرى الإنعام على المسلمين ولا ينبغي أن يكون للكافر منه على أهل الإسلام ، ولأن دخوله المسجد يؤدي إلى تلوث المسجد إما لكونه نجساً في الحكم ، وإما لأنه قلما يحترز من النجاسات . وما روي أنه صلى الله عليه وآله أنزل وفد ثقيف في المسجد وهم كفار وشدّ ثمامة بن أثال الحنفي على سارية من سواري المسجد محمول على تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم كأنه أراد أن يكون ذلك بمحضر منه وهو في المسجد .

وقوله { شاهدين على أنفسهم } حال من الواو في { يعمروا } والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة معابد الله مع الكفر به . وفي تفسير هذه الشهادة أقوال أصحها أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب النبي والقرآن ولهذا قال السدي : هي أن النصراني إذا قيل له ما أنت؟ قال : نصراني . واليهودي يقول : يهودي ، وعابد الوثن يقول : أنا عباد الوثن . وقيل : هي قولهم في طوافهم « لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك » . وعن ابن عباس أنه قال : المراد أنهم يشهدون على محمد بالكفر . وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] ثم بيّن تعالى ما هو الحق في هذا الباب فقال { أولئك حبطت أعمالهم } الصادر عنهم كإكرام الوالدين وبناء الربط وإطعام الجائع لأنه لا يفيد مع الكفر طاعة لأن الكفر يوجب عقاب الأبد ولهذا قال { وفي النار هم خالدون } ولإفادة هذا التركيب الحصر احتجت الأشاعرة به على خلاص صاحب الكبيرة . ثم وصف من له استئهال عمارة المسجد فقال { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } لأن المرء ما لم يعرف المبدأ والمعاد لا يصح منه التوجه إليه . وإنما طوى ذكر الرسول تنبيهاً على أنه واسطة والتوجه الحقيقي من الله وإلى الله ولهذا ورد في الحديث : « المصلي يناجي ربه » وقيل : إن المشركين كانوا يقولون إن محمداً أدّعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك فلنفي هذه التهمة ترك ذكره صلى الله عليه وسلم . وقيل : دل عليه بقوله { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } لأنهما معلومتان من أفعاله صلى الله عليه وسلم ولما في الصلاة من التشهد وقبلها الأذان والإقامة . ثم إن إقامة الصلاة لا ريب أن فيها عمارة المسجد والحضور فيه ، وأما إيتاء الزكاة فإنما كان سبباً للعمارة لأنه يحضر المسجد طوائف الفقراء والمساكين لأخذ الزكاة ، ولأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد وإصلاحه نفل والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لم يشتغل بالنافلة ، فلو لم يكن مؤدياً للزكاة فالظاهر أنه لم يشتغل بعمارة المسجد . ثم قال { ولم يخش إلا الله } ليعلم أنه لو أتى المسجد وبناه رياء وسمعة لم يكن عامراً له . فعلى المؤمن أن يختار في جميع الأحوال رضوان الله على غيره فإن ذلك لو ضره في العاجل فسينفعه في الآجل وفي إدخال كلمة « إنما » في صدر الآية تنبيه على أن من لم يكن موصوفاً بالصفات المذكورة لم يكن من أهل عمارة المسجد ، وأن المسجد يجب صونه عن غير العبادة . فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة » وعنه صلى الله عليه وسلم : « الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش » وقال صلى الله عليه وآله : قال الله تعالى : « إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّاري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بتيه ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره » ومن عمارة المساجد تعظيمها والدرس فيها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح . فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه » وفي قوله { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بالصفات المذكورة إذا كان اهتداؤهم المستعقب لصلاح حالهم في الدارين دائراً بين عسى ولعل فما ظنك باهتداء المشركين ومغبتهم؟ وفيه أن المؤمن يجب أن لا يغتر بالله عزّ وجلّ . هذا وقد مر أن بعض الأمة ذهبوا إلى أن « عسى » من الله الكريم واجب . وقال بعضهم : إن الرجاء راجع إلى العباد .
ثم إنه قال { أجعلتم سقاية الحاج } ومعناه هبوا أن عمارة المسجد وسقي الحجيج يوجب لكم نوعاً من الفضيلة إلا أن هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد شيء نزر . قال المفسرون : إنها نزلت في مناظرة جرت بين فريقين إلا أنهم اختلفوا فقيل : « كافر » و « مؤمن » لقوله { كمن آمن } وقصة ما مر أن العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج . وروي أن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم : أنتم أفضل . وقيل : إن كلا الفريقين مؤمن لقوله { أولئك أعظم درجة } وهذا يقتضي أن يكون للمفضول أيضاً درجة . وقصته ما روى عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل : لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج . وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم : فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكني إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله الآي . ويروى عن الحسن والشعبي أن طلحة قال : أنا صاحب البيت بيدي مفاتحة ولو أشاء بت فيه .

وقال العباس : وذلك بعد إسلامه أنه صاحب السقاية والقائم عليها . وقال عليّ رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فنزلت . وعن ابن سيرين : قال عليّ رضي الله عنه للعباس بعد إن كان أسلم : ألا تهاجر ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ ففقال : ألست في أفضل من الهجرة ، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية . فقال العباس : ما أراني إلا ترك سقايتنا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً » والسقاية والعمارة مصدران من سقي وعمر ، ولا بد من تقدير مضاف أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كخصال من آمن؟ ثم كان لسائل أن يسأل ما بال أحد الفريقين لا يشبه بالآخر فلا جرم قال مستأنفاً { لا يستوون عند الله } ثم صرح بالمفضول فقال { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي المشركين { إن الشرك لظلم عظيم } وأي ظلم أشنع من وضع أخس الموجودات وهو الأصنام مقام أشرفها وهو الله سبحانه . وإنما لم يهدهم الله لعدم قابلية وقع في استعدادهم الفطري . وذلك لكونهم مظاهر القهر فافهم . ثم صرح بالفريق الفاضل فقال { الذين آمنوا } الآية . ثم من قال إن الفريقين المتناظرين كافر ومؤمن أورد عليه أن قوله { أعظم درجة } وجب أن يكون للمفضول أيضاً درجة ولكنه ليس للكافر درجة . وأجيب بأن هذا وارد على حسب ما كانوا يقدرونه لأنفسهم من الدرجة والفضيلة نظيره قوله { أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم } أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمناً فضلاً عن الكافر . أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة . ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لولا الكفر . وفي قوله { عند الله } تشريف عظيم لقوله { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } وكذا في قوله { وأولئك هم الفائزون } لدلالته على انحصار الفوز فيهم . ثم فسر الفوز بقوله { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات } التنكير فيها يفيد أنها وراء وصف الواصف ، قال المتكلمون : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فالتبشير بالرحمة والرضوان إشارة إلى غاية التعظيم ونهاية الإجلال والجنات إشارة إلى حصول المنافع العظيمة . وقوله { لهم فيها نعيم } إشارة إلى خلوص تلك المنافع عن شوائب الكدورات . ثم عبر عن دوامها بثلاثة ألفاظ مؤكدات أولها { مقيم } وثانيها { خالدين } وثالثها { أبداً } وقال أهل التحقيق : الفرح بالنعمة قد يكون من حيث إنها نعمة وقد يكون من حيث إن المنعم خصه بها كالسلطان إذا أعطى بعض الحاضرين تفاحة مثلاً ، ثم النعمة قد تكون حسية وقد تكون عقلية فقوله { يبشرهم ربهم } إشارة إلى أعلى المراتب وهو مقام العارفين الذين نظرهم على مجرد سماع البشارة لا على المبشر به .

وقوله { برحمة منه ورضوان } أشارة المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية . وقوله { جنات } إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات . وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذين رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصر لها . ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات ، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } [ الفجر : 28 ] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله { الله عنده أجر عظيم } وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ « عند » وتقديمه وتنكير « أجر » ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى .
قال الكلبي : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون : ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا } الآيتين . وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفار وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأبناء والإخوان واجب بسبب الكفر . ومعنى استحبوا اختاروا وهو في الأصل طلب المحبة . ثم إن النهي كان يحتمل أن يكون نهي تنزيه لا تحريم فلإزالة الوهم ختم الآية بقوله { ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } قال ابن عباس : يريد أنه يكون مشركاً مثلهم لأن الرضا بالشرك شرك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس » وعن ابن عباس : هي في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم . . فقالوا : يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ضائعين فنزلت { قل إن كان آباؤكم } الآية . فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه وأبوه وأخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم بعد ذلك . وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة فنهى الله عزّ وجلّ عن موالاتهم . قال الواحدي : عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه . ومن قرأ على الوحدة فلأن العشيرة اسم جمع .

ومن قرأ على الجمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة . قال الأخفش : لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر القرآن حجة عليه . والاقتراب الاكتساب والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه . والترتيب المذكور في الآية غاية الحسن لأن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة القريبة ثم البعيدة ، ثم إنه يتوسل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال المكتسبة ثم إلى التجارات المثمرة ، وفي آخر المراتب الرغبة في الأوطان التي بنيت للسكنى ، فبيّن تعالى أنه يجب تحمل هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سليماً ، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندهم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله { فتربصوا } انتظروا بما تحبون { حتى يأتي الله بأمره } عن الحسن هو عقوبة عاجلة أو آجلة . وقيل : يعني القتال . وعن ابن عباس : هو فتح مكة وفيه بعد لما روي أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } الخارجين عن طاعة الله إلى معصيته ولا يخفى ما فيه من التهديد . ثم لما أوجب ترك مصالح الدنيا لأجل الدين أراد أن يبين أن كل من أعرض عن الدنيا لأجل مصالح دينه فإن الله تعالى يراعي مصالح دنياه فيفوز بسعادة الدارين وضرب لنا مثلاً فقال { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } قال الواحدي : النصر المعونة على الأعداء خاصة ، والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر . ومواطن الحرب مقاماتها ومواقعها . وامتناعها من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ولا هاء كمساجد . والمواطن الكثيرة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي على ما في الصحاح تسع عشرة منها : غزوة بدر وقريظة والنضير وأحد وغزوة الخندق وذات الرقاع وغزوة بني المصطلق وغزوة أنمار وغزوة ذي قرد وخيبر والحديبية والفتح . { ويوم حنين } أي يوم حنين . واستبعد صاحب الكشاف عطف الزمان على المكان فقال : معناه في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ، وجوّز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين رضي الله عنه قال علي : أن الواجب أن يكون يوم { حنين } منصوباً بالفعل مضمر لا بهذا الظاهر أي ونصركم يوم حنين لأن قوله { إذ أعجبتكم كثرتكم } بدل من { يوم حنين } فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع المواطن ولم يكونوا كثيراً في جميعها ، وجوّز أن يكون « إذ » منصوباً بإضمار « اذكر » . قلت : ولعله لا حاجة إلى هذه التكلفات فلا استبعاد في عطف الزمان والمكان ، وما جعل بدلاً عن الزمان لا يلزم أن يكون بدلاً عن المكان حتى يكون الفعل الأوّل مقيداً بهما جميعاً . وحنين وداً بين مكة والطائف .

قال المفسرون : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف . واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ فعن عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفاً . وقال قتادة : كانوا اثني عشر ألفاً وعشرة الآف من الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء الأسارى الذين أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف . وبالجملة كانوا عدداً كثيرين وكانت هوازن وثقيف أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة . فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله { إذ أعجبتكم } وقيل : قالها أبو بكر . وقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعيد لأنه كان في جميع الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها . ثم قال { فلم تغن عنكم شيئاً } والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم تعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم ولم تفدكم { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } « ما » مصدرية والباء بمعنى « مع » والرحب السعة والجار والمجرور في موضع الحال أي متلبسة برحبها كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا في الأرض ذات الطول والعرض موضعاً يصلح لهربكم إليه وكأنها ضاقت عليكم { ثم وليتم مدبرين } أي انهزمتم انهزاماً . قال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث ، والذي لا إله إلا الله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط ، ولقد رأيته وأبو سفيان أخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام الدابة وهو يقول :
أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب ... وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس : ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلاً صيتاً فنادى يا أصحاب الشجرة فرجعوا ونزلت الملائكة عليهم ثياب بيض وهم على خيول بلق ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده كفاً من الحصباء فرماهم بها وقال : شاهت الوجوه ، فما زال جدهم مدبراً وحدهم كليلاً ولم يبق منهم أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فانهزموا وذلك قوله سبحانه { ثم أنزل الله سكينته } رحمته التي سكنوا بها وآمنوا { على رسوله وعلى المؤمنين } الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب . { وأنزل الله جنوداً لم تروها } يعني الملائكة ستة عشر ألفاً أو ثمانية آلاف أو خمسة آلاف على اختلاف الروايات .

وعن سعيد بن المسيب قال : حدّثني رجل كان من المشركين يوم حنين : قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البلغة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا . واختلفوا في قتال الملائكة فقيل : قاتلوا . وقيل : ما قاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا في هذا اليوم لتكثير السواد ولإلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين . ثم قال { وعذب الذين كفروا } أي بالقتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذراري . واحتجت الأشاعرة بإنزال السكينة وهي داعية السكون والثبات وبقوله { وعذب } على أن الدواعي والأفعال كلها بخلق الله تعالى . ثم ختم الآية بقوله { وذلك جزاء الكافرين } واعلم أن الحنفية تمسكوا في مسألة الجلد مع التغريب بقوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] قالوا الفاء للجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافياً يمنع أن يكون غيره مشروعاً معه . وأجابت الشافعية بأنه قال تعالى في غير كافٍ لأن العذاب الآجل باقٍ . أما قوله { ثم يتوب الله من بعد ذلك } أي يسلم ناس منهم . « روي أن ناساً جاؤا تائبين فأسلموا وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا . قيل سبي يومئذ آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى . فقال : إن عندي ما ترون العساكر الفقراء وإن خير القول أصدقه ، اختاروا وإما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم . قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء جاؤا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً . فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه . قالوا : رضينا وسلمنا فقال : إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا . فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أن قد رضوا » ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهة أخرى لهم وذلك أن علياً عليه السلام حين قرأ عليهم براءة فنبذ إليهم عهدهم قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } قال في الكشاف : هو مصدر كالقذر ومعناه ذو ونجس . وقال الليث : إنه صفة يستوي فيه الواحد وغيره : رجل الوصف . واختلف في تفسير كون المشرك نجساً فعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير . وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ وهو قول الهادي من أئمة الزيدية . وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم واحتج القاضي على ذلك بما روي أنه صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم وبأنه لو كان نجس العين لما تبدلت النجاسة بسبب الإسلام ، وأوّلوا الآية بأن معناها أنهم لا يغتسلون عن الجنابة ولا يتوضؤون عن الحدث ، أو أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب الاجتناب والاحتراز عنهم ، أو أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وهي السنة التاسعة من الهجرة التي وقع النداء فيها بالبراءة من المشركين واختلفوا في هذا النهي فعن أبي حنيفة وأصحابه أن المراد أن لا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، والدليل عليه قول علي عليه السلام في النداء : ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك .

وقال الشافعي : المراد المنع من الدخول فيه وهو ظاهر النصر . وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع من الدخول فيه . وقيل : المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك . وعن عطاء أن المراد بالمسجد الحرام والحرم وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله ، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه لقوله { وإن خفتم عيلة } أي فقراً بسبب منع المشركين وموضع التجارات ليس هو عين المسجد بل الحرم كله . ومن قال إن المراد منعهم من الحج قال إنهم إذا لم يحضروا الموسم لم يحصل للمسلمين ما كان لهم في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فلهذا خافوا الفقر ، ثم وعدهم الله إزالة الفقر بقوله { فسوف يغنيكم الله من فضله } أي من تفضله بوجه آخر قال عكرمة : أنزل الله عليهم المطر فكثر خيرهم . وعن الحسن : جعل الله لهم أخذ الجزية بدلاً عن ذلك . وقيل : أغناهم من الفيء . وعن مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم . واعلم أن هذا إخبار بالغيب وقد وقع فكان معجزاً . ومعنى { إن شاء } تعليم وإرشاد وأن لا يغتر المسلمون بذلك فيتركوا التضرع إلى الله واللجأ إليه ، وليعلم أن حصول ذلك لا يكون في كل الأوقات لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلا ضابط الأمور ورابط الأسباب ، ولهذا ختم الآية بقوله { إن الله عليم } أي بأحوالكم { حكيم } لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب .
التأويل : ما كان لمشركي النفوس الأمارة { أن يعمروا مساجد الله } وهي القلوب وهم مصرون على ما جبلوا عليه من التمرد وتعبد الهوى . { حبط أعمالهم } التي صدرت عنهم رياء وسمعة { إنما يعمر } القلوب { من آمن بالله واليوم الآخر } صدق بأن المقصود والمعبود هو الله ، وعمل لنيل السعادات الأخروية وأدام المناجاة مع الله بصدق الطلب ، وزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ولم يخف فوات الخطوط الدنيوية وإنما يخاف فوات الحقوق الإليهة . { سقاية الحاج } خدمة هذه الطائفة للأغراض الفاسدة { وعمارة المسجد الحرام } الأعمال الموجبة لعمارة القلوب إذا كانت مشوبة بالرياء والهوى { لا يستوون عند الله } الطالبون والبطالون { والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين يضعون الأعمال الصالحة في غير موضعها { الذين آمنوا } أي القلوب المؤمنة { وهاجروا } أي الأرواح المهاجرة إلى القوالب { وجاهدوا في سبيل الله } الجهاد الأكبر { بأموالهم وأنفسهم } ببذل الموجود والوجود جميعاً { يبشرهم ربهم } بعد الخلاص عن حبس الوجود بتجلي صفات لطفه وجنات الشواهد والكشوف { إن الله عنده أجر عظيم } أي من وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره { لا تتخذوا آباءكم } الآيتان .

فيهما إشارة إلى أن آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي . { ويوم حنين } أي حين حنت قلوبكم شوقاً إلى لقاء ربها وحسبتم أنكم تبلغونه بكثرة الطاعات ، وضاقت عليكم أرض الوجود ثم أعرضتم عن الطلب إذ احتجبتم بحجب العجب مدبرين إلى عالم الطبيعة الحيوانية { ثم أنزل الله سكينته } هي واردات ترد على الأرواح والقلوب فتسكن إلى ربها على رسول الروح وعلى القلوب المؤمنة { وأنزل جنوداً } من المواهب الربانية وعذب النفوس المتمردة باستعمالها في أحكام الشريعة وآداب الطريقة { ذلك جزاء الكافرين } أي علاج النفوس المتمردة ثم يتوب الله من بعد ذلك العلاج بجذبة { ارجعي } ، { إنما المشركون } النفوس العابدة للدنيا والشيطان والهوى { فلا يقربوا } القلب { بعد عامهم هذا } وهو حالة البلوغ وجريان قلم التكليف على الإنسان ، نهى القلوب حينئذ عن اتباع النفوس وأمرها بقتالها ومنعها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة { وإن خفتم عيلة } حظوظاً يستلذ بها عند اتباع النفس { فسوف يغنيكم الله } بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب بالواردات الربانية والكشوف الروحانية { إن الله عليم } بمستحقي فضله { حكيم } فيما دبر من قتال النفوس .
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

القراآت : { عزير ابن } بالتنوين مكسورة للساكنين : عاصم وعلي وسهل ويعقوب . الباقون : بغير تنوين { يضاهئون } بالهمز . عاصم . الآخرون { يضاهون } بحذف الهمزة . { أن يطفوا } و { ليواطوا } بحذف الهمزة فيهما . يزيد وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة { اثنا عشر } بسكون العين : يزيد والخزاز { إنما النسي } بالتشديد : ورش من طريق النجاري وحمزة في الوقف . الباقون : بباء بعدها همزة . { يضل } بضم الياء وفتح الضاد : علي وحمزة غير العجلي وحفص وخلف لنفسه . { يضل } بضم الياء وكسر الضاد : العجلي وأوقية ورويس . الباقون { يضل } بفتح الياء وكسر الضاد .
الوقوف : { صاغرون } ه { المسيح ابن الله } ط { بأفواههم } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { من قبل } ط { قاتلهم الله } ج { يؤفكون } ه { ابن مريم } ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون حالاً واستئنافاً . { واحداً } ج لأن ما بعده يصلح ابتداء ووصفاً { إلا هو } ط { يشركون } ه { الكافرون } ه { كله } لا لتعلق « لو » بما قبله { المشركون } ه { عن سبيل الله } ط { في سبيل الله } لا لتعلق الفاء { أليم } ه لا أي في يوم . { وظهورهم } ط { تكنزون } ه { حرم } ط { يقاتلونكم كافة } ط { المتقين } ه { فيحلوا ما حرم الله } ط { أعمالهم } ط { الكافرين } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر شبهات المشركين وأجاب عنها بأجوبة صحيحة أراد أن يبين أحكام أهل الكتاب والمقصود تميزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال إلى الإسلام ، والواجب في أهل الكتاب القتال إلى الإسلام أو الجزية . واعلم أنه تعالى ذكر صفات أربع وأمر بقتال من اتصف بها ثم بين الموصوفين بها بقوله { من الذين أوتوا الكتاب } فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات؛ فالصفة الأولى أنهم { لا يؤمنون بالله } فأورد عليه أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله ، وأجيب بأن إيمانهم بالله كلا أيمان لأنهم مشبهة وحلولية . واعترض ثانياً بأن كل من نازع في صفة من صفات الله وكان منكراً لله لزم أن يكون أكثر المتكلمين كذلك فالأشعري من أهل السنة أثبت البقاء صفة ، والقاضي أنكره ، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة ، والباقون أنكروه ، والقاضي أثبت لله إدراك الطعوم وإدراك الروائح والحرارة والبرودة والأستاذ أبو إسحق أنكره ، والقاضي أثبت للصفات سبعة أحوال معللة بغير الصفات وغيره أنكره ، وعبد الله ابن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً ثم صار كذلك عند الإنزال ، والآخرون أنكروه ، وقوم من قدماء الأشاعرة أثبتوا لله خمس كلمات : الأمر والنهي والاستخبار والخبر والنداء . والمشهور أن كلام الله واحد . واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور لله؟ . وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق فأكثر من أن تحصى ههنا .

وأجيب بأن المجسم خالف في الذات لأنه يقول إن الإله جسم والبرهان دل على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني . وأما الخلاف في المسائل المذكورة فراجع إلى الصفة فظهر الفرق . نعم إنا نكفر الحلولية والحروفية القائلين بأن كلام الله تعالى حل في كل لسان وفي كل جسم كتب فيه القرآن كما نكفر النصارى القائلين بأن أقنوم الكلمة حلت في عيسى .
الصفة الثانية : أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر لأن اليهود والنصارى ينكرون المعاد الجسماني . والقرآن دل على أن أهل الجنة يأكلون ويشربون وباللذات يتمتعون ، وأما السعادات الروحانية فمتفق عليها . الصفة الثالثة : { ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله } أي لا يحرّمون ما حرم الله في القرآن ، والرسول في سنته كالخمر والخنزير ونحوهما . وقال أبو روق : أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام توافق مشتهاهم . الصفة الرابعة : { ولا يدينون دين الحق } أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الحق . يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذ ذلك دينه ومعتقده . وقيل : الحق هو الله . ثم ذكر غاية القتال فقال { حتى يعطوا الجزية } فعله من جزى يجزي إذا قضى ما عليه . قال الواحدي : هي ما يعطى المعاد على عهده . وقال في الكشاف : سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه ، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل . ومعنى { عن يد } إن أريد بها يد المعطي أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة يقال : أعطى بيده إذا انقاد وأصحب ، أو المراد حتى يعطوها عن يد إلى نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد ، وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها كقوله :
ينهون عن أكل وعن شرب ... أي يتناهون السمن بسببهما . أو المراد عن إنعام عليهم فإن قبول الجزية منهم بدلاً عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم . قيل : إن من اليهود موحدة فما وجه إيجاب الجزية عليهم؟ والجواب أنه إذا ثبت وجوب الجزية على بعضهم لزم القول في حق الكل لعسر الامتياز ولوجود الصفات الباقية فيهم . أما مقدار الجزية فعن أنس : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على فقرائهم في المدينة اثني عشر درهماً ، وعلى الأوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين . فذهب الشافعي إلى أن أقل الجزية دينار لا يزاد على الدنيار إلا بالتراضي . وذهب أبو حنيفة إلى قسم عمر . والمجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله : صلى الله عليه وسلم : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب » ويروى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وذلك أن لهم شبهة كتاب . ومعنى ذلك أن كتبهم وهي الصحف التي أنزلت على إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها .

وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجباً للطعن ، وإنما الغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه . وأيضاً فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل . وأما قوله { وهم صاغرون } فمعناه أنه لا بد أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم . والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام . وفسروا الصغار في الآية بأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائماً والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعداً ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطىء رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه . وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة . وقيل : الصغار هو نفس أخذ الجزية . والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي . وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها . ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة وخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده بسببه ، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي ، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم . قال الشافعي في أحد قوليه . العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول . ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية . وكيفية العقد أن يقول : أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام . ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أخرجوا اليهود من الحجاز » قال الشافعي : هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعاً بين الحديثين . وقد بقي في الآية نكته ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال : لأن قوله { قاتلوا } مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال { حتى يعطوا الجزية } علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية ، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين - وهو وجوب قتلهم - مرتفع بالاتفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجوب القصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان .

ولقائل أن يقول : لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت بصدد إثباته؟ .
ولما حكم في الآية المتقدمة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله شرع في إثبات تلك الدعوى فقال { وقالت اليهود عزير ابن الله } الآية . العلم مبتدأ والابن خبره ومن أسقط التنوين من عزير فلأنه اسم أعجمي زائد على ثلاثة أحرف فيمتنع من الصرف كعازر . وقيل : منصرف لكونه عربياً وكان الوجه كسر التنوين كقراءة عاصم ولكنه أسقط التنوين للساكنين على مذهب بعضهم . أو لأن الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا . وطعن في هذا الوجه عبد القاهر باستلزامه احتمال توجه الذم إلى الخبر دون الوصف . وحينئذ يحصل تسليم كونه ابناً لله ومعلوم أن ذلك كفر . وهذا قول ناس من اليهود بالمدينة . وما هو بقول كلهم إلا أنه جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد . يقال : فلان يركب الخيول أو يجالس الملوك . ولعله لم يركب أو لم يجالس إلا واحداً . عن ابن عباس : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك . وعنه أيضاً أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم ، فتضرع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه ، فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا : هذا ابن الله . وقال عبيد بن عمير : إنما قال هذا القول رجل من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء . وقيل : لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع ، ولا عبرة بإنكار اليهود قول الله أصدق . وقال في الكشاف : الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب . وأما النصارى فلا شك أنهم يقولون ذلك وقد حكى الواحدي في سبب ذلك أن أتباع عيسى كانوا على الحق بعد رفع عيسى إلى السماء حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع ، يقال له بولس . قتل جمعاً من أصحاب عيسى ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم ، فعرقب فرسه وأظهر الندامة بما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال : نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تنتصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة . ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال : ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ولكنه الله .

وعلم رجلاً آخر - يقال له يعقوب - ذلك ثم دعا رجلاً - يقال له ملكاً - فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى . ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم : أنت خليفتي فادع الناس إلى نحلتك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه . هذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى . الأقرب أن لفظ الابن قد وقع في الإنجيل على سبيل التشريف حيث قال : إنك أنت الابن الوحيد كما وقع لفظ الخليل في حق إبراهيم عليه السلام . وقال المسيح عليه السلام للحواريين : أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا على من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي أشرق شمسه على الصالحين والفجرة . ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بلغو فاسد في الطرف الآخر حملوا لفظ الابن على البنوة الحقيقية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال . ثم قال سبحانه { ذلك قولهم بأفواههم } وفائدة هذا التخصيص - وكل قول فإنما يقال بالفم - أنه قول لا يعضده برهان بل البرهان دال على نقيضه لاستحالة إثبات الولد لمن هو مبرأ عن الحاجة والشهوة والمضاجعة واتخاذ الصاحبة ، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تجاوز الحناجر ولا يؤثر معناها في القلب بل لا معنى لها حتى تؤثره ، نظيره قوله { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } [ النور : 15 ] أو نقول : إن الإنسان قد يختار مذهباً ولكن لا يصرح به ولا يذكره بلسانه ، أما إذا نطق به فذلك هو الغاية في اختياره وإذا ساعده عليه دليل كان نهاية في الحسن والتأثير . فالمارد بالقول المذهب وأنهم يصرحون به لا يخفونه ألبته ، أو أنه مذهب لا يساعده دليل فلا تأثير له في القلوب . ويحتمل أن يراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت في الأفواه والألسنة { يضاهنون } من قرأ بغير همز فظاهر لأنه من ضاهى يضاهي منقوصاً أي شاكل ، ومن قرأ بالهمز فلمجيء ضاهأت من قولهم امرأة ضهيأ على وزن « فعيل » وهي التي شاكلت الرجال في أنها لا تحيض ومن جعل ضهيأ على « فعلأ » بزيادة الهمزة كما في « غرقىء » لقشرة البيض السفلى لمجيء ضهياء ممدوداً بمعناه فلا ثبت في هذا الثاني عنده . ولا بد من تقدير مضاف أي يضاهي قولهم قول الذين ، حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً لفقد الجار . والمعنى أن قول هؤلاء المعاصرين للنبي من أهل الكتاب يشبه قول قدمائهم أي القائلين الملائكة بنات الله . وقيل : الضمير في { يضاهئون } للنصارى فقط أي يشاكل قول النصارى « المسيح ابن الله » قول اليهود « عزير ابن الله » لأن اليهود أقدم منهم .

ثم قال على عادة محاورات العرب معجباً ومستفهماً على سبيل الإنكار { قاتلهم الله أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا تعجباً من شناعة قولهم كما يقال القوم ركبوا شنعاء : قاتلهم الله ما أعجب فعلهم ، ولمن ضل عن الطريق أين تذهب؟ . ثم وصفهم بضرب آخر من الإشراك فقال { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم } قال أهل المعاني : الحبر العالم الذي يعبر عما يريد بأحسن بيان ، والراهب الذي ظهرت أثار الرهبة من قلبه على وجهه ولباسه ، ولكن في عرف الاستعمال اختص الأحبار بعلماء اليهود من ولد هارون . والرهبان بعلماء النصارى من أصحاب الصوامع . واختلفوا في معنى اتخاذهم إياهم أرباباً بعد الاتفاق على أنه ليس المراد أنهم جعلوهم آلهة العالم فقال أكثر المفسرين : المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم . نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة ، فلما وصل إلى هذه الآية قال عدي : إنا لسنا نعبدهم فقال : أليس تحرّمون ما أحلّ الله وتحلون ما حرم الله؟ فقلت : بلى . فقال : فتلك عبادتهم . قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم الله . قال العلماء : إنما لم يلزم تكفير الفاسق بطاعة الشيطان خلاف ما عليه الخوارج لأن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه يلعنه ويستخف به بخلاف أولئك الأتباع المعظمين لمتبوعهم . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في مسائل كانت تلك الآيات مخالفة لمذهبهم فيها فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وكانوا ينظرون إليّ كالمتعجب يعني كيف الآيات مع أن الرواية عن سلفنا . وردت بخلافها ، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا سارياً في عرف الأكثرين . وقلت : ولعلهم توقفوا لحسن ظنهم بالسلف لأنهم ربما وقفوا من تلك الآي على ما لم يقف عليه الخلف . وقيل في تفسير هذه الربوبية : إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد ، وقد يساعدهم الشيخ في ذلك إذا كان مزوّراً طالباً للدنيا وقد يرضى بسجودهم له تعظيماً وإجلالاً مع أن السجود عبادة لا تليق إلا بالله . وإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة فكيف بالأمم السالفة؟! وأما المسيح فحين جعلوه ابناً لله فقد أهلوه للعبادة والإلهية ، ولعل السبب في إفراد المسيح بالذكر أن قولهم فيه أشنع من قولهم في الأحبار والرهبان ، أو لأن القول بإلهية المسيح مخصوص بأحد الفريقين .

فلو قيل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أرباباً لأوهم اشتراك الفريقين في اتخاذ المسيح رباً { وما أمروا } الضمير للمتخذين . والذي أمرهم بذلك أدلة العقل والكتب السماوية ، وفي القرآن حكاية عن المسيح { أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة } [ المائدة : 72 ] ويجوز أن يكون الضمير للأحبار والرهبان أي وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا بأن يكونوا مربوبين . ثم نزه نفسه عن مقالة الظالمين فقال { سبحانه عما يشركون } ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال أهل الكتاب وهو سعيهم في أبطال أمر محمد وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة نبوّته فقال { يريدون أن يطفئوا نور الله } أي دينه الثابت بالدليل المشبه بالنور لاشتراكهما في الاهتداء بهما . وذلك أن دين محمد مؤيد بالمعجزات الباهرة التي بمثلها ثبتت نبوّة موسى وعيسى ولا سيما بالقرآن ، وحاصل شرعه تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به والانقياد لطاعته وصرف النفس عن الأمور الفانية والترغيب في السعادات الباقية ، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة أرادوا إبطال هذه الدلائل فكانوا كمن يريد إبطال نور الشمس الذي هو أشد الأنوار المحسوسة بسبب أن ينفخ فيه . ولا ريب أن ذلك سعي باطل وكيد زاهق ولهذا قال { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } أي لم يرد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة على عدم الإرادة وهي المنع والامتناع قال :
وإن أرادوا ظلمنا أبينا ... امتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يستوي فيه القوي والضعيف . وفيه وعد بمزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة . ثم أكد ذلك المعنى بقوله { هو الذي أرسل رسوله بالهدى } أي بكثرة الدلائل والمعجزات { ودين الحق } لاشتماله على أمور تظهر لكل أحد كونه موصوفاً بالصواب ومطابقاً للحكمة ومؤدياً إلى صلاح الدنيا والآخرة . ثم بيّن غاية أمره وتمام حكمه فقال { ليظهره على الدين كله } أي ليجعل الرسول أو دين الحق غالباً على أهل الأديان كلهم أو على كل دين . عن أبي هريرة أنه قال هذا وعد من الله بأن يجعل الإسلام ظاهراً على جميع الأديان . وتمام هذا إنما يظهر عند خروج المهدي ونزول عيسى وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي عليه السلام لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام وأدّى الخراج . قلت : قد دخل في عصرنا من الملوك الكفرة ومن أشياعهم في الإسلام ما لا يعدّ ولا يحصى ، وازدياد ذلك كل يوم دليل ظاهر على أن الكل سيدخلون في الإسلام . وقد جاء في الحديث : « زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها » وقيل : ليظهر الإسلام على غيره في جزيرة العرب . وهذا تخصيص أوجبه ضيق العطن . وقيل : ليظهر الرسول على جميع شرائط الدين حتى لا يخفى عليه شيء من مدارك الأحكام .

وقيل ليظهره بالحجة والبرهان لأن غلبة الكفار في بعض الأقطار ظاهرة . ولقائل أن يقول : إن المسلمين في تلك البلاد وإن قلوا غالبون على الكفار وإن كثروا بدليل أنهم لا يمنعونهم من إظهار شعائر الإسلام والتزام أحكامه ، قوله { هو الذي أرسل } فيه مدح منه تعالى لنفسه من جهة أنه هو القادر على إبداء مثل هذا الأمر العظيم ومن جهة أنه هو الغالب على إيصاله إلى حيث شاء وأراد من غير معاند ولا منازع ، ومن جهة أنه هو المعطي لمثل هذه النعمة التي لا يوازيها نعمة وهي نعمة الهدى والإسلام . وقوله { ولو كره الكافرون } وفي الآية الثانية { ولو كره المشركون } إما متساويا الدلالة تنبيهاً على أن اليهود والنصارى أيضاً مشركون ، وإما تخصيص بعد تعميم ، ولعله رغم لأنف مشركي قريش ثم لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق أراد أن يصفهم بالطمع والحرص فقال { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان } الآية . وفيه تنبيه على أن مقصودهم من إظهار تلك الربوبية والتجبر تحصيل حطام الدنيا . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله . ولعمري أن من تأمل في أحوال أهل الناقوس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم ، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه من الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك ويتحمل الذل والدناءة في تحصيله . وفي قوله { كثيراً } دلالة على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا كلهم ، فإن العالم لا يخلوا عن المحق وإطباق الكل على الباطل وإثبات ذلك كالممتنع ، وهذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك في سائر الأمم . وعبر عن أخذهم أموال الناس بالأكل تسمية للشيء باسم ما هو أعظم مقاصده . وأيضاً من أكل شيئاً فقد ضمه إلى نفسه ومنعه عن الوصول إلى غيره كما لو أخذه ، ولهذا فإن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا قدرة لي على ردّها . وفي تفسير الباطل وجوه : منها أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وفي إخفاء نعت محمد وتأويل الدلائل الدالة على نبوّته . ومنها أنهم كانوا يدّعون عند عوامهم الحمقى أنه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في مرضاتهم ، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب . ومنها أنهم قالوا لا طريق إلى تقوية دينهم إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقوياء عظماء أصحاب الجاه والحشمة والأموال كما يفعله المزوّرون في زماننا هذا .

أما قوله { ويصدّون عن سبيل الله } فمعناه يبالغون في المنع من متابعة محمد كيلا يبطل جاههم وحشمتهم عند العوام لو أقروا بدينه .
ثم قال سبحانه { والذين يكنزون } الكنز هو المال المدفون وقد كنزه يكنزه . والتركيب يدل على الجمع ومنه ناقة كناز مكتنزة اللحم ، واكتنز الشيء اجتمع . قيل : المراد بقوله { والذين يكنزون } الأحبار والرهبان لما وصفهم بالحرص الشديد ، أراد أن يصفهم بالامتناع من إخراج الواجبات عن أموالهم . وقيل : المقصود مانعو الزكاة من المسلمين . ووجه النظم أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والخديعة؟! عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له : ما أنزلك هذه البلاد؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب . وقلت : نزلت فينا وفيهم فصار ذلك سبباً للوحشة . فكتب إلي عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل ، فذكرت ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيت فكنت قريباً . قلت : إني والله لا أدع ما كنت أقول . وعن الأحنف قال : لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه . فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم . فقال : ما عسى يصنع بي قريش . واختلف علماء الصحابة في هذا الكنز المذموم فقال الأكثرون : هو المال الذي لم تؤّد زكاته . عن عمر بن الخطاب : مال أديت زكاته فليس بكنز . وقال ابن عمر : كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض . وقال جابر : إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز . وعن ابن عباس : قوله { ولا ينفقونها في سبيل الله } يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم . قال القاضي : ويندرج فيه سائر الحقوق من الكفارات والديون ونفقة الحج والجهاد والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات . وقال الأقلون : كل مال كثير فهو مذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد . وحجة الأولين قوله تعالى { لها ما كسبت } [ البقرة : 286 ] { ولا يسألكم أموالكم } { محمد : 36 ] وقوله عليه السلام : « كل امرىء أحق بكسبه » « نعم المال الصالح للرجل الصالح ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً » وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من الأغنياء كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكان يعدّهم من أكابر المؤمنين ، وقد ندب إلى إخراج الثلث أو الأقل في المرض ولو كان جمع المال محرماً لكان يأمر المريض أن يتصدق بالكل بل الصحيح في حال صحته .

حجة الأقلين عموم الآية « وما روى سالم بن الجعد أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » تباً للذهب تباً للفضة قالها ثلاثاً « فقالوا له صلى الله عليه وسلم : أي مال نتخذ؟ قال : » لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه « وقوله : » من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها « وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كية . وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال : كيتان . وعن عليّ رضي الله عنه : كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد . ومن المعقول أن الله تعالى خلق الأموال لدفع الحاجات فإذا حصل للمرء منه ما زاد على قدر حاجته ومنع منه الغير كان مانعاً من ظهور حكمة الله ودافعاً لوجوه الإحسان إلى عبيده . وقد رام طائفة من العلماء الجمع بين القولين فقالوا : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأما بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه ويؤدي عنه ما أوجب عليه ثم يعاقبه . وقال أهل التحقيق : النهي عن جمع المال محمول على التقوى لأن تزايد المال لا حد له يقف هنالك فينجز إلى تضييع العمر تارة في تحصيله وأخرى في حفظه ، لأنه كلما ازداد المال ازدادت لذته بذلك فيشتد حرصه ولا ينقطع ألبتة ، وقد يفضي إلى الطغيان والخذلان كقوله تعالى { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] ولو لم يكن في الفقر سوى الانكسار وقلة التعلق وفراغ البال لكفى بها منقبة وفخراً ، وكل ما يلهيك عن الله ولم يكن في سبيل الله فعدمه خير من وجوده . وأما ظاهر الفتوى فهو أن صاحب المال الكثير لا عتب عليه إذا أدّى منه حقوقه . هذا ومن حمل الآية على وعيد مانعي الزكاة في النقود قاس الزكاة في المواشي عليه . وقد ورد أيضاً في الحديث : » ما من صاحب إبل أو بقر أو غنم « وهو مشهور . ولا ريب أن الأصل المعتبر في الأموال هو النقدان ، وسائر الأمتعة إنما تحصيل بهما وتدور عليهما . ولمن أوجب الزكاة في الحلي المباح الاستدلال بالآية لأن الذهب والفضة يشمله ، ومن لم يوجب الزكاة فيه خصص عموم الآية بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : » لا زكاة في الحلي المباح « ولم يصححه أبو عيسى الترمذي . وبتقدير أن يصح حملوه على اللآلىء لقوله تعالى . { وتستخرجون حلية تلبسونها } [ فاطر : 12 ] ولقائل أن يقول : لو حملنا الحلي في الحديث على اللآلىء لم تبق لقيد المباح فائدة .

ثم إنه تعالى ذكر شيئين الذهب والفضة ثم قال { ولا ينفقونها } فقيل : الضمير عائد إلى المعنى وهو الكنوز أو الأموال ، أو لأن كل واحد منهما جملة واحدة وافية وعدة كثيرة ودراهم ودنانير فهو كقوله { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] وقيل : إلى اللفظ أي ولا ينفقون الفضة . وحذف الذهب إما لأنه داخل في الفضة من حيث كونهما جوهرين ثمينين نفيسين مقصودين بالكنز فأغنى ذكر أحدهما عن الآخر كقوله { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } [ النساء : 112 ] وإما لأن التقدير والذهب كذلك كما أن معنى قوله :
فإني وقيار بها لغريب ... وقيار كذلك . ثم قال { فبشرهم بعذاب أليم } تهكماً مثل قولهم : تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم . ولو قيل : البشارة وهي الخبر الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه سواء كان من الفرح أو من الغم كان حقيقة { يوم يحمى عليها } معناه أن النار تحمى عليها أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله { نار حامية } [ القارعة : 11 ] ولو قيل يوم تحمى أي الكنوز كقولك : أحميت الحديد لم يفد هذا المعنى وإنما ذكر الفعل مع أن الإحماء للنار لأنه مسند إلى الجار والمجرور بعد حذف النار كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير . فإن لم تذكر القصة قلت : رفع إلى الأمير . { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } ذكر العلماء في تخصيص هذه الأعضاء بالكي وجوهاً منها . إن حصول الأموال يقصد به فرح القلب يظهر أثره في الوجه وشبع ينتفخ بسببه الجنبان ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فعورضوا بنقيض المقصود . ومنها أن هذه الأعضاء يعظم تألمها لكونها مجوّفة ولما في داخلها من الأعضاء الشريفة . ومنها أنهم يكوون على الجهات الأربع ، أما من قدام فعلى الجبهة ، وأما من خلف فعلى الظهر ، وأما من اليمين واليسار فعلى الجنبين . ومنها أن المراد وقوع الكي على كل الأعضاء لأنها إما في غاية النظافة ومثاله الجبهة ، وإما في غاية الصلابة ومثاله الظهر ، وإما متوسطة ومثاله الجنبان . ومنها أن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة فعورض بإزالتهما . ومنها قول أبي بكر الوراق : خصت بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جنبيه ، وإذا قعد بجنبه تباعد وتجافى عنه وولى ظهره . وأنا أقول : يحتمل أن يراد بالجباه قدام الشخص حيث لم يقدم لنفسه خير ، أو بالظهور جهة الخلف حيث خلف ما أعقبه الحسرات وبالجنوب اليمين والشمال حيث لم يصرف المال في مرضاة الله وأنفقه في معصيته وسخطه وهذا بالتأويل أليق . ثم الذي جعل كياً هو كل ماله أو قدر الزكاة الظاهر أنه الكل لأنه لما لم يخرج منه الحق كان ذلك الجزء شائعاً في كل ماله فناسب أن يعذب بكل الأجزاء ثم قال { هذا ما كنزتم } والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم { لأنفسكم } وفيه توبيخ وإشعار بأنهم عورضوا بنقيض ما قصدوا وأكد ذلك بقوله { فذوقوا ما كنتم تكنزون } ما مصدرية أو موصولة والمعنى اعرفوا وبال كونكم كانزين ، أو ذوقوا وبال المال الذي كنتم تكنزونه .

ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين فقال { إن عدّة الشهور } الآيتان وذلك أنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأوقات بسبب النسيء والكبيسة كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم الله بحسب الهوى فكان ذلك زيادة في كفرهم . واعلم أن المعالم الشرعية كلها منوطة بالشهور القمرية الهلالية لقوله سبحانه { قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] والسنة القمرية . عبارة عن اثني عشر شهراً قمرياً بدليل قوله تعالى { إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن يتعلق قوله { في كتاب الله } بقوله { عدّة الشهور } للفصل بالأجنبي وهو الخبر أعني اثنا عشر . فقوله { في كتاب الله } و { يوم خلق } الثاني بدل من الأول وهو من عند . والتقدير إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض . وفائدة الإبدالات تقدير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله وثابت في عمله في أول ما خلق الله العالم . ويجوز أن يكون { في كتاب الله } صفة أثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله وعلى هذا لا يجوز أن يراد بالكتاب كتاب من الكتب لأن { يوم } متعلق به ولا تتعلق الظروف بأسماء الأعيان . لا يقال : غلامك يوم الجمعة بل الكتاب يكون مصدراً بمعنى المفعول أي فيما أثبته في ذلك اليوم اللهم إلا إذا قدر الكلام هكذا . إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً مكتوباً في كتاب الله يوم خلق . قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ . وقيل : القرآن . { منها أربعة حرم } ثلاثة سرد أي مسرودة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو وجب { ذلك الدين القيم } يعني أن تحريم الأشهر الحرم الدين المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل وقد توارثته العرب منهما ، وكانوا يعظمونها ويحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه تركه { فلا تظلموا فيهن } أي في الأشهر الأربعة { أنفسكم } بأن تجعلوا حرامها حلالاً . عن عطاء قال : تالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرام إلا أن يقاتلوا وما نسخت . وعن الحسن مثله لأنه فسر الدين القيم بأنه الثابت الدائم الذي لا يزول . وعن عطاء الخراساني : أحلت القتال في الأشهر الحرم { براءة من الله ورسوله } وقيل : معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن كما عظم أشهر الحج بقوله

{ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق } [ البقرة : 197 ] والسبب فيه أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة ، وكانت الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتاً مخصوصة . وفيه فائدة أخرى هي أن الإنسان جبل مطبوعاً على الظلم والفساد ، ومنعه من ذلك على الإطلاق شاق عليه فخص بعض الأزمنة والأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما ولا يمتنع عن ذلك . ثم لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه وإن جره ذلك إلى الاستدامة والاستقامة بحسب الإلفة والاعتياد أو لاعتقاده أن الإقدام على ضد ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلي . ولا ريب أن تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء وتطابق الكلمة . وقيل : الضمير في قوله { فيهن } عائد إلى { اثنا عشر } والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مدة عمره ، أو المراد المنع من النسيء على ما يجيء . قال الفراء : الأولى رجوع الضمير إلى الأربعة لقربها ولما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد شرف ، فناسب أن تخص بالمنع من الظلم ، ولأن العرب تختار فيما بين الثلاثة إلى العشرة ضميراً الجماعة ، وفيما جاوز العشرة وهو جمع الكثرة تختار ضمير الوحدة . قال حسان :
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ويقال : لثلاث خلون من شهر كذا ولإحدى عشرة ليلة خلت . ثم قال عز من قائل { وقاتلوا المشركين } وظاهر الآية يدل على إباحة القتال في جميع الأشهر لأن الأمر الوارد عقيب الحرمة يدل على الإباحة . ومعنى { كافة } جميعاً لأنهم إذا اجتمعوا تزاحموا فكف بعضهم بعضاً . ونصبه على المصدر عند بعضهم لأنه مثل العاقبة والعافية . وقال الزجاج : نصبه على الحال . ولا يجوز أن يثنى ويجمع ويعرف باللام كقولك : قاموا معاً وقاموا جميعاً . وفي وجه التشبيه في قوله { كما يقاتلونكم كافة } قولان : فعن ابن عباس : قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم . وقيل : قاتلوهم بأجمعكم غير متفرقين في مقاتلة الأعداء ومقابلتهم . فعلى الأول يكون { كافة } حالاً من المفعول وعلى الثاني يكون حالاً من الفاعل وفي قوله { واعلموا أن الله مع المتقين } حث لهم على التقوى وعلى الجهاد بضمان النصر والمعونة . ثم فسر الظلم المنهى عنه في الآية المتقدمة وأكد النهي عنه بقوله { إنما النسيء } وهو مصدر نسأ إذا أخر كالنذير والنكير . وقال قطرب : أصله الزيادة من قوله : نسأت المرأة إذا حبلت لزيادة الولد فيها . وردّ بأنه يقال لها ذلك فيؤول لتأخر حيضها . وقيل : هو معنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول . واعترض بأن المؤخر هو الشهر المعنى إلى أن الشهر زيادة في الكفر وهذا الحمل غير صحيح . ويمكن أن يجاب بأن المراد أن العمل الذي بسببه يصير الشهر الحرام مؤخراً زيادة في الكفر .

احتج الجبائي ههنا بأن الكفر يقبل الزيادة فكذا الإيمان . وأيضاً أطلق الكفر على هذا العمل فتركه يكون إيماناً فلا يكون الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار . وأجيب بأن الزيادة راجعة إلى الكمال وإنما سمي هذا العمل كفراً لأنه يؤول إلى اعتقاد تحليل ما هو حرام وبالعكس . وفي قوله { يضل به الذين كفروا } بحث مشهور بين المعتزلة وغيرهم أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى بالمجاز أو بالحقيقة وقد مر مراراً . قوله { يحلونه عاماً } الضمير فيه عائد إلى النسيء . قال الواحدي : أي يحلون التأخير عاماً وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا فيه في الشهر الحرام . ويحرّمون التأخير عاماً آخر وهو الذي يتركون فيه الشهر الحرام على تحريمه . قال المفسرون : إنهم كانوا أصحاب حروب وغارات وكان يشق عليهم مكث ثلاثة أشهر متوالية من غير قتل وغارة ، فإذا اتفق لهم في شهر منها أو في المحرم حرب وغارة أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر . قال الواحدي وأكثر العلماء : على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر . ويروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة ، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في قومه وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه . ثم يقوم في القابل فقول : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرّموه . والأكثرون على أنهم كانوا يحرمون من جملة شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله { ليواطئوا عدّة ما حرم الله } أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوا ولم يعلموا أنهم خالفوا ترك القتال ووجوب التخصيص وذلك قوله تعالى { فيحلوا ما حرم الله } أي من القتال وترك الاختصاص . قال أهل اللغة : يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كأن واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه . والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين لفظهما ومعناهما واحد . قال ابن عباس : إنهم ما أحلوا شهراً من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهراً آخر من الحلال ، ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً آخر من الحرام لأجل أن تكون عدة الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى فهذا هو المراد بالمواطأة . وللآية تفسيراً آخر وهو أن يكون المراد بالنسيء كبس بعض السنين القمرية بشهر حتى يلتحق بالسنة الشمسية ، وذلك أن السنة القمرية أعني اثني عشر شهراً قمرياً هي ثلثمائة وأربعة وخمسون يوماً وخمس وسدس من يوم على ما عرف من علم النجوم وعمل الزيجات ، والسنة الشمسية وهي عبارة عن عود الشمس من آية نقطة تفرض من الفلك إليها بحركتها الخاصة ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم إلا كسراً قليلاً ، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بعشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة تقريباً ، وبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى ، وكذا في الربيع والخريف ، فكان يشق الأمر عليهم إذ ربما كان وقت الحج غير موافق لحضور التجار من الأطراف فكان يختل أسباب تجاراتهم ومعايشهم فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة بحيث يقع الحج دائماً عند اعتدال الهواء ، وإدراك الثمار والغلات وذلك بقرب حلول الشمس نقطة الاعتدال الخريفي ، فكبسوا تسع عشر سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى صارت تسع عشرة سنة شمسية فزادوا في السنة الثانية شهراً ثم في الخامسة ثم في السابعة ثم في العاشرة ثم في الثالثة عشرة ثم في السادسة عشرة ثم في الثامنة عشرة ، وذلك ترتيب بهر يحوج عند المنجمين ، وقد تعلموا هذه الصفة من اليهود والنصارى فأنهم يفعلون هكذا لأجل أعيادهم ، فالشهر الزائد هو الكبس وسمي بالنسيء لأنه المؤخر والزائد مؤخر عن مكانه ، وهذا التفسير يطابق ما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع وكان في جملة ما خطب به :

« ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية . وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة لزم العتب عليهم في هذا التفسير لأنهم إذا حكموا على بعض السنين بأنها ثلاثة عشر شهراً كان مخالفاً لحكم الله بأن عدّة الشهور اثنا عشر شهراً أي لا أزيد ولا أنقص وإليه الإشارة بقوله { ذلك الدين القيم } على هذا التفسير . ويلزمهم أيضاً ما لزمهم في التفسير الأول من تغيير الأشهر الحرم عن أماكنها ، فيجوز أن تكون الإشارة إلى المجموع . ومعنى قوله { يحلونه عاماً } أي يحلون النسيء في عام الكبس ويحرمونه عاماً أي في غير سنة الكبس . ومعنى قوله { ليواطؤا عدّة ما حرم الله } ما روي أنه كان يقوم في الموسم منهم خطيب ويقول : أنا أنسىء لكم في هذه السنة شهراً وكذا أفعل في كل سنين أقبلت حتى يأتي حجكم وقت الإدراك فينسىء المحرم ويجعله كبيساً . ثم إنه متى انتهت النوبة إلى الشهر الحرام فتكرر حرم عليهم واحداً برأيه وعلى وفق مصلحتهم ، وأحل الآخر وباقي في الآية قد مر في تفسير مثله مراراً والله تعالى أعلم .
التأويل : { قاتلوا } النفوس { الذين لا يؤمنون بالله } بتعبده { ولا باليوم الآخر } أي لا يعملون للآخرة { ولا يحرمون ما حرم الله } من حب الدنيا فإنها رأس كل خطيئة { وحرم } { رسوله } على نفسه { ولا يدينون دين الحق } أي لا يطلبون الحق { من الذين أوتوا الكتاب } من النفوس الملهمة بالواردات الربانية { حتى يعطوا الجزية } وهي معاملتها على خلاف طبعها { عن يد } عن حكم صاحب قوة وهو الشارع ( وقالت يهود النفس أن عزير ) القلب { ابن الله } وذلك إذا انعكس عن مرآه القلب آثار أنوار الواردات إلى النفس المظلمة فتنورت ، كما أن اليهود لما سمعت التوراة والعلوم التي هم عنها بمعزل من عزير قالوا إنه ابن الله ( وقالت نصارى ) القلوب إن مسيح الروح ابن الله ، وذلك أن الروح ربما يتجلى للقلب في صفة الربوبية والخلافة مقترناً بصفة إبداع الحق وبتشريف إضافة

{ ونفخت فيه من روحي } [ الحجر : 29 ] { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } وهم النفوس الكافرة الذين { اتخذوا أحبارهم } أي قلوبهم { ورهبانهم } أي أرواحهم { أرباباً } والمسيح ابن مريم وهو الخفي وذلك أن الخفي هو أول مظهر للفيض الإلهي الذي منه التربية ثم الروح نظرها إلى أن ترى التربية من القلب ، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى الكل من الحق فإن رؤية ذلك من شأن القلب كقوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] { يريدون } أي النفوس { أن يطفئوا نور الله } الذي رش على الأرواح في بدء الخلق { بأفواههم } أي بأفواه استيفاء الشهوات واللذات الجسمانيات { هو الذي أرسل رسوله } وهو النور المرشش بالهداية إلى الله وطلب الحق { ليظهره } في طلب الحق على طلب غيره { إن كثيراً } من أحبار القلوب ورهبان الأرواح { ليأكلون } أي يتمتعون بحظوظ النفس وهواها { والذين يكنزون الذهب والفضة } حرصاً وطمعاً في الاستمتاع بحظوظ النفوس { ولا ينفقونها في سبيل الله } ليقطعوا مسافة البعد عن الله بقدمى تلك الدنيا وقمع الهوى { يحمى عليها في نار جهنم } الحرص { فتكوى بها } جباه القلوب والأرواح لأنهم امتنعوا بذلك عن التوجه إلى الحق { وجنوبهم } حيث لا تتجافى جنوبهم عن مضاجع المكونات { وظهورهم } حيث لم يقضوا حق التواضع والخشوع فيقال لهم { هذا } الذي أصابكم من ألم الحرمان وعذاب القطيعة بسبب { ما كنزتم } { فذوقوا } الآن ألم كي نار الحرص لأنكم لم تذوقوه في الدنيا حيث كنتم في منام الغفلة { منها أربعة حرم } فيه إشارة إلى أن الطالب المضطر إلى تحصيل قوت نفسه وعياله يجب أن يجعل أوقات عمره أثلاثاً : ثلثاً لطلب المعاش وترتيب مصالح الدنيا ، وثلثاً للطاعات التي ينتفع بها في الآخرة ، وثلثاً من ذلك حرام أن يقع في خاطره غير المولى . ومن استغنى عن الموانع فيحرم عليه صرف لحظة في غير طلب الحق وإلى هذا المعنى أشار بقوله { ذلك الدين القيم } وفيه تنبيه على أن من لم يكن هكذا كان في سلوكه اعوجاج . ثم ذكر أن من شأن النفوس المشركة أنها إن أقبلت على طاعة أخرتها عن وقتها وهو النسيء الموجب لازدياد كفرها لأنها قد خالفت الشرع من حيث تركها الطاعة باختيارها ، ومن حيث إنها اعتقدت أن ذلك التأخير مما لا بأس به .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)

القراآت : { وكلمة الله } بالنصب : يعقوب . الباقون : بالرفع .
الوقوف : { إلى الأرض } ط { من الآخرة } ط { قليل } ه { شيئا } ط { قدير } ه { معنا } ج لعطف { أنزل } على { نصره } مع عوارض الظروف . { السفلى } ط إلا لمن قرأ { وكلمة } بالنصب { العليا } ط { حكيم } ه { في سبيل الله } ط { تعلمون } ه { الشقة } ط { معكم } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال . { أنفسهم } ج لواو الابتداء والحال . { لكاذبون } ه { عنك } ج لحق الاستفهام مع اتصال الكلام معنى . { الكاذبين } ه { وأنفسهم } ط { بالمتقين } ه { يتردّدون } ه { القاعدين } ه { الفتنة } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { لهم } ط { بالظالمين } { كارهون } ه { ولا تفتني } ط { سقطوا } ط { بالكافرين } ه .
التفسير : لما شرح الله معايب هؤلاء الكفار عاد إلى الترغيب في قتالهم . عن ابن عباس أنها نزلت في غزوة تبوك سنة عشر؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أقام بالمدينة أياماً فأمر بجهاد الروم فاستثقله الناس لكون الزمان زمان صيف وللقحط ولبعد المسافة ولمزيد احتياج إلاستعداد ولشدة الحر وللخوف من عسكر الروم ولوجود أسباب الرفاهية بالمدينة لكون الوقت وقت إدراك الثمار وحصول الغلات . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة . أصل النفر الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير . وأصل { أثاقلتم } تثاقلتم كما قلنا في { فادّارأتم } [ البقرة : 72 ] ومعناه تبأطاتم . وإنما عدّي بإلى لتضمين معنى الميل والإخلاد كقوله { أخلد إلى الأرض } [ الأعراف : 176 ] أي مال إلى الدنيا وشهواتها . وقيل : المراد لتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها . ومعنى الاستفهام في { مالكم } الإنكار . وقرىء { أثاقلتم } على الاستفهام للإنكار أيضاً فيكون جواب « إذا » فعلاً آخر مدلولاً عليه بأثاقلتم كنحو ملتم ، وذلك أن جواب « إذا » عامل في « إذا » ، والاستفهام لا يعمل فيما قبله . ويجوز على هذه أن يكون « إذا » لمجرد الظرفية والعامل فيه ما في { مالكم } من معنى الفعل كأنه قيل : ما تصنعون إذا قيل لكم و « من » في { من الآخرة } للبدل كقوله { لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } كأنه قيل : قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وبينا أنواع فضائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم ، ولو لم يكن فيه إلا طاعة المعبود المستلزمة لثواب الآخرة لكفى به باعثاً . { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة } أي في جنبها وفي مقابلها . { إلا قليل } ويجوز أن يراد بالقلة العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي . والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من جميع المخاطبين لاستحالة إطباق هذه الأمة على المعصية والضلالة إلا أنه طالما أعطى للأكثر حكم الكل وأطلق لفظ الكل على الإغلب ، ثم لما رغبهم في الجهاد بعرض الثواب عليهم رغبتهم فيه بعرض العقاب فقال { إلا تنفروا } ورتب عليه ثلاث خصال : الأولى قوله { يعذبكم عذاباً أليماً } قيل : هو عذاب الدنيا .

عن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر . وقال الحسن : الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم . وقيل : هو عذاب الآخرة فإن الأليم لا يليق إلا به . وقيل : إنه تهديد بالعذاب المطلق الشامل للدارين . الثانية قوله { ويستبدل قوماً غيركم } يعني قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع . قيل : هم أهل اليمن . عن أبي روق . وقيل : أبناء فارس عن سعيد بن جبير . وقيل : يحتمل أن يراد بهم الملائكة . وقال الأصم : معناه أنه يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة والأصح إبقاء الآية على الإطلاق . الثالثة قوله { ولا تضروه شيئاً } قال الحسن : الضمير لله وفيه أنه غني عنهم في نصرة دنيه بل في كل شيء . وقال آخرون . الضمير للرسول لأن الله وعده أن يعصمه ووعد الله كائن لا محالة . وفي قوله { والله على كل شيء قدير } تنبيه على أنه قادر على نصرة رسوله بأي وجه أراد ، وقادر على إيقاع العذاب بكل من يخالف أمره كائناً من كان . عن الحسن وعكرمة أن الآية منسوخة بقوله { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : 122 ] والصحيح أنها خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا فلا نسخ . قال الجبائي : في الآية دلالة على إبطال مذهب المرجئة من أن أهل القبلة لا وعيد لهم . وقال القاضي : فيها دلالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أولا لقوله تعالى { مالكم إذا قيل لكم } ولم ينص على أن القائل هو الرسول . ومن قال إن الضمير في قوله { لا يضروه } عائد إلى الرسول فجوابه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها . ثم رغبهم في الجهاد بطريق آخر فقال { إلا تنصروه فقد نصره الله } وهذا كالتفسير لما تقدم . والمعنى إن لم تشتغلوا بنصره فإن الله سينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد . وفيه أنه لما أوجب له النصرة وقتئذّ فلن يخذله بعد ذلك . وقوله { إذ أخرجه الذين كفروا } أي ألجؤه إلى أن خرج ظرف لنصره ، و { ثاني اثنين } نصب على الحال ومعناه أحد اثنين لأنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما ثانٍ للآخر وواحد منهما . وقوله { إذ هما في الغار } بدل من إذ أخرجه و { إذ يقول } بدل ثان والغار نقب عظيم في الجيل والمراد به ههنا نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة .

واعلم أنا قد ذكرنا في سورة الأنفال أن قريشاً ومن بمكة تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [ الأنفال : 30 ] فأمره الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر الصديق إلى الغار . فخرج وأمر علياً أن يضطجع على فراشه فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر يلتمس ما في الغار فقال له الرسول : مالك؟ فقال : بأبي أنت وأمي ، الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك ، فخرق عمامته وسد الحجرة وبقي حجر واحد فوضع عقبه عليه كيلا يخرج منه ما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم . فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام : { لا تحزن أن الله معنا } وقيل : طلع المشركون فوق الغار فاشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال صلى الله عليه وسلم : ما ظنك باثنين الله ثالثهما! وقيل : لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله ، والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أعم أبصارهم . فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون له قد أخذ الله أبصارهم عنه . استدل أهل السنة بالآية على أفضلية أبي بكر وغاية اتحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره وإلا لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة ، وأنه كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وفي العلم لقوله « ما صب في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر » وفي الدعوة إلى الله لأنه صلى الله عليه وسلم عرض الإيمان أولاً على أبي بكر فآمن ، ثم عرض أبو بكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة أخرى من أجلة الصحابة ، وكان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجالس والمحافل ، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة ، ولما توفي دفن بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ثاني اثنين من أول أمره إلى آخره ، ولو قدرنا أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره ولا يكون وصيه إلا أبو بكر . وأن لا يبلغ ما حدث في ذلك الطريق من الوحي والتنزيل إلا أبو بكر . وقوله { لا تحزن } نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يقتضي الدوام والتكرار فهو لا يحزن قبل الموت وعنده وبعده . ولا شك أن من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } [ النحل : 128 ] قال الحسين بن فضيل : من أنكر صحبة غير أبي بكر من الصحابة فإنه يكون كذاباً مبتدعاً ، ومن أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكون كافراً لأنه خالف قول الله تعالى { إذ يقول لصاحبه } أجابت الشيعة بأن كونه ثاني اثنين ليس أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله

{ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة : 7 ] وهذا عام في حق كل كافر ومؤمن . وكون المصاحبة موجبة للتشريف معارض بقوله تعالى للكافر { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك } [ الكهف : 37 ] وكما احتمل أن يقال إنه عليه السلام استخلصه لنفسه في هذا السفر لأجل الثقة ، احتمل أن يكون ذلك لأجل إنه خاف أن يدل الكفار عليه أو يوقفهم على أسراره لو تركه . ثم إن حزنه لو كان حقاً لم ينه عنه فهو ذنب وخطأ . سلمنا دلالة الآية على فضل أبي بكر إلا أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراشه أعظم من ذلك فيه من خطر النفس . أجاب أهل السنة بأن كون الله رابعاً لكل ثلاثة أمر مشترك ، وكونه ثاني اثنين تشريف زائد اختص الله أبا بكر به على أن المعية هنالك بالعمل والتدبير وههنا بالصحبة والمرافقة ، فأين إحداهما من الأخرى؟! والصحبة في قوله { قال له صاحبه } مقرونة بما تقتضي الإهانة والإذلال وهو قوله { أكفرت } وفي الآية مقرونة بما يوجب التعظيم والإجلال وهو قوله { ولا تحزن إن الله معنا } قالوا : والعجب أن الشيعة إذا حلفوا قالوا : وحق خمسة سادسهم جبريل . واستنكروا أن يقال : وحق اثنين الله ثالثهما . والاحتمال الذي ذكروه مدفوع بما روي أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة للرسول وأن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام مدة مكثهما في الغار وذلك ثلاثة أيام وقيل بضعة عشر يوماً . وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وهو جائع فقال؛ هذه أسماء قد أتتك بحيسة ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به أبا بكر ، ولو كان أبو بكر قاصداً له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار ، ولقال ابنه وابنته نحن نعرف مكان محمد . وكون حزنه معصية معارض بقوله تعالى لموسى { لا تخف إنك أنت الأعلى } [ طه : 68 ] وقول الملائكة لإبراهيم { لا تخف وبشروه } [ الذاريات : 28 ] ثم إنا لا ننكر أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراش الرسول طاعة وفضيلة إلا أن صحبة أبي بكر أعظم لأن الحاضر أعلى حالاً من الغائب ، ولأن علياً رضي الله عنه ما تحمل المحنة إلا ليلة وأبو بكر مكث في الغار أياماً ، وإنما اختار علياً للنوم على فراشه لأنه كان صغيراً لم يظهر عنه بعد دعوة بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان بخلاف أبي بكر فإنه قد دعا حينئذ جماعة إلى الدين وكان يذب عن الرسول بالنفس والمال ، فكان غضب الكفار على أبي بكر أشد من غضبهم على عليّ رضي الله عنه ولهذا لم يقصدوا علياً بضرب ولا ألم لما عرفوا أن المضطجع هو .

ثم زعم أهل السنة أن الضمير في قوله { فأنزل الله سكينته عليه } عائد إلى أبي بكر لا إلى الرسول لأنه أقرب المذكورين فإن التقدير : إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر ولأن الخوف كان حاصلاً لأبي بكر والرسول كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله من النصر ، ولو كان خائفاً لم يمكنه إزالة الخوف عن غيره بقوله { لا تحزن } ولناسب أن يقال : فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه لا تحزن . واعترض بأن قوله { وأيده } عطف على { فأنزل } فواجب أن يتحد الضميران في حكم العود . وأجيب بأن قوله { وأيده } معطوف على قوله { فقد نصره } والتقدير : إلا تنصروه فقد نصره في واقعة الغار وأيده في واقعة بدر والأحزاب وحنين بالملائكة ، والظاهر أن الحزن لا يبعد أن يكون شاملاً للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من حيث البشرية كقوله { وزلزلوا } [ البقرة : 214 ] ويكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : فأنزل الله سكينته عليه إذ يقول ، أو يكون { فأنزل } معطوفاً على نصره . والمراد بالسكينة ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها قلبه وعلم أنه منصور لا محالة كقوله في قصة حنين { ثم أنزل الله سكينته على رسوله } [ التوبة : 26 ] وقوله { وجعل } يعني يوم بدر وسائر الوقائع { كلمة الذين كفروا } وهي دعوتهم إلى الكفر وعبادة الأصنام { السفلى وكلمة الله } وهي دعوته إلى الإسلام أو كلمة التوحيد لا إله إلا الله { هي العليا } وفي توسيط كلمة الفصل - أعني هي - تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة بالعلاء دون سائر الكلم . قال الفراء : لا أحب قراءة نصب الكلمة لأن الأجود حينئذ أن يقال : وكلمته هي العليا . ألا ترى أنك تقول : أعتق أبوك غلامه ولا تقول أعتق أبوك غلام أبيك؟ قلت : وفي الرفع أيضاً الاستئناف وما في الجملة الاسمية من الثبات { والله عزيز حكيم } قاهر غالب لا فعل له إلا الصواب .
ثم لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصف عقبه بالأمر الجزم فقال { انفروا خفافاً وثقالاً } قال المفسرون : أي خفافاً في النفور لنشاطكم وثقالاً عنه لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتهم ، أو خفافاً من السلام وثقالاً منه ، أو ركباناً ومشاة ، أو شباناً وشيوخاً ، أو مهازيل وسماناً ، أو صحاحاً ، ومراضاً ، والصحيح التعميم ، وأن المراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد معها أو على ضدها . قال الأكثرون : ظاهر هذا الأمر يقتضي تناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ويؤيده ما روي عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعليّ أن أنفر؟ قال : ما أنت إلا خفيف أو ثقيل فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله

{ ليس على الأعمى حرج } [ النور : 61 ] وقال مجاهد : إن إبا أيوب شهد بدراً مع الرسول الله ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول : قال الله { انفروا خفافاً وثقالاً } فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً . وعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك . فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً إلا أنه من يحبه الله يبتليه . وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل : إنك عليل صاحب ضرر . فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم تمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع . وعن أنس قال : قرأ أبو طلحة هذه الآية فقال : ما أسمع الله عذر أحداً فخرج مجاهداً إلى الشأم حتى مات . وقال السدي : جاء المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عظيماً سميناً وشكا إليه وسأله أن يأذن له فنزل فيه { انفروا خفافاً وثقالاً } فاشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } [ التوبة : 91 ] الآية؟ وقيل : لا حاجة إلى التزام النسخ لأن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك بالاتفاق ، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم خلف من النساء والرجال أقواماً فذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ولكنه من فروض الكفايات . فمن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخرج لزمه ذلك ومن أمره أن يبقى لزمه أن يبقى . ولقائل أن يقول : لا نزاع في هذا إنما النزاع في الضعفاء والمرضى . ثم قال { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } وفي إيجاب للجهاد بهما إن أمكن ، أو بالنفس إن لم يكن مال زائد على أسباب الجهاد ، أو بالمال بأن يستنيب من يغزو وعنه إن لم تكن له نفس سليمة صالحة للجهاد وهذا قول كثير من العلماء . { ذلكم خير لكم } يعني أنه خير في نفسه أو أنه خير من القعود لما فيه من الراحة والدعة والنعيم العاجل . وإنما قال { إن كنتم تعلمون } لأن ما يحصل من الخيرات في الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن وعد الله حق . ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين { لو كان عرضاً قريباً } قال الزجاج : أي لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه . والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومنه قولهم : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، والمراد بالقرب سهولة مأخذه { وسفراً قاصداً } أي وسطاً بين القرب والبعد وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد أي ذو قصد لأن كل أحد يقصده .

والشقة المسافة الشاقة الشاطة ، ووصف المسافة البعيدة بالبعد مبالغة نحو جد جدّة . وفحوى الكلام لو كانت المنافع قريبة الحصول والسفر وسطاً { لاتبعوك } طمعاً في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة . ثم أخبر أنه سيجدهم إذا رجع من الجهاد يحلفون بالله إما ابتداء على طريق إقامة العذر وإما عندما يعاتبهم بسبب التخلف وقد وقع كما أخبر فكان معجزاً . و { بالله } متعلق ب { سيحلفون } أو هو من جملة كلام المتخلفين والقول مقدر في الوجهين أي سيحلفون بالله قائلين { لو استطعنا } وقوله { لخرجنا } سادّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعاً . قيل : في الآية دلالة على أن قوله { انفروا } خطاب للمستطيعين وإلا لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف . قال الجبائي : فيها دليل على أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لما كذبهم الله تعالى ، فإن لم من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعاً للقتال عند من يجعل الاستطاعة مع الفعل . وقال الكعبي : زائداً عليه فإن قيل : لم لا يجوز أن يراد أنهم ما كان لهم زاد ولا راحلة ولا يراد نفس القدرة؟ قلنا إن من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا قدرة له أولى . وأيضاً الظاهر من الاستطاعة قوة البدن وإذا أريد به المال فلأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن . وأجيب بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل إلا بوقت واحد فإن الإنسان الجالس في مكان لا يكون قادراً في هذا الزمان على أن يفعل فعلاً في مكان بعيد عنه وإنما يقدر على فعله في المكان الملاصق لمكانه . فالقوم الذين تخلفوا ما كانوا قادرين على القتال عندنا وعندهم فيلزمهم ما ألزموه علينا فوجب المصير إلى تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فيسقط السؤال . ولقائل أن يقول : إنهم وإن كانوا غير قادرين على القتال إلا أنهم كانوا قادرين على الاشتغال بأسباب القتال فيعود السؤال . قال في الكشاف { يهلكون } بدل من { سيحلفون } أو حال أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب ، أو حال من ضمير { خرجنا } أي لخرجنا معكم وإن ألقينا أنفسنا في التهلكة . وإنما جاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم . حلف بالله ليفعلن أو لأفعلن فالغيبة على الإخبار والتكلم على الحكاية . قلت : وفي الوجه الأخير نظر للزوم بناء أول الكلام على التكلم وآخره على الغيبة ، ولعل الصحيح حينئذ أن لو قيل : لخرجنا معكم نهلك أنفسنا والله تعالى أعلم .
ثم بين أن ذلك التخلف من بعضهم كان بإذن الرسول ولهذا توجه عليه العتاب بقوله { عفا الله عنك } فإن العفو يستدعي سابقة الذنب . وبقوله { لم أذنت لهم } فإنه استفهام في معنى الإنكار وبيان لما كنى عنه بالعفو . قال قتادة وعمرو بن ميمون : شيئان فعلهما الرسول لم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى .

فعاتبه الله بطريق الملاطفة كما تسمعون . والذي عليه المحققون أنه محمول على ترك الأولى . وقوله { عفا الله عنك } إنما جاء على عادة العرب في التعظيم والتوقير فيقدمون أمثال ذلك بين يدي الكلام يقولون : عفا الله عنك ما صنعت في أمري ، رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي ، وعافاك الله ألا عرفت حقي . وبعد حصول العفو من الله تعالى يستحيل أن يكون قوله { لم أذنت لهم } وارداً على سبيل الذم والإنكار بل يحمل على ترك الأكمل والأولى لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا . قال كثير من العلماء : في الآية دلالة على جواز الاجتهاد لأنه عليه السلام أذن لهم من تلقاء نفسه من غير أن يكون من الله في ذلك إذن وإلا لم يعاتب أو منع وإلا كان عاصياً بل كافراً لقوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله } [ المائدة : 47 ] ولا ريب أنه لا يكون بمجرد التشهي فيكون بالاجتهاد ثم إنه لم يمنع من الاجتهاد مطلقاً وإنما منع إلى غاية هي قوله { حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } ولا يمكن أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي وإلا كان ترك ذلك كبيرة فتعين أن يحمل التبين على استعلام الحال بطريق الاجتهاد ليكون الخطأ واقعاً في الاجتهاد لا في النص ويدخل تحت قوله « ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد » وفي الآية دلالة على وجوب الاحتراز عن العجلة وترك الاغترار بظواهر الأمور . قال قتادة . عاتبه الله كما تسمعون ثم رخص له في سورة النور في قوله { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } [ الآية : 62 ] . قال أبو مسلم : يحتمل أن يريد بقوله { لم أذنت لهم } الإذن في الخروج لا في القعود ، فقد يكون الخروج غير صواب لكونهم عيناً للمنافقين على المسلمين ، وإذا كان هذا محتملاً فلا تتعين الآية لرخصة الإذن في القعود . وقال القاضي : هذا بعيد لأن سياق الآية يدل على أن الكلام في القاعدين وفي بيان حالهم .
ثم ذكر أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا لأن الاستئذان من علامات النفاق فقال { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا } أي في أن يجاهدوا ، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد وكانوا بحيث لو أمرهم بالقعود شق عليهم ذلك . ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمره الرسول صلىلله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم « أنت مني بمنزلة هارون من موسى » وقيل : إن حرف النفي مضمر كإضمار الجار والتقدير في أن لا يجاهد والآن سياق الآية يدل على ذم من يستأذن في القعود .

وعلى هذا يمكن أن يقال : معناه كراهة أن يجاهدوا وفي قوله { والله عليم بالمتقين } رمز إلى أنهم من جملة المتقين وأن لهم ثوابهم . ثم بين الذين من شأنهم الاستئذان فقال { إنما يستأذنك } الآية . وفيه أن الشاك في أمر الدين وفي أصوله لا في بعض مسائلة غير مؤمن بالله تعالى ، وفيه أن محل الريب واليقين هو القلب وأن الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان وإلا لم يصح نفيه عن المنافقين . ومعنى قوله { فهم في ريبهم يترددون } أن الشاك متردد بين النفي والإثبات غير حاكم بأحد الطرفين . وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازماً أولاً ، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً فإما بضرورة أو نظر فهو العلم أولاً وهو اعتقاد المقلد . وغير الجازم إن كان أحد الطرفين راجحاً عنده فالراجع هو الظن والمرجوح هو الوهم ، وإن تساوى الطرفان فهو الريب والشك فلهذا كانت الحيرة والتردد من شأن صاحبه كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر . قال المفسرون : إن المستأذنين هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً . ثم نعى على المنافقين سوء فعالهم فقال { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } قال ابن عباس : يريد من الماء والزاد والراحلة لأن سفرهم بعيد والزمان شديد ، فتركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف . قال العلماء : وفيه إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدّة . { ولكن كره الله انبعاثهم } أي انطلاقهم { فثبطهم } والتثبيط رد الإنسان عن الفعل الذي هم به . ومعنى الاستدراك أن قوله { ولو أرادوا الخروج } يعطي معنى نفي الخروج وكأنه قيل : ما خرجوا ولكن تنبطوا لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك كما تقول : ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ . ومثل هذا يسمى في علم البديع صنعة الاستدراك . وقد يقال : تأكيد الذم بما يشبه المدح . ولو قيل مثل هذا في المنع لقيل تأكيد المدح بما يشبه الذم . وههنا سؤال وهو أن خروجهم مع الرسول إن كان مفسدة فلم عاتب الله رسوله في إذنه لهم بالقعود ، وإن كان مصلحة فلم كره الله انبعاثهم؟ والجواب أنه كان مفسدة لقوله عقيب ذلك { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } وحديث العتاب ظاهر عند من لا يجوز الاجتهاد على الأنبياء لتمكنهم من استعلام الصواب بطريق الوحي ، وكذا على قول أبي مسلم . ومما يوهم أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في الخروج قوله تعالى في هذه السورة { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً } [ التوبة : 83 ] وقوله في سورة الفتح { سيقول لك المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم } [ الفتح : 15 ] إلى قوله { قل لن تتبعونا } [ الفتح : 15 ] وأما عندنا فإنما لم يستحسن الله من الرسول صلى الله عليه وسلم إذنه لهم بالقعود وإن كان قعودهم مصلحة لأنه أذن لهم قبل إتمام التفحص وإكمال التدبر ولأنه لو لم يأذن لهم فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم فكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ولا تبقى حاجة إلى إظهار نفاقهم بوجوه أخر دالة على هتك أستارهم وكشف أسرارهم .

===================

ج16. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


قال معتزلة البصرة : في الآية دلالة على أنه تعالى موصوف بصفة الكراهة كما أنه موصوف بصفة الإرادة . قالت الأشاعرة : معنى كره الله أنه أراد عدم ذلك الشيء . وزيف بأن العدم يا يصلح أن يكون متعلق الإرادة لأن العدم مستمر فتعلق الإرادة به يكون تحصيلاً للحاصل . ويمكن أن يجاب بأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر سواء في ذلك طرف الوجود وطرف العدم ، وطرف العدم غير حاصل إلا بإرادة العدم فكيف يكون تعلق الإرادة به تحصيلاً للحاصل؟ وأيضاً عدم الشيء المخصوص ليس عدماً محضاً . أما قوله { وقيل اقعدوا } فيحتمل أن يكون قد جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود ، ويحتمل أن يراد به قول الشيطان بطريق الوسوسة ، أو قول بعضهم لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف ، أو هو قول الرسول كأنه غضب عليهم حين استأذنوه فقال على سبيل الزجر { اقعدوا مع القاعدين } فاغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فلهذا عوتب بقوله { لم أذنت لهم } أي لم ذكرت هذه اللفظة التي أمكنهم أن يتوسلوا بها إلى تحصيل غرضهم . ومعنى قوله { مع القاعدين } ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم الجثوم في البيوت . { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } قال المفسرون : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره على ذي حدة - أسفل من ثنية الوداع - ولم يكن بأقل العسكرين ، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله يعزي نبيه { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } فيكون استثناء متصلاً من أعم العام ، وحمله على الاستثناء المنقطع بناء على أن التقدير ما زادوكم خيراً إلا خبالاً ضعيف . والخبال في اللغة الفساد ومنه المخبل للمعتوه ، وللمفسرين عبارات؛ قال الكلبي : إلا شراً . وقال سلمان إلا مكراً . وقال الضحاك : إلا غدراً . وقيل : إلا خبثاً . وقيل : هو الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين حتى يختلفوا وتتفرق كلمتهم . قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه كره انبعاثهم لاشتماله على هذا الخبال والشر . وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إلا الخير والصلاح . ولقائل : أن يقول إثبات حكم كلي بحكم جزئي غير معقول . واعلم أنه سبحانه عد من مفاسد خروجهم ثلاثة : الأول : قوله { ما زادوكم إلا خبالاً } الثاني : { ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } قال في الكشاف : زيد ألف في الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً أخرى ونحوه

{ أو لأذبحنه } [ الآية : 21 ] في النمل { ولا أتوها } [ الآية : 14 ] في الأحزاب ، ولا رابع لها في القرآن . وفي الإيضاع قولان لأهل اللغة؛ فقال أكثرهم : هو متعد يقال : وضع البعير إذا عدا ، وأوضعه الراكب إذا حمله على العدو . وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير : ولأوضعوا ركائبهم . وقال الأخفش وأبو عبيد : إنه جاء لازماً ويقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً . ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر أي أسرع . قال الواحدي : والآية تشهد للأخفش وأبي عبيد . وعلى القولين المراد في الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنميمة والمبالغة في الأول أكثر لأن الراكب أسرع من الماشي . ومعنى { خلالكم } أي فيما بينكم . والخلل الفرجة فيما بين الشيئين . و { يبغونكم الفتنة } أي يبغون لكم . قال الأصمعي : يقال ابغني كذا وابغ لي أي اطلبه لأجلي . ومعنى الفتنة هنا افتراق الكلمة والتشويش في المقاصد فعند ذلك يحصل الانهزام أسرع ما يكون . فالحاصل من النوع الأول اختلاف الآراء ، ومن الثاني المشي بالنميمة لتسهيل ذلك الغرض . وأما النوع الثالث فذلك قوله { وفيكم سماعون لهم } قال مجاهد وابن زيد : أي عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم . وقال قتادة : فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم وإذا تعاضد الفاعل والقابل وقع الأثر على أكمل الوجوه لا محالة . واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟ وأجيب بأن ذلك إنما يقع لمن قرب عهده بالإسلام أو لمن جبل على الجبن والفشل أو لمن حسن ظنه ببعض المنافقين لقرابة أو هيبة ، وقلما يخلو الأقوياء من ضعيف سخيف أو أهل الحق من مبطل منافق ولهذا ختم الآية بقوله { والله عليم بالظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم وغيرهم بإلقاء الفتنة فيما بينهم .
ثم سلى نبيه بتوهين كيد أهل النفاق قديماً وحديثاً فقال { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } أي من قبل وقعة توبك . قال ابن جريج : هو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه . ومعنى الفتنة السعي في تشتيت شمل المسلمين والاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة فسلمهم الله منه { وقلبوا لك الأمور } حرفوها ودبروا كل الحيل والمكايد .

ومنه فلان حوّل قلب إذا كان دائراً حول مصايد المكايد { حتى جاء الحق } الذي هو القرآن { وظهر أمر الله } غلب دينه وشرعه { وهم كارهون } رد الله مكرهم في نحرهم وأتى بضد مقصودهم . ولما كان الأمر كذلك في الماضي فكذا يكون الحال في المستقبل لقوله { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } [ التوبة : 32 ] { ومنهم من يقول ائذن لي } في القعود { ولا تفتني } ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت . واحتمل أن يكون قد ذكره على سبيل السخرية أو على سبيل الجد بأن كان يغلب على ظن ذلك المنافق صدق محمد وإن كان غير جازم به بعد . وقيل : لا تفتني أي لا تلقني في التهلكة فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : قال الجد بن قيس؛ قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ، ولكني أعينك بما لي فاتركني ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : قد أذنت لك فنزلت الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد منهم - من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا : جد بن قيس غير أنه بخيل جبان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد الشعر البراء ابن معرور . { ألا في الفتنة سقطوا } أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة النفاق والتمرد عن قبول التكليف المستتبع لشقاء الدارين ولهذا ختم الآية بقوله { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } أما في الدنيا فلإحاطة أسبابها بهم من النعي عليهم بالنفاق وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وتحقير المقدار ، وأما في الآخرة فلمآل حالهم إلى الدرك الأسفل من النار .
التأويل : أيها الأرواح والقلوب المؤمنة ما مصيبتكم وبلواكم إذ قيل لكم بالإلهام الرباني اخرجوا من الدنيا وما فيها في طلب والسير إليه ، أثاقلتم إلى أرض الدنيا وشهواتها . { إلا تنفروا } من سجن الدنيا وقيود شهواتها { يعذبكم عذاباً أليماً } باستيلاء ظلمات الصفات النفسانية وغلبات الأوصاف السبعية والشيطانية وبألم البعد عن الحضرة الربانية { ويستبدل قوماً غيركم } من الأرواح والقلوب العاشقة الصادقة بل من العقول الكاملة المفارقة { إلا تنصروه } والرسول الوارد الرباني { فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا } أي النفوس الأمارة الكافرة من أرض القبول . { ثاني اثنين } ثاني النفس الملهمة { إذ هما في } غار العدم . { وكلمة الله هي العليا } بجعل النفس المطمئنة بجذبة { ارجعي } { الفجر : 28 ] واصلة إلى مقام العنديه { انفروا } أيها الطلاب { خفافاً } مجردين من علائق الأهل والأولاد والأموال { وثقالاً } متلبسين بها ، أو { خفافاً } مجذوبين بالعناية { وثقالاً } سالكين بالهداية { وجاهدوا } بقدمي بذل الأموال والأنفس . وقدّم إنفاق المال لأن بذل النفس مع بقاء صفاتها الذميمة غير معتبر ، ومن صفاتها الذميمة الحرص على الدنيا والبخل بها ذلكم خير لكم لأن الحصل من المال ومن النفس الوزر والوبال .

والحاصل من الطلب الوصول والوصال { لو كان } مطلوبك يا محمد { عرضاً قريباً } هو الدنيا ونعيمها { وسفراً قاصداً } هو تتبع شهوات النفس وهواها { لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة } لأنها الخروج من الدنيا والعقبى . { وسيحلفون } يعني أرباب النفوس { لخرجنا معكم } يا أهل القلوب . { عفا الله عنك } قدم العفو على العتاب تحقيقاً لقوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } { الفتح : 2 ] { فهم في ريبهم يترددون } بين أوصافهم الذميمة النفسانية والحيوانية بلا داعية لخروج إلى الأنوار الروحانية { لأعدوا له عدة } وهي متابعة الأنبياء { فثبطهم } حبسهم في سجن البشرية { ما زادوكم إلاَّ خبالاً } فيه إشارة إلى أن قعود أهل الطبيعة في حبس البشرية صلاح لأرباب القلوب وأصحاب السلوك لأنهم لو خرجوا لا عن نية صادقة وعزيمة صالحة ما زادوهم إلا تشويشاً وتفرقة لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم . { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } يعني أن صفات النفس قبل البلوغ كانت تستخدم الروح في شهواتها { حتى جاء الحق } وهو العقل القابل لأوامر الشرع { وظهر أمر الله } وهو التكليف { ومنهم } أي من صفات النفس { من يقول } وهو الهوى { ائذن لي } في القعود عن الارتقاء في مدارج المعارف والمشارع { ولا تفتني } يا روح بتكليفي ما ليس من شأني . وذلك أن الهوى مركب المحبة تستعمله الروح في تصاعده إلى ذروة الكمال والوصال . { ألا في الفتنة سقطوا } أي إن فتنة الهبوط هي الفتنة بالحقيقة { وإن جهنم } البعد والقطيعة من لوازم كفار النفس وصفاتها أعاذنا الله منها .


إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

القراآت : { هل تربِّصون } بإظهار اللام وتشديد التاء : البزي وابن فليح ، وقرأه حمزة وعلي وهشام مدغماً حتى لا يجتمع ساكنان . الباقون : بإظهار اللام وتخفيف التاء { أن تقبل } بالياء التحتانية : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالفوقانية { مدخلاً } بضم الميم وسكون الدال : سهل ويعقوب . الباقون : بالدال المشددة المتفوحة . { يلمزك } بضم الميم : سهل ويعقوب . الآخرون : بكسرها سوى عباس فإنه مخير .
الوقوف : { تسؤهم } ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف { فرحون } ه { لنا } ج للابتداء لفظاً مع الاتحاد معنى { هو مولانا } ط لابتداء إخبار من الله أو الحكاية عنهم . { المؤمنون } ه { الحسنيين } ط للاستئناف بعد تمام الاستفهام { بأيدينا } ط والوصل أصح لأن الفاء جواب { نتربص } { متربصون } ه { منكم } ط . { فاسقين } ه { كارهون } ه { ولا أولادهم } ط { كافرون } ه { لمنكم } ط { يفرقون } ه { يجمحون } ه { في الصدقات } ط للشرط مع الفاء { يسخطون } ه { ورسوله } لا إلى قوله { راغبون } لأن الكل يتعلق ب « لو » وجواب « لو » بعد التمام محذوف أي لكان خيراً لهم .
التفسير : هذا نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين . عن ابن عباس : الحسنة في قوم بدر والمصيبة في يوم أحد . والأولى حمله على العموم إذ معلوم من حال المنافقين أنهم كانوا في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكر الله تعالى . ومعنى { أخذنا أمرنا } أي أمرنا الذي نحن موسومون به من التيقظ والتحرر وحسن الرأي والتدبير . و { من قبل } أي من قبل ما وقع { وتولوا } أي عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم أو أعرضوا عن الرسول { وهم فرحون } مسرورون ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول في جوابهم { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } قيل : أي في اللوح المحفوظ من خير أو شر أو خوف أو رجاء أو شدة أو رخاء . وفائدته أنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع - لأن خلاف معلوم الله ومقدوره محال - زالت عنه مناعة النفس وهانت عليه المصائب . وقيل : أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدوّ وإظهار دين الله على كل الأديان فيكون المقصود أن أحوال المسلمين وإن كانت مختلفة في الغم والسرور والمحنة إلا أن العاقبة والدولة تكون لهم والظفر يقع في جانبهم فلا معنى لفرح المنافقين في الحال . وقال الزجاج : معناه لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به من الصنرة عليكم أو الشهادة ، وعلى هذا القول يقع ما في الآية الثانية كالمكرر { هو مولانا } لا يتولى أمورنا إلا هو يفعل بنا ما يريد من أسباب التهاني والتعازي ، لا اعتراض لأحد عليه . { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فيه تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يعلق الرجاء إلا برب الأرباب فإنهم يتعلقون بالوسائط والأسباب .

ثم أمره بجواب ثانٍ فقال { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ومنه تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره . والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة الحالة أو الخصلة أو العاقبة يعني النصرة أو الشهادة . وفي الأولى إحراز الغنيمة والظفر بالأعداء ، وفي الثانية إبقاء الذكر والفوز بنعيم الآخرة . { ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } قارعة مثل قارعة عاد وثمود وقيل : عذاب الله يشمل عذاب الدارين { أو بأيدينا } يعني القتل بأن يظهر نفاقكم ويأمر بقتلكم كالكافر الحربي { فتربصوا } أمر للتهديد نحو { ذق أنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ثم ذكر أنهم إن أتوا بشيء من صورة البر لم يكن له قدر عند الله ولا ينتفعون به في الآخرة ، والغرض أن أسباب الذل والهوان مجتمعة عليهم في الدنيا والأخرى . عن ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به . ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً والحكم عاماً . و { أنفقوا } لفظه أمر ومعناه خبر كقوله فيما يجيء { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } [ التوبة : 80 ] ومعناه أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم واستغفر لهم ، أو لا تستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ ومثله قول كثير لعزة :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... كأنه يقول : امتحني لطف محلك عندي وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل تجدين مني تفاوتاً في الحالين . وإنما يجوز إقامة الخبر والطلب أحدهما مقام الآخر إذا دل الكلام عليه فيعدل عن الأصل لإفادة المبالغة . وانتصب { طوعاً أو كرهاً } على الحال ومعناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين من جهتهما . وسمي الإلزام كراهاً لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه . ويحتمل أن يراد طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو ملزمين من جهتهم ، وذلك أن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملونهم على الإنفاق إذا رأوا فيه مصلحة . ومعنى { لن يتقبل منكم } أن الرسول لا يقبله منكم ، أو أنه لا يقع قبولاً عند الله . ثم علل عدم القبول بقوله { إنكم كنتم قوماً فاسقين } قال الجبائي : فيه دليل على أن الفسق يحبط الطاعات . وأجيب بأن الفسق ههنا بمعنى الكفر ولا يلزم منه كون الفسق المطلق كذلك . وإنما قلنا إن الفسق بمعنى الكفر لقوله سبحانه { وما منعهم أن تقبل منهم } الآية علل منع القبول بأمور ثلاثة : أولها : الكفر بالله وبرسوله . وثانيها { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } قال المفسرون : معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل ، وفيه أنه يصلي للناس لا لله ، وفيه أنه غير معتقد للصلاة ووجوبها فلهذا لزم منه الكفر .

وثالثها : { ولا ينفقون إلا وهم كارهون } ولك أنهم لا ينفقون رغبة في ثواب الله وإنما ينفقون لأجل المصالح الدنيوية ، فهم في حكم الكارهين وإن أنفقوا مختارين يعدون الإنفاق مغرماً ومنعه مغنماً خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم » قيل : الكفر بالله سبب مستقل في منع القبول فكيف ضم إليه الأمرين الآخرين؟ والجواب أنها أمارات ويجوز توارد الأمارت المتعددة على شيء واحد . بوجه آخر أطلق كفرهم أولاً ثم قيده بعدم اعتقادهم وجوب الصلاة والزكاة ، وبعبارة أخرى حكم عليهم بالكفر مطلقاً ثم خص من أنواع كفرهم هذين تفظيعاً لشأن تارك الصلاة والزكاة . قال في الكشاف : وقرأت في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول كسلت كأنه ذهب إلى هذه الآية . وأن الكسل من صفات المنافقين . قال بعض العلماء : وجه الجمع بين قوله { فَمَنْ يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [ الزلزلة : 7 ] وبين مضمون هذه الآية وهو أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر ، هو أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب . ولقائل أن يقول : لو لم يكن مقبولاً وإلا لم يكن له في التخفيف أيضاً أثر . وقيل : في الآية دلالة على أن الصلاة لازمة للكفار وإلا لم يكن الإتيان بها على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعاتهم كما أن قيامهم وقعودهم وسائر تصرفاتهم على وجه الكسل ليس مانعاً من التقبل بالإنفاق . ثم لما قطع رجاء المنافقين عن منافع الآخرة أراد أن يبّين أن ما يظنونه من منافع الدنيا فهو أيضاً في الحقيقة سبب لتعذيبهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم فقال مخاطباً للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد { فلا تعجبك } الآية . ونظيره { ولا تمدّن عينيك } [ طه : 131 ] وإنما قال { فلا تعجبك } بالفاء لأن ما قبله مستقبل يصلح للشرط أي إن يكن فيهم ما ذكرنا من الإتيان بالصلاة على وجه الكسل وغير ذلك فهذا جزاؤه ، وهذ بخلاف ما سيجيء في الآية الآخرى من هذه السورة . والإعجاب سرور المرء بالشيء مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، وأنه من البعيد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عنه ويحصله لغيره كقوله { ما أظن أن تبيد هذه أبداً } [ الكهف : 35 ] ولا شك أن هذه خصلة مذمومة من جهة استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله ، ومن جهة استبعاد إزالته في قدرة الله ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « ثلاث مهلكات : شح مطاع وهوى متيع وإعجاب المرء بنفسه » والمقصود من الآية زجر الناس عن الانصباب إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها ، فإن المسكن الأصلي هو الآخرة لا الأولى .

وقوله { إنما يريد الله ليعذبهم } إعرابه كما مر في قوله { يريد الله ليبين لكم } [ النساء : 26 ] قال مجاهد والسدي وقتادة : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة كأنهم نظروا إلى أن المال والولد لا يكونان عذاباً بل هما من نعم الله تعالى على عباده ، وأورد عليه أنهما لا يكونان عذاباً في الآخرة أيضاً . فإن تكلفوا وقالوا : أراد بذلك أنهما سبب العذاب فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنهما قد يكونان سبباً للعذاب في الدنيا أيضاً . وبوجه أخر ، المال والولد وكذا الإعجاب بهما يكونان . في الدنيا لا محالة ، فأي فائدة في ذكرها؟ واعلم أن الأموال والأولاد قد يكونان سبباً للتعذيب في الدنيا والآخرة ، وذلك أن كل ما كان حبه للشيء أشد كان خوفه عن فواته أكثر وحزنه على فواته أعظم . فصاحب المال أبداً إما في خوف فوات المال وإما في حزن فواته وإما في تعب حفظه وتثميره . ثم إن الدنيا حلوه خضرة فإذا كثر ماله انصب بكليته إليه ويفضي إلى طغيانه وقساوة قلبه إلى أن ينسى حب الله وذكر الآخرة . ثم إنه إن بقي عليه ذلك إلى آخر عمره فعند الموت يعظم أسفه على مفارقته وكان كمن ينتقل من بستان ونعيم إلى سجن وجحيم وعند الحشر يكون حلاله حساباً وحرانه عذاباً فثبت أن حصول المال سبب لعذاب الدارين . إلا من يتصرف فيه بالحق ومثله يكون نادراً ، وكذا الكلام في الولد . وهذا المعنى وإن كان عاماً للكل إلا أن المنافقين لهم وجوه اختصاص بالتعذيب . وذلك أن الرجل إذا كان مؤمناً بالله واليوم الآخر علم أنه إنما خلق للآخرة لا للدنيا فيفتر حبه للأمور الدنيوية بخلاف المنافق الذي اعتقد أن لا سعادة إلا هذه الخيرات العاجلة . وأيضاً إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق الأموال وبعث الأولاد إلى الغزو والجهاد ، وكانوا لا يعتقدون في ذلك فائدة أخروية ، وكانوا في أشق تكليف ، وكانوا مبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مضطرين إلى بذل المال وبعث الأولاد إلى خدمته ، وكانا خائفين من افتضاحهم وإظهار نفاقهم وتعريض أولادهم وأموالهم للنهب والسبي ، وكثير منهم كان لهم أولاد أتقياء مخلصون كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وكعب الله بن عبد الله بن أبيّ شهد بدراً وكان عند الله بمكان ، وهم خلق كثير كانوا يزيفون طريق آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم ، والابن إذا صار هكذا تأذى الأب بسببه ولأجل هذه المعاني ذكر بعض العلماء أن التقدير : يريد الله أن يزيد في أموالهم ليعذبهم . أما قوله { وتزهق أنفسهم } أي تخرج { وهم كافرون } فقد قالت الأشاعرة : فيه دليل على أنه تعالى أراد منهم الكفر .

وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريداً لمرض نفسه ، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب ، وكون الدخول واقعاً في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضاً وهو طبيبه . وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان ، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مراداً بالضرورة . وقال في الكشاف : المراد الاستدراج بالنعم كقوله { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة . ومن قبائح أفعال المنافقين ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله { ويحلفون بالله أنهم لمنكم } أي على دينكم . ثم قال { وما هم منكم } أي ليسوا على دينكم . { ولكنهم قوم يفرقون } يخافون القتل فيظهرون الإيمان تقية .
ثم أكد نفاقهم بقوله { لو يجدون ملجأً } مفراً فيتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم . فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن من صميم القلب . والمغارات مغارة وهو الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر . والمدخل بالتشديد مفتعل من الدخول أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما . والتداخل « تفعل » من الإدخال ومعناه المسلك الذي يتحفظ بالدخول فيه . قال الكلبي وابن زيد : نفق كنفق اليربوع . والمراد أنهم لو وجدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه مع أنها شر الأمكنة { لولوا إليه } يقال : ولي إليه بنفسه إذا انصرف وولي غيره إذا صرفه { وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوهم شيء . ومنه الفرس الجموح لا يرده اللجام . والحاصل أنهم من شدة تأذيهم وتنفرهم من الرسول والمسلمين صاروا بهذه الحالة . قال بعض العلماء : إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء والأقرب حملها على المعاني المتغايرة ، فالملجأ الحصون ، والمغارات الكهوف في الجبال ، والمدخل السرب تحت الأرض كالآبار والله تعالى أعلم . ومن جملة قبائحهم قوله { ومنهم من يلمزك } الآية . قال الزجاج : لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته . وفرق الليث فقال : اللمز العيب في الحضور ، والهمز الغيب في الغيبة ، واعلم أن العيب في الصدقات يحتمل وجوهاً : الأول : في أخذها بأن يقال انتزاع كسب الإنسان من يده غير معقول لأن الله هو المتكفل بمصالح عبيده إن شاء أفقرهم وإن شاء أغناهم . الثاني : أن يقال : هي أنك تأخذ الزكوات إلا أن ما تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك . الثالث : هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه فيكون العيب قد وقع في قسمة الصدقات وفي تفريقها وهذا هو الذي دلت الأخبار على أنهم أرادوه . عن أبي سعيد الخدري

« بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين قال له ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج : أعدل يا رسول الله . فقال : ويلك ومن يعدل إذ لم أعدل » فنزلت . وعن الكلبي هو أبو الجواظ قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أبا لك أما كان موسى راعياً . أما كان داود راعياً فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون » وقيل : هم المؤلفة قلوبهم . ثم بيّن أن عيبهم ذلك وسخطهم لأجل نصيب نفسهم لا للدين فقال { فإن أعطوا منها رضوا } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون . ومعنى { إذا هم يسخطون } فهم يسخطون . وفائدته أن يعلم أن الشرط مفاجىء للجزاء ومتهجم عليه . ثم أرشدهم إلى ما صلاحهم في نفس الأمر فقال { ولو أنهم رضوا } الآية ورتبه على أربع مراتب : الأولى : الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمهم بأنه تعالى حكيم يعلم عواقب الأمور ، فكل ما كان حكماً له وقضاء منه كان حقاً وصواباً ولا إعتراض عليه . الثانية : أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم { حسبنا الله } كفاناً فضله وصنعه ، لغيرنا المال ولنا الرضا والتسليم وذكر الحبيب . الثالثة : أن نزل من هذه المرتبة العالية كان واثقاً بأن الله لا يهمله وسيعوضه من فضله في غنيمة أخرى . الرابعة الرغبة إلى الله بأنه المقصد الحقيقي والمقصود الأصلي من الإيمان والطاعة والمال والمنال . يروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم يذكرون الله فقال : ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا : الخوف من عقاب الله . فقال : أصبتم . ومر على قوم آخرين يذكرون الله فقال : ما الذي حملكم عليه؟ فقال : الرغبة في الثواب . فقال : أصبتم . ومر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسأهلم فقالوا : لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بذكره . فقال : أنتم المحقون .
التأويل : { أن تصبك } يا روح { حسنة } من عواطف الحق تحزن النفس وصفاتها فبها تظفر الروح عليها { وإن تصبك مصيبة } من الموانع والقواطع أخذنا نصيبنا من المراتع الحيوانية لما خالفناه في السير في العالم الروحاني . { قل } يا روح { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } لا علينا فإن الفترات والوقفات للتربية لا للرد . وانظر وقل { هل تربصون بنا } أيتها النفس وصفاتها { إلا إحدى الحسنيين } الإحسان والعواطف الربانية والوقفة والفترة الموجبة لحسن التربية { بعذاب من عنده } هو الابتلاء بالمصائب من الخوف والجوع وغيرهما { أو بأيدينا } بالمنع من المخالفات وبكثرة الرياضيات والمجاهدات { طوعاً } أو رياء { وكرهاً } أي نفاقاً { لن يتقبل منكم } لأن أعمال اللسان وغيره من الجوارح من غير عمل القلب ليست بمقبولة وإن كان عمل القلب بدون الجوارح مقبولاً لقوله صلى الله عليه وسلم « نية المؤمن أبلغ من عمله » وباقي الآيات إشارات إلى أن من أمارات النفاق عدم الرضا بقسمة الخلاق وحال المخلص بالعكس .


إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)

القراآت : { أذن خير } كلاهما بالرفع والتنوين : الأعشى والمفضل . الباقون : بالإضافة . { ورحمة } بالجر : حمزة الآخرون : بالرفع { ألم تعلموا } بتاء الخطاب : جبلة عن المفضل الباقون : بياء الغيبة { إن نعف } { نعذب } كلاهما بالنون ونصب { طائفة } عاصم غير المفضل . الباقون : على البناء للمفعول بياء الغيبة في الأول ، وبتاء التأنيث في التالي .
الوقوف : { وابن السبيل } ط أي فرض الله { فريضة من الله } ط { حكيم } ه { هو أذن } ط { آمنوا منكم } ط { أليم } ه { ليرضوكم } ط لاحتمال الواو الحال أو الاستئناف . { مؤمنين } ه { خالداً فيها } ط { العظيم } ه { بما في قلوبهم } ط { استهزؤا } ط لاحتمال الهمزة في « إن » للتعليل { يحذرون } ه { ونلعب } ط { تستهزؤون } ه { بعد إيمانكم } ط { مجرمين } ه { من بعض } ط كيلا تصير الجملة صفة لبعض المنافقين وهي صفة لكلهم { أيديهم } ط { فنسيهم } ط { الفاسقون } ه { فيها } ط { حسبهم } ط لاختلاف النظم مع اتحاد المقصود في إتمام الجزاء { ولعنهم الله } ج لذلك { مقيم } ه لا بناء على تعلق الكاف { وأولاداً } ط { خاضوا } ط { والآخرة } ج { الخاسرون } ه .
التفسير : إن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيَّن لهم الله سبحانه مصرفها كيلا يبقى لهم طعن إذا وجدوا فعله موافقاً لحكم الله فقال { إنما الصدقات } الآية . وفي تصدير الكلام بإنما دلالة على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا لهؤلاء ، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل : « إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق . وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن » ولنتكلم في تعريف هؤلا الأصناف . فالأول والثاني : الفقراء والمساكين . ولا شك أن كلاً من الصنفين محتاجون لا يفي دخلهم بخرجهم إنما الكلام في أنهما متساوياً الدلالة أو أحدهما أسوأ حالاً . فعن أبي يوسف ومحمد والجبائي أنهما واحد حتى لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين بمال كان لزيد النصف لا الثلث . قال الجبائي : إنه تعالى ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في الصدقات . والفائدة فيه أن أصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم . وعند الشافعي الفقير أسوأ حالاً لأنه تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجاتهم فالذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم ، ومما يدل على إشعار الفقر بالشدّة العظيمة قوله تعالى { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة : 25 ] جعل الفاقرة كناية عن أعظم أنوالاع الشر والدواهي . وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر ، وقد سأل المسكنة في قوله « اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين » فكأنه سأل توسط الحال ، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أشياء معلومة مع أنه تعالى أجاب دعاءه ظاهراً فأماته مسكيناً .

وتقييده تعالى المسكين بقوله { ذا متربة } [ البلد : 16 ] يدل على أن المسكين قد لا يكون كذلك ، وقال تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف : 79 ] وكان ابن عباس يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً كأهل الصفة ، والمسكين بأنه الطوَّاف الذي يسأل الناس . والغالب أنه يحصل له منهم شيء وقريب منه قول من قال سمي مسكيناً لأنه الدائم السكون إلى الناس . ولما كان المسكين هو السائل لما قلنا فالمحرم في قوله سبحانه { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } [ الذاريات : 19 ] هو الفقير صاحب الحرمان . واتفق الناس على أن الفقير ضد الغني ولم يقل أحد أن الغنى والمسكنة ضدان فلعل الترفع هو ضد التمسكن . وقال أبو حنيفة : المسكين أسوأ حالاً لقوله تعالى { أو مسكيناً ذا متربة } [ البلد : 16 ] وقد تقدم الكلام عليه ولأنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة ولا فاقة أعظم من الجوع ونقل الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين هو الذي لا شيء له ، وقال يونس : قلت لأعرابي ، أفقير أنت؟ قال : لا والله بل مسكين . وقيل : سمعي مسكيناً لأنه يسكن حيث يحضر لأجل أنه لا بيت له ولا منزل . وأجيب بأنه تعالى جعل الكفارة للمسكين ذي المتربة وهو الفقير بعينه وإنما النزاع في المسكين المطلق والروايات معارضة بأمثالها والله أعلم . الصنف الثالث : العاملون على الصدقات وهم السعاة الجباة للصدقة . قال ابن عمر وابن الزبير والشافعي : يعطى هؤلاء أجور أمثالهم لأنها أجرة للعمل . وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات لأنهم صنف من الثمانية ، والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصدقات وقال : أما علمت أن مولى القوم منهم . وفائدة التعدية بعلى التسليط والولاية . يقال : فلان على بلدة كذا إذا كان والياً عليها . واختلفوا في أن الإمام هل له حق لأنه هو العامل في الحقيقة أو لا حق له لخروجه عن الأصناف؟ والجمهور على أن العامل يأخذ نصيبه وإن كان غنياً لأن ذلك أجرة عمله . وعن الحسن أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة . الصنف الرابع : المؤلفة قلوبهم . عن ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً منهم أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل . قال العلماء : لعل مراد ابن عباس إنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة وإلا فلم يكن ما أعطاهم من الصدقات . ويروى أن أبا بكر الصديق أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة .

والذي استقر عليه رأى الأئمة أن المؤلفة ثلاثة أقسام : ضعيف النية في الإسلام ، وشريف بإعطائه يتوقع سلام نظرائه ، والمتألف على جهاد من يليهم من الكفار ومانعي الزكاة حيث يكون ذلك أهون للإمام من بعث جيش يعطى كل واحد ما رأى الإمام باجتهاده ، هذا كله إذا كانوا مسلمين ، فأما الكفار الذين يميلون إلى الإسلام فيرغبون فيه بإعطاء مال ، والذين يخاف شرهم فيتألفون لدفع الشر بمال فلا يعطون شيئاً من الزكاة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس والآن لا يعطون أصلاً لقوة الإسلام والاستغناء عن تألفهم ولأنه ليس في الآية دلالة على أن المؤلفة يجوز أن يكونوا من الكفار فلا ينبغي أن يقال إن حكم الآية منسوخ ، الصنف الخامس قوله وفي الرقاب . قال الزجاج : تقديره وفي فك الرقاب ، وللأئمة في تفسيره أقوال؛ فعن ابن عباس أنهم المكاتبون وهو مذهب الشافعي قال : إذا عجزوا عن أداء النجوم بأن يكون لهم شيء أو لا يفي ما في أيديهم بنجومهم صرف إليهم أو إلى سيدهم بإذنهم ما يعينهم على العتق . وقال مالك وأحمد وإسحاق : المراد أنه يشتري به عبيد فيعتقون . وعن أبي حنيفة وأصحابه . وهو قول سعيد بن جبير والنخعي ، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله { وفي الرقاب } يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه . وقال الزهري : سهم الرقاب نصفه للمكاتبين المسلمين ونصفه يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون . قال المفسرون : إنما عدل عن اللام إلى « في » لأن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤا ، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة . ففي الرقاب يوضع نصيبهم في تخليص رقابهم عن الرق أو الأسر ولا يدفع إليهم ، وفي الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم ، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاج إليه في الغزو ، وفي ابن السبيل كذلك يصرف إلى ما يبلغه المقصد . وقال في الكشاف : إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحاق التصديق عليهم ممن سبق لأن « في » للوعاء فنبه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصباً للصدقات . وتكرير « في » في قوله { وفي سبيل الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين الصنف السادس الغارمون قال الزجاج : أصل الغرم لزوم ما يستحق وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً لازماً . وفلان مغرم بالنساء ، وسمي الدين غرماً لأنه شاق لازم . فالغارمون المديونون والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الآية لأن المعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية سواء حصل بسبب نفقات ضرورية أي لإصلاح ذات البين .

وإن كان متمولاً أو للضمان إن أعسر هو والأصيل وكل داخل في الآية . روى الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم لم قضى بالغرة في جنين قالت العاقلة : لا نملك الغرة يا رسول الله ، فقال لحمد ابن مالك : أعنهم بغرة من صدقاتهم ، وكان حمد على الصدقة يومئذ . وإنما يعطى الغارم قدر دينه إن لم يقدر على شيء وإن قدر على بعض أعطى الباقي . الصنف السابع قوله { في سبيل الله } يعني الغزاة . قال الشافعي : يجوز له أن يأخذ من مال الصدقات وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد . وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً وظاهر لفظ الآية لا يوجب القصر على الغزاة فلهذا نقل القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقة إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن كلها في سبيل الله . الصنف الثامن ابن السبيل وهو المسافر لا لأجل معصية ، يعطى ما يبلغه المقصد أو موضع ماله إن كان له في الطريق مال . قال الشافعي : ويدخل في المسافر الشاخص من وطنه أو من بلد كان مقيماً به منشئاً للسفر والغريب المجتاز ببلدنا والله أعلم .
ولنذكر طرفاً من أحكام هذه الأصناف :
الحكم الأول : اتفقوا على دخول الزكاة الواجبة في قوله { إنما الصدقات } لقوله في موضع آخر { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة » واختلفوا في الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل ، والفائدة أن تعلم أن مصارف جميع الصدقات ليست إلا هؤلاء الأصناف ، والأقرب اختصاص الآية بالواجبة لدخول لام التمليك في الأصناف ، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة ولأن الآية تدل على الحصر في الأصناف الثمانية والصدقة المندوبة يجوز صرفها إلى وجوه أخر كالمساجد والمدارس وتجهيز الموتى ، ولأن الصدقات تنصرف إلى معهود سابق وهو الصدقات الواجبة في قوله { ومنهم من يلمزك في الصدقات } .
الحكم الثاني : في الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه لأنه تعالى جعل للعاملين سهماً منها . والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ويتأكد هذا النص بقوله { خذ من أموالهم صدقة } فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر كقوله { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ الذاريات : 19 ] وإذا كان حقاً لهما وجب أن يجوز دفعه إليهما ابتداء ، وإذا كان الإمام جائراً فالتفريق بنفسه أفضل .
الحكم الثالث : مذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية والنخعي ، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلاً موزعاً على كل واحد منهم ، ولأن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً فأخرج نصف دينار لو كلفناه أن يقسمه على أربعة وعشرين لدفع كل ثلاثة منها إلى ثلاثة من كل صنف صار كل قسم حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر .

وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحب إلي . وقال الشافعي : لا بد من صرفها ، إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز . واحتجوا عليه بأن الله تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله { فريضة من الله } وهو في معنى المصدر المؤكد لأن قوله { إنما الصدقات للفقراء } في قوة قوله فرض الله الصدقات لهم ، وهذا كالزجر عن مخالفة من الآية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله تبارك وتعالى لم يرض بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه » ثم ختم الآية بقوله { والله عليم } أي بتقدير الأنصباء والمصالح { حكيم } لا يفعل إلا ما هو الأصوب والأصلح وكل هذه المؤكدات دليل على وجوب الاحتياط في صرف الزكاة ، ومن ههنا قال الشافعي : لا بد في كل صنف من ثلاثة لأنه تعالى ذكر أكثر الأصناف بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة ، فإن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين غرم للثالث أقل متمول على الأقيس لا الثلث ، لأن التفضيل في أفراد الصنف جائز للمالك لأن العدد من كل صنف غير محصور فيصعب اعتبار التسوية بخلاف التسوية بين الأصناف لأنهم محصورون فتسهل التسوية بينهم .
الحكم الرابع : العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في زماننا فبقي أن تصرف الزكاة إلى الأصناف الستة الباقية كما لو فقد بعض الأصناف في بلد فإنه يصرف إلى الباقين ، ولا يؤمر بالنقل إلى بلد وجدوا فيه جميعاً والأحوط رعاية التسوية بينهم على ما يقوله الشافعي ، أما إذا لم يفعل ذلك فإنها مجزئه عند سائر الأئمة . أما الحكمة في إيجاب الزكاة فهو أن المال محبوب بالطبع لأن القدرة من صفات الكمال والمال سبب . لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسراً للنفس ومنعاً من انصبابها بالكلية إليه . فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب وهو المراد من قوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } أي عن دنس الاستغراق في حب المال . وأيضاً إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة ، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة فتصير المسألة دورية لا مقطع لها ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويفضي في الأغلب إلى الطغيان وقساوة القلب .

وأيضاً النفس الناطقة لها قوتان : نظرية وكمالها في التعظيم لأمر الله ، وعملية وكمالها في الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليتصف جوهر الروح بهذا الكمال ويصير بسبب ذلك محسناً إلى الخلق ، وإذا أحسن إليهم أمدوه بالدعاء والهمة . وأيضاً المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه وهو غاد ورائح سريع الزوال مشرف على التلف والبوار ، فإذا أنفقه لوجه الله بقي بقاء لا يمكن زواله . وفي إنفاق المال تشبه بالمجردات والمفارقات وليس الغنى إلا عن الشيء لا به لأن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة المخلوقين العاجزين ، ففي الأمر بالزكاة نقل للإنسان من درجة أدنى إلى درجة أعلى . وأيضاً للإنسان روح وبدن ومال فإذا بذلك الروح في الاستغراق في بحار معرفة الله ، وبذل البدن في العبودية لله والصلاة له فكيف يليق به أن لا يبذل المال في ابتغاء مرضاته؟! وأيضاً إذا فضل المال عن قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال ، أما في حق المالك فهو أنه سعى اكتسابه وتحصيله وتعلق قلبه به ، وأما في حق الفقير فلاحتياجه الموجب للتعلق به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت حكمة الشارع رعاية كل منهما بقدر الإمكان . ورجح جانب المالك لأن له حق الاكتساب وحق التعلق فأبقى عليه الكثير وأمر بصرف جزء يسير إلى الفقير توفيقاً بين الأمرين وجمعاً بين المصلحتين مع رعاية المال عن التعطيل فلا معطل في الوجود . وأيضاً الأغنياء خزان الله لأن المال مال الله وهم عبيده ولولا أنه ألقاها في أيديهم لما ملكوا منها حبة ، فكم من عاقل لا يملك ملء بطنه ، وكم من غافل تأتيه الدنيا عفواً صفواً . وليس بمستبعد أن يقول الملك لخزّانه اصرفوا طائفة من مال خزانتي إلى المحتاجين من عبيدي . وأيضاً إن الأغنياء لو لم يلزموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة على تحصيل المال من وجوه منكرة كالسرقة ونحوها أو على الالتحاق بأعداء المسلمين . وقال صلى الله عليه وسلم « الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر » وكأن تعالى يقول للغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان المال فتصير من الصابرين ، ويقول للفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجبت على الغني أن يصرف إليك طائفة من المال لتشكرني فتكون من الشاكرين . وأيضاً أراد الله سبحانه أن يكون الغني منعماً على الفقير بما يؤديه إليه ويكون الفقير منعماً على الغني بما قبله منه ليحصل الخلاص في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار .

ثم حكى نوعاً من فضائح المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم { هو أذن } عن ابن عباس كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فنحلف له . فقال الجلاس بن سويد ، نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعة فنزلت الآية . وقال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره : نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلاً أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم « من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث » وكان ينم حديث النبي صل الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل فقال : إنما محمد أذن من حدثه شيئاً صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا . وقال السدي : اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا إن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه فتكلموا وقالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً لنحن شر من الحمير فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقول محمد حق وإنكم لشر من الحمير ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامراً كاذب وحلف عامر أنهم كذبة . وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب فنزلت الآيتان . قال علماء اللغة : الأذن الرجل الذي يصدق بكل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأنه جملته أذن سامعة ومثله قولهم للربيئة عين . وفسر إيذاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقولون له أذن وذلك أنهم قصدوا به المذمة وأنه ليس ذا ذكاء ولا بعيد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع . ويجوز أن يراد بالإيذاء أنواع أخر سوى هذا القول أي يؤذونه بالغيبة والنميمة وسائر أنواع الأذية ويقولون في وجه الاعتذار عن ذلك هو أذن يقبل كل ما يسمع ، فنحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا فيرضى ، ثم إنه سبحانه أجاب عن قولهم فقال { قل أذن خير لكم } بالإضافة كقولهم : رجل صدق يريدون الجودة والصلاح . ومجوز الإضافة هو الملابسة كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن إذ أريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعة وقبوله وليس بإذن في غير ذلك ويؤيده قراءة حمزة { رحمة } بالجر عطفاً عليه عطف الخاص على العام أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع ولا يقبل غيرهما .

ثم بين كونه أذن خير بأنه { يؤمن بالله } أي يقرّ به ويعترف بوحدانيته لما قام عنده من الأدلة { ويؤمن للمؤمنين } يسلم لهم قولهم لوثوقه بقولهم وعلمه بإخلاصهم لا لكونه من أهل الغرة والبله { و } هو { رحمة للذين آمنوا منكم } باللسان دون الجنان لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم فإن الله هو الذي يتولي السرائر ولهذا ختم الآية بقوله { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } وأما من قرأ { أذن خير } بالرفع فيهما فعلى أن الإذن خبر مبتدأ محذوف و { خير } كذلك أي هو أذن هو خير . والمعنى هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فتحفظ بذلك دماؤكم وأموالكم . وقيل : التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد . ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله { يؤمن بالله } إلى آخره . ووجه ثالث ذكره صاحب النظم واستحسنه الواحدي وهو أن قوله { أذن } وإن كان رافعاً في الظاهر لكنه نصب في الحقيقة على الحال وتأويله : قل هو أذنا خير لكم .
ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه } أي كان من الواجب أن يرضوا الله تعالى بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه . وإنما لم يقل يرضوهما تعظيماً لله بالإفراد بالذكر ، أو المراد والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك ، أو وقع الاكتفاء بذكر الله لأن رضا الله ورضا رسوله شيء واحد كما يقال إحسان زيد وإجماله بعثني ومعني { إن كانوا مؤمنين } أي بزعمهم . ثم وبخهم بقوله { ألم يعلموا } وذلك أنه يقال ذلك لمن تتولع في تعليمه مدة ثم لم يظهر عليه أثر العلم والرشد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم طال مكثه فيهم وكثر تحذيره عن المعصية وترغيبه في الطاعة . والضمير في قوله { أنه } للشأن وفائدته مزيد التعظيم والتهويل . والمحادة المخالفة لأن كلاً منهما في حد غير حد صاحبه كالمشاقة لأن كلاً منهما في شق آخر . وقال أبو مسلم : هي من الحديد حديد السلاح . ثم ذكر في الجزاء قوله { فإن له } بالفتح أي فحق أن له { نار جهنم } وقيل « أن » مكرر للتأكيد والتقدير فله نار جهنم . وقيل « فإن » معطوف على « أنه » وجواب من محذوف وهو يهلك . قال الزجاج : يجوز كسر « أن » على الاستئناف بعد الفاء ولكن القراءة بالفتح . ونقل الكعبي في تفسيره أنه قرىء بالكسر .
قال السدي : قال بعض المنافقين : والله لوددت إني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا فأنزل الله تعالى { يحذر المنافقين } وقال مجاهد : كانوا يقولون القوم بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشى علينا سرنا فنزلت .

والضمير في { عليهم } و { تنبئهم } للمؤمنين وفي { قلوبهم } للمنافقين ، ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم وكأنها تخبر عما في بواطنهم وتذيع عليهم أسرارهم . قيل : المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي لأنه غير قائل به؟ وأجيب بأنهم عرفوا ذلك بالتجربة أو كفرهم كان كفر عناد أو كانوا شاكين في صحة نبوته والشاك في أمر خائف من وقوعه ، أو هذا الخبر في معنى الأمر أي ليحذر المنافقون : عن أبي مسلم أنهم أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ولهذا أجابهم الله بقوله { استهزؤا } وهو أمر تهديد { إن الله مخرج ما تحذرون } مظهر ما تحذرونه من نفاقكم أو محصل إنزال السورة لأن الشيء إذا حصل بعد عدم فكأن فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود . قوله { ولئن سألتهم } الآية . عن ابن عمر أن رجلاً من المنافقين في غزوة تبوك . ما رأيت مثل هؤلاء الفراء أرغب بطوناً أي أوسع ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله وأصحابه . فقال واحد من المؤمنين : كذبت وأنت منافق . ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر : رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه . وقال الحسن وقتادة : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات . فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا فقالوا : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . قال الواحدي : أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى أي كنا نخوض في الباطل كما يخوض الركب لقطع الطريق . ثم أمر نبيه بأن يقول في جوابهم { أبا لله } أي بتكاليفه أو بأسمائه أو بقدرته حيث استبعدتم إعانته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فتح قصور الشام { وآياته } يعني القرآن { ورسوله كنتم تستهزؤن } لم يعبأ باعتذارهم فجعلوا كأنهم معترفون بوقوع الاستهزاء منهم فأوقع الإنكار على الاستهزاء بالله بأن أولى الاستفهام الذي يفيد التقرير المستهزأ به ولم يقل « أتستهزؤن بالله » .

ثم قال : { لا تعتذروا } نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب أو قطعه من قولهم : اعتذر المنزل إذا درس . واعتذرت المياه إذا انقطعت ، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع . والعذر سبب لقطع اللوم ، نهاهم الله عن الاعتذار بالخوض واللعب لأن الشيء الذي يوجب الكفر لا يصلح للعذر . ثم بين ذلك بقوله { قد كفرتم } أي صريحاً { بعد إيمانكم } أي بعد الإيمان الذي أظهرتموه . وفيه أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله صريح لأن العمدة الكبرى في الإيمان هو التعظيم لأمر الله ولشرائعه . { إن نعف عن طائفة منكم } ذكر المفسرون أنهم كانوا ثلاثة ، استهزأ اثنان وضحك الثالث ، ولما كان ذنب الضاحك أخف لأنه لم يوافق القوم في الكفر فلا جرم عفا الله عنه . وفيه إشارة إلى أنه من خاض في عمل باطل فعليه أن يجتهد في التقليل ويحذر من الانهماك فإنه يرجى له ببركة ذلك القليل أن يعفو الله عنه الكل . قال الزجاج : الطائفة في اللغة الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنه أن يطيف بالشي ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور : 2 ] وأقله الواحد . وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه . ووجه بأن من اختار مذهباً فإنه ينصره ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى طائفة بهذا السبب والتاء للمبالغة . وقال ابن الأنباري : العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقال تعالى { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني نعيم بن مسعود . ثم علل كونه معذباً للطائفة الثانية { بأنهم كانوا مجرمين } أي مصّرين مستمرّين على الجرم ، ويجوز أن يكون سبب العفو عن الطائفة الأولى إحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق ، ويجوز أن يراد بالعذاب العذاب العاجل . ومن قرأ { أن يعف } على البناء للمفعول والتذكير فلأنه مستند إلى الظرف كما تقول : سير بالدابة دون سيرت . وقرىء بالتأنيث ذهاباً إلى المعنى كأنه قيل : إن ترحم طائفة .
ثم ذكر جملة أحوال المنافقين . وأن إناثهم في ذلك كذكورهم فقال { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } أي في صفة النفاق وأريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم { إنهم لمنكم } وتقرير قوله { وما هم منكم } ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم الحال المؤمنين فقال { يأمرون بالمنكر } وهو كل قبيح عقلاً أو شرعاً وأعظم ذلك تكذيب الله ورسوله . { وينهون عن المعروف } وهو كل حسن عقلاً أو شرعاً وأعظم ذلك الإخلاص في الإيمان { ويقبضون أيديهم } عن كل خير أو عن كل واجب كصدقة أو زكاة أو إتفاق في سبيل الله ، وهذا أولى ليتوجه الذم بتركه . وقبض الأيدي كناية عن الشح والبخل كبسطها في الكرم والسخاء { نسوا الله } أغفلوا أمره وتركوا ذكره وذلك أن النسيان الحقيقي لا يتوجه عليه الذم { فنسيهم } جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وهذا على سبيل المزاوجة والطباق .

وإنما جعل النسيان عبارة عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره فدل بذكر الملزوم على اللازم ، ثم قال { إن المنافقين هم الفاسقون } وفيه دليل على أنهم هم الكاملون في الفسق وأن على المسلم أن يتحرز عما يكسبه هذا الاسم . ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر فقال { وعد الله } الآية ومعنى { خالدين فيها } مقدرين الخلود فيها قاله في الكشاف ويحتمل أن يراد مستأهلين للخلود { هي حسبهم } كافيهم في الجزاء والإيلام ومع ذلك فقد لعنهم الله ليكون العذب مقروناً بالإهانة والطرد { ولهم عذاب مقيم } نوع آخر من العذاب الدائم سوى عذاب النار ، أو عذاب عاجل لا ينفكون عنه من تعب النفاق والخوف من افتضاحهم . ثم شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات فقال ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب { كالذين من قبلكم } أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم . فعلى الأول محل الكاف رفع وعلى الثاني نصب . ثم وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة أي جسامة من هؤلاء المنافقين { وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم } وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنه قسم ونصيب لأنه نصب أي أثبت . { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } قيل : ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم تكريره في حق الأوّلين ثالثاً؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ ، فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة . قال جار الله : نظيره أن تقول لبعض الظلمة أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب وأنت تفعل مثل فعله . وأما قوله { وخضتم كالذي خاضوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة . ومعنى « كالذي » كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج الذي خاضوا . وقيل : أصله كالذين فحذف النون . ثم بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال أما في الدنيا فبسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف ، وأما في الآخرة فلأنهم هلكوا وبادوا وانتقلوا إلى العقاب الدائم وخسران الدارين . فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال والفضائح مع ضعف بنيتهم وقلة عددهم وعددهم أولى بخزي الدارين وخسار الأمرين .
التأويل : { إنما الصدقات } وهي صدقات مواهب الله كما قال الله صلى الله عليه وسلم

« ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة على من يشاء من عبادة الفقراء وهم الأغنياء بالله الذين فنوا عنهم وبقوا به » { والمساكين } الذين لهم بقية أوصاف الوجود ألقوا سفينة القلب في بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 73 ] { والعاملين عليها } وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أرباب الأحوال { والمؤلفة قلوبهم } الذين تتألف قلوبهم بذكر الله { وفي الرقاب } الذين يريدون أن يتخلصوا عن رق الموجودات تحر لعبودية موجدها . والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم . { والغارمين } الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبائعها وخواصها وهم محبوسون في الوجود فهم معاونون بتلك الصدقات للخلاص عن حبس الوجود { وفي سبيل الله } المجاهدين الجهاد الأكبر مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا { وابن السبيل } المسافرون عن أوصاف الطبيعة وعالم البشرية ، السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة { فريضة من الله } أوجبها على ذمة كرمه كما قال « ألا من طلبني وجدني » { والله عليم } بطالبيه { حكيم } في معاونتهم بعد الطلب كقوله « من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً » { ويقولن هو أذن } رأوا محامده بنظر المذمة والعيب { قل أذن خير لكم } أي سامعيته خير لكم لأن له مقام السامعية يسمع ما يوحى إليه { يؤمن بالله } عياناً { ويؤمن للمؤمنين } لأن فوائد إيمانه تعود إليهم كما إلى نفسه { ورحمة للذين آمنوا } لأنهم يهتدون بهداه { والذين يؤذون رسول الله } بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم { يحذر المنافقون } والحذر لا يغني عن القدر { أن نعف عن طائفة } إظهاراً للفضل والرأفة { نعذب طائفة } إظهار للقهر والعزة ولكن إظهار اللطف بلا سبب . وإظهار القهر لا يكون إلا بسبب أنهم كانوا مجرمين و { بعضهم من بعض } لأن أرواحهم كانت في صف واحد في الأزل فمعاملاتهم من نتائج خصوصيات أرواحهم { نسوا الله } ولو ذكروه قبل الإتيان بالمعاصي لم يفعلوا ما فعلوا ، ولو ذكروه بعد الإتيان لاستغفروا فغفر لهم { هي حسبهم } لأنها نصيبهم في الأزل { كانوا أشد منكم قوة } بالاستعداد الفطري وضيعوها في الاستمتاع العاجل فخسروا رأس المال ولم يربحوا .


أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)

القراآت : { والمؤتفكات } وبابه بغير همز : أبو عمرو غير شجاع وورش ويزيد والحلواني عن قالون والأعشى وحمزة في الوقف .
الوقوف : { والمؤتفكات } ط { بالبينات } ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب . { يظلمون } ه { أولياء بعض } م لما مر . { ورسوله } ط { سيرحمهم الله } ط { حكيم } ه { عدن } ط { أكبر } ط { العظيم } ه { واغلظ عليهم } ط { جهنم } ط { المصير } ه { ما قالوا } ط { لم ينالوا } ج { من فضله } ط { خيراً لهم } ج { والآخرة } ج { ولا نصير } ه { من الصالحين } ه { معرضون } ه { يكذبون } ه { علام الغيب } ه ج لاحتمال النصب أو الرفع على الذم . وكونه بدلاً من الضمير في { نجواهم } { فيسخرون منهم } ط . { سخر الله منهم } ط لإتمام الجزء مع اختلاف النظم . { أليم } ه .
التفسير : لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في تكذيب الأنبياء والاشتغال بالنعيم الزائل بين أن أولئك الكفار من هم فذكر ست طوائف سمع العرب أخبارهم لأن بلادهم - وهي الشام - قربية من بلادهم وقد بقيت آثارهم مشاهدة ، ولهذا صدر الكلام بحرف الاستفهام للتقرير . فأوّلهم قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق ، وثانيهم : قوم عاد وأهلكوا بالريح العقيم ، وثالثهم : ثمود وأخمدوا بالصيحة ، ورابعهم : قوم إبراهيم سلط الله عليهم البعوض وكفى شر ملكهم وهو نمرود ببعوضة واحدة سلطها على دماغه . وخامسهم : أًحاب مدين قوم شعيب أخذتهم الرجفة ، وسادسهم : أصحاب المؤتفكات قوم لوط أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن جعل مدائنهم عاليها سافلها . والائتفاك الانقلاب سميت مدائنهم بذلك لأن الله تعالى قلبها عليهم . ويمكن أن يراد بالمؤتفكات الناس لانقلاب أحوالهم من الخير إلى الشر . ثم قال { أتتهم رسلهم بالبينات } أي بالمعجزات ولا بد بعد هذا من إضمار والتقدير فكذبوهم فأهلكهم الله . { فما كان الله ليظلمهم } قالت المعتزلة : أي ما صح منه الظلم ولكنهم استحقوا ذلك بسبب كفرهم ، وقد مر الكلام في أمثال ذلك . ثم بين أن شأن المؤمنين في الدنيا والآخرة بخلاف المنافقين فقال { والمؤمنون } الآية قال بعض العلماء : إنما قال ههنا { أولياء بعض } وهناك { من بعض } [ الآية : 66 ] لأن نفاق أتباع المنافقين حصل بسبب التقليد لأكابرهم بمقتضى الطبع والعادة بخلاف الموافقة بين المؤمنين فإنها بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية . وأقول : كون بعض المنافقين من بعض يوجب اشتراكهم في أمر من الأمور بالجملة كالدار أو حكم من الأحكام الشرعية أو سيرة وطريقة وهذا هو المقصود ، ولكنه يحتمل أن يكون تكلفاً أو بطريق النفاق لأن سببه انعقاد غرض من الأغراض الدنيوية العاجلة فذكر الله تعالى اشتراكهم في ذلك بلفظ « من » لمكان الاحتمال المذكور . وأما تشارك المؤمنين في السيرة فلما كان سبببه الإخلاص والعصبية للدين والاجتماع على ما يفضي إلى سعادة الدارين كانت الموالاة بينهم محققة فصرح الله تعالى بذلك .

ثم وصفهم بأضداد صفات المنافقين فقال { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وهاتان الصفتان بالنسبة إلى غيرهم . ثم قال المنافقين { ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } وهاتان لهم في أنفسهم وهما بإزاء قوله في صفة المنافقين { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } [ التوبة : 54 ] . ثم وصفهم بالطاعة على الإطلاق فقال { ويطيعون الله ورسوله } أي في كل ما يأتون ويذرون . ثم ذكر ما أعدّ لهم من الثواب على سبيل الإجمال فقال { أولئك سيرحمهم الله } والسين تفيد المبالغة في إنجاز الوعد بالرحمة كما يؤكد الوعيد به إذا قلت سأنتقم منك يوماً يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك . ثم ختم الآية بقوله { إن الله عزيز حكيم } وفيه ترغيب للمؤمنين وترهيب للكافرين لأن العزيز هو من لا يمنع من مرادة في عباده من رحمة أو عقوبة . والحكيم هو الذي يدبر عباده على وفق ما يقتضيه العدل والصلاح . ثم فصل ما أجمل من الرحمة بقوله { وعد الله المؤمنين } لآية . وقد كثر كلام أصحاب الآثار في معنى جنات عدن فقال الحسن : سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن ذلك فقالا : على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « هو قصر في الجنة من اللؤلؤ وفيه سبعون داراً من ياقوته حمراء ، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين ، وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام ، وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة ما يأتي على ذلك أجمع » وعن ابن عباس أنها دار الله لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر . وقال ابن مسعود : جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها قاله الأزهري . وبطنان الأودية المواضع التي يستنقع فيها السيل واحدها بطن . وقال عطاء عن ابن عباس : هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى . وسائر الجنات حولها . وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدار والياقوت والذهب . فتهب الريح من تحت العرش فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض . وقال عبد الله بن عمر : وإن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد . وفي هذه الأخبار دلالة على أن عدناً علم ويؤيده قوله { جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب } [ مريم : 61 ] ولو لم يكن علماً لم يوصف بالمعرفة . ولا ريب أن أصله صفة من قولك عدن بالمكان إذا أقام به ، ومنه المعدن للمكان الذي تخلق فيه الجواهر .

وعلى هذا فالجنات كلها جنات عدن . إلا أن يغلب الاسم على بعضها . { ورضوان من الله } شيء يسير من رضاه { أكبر } من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وكرامة وكل خطب مع رضا المولى هين ، وكل نعيم مع سخطه منغص . وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى حالاً وأشرف مآلاً من السعادات الجسمانية بل لا نسبة لتلك اللذة والابتهاج إلى هذه على أن الاعتراف بالسعادات الجسمانية واجب من حيث الشرع { ذلك } الموعود والرضوان { هو الفوز العظيم } وحده دون ما يعده الناس فوزاً . في الحديث « إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً » ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال المنافقين فقال { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } قال الضحاك : أي جاهد الكفار واغلظ على المنافقين لأن المنافق لا تجوز محاربته في ظاهر الشرع . وضعف بأن النسق يأباه . وقيل : المراد بهؤلاء المنافقين هم الذين عرفه الله حالهم فصاروا كسائر الكفرة فجاز قتالهم ، وزيف بأنه وإن علم حالهم بالوحي إلا أنه مأمور بأن يحكم بالظاهر والقوم كانوا يظهرون الإسلام فكيف يجوز قتالهم؟ والصحيح أن الجهاد بذل المجهود في حصول المقصود وهو شامل للسيف واللسان ، فالمراد جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم في الجهادين جميعاً عن ابن مسعود : إن لم يستطع بيده فبلسانه ، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه ، فإن لم يستطع فبقلبه بأن يكرهه ويبغضه ويتبرأ منه . وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها . واعترض عليه بأن إقامة الحدود واجبة على كل فاسق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق . واعتذر عنه بأنه قال ذلك لأن عنده أن كل فاسق منافق أو لأن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه منافقاً . قال الضحاك : خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين ، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم . فحلفوا ما قالوا شيئاً من ذلك فأنزل الله تعالى { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر } وعن قتادة أن رجلين اقتتلا رجل من جهينة ورجل من غفار فظهر الغفاري على الجهني فنادى عبد الله بن أبيّ يا بني الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك وقال

{ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقون : 8 ] فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية . ومعنى قوله { وكفروا بعد إسلامهم } أنهم أظهروا الكفر بعدما كانوا يظهرون الإسلام . أما قوله { وهموا بما لم ينالوا } فهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك ، وذلك أنه توافق خمسة عشر رجلاً منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، وكان عمار بن ياسر أخذ بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبيناهم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلام فالتفت فإذا هم قوم متلثمون فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا . وقيل : همّ المنافقون بقتل عامر بن قيس لرده على الجلاس بن سويد وقد مر في تفسير قوله { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] وقيل : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وما نقموا } وما أنكروا وما عابوا { إلا أن أغناهم } كقول القائل .
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فظفروا بالغنائم وجمعوا الأموال . وروي أنه قُتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى ، ثم استعطف قلوبهم بعد صدور هذه الجنايات العظيمة عنهم فقال { فإن يتوبوا يك } يعني ذلك الرجوع { خيراً لهم } وكان الجلاس ممن تاب فحسنت توبته { وإن يتولوا } يعرضوا عن التوبة { يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا } بالقتل والسبي واغتنام الأموال . وقيل : بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب . وقيل : في القبر وأما عذاب الآخرة فمعلوم { وما لهم في الأرض } يحتمل أرض الدنيا وأرض القيامة .
ثم بين أن هؤلاء كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه فقال { ومنهم من عاهد الله } يروى عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يرزقني مالاً فقال : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه . ثم قال مرة أخرى فقال : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال فضة وذهباً لسارت . فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأويتن كل ذي حق حقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالاً . فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما .

ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال : يا ويح ثعلبة ثلاثاً وأنزل الله عز وجل { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة وقال لهما . مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما . فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا ، انطلقاً حتى تفرغا ثم تعودان إليّ . فانطلقا وأخبرا السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها فلما رأوها قالوا : ما يجب هذا عليك وما نريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى خذوه فإن نفسي بها طيبة . فأخذوها منه ثم رجعا على ثعلبة فقال : أروني كتابكما ثم قال : ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي . فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة ثم نزلت الآية وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فخرج إليه وقال : يا ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا . فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك . فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني . فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئاً ، ثم أتى أبا بكر حين استخلف فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من الأنصاري فاقبل صدقتي . فقال : لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر وأبى أن يقبلها ، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها في خلافة عثمان ولم يقبل صدقته واحد من الخلفاء اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقول وما ذاك إلا بشؤم اللجاج أولاً وآخراً . قال بعض العلماء : المعاهدة أعم من أن تكون باللسان أو بالقلب . وقال المحققون . إنه لا بد من التلفظ بها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسهم ولم يتلفظوا به » ولأن قوله عز من قائل { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدّقن } ظاهره مشعر بالقول اللساني .

والمراد بالفضل إيتاء المال بطريق التجارة أو الاستغنام ونحوهما . وأصل { لنصدقن } لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد . والمصدق المعطي لا السائل كقوله تعالى { وتصدق علينا أن الله يجزي المتصدقين } [ يوسف : 88 ] ومعنى قوله { ولنكونن من الصالحين } عن ابن عباس أنه أراد الحج . ولعل المراد إخراج كل ما يجب إخراجه إذ لا دليل على التقييد . ثم وصفهم بصفات ثلاث فقال { فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } فالبخل عبارة عن منع الحق الشرعي ، والتولي نقض العهد ، والإعراض أراد به الإحجام عن تكاليف الله وأن ذلك منهم عادة معتادة ، ولترتب هذا الذم عل أمنع الصدقة ولإطلاق لفظة البخل عليه وهو في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب . ذكر العلماء أن الصدقة الملتزمة في قوله { لنصدقن } هي الصدقة الواجبة . وأن الرجل قد عاهد ربه أن يقول بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة . إن وسع الله عليه دون ما يلتزنه الإنسان بالنذر من المندوبات إذ لا دليل في الآية على ذلك مع أن سبب النزول يأباه . فإن قيل : الزكاة لا تلزم بسبب الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحلول الحول . قلنا إن قوله { لنصدقن } لا دليل فيه على الفور بل المراد لنصدقن في وقته الذي يليق به . وفي الآية دلالة على أن الرجل حين عاهد بهذا العهد كان مسلماً ثم إنه لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقاً ويؤكده قوله سبحانه { فاعقبهم نفاقاً } عن الحسن وقتادة أن أعقب مسند إلى ضمير البخل أي أورثهم البخل نفاقاً متمنكاً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه وباعثاً عليه ، وكذا التأويل إن جعل عائداً إلى التولي أو الإعراض . وضعت بأن حاصل هذه الأمور كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثراً في حصول النفاق فى القلب لأن ترك الواجب عدم والنفاق جهل وكفر وهو أمر وجودي والعدم لا يؤثر في الوجود ، ولأن هذه الترك قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق ، ولأنه لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان الترك جائزاً شرعاً أو محرماً فسبب اختلافات الأحكام الشرعية لا يخرج السبب عن كونه مؤثراً ، ولأن البخل أو التولي أو الإعراض هو بعينه خلاف ما وعدوا الله به فيصير تقدير الآية إن التولي أوجب النفاق بسبب التولي وهذا كلام كما ترى فلم يبق إلا أن يسند الفعل إلى الله تعالى فيكون فيه دليل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله ، ومن هنا قال الزجاج : معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فالله تعالى يضلهم عن الدين في المستقبل ومما يؤكد القول بأن الضمير في { أعقب } لله أن الضمير في قوله { إلى يوم يلقونه } عائد إلى الله . وللمعتزلة أن يقولوا : النفاق وإن سلم أنه وجودي لكنه أمر شرعي ولا يبعد جعل شيء عدمي أمارة عليه .

وأيضاً الترك المقرون بالتولي والإعراض لا نسلم أنه لا يحصل معه النفاق ، ولا يلزم من كون الترك المحرم موجباً للكفر بجعل الشارع كون الترك الجائز كذلك ، ولا نسلم أن البخل هو بعينه إخلاف الوعد والكذب بل قد يقع البخل من غير سبق وعد . سلمنا عود الضمير إلى الله لكن من أين يلزم كونه خالقاً للكفر والنفاق ، ولم لا يجوز أن يراد فأعقبهم الله العقوبة على النفاق بإحداث الغم في قلوبهم وضيق الصدور ما ينالهم من الذل والخوف ، أو يراد فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا؟ ولأهل السنة أن يقولوا هذا عدول عن الظاهر مع أن الدلائل الدالة على وجوب انتهاء الكل إلى مشيئة الله وتقديره تعضد ما قلناه . قال العلماء : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق ، فعلى المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه . ومذهب الحسن البصري أن نقض العهد يوجب النفاق لا محالة تمسكاً بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم « ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان » وقال عطاء بن أبي رباح : حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذكر قوله « ثلاث من كن فيه فهو منافق » في المنافقين خاصة الذين حدثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوه واؤتمنوا على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه . ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال : إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله ، وإذا وعد أخلف كما ذكره الله فيمن عاهده ، وإذا أؤتمن على دين الله خان في السر وكان قلبه على خلاف لسانه . ونقل أن واصل بن عطاء أرسل إلى الحسن رجلاً فقال : إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم { فأكله الذئب } [ يوسف : 17 ] فكذبوا ، ووعدوه في قولهم { وإنّا له لحافظون } [ يوسف : 12 ] فأخلفوا وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه ، فهل تحكم بكونهم منافقين؟ فتوقف الحسن في مذهبه . قال أهل التفسير : قوله { إلى يوم يلقونه } دل على أن ذلك المعاهد يموت على ذلك وكان كما أخبر فيكون إخباراً بالغيب ومعجزاً . قال الجبائي : هذا اللقاء لا شك أنه ليس بمعنى الرؤية لأن الكفار لا يرونه بالاتفاق فدل على أن اللقاء في القرآن ليس بمعنى الرؤية ، وضعف بأنه لا يلزم من عدم كون هذا اللقاء بمعنى الرؤية كون كل لقاء ورد في القرآن كذلك كقوله { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [ البقرة : 46 ] .
ثم وبخهم على التجاهل أو عدم العلم بعلم الله وإحاطته بضمائرهم وتناجيهم فقال { ألم يعلموا } الآية .

والسر ما ينطوي عليه الصدر ، والنجوى ما يكون بين اثنين وأكثر مع الإخفاء عن غيرهم . والترتيب يدل على التخليص كما مر في الإنجاء كان المتناجيين تخلصا عن غيرهما ومنه { خلصوا نجياً } [ يوسف : 80 ] ومعنى الآية كيف تتجرؤون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع أنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ويعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر لأنه العالم بجميع المعلومات على أي وجه يفرض؟! عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم ذات يوم وحثهم على أن يجمعوا الصدقات ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها فاجعلها في سبيل الله وأمسكت نصفها لعيالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى إنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله فهما مائة وستين ألف درهم . وقيل؛ صولحت إحداهما على ثمانين ألفاً . وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال : أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر ، أمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر لربي ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياء وسمعة ، وأما أبو عقيل فإنه جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله سبحانه { الذين يلمزون المطوعين } أي المتطوعين فأدغمت . والتطوع التنفل وهو الطاعة لله بما ليس بواجب . والجهد بالضم والفتح شيء قليل يعيش به المقل ، قاله الليث . وقال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم . وفرق ابن السكيت بينهما فقال : الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة . وقال الشعبي : الأول في العمل والثاني في القوة { سخر الله منهم } خير لا دعاء كقوله { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] وقد عرفت أن هذا من قبيل المشاكلة ، أو المراد منه لازم السخرية وهو إيقاع الذل والهوان بهم . وقال الأصم : المراد أنه تعالى يكلفهم إنفاق المال مع أنه لا يثيبهم عليه ، وإنما توجه الذم على المنافقين في هذا اللمز لأن الحكم بالرياء لمن يعطي الكثير كعبد الرحمن بن عوف وعاصم حكم على بواطن الأمور وذلك أمر استأثر الله به ورسوله . وأيضاً لمز الفقير على جهد المقل سفه لأنه لما لم يقدر إلا عليه فقد بذل كل ما له فعلم منه غالباً أنه إن قدر على أكثر من ذلك لم يكن منه منع ، وسعي الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة ، ولو لم تكن فيه إلا الثقة بالله والدخول في زمرة من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لكفى به منقبة وفضلاً .

التأويل : { بعضهم أولياء بعض } لأن التعارف في عالم الأرواح يوجب التآلف في عالم الأشباح { يأمرون بالمعروف } الحقيقي أي بطلبه والمطلوب هو الله لقوله « فأحببت أن أعرف » { وينهون عن المنكر } وهو ما يقطع العبد عن الله { ويقيمون الصلاة } الحقيقة { ويؤتون الزكاة } يعني ما فضل عن كفافهم الضروري { ويطيعون الله ورسوله } بخلاف المنافقين فإنهم يطيعون النفس والهوى { ومساكن طيبة } على مراتب النفوس الطيبة فإن الطيبات للطيبين { يا أيها النبي } يعني القلب الذي له نبأ من مقام الانباء { جاهد } النفوس الكافرة بسيف الصدق والمخالفات ، وجاهد نفوس المريدين الذين يدعون الإرادة في الظاهر دون الباطن { واغلظ عليهم } في المؤخذات بأحكام الشريعة والطريقة حتى تتمرن نفوسهم وإلا { فمأواهم جهنم } القطيعة { ولقد قالوا كلمة الكفر } وهي التي توجب الإنكار والاعتراض على الشيخ { وهموا بما لم ينالوا } أي أثبتوا لأنفسهم مرتبة الشخيوخة قبل أوانها { وما نقموا } إلا أن الشيخ رباهم بلبان فضل الله عن حلمة الولاية فلم يحتملوا لضيق حوصلة الهمة ، ومربد الطريقة أعظم من مربد الشريعة فلهذا يكون عذابه أليماً في الدنيا والآخرة كما قال الجنيد : لو أقبل صديق إلى الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله { ومنهم من عاهد الله } باستعداده الفطري { لئن آتانا من فضله } جعلنا متمكنين من اكتساب الكمال { لنصدقن } لنصرفن كل ما أعطانا فيما أعطى لأجله { إلى يوم يلقونه } أي يلقون جزاء النفاق { وأن الله علام الغيوب } يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو غيب عن الخلف ويعلم ما يستكن في قلوبهم وهو غيب في نفوسهم ولهذا قال { الغيوب } . { سخر الله منهم } ذكره بلفظ الماضي ليعلم ان سخرية المنافقين نتيجة سخرية الله بهم في الأزل .


اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

القراآت : { معي أبدأ } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والمفضل { معي عدو } بالفتح : حفض فقط .
الوقوف : { أو لا تستغفر لهم } ط { فلن يغفر الله لهم } ط { ورسوله } ط { الفاسقين } ه { في الحر } ط { حراً } م لأن المعنى لو كانوا يفقهون حرارة النار لما قالوا لا تنفروا في الحر . ولو وصل لأوهم أن جهنم لا يكون نارها أشد حراً إذا لم يفقهوا ذلك { يفقهون } ه { كثيراً } ج لأن { جزاء } يصلح أن يكون مفعولاً له أو مصدر محذوف أي يجزون جزاء { يكسبون } ه { معي عدوّاً } ط { الخالفين } ه { على قبره } ط { فاسقون } ه { وأولادهم } ط { كافرون } ه { القاعدين } ه { لا يفقهون } ه { وأنفسهم } ط { الخيرات } ز لابتداء وعد الفلاح على التعظيم بدليل تكرار { أولئك } مع اتفاق الجملتين . { المفلحون } ه { خالدين فيها } ط { العظيم } ه .
التفسير : عن ابن عباس ان عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا : يا رسول الله استغفر لنا واشتغل بالاستغفار لهم فنزل { استغفر لهم } الآية ، ومن المفسرين من قال : إنهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم وإن الله نهاه عنه . والنهي عن الشيء لا يدل على أن المنهي أقدم على ذلك الفعل . ثم إن الدليل قد يدل على أنه ما اشتغل بالاستغفار لأن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه أن الاستغفار للكافر غير جائز ، ولأن الاستغفار للمنافق يجري مجرى اغرائه على مزيد النفاق ولأنه يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير مجاب الدعوة وإن أكثر في الدعاء . ومن الفقهاء من قال : التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه لما روي أنه لما نزلت الآية قال صلى الله عليه وسلم : « لأزيدن على السبعين » فنزل { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } [ المنافقون : 6 ] فكف عنه . فلولا أنه فهم بدليل الخطاب أن الأمر فيما وراء السبعين بالخلاف لم يقل لأزيدنّ على ذلك . وأجيب بأنه أراد إظهار الرحمة والرأفة بأمته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم لبعض لا أنه فهم منه ذلك ، كيف وقد قال تعالى { لن يغفر الله لهم } وأردفه بقوله { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } . فليس المقصود بهذا العدد تحديد المنع وإنما هو كقول القائل لمن يسأله حاجة : لو سألتني سبعين مرة لم أقضها . ولهذا بين العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وهي كفرهم وفسقهم ، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين . وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهاً هو أن السبعة عدد شريف لأنه عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع ، فضرب السبعة في عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها .

وقيل : خص بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم كبّر على حمزة سبعين تكبيرة وكأنه قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة : هذا وقد مر في تفسير قوله { قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً } [ التوبة : 53 ] أن هذا أمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لا ، وانتصاب سبعين على المصدر كقولك : ضربته عشرين ضربة . ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعالهم فقال { فرح المخلفون } قيل : إنهم احتالوا أن يتخلفوا وكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون . وأجيب بأنهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو أريد خلفهم كسلهم ونفقاهم والشيطان ، أو المجاهدون لما لم يوافقوهم في القعود فكأنهم خلفوهم ، أو أطلق عليهم المخلفون باعتبار أنهم سيصيرون ممنوعين من الخروج في الآية الآتية { فإن رجعك الله } إلى قوله { ولن تقاتلوا معي عدواً } ومعنى { بمقعدهم } بقعودهم قاله مقاتل . أو بموضع قعودهم وهو المدينة قاله ابن عباس . ومعنى { خلاف رسول الله } صلى الله عليه وسلم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا قاله قطرب والزجاج فانتصابه على أنه مفعول له أي قعد والأجل خلافه أو على الحال مثل « فأرسلها العراك » أي مخالفين له ، وقال الأخفش ويونس : الخلاف بمعنى الخلف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان يخالفها جهة الخلف { وكرهوا أن يجاهدوا } كيف لا يكرهون وليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإخلاص ومعهم صارف الكفر والنفاق؟ وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين أموالهم وأرواحهم في الله المؤثرين ذلك على الدعة والخفض . واعلم أن الفرح بالإقامة يدل على كراهية الذهاب إلا أنه صريح بذلك للتوكيد ، ولعل المراد أنه مال طبعهم إلى الإقامة لإلفهم بالبلد واستئناسهم بالأهل والولد ، وكرهوا الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس والمال للقتل والإهدار . { قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون } أن بعد هذه الدار دار أخرى وبعد هذه الحياة حياة أخرى . وهذه المشقة منقضية سهلة وتلك باقية صعبة ولبعضهم وكأنه صاحب الكشاف :
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقاب
وفي هذا استجهال عظيم لهم . ثم قال { فليضحكوا } وهو خبر إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره ومعناه فسيضحكون قليلاً أي ضحكاً قليلاً أو زماناً قليلاً وسيبكون كثيراً . يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم . ثم عرف نبيه وجه الصلاح في سائر الغزوات فقال { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } أي إن ردّك إلى المدينة .

الرجع متعد مثل الرد ، والرجوع لازم . وإنما قال طائفه لأن منهم من تاب عن النفاق وندم أو اعتذر بعذر صحيح . وقيل : لم يكن المخلفون كلهم منافقين فأراد بالطائفة المخلفين من المنافقين . { فاستأذنوك للخروج } إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك { فقل لن تخرجوا معي أبداً } عاقبهم بإسقاط عن ديوان الغزاة جزاء على تخلفهم لما فيه من الذم والطرد وصلاحاً لأمر الجهاد لما في استصحابهم من المفاسد المذكورة في قوله { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاَّ خبالاً } [ التوبة : 47 ] ويعني بأول مرة غزوة تبوك . وإنما لم يقل أول المرات معرفاً مجموعاً لأن المعنى إن فصلت المرات مرة مرة كانت هذه أولها نظيره « هو أفضل رجل » يعني إن عدّ الرجال رجلاً رجلاً كان هو أفضلهم . وإنما لم يقل « أولى مرة » لأن أكثر اللغتين « هند أكبر النساء » ولا يكاد يقال « هي أكبر امرأة » { فاقعدوا مع الخالفين } كقوله { وقيل اقعدوا مع القاعدين } { التوبة : 46 ] والخالف من يخلف الرجل في قومه . وعن الأصمعي أنه الفاسد من خلف اللبن والنبيذ إذا فسد . وعن الفراء معناه المخالف . قال قتادة : ذكر لنا أن الخالفين الذين أمروا بالقعود كانوا اثني عشر رجلاً . عن ابن عباس أنه لما اشتكى عبد الله ابن أبيّ ابن سلول عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ويعطيه قميصه الذي يلي جلده ليكفن فيه ففعل كل ذلك . وعنه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفي عبد الله بن أبيّ دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه ، فلما وقف علي يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله أعلى عدوّ الله عبد الله ابن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد أيامه ورسوله صلى الله عليه وسلم يتبسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت . قال : ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم . قال : فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } الآية . فما صلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله . قال المفسرون : وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بعبد الله بن أيّ قال : وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله ، والله إن كنت لأرجو أن يسلم به ألف من قومه وكان كما قال .

وقيل : لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول أنه انتقل إلى الإيمان لأنه وقت يتوب فيه الكافرة فرغب أن يصلي عليه . وذكر من أسباب دفع القميص أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أسيراً ببدر ولم يجدوا له قميصاً طويلاً فكساه عبد الله قميصه ، ومنها أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك . فقال : إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه . ومنها أنه كان لا يرد السائل لقوله تعالى { وأما السائل فلا تنهر } [ الضحى : 10 ] ومنها أن ابنه عبد الله كان من الصالحين فالرسول أكرمه لمكان ابنه . ومنها إظهار الرأفة والرحمة كما مر .
قوله { مات } صفة لأحد { وأبداً } ظرف لقوله { لا تصل } وإنه يحتمل تأبيد النفي ونفي التأبيد والظاهر الأول ، لأن القرائن تدل على منعه من أن يصلي على أحد منهم منعاً كلياً دائماً . قال الزجاج : معنى قوله { ولا تقم على قبره } أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ههنا منه . وقال الكلبي : معناه لا تقم بإصلاح مهمات قبره و { أنهم كفروا } تعليل للنهي ويرد عليه أن الكفر حادث وحكم الله قديم والحادث لا يكون علة للقديم . وأجيب بأن العلة ههنا بمعنى الإمارة المعرفة للحكم . قال في الكشاف : وإنما قيل مات وماتوا بلفظ الماضي والمعنى على الاستقبال على تقدير لكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة . وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه ، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبح في جميع الأديان . أما قوله { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم } فقد سبق مثله في هذه السورة بتفاوت ألفاظ فوجب علينا أن نذكر سبب التفاوت ، ثم فائدة التكرار فنقول والله تعالى أعلم بمراده : إنما ذكر النهي ههنا بالواو وهناك بالفاء لأنه لا تعلق له ههنا بما قبله وهو موتهم على حالة الفسق خلاف ما هنالك . وإنما قال ههنا { وأولادهم } بدون « لا » لأن المراد هنالك الترقي من الأدون إلى الأعلى وهو أن إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم كقولك : لا يعجبني أمر النائب ولا أمر المنوب . وههنا أراد المعية فقط إما اكتفاء بما سبق هناك ، وإما لأن هؤلاء أقوام آخرون لم يكن عندهم تفاوت بين الأمرين . وقيل : إنه هناك لما علق الثاني بالأول تعليق الجزاء بالشرط أكد معنى النهي بتكرار « لا » ، وإنما قال ههنا { إن يعذبهم } لأنه إخبار عن قوم ماتوا على الكفر فتعلق الإرادة بما هم فيه وهو العذاب .

وأما في الآية المتقدمة فالمفعول محذوف وقد مر . وقيل : الفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه « أن » ، وإنما حذف الحياة ههنا اكتفاء بما ذكر هنالك وقيل تنبيهاً على أن الحياة الدنيا لا تستحق أن تسمى حياة لخستها . وأما فائدة التكرير فهي المبالغة في التحذير من الأموال والأولاد لأنها جذابه للقلوب فتحتاج إلى صارف قوي ، ويحتمل أن تكون الأولى في قوم والثانية في آخرين . وقيل : الثانية في اليهود والأولى في المنافقين . ثم عاد إلى توبيخ المنافقين فقال { وإذا أنزلت سورة } أي تمامها ويجوز أن يزاد عليها كما يقع القرآن والكتاب على بعضه . وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد { أن آمنوا } « أن » هي المفسرة لأن إنزال السورة في معنى القول . وقال الواحدي : تقديره بأن آمنوا وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان { أولوا الطول } ذو الفضل والسمعة من طال عليه طولاً قاله ابن عباس والحسن . وقال الأصم : الرؤساء والكبراء المنظور إليهم ، وخصوا بالذكر لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود { مع القاعدين } مع أصحاب الأعذار من الضعفة والزمنى . والخوالف النساء اللواتي تخلفن في البيت ، وجوز بعضهم أن يكون الخوالف جمع خالف وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف . ثم قال { وطبع على قلوبهم } كقوله { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] وقد مر البحث فيه ، وقال الحسن : البطع بلوغ القلب في الكفر إلى حد كأنه مات عن الإيمان . وقالت الأشاعرة : هو حصول داعية الكفر المانعة من الإيمان . والطبع في اللغة الختم وهو التأثير في الطين ونحوه ، ومنه الطبع للسجية التي جبل عليها الإنسان { فهم لا يفقهون } أسرار حكمة الله في الجهاد أو في الذهاب من السعادة وما في التخلف من الشقاء . وفي قوله { لكن الرسول } نكتة هي أنه إن تخلف هؤلاء فقد أنهض إلى الغزو من هو خير منهم وأصدق نية كقوله { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [ الأنعام : 89 ] ثم ذكر منافع الجهاد على الإجمال فقال { وأولئك لهم الخيرات } وهي شاملة لمنافع الدارين . وقيل : هي الحور لقوله { فيهن خيرات حسان } [ الرحمن : 70 ] وقوله { وأولئك هم المفلحون } المراد منه الخلاص من المكاره . ثم فصل ما أجمل فقال { أعد الله } الآية وقيل : الخيرات الفلاح في الدنيا وهذه في الآخرة . و { الفوز العظيم } عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية .
التأويل : إنما لم يؤثر استغفار الرسول في حقهم لقصور في القائل لا لتقصير في الفاعل ، والأثر يتوقف على الأمرين { جزاء بما كانوا يكسبون } من رين القلوب وكدورة الأرواح بظلمة الصفات الحيوانية . { وهم كافرون } مستورو القلوب بحجاب حب الأموال والأولاد . لهم الخيرات لما سعوا سعي العبودية نالوا خيرات الربوبية ، { هم المفلحون } المتخلصون عن حجب صفات النفس { ذلك الفوز العظيم } إذ لا حجاب أعظم من حجاب النفس والله أعلم .


وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

القراآت : { المعذرون } من الأعذار : قتيبة ويعقوب . الباقون : بالتشديد { دائرة السوء } بضم السين وكذلك في الفتح : أبو عمرو وابن كثير . الآخرون بفتحها { قرية } بضم الراء : نافع غير قالون : الباقون بإسكانها وكلاهما بمعنى .
الوقوف : { ورسوله } ط { أليم } ه { لله ورسوله } ط { من سبيل } ط { رحيم } ه لا للعطف ، { ما ينفقون } ه { أغنياء } ج لاحتمال أن يكون { رضوا } مستأنفاً أو وصفاً . { مع الخوالف } لا لأن الواو إما للعطف أو للحال . { لا يعلمون } ه { إليهم } ط { من أخباركم } ط { تعملون } ه { لتعرضوا عنهم } ط { عنهم } ط { رجس } ز لاختلاف الجملتين مع شدة اتصال المعنى في إتمام الوعيد . { جهنم } ج لأن جزاء يصلح أن يكون مفعولاً له أو مفعولاً مطلقاً محذوف أي يجزون جزاء { يكسبون } ه { لترضوا عنهم } ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب . { الفاسقين } ه { على رسوله } ط { حكيم } ه { الدوائر } ط { دائرة السوء } ط { عليم } ه { الرسول } ط { لهم } ط { في رحمته } ط { رحيم } ه .
التفسير : لما شرح أحوال منافقي المدينة شرع في أحوال المنافقين من أهل البدو فقال { وجاء المعذرون } من قرأ بالتخفيف فهو من أعذر إذا اجتهد في العذر وبالغ فيه ومنه قولهم : من أنذر فقد أعذر . فكأنه تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكافرين؛ فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر وهم أسد وغطفان قالوا : إن لنا أتباعاً وعيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف . وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وآله : سيغنيني الله عنكم . وعن مجاهد : نفر من غفار . ومن قرأ بالتشديد ففيه وجهان : الأوّل أن يكون من التعذير وهو التقصير في الأمر والتواني فيه وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له . الثاني وقد ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري أنه من الاعتذار والأصل فيه المعتذرون أدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين . والاعتذار قد يكون بالكذب كقوله تعالى : { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا } وقد يكون صحيحاً كقول القائل :
ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر ... أي ما جاء بعذر صحيح . فإذا أخذنا بقراءة التخفيف كان المعذرون صادقين ، وإذا أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فاحتمل الأمران . ومن المفسرين من رجح جانب صدقهم لأنه تعالى ميزهم من الكاذبين بقوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } ومنهم من مال إلى أنهم كاذبون . روى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه قال : إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل وهم الذين عناهم الله بقوله { وجاء المعذرون } وتخلف آخرون لا بعذر ولا بشبهة عذر جراءة على الله وهم الذين أرادهم الله بقوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان .

{ سيصيب الذين كفروا منهم } أي من الأعراب { عذاب أليم } في الدنيا بالقتل وفي العقبى بالنار . وإنما قال : { منهم } لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب . ثم ذكر أن تكليف ساقط عن أصحاب الأعذار الحقيقية فقال { ليس على الضعفاء } وهم الذين في أبدانهم ضعف في أصل الخلقة أو لهرم { ولا على المرضى } ويدخل فيه أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } في الغزو على أنفسهم { حرج } قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، وفيه دليل على أنه لا يحرم عليه الخروج إذا أمكنه الإعانة بمقدار القدرة كحفظ متاع المجاهدين وتكثير سوادهم وإنما يكون ذلك طاعة مقبولة منه إذا لم يجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم . ثم إنه شرط في جواز العقود النصح لله ورسوله ليحترزوا بعدهم عن إلقاء الإرجاف وإثارة الفتن ويقوموا على إصلاح مهمات بيوتهم . وبالجملة على كل ما له مدخل في طاعة الله ورسوله وموافقة السر العلن كما يفعل المولى . الناصح بصاحبه . ثم قال : { ما على المحسنين } أي المعذورين الناصحين { من سبيل } للعتاب والمؤاخذة . قال بعض أهل الظاهر كداود الأصفهاني وغيره : إن المحسن هو الآتي بالإحسان ورأس الإحسان وسنامه هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله . فهذا يدل على أن الملكف إذا تكلم بهذه الكلمة برئت ذمته عن مطالبة نفسه وماله إلا بدليل منفصل كما أن السلطان لو قال لأهل مملكته تكليفي عليكم كذا وكذا وبعد ذلك لا سبيل لأحد على أحد كان ذلك دليلاً على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء ذلك لأن باب النفي لا نهاية له فلا ينضبط إلا بهذا الطريق . وعلى هذا لو ورد في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصاً على أن التكاليف محصورة فيها وفيما وراءها ليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي ، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة ويكون القرآن وافياً ببيان التكاليف والأحكام ، ولا حاجة إلى التمسك بالقياس لأن هذا النص دل على أن الأصل براءة الذمة . فإن كان القياس مفيداً للبراءة أيضاً فضائع ، وإن كان يفيد شغل الذمة صار مخصصاً لعموم النص ، وإنه لا يجوز لأن النص أقوى من القياس . ولما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بيّن قسماً رابعاً وهم الذين لا يجدون الراحلة وإن قدروا على الزاد فقال : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } أي على المركوب . قلت : قال في الكشاف : هو حال من الكاف في { أتوك } بإضمار « قد » أي إذا ما أتوك قائلاً { لا أجد ما أحملكم عليه تولوا } وجوز أن يكون واسطة بين الشرط والجزاء كالاعتراض .

قلت : ويحتمل أن يكون بدلاً من { أتوك } . قال مجاهد : هم أبناء مقرن معقل وسويد والنعمان ، وقيل : أبو موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله يستحملونه ووافق منه غضباً فقال : والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم مدبرون يبكون فدعاهم وأعطاهم ذو داغر الذري . فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله فقال : أما إني إن شاء الله لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني . وقيل : هم البكاؤون سبعة نفر من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وعلبة بن زيد وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة وعبد الله بن مغفل ، أتوا رسول الله صلى الله عيه وآله فقالوا : يا نبي الله إن الله عز وجل قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك . فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وهم يبكون . وقوله { تفيض من الدمع } كقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كلها فائضة . و « من » للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز . { حزناً أن لا يجدوا } أي على أن لا يجدوا . { إنما السبيل } أي سبيل الخطاب والعتاب في أمر الغزو والجهاد { على الذين يستأذنوك } في التخلف وهم أغنياء . ثم قال على سبيل الاستئناف { رضوا } كأنه قيل ما لهم استأذنوا وهم قادرون على الاستعداد؟ فقيل : رضوا بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف ومن جملة أسباب الاستئذان أن طبع الله تعالى على قلوبهم . قال لأهل العلم : لما قال في الآية الأولى و { إذا أنزلت سورة } [ التوبة : 86 ] قال هناك { وطبع } [ التوبة : 87 ] ليكون المجهول مبنياً على المجهول بخلافه في هذه الآية . ثم إن العلم فوق الفقه فكان أنسب بالمقام الذي جرى فيه ذكر الله . أما قوله { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم } فإنه علة المنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً فإذا علم بأن القوم يكذبونه وجب عليه تركه . وقوله { قد نبأنا الله } علة لانتفاء التصديق . { وسيرى الله عملكم } يعني رؤية وقوع أي سيقع أنكم هل تبقون على الحالة التي تظهرونها أم لا . وفي قوله { ثم تردّون على عالم الغيب } تخويف شديد وفيه أنه مطلع على بواطنهم الخبثة وضمائرهم المملوءة من النفاق والكذب . وإنما لم يقل في هذه الآية و « المؤمنون » كما في الآية التي تجيء ، لأن هذه في المنافقين ولا يطلع على ما في باطنهم إلا الله ثم رسوله باطلاع الله إياه أو بنور نبوته كما قال { قد نبأنا الله من أخباركم } والآية الأخرى في المؤمنين وعباداتهم ظاهرة للكل .

وختم آية المنافقين بقوله { ثم تردون } لأنه وعيد فقطعه عن الأول بخلاف آية المؤمنين حيث وصلها بالواو لأنه وعد من الله . ثم ذكر أن منافقي الأعراب سيؤكدون أعذارهم بالأيمان الكاذبة مثل ما حكى تعالى عن منافقي المدينة فقال : { سيحلفون بالله لكم } أي لأجلكم { إذا انقلبتم } أي رجعتم { إليهم } ولم يذكر المحلوف عليه . والظاهر أنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج ولكن بين غرضهم من الحلف فقال { لتعرضوا عنهم } أرادوا الصفح والعفو فأمر الله المؤمنين بإعطاء طلبتهم ولكن على سبيل المقت لا الصفح ولهذا قال ابن عباس : أراد ترك الكلام والسلام . وقال مقاتل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة : لا تجالسوهم ولا تكلموهم وكانوا ثمانين رجلاً منهم جد بن قيس ومعتب بن قشير . ثم بين علة الاجتناب عنهم فقال : { إنهم رجس } فكأنهم نجس العين فلا سبيل إلى تطهيرهم بالعتاب والتوبيخ وفي أمثالهم إنما يعاتب الأديم ذو البشرة . المعاتبة المعاودة وبشرة الأديم ظاهره الذي عليه الشعر أي إنما يعاد الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته ، يضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب وإذا لم تكن المعاتبة نافعة فيهم فتركها هو الصواب { ومأواهم } جهنم منقلبهم النار عتاباً توبيخاً .
ثم بين أنهم طلبوا إعراض الصفح بقوله { يحلفون لكم لترضوا عنهم } نهاهم عن الرضا بقوله { فإن ترضوا عنهم } الآية ، ذلك أن إرادة المؤمن يجب أن تكون موافقة لإرادة الله ، وأي فائدة في رضا المؤمنين إذا كان الله تعالى ساخطاً عليهم؟ . ثم عدد مثالب الأعراب وأراد بهم جمعاً معينين كانوا يوالون منافقي المدينة . قال أهل اللغة : رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً ، ورجل أعرابي إذا كان بدوياً سواء كان من العرب أو من مواليهم وجمعه أعراب كالمجوسي والمجوس واليهودي واليهود . فالأعرابي إذا قيل له يا أعرابي فرح ، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب ، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ومن نزل البادية فهو أعرابي ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب وإنما هم عرب . قال صلى الله عليه وسلم : « لا تؤمنّ امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولا أعرابي مهاجراً » قيل : إنما سمى العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤا بالعربة وهي من تهامة ونسبوا إلى بلدهم ، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم . وقيل : لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم لما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة ، يحكى عن بعض الحكماء أنه قال : حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمة الهند في أوهامهم ، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية ، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم . وإنما حكم على الأعراب بأنهم أشد كفراً ونفاقاً لأنهم يشبهون الوحوش .

سئل بعض الحكماء ما بال أهل البادية لا يحتاجون إلى الطبيب؟ فقال : كما لا يحتاج حمر الوحش الى البياطرة ولاستيلاء الهواء الحار عليهم الموجب لكثرة الطيش والخروج عن الاعتدال ، وإن من أصبح وأمسى مشرفاً عليه أنوار النبوة ومشرفاً باستماع مواعظه وآدابه كيف يكون مساوياً لمن نشأ كما يشاء من غير سياسة سائس ولا تأديب مؤدب؟! وإن شئت فقس الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « إن الجفاء والقسوة في الفدّادين » أي الأكارين لأنهم يفدّون أي يصيحون . وقوله : { وأجدر } أي أولى وأحق { بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله } أي مقادير تكاليفه وأحكامه وما تنتهي إليه الأدلة العقلية والسمعية { والله عليم } بما في قلوب أهل البدو والحضر وأصحاب الوبر والمدر { حكيم } في كل ما قدر من الشرائع وما يتبعها من الجزاء . ثم نوع جنس الأعراب فقال : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } هو مفعول ثانٍ ليتخذ لأنه بمعنى الجعل والاعتقاد والزعم أي يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران . وقد عرفت أن أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه لزمه لأمر من خارج كتقية أو رياء ليس مما ينبعث من النفس ، والمغرم إما مصدر أو موضع . { ويتربص بكم الدوائر } نوب الزمان وتصاريفه ودوله وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه تشبيهاً بالدائرة التي تحيط بما في ضمنها بحيث لا يوجد منها مخلص . ثم خيّب الله ظنونهم بالإسلام وذويه بأن دعا عليهم بقوله : { عليهم دائرة السوء } وإنها جملة معترضة كقوله { غلت أيديهم } [ المائدة : 64 ] والسوء بالفتح مصدر أضيف إليه الدائرة للملابسة كقولك « رجل صدق » . قال في الكشاف : وهو ذم للدائرة لأن من دارت عليه ذامّ لها وبالضم اسم بمعنى البلاء . والعذاب ، والمراد أنهم لا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم . { والله سميع } لأقوالهم { عليم } بنياتهم . قيل : هم أعراب أسد وغطفان وتميم . ثم ختم الكلام بذكر الصالحين منهم فقال : { ومن الأعراب من يؤمن } الآية . والمعنى أنهم يعتقدون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند الله وسبباً لصلوات الرسول عليهم لأنه كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله : اللهم صل على آل أبي أوفى . ثم إنه تعال شهد لهم ولأمثالهم بصحة ما اعتقدوه فقال على طريق الاستئناف مؤكداّ بحرفي التنبيه والتحقيق { ألا إنها قربة لهم } ثم فسر القربة بقوله : { سيدخلهم الله في رحمته } والسين لتحقيق الوعد . قيل : هم عبد الله ذو البجاد بن ورهطه ، أخذت أمه بجاداً وهو كساء مخطط فشقته نصفين فردّته بأحدهما وأزرته بالثاني وبعثته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان قائده والله أعلم .
التأويل : الناس ثلاثة : المتضررون المعذرون المعترفون بتقصيرهم ، والقاعدون الكذابون ، والناصحون المخلصون في الطلب ولكن فيهم الضعفاء والمرضى والفقراء فلا حرج عليهم في القعود عن طلب الكمال بالظواهر مع اشتغال البواطن في الطلب بقدر الاستعداد .

{ ولا على الذين إذا ما أتوك } بطريق المتابعة { لتحملهم } على جناح الهمة النبوية وتوصلهم إلى مقامات لم يكونوا بالغيها بجناحي البشرية والروحانية { قلت لا أجد ما أحملكم عليه } ترفاً ودلالاً واستيراء لزناد أشواقهم كما قيل لموسى لن تراني زيادة لشوقه وهم أغنياء لهم الاتسعدادات الكاملة فلم يستعملوها في طلب الكمال كسلاً وميلاً إلى اللذات العاجلة . { الأعراب أشد كفراً } إن في عالم الإنسانية بدواً هو نفسه وحضراً هو قلبه ، والكفر والنفاق للنفس مقتضى الذات كما أن الإيمان للقلب لذاته بالفطرة ، وقد يصير القلب كافراً بسراية النفس وقد تصير النفس مؤمنه بسراية القلب ، ولكن النفس تكون أشد كفراً من القلب الكافر كما أن القلب يكون أشد أيماناً من النفس المؤمنة . { حدود ما أنزل الله على رسوله } يعني الواردات النازلة على الروح فإن القلب حضر الروح كما أن المدينة حضر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن النفوس من يعتقد أن ما يصرف من أوقاته في طلب الكمال ضائع وخسار وينتظر بالقلب اشتغالاً وفترة . { عليهم دائرة السوء } باستيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها { والله سميع } يجيب هذا الدعاء { عليم } بمن ينبغي أن يسمع في حقه .


وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

القراآت : { من تحتها } بزيادة من : ابن كثير . والباقون بحذفها وبالنصب على الظرف . { والأنصار } بالرفع : يعقوب : الآخرون بالجر . { إن صلاتك } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون على الجمع بكسر التاء علامة للنصب { مرجون } بواو ساكنة بعد الجيم : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى أبي بكر وحماد . الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم . { الذين اتخذوا } بغير واو : أبو جعفر ونافع وابن عامر { أسس بنيانه } مجهولاً في الحرفين : ابن عامر ونافع { حرف } بسكون الراء : ابن عامر وحمزة وخلف ويحيى وحماد . الباقون بالضم { هار } بالإمالة : أبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو وعلي غير ليث ، وابن حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وابن ذكوان غير ابن مجاهد والنقاش ويحيى وحماد { إلى أن } قرأها يعقوب . الباقون { إلا أن } { تقطع } فعلاً ماضياً أو مضارعاً بحذف التاء من التفعل : ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل وسهل ورويس . { تقطع } مضارعاً مجهولاً من التقطع : روح . الباقون { تقطع } مضارعاً مجهولاً من التقطيع .
الوقوف : { بإحسان } لا لأن قوله : { رضي الله عنهم } خبر { والسابقون } { أبداً } ط ه { العظيم } ه { منافقون } ط لمن قدر ومن أهل المدينة قوم مردوا ، ومن وصل وقف على { أهل المدينة } تقديره هم مردوا { على النفاق } ط { ومن قدر ومن أهل المدينة قوم احتمل أن يجعل { لا تعلمهم } صفة للقوم فلم يقف { لا تعلمهم } ط { نحن نعلمهم } ط { عظيم } ه ج لاحتمال أن يكون التقدير ومنهم آخرون وأن يكون معطوفاً على { منافقون } أو على قوم المقدر { سيئاً } ط { عليهم } ط { رحيم } ه { وصل عليهم } ط { لهم } ط { عليم } ه { الرحيم } ه { والمؤمنون } ط { تعملون } ه { يتوب عليهم } ط { حكيم } ه { من قبل } ط { الحسنى } ط { لكاذبون } ه { أبدا } ط { أن تقوم فيه } ط { أن يتطهروا } ط { المطهرين } ه { في نار جهنم } ط { الظالمين } ط { قلوبهم } ط { حكيم } ه .
التفسير : لما ذكر الأعراب المخلصين بين أن فوق منازلهم منازل أعلى وأجل وهي منازل السابقين الأوّلين والتابعين لهم بإحسان؛ قال ابن عباس : السابقون الأوّلون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً . وعن الشعبي : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان بالحديبية ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر ، وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن . والظاهر أن الآية عامة ي كل من سبق في الهجرة والنصرة . قال أهل السنة : لا شك أن أبا بكر أسبق في الهجرة أو هو من السابقين فيها وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنه رضي عنهم . ولا شك أن الرضا معلل بالسبق إلى الهجرة فيدوم بدوامه ، فدل ذلك على صحة إمامته وإلا استحق اللعن والمقت .

قال أكثر العلماء : كلمة « من » في قوله { من المهاجرين والأنصار } للتبعيض ، وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وفيهم ضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم . وقد قيل : من سن سنة حسنه فله أجرها وأجر من عمل بها . وقيل : للتبيين ليتناول المدح جميع الصحابة . وروي عن حميد بن زياد أنه قال : قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي : ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بينهم؟ فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم . قلت له : في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال : سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى : { والسابقون الأوّلون } إلى آخر الآية؟ أوجب لجميعهم الرضوان وشرط على التابعين شرطاً لم يشترط عليهم وهو الاتباع بالإحسان وذلك أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة لا السيئة ، أو بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءاً ويحفظوا لسانهم عن الاغتياب والطعن في حقهم . قال العلماء : معنى رضا الله عنهم قبول طاعاتهم . ثم عاد إلى شرح أحوال المنافقين فقال : { وممن حولكم } هو خبر و { من الأعراب } بيان أو حال و { منافقون } مبتدأ { ومن أهل المدينة } عطف على الخبر أو خبر لمبتدأ آخر بناء على أن التقدير ومن أهل المدينة قوم { مردوا } التركيب يدل على الملابسة والبقاء على هيئة واحدة من ذلك « صرح ممرد » و « غلام أمرد » و « أرض مرداء » لا نبات فيها وتمرد إذا عتا فإن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على هيئته الأصلية من غير تغير . فمعنى مردوا على النفاق تمهروا وتمرنوا وبقوا عليه حذاقاً معوّدين إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع وفور حدسك وقوة ذكائك . ثم قال { سنعذبهم مرتين } قال ابن عباس : هما العذاب في الدنيا بالفضيحة والعذاب في القبر . روى السدي عن أبي مالك أنه صلى الله عليه وسلم قام خطيباً يوم الجمعة فقال : اخرج يا فلان إنك منافق ، اخرج يا فلان إنك منافق ، حتى أخرج ناساً وفضحهم . وقال مجاهد : هما القتل السبي وعذاب القبر . وقال قتادة : بالدبيلة وعذاب القبر . وقال محمد بن إسحق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام والمسلمين ثم عذابهم في القبور . وقال الحسن : بأخذ الزكاة من أموالهم وبعذاب القبر . وقيل : أحد العذابين ضرب الملائكة والوجوه والإدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق من نار . { ثم يردون إلى عذاب عظيم } هو الدرك الأسفل من النار . قال الكلبي : وممن حولكم جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار ، ومن أهل المدينة عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأبو عامر الراهب وأضرابهم .

ثم قال { وآخرون } وهو معطوف على { منافقون } أو مبتدأ . و { اعترفوا } صفته و { خلطوا } خبره { عسى الله } جملة مستأنفة . وقيل : { خلطوا } حال بإضمار « قد » { عسى الله } خبر . وللمفسرين خلاف في أنهم قوم من المنافقين تابوا عن نفاقهم أو قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق ولكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا . عن ابن عباس في رواية الوالبي نزلت في قوم كانوا قد تخلفوا ثم ندموا وقالوا نكون مفي الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد . روي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام . وقيل : كانوا عشرة فسبعة منهم حين بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد وقالوا : والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا . فقدم رسول الله فدخل المسجد وصلى ركعتين - وكانت هذه عادته كلما قدم من سفر - فرآهم موثقين فسأل عنهم فقالوا : هؤلاء تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم . فقال رسول الله : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا . فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل { خذ من أموالهم صدقة } الآية . والاعتراف هو الإقرار بالشيء عن معرفة والمراد أنهم أقروا بذنوبهم وهذه كالمقدمة للتوبة لأن الاعتراف بالذنب لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال . وفي الاستقبال { خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } أي خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن . وهذا أبلغ من قولك : خلطت الماء باللبن . لأنك جعلت في الأول كلاً منهما مخلوطاً ومخلوطاً به كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء . ويجوز أن يكون الواو بمعنى الباء من قولك : بعت شاة ودرهماً أي شاة بدرهم . وذلك أن الواو للجمع والباء للإلصاق فهما متقاربان . ويجوز أن يقال : الخلط ههنا بمعنى الجمع . قال أهل السنة : فيه دليل على نفي القول بالمحابطة لأنه لو لم يبق العملان لم يتصور اختلاطهما . وفي قوله { عسى الله أن يتوب عليهم } دليل على وقوع التوبة التي أخبر بحصول مقدمتها وهي الاعتراف منهم ، وفيه دليل على قبول توبتهم لأن { عسى } من الكريم إطماع واجب . وفائدته أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق فلا يتكل ولا يهمل ، وفيه أن التوبة بخلق الله .

وقالت المعتزلة : معنى أن يتوب أن يقبل التوبة . ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن الدليل العام وهو وجوب انتهار الكل إلى مشيئته وتكوينه يعضد ما قلناه .
ثم قال سبحانه { خذ من أموالهم صدقة } عن الحسن : كانوا يقولون ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر عنهم وبهذا يحصل النظم بينها وبين ما قبلها كما مر . وقال أكثر الفقهاء : المراد بها الزكاة ووجه النظم أنهم لما أظهروا التوبة والندامة أمروا بإخراج الزكاة الواجبة تصحيحاً لدعواهم . ومما يدل على ذلك أن الأمر ظاهره الوجوب وأيضاً التطهير والتزكية يناسب الواجب لا التطوع . وفي قوله { من أموالهم } دلالة على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال ، وتعيين ذلك البعض إنما عرف من السنة . وفي إضافة المال إليهم دليل على أن المال مالهم ولا شركة للفقير فيه فتكون الزكاة متعلقة بذمته حتى لو تلف النصاب بعد الوجوب بقي الحق في ذمة المالك وهو قول الشافعي . وقوله { تطهرهم وتزكيهم } التاء فيهما للخطاب أي تطهرهم أيها الآخذ وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة . وقيل : التاء في { تطهرهم } للتأنيث والضمير للصدقة وفيه نوع انقطاع للمعطوفين . قال العلماء : المعطوفان متغايران لا محالة فالتزكية مبالغة في التطهير أو هي بمعنى الإنماء كأنه تعالى جعل النقصان سبباً للإنماء والزيادة والبركة ، أو المراد بالتزكية تعظيم شأنهم والإثناء عليهم . قال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الزكاة طهرة للآثام فلا تجب إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعلم إلا في حق البالغ العاقل دون الصبي والمجنون . وقال الشافعي : تجب الزكاة في مالهما لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً { وصلِّ عليهم } قال ابن عباس : معناه ادع لهم . فمن هنا قال الشافعي : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول : أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت . وقال آخرون بظاهر اللفظ لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدتقه فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى : وأكثر الأئمة الآن على أنه لا تحسن الصلاة لغير النبي على غيره إلا تبعاً . وأطلق بعضهم - كالغزالي وإمام الحرمين - لفظ الكراهة وقالوا : السلام أيضاً في معنى الصلاة . وأما الشيعة فإنهم يذكرون الصلاة والسلام في حق آل الرسول أيضاً كعلي وأولاده عليه السلام وهم على العموم من القرشيين بنو هاشم والمطلب دون بني أمية وبني نوفل وغيرهم . قالوا : لأنها كانت جائزة في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمتنع ذكره أو لا يحسن في أهل بيت الرسول؟ ولأن الكل أجمعوا على جوازها بالتبعية فما الفرق؟ وأما السلام فلا كلام عليه لأنه جائز في حق جمهور المسلمين فكيف لا يجوز في آل الرسول؟ { إن صلاتك سكن لهم } والسكن ما يسكن إليه المرء وتطمئن به نفسه ، وذلك لأن دعاءه يستجاب ألبتة فيتطهرون بها ، وكيف لا يفيض إشراق نفسه عليهم بتوجهه إليهم والترحم لهم؟ احتج مانعو الزكاة بها في زمان أبي بكر قالوا : الوجوب مشروط بحصول السكن والآن لا سكن .

ورُدَّ عليهم بسائر الآيات . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حكم بصحة توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت { ألم يعلموا } يعني غير التائبين . وقيل : معناه ألم يعلم التائبون قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أن الله هو يقبل التوبة } الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية . وفائدة توسط هو أن يعلم أن الإلهية هي الموجبة لقبول التوبة لاستغنائه عن طاعة المطيعين ومعصية المذنبين فإذا انتقل العبد من حالة المعصية إلى حال الطاعة وجب على كرمه قبول توبته . وفيه أيضاً أن قبول التوبة ليس إلى الرسول . وفي قوله { عن عباده } دون « من » إشارة إلى البعد الذي يحصل للعبد عن الله بسبب العصيان أو إلى تبعيده نفسه عن الله هضماً وانكساراً . وفي إضافة أخذ الصدقات إلى الله بعد أن أمر الرسول بالأخذ تشريف عظيم لهذه الطاعة ، وأنها من الله بمكان ، وأنه يربيها كما يربي أحد نافلوه حتى إن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد وقد جاء هذا المعنى في الحديث . ثم أمر نبيه بأن يقول للتائبين أو لغير التائبين ترغيباً لهم في التوبة { اعملوا } فيه نوع تهديد وتخويف { فسيرى الله عملكم } وقد مر تفسير مثله عن قريب . والحاصل أنه كأنه قيل لهم اجتهدوا في العمل فإن له في الدنيا حكماً وهو أن يراه الله ورسوله والمؤمنون ، وفي الآخرة حكماً وهو الجزاء . وبوجه آخر كأنه قيل : إن كنت من المحققين فاعمل لله ، وإن كنت من الظاهريين فاعمل لتفوز بثناء شهداء الخلق وهم الرسول والمؤمنون فإنهم شهداء الله يوم القيامة ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية . ولا شك أن رؤية الله تعالى شاملة لأفعال القلوب والجوارح جميعاً . أما رؤية الرسول والمؤمنين فلا تشمل أفعال القلوب إلا بإرادة الله وطلاعه وإفشائه . واعلم أنه تعالى قسم المخلفين إلى ثلاثة أقسام : منهم المنافقون الذين مردوا على النفاق ، والثاني التائبون المعترفون بذنوبهم ، والثالث الذين بقوا موقوفاً أمرهم وذلك قوله { وآخرون } وإعرابه كإعراب قوله { وآخرون اعترفوا } ومعنى { مرجون } أي مؤخرون من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ومنه قوله : { أرجه وأخاه } [ الأعراف : 111 ] كما مَرّ ، وبه سميت المرجئة لأنهم جازمون بغفران ذنب التائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله ويقولون : إنهم مرجون لأمر الله .

وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان . وقال ابن عباس : نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، أمر رسول الله أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم ، فلما علموا أن أخذاً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم فقبلت توبتهم ونزل فيهم { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } كما سيجيء . وقال الحسن : إنهم قوم من المنافقين حذرهم الله بهذه الآية إن لم يتوبوا . وقوله : { إما يعذبهم } التشكيك فيه راجع إلى العباد أي ليكن أمرهم على الخوف والرجاء وكان يقول أناس هلكوا إن لم ينزل الله لهم عذراً ، ويقول آخرون : عسى الله أن يغفر لهم . قال الجبائي : جعل أمرهم دائراً بين التعذيب والتوبة فدل ذلك على انتفاء القسم الثالث وهو العفو من غير التوبة ، وأجيب بأنه يجوز أن تكون المنفصلة مانعة الجمع فقط . ولما ذكر أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة قال : { والذين اتخذوا } كأنه قال : ومنهم الذين اتخذوا . في الكشاف : أن محله النصب على الاختصاص ، أو الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن وصفوا هؤلاء الأقوام . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير : كانوا اثني عشر رجلاً بنوا مسجداً يضارّون به مسجد قباء . وروي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً كذلك .
واعلم أنه سبحانه حكى أن الباعث لهم على هذا العمل كان أموراً أربعة : الأول الضرار وهو المضارة والثاني الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق ، والثالث التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعتهم ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ، والرابع قوله : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } وقوله { من قبل } يتعلق ب { حارب } أي من قبل بناء مسجد الضرار . وقال في الكشاف : إنه متعلق ب { اتخذوا } والمراد من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف . قال الزجاج : الإرصاد الانتظار . وقال ابن قتيبة : الانتظار مع العداوة . وقال الأكثرون : إنه الإعداد . والمراد بمن حارب أبو عامر الراهب والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة ، وسماه رسول الله الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه لأنه زالت رياسته وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآتٍ بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة ، فبنوا مسجداً وانتظروا أبا عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد .

ثم أخبر الله تعالى عن نفاقهم بقوله : { وليحلفن إن أردنا } أي ما أردنا ببناء هذا المسجد { إلا } الخصلة { الحسنى } وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المسلمين . قال المفسرون . إنهم لما بنوا مسجدهم وافق ذلك غزوة تبوك فأتوا رسول الله وقالوا : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه . فلما قفل من الغزوة سألوه إتيان المسجد فنزل { لا تقم فيه أبداً } الآية فدعا بملك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي - قاتل حمزة - فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين . وقال الحسن : همّ رسول الله أن يذهب إلى ذلك المسجد فناداه جبرائيل لا تقم فيه . ولا ريب أن النهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه . ثم بيّن علة النهي فقال : { لمسجد أسس على التقوى من أوّل يوم } أي من ابتداء وجوده { أحق أن تقوم فيه } والمعنى لو كان القيام في غيره جائزاً لكان هذا أولى لاشتماله على الخيرات الكثيرة فكيف إذا كان غيره مشتملاً على المفاسد الكثيرة من الضرار وغيره؟ قالت الشيعة في هذا المقام : إن المسجد إذا كان مبنياً على التقوى من أول يوم كان أولى بالصلاة فيه؛ فالإمام أولى بأن يكون متقياً من أول عمره وما ذاك إلا عليّ عليه السلام لأنه لم يكفر بالله طرفة عين . واختلفوا في هذا المسجد فقيل : مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، عن أبي سعيد الخدري سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى . فأخذ الحصباء وضرب بها الأرض وقال : هو مسجدكم هذا مسجد المدينة . وقيل : هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ، قال في الكشاف : وهذا أولى لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع . وقال القضي : كل مسجد بني على التقوى فإنه يدخل فيه كما لو قال قائل لرجل صالح أحق أن تجالسه لم يكن ذلك مقصوراً على واحد . وأيضاً كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى وجه الله أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار . ثم ذكر لمسجد التقوى وصفاً آخر وذلك قوله : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فقيل : إنه التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والإخلاص كما أن أهل مسجد الضرار وصفوا بأضداد هذه الأمور من الضرار والكفر والتفريق ، ولأن طهارة الباطن أشد تأثيراً من طهارة الظاهر في القرب من الله .

وقيل : إنه التطهر بالماء وذلك أنهم كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء أثر البول . « وروي أنها لم نزلت مشى رسول الله ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم . ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم . فقال عليه السلام : أترضون بالقضاء؟ قالوا : نعم قال : أتصبرون على البلاء؟ قالوا : نعم . قال : أتشكرون في الرخاء؟ قالوا : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم : مؤمنون ورب الكعبة . فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { رجال يحبون أن يتطهروا } » وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا بأجمعهم . ومحبة التطيهر إيثاره والحرص عليه ومحبة الله الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه . ثم بين أنه لا نسبة بين الفريقين وأن بينهما بوناً بعيداً فقال مستفهماً على سبيل التقرير { أفمن أسس بنيانه } وهو مصدر كالعمران وأريد به المبني والمعنى أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة وهي تقوى الله ورضوانه { خير أم من أسس } دينه على ضد ذلك . والشفا هو الشفير أي الشفة ، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحسر الوادي ويبقى على طرف المسيل طين واهٍ مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الموضع الذي هو بصدد السقوط جرف ، والهار الهائر وهو أيضاً المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . قال الليث : الهاء مصدرها الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه ، فإذا سقط فقد انهار . وقال في الكشاف : إنه صفة قصرت عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليست بألف فاعل إنما هي عينه وأصله « هور » على « فعل » ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل ، فلكونه على شفا جرف هار كان مشرفاً على السقوط ، ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما يسقط في قعر جهنم ، يروى أنه حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه . ثم ذكر أن بنيانهم ذلك سبب لازدياد ريبهم فقال : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة } في كونه سبباً للريبة { في قلوبهم } وجوه منها : أن هدمه صار سبباً لازدياد شكهم في نبوته ، ومنها أنهم ظنوا أن تخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم فلا تزول تلك الريبة { إلا أن تقطع قلوبهم } أجزاء متفرقة إما بالموت وإما بالسيف وإما بالبلاء فحينئذٍ يضمحل أثرها عنها .

والمقصود أن هذا الشك يبقى في قلوبهم أبداً ويموتون على النفاق . قال في الكشاف : يجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار . وقيل : معناه إلا أن يتوبوا تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم .
التأويل : { والسابقون الأولون } الذين سبقت لهم العناية الأزلية ، أو السابقون الأوّلون عند الخروج من العدم وهم أهل الصف الأول من الجنود المجندة ، أو السابقون في جواب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] الأولون في استماع هذا الخطاب ، أبو السابقون في استحقاق المحبة عند اختصاصهم بتشريف يحبهم في الأزل ، الأولون بأداء حق المحبة في سر يحبونه ، أو السابقون عند تخمير طينة آدم في مماسة ذراتهم يد القدرة ، الأولون باستكمال تصرف القدرة في كمال الأربعين صباحاً ، أو السابقون عند رجوعهم بقدم السلوك إلى مقام الوصال ، الأولون بالوصول إلى سرادقات الجلال ، وهذا السبق مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأمته كما قال : « نحن الآخرون السابقون » { من المهاجرين } عن الأوطان البشرية { والأنصار } لهم في طلب الحق { والذين اتبعوهم بإحسان } بذلوا جهدهم في متابعتهم بقدر الإمكان { رضي الله عنهم } بإعطاء الاستعدادات الكاملة { ورضوا عنه } بإيفاء حقوقها . { وممن حولكم } من أعراب صفات النفس { منافقون ومن أهل } مدينة القلب فمن صفات النفس بعضها منافق كالقوة الشهوية للوقاع فإنها تتبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس بسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهراً لا حقيقة لأنها لا تتبدل بالكلية بل تميل إلى الشهوة إذا خليت وطباعها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « وإن أخوف ما أخاف على أمتي النساء » ومنها كافرة كالقوة الشهوية في طلب الغذاء فإنها باقية على طلبها ما دام البدن باقياً لاحتياجه إلى بدل ما يتحلل ، ومنها مسلمة كالقوة الغضبية والشيطانية من الكبر والحسد والكذب والخيانة فإنها يحتمل أن تتبدل بأضدادها من التواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإيمان والذكر . فهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب ففيها بعض النفاق كما قال صلى الله عليه وسلم : « أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها » { لا تعلمهم نحن نعلمهم } يعني أن هذه الأفعال لا يعرفها أرباب العلوم الظاهرة وإنما يعرفها أصحاب الكشوف الباطنة .

{ سنعذبهم مرتين } مرة بأحكام الشريعة ومرة بآداب الطريقة { ثم يردّون } بجذبات اللطف { إلى عذاب عظيم } هو الفطام عن الكونين والفناء في الله أو بجذبات القهر إلى إسبال حجب البعد والبقاء في عالم الطبيعة { وآخرون } يعني القلب وصفاته { اعترفوا } بذنوب ثوبت صفات النفس والتلوث بها { خلطوا عملاً صالحاً } هو صدق التوجه { وآخر سيئاً } هو مطاوعة النفس والهوى في بعض الأوقات . { عسى الله } أن يوفقهم للرجوع إلى طريق الحق بالكلية والإعراض عما سواه . { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها } عن دنس حب الدنيا { وتزكيهم } بالأخلاق الفاضلة فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة . { ويأخذ الصدقات } فيه أن المعطي يجب أن لا ينظر إلا إلى الله ولا يمنّ على الفقير أصلاً { وستردون } بأقدام أعمالكم إلى الله الذي يعلم ما غاب عنكم من نتائج أعمالكم وما غبتم عنه من التقدير الأزلي وما تشاهدون بالعيون والقلوب في عالمي الملك والملكوت . { وآخرون مرجون } أخرت توبتهم ليتردّدوا بين الخوف والرجاء فيطيروا بجناحي القبض والبسط إلى أن يصلوا إلى سرادقات الهيبة والأنس . { والله عليم } بتربية عباده { حكيم } فيما يفعل من القبول والرد . { والذين اتخذوا } في عالم الطبيعة مزبلة النفس { مسجداً ضراراً } لأرباب الحقيقة { وكفراً } بأحوالهم { لمن حارب الله } هم أهل الإباحة من مدعي الفقر { لا تقم } يا رسول الروح . { أسس على التقوى } هو مسجد القلب جبل على العبودية والطاعة { من أول يوم } من الميثاق { رجال يحبون أن يتطهروا } هم الأوصاف الحميدة والملكات المزكاة عن دنس الطبيعة ولوث الحدوث . ثم ميز بين أهل السعادة والشقاوة فقال : { أفمن أسس بنيانه } أي جبل على الخير وما فيه رضا الله { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة } لأنهم جبلوا على الشقاء { إلا أن تقطع قلوبهم } غيروا عن طباعهم وذلك محال أو لا يزال يسري من مزبلة النفس وسخ وظلمة إلى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم غيروا عن طباعهم وذلك بسكين الرياضة فتزول عنها تلك الملكات .


إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

القراآت : { فيقتلون } مبنياً للمفعول { ويقتلون } مبنياً للفاعل : حمزة علي وخلف الآخرون على العكس . { ويقتلون } بالتشديد : أبو عون عن قنبل . { إبراهام } وكذلك ما بعده : هشام { يزيغ } بياء الغيبة . حمزة وحفص والمفضل . والباقون بتاء التأنيث . { خلفوا } بالتخفيف وفتح اللام روى ابن رومي عن عباس . الباقون بالتشديد مجهولاً .
الوقوف : { الجنة } ط { ويقتلون } ط { القرآن } ط { بايعتهم به } ط { العظيم } ه { لحدود الله } ط { المؤمنين } ه { الجحيم } ه { إياه } ط { منه } ط ج { حليم } ه ط { ما يتقون } ط { عليم } ه { والأرض } ط { ويميت } ط { نصير } ه { تاب عليهم } ط { رحيم } ه ط للعطف على النبي { خلفوا } ط { إلا إليه } ط { ليتوبوا } ط { الرحيم } ه { الصادقين } ه .
التفسير : لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والتغريب فيه فقال : { إن الله اشترى } الآية . قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة - وهم سبعون نفساً - قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة ، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت { إن الله اشترى } الآية . قال مجاهد والحسن ومقاتل : ثامنهم فأغلى ثمنهم . وقال جعفر الصادق عليه السلام : والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها . واعلم أن هذا الاشتراء وقع مجازاً عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه . ولهذا قال الحسن : اشترى أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع . وههنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة ، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله ففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات . وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عالم الأرواح وهذا البدن وما يحتاج إليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة الى الدرجات العاليات؛ فالبائع هو جوهر الروح القدسي ، والمشتري هو الله ، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني ، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة ، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } وفي قوله { يقاتلون } معنى الأمر كقوله

{ وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } [ الصف : 11 ] وهو كالتفسير لتلك المبايعة { فيقتلون ويقتلون } أي إنهم يقتلون الكفار فلا يرجعون عنهم حتى يصيروا مقتولين . ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان . ومن العلماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله : { يقاتلون } . والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثراً من القتال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام : « لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس » ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة ، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته ، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه فقال : « هلا أخذتم اهابها فدبغتموه فانتفعتم به » قوله { وعداً عليه } قال الزجاج : إنه منصوب بمعنى قوله : { بأن لهم الجنة } كأنه قيل : وعدهم الجنة وعداً فهو مصدر مؤكد ، وكذا قوله { حقاً } أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل { في التوراة والإنجيل والقرآن } قيل : وعد المجاهدين على الإطلاق ، وقيل : ذكر هذا البيع لأمة محمد ، وقيل : الأمر بالقتال { ومن أوفى } استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد { من الله } لأنه الغني عن كل الحاجات القدر على كل المقدورات . وفي الآية أنواع من التوكيدات فأولها قوله : { إن الله اشترى } وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به ، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشراء حتى يكون حقاً مؤكداً . ومنها أنه قال { بأن لهم الجنة } بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة . ومنها قوله { وعداً } و { إنه لا يخلف الميعاد } . ومنها قوله { عليه } وكلمة « على » للوجوب ظاهراً . ومنها قوله : { حقاً } وهو تأكيد التحقيق . ومنها قوله : { في التوراة والإنجيل والقرآن } وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة . ومنها قوله : { ومن أوفى بعهده من الله } وفيه تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف ألبتة . ومنها قوله : { فاستبشروا } والبشارة الخبر الصدق الأول . ومنها قوله : { وذلك هو الفوز } ثم وصف الفوز ب { العظيم } واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه : أحدها { ذلك الفوز } بغير « هو » وإنه في ستة مواضع : في « براءة » موضعان ، وفي « النساء والمائدة والصف والتغابن » وما في « النساء » بزيادة واو . والآخر { وذلك هو الفوز } بزيادة « هو » وذلك في ستة مواضع أخرى في « براءة » موضعان و « يونس » و « المؤمن » و « الدخان » و « الحديد » وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية ، وكذلك ما في « المؤمن » .

وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخٍ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها . وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة . وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة ، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد . وكذلك في « المؤمن » وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية { فاغفر } { وقهم } { وأدخلهم } قال أبو القاسم البلخي : لا بد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياساً على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة .
ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال : { التائبون } قال الزجاج : إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله { وكلاً وعد الله الحسنى } [ النساء : 95 ] وقيل : التائبون رفع على البدل من الضمير في { يقاتلون } وقيل : مبتدأ خبره { العابدون } وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال . أما تفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن : التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرأوا عن النفاق . ومال آخرون الى التعميم ليشمل المعاصي أيضاً إذ لا دليل على التخصيص { والعابدون } قال ابن عباس : هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم . وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء ، والعبادة لا شك أنها عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع . وقال قتادة : وهم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم . و { الحامدون } هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم ، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة { ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشرة مرة الحمد لله رب العالمين ، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] و { السائحون } قال عامة المفسرين : هم الصائمون لقوله : « سياحة أمتي الصيام » ثم قيل : هذا صوم الفرض . وقيل : الذين يديمون الصيام . قال الأزهري : إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسح في الأرض متعبدٌ لا زاد معه فيكون ممسكاً عن الأكل والشرب كالصائم . وقيل : أصل السياحة الاستمرار على الذهاب كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من الأكل والشرب والوقاع . وقال أهل المعنى : الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب انفتحت عليه أبواب المعاني والحكم وتحلت له أنوار المعارف والحقائق فيحصل له سياحة في عالم العقول .

وقيل : السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه ، وكانت السياحة في بني إسرائيل . قال عكرمة عن وهب بن منبه : لا ريب أن للسياحة أثراً عظيماً في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعاً من الضر والبؤس فيصبر عليها ، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكه له ، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار { الراكعون الساجدون } يعني المصلين قال بعض العلماء : إنما جعل الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر هيئات المصلي موافقة للعادة كالقيام والقعود ، وإنما الفصل بين المصلي وغيره بالركوع والسجود . وقيل : أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود فخصا بالذكر تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع . ثم قال : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } ومعناهما مذكور فيما مر إلا أن ههنا بحثاً آخر وهو أنه لم أدخل الواو في قوله : { والناهون } { والحافظون } دون سائر الأوصاف؟ وأجيب بأن النسق يجيء بالواو وبغيرها كقوله : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } [ غافر : 2 ] أو المراد أن الموصوفين بالصفات الستة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويكون فيه ترغيب في الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر به والجهاد يوجب حصول الإيمان وإزالة الكفر ، أو النهي عن المنكر أصعب أقسام التكاليف لإفضائه في الأغلب إلى الخصومة وثوران الغضب فأدخل عليه الواو تنبيهاً على هذه المخالفة والمباينة . ولبعض النحويين جواب عام يشمل هذه الآية وما في « الكهف » في قوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } [ الآية : 22 ] وما في « الزمر » في قوله في ذكر الجنة { وفتحت أبوابها } [ الآية : 73 ] وما في « التحريم » في قوله : { ثيبات وأبكاراً } [ الآية : 5 ] وذلك أنهم سموا هذه الواوات واو الثمانية قائلين إن السبعة نهاية العدد ولهذا أكثر ذكرها في القرآن والأخبار . فالثمانية تجري مجرى استنئاف كلام فلهذا فصل بالواو . وأما قوله : { والحافظون لحدود الله } فكإجمال بعد تفصيل؛ وذلك أن التكاليف إما أن تتعلق بمصالح الدين وهي باب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذر ونحوها ، أو بمصالح الدنيا وهي المعاملات . وإنها إما لجلب المنافع أو لدفع المضار والمنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية . فالمقصودة بالأصالة هي المنافع الحاصلة من طرق الحواس الخمس وهي المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح والضحايا ، والملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع فمنها ما يفيد حله كالنكاح والرضاع وما يتبعهما من المهر والنفقة والسكنى وأحوال القسم والنشوز ، ومنها ما يوجب إزالته كالطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان ، ومن أحكام الملموسات البحث عما يحل لبسه واستعماله وعما لا يحل كالأواني الذهبية وغيرها . والمبصرات وهو باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل ، والمسموعات وهو باب ما يحل سماعه وما لا يحل ، والمشمومات وقد قيل إنه ليس للفقهاء فيه مجال ، ويحتمل أن يقال إن منها جواز استعمال الطيب في بعض الأوقات ومنعه في بعضها كحالة الإحرام .

ومنها ما يكره كأكل البصل والثوم للمصلي بالجماعة في المسجد . والمنافع المقصودة بالتبعية هي الأموال والبحث عنها إما من جهة الأسباب المفيدة للملك كالإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخذ الفيء والغنائم والزكاة ، وكالبيع بيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بالعكس كما إذا اشترى شيئاً في الذمة أو بيع الدين بالدين وهو بيع الكاليء بالكالىء المنهي عنه إلا عند تقاص الدينين ، أو من جهة الأسباب المفيدة للمنفعة كالإجارة والجعالة وعقد المضاربة ، أو من جهة الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف فيه كالوكالة والوديعة ، أو من جهة الأسباب التي تمنع المالك التصرف في ملكه كالرهن والإجارة والتفليس . وأما دفع المضار والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة ، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان ، وإما في العقل كباب تحريم الخمر ، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق ، أو على سبيل الخفية وهو السرقة . وههنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام ، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولاً إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء وباب الدعاوى والبينات . فهذا ما أمكن من ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ، وكلها منوطة بأعمال الجوارح دون أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى . ولكن قوله : { والحافظون لحدود الله } يشمل ذلك أيضاً بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر .
ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه . ولما بين من أول السورة إلى ههنا وجوب إظهار من المنافقين الكفرة الأحياء أراد أن يبين وجوب البراءة من أمواتهم أيضاً وإن كانوا أقارب فقال : { ما كان للنبي } ومعناه النهي أي ما صح له وما استقام وما ينبغي له ذلك . ثم علل المنع بقوله : { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 116 ] فطلب غفرانهم جارٍ مجرى طلب إخلاف وعد الله ووعيده ، وفيه حط لمرتبة النبي حيث يدعو بما لا يستجاب له . وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأباعد أو من الأقارب فلهذا بالغ فيه بقوله : { ولو كانوا أولي قربى } روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية - فقال : أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله .

فقال أبو جهل وابن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فاستغفر له بعد ما مات فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت { ما كان للنبي } الآيتان . وقيل عن أبن عباس : لما افتتح صلى الله عليه وسلم مكة سأل أي أبويه أحدث به صلى الله عليه وسلم عهداً أي آخرهما موتاً؟ فقيل : أمك آمنة . فزار صلى الله عليه وسلم قبرها ثم قام باكياً فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه ونزل عليّ { ما كان للنبي } الآية . فقال بعضهم كصاحب الكشاف والحسين بن أبي الفضل : هذا أصح لأن هذه السورة في آخر القرآن نزولاً ، وكانت وفاة أبي طالب بمكة في أول الإسلام . ويمكن أن يوجه الأول بأنه صلى الله عليه وسلم لعله بقي مستغفراً إلى حين نزول الآية . ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم لأبيه بأنه صدر عن موعدة وعدها إياه ، وذلك أن أباه كان وعد إبراهيم أن يؤمن فكان يستغفر له بناء على ذلك الوعد . { فلما تبين } لإبراهيم { أنه عدو لله } إما بإصراره على الكفر أو بموته على ذلك أو بطريق الوحي { تبرأ منه } وترك الاستغفار . ويجوز أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام ويوافقه قراءة الحسن { وعدها أباه } بالباء الموحدة وذلك في قوله : { لأستغفرن لك } [ الممتحنة : 4 ] وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه . وقيل : المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام الموجب للغفران ، وكان يتضرع إلى الله تعالى أن يرزقه الإيمان . وقيل : المقصود النهي عن صلاة الجنازة فكان قوله : { ولا تصل على أحد منهم } [ التوبة : 84 ] في حق المنافقين خاصة وهذه في حق الكافرين عامة . ثم ختم الآية بقوله : { إن إبراهيم لأوّاه حليم } قال أهل اللغة : أوّاه « فعال » مأخوذ من حروف « أوه » كلمة يقولها المتوجع ، وذلك أن الروح القلبي يختنق عند الحزن في داخل القلب ويشتد حرارته فإذا تكلم صاحبه بها خرج ذلك النفس المختنق فخفف بعض ما به ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الأوّاه الخاشع المتضرع » والحلم ضد السفه ، وصفه تعالى بشدّة الرأفة والشفقة والخوف والوجل فبين أن إبراهيم مع هذه العادة تبرأ من أبيه حين انقطع رجاؤه منه فأنتم بهذا المعنى أولى .

ثم إن المسلمين خافوا أن يؤاخذوا بما سلف منهم من الاستغفار للمشركين فأنزل الله { ما كان الله ليضل قوماً } أي عن طريق الجنة أو يحكم عليهم بالضلال أو يخذلهم أو يوقع الضالة في قلوبهم حين يكون منهم الأمر الذي يستحق به العقاب { بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } ما يجب عليهم أن يحترزوا عنه . والحاصل أن الله لا يسمي قوماً ضلالاً بعد إذ سماهم مهديين ما لم يقدموا على شيء مبين خطره ، وأما قبل العلم والبيان فلا يؤاخذهم كما لم يؤاخذ بشرب الخمر والربا قبل تحريمهما . وفي الآية تشديد عظيم حيث جعل المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض المحظورات داخلاً في حكم الضلال . ثم قال : { إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت } والمراد أن ما كان عالماً قادراً هكذا لم يحتج إلى أن يفعل العقاب قبل البيان وإزاحة العذر . قالت المعتزلة : وفيه دليل على أنه يقبح من الله الابتداء بالعقاب . وأجيب بأنه له ذلك بحكم المالكية غاية ما في الباب أنه لا يعاقب إلا بعد إزاحة العذر عادة ، وفي قوله : { إن الله له ملك السموات والأرض } فائدة أخرى هي أنه لما أمر بالبراءة من الكفار بين غاية قدرته ونهاية نصرته لمن أراد استظهاراً للمسلمين كيلا تضعف قلوبهم بالانقطاع عن الأقارب والأنصار كأنه قال : وجب عليكم أن تفيئوا إلى حكمي وتكاليفي لأني إلهكم وأنتم عبيدي .
ثم عاد إلى بقية أحكام الكفار فقال { لقد تاب الله على النبي } الآية . ولنبن تفسير الآيتين على أسئلة مع جواباتها . فالسؤال الأول : أن قبول التوبة دليل سبق الذنب ، والنبي معصوم والمهاجرون والأنصار الذين اتبعوه تحملوا أعباء ذلك السفر الطويل فكان اللائق بحالهم أن يثني عليهم . الجواب أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار لأنه لا ينفك عن هفوة إما من باب الكبائر وإما من باب الصغائر وإما من باب الأولى . والأفضل كما أشير إلى ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ولعله قد وقع في قلوب المؤمنين نوع نفرة من تلك السفرة لما عاينوا المتاعب ولا أقل من الوساوس والهواجس فأخبر الله سبحانه أن تلك الشدائد صارت مكفرة لجميع الزلات التي صدرت عنهم في ذلك السفر الطويل بل في مدة عمرهم وصارت قائمة مقام التوبة المقرونة بالإخلاص . ويجوز أن يكون ذكر الرسول لأجل تعظيم شأن المهاجرين والأنصار لا لأنه صدر عنه ذنب . السؤال الثاني : ما المراد بساعة العسرة؟ فالجواب قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق والعسرة تعذر الأمر وصعوبته .

والمراد الزمان الذي صعب عليهم الأمر جداً في ذلك السفر ، كانوا في عسرة من الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد . وفي عسرة من الزاد تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة المنتنة ، وقد بلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان ثم إلى أن مصتها جماعة ليشربوا عليها الماء ، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فرثها وفي شدة زمان من حرارة القيظ كما قال المنافقون { لا تنفروا في الحر } [ التوبة : 81 ] وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات العسرة التي مرت عليهم في غزواتهم كما ذكر الله تعالى في غزوة الخندق { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] الثالث : ما معنى { كاد يزيغ } وكيف إعرابه؟ والجواب هما استعمالان : كاد زيد يخرج ، وكاد يخرج زيد . معنى الأول كاد زيد خارجاً أي قارب الخروج ، ومعنى الثاني كاد الشأن يكون كذا يعني قارب الشأن هذا الخبر . وشبهه سيبويه بقولهم ليس خلق الله مثله أي ليس الشأن ذاك ولكن ضده ، والزيغ الميل عن الجادة قيل : قارب بعضهم أن يميل عن الإيمان . وقيل : هم بعضهم عند تلك الشدة بالمفارقة ثم حبسوا أنفسهم وصبروا وثبتوا وندموا . وقيل : ما كان إلا حديث نفس بلا عزيمة ومع ذلك خافوا أن يكون معصية . الرابع : ذكر التوبة في أول الآية فلم كررها في قوله : { ثم تاب عليهم } ؟ الجواب إن عاد الضمير في { عليهم } الى الفريق فلا تكرار ، وإن عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار جميعاً فالتكرير للتوكيد مع رعاية دقيقة هي أن التوبة اكتنفت الذنب من جانبيه ، وذلك أنه بدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطيباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب ، ثم أردفه بذكر التوب ليدل على أن العفو عفو متأكد كما يقول السلطان عند كمال الرضا : عفوت عنك ثم عفوت عنك . وإليه الإشارة بقوله : صلى الله عليه وسلم : « إن الله يغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة » وقال ابن عباس في تفسر قوله : { ثم تاب عليهم } يريد ازداد عنهم رضا . ثم أكد هذه المعاني بقوله { إنه بهم رؤوف رحيم } فيشبه أن يراد بالرأفة إزالة الضرر ، وبالرحمة إيصال المنفعة . أو الأوّل رحمة سابقة ، والثاني لاحقة . الخامس : الثلاثة الذين خلفوا من هم؟ الجواب هم المرجون لمر الله كما مرّ ، سّمُّوا مخلفين كما سمو مرجئين أي مؤخرين عن أبي لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعد أولئك . وقيل : لأنهم خلفوا عن الغزو ومثله قراءة من قرأ بالتخفيف أي خلفوا الغازين . وقيل : المخلف من خلوف الفم أي فسدوا ، وقرأ جعفر الصادق عليه السلام : { خالفوا } . { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض } مع سعتها وهو مثل للحيره في الأمر ، { وضاقت عليهم أنفسهم } أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور { وظنوا } أي علموا وتيقنوا { أن لا ملجأ من } سخط { الله إلا } إلى استغفاره كقوله صلى الله عليه وسلم :

« أعوذ بك منك » وقيل : الظن بمعناه الأصلي وهو الرجحان وذلك أنهم ما كانوا قاطعين بأن ينزل الله في شأنهم قرآنا ، وإن سلم أنهم قطعوا بذلك إلا أنهم جوزوا أن تكون المدة قصيرة وجواب « إذا » محذوف والتقدير حتى إذا كان كذا وكذا تاب عليهم ، وحسن حذفه لتقدم ذكره . عن كعب بن مالك قال : لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فرد عليّ كالمغضب بعدما كان ذكرني في الطريق وقال : ليت شعري ما خلف كعباً فقيل : له : ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه . فقال : معاذ الله ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً ونهى عن كلامنا - أيها الثلاثة - فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع - وهو جبل بالمدينة - أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربي { وضاقت عليهم الأرض بما رحبت } [ التوبة : 25 ] وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقال إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي حتى صافحني وقال : لتهنك توبة الله عليك فلن أنساها لطلحة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر : أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية . سئل أبو بكر الورّاق عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه . السادس : قد عرفنا فائدة قوله : { ثم تاب عليهم } فما فائدة قوله : { ثم تاب عليهم ليتوبوا } ؟ الجواب معناه رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد ألأخرى ليستقيموا على توبتهم ، أو تاب عليهم في الماضي ليتوبوا في المستقبل إذا فرطت منهم خطيئة علماً منهم بأن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة ، أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين ، أو تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة وثوابها لأن الانتفاع بها لا يحصل إلا بعد توبة الله عليهم . وقالت الأشاعرة : المقصود بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى حتى إنه لو لم يتب عليهم لم يتوبوا . وأيضاً قالوا : في الآية دلالة على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً لأن توبة هؤلاء قد حصلت من أوّل الأمر ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليهم وتركهم خمسين يوماً . ويمكن أن يجاب بأن شرائط التوبة من الإخلاص والنصح وغير ذلك لعلها لم تكن حاصلة من أوّل الأمر فلهذا تأخر القبول دليله قوله تعالى : { حتى إذا ضاقت } الآية .

ثم حث سبحانه المؤمنين على ملازمة سيرة التقوى والانضمام في زمرة أهل الصدق لا النفاق فقال : { يا أيها الذين آمنوا } الآية . قال بعض العلماء : ظاهر الأمر للوجوب فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين لا بمعنى أن يكونوا على طريقهم وسيرتهم ، لأن ذلك عدول عن الظاهر بل بمعنى المصاحبة . والكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء فلا بد من وجود الصادقين . ثم إنه ثبت بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة علىلمكلفين إلى يوم القيامة فلا يكون هذا الأمر مختصاً بالكون مع الرسول وأصحابه في الغزوات بل أعم من ذلك . ثم إن الصادق لا يجوز أن يكون منحصراً في الإمام المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما يقوله الشيعة ، لأن كون كل واحد من المؤمنين مع ذلك الصادق بعد تسليم وجوده تكليف بما لا يطاق ، فالمراد بالصادقين أهل الحل والعقد في كل حين ، والمراد أنهم إذا أجمعوا على شيء كانوا صادقين فيه محقين ويجب على الباقين أن يكونوا معهم ظاهراً وباطناً . وقال أكثر المفسرين : الصادقون هم الذين صدقوا في دين الله وفيما عاهدوا عليه من الطاعة نية وقولاً وعملاً . وقيل : أي كونوا مع الثلاثة المذكورين في الصدق والثبات . وعن ابن عباس : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي وافقوا المهاجرين والأنصار في الصدق ، وقيل : الخطاب للذين شدوا أنفسهم على السواري . وفي الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته . ومن خصائص الصدق ما روي أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إني أريد أن أؤمن بك إلا إني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء كلها ولا طاقة لي بتركها بأسرها ، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك ، فقبل ذلك وشرط له الصدق ثم أسلم . فلما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال : إن شربت وسألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ، ثم عرض عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه ، وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أحسن ما فعلت ، لما منعتني عن الكذب انسد أبواب المعاصي علي وتبت عن الكل . ومن فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات ، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب ، ومن مثالب الكذب أن إبليس مع تمرّده وكفره استنكف منه حتى استثنى في قوله { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } [ ص : 82 ] .

ثم المقتضي لقبح الكذب هو كونه كذباً عند المعتزلة وكونه مفضياً إلى المفاسد عند الأشاعرة والله أعلم .
التأويل : { إن الله اشترى } في التقدير الأزلي ولهذا تيسر لهم الآن بذل النفس والمال في الجهاد الأصغر وفي الجهاد الأكبر ، وإنه كما { اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } اشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الجنة . { التائبون } عما سوى الله { العابدون } المتوجهون إليه على قدم العبودية { الحامدون } له على ما وفقهم لنعمة طلبه { السائحون } السائرون إليه بقدمي الصبر والشكر أو التبري والتولي { الراكعون } أي الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم { الساجدون } الساقطون على عتبة الوحدة بلاهم { الآمرون بالمعروف } الحقيقي { الناهون } عما سواه { والحافظون لحدود الله } لئلا يتجاوزوا عن طلبه إلى طلب غيره . { ما كان للنبي } فيه أن الاجتهاد ليس سبباً لنيل المراد ، وأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية { إن إبراهيم لأواه } الأواه هو المتبرىء من المخلوقات لكثرة نيل المواجيد والكرامات فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه ، فمهما ورد له وأراد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلى الحق . { حليم } عما أصابه من الخلق للحق فلا رجوع له من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لجبرائيل حين سأله ألك حاجة : أما إليك فلا { وما كان الله ليضل قوماً } ليردّهم بالمكر إلى الاثنينية والبعد { بعد إذ هداهم } إلى الوحدانية والفردانية بالتوحيد والتفريد { حتى يبين لهم ما يتقون } من آفات البشرية وعاهات الدنيا فهي رأس كل خطيئة ، فإن لم يتحرزوا عنها وقعوا بالاستدراج إلى حيث خرجوا عنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور أو نقول : إن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء بالجود لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو والصحو بعد السكر وقد سماه المشايخ الإثبات التأني حتى يبين لهم ما يتقون من الأعمال والأقوال رعاية لتلك الأحوال . { إن الله له ملك السموات } سموات القلوب { والأرض } أرض النفوس { يحيي } بنور ربوبيته { من يشاء ويميت } عن صفات بشريته { من يشاء ومالكم من دون الله من ولي } فلا يشغلنكم طلب الملك عن المالك فإن طالب الملك لا يجد الملك ولا المالك وطالب المالك يجد الملك والمالك جميعاً { لقد تاب الله على النبي } التوبة فضل من الله ورحمة ، فقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين ليكون وصول فضله إليهم بعد العبور على النبي تحقيقاً لقوله { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] { الذين اتبعوه في ساعة } عسرة الدنيا وترك شهواتها . أو نقول { لقد تاب الله } أي أفاض أنوار عرفانه على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة - عالم الروح - إلى مدينة الجسد { والأنصار } من القلب والنفس وصفاتهما { الذين اتبعوه في ساعة } رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة لأنهم من عالم السفل . { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } من النفس والهوى والطبع وما تبعوا الروح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء { حتى إذا ضاقت عليهم } أرض البشرية شوقاً إلى تلك الحضرة { وضاقت عليهم أنفسهم } تحنناً إلى نيل تلك السعادات وتحقق لهم بنور اليقين أن لو بقوا في السفل لا ملجأ لهم من عذاب البعد عن الله إلا الفرار إليه { ثم تاب عليهم } بجذبة العناية ، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبداً مع الصادقين الذين صدقوا يوم الميثاق والله أعلم .


مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

القراآت : { موطئاً } ونحوه بالياء : يزيد والشموني وحمزة في الوقف { غلظة } بفتح الغين : المفضل . الباقون بكسرها . { أولا ترون } بتاء الخطاب للمؤمنين : حمزة ويعقوب . الباقون على الغيبة .
الوقوف : { عن نفسه } ط { صالح } ط { المحسنين } ه لا للعطف { يعملون } ه { كافة } ط { يحذرون } ه { غلظة } ط { المتقين } ه { إيماناً } ط { يستبشرون } ه { كافرون } ه { يذكرون } ه { إلى بعض } ط لحق المحذوف أي يقولون هل يراكم { ثم انصرفوا } ط { لا يفقهون } ه { عزيز } ط ، على تأويل عليه شفاعة ما عنتم والصحيح الوصل لأن المعنى شديد عليه ما أثمتم ولا وقف في الآية إلى قوله رحيم { حسبي الله } ط والأصح الوصل على جعل الجملة حالاً أي يكفي الله غير مشارك في الألوهية { إلا هو } ط { العظيم } ه .
التفسير : لما أمر بموافقة النبي وأصحابه في جميع الغزوات والمشاهد بقوله { وكونوا مع الصادقين } [ الآية : 119 ] أكد ذلك المعنى بالنهي عن التخلف عنه فقال : { ما كان لأهل المدينة } أي لا يستقيم ولا يجوز لهم . والأعراب الذين كانوا حول المدينة قد ذكرنا - عن ابن عباس - أنهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، وكأنه أراد المعروفين منهم وإلا فاللفظ عام . ومعنى { ولا يرغبوا } ولا أن يرغبوا . يقال : غبت بنفسي عن هذا الأمر أي أبخل بها عليه ولا أتركها له ، والمراد أنه لا يصح لهم أن يرغبوا عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب صلاح أنفسهم وبقائها بل عليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ويرضوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه لأن نفسه أعز نفس عند الله ، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وجب على سائر الأنفس أن لا يضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه . وفي هذا النهي مع التهييج توبيخ عظيم ، ولا يخفى أن الجهاد لا يجب على كل فرد بعينه للأجماع وأن أصحاب الأعذار من الضعفاء والمرضى ونحوهم مخصوصون بالعقل وبالنقل فيبقى ما وراء هاتين الصورتين داخلاً تحت عموم الآية . ثم ذكر ترغيباً يجري مجرى علة المنع من التخلف فقال : { ذلك بأنهم } أي الوجوب الدال عليه بقوله : { ما كان لهم } بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد بل على جميع الحركات والسكنات مدة الذهاب والإياب . والظمأ شدة العطش ، والنصب الإعياء والتعب ، والمخمصة المجاعة الشديدة التي تظهر ضمور البطن ، والموطىء إما مصدر كالمورد أو مكان وعلى التقديرين الضمير في { يغيظ } عائد إلى الوطء الصريح أو المقدر . ثم الوطء يجوز أن يكون حقيقة فيراد به الدوس بالأقدام وبحوافر الخيول وبأخفاف الإبل ، ويجوز أن يكون مجازاً فيراد به الإيقاع والإهلاك . قال ابن الأعرابي : غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى . ويقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوءهم ويلحق بهم ضرراً من قتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة ، والمراد أنهم لا يتصرفون في أرض الكفار تصرفاً يغيظهم ويرزؤهم شيئاً إلا كتب لهم به عمل صالح .

وفيه دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله ، وكذا القول في طرف المعصية ولكن بالضد فما أعظم بركة الطاعة وما أشد شؤم المعصية . وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم . وقال الشافعي : لا يشاركون الغانمين في الغنيمة وإن شاركوهم في الثواب لأن الغنيمة من خواص المحاربين ومن قد تعاطى خطراً . قال قتادة : هذا الحكم من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر . وقال ابن زيد : هذا حين كان في المسلمين قلة فلما كثروا نسخه الله بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وقال عطية : ما كان لهم التخلف إذا دعاهم الرسول وأمرهم . قال العلماء : وكذلك غيره من الأئمة والولاة إذا عينوا طائفة لأنا لو جوزنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض فيؤدي الى تعطيل الجهاد . قوله : { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة } . قال المفسرون : يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سيف أو سوط وما أربى عليها مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة { ولا يقطعون وادياً } أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم وهذا شائع في استعمال العرب يقولون : لا تصل في وادي غيرك . وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال . والوادي كل منعطف بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل . { إلا كتب لهم } ذلك الإنفاق والقطع أو ذلك العمل الصالح المعهود في الآية المتقدمة . ثم ذكر غاية الكتب فقال : { ليجزيهم الله } أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء جزاء أحسن من أعمالهم وأجل . وقيل : الأحسن من صفة الفعل أي يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح . واعلم أنه سبحانه عدد أشياء بعضها ليس من أعمال المجاهدين وهو الظمأ والنصب والمخمصة ، وباقيها من أعمالهم وهي الوطء والنيل والإنفاق وقطع الأرض ، وقسم هذا الباقي قسمين فضم شطراً منه إلى ما ليس من أعمالهم تنبيهاً على أنه في الثواب جارٍ مجرى عملهم ولهذا صرح بذلك فقال : { إلا كتب لهم به عمل صالح } أي جزاء عمل صالح وأكد ذلك بقوله : { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } . ثم أورد الشطر الباقي لغرض آخر وهو الوعد بأحسن الجزاء ، واقتصر ههنا على قوله { إلا كتب لهم } لأن هذا القسم من عملهم فلم يحتج إلى تصريح بذلك ، أو اكتفاء بما تقدم ، أو لأن الضمير عائد إلى المصدر الدال عليه الفعل والله تعالى أعلم بمراده .

ثم قال : { وما كان المؤمنون } وفيه قولان : أحدهما أنه من بقية أحكام الجهاد لأنه سبحانه لما بالغ في عيوب المنافقين كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الكفار ينفرون جميعاً ويتركونه بالمدينة وحده فنزلت الآية . قاله ابن عباس . والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بأسرهم إلى الجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين إحدهما لملازمة خدمة الرسول والأخرى للنفر إلى الغزو . ثم ههنا احتمالان لأنه قال محرضاً { فلولا نفر } أي هلا نفر { من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } فذهب الأكثر إلى أن الضمير في { ليتفقهوا } عائد إلى الفرقة الباقية في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم إذا بقوا في خدمته شاهدوا الوحي والتنزيل وضبطوا ما حدث من الشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار والتقدير : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقام طائفة ليتفقه المقيمون في الدين { ولينذروا قومهم } النافرين { إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } معاصي الله عند ذلك وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين وإلا ضاع أحد الشقين ، والاحتمال الآخر ما روي عن الحسن أن الضمير يعود إلى الطائفة النافرة . وتفقههم هو أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم من غير زاد ولا سلاح كيف يغلبون الجم الغفير من الكفار فينتبهون لدقائق صنع الله في إعلاء كلمته . فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بما شاهدوا من دلائل الحق فيحذروا أي يتركوا الكفر والشرك والنفاق . القول الثاني أنه ليس من بقية أحكام الجهاد وإنما هو حكم مستقل بنفسه ، ووجه النظم أن الجهاد أمر يتعلق بالسفر وكذلك التفقه ، أما في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فوجوبه ظاهر لمن ليس بحضرته حتى يصل إليه ويستفيد من خدمته لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كانت تتجدد كل يوم شيئاً فشيئاً ، وأما في زماننا فلا ريب أنه متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب عليه ، وإن أمكنه في الحضر فلا شك أن للسفر بركة أخرى يعرفها كل من زاول الأسفار وحاول الأخطار ، ومعنى { ليتفقهوا } ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا المتاعب في أخذها وتحصيلها . والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من دلائلها التفصيلية . والظاهر أن المراد في الآية أعم من ذلك بحيث يشمل علوم الشرع كلها من التفسير والحديث وأصول الدين وأصول الفقه ومقدمات كل من ذلك وغاياتها بحسب الإمكان النوعي أو الشخصي . وفي قوله : { ولينذروا قومهم } إشارة إلى أن الغرض الأصلي من التعلم هو الإنذار والإرشاد لا ما يقصده علماء السوء من الأغراض الفاسدة كالمطاعم والملابس والمناصب والمفاخر ، أعاذنا الله تعالى بفضله من قبح النية وفساد الطوية ، وجعلنا ممن لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً .

القائلون بأن خبر الواحد حجة قالوا : أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة اثنين أو واحداً . ثم إنه أوجب العمل بأخبارهم بقوله : { ولينذروا } وأجيب بأن إيجاب الإنذار لا يدل على وجوب العمل لأن الشاهد الواحد يلزمه أداء الشهادة وإن لم يلزم القبول ورد بأن قوله : { لعلهم يحذرون } إيجاب للعمل بأخبارهم . ثم أرشد سبحانه إلى ترتيب القتال فقال : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم } أي يقربون منكم مبتدأ من الأقرب ومنتقلاً إلى الأبعد . والقتال واجب مع كافة الكفر بآية القتال ، ولكن هذه الآية أخص لأن الغرض منها الترتيب ما لم يدع إلى قتال الأبعد قبل دفع الأقرب ضرورة فلا تكون هذه منسوخة بآية القتال على ما نقل عن الحسن ، وإنما وجب الابتداء بالغزو من المواضع القريبة لأن قتال الكل دفعة متعذر وللأقرب ترجيح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات مثلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يبتدأ بالجمع الحاضرين ثم ينتقل الى الغائبين . وأيضاً المؤنة في قتال الأقربين من النفقة والدواب تكون أقل والقتال معهم يكون أسهل للوقوف على أحوالهم وعدد عسكرهم ، والفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فق عرضوا الذراري للفتنة . وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام . ويروى أن أعرابياً جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة فقال صلى الله عليه وسلم : « كل مما يليك » فثبت بهذه الوجوه أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب ما لم يضطر الى العدول ضرورة . وقوله { وليجدوا فيكم غلظة } أي شدة نظير قوله : { واغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] ومن قرأ بفتح الغين فهو المصدر أيضاً كالسخطة وهي لفظة جامعة للجراءة والصبر على القتال ولشدة العداوة والعنف في القتل والأسر ، كل ذلك فيما يتصل بالدعوة إلى الدين إما بإقامة الحجة وإما بالسيف ، أما فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة فلا وليكن تقوى الله سبحانه على ذكر منه في موارده ومصادره ، ولهذا ختم الآية بقوله : { واعلموا أن الله مع المتقين } فإن قلته قتله لله وان تركه على الجزية تركه لله وإن كسر عدوه وآل الأمر إلى أخذ الغنيمة راعى فيه حدود الله . ثم حكى بقية فضائح أعمال المنافقين فقال : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول } أي يقول بعض المنافقين لبعض إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين المعتقدين زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به ، أو يقولنه لقوم من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان والمقول { أيكم } مرفوع بالابتداء وخبره { زادته هذه إيماناً } . ثم إنه تعالى حكى أنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران : أحدهما ازدياد الإيمان وقد مر معناه في أول سورة الأنفال ، والثاني الاستبشار وهو استدعاء البشارة إما بثواب الآخرة وإما بالعزة والنصرة في الدنيا والمراد أنهم يفرحون بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل بها إلى مزيد الثواب .

وحصل للمنافقين الذين لهم عقائد فاسدة وأخلاق ذميمة أمران : أولهما زيادة الرجس لأن تكذيب سورة بعد تكذيب مثلها انضمام كفر إلى كفر أو لأن حصول حسد وغل ونفاق عقيب أمثالها ازدياد ملكة ذميمة غب أخرى ، وثانيهما بقاؤهم على تلك العقائد والأعمال إلى أن ماتوا لأن الملكة الراسخة لا تزول إلا إن مات صاحبها ، وإسناد زيادة الرجس إلى السورة إسناد حقيقي عند الأشاعرة لأنهم يقولون إنه سبحانه يخلق الكفر والإيمان في العبد فلا يبعد إحداث السورة فيهم الرجس ، وإسناد مجازي عند المعتزلة لانهم يقولون إنهم أحدثوا الرجس من عند أنفسهم حين نزول السورة بدليل أن الآخرين سمعوا السورة وازدادوا إيماناً . والتحقيق في أن النفس الطاهرة النقية عن درن الدنيا باستيلاء حب الله والآخرة إذا سمعتها صار سماعها موجباً لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا . وأما النفس الحريصة المتهالكة على لذات الدنيا وطيباتها الغافلة عن حب الآخرة وعشق المولى إذا سمعتها مشتملة على تعريض النفس للقتل والمال للنهب بسبب الجهاد زادت نفرته عنها وإنكاره عليها وكل بقدر . ثم عجب من حال المنافقين فقال : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } قال ابن عباس : أي يمتحنون بالمرض { ثم لا يتوبون } من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ المؤمن فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي ربه فيزيده ذلك إيماناً وخوفاً . وقال مجاهد : بالقحط والجوع . وقال قتادة : بالغزو أو الجهاد فإن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي ، وإن ذهبوا وهم على حالة النفاق عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة . وقال مقاتل : كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فيخبره جبرائيل فيوبخهم بذلك ويعظهم فما كانوا يتعظون . ثم ذكر نوعاً آخر من مخازيهم فقال { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } أي سورة مشتملة على ذكرهم أو أعم من ذلك . والنظر نظر الطعن والاستهزاء والازدراء بالوحي قائلين { هل يراكم من أحد } من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم لأن نظر التغامز دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد ، أو أرادوا إن كان من ورائكم أحد فلا تخرجوا وإلا فاخرجوا لنتخلص من هذا الإيذاء وسماع الباطل . { ثم انصرفوا } أي من مكان الوحي إلى مكانهم أو عن استماع القرآن الى الطعن فيه . ومعنى { صرف الله قلوبهم } قال ابن عباس : منعهم عن كل رشد وخير . وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم . وقال الزجاج : أضلهم الله . قالت الأشاعرة : هو إخبار عما فعل الله بهم من الصد عن الإيمان والمنع منه .

وقالت المعتزلة : هو دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عن الانشراح ، أو إخبار بأنه صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن بها ، أو المراد صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد قالوا : ومعنى قوله : { لا يفقهون } لا يتدبرون حتى يفقهوا . وعند الأشاعرة : هم قوم جبلوا على ذلك . يحكى عن محمد بن إسحق أنه قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم ، لكن قولوا قضينا الصلاة كان مقصوده التفاؤل باللفظ الوارد في الخير دون الشر فإنه تعالى قال : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] ثم لما أمر رسوله في هذه السورة بتبليغ تكاليف شاقة يعسر تحملها ختم السورة بما يهون الخطب في تحملها فقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } أي من جنس البشر لا الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آلف وآنس ، أو الخطاب للعرب والمقصود ترغيبهم في نصرته والقيام بخدمته لأن كل ما يحصل له من الدولة والرفعة فإن ذلك سبب لعزهم وفخرهم لأنه من أبناء جلدتهم ، أو الخطاب لأهل الحرم خاصة لأنهم كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل لهم : كنتم قبل مقدمه مجدين في خدمة أسلافه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف إلى آبائه؟ أو المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل : هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف ، وتعرفون كونه حريصاً على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم . فإرسال من هذه حاله وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم . وقرىء { من أنفسكم } بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم . وتنسب هذه القراءة الى النبي والوصي وأهل البيت عليهم السلام . ثم وصفه بما تستتبعه المجانسة والمناسبة من النتائج وذلك قوله : { عزيز عليه ما عنتم } العزة الغلية والشدة والعنت المشقة والوقوع في المكروه والإثم . و « ما » مصدرية أي شديد شاق عليه - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه ، وأولى المكاره بالدفع عقاب الله وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه . { حريص عليكم } الحرص يمتنع أن يتعلق بذواتهم فالمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدارين؛ فالصفة الأولى لدفع الآفات والثانية لإيصال الخيرات والسعادات فلا تكرار . وقال الفراء : الحريص الشحيح والمعنى أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وفيه نوع تكرار . ثم بين أنه رحمة للعاملين فقال { بالمؤمنين } أي منكم ومن غيركم { رؤوف رحيم } قال ابن عباس : لم يجمع الله بين اسمين من أسمائه إلا له ، وحاصل هذه الخاتمة أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف فذاك عائد إليكم وإنه كالطبيب الحاذق وكالأب الشفيق وإذا عرف أن الطبيب حاذق والأب مشفق فالعلاج والتأديب منهما إحسان وإحمال ، وإن كان صعباً مؤلماً فاقبلوا ما أمركم به من التكاليف وإن كانت شاقة لتفوزوا بسعادة الدارين ، ثم قال لرسوله فإن لم يقبلوا بل أعرضوا وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وارجع في جمع أمورك إلى الله الذي بالحق أرسلك فهو كافيك { وهو رب العرش العظيم } فلا يخرج عن قبضة قدرته وتصرفه شيء لأنه يحيط بالعرش وبما يحويه العرش والله أعلم .

التأويل : { ما كان لأهل } مدينة القالب وهو النفس والهوى والقلب { ومن حولهم من الأعراب } الصفات النفسانية والقلبية { أن يتخلفوا عن رسول } الروح السائر ولا يبذلوا وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } من ماء الشهوات { ولا نصب } من أنواع المجاهدات { ولا مخمصة } بترك اللذات وحطام الدنيا في طلب الله { لا يطؤن موطئاً } من مقامات الفناء { يغيظ } كفار النفس والهوى { ولا ينالون من عدوّ } الشيطان والنفس والدنيا بلاء ومحنة وفقراً وحزناً وغير ذلك من أسباب الفناء { إلا كتب لهم به عمل صالح } من البقاء بالله بقدر الفناء في الله { ولا ينفقون نفقة صغيرة } هي بذل الصفات { ولا كبيرة } هي بذل الذات في صفات الله وفي ذاته { ولا يقطعون وادياً } من أودية الدنيا والآخرة والنفس والهوى والقلب والروح . { أحسن ما كانوا يعملون } لأن عملهم بقدر معرفتهم وجزاؤه يضيق عنه نطاق فهمهم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم } [ السجدة : 17 ] { وما كان المؤمنون لينفروا } في السير إلى الله وبالله وفي الله ، فهلا نفر من كل قوم وقبيلة فرقة طائفة هم خواصهم وأهل الاستعداد الكاملون ليتعلموا السلوك ويخبروا بذلك قومهم { لعلهم يحذرون } من غير الله . { قاتلوا الذين يلونكم } من كفار النفس والهوى وصفاتها { وليجدوا فيكم غلظة } عزيمة صادقة في ترك شهواتها { وماتوا وهم كافرون } أي لموت قلبهم لتزايد ظلمة النفاق كل حين ، ثم أخبر عن موت القلب بقوله : { أولا يرون أنهم يفتنون } والفتنة موجبة لانتباه القلب الحي { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } [ ق : 37 ] أي قلب حي { هل يراكم من أحد } في مقام الإنكار والنفاق أي هل يرى محمد إنكارنا على رسالته والقرآن ، فإن كان رسولاً يرانا بنور رسالته { ثم انصرفوا } على هذا الحسبان لأن قلوبهم مصروفة وليس لهم فقه القلب لأن ذلك من أمارات حياة القلب . { من أنفسكم } تسكين للعوام لئلا يتنفروا عنه وإشارة للخواص إلى أن البشر لهم استعداد الوصول والوصال ، فإن لم يكن بالاستقلال فبالمتابعة فاتبعوني يحببكم الله . ومن قرأ { من أنفسكم } أي أشرفكم فلأنه أوّل جوهر خلقه الله تعالى « أول ما خلق الله تعالى روحي » ولاختصاصه بالخلاص عن تعلق الكونين وبلوغه إلى قاب قوسين أو أدنى وتحليه بحلية { فأوحى إلى عبده ما أوحى }

[ النجم : 10 ] ولعلو همته ، { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] ولرؤيته سر القدر { ولقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 18 ] { بالمؤمنين رؤوف رحيم } فمن رأفته أمر بالرفق كما قال : « إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق » ومن رحمته قيل له { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] وههنا نكتة وهي أن رأفته ورحمته لما كانت مخلوقة اختصت بالمؤمنين فقط ، وكانت رحمته تعالى ورأفته للناس عامة { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } ونكتة أخرى هي أن رحمته صلى الله عليه وسلم عامة للعالمين بقوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] وأما رحمته المضمومة إلى الرأفة فخاصة بالمؤمنين وكأن الرأفة إشارة إلى ظهور أثر الدعوة في حقهم ، فالمؤمنون أمة الدعوة والإجابة جميعاً وغيرهم أمة الدعوة فقط { فقل حسبي الله } لأن المقصود من التبليغ قد حصل لك وهو وصولك إلى الله أعرضوا عن دعوتك أو أقبلوا والله المستعان .


الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)

القراآت : { الر } بالإمالة وكذلك ما بعده : أبو عمرو وخلف وحمزة وعلي والخراز عن هبيرة والنجاري عن ورش ويحيى وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . { لساحر } بالألف : ابن كثير وعصام وحمزة وعلي وخلف . الآخرون { لسحر } { حقاً أنه } بالفتح .
يزيد . { ضياء } بالهمز حيث كان : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل { يفصل } بالياء : ابن كثير وعمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والعجلي . الباقون بالنون . { واطمأنوا } بغير همز : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف .
الوقوف : { آلر } ق كوفي { الحكيم } ه ط { عند ربهم } ط { مبين } ه { يدبر الأمر } ط { إذنه } ط { فاعبدوه } ط { تذكرون } ه { جميعاً } ط ، { حقاً } ط ، إلا لمن قرأ { أنه } بالفتح . { بالقسط } ط { يكفرون } ه { والحساب } ط { إلا بالحق } ط لمن قرأ { نفصل } بالنون ، ومن قرأ بالياء أمكنه أن يجعل { يفصل } حالاً . { يعلمون } ه { يتقون } ه { غافلون } هل لا لأن { أولئك } خبر « إن » { بإيمانهم } ج ط للحذف تقديره يهديهم ربهم بإيمانهم إلى دار البقاء مع اتحاد المقصود وتمام الموعود { النعيم } ه { سلام } ج ط لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد اعترضت جملة معطوفة أخرى لأن قوله { وآخر دعواهم } معطوف على { دعواهم } الأوّل { العالمين } ه .
التفسير : اتفقوا على أن قوله { الر } ليس بآية وعلى أن { طه } آية . ولعل الفرق أن { الر } لا يشاكل مقاطع الآية التي بعده ، عن ابن عباس { آلر } معناه انا الله أرى . وقيل : لا رب غيري . وقيل : آلر وحم ون اسم الرحمن { تلك } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والتبعيد للتعظيم ، والكتاب السورة ، والحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها أو وصف بصفة من تكلم به ومنه قولهم للقصيدة حكيمة . وقيل : « فعيل » بمعنى « فاعل » لأنه يحكم بين الحق والباطل ، أو يحكم بأن محمداً صادق لأن القرآن أظهر معجزاته وأبقاها . وقيل : بمعنى مفعول أي حكم فيه بجميع المأمورات والمنهيات وقيل : بمعنى المحكم والإحكام المنع من الفساد وذلك أنه لا يمحوه الماء ولا يحرقه النار ولا يغيره الدهور . ويحتمل أن يقال : الكتاب الحكيم هو القرآن أو اللوح المحفوظ أو التوراة والإنجيل ، لأن جميع الكتب الإلهية متوافقة في الأصول ، ويجوز أن يكون { تلك } إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن . واعلم أنه سبحانه لما ختم السورة المتقدمة بقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 127 ] صدر هذه السورة بتعديد بعض الحروف على طريق التحدي ، وذلك أن حروف القرآن من جنس الحروف التي يتلفظون بها فلولا أنه معجز لعارضوه وناقضوه . ولما بين بهذا الطريق أن محمداً رسول حق من عند الله أنكر على كفار قريش تعجبهم من كونه رسولاً فقال : { أكان للناس عجباً } نصب على أنه خبر كان واسمه { أن أوحينا } وفائدة اللام في قوله : { للناس } مع تقديمه هي أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتحدثون بها ، ثم إن تعجبهم إما أن يكون من جعل البشر رسولا أو من تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي والنبوة فقد روي أنهم كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وكلا الأمرين ليس بعجب ، أما الأول فلأن الجنس إلى الجنس أميل

{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الاسراء : 95 ] . وأما الثاني فلأن الفقر واليتم لا يوجب في النبوة قدحاً لأن الله غني عن العالمين { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } [ سبأ : 37 ] وإنما المعتبر في الاستنباء كونه متصفاً بالصدق والأمانة والتقوى ، وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك قبل بعثه اليد الطولى إذ كان يدعى محمداً الأمين . و « أن » في قوله : { أن أنذر الناس } هي المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول ، أو مخففة من الثقيلة وقد عملت في ضمير شأن مقدر معناه إنه أي إن الشأن قولنا أنذر النس . وقوله : { وبشر الذين آمنوا أن لهم } أي بأن لهم ، والإنذار إخبار مع تخويف وإنه عام للناس كلهم ، ولكن البشارة خاصة بالمؤمنين . ويحتمل أن يراد بالناس الكفار فقط ويمكن أن يكون تعجبهم عائداً إلى الإنذار والتبشير وليس ذلك بعجب بل المنكر في العقول تعطيل الأعمال وأن يترك الإنسان سدىً ، وإرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى المكلفين عنه شيئاً من الأزمنة ، وبه تتم الماليكة والأمر والنهي والإذن والمنع والثواب والجزاء . وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن الإنذار تحذير عن فعل ما لا ينبغي ، والتبشير ترغيب في فعل ما ينبغي والتخلية مقدمة على التحلية . ومعنى { قدم صدق } سابقة فضل ومنزلة رفيعة أي سبق لهم عند الله خير . قال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير . وقال ابن الأنباري : كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء . والسبب في إطلاق القدم على السابقة أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد ، وإضافة القدم إلى صدق لأجل المبالغة وللتنبيه على أنها من السوابق العظيمة أي القدم التي يصدق ويحق أن تسمى قدماً . وأما عبارات المفسرين فمنهم من قال : قدم صدق هي الأعمال الصالحة ، ومنهم من قال الثواب ، ومنها من قال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم . أما قوله : { قال الكافرون } فقال القفال : فيه إضمار والتقدير : فلما أنذرهم قالوا ذلك . ثم من قرأ لساحر بالألف فقوله هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قرأ السحر إشارة إلى القرآن وفيه دليل على عجزهم واعترافهم بأنهم قاصرون عن معارضته كالسحر ، ومن هنا جوز بعضهم أن يكونوا أرادوا به المدح أي إنه لكمال فصاحته وتعذر الإتيان بمثله جارٍ مجرى السحر .

ثم لما أنكر عليهم تعجبهم من الأمور المذكورة وهي الواسطة أراد أن يقيم البرهان عليها بإثبات المبدأ ويبين غايتها بإثبات المعاد وذلك في آيتين متواليتين . وقد مر في الأعراف تفسير قوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } فلا حاجة إلى الإعادة .
ثم ذكر ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره فقال : { يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وإنما فقد العاطف لأنهما كالتفسير والتفصيل لما دل عليه قوله : { إن ربكم الله } الخ . والأمر الشأن أراد به أحوال الخلق وأحوال ملكوت المسوات والأرض والعرش . والمعنى أنه يقضي ويقدر بمقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي . قال الزجاج : إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح . ففي قوله : { يدبر الأمر } إشارة إلى استقلاله في التصرف جانب المبدإ ، وفي قوله { ما من شفيع } إشارة إلى استقلاله في طرف المعاد . ويمكن أن يقال : المراد أنه خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من الأصلح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في تحصيل المصالح فدل ذلك على أنه محسن إلى عباده مريد للخير والرأفة بهم كامل العناية بأحوالهم . قال أبو مسلم : الشفيع معناه الثاني من الشفع الذي يخالف الوتر أي خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والثقلين ، والمراد أنه لم يدخل في الوجود أحد إلا من بعد أن قال له : « كن » حتى كان وحصل . ثم أشار إلى المعلوم بالأوصاف المذكورة فقال : { ذلكم الله ربكم } الذي يستأهل منكم العبادة بإزاء النعم الجسام من خلق السموات والأرض بما فيهما وعليهما { فاعبدوه } وحده { أفلا تذكرون } فيه تنبيه على وجوب الاعتبار والنظر في الدلائل الدالة على عظمته وجلاله . ثم شرع في إثبات المعاد فقال : { إليه مرجعكم } أي رجوعكم { جميعاً } مجموعين . وتقديم الجار والمجرور للاختصاص والمعنى لا ترجعون في العاقبة إلا إلى جزائه وحكمه فاستعدوا للقائه ، ثم أكد ذلك بقوله : { وعد الله حقاً } وفيه تأكيدان كما مر . ثم قال : { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } وهو استئناف فيه معنى التعليل كأنه قال إن الذي قدر على الإبداء يقدر على الإعادة بالطريق الأولى كقوله :

{ وننشئكم فيما لا تعلمون } [ الواقعة : 61 ] يعني أنه سبحانه لما كان قادراً على إنشاء ذواتكم أوّلاً ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانياً شيئاً فشيئاً من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نموّه ، وجب القطع بأنه لا يمتنع عليه إعادة تلك الأجزاء بعد البلى والتفرق . ومن قرأ { أنه } بالفتح فعلى حذف لام التعليل أي لأنه ، أو على أنه منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله أي وعد الله وعداً بدء الخلق ثم إعادته ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً أي حق حقاً بدء الخلق .
ثم ذكر غاية الإعادة وحكمتها فقال : { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال المفسرون : في الآية إضمار والتقدير أنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم ليجزي . وإنما حسن هذا الحذف لتقدم قوله : { فاعبدوه } ولأن الإعادة لا تكون إلا بعد الإماتة والإعدام . وقوله : { بالقسط } أي بالعدل متعلق ب { يجزي } أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجرهم أو ليجزيهم بقسطهم وبما لم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملوا صالحاً وهذا وجه حسن لطباق قوله : { بما كانوا يكفرون } وفي قوله : { والذين كفروا } من غير أن يدخل لام العاقبة في الجملة كما أدخلها في الأولى دليل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، وإنما جاء التعذيب لغرض وقوعهم في طريق القهر . والحميم الماء الذي أسخن بالنار حتى انتهى حره . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على عدم منزلة بين المنزلتين على ما يقول بها المعتزلة . وأجيب بأن عدم الذكر لا يدل على العدم ورُدَّ بأن الفساق أكثر من أهل الطاعة فكيف يجوز طي ذكرهم؟ واعلم أن للعلماء في إثبات المعاد طريقين : الأول طريق القائلين بالحسن والقبح العقليين ، والثاني طريق من يقول لا يجب على الله شيء أصلاً يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . أما الفريق الأول فلهم على وجوب المعاد حجج عقلية منها : أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولاً وقدراً فيجب في حكمته أن يرغبهم في الخيرات ويزجرهم عن السيئات ، وهذا الترغيب والزجر لا يمكن إلا بربط الثواب على الفعل والعقاب على الترك . هذا في المأمورات وبالعكس في المنهيات ، وذلك الثواب المرغب والعقاب المرهب غير حاصل في الدنيا فلا بد من دار أخرى هي دار الآخرة ليحصل فيها ذلك وإلا لزم أن يكون الله تعالى كاذباً في قوله : { ليجزي } الخ . فإن قيل : لم لا يكفي في الترغيب والردع ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات فلا يحتاج إلى الوعد والوعيد؟ ولئن سلم فلم لا يجوز أن يكون الغرض من الترغيب والترهيب نظام العالم لا أنه يفعل ذلك ولا يلزم منه الكذب على الله ، ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن ثم تزعمون أنه لا كذب؟ سلمنا أنه يفعل لكن لم لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب هو ما يصل إلى الإنسان في دار الدنيا من الراحات والآلام؟ فالجواب أن العقل وإن كان يدعو إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوان إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية ، وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد على الأعمال ، وتجويز الخلف في ذلك مناف للغرض ، وأخذ الأجرة إنما يكون بعد الفراغ من العمل والعبد ما دام في الدنيا فهو في العمل ، وقد ترى أزهد الناس وأعلمهم مبتلى بالآفات والبليات ، وأفسقهم وأجهلهم في أتم اللذات والمسرات .

ومنها أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء والمظلوم والظالم وأن لا يجعل من كفر به وعصاه كمن آمن به وأطاعه وليس هذه التفرقة في الدنيا كما قيل :
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
فلا بد من دار أخرى يظهر فيها التفاوت . ومنها أنه كلف عبيده بأن يعبدوه ، والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد أن يجعله فارغ البال منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تكليفه ، والناس جبلوا على طلب اللذات والتبادر إلى تحصيل أسباب الراحات فلو لم يكن زاجر من خوف المعاد لوقع الهرج والمرج والفتن وحينئذٍ لا يتفرغ المكلف لأداء ما أمر به . فإن قيل : لم لا يكفي في نظام العالم مهابه الملوك وسياستهم؟ قلنا : إن لم يكن السلطان قاهراً قادراً على الرعية فلا فائدة فيه ، وإن كان قاهراً غالباً ولا خوف له من المعاد فحينئذٍ يقدم على أنواع الظلم والإيذاء لأن الداعية النفسانية قائمة ولا وازع له في الدنيا ولا في الآخرة . ومنها أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق فيه الناس ، والعبث لا يليق بالحكيم الرحيم فوجب أن يقال : إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير وليس ذلك في الدنيا لأن لذات هذا العالم جسمانية لا حقيقة لها إلا إزالة الألم ، وإزالة الألم أمر عدمي وكان هذا حاصلاً قبل الوجود فلا يبقى للتخليق فائدة . وأيضاً إن لذات الدنيا مشوبة بالآلام بل اللذة في الدنيا كالقطرة من البحر فعلمنا أن للرحة دار أخرى . فإن قيل : ليس أنه يعذب أهل النار لا لمصلحة وفائدة لهم؟ قلنا : الفرق أن لذلك الألم استحقوه على أعمالهم وهذا الألم الحاصل في الدنيا غير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة وإلا فينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين . ومنها أنه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات لأنها تشاركه في اللذات الحسية لأن الروث في مذاق الجعل كاللوز في فم الإنسان ، والإنسان يزيد عليها بعقل هو سبب تألمه وتأذيه في أغلب الأحوال ، يتفكر في الأحوال الماضية فيتأسف ، ويتأمل في الأحوال الآتية فيخاف ، فلو لم يكن للإنسان معاد به يكمل حاله ويظهر سعادته كان عقله سبباً لشقائه وخسته دون شرفه ومزيته .

ومنها أن إيصال النعم إما أن يكون مشوباً بالآفات أو خالصاً عنها ، فلما أنعم الله تعالى علينا في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علنيا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهاراً لكمال القدرة والرأفة والحكمة ، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين ويزيل الغموم والهموم والآفات والمخافات . ومما يقوّي هذا الكلام أن الإنسان دائماً في الترقي من حين كونه جنيناً في بطن أمه إلى أن يخلص من ذلك السجن ويخرج إلى قضاء الدنيا ، وإلى أن ينتقل من تناول اللبن والشد الوثيق في المهد إلى تناول الأطعمة اللذيذة والمشي والعدو إلى أن يصير أميراً نافذ الحكم على الخلق أو عالماً مشرفاً على حقائق الأشياء ، فوجب بحكم هذا الاستقراء أن يكون حاله بعد الموت أشرف وأبهى من اللذات العاجلة المشوبة بالآلام . ومنها طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقاً فقد نجونا وهلك المنكر ، وإن كان باطلاً لم يضرنا هذا الاعتقاد ، غاية ذلك فوات بعض اللذات الزائلة المشوبة بالمنغصات . ومنها أن أحوال الإنسان من صباه إلى هرمه تضاهي حال الأرض من الربيع إلى الشتاء . ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فلم لا يعقل مثل ذلك في الإنسان؟ ومنها أن الإنسان إنما يتولد من نطفة نولدت من الأغذية الكائنة من الأجزاء العنصرية المتفرقة في مشارق الأرض ومغاربها ، فإذا مات وتفرقت تلك الأجزاء فكيف يمتنع أن تجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول؟ ومنها أن النظر في تغيرات العالم أدى إلى إثبات صانع حكيم قادر قاهر ، والعقل يحكم بأن هذا الحكيم لا يليق به أن يترك عبيده هملاً يكذبون عليه ويجورون ، فلا بد من أن يكون له أمر ونهي ووعد ووعيد من غير تجويز خلف فيهما كما مر ، ولا يتحقق جميع ذلك إلا في دار الجزاء .
وأما الفريق الآخر الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فإنهم يقولون : المعاد أمر جائز الوجود لأن تعلق النفس بالبدن لما كان في المرة الأولى جائزاً فالمرة الثانية أيضاً جائزة . ثم إن إله العالم قادر مختار عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات فلا يعجز تمييز أجزاء بدن زيد - وإن اختلطت بأجزاء التراب والبحار - عن أجزاء بدن عمرو ، وإذا ثبت هذا الإمكان وقد دل الدليل على صدق الأنبياء عليهم السلام وعلى أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ثم إنهم قطعوا بوقوع هذا الممكن والقرآن مشحون بآيات البعث والجزاء فوجب علينا القطع بالمعاد الجسماني . وأما شبهة المنكرين فمن ذلك أنهم قالوا الدار الآخرة إن كانت شراً من هذه فالتبديل سفه ، وإن كانت مثلها فعبث ، وإن كانت خيراً منها فإما أن يقال إنه قادر على خلق ذلك الأجود أولاً ثم تركه وفعل الأرذل فذلك سفه ، أو يقال إنه ما كان قادراً ثم حدثت له القدرة فذلك انتقال من العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى الحكمة فهو محال على القديم .

والجواب أن كلاً من الدارين خير في وقتها فالأولى لتحصيل الكمالات النفسانية الممكنة للنوع الإنساني من قبيل العلم والعمل ، والأخرى للراحة والجزاء ، ومن ذلك أنهم قالوا : حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد . والجواب ما ذكرنا في كتبنا الحكمية من أن كل جسم مركب وكل مركب ينحل لا محالة . ولئن سلمنا أنها أزلية فحركاتها غير أزلية لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال ، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزلية تنافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الأزل والحركة محالاً . ولئن سلم أن الحركة أزلية فلم لا يجوز أن يكون بعض أوضاع الأفلاك مقتضياً لإعادة المعدومات من الأشخاص الإنسانية؟ ومن ذلك أنهم قالوا : الإنسان عبارة عن هذا البدن ذي الأجزاء لا كيف كانت بل بشرط وقوعها على تأليف مخصوص ، لأن أجزاء البدن كانت موجودة قبل هذا الإنسان والموجود مغاير للمعدوم . فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصورة والأعراض وعود المعدوم محال . وأجيب بأن الإنسان ليس عبارة عن هذا الجسد وإنما هو النفس سواء كانت جوهراً مجرداً مفارقاً أو جسماً مخصوصاً لطيفاً باقياً في جميع أحوال البدن من الصبا إلى الهرم مصوناً عن التحلل والتبدل وهو الذي يسميه المتكلمون بالأجزاء الأصلية . ومن ذلك أنهم قالوا : إذا قتل الإنسان واغتذى به إنسان آخر لزم أن تعاد تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال . وأجيب بعين ما مر وهي أن الأجزاء الأصلية لا تصير جزءاً من إنسان آخر . فهذه خلاصة وما وصل إليه العقول من أمر المعاد والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
تم عدد بعض نعمه على المكلفين فقال : { هو الذي جعل الشمس ضياء } وهو أجوف واوي مهموز اللام قلبت واوه ياء لكسرة ما قبلها ، ومن قرأ بهمزتين بينهما ألف فمحمول على القلب لأن إذا قدم اللام على العين وقع حرف العلة على الطرف فانقلب همزة وكان في « كساء » . وهو إما أن يكون جمع ضوء كحوض وحياض ، أو مصدر ضاء يضوء مثل قام قياماً وصام صياماً ، ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة فجعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم إنه كرم وجود . والضياء أقوى من النور .

ولا خلاف بين العقلاء أن ضوء الشمس كيفية قائمة بها لذاتها ، أما نور القمر فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من الشمس وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية إلى البدرية كما بينا في تفسير قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } [ البقرة : 189 ] { وقدره منازل } قال في الكشاف : أي قدّر مسيره منازل أو قدره ذا منازل . ومنزلة القمر المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به وجملتها ثمانية وعشرون وأساميها مشهورة : الشرطين الثريا البطين الخ . وهي كواكب ثابتة معروفة عندهم جعلوها علامات المنازلة ، فنرى القمر كل ليلة نازلاً بقرب أحدها وذلك أنهم قسموا دور الفلك وهو اثنا عشر برجاً على ثمانية وعشرين - عدد أيام القمر - فأصاب كل برج منزلان وثلث فسموا كل منزل بالعلامة التي وقعت وقت التسمية بحذائه . ثم ذكر بعض منافعهما العائدة على المكلفين فقال : { لتعلموا عدد السنين والحساب } حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي . وقد ذكرنا السنة الشمسية والسنة القمرية وكيفية دوران إحداهما على الأخرى في تفسير قوله تعالى : { إن عدة الشهور } [ التوبة : 36 ] الآية فلا حاجة إلى التكرار ، ثم أشار إلى سائر منافعهما وخواصهما بقوله : { ما خلق الله ذلك } المذكور { إلا } ملتبساً { بالحق } والصواب دون الباطل والعبث ، فالشمس سلطان النهار والقمر خليفتها بالليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى فصولها الأربعة ، وبالفصول تنظم مصالح هذا العالم ويتحصل معايش الخلائق ، وبحركة القمر يحصل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة النور ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات إلى غير ذلك من الخواص التي يرشد إليها التأمل والتدبر ولهذا قال : { يفصل الآيات لقوم يعلمون } لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الدلائل . وقيل : المراد بالعلم ههنا العقل الذي يعم الكل . ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد مر تفسيره في سورة « البقرة » في قوله : { إن في خلق السموات والأرض } [ الآية : 164 ] . ومعنى قوله : { وما خلق الله في السموات والأرض } كقوله : { وما خلق الله من شيء } [ الآية : 185 ] وقد مر في آخر « الأعراف » . وإنما خص كونها آيات بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر . قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل ، وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء ، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بالمبدإ والمعاد .
ثم شرع في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به فقال : { إن الذين لا يرجون لقاءنا } عن ابن عباس ومقاتل والكلبي : معناه لا يخافون البعث كقوله تعالى : { وهم من الساعة مشفقون } [ الأنبياء : 49 ] واستبعد الأكثرون تفسير الرجاء بالخوف وقالوا : إنه بمعنى الطمع أي لا يطمعون في حسن لقائه كما يأمله السعداء ، أو لا يتوقعونه أصلاً لأنهم لا يؤمنون بالمعاد فهم ذاهلون عن طلب اللذات الحقيقية فارغون عن التوجه نحو السعادات الباقية { ورضوا } مع ذلك { بالحياة الدنيا } الحسية الخسيسة { واطمأنوا بها } سكنوا إليها سكون العاشق إلى معشوقه وهذه غاية الانهماك الاستغراق في اللذات الجسمانية { والذين هم عن آياتنا غافلون } فال يعتبرون بالآيات ولا ينظرون في الدلائل الموصلة إلى حقيقة المبدإ والمعاد ، فلم يقبلوها بالتقليد ولم ينظروا إليها بعين الاجتهاد { أولئك مأواهم النار } فيه معنى الجزاء ولذلك تعلق به قوله : { بما كانوا يكسبون } وفيه أن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول العذاب الجسماني وهو النار المحسوسة ، والعذاب الروحاني وهو نار البعد من المألوفات والقطيعة من السعادات الباقيات فيكون مثاله مثال من أخرج عن مجالسة معشوقه فألقي في بئر ظلمانية لا إلف بها ولا مؤنس بل يكون فيها أنواع المؤذيات وأصناف الموحشات نعوذ بالله من تلك الحالات .

وهذا حال من لا يؤمن بالمعاد فلا يعمل له ، وأما حال الذي يؤمن به فذلك قوله : { إن الذين آمنوا } استكملوا من جهة القوة النظرية { وعملوا الصالحات } استكملوا من قبل القوة العملية أو صدقوا بقوله ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله ، أو أشغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ثم جوارحهم بالخدمة حتى تكون عيونهم مشغولة بالاعتبار ، وآذانهم باستماع كلام الله ، وألسنتهم بذكر الله وسائر أعضائهم بطاعة الله تعالى : { يهديهم ربهم بإيمانهم } قال أكثر المفسرين : معناه يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة . ومعنى قوله : { بإيمانهم } أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح ، وهذا التفسير يوافق قوله تعالى : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } [ الحديد : 12 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : « إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله الصالح في صورة حسنة فيقول له : أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة . والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول : أنا عملك فينطلق به إلى النار » وقيل : معنى الآية إن إيمانهم يهديهم إلى مزايا من الألطاف ولوامع من الأنوار بحيث تزول بواسطتها عنهم الشكوك والشبهات فتؤدي إلى حصول المثوبات ولذلك جعل { تجري من تحتهم الأنهار } بياناً له وتفسيراً لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها . فهذه الهداية عبارة عن الفوائد الزوائد الحاصلة في الدنيا بعد الإيمان . قال القفال : فعلى هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار إلا أنه حذف الواو وجعل قوله : { تجري } خبراً مستأنفاً منقطعاً عما قبله . والتحقيق في تقرير هذا الوجه أن العلم نور والجهل ظلمة والروح كاللوح والعلوم والعارف كالنقوش ولكن حالهم بالضد من النقوش الجسمانية ، فإن تزاحم النقوش الجسمانية يكدر اللوح وتوارد النقوش المعنوية وتكاثرها يزيد لوح الروح لمعاناً وإشراقاً حتى إنه يقوى بها على تحصيل المعارف الباقية بسهولة ، فليس فهم الرجل المنتهي للعلوم والحقائق كفهم المبتدىء ، فإن الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور المعرفة ، وإذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة التوجه إلى الآخرة والإعراض عن الدنيا ، ولا تزال تتزايد إشراقات هذه المعارف والملكات فيرتقي في معارجها لحظة فلحظة ، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية فلا نهاية لمراتب هذه الهداية .

وفي قوله : { يهديهم ربهم بإيمانهم } دليل لمن قال إن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ولكنهما يعدّان الذهن لحصول الفيض من الجواد المطلق . ومعنى { تجري من تحتهم الأنهار } أنهم يكونون في البساتين على مواضع مرتفعة كالسرر والأرائك والأنهار تجري من بين أيديهم . { دعواهم فيها } قال بعض المفسرين : أي دعاؤهم ونداؤهم كما يدعو القانت بقوله : اللهم إياك نعبد : وقيل : الدعاء العبادة كقوله : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [ مريم : 48 ] وإنما تكون هذه عبادتهم لا على سبيل التكليف بل على سبيل الإلهام والعادة ابتهاجاً بذكر الله . وقيل : الادعاء بين المتخاصمين والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله من المعايب والإقرار له بالإلهية . قال القفال : أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما . وقيل : أي طريقتهم وسيرتهم وذلك لأن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قولهم سبحانك اللهم دعاء ولا دعوى . وقيل : أي تمنيهم كقوله : { ولهم ما يدعون } [ يس : 57 ] أي ما يتمنونه . وتقول العرب : ادّع عليّ ما شئت أي تمن فكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه ، ولقد كانوا في الدنيا يدعون في الحروب من يسكنون إليه ويستنصرونه فيقولون : يا آل فلان فأخبر الله تعالى عنهم أن أنسهم في الجنة بذكر الله وسكونهم بتحميده { وتحيتهم فيها سلام } أي بعضهم يحيي بعضاً بالسلام . وقيل : هي تحية الله أو الملائكة إياهم إضافة للمصدر إلى المفعول { وآخر دعواهم أن الحمد } هي « أن » المخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد { لله } على أن الضمير للشأن . قال أهل الظاهر من المفسرين : في سبب تخصيص هذه الأذكار بأهل الجنة أن قوله : { سبحانك اللهم } علم بين أهل الجنة وخدامهم إذا سمعوا ذلك منهم أتوهم بما يشتهونه . قال ابن جريج : ورد في الأخبار أنه إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا : { سبحانك اللهم } فيأتيهم الملك بذلك المشتهى ، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا : { الحمد لله رب العالمين } وقال القاضي : إنه وعد المتقين بالثواب العظيم فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك المواعيد قالوا سبحانك اللهم أي نسبحك عن الخلف في الوعد . وقيل : ألهم الله بني آدم في الجنة بعد انقراض الدنيا ما افتخر به الملائكة قبلهم في قولهم :

{ ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] ويمكن أن يقال : إن لكل إنسان معراجاً بحسب قوته فإذا وصل العارف الصادق إلى صفات جلال الله تعالى قال سبحانك ، وإذا ارتقى منها إلى الذات قال اللهم ، فإذا عجز عن ذلك المضمار واحترق في أوائل تلك الأنوار رجع من عالم الجلال إلى عالم الإكرام فأفاض الخير على جميع المحتاجين ويدفع المخافات والمكاره عنهم بكل ما أمكنه وذلك قوله : { وتحيتهم فيها سلام } ثم إذا شاهدوا أثر نعمة الله عليهم بالاستفاضة والإفاضة اختتموا الكلام بقولهم : { الحمد لله رب العالمين } . وعلى هذا يدور أمرهم في العروج والنزول ما داموا في الدنيا فيكون كذلك حالهم في العقبى لقوله : « كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون » .
التأويل : { آلر } فيه إشارتان : إحداهما من الحق المحق إلى حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال : بآلائي عليك في الأزل وأنت في العدم وبلطفي عليك في الوجود وبرحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد . والثانية من الحق لنبيه عليه السلام إليه يقول بإنسك معي حين خلقت روحي ولم يكن ثالث ، وبلبيك الذي أجبتني به حين دعوتك للخروج من العدم فقلت : ياسين أي يا سيد فقلت : لبيك وسعديك والخير كله بيديك . وبرجوعك منك إلى حين قلت لنفسك بجذبه { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { تلك } أي هذه الآيات المنزلة عليك { آيات الكتاب الحكيم } الذي وعدتك في الأزل وراثته لك ولأمتك . والحكيم الحاكم على الكتب كلها فلا ينسخه كتاب وهو ينسخ الشرائع والأحكام والكتب كلها { إلى رجل منهم } لما رأى فيه رجولية قبول الوحي دون غيره ، ويحتمل أن يكون معنى للناس الناسي عهد الله { قدم صدق } محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أول من خرج من العدم إلى الوجود ، أو هو العناية الأزلية « سبقت رحمتي غضبي » { لساحر مبين } صدقوا في أنهم مسحورون إلا أنه سحرهم سحرة صفات فرعون النفس . إن الذي يربيكم هو الذي خلق السموات سموات أرواحكم وأرض نفوسكم من ستة أنواع هي : الروح والقلب والعقل { يدبر } أمر السعادة والشقاوة يقلبه كيف يشاء . { إليه مرجعكم جميعاً } فرجعوا مقبولين بجذبات العناية التي صورتها خطاب { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله ونتيجتها عزوف النفس عن الدنيا واستواء الذهب والمدر عندها ورجوع المردودين بغير الاختيار بالسلاسل والأغلال . ومن نتائجه تعلقات الدنيا واستيلاء صفات النفس { بالقسط } أي لكل بحسب كماله ونقصانه . جعل شمس الروح ضياء يستنير بها قمر القلب إذا وقع في مواجهتها ، وإذا وقع في مقابلة أرض النفس انكسف ولهذا سمي قلباً لتقلب أحواله بين الروح والنفس . وتلك الأحوال هي منازله ومقاماته لتعلموا عدد سنين المقامات وحساب الكشوف والمشاهدات { إن في اختلاف } ليل صفات البشرية ونهار صفات الروحانية { وما خلق الله } في سموات الروحانية وأرض البشرية من الأوصاف والأخلاق وتبدل الأحوال { لآيات } دالة على التوحيد { لقوم يتقون } الأخلاق الذميمة { والذين هم عن آياتنا غافلون } وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها كالرهابين والبراهمة وبعض الفلاسفة والله تعالى أعلم .


وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

القراآت : { لقضي إليهم } مبنياً للفاعل { أجلهم } بالنصب : ابن عامر ويعقوب . الآخرون مبنياً للمفعول ورفع { أجلهم } أو بدله بضم اللام وسكون الهاء : روى خلف عن الكسائي والاختبار عنه وعن غيره الإشمام { لي أن } بفتح الياء وكذلك { إني أخاف } : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { نفسي أن } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع . { ولأدراكم } بلام الابتداء فعلاً مثبتاً : روى أبو ربيعة عن البزي وحمزة . وقرأ حمزة وعلي وأبو عمرو وخلف وورش من طريق النجاري والخراز عن جبيرة وهبيرة وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ، وحماد ويحيى من طريق أبي حمدون بالإمالة فعلاً ماضياً منفياً بلا . الباقون : مثله ولكن بالتفخيم . { تشركون } بتاء الخطاب وكذكل في « النحل » و « الروم » : حمزة وعلي وخلف . الباقون بالياء .
الوقوف : { أجلهم } ط لأن ما بعده مستقبل فنحن نذر { يعمهون } ه { أو قائماً } ط { مسه } ط { يعملون } ه { ظلموا } لا لأن الواو للحال { ليؤمنوا } ط { المجرمين } ه { تعملون } ه { بينات } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { أو بدله } ط . { نفسي } ج ط لأن « ان » النافية لها صدر الكلام ولكن القائل متحد { إليّ } ط ج لمثل ما قلنا { عظيم } ه { به } ط والوصل أولى للفاء أو لشدة اتصال المعنى { من قبله } ط { تعقلون } ه { بآياته } ط { المجرمون } ه { عند الله } ط { في الأرض } ط { يشركون } ه { فاختلفوا } ط { يختلفون } ه { من ربه } ج ط للابتداء بالأمر مع الفاء { فانتظروا } ج لاحتمال الابتداء أو التعليل { المنتظرين } ه .
التفسير : إنه سبحانه ابتدأ في هذه السورة بذكر شبهات القوم؛ فالأولى أنهم تعجبوا من تخصيص الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالنبوة فأزال ذلك التعجب بالإنكار وبالدلائل الدالة على صحة المبدا والمعاد فكأنه قيل : إنه ما جاء إلا بدليل التوحيد والإقرار بالمعاد فليس للتعجب معنى . ثم شرع في شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقولون أبداً اللهم إن كان محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء فأجابهم بقوله : { ولو يعجل الله } الآية . وقال القاضي : لما ذكر الوعيد على عدم الإيمان بالمبدإ والمعاد ذكر أن ذلك العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا وإلا نافى التكليف . وقال القفال : لما وصفهم فيما مر بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب فبيّن الله تعالى أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشر إليهم فلعلهم يؤمنون ، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن . كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها كما يجيء في الآية التالية ، وفي الرخاء كانوا يستعجلون النبي بالعذاب فقال ما معناه : ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما يعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لأميتوا وأهلكوا .

قال في الكشاف : أصل الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير . فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل منه لهم . وقيل : التعجيل معناه طلب العجلة إلا أن الاستعجال أشهر وأظهر . فمعنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم . وقيل : هما متلازمان فكل معجل يلزمه الاستعجال إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به التكوين واللائق بهم الطلب . وسمي العذاب في الآية شراً لأنه أذى وألم في حق المعاقب به . ثم إن قوله { لو يعجل } كان متضمناً لمعنى نفي التعجيل فيمكن أن يكون قوله { فنذرهم } معطوفاً على منوي كأنه قيل : ولكن لا يعجل فيذرهم إلزاماً للحجة أو لمصالح أخرى . ثم بين أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه أظهروا العجل والطيش فقال : { وإذا مس الإنسان الضر } أي هذا الجنس { دعانا لجنبه } اللام في معنى الوقت كقولك : جئته لشهر كذا . وإن شئت قلت في موضع الحال لأن الظرف والحال متآخيان فيصح عطف أحدهما على الآخر وتأويل أحدهما بالآخر أي دعانا مضطجعاً { أو قاعداً أو قائماً } أو وقت اضطجاعه وقعوده وقيامه . والمراد أنه يدعو الله في جميع أحواله لا يفتر عن الدعاء . ثم إن خص الضر بالمرض احتمل أن يراد أنه يدعو الله حين كان مضطجعاً غير قادر على القعود أو قاعداً غير قادر على القيام ، أو قائماً لا يطيق المشي إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها . أو يراد أن من المضرورين من هو أسوأ حالاً وهو صاحب الفراش ، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود ، ومنهم المستطيع للقيام وكلهم لا يصبرون على الضراء . قال بعض المفسرين : الإنسان ههنا هو الكافر . ومنهم من بالغ فقال : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به الكافر . وهذا شبه تحكم لورود مثل قوله تعالى : { هل أتى على الإنسان } [ الدهر : 1 ] إلا أن يساعده نقل صحيح . والأصح عند العلماء العموم لأن الإنسان خلق ضعيفاً لا يصبر على اللأواء ولا يشكر عند النعماء إلا من عصمه الله وقليل ما هم ، وهم الذين نظرهم في جميع الأحوال على المقدر المؤجل للأمور حسب إرادته ومشيئته فلا جرم إن أصابهم السراء شكروا وإن أصابهم الضراء صبروا فأفنوا إرادتهم في إرادته ورضوا بقضائه . قال الزجاج : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعداً أو قائماً : وضعف بأن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال الضر لأنه إذا كان داعياً على الدوام ثم نسي ذلك في وقت الرخاء كان أعجب . ومعنى { مرّ } مضى على طريقته التي له قبل مس الضراء ومرّ عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه .

ومعنى { كأن لم يدعنا } كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن { كذلك } مثل ذلك التزيين { زين للمسرفين ما كانوا يعملون } من تتبع الشهوات . والمزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان مفرع عن مسألة الجبر والقدر وقد مر مراراً . قال العلماء : سمي الكافر مسرفاً لأنه أنفق ماله من الاستعداد الشريف من القوى البدنية والأموال النفيسة في الأمور الخسيسة الزائلة من الأصنام التي هي أحقر من لا شيء ، ومن الشهوات الفانية التي لا أصل لها ولا دوام . والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس فصح ما قلنا .
ثم ذكر ما يجري مجرى الردع والزجر لهم عن إلقاء الشبه والأغاليط فقال : { ولقد أهلكنا القرون } وقد مضى تفسير القرن في أول الأنعام { ولما } ظرف لأهلكنا والواو في { وجاءتهم } للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم { رسلهم } بالدلائل ، والحجج على صدقهم وهي المعجزات . وقوله : { وما كانوا ليؤمنوا } إما أن يكون عطفاً على { ظلموا } أو يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي ، وإن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر والسبب في إهلاكهم تكذيب الرسل وعلم الله بإصرارهم { كذلك } أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي نجزي كل مجرم ، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم خاطب الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : { ثم جعلناكم خلائف } أي استخلفناكم { في الأرض } بعد تلك القرون { لننظر كيف تعملون } خيراً أو شراً . استعير النظر للعمل الحقيقي الذي لا يتطرق إليه شك ، ويعني به العلم الذي يتعلق به الجزاء كما مر في « الأعراف » . قال قتادة : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار . ثم حكى نوعاً ثالثاً من شبهاتهم فقال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } أي لا يؤمنون بالمعاد لأن كل من كان مؤمناً بالنشور فإنه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه ، وانتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم . طلبوا من الرسول أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله ، إما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض الآيات ووضع أخرى في مكانها . فأمره الله تعالى أن يقول في جوابهم { ما يكون لي } أي ما ينبغي وما يحل { أن أبدله من تلقاء نفسي } من قبل نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين الذي هو أسهل وأقل ليلزم منه نفي الأصعب الأكثر بالطريق الأولى . ثم أكد الجواب بقوله : { إن أتبع } أي ما أتبع { إلا ما يوحى إلي } إن نسخت آية تبعت النسخ وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل .

وقد تمسك بهذا نفاة القياس ونفاة جواز الاجتهاد وأجيب بأن رجوعهما أيضاً إلى الوحي . ونقل عن ابن عباس أن قوله : { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } منسوخ بقوله : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] وضعف بأن النسخ إنما يكون في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية . قال المفسرون : هذا الالتماس منهم يحتمل أن يكون على سبيل السخرية . فقد روى مقاتل والكلبي أنهم خمسة نفر من مشركي مكة وهم المستهزؤون في قوله : { إنا كفيناك المستهزئين } [ الحجر : 95 ] . ويحتمل أن يكون على سبيل التجربة والامتحان حتى إنه إن فعل ذلك علموا أنه كاذب ، أو أرادوا أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم فطلبوا قرآناً آخر لا يكون كذلك . ثم أكد كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وأنه غير مستبد في إيراده فقال : { لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم } ولا أعلمكم الله { به } على لساني . ومن قرأ بلام الابتداء . فمعناه ما تلوته أنا عليكم ولأخبركم الله به على لسان غيري ، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده فرآني أهلاً لذلك دون غيري . وقرىء { لا أدرأكم به } بالهمزة . ووجهه أن تكون الهمزة مقلوبة من الألف ، أو يكون من الدرء الدفع . ومعنى ادرأته جعلته دارئاً أي لم أجعلكم بتلاوته خصماً تدرؤنني بالجدال وتكذبونني { فقد لبثت فيكم عمراً } أي بعضاً معتبراً من العمر وهو أربعون سنة { من قبله } أي من قبل نزول القرآن { أفلا تعقلون } فيه قدح في صحة عقولهم لأن ظهور مثل هذا الكتاب العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين المعجز للثقلين عن معارضته على من عرفوا حاله من عدم التعلم والمدارسة ومخالطة العلماء إذا شك فيه أنه من قبيل الوحي والمدد السماوي ، كان ذلك إنكاراً للضروريات وافتراء على الله فلهذا قال { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } الآية . وفيه أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ثم نسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله لم يكن أحد أظلم منه . ثم قبح الله أصنامهم معارضة لهم بنقيض مقصودهم من الالتماس فقال { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم } إن لم يعبدوه { ولا ينفعهم } إن عبدوه ومن حق المعبود أن يكون مثيباً معاقباً . وفيه إشعار بأنها جماد ، والمعبود لا بد أن يكون أكمل من العابد ، وإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله فلا تليق العبادة إلا له { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } قد ذكرنا وجه ذلك في أوائل سورة البقرة في قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } [ الآية : 22 ] ثم أنكر عليهم معتقدهم بقوله : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } والمراد أنه لا وجود لكونهم شفعاء إذ لو كان موجوداً لكان معلوماً للعالم بالذات المحيط بجميع المعلومات وهذا مجاز مشهور .

تقول : ما علم الله ذلك مني . والمقصود أنه ما وجد منك ذلك قط . وفي قوله : { في السموات ولا في الأرض } تأكيد آخر لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتفٍ معدوم . قوله : { سبحانه وتعالى عما يشركون } إما أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ، أو ابتداء كلام من الله تعالى تنزيهاً لنفسه عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به . ثم بيّن أن عبادة الأصنام بدعة وأن الناس - يعني العرب أو البشر كلهم - كانوا على الدين الحق فاختلفوا . وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة في قوله : { كان الناس أمة واحدة } [ الآية : 213 ] والمقصود ههنا تقبيح صورة الشرك وعبادة الأصنام من دون الله في أعينهم ، وتنفير طباعهم عن مثل هذا الأمر المستحدث الفظيع { ولولا كلمة سبقت من ربك } من بناء أمر الثواب والعقاب على التكليف لا على الإلجاء والقسر ، أو من تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة ، أو من قوله : « سبقت رحمتي غضبي » { لقضى بينهم } عاجلاً ولميز المحق من المبطل . ثم ذكر نوعاً رابعاً من أغاليطهم فقال : { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } وقد مر تفسيره في « الأنعام » في قوله : { لولا نزل عليه آية من ربه } [ الأنعام : 37 ] كأنهم لم يعتدّوا بالقرآن آية فاقترحوا غيره تعنتاً . { فقال إنما الغيب لله } هو المختص بعلمه { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه وهذا أمر فيه تهديد ووعيد والله ورسوله أعلم .


وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)

القرآات : { يمكرون } بياء الغيبة : سهل وروح . الباقون : بالتاء الفوقانية . { ينشركم } النون : ابن عامر ويزيد . الباقون { يسيركم } من التسيير { متاع } بالنصب : حفص والمفضل . الباقون بالرفع { قطعاً } بسكون الطاء : ابن كثير وعلي وسهل ويعقوب . والآخرون بفتحها { تتلو } بتاءين من التلاوة : حمزة وعلي وخلف وروح ، وروي عن عاصم { نبلو } بالنون ثم الباء الموحدة . { كل نفس } بالنصب الباقون : بتاء التأنيث { كل } بالرفع .
الوقوف : { آياتنا } ط { مكراً } ط ، { تمكرون } ه { والبحر } ط { في الفلك } ج ط للعدول مع أن جواب « إذا » منتظر ، { أحيط بهم } لا لأن قوله : { دعوا } بدل من { ظنوا } لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به ، وإن جعل { دعوا } جواباً عن سؤال سائل فما صنعوا كان للوقف وجه . { الدين } ج لاحتمال إضمار القول وجعل الدعاء في معنى القول { الشاكرين } ه { بغير الحق } ط . { على أنفسكم } ط ، إلا لمن جعله متعلقاً ب { بغيكم } { تعملون } ه { الأنعام } ط { عليها } لا لأن ما بعده جواب « إذا » . { بالأمس } ط { يتفكرون } ه { السلام } ط { مستقيم } ه { وزيادة } ط { ولا ذلة } ط ، { الجنة } ج ط { خالدون } ه { بمثلها } لا لأن قوله { وترهقهم } معطوف على محذوف أي يلزمهم جزاء سيئة وترهقهم ذلة . { عاصم } ج ط لأن الكاف لا يتعلق ب { عاصم } مع تعلقها بذلة قبله معنىً ، لأن رهق الذلة سواد الوجه المعبر عنه بقوله كأنما { مظلماً } ط { أصحاب النار } ج ط { خالدون } ه { وشركاؤكم } ج للعدول مع فاء التعقيب { تعبدون } ه { لغافلين } ه { يفترون } ه .
التفسير : لما بين في الآية المتقدمة أنهم يطلبون الآيات الزائدة عناداً ومكراً ولجاجاً أكد ذلك بقوله : { وإذا أذقنا } روي أنه سبحانه سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع إلى الأصنام - وقيل نسبوها إلى الأنواء - فقابلوا نعم الله بالكفران فذلك مكرهم وهو احتيالهم في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في المناظرة . وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن الكثير من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة . وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطري لا يطيق أدنى الرحمة كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه . قال في الكشاف : معنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم . وهذا أيضاً من جملة الضعف لأنه نسي ما عهده من الضر الشديد . و « إذا » الثانية للمفاجأة وقع مقام الفاء في جواب الشرط كما في قوله : { إذا هم يسخطون } [ التوبة : 58 ] وفائدته أن يعلم أنهم فاجأوا وقوع المكر منهم في وقت الإذاقة وسارعوا إليه ولم يلبثوا قدر ما ينفضون عن رؤوسهم غبار الضر ولهذا قال سبحانه { قل الله أسرع مكراً } يقدر على إيصال جزاء مكرهم إليهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم ولكنه يمهلهم لأجل معلوم ليتضاعف خبثهم مع كونه محفوظاً بيانه قوله { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } وقد مر تحقيق هذا في تفسير قوله :

{ ويرسل عليكم حفظة } [ الأنعام : 62 ] . واعلم أن مضمون هذه الآية قريب من مضمون قوله : { وإذا مس الإنسان الضر } [ يونس : 12 ] إلا أن هذه زائدة عليها بدقيقة هي أنهم بعد الإعراض عن الدعاء يطلبون الغوائل ويقابلون الرحمة بالمكر والخديعة ولا يرضون رأساً برأس . ثم ضرب لأجل ما وصفهم به مثالاً حتى ينكشف المقصود تمام الانكشاف فقال : { هو الذي يسيركم } ومن قرأ { ينشركم } فكقوله : { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] قال بعض العلماء : المسير في البحر هو الله سبحانه وتعالى ، وأما في البر فالمراد من التسيير التمكين والإقدار . والحق أن جميع الأفعال والحركات مستندة إلى إحداث الله تعالى ، غاية ذلك أن آثار إقداره وإحداثه في البحر أظهر كما مر في تفسير قوله : { والفلك التي تجري في البحر } [ البقرة : 164 ] قال القفال : هو الله الهادي لكم إلى السير في البحر طلباً للمعاش ، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير . وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها ، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة : أولها الكون في الفلك ، وثانيها جري الفلك بهم بالريح الطيبة ، والضمير في { جرين } للفلك على أنها جمع كما مر . وثالثها فرحهم بها . والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضاً : أوّلها { جاءتها } أي الفلك أو الريح الطيبة تلتها ريح عاصف ذات عصوف كلابن لذات اللبن ، أو لأن لفظ الريح مذكر والعصوف شدة هبوب الريح . وثانيها { وجاءهم الموج من كل مكان } أي من جميع جوانب أحياز الفلك ، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر . وثالثها { وظنوا أنهم أحيط بهم } أي غلب على ظنونهم الهلاك . وأصله أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من البوار ، فجعل إحاطة العدوّ بالشخص مثلاً في الهلاك . وقرىء { في الفلكي } والياء زائدة كما في « الأحمري » أو أريد به الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه . قال في الكشاف : وإنما التفت في قوله : { وجرين بهم } إلى آخره من الخطاب الى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح . وقال الإمام فخر الدين الرازي : الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذه الآية دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله : { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] دليل الرضا والتقريب . قلت : هذا وجه حسن . أما قوله : { دعوا الله مخلصين } فقد قال ابن عباس : تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية . وقال الحسن : ليس هذا إخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري .

وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والألم لم يدعوا إلا الله . وعن أبي عبيدة : أن المراد من ذلك الدعاء قولهم : « أهيا شراهياً » تفسيره « يا حي يا قيوم » يحكى أن رجلاً قال لجعفر الصادق رضي الله عنه : ما الدليل على إثبات الصانع؟ فقال : أخبرني عن حرفتك . فقال : التجارة في البحر قال : صف لي كيف حالك؟ فقال : ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة . قال جعفر الصادق رضي الله عنه : هل وجدت في قلبك تضرعاً؟ فقال : نعم . قال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت . { لئن أنجيتنا من هذه } الشدة كما مر في الأنعام { يبغون في الأرض بغير الحق } البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد ، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله : { بغير الحق } قال في الكشاف : إنما زاد هذا القيد احترازاً من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وإحراق زروعهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة . قلت : ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله { ويقتلون النبيين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل : يتمتعون متاع الحياة الدنيا . ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام ، أو على أنه خبر وقوله : { على أنفسكم } صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي قال صلى الله عليه وسلم : « أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة » وروي « اثنتان يعجلهما الله في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين » وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر . قال تعالى : { إنما بغيكم على أنفسكم } أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها { ثم } إلى ما وعدنا من المجازاة { مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت . ثم ذكر مثلاً لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال : { إنما مثل الحياة الدنيا } أي صفتها العجيبة الشأن { كماء أنزلناه من السماء فاختلط به } أي اشتبك بسبب هذا الماء { نبات الأرض } فيحتمل أن يراد أن نباته ثم وصوله إلى حد الكمال كليهما بسبب المطر ، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدإ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع ، فإذا نزل المطر عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض وتكاثف .

{ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } قال الجوهري : الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزوّر . { وازينت } أصله تزينت فأدغم واجتلبت لذلك همزة الوصل . وهذا كلام في نهاية الفصاحة وفيه تشبيه الأرض بالعروس التي تأخذ الثياب الفاخرة من كل لون فتلبسها ، ثم تزين بجميع الأقسام المعهودة لها من حمرة وبياض ونحوها { وظن أهلها } أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا { أنهم قادرون عليها } متمكنون من تحصيل ريعها . { أتاها أمرنا } بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات . { ليلاً أو نهاراً } أي حين غفلتهم بالنوم أو حين اشتغالهم وتقلبهم في طلب معايشهم { فجعلناها } أي زرعها { حصيداً } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله . { كأن لم تغن } أي كأن الشأن لم يلبث زرعها { بالأمس } أي في زمان قريب . يقال : غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به . والأمس مثل في الوقت القريب . هذا والصحيح عند علماء البيان أن هذا التشبيه من التشبيه المركب . قال في الكشاف : شبهت حال الدنيا في شرعة تقضيها وانقراض نعيمها بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه . وقيل : المراد أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء به وقع اليأس منه ، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا اطمأن بها وعظمت رغبته فيها وانتظم أمره بعض الانتظام أتاه الموت . وتلخيصه أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد . ويحتمل أن يكون هذا مثلاً لمن لا يؤمن بالمعاد ، فإن الأرض المزينة إذا زال حسنها فإنه يعود رونقها مرة أخرى فكذا النشور { كذلك نفصل الآيات } نذكر واحدة منها بعد الأخرى لتكون كثرتها وتواليها سبباً لقوة اليقين وموجباً لزوال الشك { لقوم يتفكرون } في أحوال الآفاق والأنفس . ثم لما نفر المكلفين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبهم في الآخرة بقوله : { والله يدعوا إلى دار السلام } ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سيد بنى داراً وصنع مائدة وأرسل داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد ، فالله السيد والدار دار السلام والمائدة الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم » وعنه صلى الله عليه وسلم : « ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثلقين أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام » واتفقوا على أن دار السلام هي الجنة واختلفوا في سبب التسمية .

فقيل : لأن السلام هو الله والجنة داره فالإضافة للتشريف ، وإنما أطلق اسم السلام عليه تعالى لأنه سلم من الفناء والتغير ومن جميع سمات النقص والحدوث ومن الظلم والعجز والجهل وهو القادر على تخليص المضطرين عن المكاره والآفات ، وكفى بدار أضافها الله تعالى لنفسه فضلاً وشرفاً وبهجة وسروراً . وقيل : سميت دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات والمخافات . وقيل : لفشوّ السلام بينهم { تحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } [ الرعد : 24 ] { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] واعلم أن الدعوة عامة ولكن الهداية خاصة فلذلك قال { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ومن هنا ذهب أهل السنة إلى أن الهداية والضلالة والخير والشر كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته . وقالت المعتزلة : المراد ويهدي من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ويعنون أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها . والمراد من الهداية الألطاف ، ثم قسم أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } ولا بد من تفسير هذه الألفاظ الثلاثة : فعن ابن عباس أحسنوا أي ذكروا كلمة لا إله إلا الله ، وذهب غيره إلى أن المراد إتيان الطاعات واجتناب المنهيات لأن الدرجات العالية لا تليق إلا بهم . وأما الحسنى فقال في الكشاف : المراد المثوبة الحسنى . وقال ابن الأنباري : العرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ، ولذلك ترك موصوفها . وأما الزيادة فحملها أهل السنة على رؤية الله لأن اللام في الحسنى للمعهود بين المسلمين من المنافع التي أعدها الله تعالى لعباده ، فالزيادة عليها تكون مغايرة لها فما هي إلا الرؤية . وقالت المعتزلة : الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤية الله تعالى بعد تسليم جوازها ليست من جنس نعيم الجنة ، فالمراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله : { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } [ فاطر : 30 ] وزيف بأن الزيادة إذا كان المزيد عليه مقدراً بمقدار معين وجب أن يكون من جنسه كما لو قال الرجل لغيره : أعطيتك عشرة أمنان من الحنطة وزيادة . أما إذا كان غير مقدر كما لو قال : أعطيتك الحنطة زيادة . لم يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه . والمذكور في الآية لفظة الحسنى وهي الجنة وإنها مطلقة ، فالزيادة عليها شيء مغاير لكل ما في الجنة . وعن علي عليه السلام : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة . وعن ابن عباس : الحسنى الجنة والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . وعن مجاهد : مغفرة من الله ورضوان . وعن يزيد بن سمرة : هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم . هذا شأن المنافع الحاصلة لهم ، وأما أنها منافع خالصة عن الكدورات فأفاد ذلك بقوله : { ولا يرهق } أي لا يغشى { وجوههم قتر } غبرة فيها سواد { ولا ذلة } ولا أثر هوان وكسوف بال .

ثم أشار إلى كون تلك المنافع الخالصة آمنة من الانقطاع بقوله : { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } وهذا معنى قول علماء الأصول « الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم » ثم بين حال الفريق الآخر بقوله : { والذين } أي وجزاء الذين { كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } أي جزاؤهم أن تجازى سيئة واحد بسيئة مثلها لا يزاد عليها . ومن جوز العطف على عاملين مختلفين جوز أن يكون التقدير : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها . قالت المعتزلة : وفيه دليل على أن المراد بالزيادة في الآية المتقدمة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله فناسب أن يكون قد دل هناك بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله . { وترهقهم ذلة } فإنهم حين ماتوا ناقصين خالين عن الملكات الحميدة كان شعورهم بذلك سبباً لذلهم وهوانهم على أنفسهم ، وهذا على قاعدة حكماء الإسلام أن الجهل سواد وظلمة كما أن العلم والمعرفة بياض ونور ومنه قول الشبلي رضي الله عنه :
كل بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
ومريض أنت عائده ... قد أتاه الله بالفرج
{ ما لهم من الله من عاصم } أي لا يعصمهم أحد من عذابه وسخطه ، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما للمؤمنين . والتحقيق أنه لا عاصم من الله لأحد في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإذن الله إلا أن هذا المعنى في الآخرة أظهر كقوله : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ثم بالغ في الكشف عن سواد وجوههم فقال : { كأنما أغشيت } أي ألبست { وجوههم قطعاً من الليل } من قرأ بسكون الطاء فمعناه البعض والطائفة و { مظلماً } صفته . ومن قرأ بفتحها على أنه جمع قطعه فمظلماً حال من الليل والعامل فيه إما معنى الفعل في { من الليل } أو { أغشيت } لأن قوله : { من الليل } صفة لقوله : { قطعاً } فكان إفضاء العامل إلى الموصوف كإفضائه الى الصفة قاله في الكشاف . واعلم أن جمعاً من العلماء ذهبوا إلى أن المراد بقوله : { والذين كسبوا السيئات } هم الكفار لأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } [ آل عمران : 106 ] وقوله : { ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 40 - 42 ] ولقوله بعدها { ويوم نحشرهم } والضمير عائد إلى { هؤلاء } . ثم إنه وصفهم بالشرك . وقال الآخرون : اللفظ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أن الآيات المذكورة مخصصة . ثم شرع بعض أحوال المشركين في القيامة فقال : { ويوم نحشرهم } منصوب بإضمار « اذكر » أو ظرف متعلق بتبلو أي في يوم كذا تبلو كل نفس . وحاصل الكلام أنه يحشر العابد والمعبود ليسألوا فيتبرأ المعبود من العابد خلاف ما كانوا يزعمون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله .

وفيه إشارة إلى أن الممكن لا نسبة له إلى الواجب الحق ، فإذا اتخذ الممكن معبوداً برىء من ذلك في مقام لا ينفع إلا لصدق . قال في الكشاف : { مكانكم } أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما نفعل بكم . وعند أبي علي هو اسم من أسماء الأفعال وحركته حركة بناء وهو كلمة وعيد عند العرب . و { أنتم } لتأكيد المضير في { مكانكم } لسده مسد قوله : « الزموا » . { وشركاؤكم } عطف عليه . { فزيلنا بينهم } ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا . قيل : عين الكلمة « واو » لأنه من زال يزول . وإنما قلبت ياء لأن وزن الكلمة « فعيل » أي زيولنا مثل بيطره أعل إعلال سيد . وقيل : هي من زلت الشيء أزيله ، فعينه على هذا ياء والوزن « فعل » ونظير زيلنا قوله : { ونادى أصحاب الأعراف } [ الآية : 48 ] لأن حكم الله بأنه سيكون كالكائن { وقال شركاؤهم } في صحة هذه الإضافة وجوه منها : أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فهم شركاؤهم . ومنها أنهم متشاركون في الخطاب في قوله : { مكانكم } ومنها أنهم أثبتوا هذه الشركة والشركاء . وقيل : هم الملائكة لقوله : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } وقيل : كل من عبد من دون الله . وقيل : الأصنام لأن هذا الخطاب مشتمل على التهديد وأنه لا يليق بالملائكة المقربين . وكيف تنطق هذه الأصنام؟ وقيل : لأن الله يخلق فيهم الحياة والعقل والنطق . ثم هل يبقيهم أو يفنيهم؟ الكل محتمل ولا اعتراض لأحد عليه . وقيل : يخلق فيهم الكلام فقط . وهذا الخطاب تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديداً في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة لا ، لأنه لا ذنب للمعبودين ومن لا ذنب له يقبح من الله تهديده وتخويفه . وقالت الأشاعرة : لا يسأل عما يفعل . أما قول الشركاء { ما كنتم إيانا تعبدون } وهم كانوا قد عبدوهم فالمراد أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا لقولهم : { فكفى بالله شهيداً } الآية . ومن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها ولا شعور . وقيل : لما في ذلك الموقف من الدهشة والحيرة فذلك الكذب يجري مجرى كذب الصبيان والمجانين والمدهوشين . وقيل : إنهما ما أقاموا لأعمال الكفار وزناً فجعلوها كالعدم . وقيل : المراد أنهم عبدوا الشياطين حيث أمروهم باتخاذ الأنداد ، ومن جوز الكذب في القيامة فلا إشكال . و { هنالك } أي في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان . { تبلوا كل نفس } تختبر وتذوق { ما أسلفت } من العمل . ومن قرأ بالنون فالمعنى نفعل بها فعل الخابر ، أو نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية لأجل ما أسلفت من الشر . ومن قرأ { تتلو } بتائين فمعناه تتبع ما أسفلت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار .

أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر . { وردّوا إلى الله مولاهم الحق } الصادق ربوبيته { وضل عنهم } وضاع عنهم { ما كانوا } يدعون أنهم شركاء الله أو ما كانوا يختلفون من شفاعة الآلهة . والحاصل أنهم يرجعون عن الباطل ويعترفون بالحق حين لا ينفعهم ذلك .
التأويل : { وإذا أذقنا الناس } ذوق توبة وإنابة أو ذوق كشف وشهود { من بعد ضراء } وهي الفسوق والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف { إذا لهم مكر في آياتنا } بإظهارها إلى غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول . { قل الله أسرع مكراً } فيستدرجهم عن تلك المقامات إلى دركات البعد { من حيث لا يشعرون } { هو الذي يسيركم } في بر البشرية وبحر الروحانية ، أو في بر العبودية وبحر الربوبية { حتى إذا كنتم } في فلك جذبات العناية { وجرين بهم } بهبوب نسيم شهود الجمال { وفرحوا } بالوصول والوصال { جاءتها } نكباء تجلى صفات الجلال { وجاءهم } موج البلاء والمحن من أماكن النعم والبلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل { فلما أنجاهم } فيه إشارة إلى أن أرباب الطلب لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال واستغراق لجج بحر الجلال ، استقبلتهم عواصف العزة والكبرياء فيستدرجهم إلى البغي وهو الطلب في أرض ما سوى الحق غير الحق { كماء أنزلناه } من سماء القلب إلى أرض البشرية { فاختلط به } الصفات المولدة من أرض البشرية { مما يأكل الناس والأنعام } من الصفات الحميدة الإنسانية والذميمة البهيمية { أتاها } حكمنا الأزلي { ليلاً } عند استيلاء ظلمات صفات النفس { أو نهاراً } عند بقاء ضوء الفيض الروحاني ، لكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية وقع في ورطة العقائد الباطلة كما لبعض الفلاسفة والمبتدعة . { والله يدعوا إلى دار السلام } وهي مقام الفناء لأن صاحبه يسلم عن آفات الحجب أو مقام العلم والمعرفة لأن صاحبه يسلم عن آفة الأثنينية والجهالة { ويهدي من يشاء } بجذبات العناية { إلى صراط مستقيم } يؤدي إلى السير بالله في الله . { للذين أحسنوا الحسنى } فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، والحسنى هي شواهد الحق والنظر إليه ، والزيادة الجنة وما فيها من النعيم أو هي ما زاد على النظر من إفناء الناسوتية في اللاهوتية والله ولي التوفيق .


قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

القراآت : { كلمات ربك } وكذلك في آخر السورة على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر { لا يهدي } مثل { يرمي } : حمزة وعلي وخلف { يهدي } بسكون الهاء وتشديد الدال : أبو جعفر ونافع غير ورش وعباس وأبو عمرو غير عباس بإشمام الفتحة قليلاً { يهدي } بكسر الهاء وتشديد الدال : عاصم غير يحيى وجبلة ورويس { يهدي } بكسرتين والتشديد : يحيى { يهدي } بفتحتين والتشديد : ابن كثير وابن عامر وورش وسهل ويعقوب غير رويس .
الوقوف : { يدبر الأمر } ط { الله } ج { تتقون } ه ج ط { ربكم الحق } ج ط للاستفهام مع الفاء { إلا الضلال } ج ط { تصرفون } ه { لا يؤمنون } ه { ثم يعيده } الأول ط { تؤفكون } ه { إلى الحق } ط { للحق } ط { أن يهدي } ج ط لما مر { فما لكم } ص لحق الاستفهام الثاني { تحكمون } ه ط { إلا ظناً } ط { شيئاً } ط { شيئاً } ط { يفعلون } ه { العالمين } ه { افتراء } ط { صادقين } ه { تأويله } ط { الظالمين } ه { لا يؤمن به } ط { بالمفسدين } ه { عملكم } ج لأن { أنتم } مبتدأ والعامل واحد { تعملون } ه .
التفسير : لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية ، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس . فالحجة الأولى قوله : { قل من يرزقكم من السماء والأرض } بإنزال الأمطار النافعة الموجبة لتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات . { أمن يملك السمع والأبصار } خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : « سبحان من بَصَّرَ بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم » ولما في تحصينهما في الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة . { ومن يخرج الحي من الميت } الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في سورة الأنعام . { ومن يدبر الأمر } عمم بعدما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها . وذكر كلها كالمتعذر . { فسيقولون الله } وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى ، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا الاعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله { فقل أفلا تتقون } الله الذي اعترفتم بأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر . { فذلكم } الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة { الله ربكم الحق } الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان . { فماذا بعد الحق } « ذا » مزيدة و « ما » نافية أو استفهامية أو مجموع « ماذا » كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق { إلا الضلال } والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكناً لذاته باطلاً دعوى الإلهية فيه ، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجباً هف محال ولهذا ختم الآية بقوله : { فأنى تصرفون } كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال ، إذ لا واسطة بين الأمرين ، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر .

{ كذلك } أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك { حقت كلمة ربك } . وتفسير الكلمة { أنهم لا يؤمنون } على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل ، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام . احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى : { فأنى تصرفون } أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار . وقالت الأشاعرة : قد تعلق علمه تعالى بأنهم لا يؤمنون كما قال : { حقت كلمة ربك } وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر فيه ، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه ، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وقدرته عجزاً وإرادته عبثاً وإشهاده باطلاً . الحجة الثانية { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } وإنما قال : { ثم يعيده } مع أن الخصم لا يعترف به لأنه قدم في هذه السورة دلال الإعادة بحيث لا يتمكن العاقل من دفعها إذا تأمل وأنصف فبنى الأمر على ذلك . وإنما أمر نبيه أن ينوب عنهم في الجواب بقوله { قل الله } الآية . تنبيهاً على أن هذا المعنى بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه الى إقرار الخصم المكابر ، فكأنه قيل : تكلم عنهم إذ لا يدعهم لحاجهم أن ينطقوا بكلمة الحق . وقوله : { فأنى تؤفكون } كقوله : { فأنى تصرفون } وقد مر في « المائدة » . الحجة الثالثة { قل هل من شركائكم من يهدي } الآية . الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أوّلاً ثم بالهداية عادة مطردة في القرآن ، فحكى عن الخليل صلى الله عليه وسلم { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء : 78 ] وعن موسى { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 5 ] وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم { سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 1 - 3 ] والسر فيه أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح وارتسام العلوم والمعارف فيه بإرشاد الحق سبحانه من الطرق المنحرفة كثيرة والظنون والأغاليط غير محصورة ، فتحصيل الوسط الحقيقي لا يمكن إلا بتوفيقه وهدايته ، ولا مدخل في ذلك بالاستقلال لملك أو إنسي أو جني فضلاً عن الأصنام التي هي في أدنى مراتب الوجود لأنها جمادات لا شعور لها هذا تقرير الحجة الثالثة .

وقال الزجاج : يقال : هديت للحق وإلى الحق بمعنى ، فجمع بين العبارتين . ويقال : هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قوله : { أمن لا يهدي } وسائر القراآت أصلها « يهتدي » فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين ، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها . قيل : هذه الشركاء جمادات فكيف قال في حقها { إلا أن يهدى } وأجيب بوجوه منها : أن المراد في الآية رؤساؤهم وأشرافهم كقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً } [ التوبة : 31 ] والمراد أن الله سبحانه هو الذي يهدي الخلق إلى الدين الحق بالدلائل النقلية وبما يمكنهم منه من الدلائل العقلية ، وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله . ومنها أنهم لما اتخذوها آلهة وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل كقوله : { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } [ فاطر : 14 ] ومنها أن ذلك بالفرض والتقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهتدي فإنها لا تهدي غيرها إلا أن تهدى . ومنها أن البنية عندنا ليست بشرط في صحة الحياة والعقل فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ، ثم إنها تشتغل بهداية الغير ، ومنها أن المراد من الهدي النقل والحركة يقال : هديت المرأة زوجها أي نقلت إليه ، فالمعنى لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه . ثم عجب من مذهبهم الفاسد باستفهامين متواليين فقال : { فما لكم كيف تحكمون } .
ثم بين ما بنوا عليه أمر دينهم فقال : { وما يتبع أكثرهم إلا ظناً } أي في إقرارهم بالله لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم أو في قولهم للأصنام أنها آلهة أو شفعاء ، وعلى هذا فالمراد بالأكثر الجميع . { إن الظن } في معرفة الله وفيما يجب تحقيقه { لا يغني من الحق } وهو العلم والتحقيق { شيئاً } من الغناء . والمعنى أن الظن لا يقوم مقام العلم في شيء من الأحوال . ثم أوعدهم على اتباعهم الظن وتقليد الآباء بقوله : { إن الله عليم بما يفعلون } . وتمسك نفاة القياس بالآية ظاهر من قبل أن القياس لا يفيد إلا الظن . وأجيب بأن التمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن وهذه الآية من العمومات فلم يجب اتباعها بزعمكم ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكاً . ولما فرغ من دلائل التوحد شرع في إثبات النبوة فقال : { ما كان هذا القرآن أن يفترى } أي افتراء من دون الله أو كلمة « أن » بمعنى اللام أي ما ينبغي له وما استقام أن يكون مفترى . والحاصل أن وصفه ليس وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأنه معجز لا يقدر البشر على إتيان مثله وإنما القادر عليه هو الله تعالى .

{ ولكن } كان { تصديق الذي بين يديه } من الكتب المنزلة لإعجازه دونها فهو عيار عليها شاهد بصحتها ، ونفس هذا التصديق أيضاً معجز لأن أقاصيصه موافقه لما في كتب الأولين مع أنه لم يتعلم قط ولم يتلمذ ، ولأن بشارته جاءت في تلك الكتب على وفق دعواه ، ولأنه يخبر عن الغيوب المستقبلة فيقع مطابقاً فظهر أن القرآن معجز من قبل اشتماله على الغيوب الماضية والمستقبلة . أما أنه معجز من جهة اشتماله على العلوم الجمة فذلك قوله : { وتفصيل الكتاب } أي يبين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع كقوله : { كتاب الله عليكم } [ النساء : 24 ] قال في الكشاف قوله : { لا ريب فيه من رب العالمين } داخل في حيز الاستدراك كأنه قال : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين ، وجوز أن يكون { من رب العالمين } متعلقاً بتصديق وتفصيل و { لا ريب فيه } اعتراض كقولك : زيد لا شك فيه كريم . والمعنى ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب فيه . ثم أعاد بيان إعجازه مرة أخرى فقال مستفهماً على سبيل الإنكار { أم يقولون افتراه قل } إن كان الأمر كما تزعمون { فأتوا } أنتم على وجه الافتراء { بسورة مثله } في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية والفصاحة { وادعوا من استطعتم من دون الله } أي لا تستعينوا بالله وحده ثم استعينوا بكل من سواه { إن كنتم صادقين } أنه افتراه . قال بعض العلماء : هذه الآية في سورة يونس وهي مكية ، فلعل المراد بالسورة المتحدّي بها هذه السورة . والأصح أن التحدي واقع على أقصر سورة . قالت المعتزلة : لو لم يكن الإتيان بمثل القرآن صحيح الوجود في الجملة لم يتحدّ العرب به لكنهم تحدّوا بذلك فدل على أن القرآن محدث إذ لو كان قديماً والإتيان بالقديم محال لم يصح هذا التحدي . وأجيب بأن القرآن يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله وعلى هذه الحروف والأصوات المحدثة ، والتحدي إنما وقع بهذه لا بتلك { بل كذبوا } سارعوا إلى التكذيب { بما لم يحيطوا بعلمه } وهو القرآن { ولما يأتهم تأويله } ومعنى التوقع فيه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليداً للآباء ، وكذبوا به بعد التدبر وتكرير التحدي عليهم واستيقان عجزهم عن هذا بغياً وحسداً وعناداً . وذلك إنما حملهم على التكذيب أوّلا وآخراً وجوه منها : أنهم وجدوا في القرآن أقاصيص الأولين ولم يعرفوا المقصود منها فقالوا أساطير الأوّلين ، وخفي عليهم أن الغرض منها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ونقل الأمم من العز إلى الذل وبالعكس ، ليعرف المكلف أن الدنيا ليست مما يبقى ، فنهاية كل حركة سكون وغاية كل سكون أن لا يكون كقوله : عز من قائل

{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] . ومنها أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم بالقرآن فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } [ آل عمران : 7 ] إلى قوله : { وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] الآية . ومنها أنهم رأوا القرآن يظهر شيئاً فشيئاً فاتهموا النبي وقالوا : { لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] ومنها أنهم وجدوا القرآن مملوءاً من حديث الحشر والنشر ، وكانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا ذلك . وأنهم وجدوا فيه تكاليف كثيرة من الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وكانوا يقولون . إن إله العالم غني عنا وعن طاعاتنا { كذلك كذب الذين من قبلهم } يعني قبل النظر في معجزات أنبيائهم . قال أهل التحقيق : في الآية دلالة على أن من كان غير عارف بوجوه التأويل قد يقع في الكفر والبدعة ، لأن ظواهر النصوص قد تتعارض فيفتقر هنالك إلى تطبيق التنزيل على التأويل . وقيل : معنى الآية أن القرآن كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الأخبار بالغيوب ومن جملتها أحوال الآخرة . فقوله : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } إشارة إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقوله : { ولما يأتهم تأويله } إشارة إلى تكذيبهم قبل أن يمتحنوا غيوبه هل تطابق الواقع أم لا . ثم ختم الآية بقوله : { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } والمراد أنهم طلبوا الدنيا وأعرضوا عن الآخرة فلم تبق عليهم الدنيا وفاتتهم الآخرة فبقوا في خسران الدارين . وقيل : المقصود عذاب الاستئصال الذي نزل بالمكذبين قبلهم . ثم قسم طوائف الأمم المكذبين فقال : { ومنهم من يؤمن به } أي بالقرآن أو بالرسول أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند { ومنهم } من يشك فيه لا يصدق به لا ظاهراً ولا باطناً ، ويمكن أن يقال : المراد به قسمتهم في الاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من يبقى على الكفر فتكون الآية كالعذر في تبقيتهم وعدم استئصالهم { وربك أعلم بالمفسدين } فيجازيهم على حسب مراتبهم في التكذيب ويعلم طوياتهم هل يتوبون أو يصرفون . ثم بين اختصاص كل مكلف بأفعاله وبنتائج أعماله من الثواب والعقاب فقال : { وإن كذبوك فقل لي عملي } أي جزاء عملي على الطاعة والإيمان وتبليغ الرسالة { ولكم عملكم } قال مقاتل والكلبي : هي منسوخة بآية القتال . والتحقيق أن آية القتال لا تدفع شيئاً من مدلولات هذه فلا نسخ والله أعلم .
التأويل : { قل من يرزقكم } أي من ينزل من سماء النفس مطر الهواجس ويخرج من أرض النفس نبات الأفعال والأعمال ، وينزل من سماء القلب مطر أثار فيض الروح ويخرج من أرض النفس نبات الصفات البشرية والحيوانية . أو ينزل من سماء الروح مطر فيض الروح ويخرج من أرض القلب نبات الأوصاف الحميدة ، أو ينزل من سماء القدرة مطر تجلي الصفات والفيض الرباني ويخرج من أرض الروح المحبة والأخلاق الإلهية ، أو ينزل من سماء الذات مطر تجلي الصفات ويخرج من أرض الوجود نبات الفناء في الله وثمرات البقاء بالله { أمن يملك السمع والأبصار } فيكون سمعه الذي به يسمع ، وبصره الذي به يبصر .

{ يخرج الحي من الميت } النفس من القالب والقلب من الروح والروح من القلب وبالعكوس { ومن يدبر } أمر الإنسان بالتربية من التراب إلى أن يصل إلى رب الأرباب . فسيقولون هذه الأحوال كلها من الله فقل لمن بلغ نظره إلى هذه المراتب العلية وإنها عتبة باب التوحيد والمعرفة { أفلا تتقون } بالله من غيره لتدخلوا بيت الوحدة { كذلك حقت كلمة ربك } هكذا جرى القلم في الأزل على الذين خرجوا عن قبول فيض النور حين رش على الخلق من نوره . { وتفصيل الكتاب } وتفصيل الجملة التي هي مكتوبة عنده في أم الكتاب وهو علمه القائم بذاته . { وربك أعلم بالمفسدين } الذين أفسدوا استعدادهم الفطري والله أعلم .


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)

القراآت : { أفأنت } بتليين الهمزة ونحوه : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف . { ولكن الناس } بالتخفيف والرفع : حمزة وعلي وخلف { يحشرهم } بالياء : حفص الباقون بالنون { نرينك أو نتوفينك } بالنون الخفيفة : رويس { آلان } بوزن « عالان » بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام حيث كان : أبو جعفر ونافع وزمعة وحمزة في الوقف { ربي إنه } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع . { فليفرحوا } بياء الغيبة { تجمعون } بتاء الخطاب : ابن عامر ويزيد . وقرأ زيد على ضده ، وقرأ رويس كليهما على الخطاب . والباقون على الغيبة فيهما .
الوقوف : { إليك } ط { لا يعقلون } ه { إليك } ط { لا يبصرون } ه { يظلمون } ه { بينهم } ط { مهتدين } ه { يفعلون } ه { رسول } ج ط { لا يظلمون } ه { صادقين } ه { ما شاء الله } ط { أجل } ط { ولا يستقدمون } ه { المجرمون } ه { آمنتم به } ط ، { تستعجلون } ه { الخلد } ج ط للاستفهام مع أن القائل واحد { تكسبون } ه { أحق هو } ط { بمعجزين } ه { لافتدت به } ط { العذاب } ج ط للعطف على { أسروا } دون { رأوا } { يظلمون } ه { والأرض } ط { لا يعلمون } ه { ترجعون } ه { للمؤمنين } ه { فليفرحوا } ط { يجمعون } ه { وحلالاً } ط { تفترون } ه { القيامة } ط { لا يشكرون } ه .
التفسير : إن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان خر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابحه في كلامه معرضة عن جهات محاسنه فيه ، وكما أن الصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت ، والعمى في العين أمر ينافي حصول إدراك الصورة ، فكذلك حصول هذا البغض الشديد يضاد وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه ، فبين الله سبحانه في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد { يستمعون إليك } إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يسمعون ولا يقبلون وينظرون إليك يعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يتبصرون ولا يصدقون . قال أهل المعاني : المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف النظر . فكان في المستمعين كثرة فجمع ليطابق اللفظ المعنى ووحد النظر حملاً على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم . ثم قال : أتطمع أن تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم ، أو تقدر على هداية العمي ولا سيما إذا قرن بفقد البصر فقد البصيرة ، إنما يقدر على ردهم إلى حالة الكمال خالق القدر والقوى وحده . وهذا الحصر إنما يفهم من قوله : { أفأنت } . والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه ولم يستوحش من ذلك لأن التقصير من المزاج لا من الصنعة والحذق . ثم أكد عدم قابليتهم في الفطرة مع إشارة إلى ما يلحقهم من الوعيد يوم القيامة بقوله : { إن الله لا يظلم } الآية .

فسرها المعتزلة بأن المراد من نفي الظلم أنه ما ألجأ أحد إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم أقدموا عليها . وأجاب الواحدي عنه بأنه إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا اعتراض عليه . وإنما قال : { ولكن الناس أنفسهم يظلمون } لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب . والتحقيق أنه نفى الظلم عنه لأنه وقوع فريق القهر ضروري ، ونسب الظلم إليهم لخصوص وقوعهم في الطريق وفيه دقة . ثم ذكر وعيد الكفار فقال : { ويوم يحشرهم } أي واذكر يوم يحشرهم { كأن لم يلبثوا } في محل النصب على الحال أي مشبهين بمن لم يلبث { إلا ساعة } وقوله { يتعارفون } إما حال أخرى أو بيان لقوله : { كأن لم يلبثوا } لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد . ويجوز أن يكون قوله : { ويوم يحشرهم } متعلقاً ب { يتعارفون } والمراد باللبث . قيل : لبثهم في الدنيا وقيل في القبور استقلوا المدد الطوال إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا فجعلوا وجودها كالعدم واستقصروها للدهش والحيرة ، أو لطول وقوفهم في الحشر ، أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا واستحقروها . وأما التعارف فقد قيل : يعرّف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطإ والكفر وقيل : يعرف كل واحد أهل معرفته . والجمع بين ذلك وبين قوله : { ولا يسأل حميم حميماً } [ المعارج : 10 ] أن هذا تعارف توبيخ وتضليل يقول كل فريق لصاحبه أنت أضللتني يوم كذا ، أو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة . وإنما حذف « جميعاً » في هذه الآية اكتفاء بما في الآية السابقة { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا } [ الأنعام : 22 ] ولأن الآية سيقت هناك لبيان حشر العابدين والمعبودين فأكد بقوله : { جميعاً } ليشمل الفريقين صريحاً والله أعلم . قوله : { قد خسر } استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أخسرهم! وفيه شهادة من الله على خسرانهم . وجوز في الكشاف أن يكون على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك . ثم أكد خسرانهم بقوله : { وما كانوا مهتدين } أي في رعاية مصالح هذه التجارة لأنهم أعطوا الكثير الشريف الباقي وقنعوا بالقليل الخسيس الفاني كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة نفيسة فاشتراها بكل ماله ، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله .
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وإما نرينك } وجوابه محذوف . وقوله : { فإلينا مرجعهم } جواب { أو نتوفينك } والمعنى وإما نرينك في أعدائك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن تدركه فنحن نريكهم في الآخرة لأن مرجع الكل إلينا . ولقد صدق الله وعده فقد أراه في هذه الدار خزيهم وقهرهم بالقتل والأسر والاستعلاء عليهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم ، والذي سيريه في الآخرة أكثر وأدوم يدل عليه لفظ « ثم » لتبعيد الرتبة في قوله : { ثم الله شهيد على ما يفعلون } ولا يخفى نتيجة هذه الشهادة من السخط والعقاب ، ويحتمل أن يراد إنطاق جوارحهم يوم القيامة جعل ذلك بمنزلة شهادة الله .

ثم بيّن أنه ما أهمل أمة من الأمم من رسول في وقت من الأوقات فقال : { ولكل أمة رسول } وزمان الفترة محمول على ضعف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم ووقوع موجبات التخليط في شرعه . { فإذا جاء رسولهم } فبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون { قضى بينهم بالقسط } أي حكم وفصل بالعدل فأنجى الرسول والمصدقون وعذب المكذبون فهذه الآية نظيرة قوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ويحتمل أن يقال : المراد ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول ينسبون إليه ويدعون به فكأنه تعالى يقول : أنا شهيد على أعمالهم ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة ، مع كل قوم رسولهم حتى يشهد عليهم بالكفر والإيمان . { فإذا جاء رسولهم } وشهد لهم أو عليهم { قضى بينهم } والمراد منه المبالغة في إظهار العدل والنصفة فتكون الآية كقوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] ثم ذكر شبهة أخرى من شبهات الكفرة ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب كانوا { يقولون متى هذا الوعد } استبعاداً لنزوله وقدحاً في نبوته وهذا مما يؤكد القول الأوّل في الآية المتقدمة ، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في دار الآخرة لحصول اليقين والمعرفة حينئذٍ . وأيضاً قوله : { إن كنتم صادقين } لفظ الجمع موافق لقوله : { ولكل أمة رسول } ثم أمره أن يجيب بما يحسم مادة الشبهة وهو قوله : { قل لا أملك لنفسي ضراً } من مرض أو فقر { ولا نفعاً } من صحة أو غنى { إلا ما شاء الله } قال العلماء : إنه استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب . ثم بين أن أحداً لا يموت إلا بالقضاء ، وأن لعذاب كل طائفة أمداً محدوداً لا يتجاوزه فلا وجه للاستعجال . فقال و { لكل أمة أجل } الآية . وقد مر تفسير الآية في أوائل الأعراف إلا أنه أدخل الفاء ههنا في الجزاء ، فإنه بنى الشرط على الاستئناف أو البيان بخلاف ما هنالك فإنه جعل الشرط مرتباً على قوله : { ولكل أمة أجل } [ الأعراف : 34 ] فلم يحسن الجمع بين الفاءين . ثم زيف رأيهم في استعجال العذاب مرة أخرى فقال : { قل أرأيتم } أي أخبروني { إن أتاكم عذابه بياتاً } أي في حين الغفلة والراحة . { أو نهاراً } حين الاشتغال بطلب المعاش كما مر في أول الأعراف { ماذا يستعجل } أي شيء يستعجل { منه } أي من العذاب { المجرمون } وإنما لم يقل « ماذا يستعجلون منه » دلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأن حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ مجيئه فضلاً عن أن يستعجله .

و « من » للبيان أو للابتداء والمعنى أن العذاب كله مر المذاق موجب للنفار فأيّ شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال؟ أو المراد التعجب كأنه قيل : أيّ شيء هائل شديد يستعجلون؟ وقيل : الضمير في « منه » لله تعالى وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه . و « ماذا » الجملة مفعول { أرأيتم } ويجوز أن يكون جواباً للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني ، ثم تتعلق الجملة ب { أرأيتم } ويجوز أن يكون اعتراضاً وجواب الشرط { ثم إذا وقع آمنتم به } والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ، ودخول حرف الاستفهام على « ثم » كدخوله على الواو والفاء إلا أنه على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب { آلآن } آمنتم به { وقد كنتم به تستعجلون } على جهة التكذيب والإنكار وقوله { ثم قيل } عطف على قيل المضمر قبل { آلآن } والحاصل ان الذي تطلبونه ضرر محض عارٍ عن المنفعة ، والعاقل لا يطلب مثل ذلك . وإنما قلنا إنه ضرر محض لأنه إذا وقع العذاب فإما أن تؤمنوا وإيمان اليأس غير مقبول ، وإما أن لا تؤمنوا فيحصل عقيب ذلك عذاب آخر أشد وأدوم ويقال على سبيل الإهانة . { ذوقوا عذاب الخلد } فإن قلتم إلهنا أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا الوعيد والتهديد؟ أجبتم { هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون } فالجزاء مرتب على العمل ترتب المعلول على العلة كما يقوله الحكيم ، أو ترتب الأجر الواجب عند المعتزلة ، أو بحكم الوعد المحض عند أهل السنة . وتفسير الكسب مذكور في البقرة في قوله : { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } [ الآية : 134 ] .
ثم حكى عنهم أنهم بعد هذه البيانات استفهموا تارة أخرى عن تحقيق العذاب فقال : { ويستنبئونك أحق هو } وهو استخبار على جهة الاستهزاء والإنكار أي أحق ما تعدنا به من نزول العذاب في العاجل؟ وهذا السؤال جهل محض لأنه تقدم ذكره مع الجواب مرة واحدة فلا وجه للإعادة ، ولأنه قد تبين بالبراهين القاطعة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيلزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه . وقيل : المراد أحق ما جئت به من القرآن والشرائع؟ وقيل : أي ما تعدنا من البعث والقيامة؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله : { قل إي وربي } ومعناه نعم ولكنه مستعمل مع القسم ألبتة . وفائدة هذا القسم في جوابهم أن يكون قد أبرز الكلام معهم على الوجه المعتاد بينهم استمالة لقلوبهم . ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن حد الهزل وأدخله في باب الجد .

فقد يكون هذا القدر مقنعاً إذا لم يكن الخصم ألد . ثم أكد مضمون المقسم عليه بقوله { وما أنتم بمعجزين } فائتين العذاب . والغرض التنبيه على أن أحداً لا يدافع نفسه عما أراد الله وقضى . ثم زاد في التأكيد بقوله : { ولو أن لكل نفس } الآية . وقد مر مثله في « آل عمران » و « المائدة » . وقوله : { ظلمت } صفة لنفس . أما قوله : { وأسروا الندامة } فقد قيل : الإسرار بمعنى الإظهار والهمزة للسلب أي أظهروا الندامة حينئذٍ لضعفهم وليس هناك تجلد . والمشهور أنه الإخفاء وسببه أنهم بهتوا حين عاينوا ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا صراخاً ولا بكاء ، أو أخفوا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم . وهذا التزوير في أول ما يرون العذاب ، أما عند إحاطة النار بهم فلا يبقى هذا التماسك ، أو أراد بالإخفاء الإخلاص لأن من أخلص في الدعاء أسره ، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم لأنهم أتوا بذلك في غير وقته { وقضى بينهم بالقسط } قيل : أي بين المؤمنين والكافرين . وقيل : بين الرؤساء والأتباع ، وقيل : بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم . وقيل : بين الظالمين من الكفار والمظلومين منهم فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب بعضهم وإن اشترك كلهم في العذاب . ثم ذكر آيتين أن له جميع ما قرر بحكم المالكية والقدرة على الإحياء والإماتة والإبداء والإعادة . وقيل : في وجه النظم أنه لما ذكر حديث الافتداء بيّن أنه ليس للظالم شيء يفتدي به فإن كل الأشياء ملكه وملكه . وقيل : إنه لما أقسم على حقية ما جاء به النبي وكان دليلاً إقناعياً أراد أن يصححها بالبرهان النير فذكر أن كل ما في هذا العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور وعلوي وسفلي بسيط ومركب فهو ملكه ، فلكونه قادراً على جميع الممكنات يقدر على إيصال الرحمة إلى أوليائه والعذاب إلى أعدائه ، ولكنه منزهاً عن النقائص والآفات يكون بريئاً عن الخلف في الوعد والإيعاد . وفي تصدير الكلام بكلمة « ألا » تنبيه للغافلين وإيقاظ للنائمين وتقريع للناظرين في الأسباب الظاهرة القائلين : البستان للأمير ، والدار للوزير ، والغلام لزيد والجارية لعمرو ، ولا يعلمون أن كلها عوارٍ وودائع .
ولا بد يوماً أن ترد الودائع ... واعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء بأمور أحدها : إظهار المعجزة على يده مطابقاً لدعواه ، وقد قرره الله سبحانه في هذه السورة على أحسن الوجوه حيث قال : { وما كان هذا القرآن أن يفترى } إلى تمام الآيتين . والثاني أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إلى ذلك وادعى الرسالة وكان لنفسه قوّة تكميل الناقصين غلب على ظننا أنه النبي الحق ، فأشار سبحانه إلى هذا الطريق بقوله : قل { يا أيها الناس } الآية . فوصف القرآن بصفات أربع : الأولى كونه موعظة والمراد بها الزجر عما لا ينبغي كالطبيب ينهى المريض أوّلاً عما يضره .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...