Translate ترجم الي اي لغة

الاثنين، 26 ديسمبر 2022

ج17وج18.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري

 

ج17وج18.كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
الثانية كونه شفاء لما في الصدور لحصول العقائد الحقة والأخلاق الحميدة فيها بدل أضدادها كالطبيب يعيد الصحة بدل المرض والأخلاط المحمودة بدل الأخلاط الفاسدة بالمعالجات الصائبة والأدوية النافعة . الثالثة حصول الهدي بسببه وذلك أنه إذا زالت الملكات الرديئة التي طبيعتها الظلمة وصارت مرآة النفس مصقولة محاذية لعالم القدس انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت . الرابعة كونه رحمة للمؤمنين وذلك بأن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم . وإنما خص المؤمنين بهذه الرحمة لأن كل روح لم يتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم ينتفع بأنوارهم كما أن كل جرم لم يقع في مواجهة قرص الشمس لا يستضيء بنورها . والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الرديئة بتحصيل أضدادها وهي الطريقة ، والهدى عبارة عن ظهور نور الحق في قلوب الصدّيقين وهي الحقيقة ، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للباقين وهي النبوة .
ولما أرشد سبحانه إلى الطريق الموصل إلى السعادات الباقية الروحانية ذكر أنها هي التي يجب أن يكمل الفرح بحصولها دون السعادات الفانية الجسمانية فقال : { قل بفضل الله وبرحمته } قال في الكشاف : أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا { فبذلك فليفرحوا } والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة الآخر عليه . والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، وجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا ، وأن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي بمجيئها فليفرحوا . وعلى هذا يكون { قل } اعتراضاً . ومن قرأ بتاء الخطاب فمعناه على ما نقل عن زيد بن ثابت فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار ، ونسبت هذه القراءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأصل والقياس لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تحريضاً به ، وإنما قلنا إنه الأصل لأن حكم الأمر في المخاطب والغائب واحد إلا أنه خفف أمر المخاطب بحذف اللام وبحذف حرف المضارعة لكثرة الاستعمال فاضطروا إلى همزة الوصل . ومن قرأ تجمعون بتاء الخطاب فإنه عنى المخاطبين والغائبين جميعاً إلا أنه غلب الخطاب كما يغلب التذكير ، أو كأنه أراد المؤمنين وفيه حث لهم على ترجيح الجواذب العقلية الروحانية على النوازع النفسانية الجسدانية لأنه لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام ، والمعنى العدمي لا يستحق الفرح به ، وبتقدير أن تكون صفات ثبوتية إلا أن التضرر بالآمها أقوى من الانتفاع بلذاتها فلا نسبة للذة الوقاع - وهي أقوى اللذات - إلى ألم القولنج وسائر الآلام القوية .

وأيضاً إن مداخل اللذات الجسمانية معظمها البطن والفرج ، ومداخل الآلام كل جزء من أجزاء البدن . وأيضاً اللذات الجسمانية لا بقاء لها مثلاً إذا زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل ، وكل ما لا بقاء له لا يشتد فرح العاقل بحصوله ، ولو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب الحواس والجوارع في مقدماتها ولواحقها لكفى . ومن المعلوم أن الفرح الحاصل بحدوث الولد لا يعادل الحزن الواقع عند موته وفيه قال المعري :
إن حزناً في ساعة الموت ضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد
فتبين بهذه الوجوه أن الفرح إنما يجب أن يكون بالروحانيات الباقيات لا بالجسمانيات الزائلات ، أما المفسرون فقد قالوا : فضل الله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه . وعن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا { قل بفضل الله وبرحمته } فقال : بكتاب الله والإسلام . ومثله ما روي عن أبي سعيد الخدري : فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله . ثم أشار إلى طريق ثالث في إثبات النبوة فقال : { قل أرأيتم } الآية . وتقريره أنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وبحرمة بعضها فإن كان هذا لمجرد التشهي فذلك طريق باطل مهجور بالاتفاق لأدائه إلى التنازع والتشاجر واختلاف الآراء وافتراق الأهواء ، وإن كان لأنه حكم الله فيكم فبم عرفتم ذلك فإن كان بقول رسول أرسله إليكم فقد اعترفتم بصحة النبوة وإلا كان افتراء على الله . وفي الآية أيضاً إشارة إلى فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم من تحريم السوائب والبحائر وقولهم : { هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] وغير ذلك . { وما أنزل } الجملة في محل الرفع بالابتداء وخبره { آلله أذن لكم } و { قل } مكرر للتأكيد والرابط محذوف ، ومجموع المبتدأ والخبر متعلق ب { أرأيتم } والمعنى أخبروني الذى أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً آلله أذن لكم في تحريمه وتحليله { أم على الله تفترون } وعن الزجاج أن « ما » في { ما أنزل } بمعنى الاستفهام منصوباً ب { أنزل } وأنه مع معموله مفعول { أرأيتم } معناه أخبرونيه . وعلى هذا يكون { قل آلله } كلاماً مستأنفاً . ومعنى أنزل خلق وأنشأ كقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] وذلك أن كل ما في الأرض من زرع أو ضرع فإنه بسبب الماء النازل من السماء . قال في الكشاف : ويجوز أن تكون الهمزة في { آلله } للإنكار و « أم » منقطعة بمعنى « بل » أتفترون على الله تقريراً للافتراء . ثم قال : { وما ظن الذين } يعني أي شيء ظنهم في ذلك اليوم وما يصنع بهم فيه؟ وهو في صورة الاستعلام ولكن المراد تعظيم وعيد من يفتري على الله حيث أبهم أمره وكفى به زاجراً للمفتي في الأحكام بغير علم فليتق الله وليصمت { لذو فضل على الناس } إذ أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال النبي وتعليم الشرائع { ولكن أكثرهم لا يشكرون } هذه النعمة بجحد نبيه أو مخالفته .

التأويل : { أفأنت تسمع الصم } صم آذان القلوب { أفأنت تهدي العمى } عمي أبصار البصائر . { ويوم نحشرهم } حشر العوام خروج أجسادهم من القبور إلى المحشر ، وحشر الخواص خروج أرواحهم الأخروية من قبور أجسادهم الدنيوية بالسير والسلوك ، وحشر الأخص خروجهم من قبور الأنانية الروحانية إلى هوية الربانية كما قال : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن } [ مريم : 85 ] كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار لأنه لا نسبة لمدة الدنيا إلى ما بين الأزل والأبد . { يتعارفون بينهم } يعرفون تفاوت مقامات كل صنف من هؤلاء { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } بشرط الإيمان من نعيم الجنان ولقاء الرحمن { أو نتوفينك } فنبلغك أقصى المراتب ومقامك المحمود { فإلينا مرجعهم } رجوعاً اضطرارياً لا اختيارياً { ثم الله شهيد على ما يفعلون } من خسارة الدارين { ولكل أمة رسول } في الظاهر من الأنبياء وفي الباطن من إلهام الحق . { لكل أمة أجل } في استكمال السعادة والشقاوة { بياتاً } أي في الأزل { أو نهاراً } أي يظهر الآن ما قدّر لكم في الأزل . { قل أي وربي إنه لحق } أي أقسم بربك الذي يريك أن وقوع الأمور الأخروية حق لأنك عبرت على الجنة والنار ليلة المعراج ظلمت بإفساد الاستعدادات . { ألا إن لله ما في السموات } الأرواح وأرض القلوب والنفوس { ألا إن وعد الله } لأهل السعادة ولأهل الشقاوة في الأزل { حق هو يحيي } قلوب بعضهم بالمعرفة { ويميت } قلوب آخرين بالجهل ، أو يحيي بالنور ويميت بالظلمة ، أو يحيي بصفة الجمال ويميت بصفة الجلال { يا أيها الناس } يأ أهل النسيان { قد جاءتكم موعظة } هي خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] وهو داء العشق وشفاء من ذلك الداء وهو توفيق إجابة { بلى } { لما في الصدور } وهو القلب فإنها درة صدف الصدر وهدى عناية خاصة إذ الدعوة عامة والهداية خاصة . ورحمة اتصال إمداد الفيض إلى أن يبلغ غاية الكمال ويفوز بالوصول والوصال { قل بفضل الله } وهو إسماع الخطاب ورحمته وهو الإبقاء على مدلول الخطاب { فليفرحوا هو خير مما } يجمعه أهل الدنيا في دنياهم { ما أنزل الله لكم من رزق } القلوب والأرواح فضلاً عن النفوس والأشباح من الواردات والشواهد { فجعلتم منه حراماً } على أنفسكم { وحلالاً } على غيركم أي حدثت أنفسكم بأن تحصيل هذه السعادات ونيل تلك الكرامات ليس من شأننا وإنما هو من شأن الأنبياء وخواص الأولياء { قل آلله أذن لكم } أن تعرضوا عن هذه المقامات وتحيلوها إلى غيركم وتركنوا إلى الدنيا وزخارفها { أم على الله تفترون } بأن الدعوة اختصت بهم دوننا { إن الله لذو فضل على الناس } بتسوية الاستعداد الفطري .
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

القراآت : { شأن } بغير همز حيث كان : أبو عمرو غير شجاع والأعشى ويزيد والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف { يعزب } بالكسر حيث كان : علي . الباقون بالضم . { ولا أصغر } { ولا أكبر } بالرفع فيهما : حمزة وخلف وسهل ويعقوب والمفضل . الآخرون بالنصب .
الوقوف : { تفيضون فيه } ط { مبين } ه { يحزنون } ه ج لأن { الذين } يصلح صفة { لأولياء } ويصلح نصباً أو رفعاً على المدح فيوقف على { يتقون } أو مبتدأ خبره { لهم البشرى } فلا يوقف على { يتقون } { وفي الآخرة } ط { لكلمات الله } ط { العظيم } ه ط لأنه لو وصل لأوهم أن الضمير عائد إلى { أولياء } وقول الأولياء لا يحزن الرسول . { قولهم } م لئلا يوهم أن قوله : { إن العزة } مقول الكفار . { جميعاً } ط { العليم } ه { الأرض } ط { شركاء } ط { يخرصون } ه { مبصراً } ط { يسمعون } ه { سبحانه } ط { الغني } ط { وما في الأرض } ط { بهذا } ط { ما لا تعلمون } ه { لا يفلحون } ه ط ، { يكفرون } .
التفسير : لما بين فساد طريقة الكفار في عقائدهم وأحكامهم بيّن كونه سبحانه عالماً بعمل كل أحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف والرياء والإخلاص وغير ذلك فقال : { وما تكون } يا محمد { في شأن } أي أمر من الأمور . وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده . قال ابن عباس : أي في شأن من أعمال البر . وقال الحسن : في شأن الدنيا وحوائجها و « ما » في { وما تكون } { وما تتلو } نافية والضمير في { منه } إما لله عز وجل أي نازل من عنده ، وإما للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه ولهذا أفرد بالذكر كقوله : { وملائكته وجبريل وميكال } [ البقرة : 98 ] وإما للقرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن . ثم عمم الخطاب فقال : { ولا تعملون } أيها المكلفون { من عمل } أيّ عمل كان { إلا كنا عليكم شهوداً } شاهدين رقباء والجمع للتعظيم أو لأن المراد الملائكة الموكلون { إذ تفيضون فيه } الإفاضة الشروع في العمل على جهة الانصباب والاندفاع ومنه قوله : { فإذا أفضتم من عرفات } [ البقرة : 198 ] قيل : شهادة الله علمه فيلزم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وجودها . والجواب أن الشهادة علم خاص ولا يلزم منه امتناع تقدم العلم المطلق على الشيء كما لو أخبرنا الصادق أن زيداً يفعل كذا غداً فنكون عالمين بذلك لا شاهدين . ثم زاد في التعميم فقال : { وما يعزب عن ربك } أي لا يبعد ولا يغيب ومنه كلأ عازب أي بعيد ، والرجل العزب لبعده عن الأهل . ومعنى { مثقال ذرة } قد مر في قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }

[ النساء : 140 ] وذلك في سورة النساء . والمقصود أنه لا يغيب عن علمه شيء أصلاً وإن كان في غاية الحقارة . وإنما قال ههنا { في الأرض ولا في السماء } خلاف ما في سورة سبأ وهو المعهود في القرآن لأن الكلام سيق لشاهدته على شؤون أهل الأرض فناسب أن يقدم ذكر ما في الأرض ، هذا بعد تسليم أن الواو تفيد الترتيب . ثم بالغ في تعميم علمه فقال : { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } من قرأ بالنصب على نفس الجنس أو بالرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسه فلا إشكال ، وأما من جعله منصوباً معطوفاً على لفظ مثقال لأنه في موضع الجر بالفتح لامتناع الصرف ، أو جعله مرفوعاً معطوفاً على محل { من مثقال } لأنه فاعل { يعزب } فأورد عليه الإشكال وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب ، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وإنه محال . ويمكن أن يجاب عنه بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض . وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسة العلية والمعلولية عن مرتبة واجب الوجود ، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده شيء في الأرض ولا في السماء إلا هو في كتاب مبين . وهو كتاب أثبت فيه صور تلك المعلومات ، والغرض الرد على من يزعم أنه تعالى غير عالم بالجزيئات . أو نقول : إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن هو في كتاب مبين . وذكر أبو علي الجرجاني صاحب النظم إن « إلا » بمعنى الواو على أن الكلام قد تم عند قوله : { ولا أكبر } ثم وقع الابتداء بكلام آخر فقال : { إلا في كتاب } أي وهو أيضاً في كتاب { مبين } والعرب تضع « إلا » موضع واو النسق كثيراً ومنه قوله : { إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم } [ النمل : 11 ] يعني ومن ظلم . وقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } يعني والذين ظلموا .
ثم إنه لما بين إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية قلوب المطيعين وكسر قلوب المذنبين أتبعها تفصيل حال كل فريق فقال : { ألا إن أولياء الله } الآية . والتركيب يدل على القرب فكأنهم قربوا منه تعالى لاستغراقهم في نور معرفته وجماله وجلاله . قال أبو بكر الأصم : هم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبوديته والدعوة إليه . وقال المتكلمون : ولي الله من يكون آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ، ويكون آتياً بالأعمال الصالحة الواردة في الشريعة وعنوا بذلك قوله تعالى في وصفهم { الذين آمنوا } وهو إشارة إلى كمال حال القوة النظرية .

{ وكانوا يتقون } وهو إشارة إلى كمال حال القوة العملية . وههنا مقام آخر وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ويكون الولي متقياً في كل الأحوال ، أما في موقف العلم فبأن يقدس ذاته عن أن يكون مقصوراً على ما عرفه أو يكون كما وصفه ، وأما في مقام العمل فأن يرى عبوديته وعبادته قاصرة عما يليق بكبريائه وجلاله فيكون أبداً في الخوف والدهشة . وأما نفي الخوف والحزن عنهم فقد مر تفسيره في أوائل سورة البقرة : وعن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله؟ فقال : هم الذين يذكر الله برؤيتهم . يعني أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما فيهم من آثار الخشوع والإخبات والسكينة : وعن عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله . قالوا : يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم . قال : هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ الآية » .
يحكى أن إبراهيم الخواص كان في البادية ومعه واحد يصحبه ، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءه السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفاً منها والشيخ كان فارغاً من تلك السباع ، فلما أصبح زالت تلك الحالة . ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على بدنه فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ : تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي ، فلما غاب ذلك الوارد فإنا أضعف خلق الله . ثم أخبر الله سبحانه عنهم بأن { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فقيل : بشراهم في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } [ البقرة : 25 ] { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات } [ التوبة : 21 ] وقيل : إنها عبارة عن محبة الناس لهم وعن ذكرهم إياهم بالثناء الحسن . عن أبي ذر رضي الله عنه قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس . قال : تلك عاجل بشرى المؤمن . والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوباً لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضاً عما سواه . ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدوماً بالطبع لما سوى الله . وقيل : هي الرؤيا الصالحة . وعنه صلى الله عليه وسلم :

« » الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة « وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي صلى الله عليه وسلم استنبىء بعد أربعين سنة إلى كمال عمره - وهو ثلاث وستون سنة - وكان يأتيه الوحي أوّلاً بطريقة المنام ستة أشهر . ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين . وأما أن الرؤيا الصادقة توجب لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والاطلاع على بعض ما هنالك . وعن عطاء : البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة } [ فصلت : 30 ] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة { لا تبديل لكلمات الله } لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده وقد مر مثله في » الأنعام « { ذلك } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ، وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام . تقول : فلان ينطق بالحق والحق أبلج ، قال القاضي : { لا تبديل لكلمات الله } يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديماً ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد : لا شريك لله . ثم سلى رسوله عن صنيع الفريق المكذبين فقال : { ولا يحزنك } أو نقول : إنه كما أزال الحزن عنه في الآخرة بقوله : { ألا إن أولياء الله } أزال الحزن عنه في الدنيا بقوله : { ولا يحزنك قولهم } أي تكذيبهم لك وتهديدهم بالخدم والأموال وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك ، وبالجملة كل ما يتكلمون به في شأنك من المطاعن والقوادح . ثم استأنف قوله : { إن العزة لله } كأنه قيل : ما لي لا أحزن؟ فقيل : لأن العزة لله . { جميعاً } إن الغلبة والقهر له ولحزبه { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] وقرىء » أن « بالفتح لا على أنه بدل فإن ذلك يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إن العزة لله جميعاً والرسول كان يحزنه ذلك وهذا كفر ، بل لأن العزة على صريح التعليل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واثقاً بوعد الله تعالى في جميع الأحوال وإن كان قد يقع في بعض الحروب والوقائع انكسار وهزيمة فإن الأمور بخواتيمها . ثم أكد الوعد بقوله : { هو السميع العليم } يسمع ما يقولون ويعلم ما يدبرون فيكفيك شرهم .
ثم زاد في التأكيد مع إشارة إلى فساد عقيدة المشركين فقال : { ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض } فخصص ذوي العقول إما للتغليب وإما لأن الآية سيقت لبيان فساد عقائد أهل الشرك ، فذكر أن العقلاء المميزين - وهم الملائكة والثقلان - كلهم عبيد له ولا يصلح أحد منهم لأن يكون شريكاً له فما وراءهم ممن لا يسمع ولا يعقل كالأصنام أولى بأن لا يكون نداً له .

ثم أكد هذا المعنى بقوله : { وما يتبع } « ما » نافية ومفعول { يدعون } محذوف أي ليس يتبع { الذين يدعون من دون الله شركاء } شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها لأن شركة الله في الربوبية محال . وإنما حذف أحد المكررين للدلالة ، فالأول مفعول { يدعون } والثاني مفعول { يتبع } ويجوز أن تكون « ما » استفهامية بمعنى أي شيء يتبعون . و { شركاء } على هذا نصب ب { يدعون } ولا حاجة إلى إضمار . ويجوز أن تكون « ما » موصولة معطوفة على « من » كأنه قيل : ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم . ثم زاد في التأكيد فقال : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } وقد مر مثله في سورة الأنعام . ثم ذكر طرفاً من آثار قدرته مع إشارة إلى بعض نعمه فقال : { هو الذين جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } طلباً للراحة { والنهار مبصراً } ذا إبصار باعتبار صاحبه أي جعله مضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم وهذان طرفان من منافع الليل والنهار { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } سماع تأمل وتدبر وقبول .
ثم حكى نوعاً آخر من أباطيلهم فقال : { قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه } وقد مر في « البقرة » . ولما نزه نفسه عن اتخاذ الولد برهن على ذلك بقوله : { هو الغني } وتقريره أن الغنى التام يوجب امتناع كونه ذا أجزاء ، وحصول الولد لا يتصور إلا بعد انفصال جزء منه يكون كالبذر بالنسبة إلى النبات ، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد وإلى توليد المثل الذي يقوم مقامه من يكون بصدد الانقضاء والانقراض فالأزلي القديم لا يفتقر إلى الولد ولا يصح له مثل . وأيضاً الغني لا يفتقر إلى الشهوة ولا إلى إعانة الولد ، ولو صح أن يتولد منه مثله لصح أن يكون هو أيضاً متولداً من مثله ولا يشكل هذا بالولد الأول من الأشخاص الحيوانية فإن المدعي هو الصحة لا الوقوع . ثم بالغ في البرهان فقال : { له ما في السموات وما في الأرض } وإذا كان الكل ملكه وعبيده فلا يكون شيء منها ولداً له لأن الأب يساوي الابن في الطبيعة بخلاف المالك . ثم زيف دعواهم الفاسدة فقال : { إن عندكم من سلطان بهذا } أي ما عندكم من حجة بهذا القول . قال في الكشاف : والباء حقها أن تتعلق بقوله : { إن عندكم } على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك : ما عندكم بأرضكم موز . كأنه قيل : إن عندكم فيما تقولون سلطان . أقول : كأنه نظر إلى أن استعمال الباء بمعنى « في » أكثر منه بمعنى « على » .

ثم وبخهم على القول بلا دليل ومعرفة فقال : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } . ثم أوعدهم على افترائهم فقال : { قل أن الذين يفترون } الآية . ثم بين أن ذلك المفتري إن فاز بشيء من المطالب العاجلة والمآرب الخسيسة من رياسة ظاهرة وغرض زائل فذلك { متاع قليل } في الدنيا . ثم لا بد من الموت والرجوع إلى حكم الله ثم حصول الشقاء المؤبد والعذاب الأليم أعاذنا الله منه .
التأويل : { وما تكون في شأن } من النبوة { وما تتلوا } من شأن النبوة { من قرآن } { ولا تعملون } يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم { من عمل } من الأعمال من قبول القرن ورده من مثقال ذرة مما أظهر من حركة في أرض البشرية بعمل من أعمال الخير والشر . { ولا في السماء } أي في سماء القلوب بالنيات الصالحة والفاسدة { ولا أصغر } من الحركة وهو القصد دون الفعل { ولا أكبر } من النية وهو العمل { ألا إن أولياء الله } الذين هم أعداء النفوس { لا خوف عليهم } من تمني النظر بنفوسهم { ولا هم يحزنون } على ما فاتهم من شهوات النفوس للعداوة القائمة بينهم { لهم البشرى في الحياة الدنيا } بالوقائع والمبشرات { وفي الآخرة } بكشف القناع عن جمال العزة . { لا تبديل لكلمات الله } لأحكامه الأزلية حيث قال للولي كن ولياً وللعدوّ كن عدواً { ولا يحزنك } يا رسول القلب قول مشركي النفوس في تزيين شهوات الدنيا ولذاتها في نظرك { إن العزة لله جميعاً } يعز من يشاء في الدنيا وفي الآخرة جميعاً فلا يمنعه نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة بل ربما يعينه على الآخرة كما جاء في الحديث الرباني « وإن من عبادي من لا يصلحه الا الغنى فإن أفقرته يفسده ذلك » { ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض } أي القلوب السماوية والنفوس الأرضية { إن يتبعون إلا الظن } أي يظنون أنهم يتبعون شركاء الدنيا والهوى باختيارهم لا باختيارنا { هو الذي جعل لكم } ليل البشرية لتستريحوا فيه من تعب المجاهدات ، وتزول عنكم الملالة والكلالة ونهار الروحانية ذا ضياء وبصيرة يبصر بها مصالح السلوك والترقي في المقامات { لقوم يسمعون } حقائق القرآن بسمع القلوب الواعية . ثم أخبر عن الشبهات التي تقع في أثناء السلوك قالوا أي مشركو النفوس عند تجلي الروح بالخلافة في صفة الربوبية معترفاً بتجلي صفة إبداع الحق ومبدعة الروح مع كمال قربه واختصاصه بالحق عند بقاء تصرفات الخيال حتى تثبت الأبوة والبنوة بين الله وبين العبد ، إذ البنوة أخص التعلقات بالوالد . وهذا الكشف والابتداء هو مبتدأ ضلالة اليهود والنصارى { له ما في السموات } الروحانية من الكشوف والأحوال { وما في الأرض } البشرية من الوهم والخيال وما ينشأ من الشبهات والآفات { إن الذين يفترون } هم النفوس الأمارة بالسوء { لا يفلحون } لا يظفرون بكشف الحقائق { ثم نذيقهم لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فأحسوا بالألم والله أعلم .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)

القراآت : { وشركاؤكم } بالرفع : يعقوب { إن أجري } بفتح الياء حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص { ويكون لكما } بياء الغيبة : حماد ويزيد وزيد . الباقون بتاء التأنيث { آلسحر } بالمد : يزيد وأبو عمرو { أن تبويا } بالياء : الخراز وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة . الآخرون بالهمز . { ليضلوا } بضم الياء : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل { ولا تتبعان } بتخفيف النون : ابن عامر غير الحلواني عن هشام . { تتبعان } خفيفة التاء والنون : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ، وفي كلتا القراءتين خففت النون ثم كسرت لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثينة . الباقون والحلواني عن هشام { تتبعان } بتشديدها في الحالين { منت أنه } بكسر الهمزة على الاستئناف بدلاً من { آمنت } : حمزة وعلي وخلف . الآخرون بالفتح . { ننجيك } من الإنجاء : سهل ويعقوب وقتيبة . والآخرون بالتشديد .
الوقوف : { نبأ نوح } م لئلا يوهم أن « إذ » ظرف لقوله : { اتل } بل التقدير : واذكر إذ قال . { ولا تنظرون } ه { من أجر } ط { على الله } ج لأن التقدير وقد أمرت { من المسلمين } ه { بآياتنا } ج للفاء ولأن أمر النظر للعبرة يقتضي التثبيت للتدبر { المنذرين } ه { من قبل } ط { المعتدين } ه { مجرمين } ه { مبين } ه { لما جاءكم } ط بناء على أن التقدير أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر والاستفهام في قوله : { أسحر } يستحق الابتداء وسيجيء له مزيد بيان { هذا } ط للفصل بين الأخبار والاستخبار { الساحرون } ه { في الأرض } ط { بمؤمنين } ه { عليم } ه { ملقون } ه { ما جئتم به } ط لمن قرأ { آلسحر } مستفهماً { السحر } ط { سيبطله } ط { المفسدين } ه { المجرمين } ه { أن يفتنهم } ط { في الأرض } ج لاتصال الكلام { المسرفين } ه { مسلمين } ه { توكلنا } ج للعدول مع اتحاد القائل { الظالمين } ه لا للعطف . { الكافرين } ه ج { وأقيموا الصلاة } ط لأن قوله { وبشر } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أريد به موسى فلا بد من العدول { المؤمنين } ه { الدنيا } لا لتعلق قوله : { ليضلوا } بقوله : { آتيت } و { وربنا } تكرار للأول لأجل التضرع . { عن سبيلك } ج لابتداء النداء مع اتحاد القائل { الأليم } ه { لا يعلمون } ه { وعدواً } ط { الغرق } لا لأن قال جواب « إذا » { المسلمين } ه { المفسدين } ه { آية } ط { لغافلون } ه .
التفسير : لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات والجواب عن الشبهات شرع في قصص الأنبياء المتقدمين ، لأن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب أقرب إلى انشراح الصدور ودفع الملال مع أن في ذكرها تسلية للرسول وعبرة للمعتبر إلى غير ذلك من الفوائد التي سبق ذكرها في « الأعراف » . ومعنى كبر ثقل وشق كقوله : { وإنها لكبيرة } [ البقرة : 45 ] وفي مقامي وجوه منها : أنه زيادة كقولك : فعلت كذا لمكان فلان أي لأجله ، وكقوله تعالى :

{ ولمن خاف مقام ربه } [ الرحمن : 46 ] أي ربه ومثله قولهم : فلان ثقيل الظل . ومنها أن يراد به المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم مدداً طوالاً ألف سنة إلا خمسين عاماً ، ولا شك أن من ألف طريقة ويدعى إلى خلافها ولا سيما إذا تكرر الدعاء كان ذلك موجباً للتنفر والثقل ، وخاصة إذا كانت تلك الطريقة مقتضاة النفس والطبيعة الداعيتين إلى اللذات العاجلة . ومنها أن يكون المقام بمعنى القيام لأنهم كانوا يقومون على أرجلهم في الوعظ والتذكير ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود . وجواب الشرط إما قوله : { فعلى الله توكلت } أي إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر بالتوكل على الله فإن ذلك هجيراي قديماً وحديثاً وإما قوله : { فأجمعوا } وقوله : { فعلى الله توكلت } اعتراض كقولك : إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي فاعمل ما تريد . ولا يحسن أن يقال : إن الفاء الثانية عاطفة للاختلاف طلباً وخبراً ، ومعنى { فأجمعوا أمركم } اعزموا عليه من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء . وقال أبو الهيثم : أجمع أمره أي جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا ، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعاً . فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم حتى وصل ب « على » فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والفصيح أجمعت الأمر ، والمراد بالأمر وجوه مكرهم وكيدهم . وانتصب { شركاءكم } على المفعول معه أي مع شركائكم . ومن قرأ بالرفع جعله عطفاً على الضمير المتصل ، وإنما يحسن ذلك من غير تأكيد بالمنفصل للفصل . والمراد بالشركاء إما من هم على مثل قولهم ودينهم ، وإما الأصنام . وحسن إسناد الإجماع إليهم على وجه التهكم كقوله : { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون } [ الأعراف : 195 ] واعلم أنه عليه السلام قال في أول الأمر { فعلى الله توكلت } ليدل على أنه واثق بوعد الله جازم بأن تهديدهم إياه بالقتل لا يضره ، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال : { فأجمعوا أمركم } كأنه قال : حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية الى مطلوبكم غير مقتصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذين تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم . ثم ضم إلى ذلك قيداً آخر فقال : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } قال أبو الهيثم : أي مبهماً من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس . وقال الليث : لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له . وقال الزجاج : أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهراً منكشفاً أي تجاهرونني بالإهلاك . ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غماً وهماً والغم والغمة كالكرب والكربة .

ثم زاد قيداً آخر فقال : { ثم اقضوا إليّ } ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه . وعن القفال أن فيه تضميناً والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكماً مفروغاً منه . ثم ختم الكلام بقوله : { ولا تنظرون } أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال ، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى . ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال : { فإن توليتم } أعرضتم عن نصحي وتذكيري { فما سألتكم من أجر } فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل { إن أجري } ليس أجري { إلا على الله } أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو . وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله : { فعلى الله توكلت } إلى آخره . ولا بانقطاع الخير منهم وذلك قوله : { فإن توليتم } الآية . { وأمرت أن أكون من المسلمين } أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام ، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة . { فكذبوه } بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة . { فنجيناه ومن معه في الفلك } قد ذكرنا في « الأعراف » الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك { وجعلناهم خلائف } يخلفون الهالكين بالطوفان { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { ثم بعثنا من بعده } من بعد نوح { رسلاً } كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب { فجاؤوهم بالبينات } بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد ههنا لفظة « به » فقيل : لتناسب ما قبله وهو { كذبوا بآياتنا } وكذلك في « الأعراف » راعى المناسبة لأن ما قبله { ولكن كذبوا } [ الآية : 96 ] بغير الباء { ثم بعثنا من بعدهم } بعد الرسل أو الأمم { بآياتنا } يعني الآيات التسع { فاستكبروا } عن قبولها { وكانوا قوماً مجرمين } كفاراً ذوي آثام ولذلك اجترأوا على رد الآيات . أما قوله : { أسحر هذا } فليس بمقول لقوله : { أتقولون } لأنهم قطعوا في قوله : { إن هذا لسحر مبين } بأنه سحر ، وما استفهموا ولكن الوجه فيه أن يقال : إن القول ههنا بمعنى الطعن والعيب كالذكر في قوله : { سمعنا فتى يذكرهم } [ الأنبياء : 60 ] ومنه قولهم : فلان يخاف القالة أي مطاعن الناس فكأنه قال : أتعيبون الحق وتطعنون فيه؟ ثم أنكر عليهم قولهم فقال : { أسحر هذا } أو يقال : مفعول تقولون محذوف وهو قولهم { إن هذا لسحر مبين } أو يقال : جملة قوله { أسحر هذا } { ولا يفلح الساحرون } حكاية لكلامهم كأنهم قالوا منكرين لما جاءا به أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح السحرة ، لأن حاصل صنيعهم تخييل وتمويه { قالوا أجئتنا لتلفتنا } التركيب يدل على الالتواء ومنه الفتل والالتفات « افتعال » من اللفت وهو الصرف واللي { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } أي الملك والعز في أرض مصر .

قال الزجاج : سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا . وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه وصار أكبر القوم . وقيل : لأن الملوك موصوفون بالكبر والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين : التمسك بالتقليد وهو عبادة آبائهم الأصنام ، والحرص في طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة . ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا . ثم صرحوا بالتكذيب قائلين { وما نحن لكما بمؤمنين } ثم حاولوا المعارضة وقد مرت تلك القصة في « الأعراف » . أما قوله : { ما جئتم به } فمعناه الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله . قال الفراء : وإنما قال السحر بالألف واللام لأنه جواب الكلام الذي سبق كأنهم قالوا لموسى ما جئت به سحر . فقال موسى : بل ما جئتم به السحر . فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة . يقول الرجل لغيره : لقيت رجلاً . فيقول له : من الرجل؟ ولو قال : من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأل عن الرجل الذي ذكره . ومن قرأ { آلسحر } بالاستفهام فما استفهامية مبتدأ و { جئتم به } خبره كأنه قيل أي شيء جئتم به . ثم قال على وجه التوبيخ السحر أي أهو لسحر أو آلسحر جئتم به { إن الله سيبطله } بإظهار المعجزة عليه { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } لا يؤيده بجميل الخاتمة { ويحق الله الحق } يثبته { بكلماته } بمواعيده أو بما سبق من قضائه أو بأوامره { فما آمن لموسى } أي في أول أمره { إلا ذريّة من قومه } قال ابن عباس : لفظة الذرية يعبر بها عن القوم على وجه التحقير ، ولا ريب أن المراد ههنا ليس هو الإهانة ، فالمراد التصغير بمعنى قلة العدد . وقيل : المراد أولاد من أولاد قومه كأنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون أن يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم . وقيل : إن الذرية أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل . وقيل : الذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته ، فالضمير في { قومه } على هذا لفرعون وعوده إلى موسى أظهر لأنه أقرب المذكورين ، ولما نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل والضمير في { ملئهم } إما لفرعون على جهة التعظيم لأنه ذو أصحاب يأتمرون له ، أو المراد آل فرعون بحذف المضاف ، أو للذرية يعني أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم يدل على ذلك قوله : { أن يفتنهم } أي يعذبهم فرعون .

ثم أكد أسباب الخوف بقوله : { وإن فرعون لعال } لغالب { في الأرض } أرض مصر { وإنه لمن المسرفين } في القتل والتعذيب أو لمن المجاوزين الحد لأنه من أخس العبيد فادعى الربوبية العليا { وقال موسى } تثبيتاً لقومه { إن كنتم آمنتم بالله } صدقتم به وبآياته { فعليه توكلوا } خصوه بتفويض أموركم إليه { إن كنتم مسلمين } قال لعلماء : المؤخر في مثل هذه السورة مقدم في المعنى نظيره : إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة . والمراد إن كانت بك قوة فإن ضربك زيد فاضربه فكأنه قيل لهم في حال إسلامهم إن كنتم منقادين لتكاليف ربكم بالإخلاص مصدقين له بالتحقيق عارفين بأنه واجب الوجود لذاته وما سواه محدث مخلوق مقهور تحت حكمه وتدبيره ، ففوضوا جميع أموركم إليه وحده . { فقالوا } مؤتمرين لموسى { على الله توكلنا } ثم اشتغلوا بالدعاء قائلين { ربنا لا تجعلنا فتنة } أي موضع فتنة لهم . والمراد بالفتنة تعذيبهم أو صرفهم عن دينهم ، أو المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا صار ذلك شبهة لهم في أنا لسنا على الحق . ويجوز أن تكون الفتنة بمعنى المفتون أي لا تجعلنا مفتونين بأن تمكنهم من صرفنا عن الدين الحق ، ولما قدموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقال : { ونجنا } الآية . وفي ذلك دليل على أن عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح النفس ، وهكذا يجب أن تكون عقيدة كل مسلم والله الموفق . { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً } تبوّأ بالمكان اتخذه مباءة ومرجعاً مثل توطنه إذا اتخذه وطناً . واختلف المفسرون في البيوت فمنهم من ذهب إلى أنها المساجد كقوله : { في بيوت أذن الله أن ترفع } [ النور : 36 ] فالمراد من قوله : { واجعلوا بيوتكم قبلة } أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة على ما نقل عن ابن عباس : وقال الحسن : الكعبة قبلة كل الأنبياء : وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة . ومنهم من قال : إنها مطلق البيوت . ثم قيل : المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم . وقيل : المراد اجعلوا بيوتكم متقابلة ، أما السبب في اتخاذ هذه البيوت فأن يصلوا في بيوتهم خفية خيفة من الكفرة كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة ، أو المقصود الجمعية واعتضاد البعض بالبعض . وقيل : على التفسير الأول لما أظهر فرعون العداوة الشديدة أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل أن يصونهم عن شرهم .

وإنما ثنى الخطاب أوّلاً ثم جمع لأن اختيار المكان للعبادة مما يفوض إلى الأنبياء فخوطب موسى وهارون بذلك ، ثم جعل الخطاب عاماً لهما ولقومهما لأن استقبال القبلة وإقامة الصلاة واجب على الجمهور . ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير في قوله : { وبشر المؤمنين } لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات هو هذه البشارة فلم تكن لائقة إلا بحال موسى الذي هو الأصل في الرسالة ، وفيه تعظيم لشأن البشارة والمبشر ( قال الضعيف مؤلف الكتاب ) قد سنح في خاطري وقت هذه الكتابة أن الخطاب في قوله : { وبشر المؤمنين } لنبينا صلى الله عليه وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض . ومضمون البشارة أنه جعلت الأرض كلها لهذه الأمة مسجداً وطهوراً دون سار الأمم فإنهم أمروا باتخاذ موضع يرجعون إليه ألبتة للعبادة والله أعلم بمراده . ثم إن موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة ، ورأى القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلاً سبب الدعاء عليه فلهذا { قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً } فالزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والأموال ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق . عن ابن عباس كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة . قالت الأشاعرة : اللام في قوله : { ليضلوا } لام التعليل كأن موسى عليه السلام قال : يا رب إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا ، ففيه دلالة على أنه تعالى تسبب لضلالهم وأراد منهم ذلك وإلا لم يهيىء أسبابه . ثم شرع في الدعاء عليهم بالطمس على أموالهم . والطمس المحو أو المسخ كما مر في سورة النساء في قوله سبحانه : { من قبل أن نطمس وجوهاً } [ النساء : 47 ] وبالشد على قلوبهم ومعناه الاستيثاق والختم . وقالت المعتزلة : قوله { ليضلوا } دعاء بلفظ الأمر للغائب ، دعا عليهم بثلاثة أمور : بالضلال وبالطمس وبالشد . كأنه لما علم بالتجربة وطول الصحبة أن إيمانهم كالمحال أو علم ذلك بالوحي اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره قائلاً ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليطبع الله على قلوبهم كما يقول الأب المشفق لولده إذا لم يقبل نصحه واستمر على غيه . سلمنا أن قوله : { ليضلوا } ليس دعاء عليهم لكن اللام فيه للعاقبة كقوله : « لدوا للموت » . سلمنا أن اللام للتعليل لكنهم جعلوا الله سبباً في الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا . ولم لا يجوز أن يكون « لا » مقدرة أي لئلا يضلوا كقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] أي أن لا تضلوا ، أو يكون حرف الاستفهام مقدراً في آتيت على سبيل التعجب .

أما قوله تعالى : { فلا يؤمنوا } فإما أن يكون معطوفاً على قوله : { ليضلوا } على التفاسير كلها وما بينهما اعتراض ، وإما أن يكون جواباً لقوله { واشدد } ويجوز أن يكون دعاء بلفظ النهي معطوفاً على { اشدد } . { قال قد أجيبت دعوتكما } أضاف الدعوة إليهما لأن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان إلا أنه خص موسى بالذكر في الآية لأصالته في الرسالة ، والمعنى أن دعاءكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من التبليغ والإنذار زيادة في إلزام الحجة ، ولا تستعجلا فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا . قال ابن جريج : فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة يدعوهم إلى الله { ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون } أن الاستعجال لا يفيد في اجابة الدعاء فقد يستجاب الدعاء ولكن يظهر الأثر بعد حين . { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } قد مرت تلك القصة في أوائل سورة البقرة في قوله : { وإذ فرقنا بكم البحر } [ البقرة : 50 ] الآية ، ومعنى قوله : { فأتبعهم } لحقهم . يقال : تبعه حتى أتبعه ، والبغي الإفراط في الظلم والعدو ومجاوزة الحد وفي الآية سؤال وهو أن فرعون تاب ثلاثة مرات إحدها قوله : { آمنت } وثانيتها { أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } وثالثتها { وأنا من المسلمين } فلم تقبل توبتة . والجواب من وجوه : الأول أنه إيمان اليائس وأنه لا يقبل لأن الإلجاء ينافي التكليف . الثاني أنها لم تكن مقرونة بالإخلاص وإنما كانت لدفع البلية الحاضرة والمحنة الناجزة . الثالث أن ذلك التوحيد كان مبنياً على محض التقليد والمخذول كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية . الرابع ما روي أن بعض بني إسرائيل لما جاوز البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلعله أراد الإيمان بذلك العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت ، وكانت هذه الكلمة سبباً لزيادة الكفر . الخامس أن أكثر اليهود يميلون إلى التجسيم والتشبيه ولذلك عبدوا العجل فكأنه ما آمن إلا بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول . السادس لعل الإيمان إنما يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبنبوة موسى كما أنه لو قيل ألف مرة لاإله إلا الله لم يصح إيمان إلا إذا قرن به محمد رسول الله إلى الناس كافة . السابع يروى أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمته أن يغرق في البحر ، ثم إن فرعون لما غرق دفع جبريل إليه خطه فعرفه . أما قوله { آلآن } فالمشهور من الأخبار أنه قول جبريل . وقيل : إنه قول الله سبحانه والتقدير : أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين ألجمك الغرق وأدركك .

وقوله : { وكنت من المفسدين } في مقابلة قوله : { وأنا من المسلمين } يروى أن جبريل أخذ يملأ فاه بالطين حين قال : { آمنت } لئلا يتوب غضباَ عليه ، والأقرب عند العلماء أن هذا الخبر غير صحيح لأنه إن قال ذلك حين بقاء التكليف لم يجز على جبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب أن يحثه عليها أو على كل طاعة لقوله تعالى : { وتعاونوا } [ المائدة : 2 ] ولو منعه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يعزم بقلبه على ترك المعاودة إلى القبيح ، ولو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر . وكيف يليق به سبحانه أن يقول لموسى وهارون { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] ثم يأمر جبريل بمنعه عن الإيمان . ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من تلقاء نفسه كان منفياً لقوله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } [ مريم : 64 ] { لا يسبقونه بالقول } [ الأنبياء : 27 ] وإن كان قال ذلك بعد زوال التكليف فلم يكن لما فعل جبريل فائدة اللهم إلا أن يقال : إنه دس حال البحر في فيه في وقت لا ينفعه إيمانه غضباً لله على الكافر . قوله : { فاليوم ننجيك ببدنك } فيه أقوال منها : أن معناه نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق . وقوله : { ببدنك } في موضع الحال أي في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن . قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور ، أو المراد ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير ، أو عرياناً لست إلا بدناً وفيه نوع تهكم كأنه قيل : ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك كما يقال : نعتقك أو نخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت . وقيل : ننجيك ببدنك أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع . وقيل : ببدنك أي بدرعك . قال الليث : البدن الدرع القصير الكمين . عن ابن عباس قال : كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف ، فإن صحت هذه الرواية كانت معجزة لموسى عليه السلام . وأما قوله : { لتكون لمن خلفك آية } فقيل : إن قوماً اعتقدوا في إلهيته وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى يشاهدوه . وزالت الشبهة عن قلوبهم وكانت مطروحة على ممر من بني إسرائيل فلهذا قيل : { لمن خلفك } وقيل : إنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والإهانة بعد ما سمعوا منه قوله : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زجراً للعابرين عن مثل طريقته ، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة ثم آل أمره إلى ما آل ، فلا يجترأوا على نحو ما اجترأ عليه . وقيل : المراد ليكون طرحك بالساحل وحدك دون المغرقين آية من آيات الله للأمم الآتية ، ثم زجر هذه الأمة عن ترك النظر في الدلائل وحثهم على التأمل والاعتبار فقال { وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } .

التأويل : { واتل عليهم نبأ نوح } الروح { إذ قال لقومه } وهم القلب والسمع والنفس وصفاتها { يا قوم إن كان } عظم { عليكم مقامي } في الأخلاق الحميدة الروحانية ودعائي إلى الله ببراهينه الواضحة { فما سألتكم من أجر } من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله . و { جعلناهم خلائف } خلفاء الله في أرضه وباقي التأويل كما مر في « الأعراف » . وهكذا في قصة موسى { ولا يفلح الساحرون } لأن الفلاح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي . { ويحق الله الحق } أي الذكر { بكلماته } وهي لا إله إلا الله { ولو كره } أهل الهوى والنفوس الأمارة { فما آمن لموسى } القلب إلا صفاته أو بعض صفات فرعون النفس بتبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية { على خوف من فرعون } النفس والهوى والدنيا وشهواتها أن يصرفهم إلى حالها الطبيعية التي جبلت عليها . { وأوحينا إلى موسى } القلب وهارون السر أن هيئا لصفاتكما بمصر عالم الروح مقامات ومنازل لا في عالم النفس السفلي . واجعلوا تلك المقامات متوجهة إلى طلب الحق . { وأقيموا الصلاة } أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى المواصلات الربانية { ليضلوا عن سبيلك } ليكون عاقبة أمرهم أن ينقطعوا أو يقطعوا بتلك الملاذ عن السير في طلبك { ربنا اطمس على أموالهم } بمحقها وتحقيرها في نظرهم { واشدد } طريق النظر إلى الدنيا وما فيها { على قلوبهم } واجعل همتهم عليه في طلبك والنظر إليك فقط { حتى يروا العذاب الأليم } فإن النفس وصفاتها لا يؤمنون بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم الفطام عن الدنيا ومشتهياتها . { سبيل الذين لا يعلمون } طريق الوصول إلى الله ولا يعرفون قدره { وجاوزنا ببنى إسرائيل } هم القلب والسر وصفاتها . والبحر بحر الروحانية الملكوتية { فأتبعهم فرعون } النفس وصفاتها بعد الفطام عن شوائب عالم الملك قهراً وقسراً ، حتى إذا هبت رياح اللطف وتموجت بحار الفضل واستغرق موسى القلب وصفاته في لجي بحر الوصال ، وبلغت أفواج أمواجه إلى ساحل البشرية ، أدرك فرعون النفس الغرق فاستمسك بعروة ذلك الفريق : { آمنت } ومن أمارات أجنبية فرعون النفس من عالم الروح أنه لم يتمسك بحبل التوحيد والمعرفة بيد الصدق والاستقلال ، ولم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو وإنما تمسك بين الاضطراب والتقليد فقال : { لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } { ننجيك ببدنك } أي نخلصك مع قالبك من بحر الضلالة لتكون دليلاً على كمال قدرتنا وعنايتنا . وإن من اتبع خواص عبادنا نجعله من أهل النجاة والدرجات بعد أن كان من أهل الهلاك والدركات والله حسبنا .
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

القراآت : { وأنا } مثل { أنشانا } و { نجعل } بالنون : يحيى وحماد . الآخرون بالياء التحتانية . { ثم ننجي } من الإنجاء : نصر وروح ويزيد . { ننجي المؤمنين } من الإنجاء أيضاً : علي وسهل ويعقوب وحفص والمفضل . الآخرون بالتشديد فيهما .
الوقوف : { الطيبات } ج للابتداء بالنفي مع الفاء { العلم } ط { يختلفون } ه { من قبلك } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { الممترين } ه لا للعطف { الخاسرين } ه { لا يؤمنون } ه لا لتعلق لو بما قبلها { الأليم } ه { يونس } ط { حين } ه { جميعاً } ط { مؤمنين } ه { بإذن الله } ط أي وهو يجعل { لا يعقلون } ه { والأرض } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار . { لا يؤمنون } ه { من قبلهم } ط { من المنتظرين } ه { كذلك } ج لاحتمال يراد ننجيهم كإنجاء الرسل أو يكون الوقف على { آمنوا } والتقدير ننجي المؤمنين إنجاء كذلك و { حقا علينا } اعتراض . { المؤمنين } ه { يتوفاكم } ج لاحتمال أن يراد وقد أمرت { المؤمنين } ه لا للعطف { حنيفاً } ج للعطف مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف { المشركين } ه { ولا يضرك } ج للابتداء بالشرط مع الفاء { الظالمين } ه { إلا هو } ج للعطف مع حق الفصل بين المتضادين { لفضله } ط { من عباده } ط { الرحيم } ه { من ربكم } ج { لنفسه } ج { عليها } ج للعطف مع النفي { بوكيل } ه ط { يحكم الله } ج لاحتمال العطف والاستئناف { الحاكمين } ه .
التفسير : لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده أراد أن يذكر ما وقع عليه الختم في واقعة بني إسرائيل فقال : { ولقد بوأنا } أي أسكناهم مسكن صدق أو إسكان صدق فيكون المبوأ اسم مكان أو مصدراً ، والعرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق ليعلم أن كل ما يظن به من الخير ويطلب منه فإنه يصدق ذلك الظن ويوجد فيه فيكون المعنى منزلاً صالحاً مرضياً . والمراد ببني إسرائيل إما اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام فمبوّأ الصدق الشام ومصر وما يدانيها فإنها بلاد كثيرة الخصب غزيرة الأرزاق ومع ذلك فقد أورثهم الله جميع ما كان تحت تصرف فرعون وقومه من الناطق والصامت { فما اختلفوا } في دنيهم وما تشعبوا فيه شعباً وكانوا على طريقة واحدة حتى قرأوا التوراة فقابلوها بضد المقصود منها وبدلوا الاتفاق بالاختلاف وأحدثوا المذاهب المتعددة ، وإما اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى هذا ذهب جم غفير من المفسرين . عن ابن عباس : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، أنزلناهم منزل الصدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من طيبات تلك البلاد رطباً وتمراً ليس في غيرها ، فبقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم سبب العلم وهو القرآن النازل على محمد صلى الله عليه وسلم فاختلفوا في نعته وصفته ، وآمن به قوم وبقي على الكفر آخرون .

وبالجملة فالله تعالى يقضي بين المحقين منهم والمبطلين في يوم الجزاء لأن دار التكليف ليست دار القضاء . ولما بيّن كيفية اختلاف اليهود في شأن كتابهم أو في شأن رسوله حقق حقيقته وحقيقة ما أنزل عليه بقوله : { فإن كنت في شك } والشك في اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه شك الجوهر في العقد ، وشككته بالرمح أي خرقته وانتظمته ، والشكيكة الفرقة من الناس ، والشكاك البيوت المصطفة . والشاك يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه ، والخطاب فيه للرسول في الظاهر والمراد أمته كقوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم } [ الطلاق : 1 ] والدليل عليه قوله بعيد ذلك { قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني } ولأنه لو كان شاكاً في شأنه لكان غيره بالشك أولى . ويمكن أن يقال : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة ولكن ورد على سبيل الفرض والتمثيل كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بوقوع الشرط ولا عدم وقوعه ، بل المراد استلزام الأول للثاني على تقدير وقوع الأول . وقد يكونان محالين كقول القائل : إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين . وفيه من الفوائد الإرشاد إلى طلب الدلائل لأجل مزيد اليقين وحصول الطمأنينة ، وفيه استمالة لأمته والحث لهم على السؤال عما كانوا منه في شك ، وفيه أن أهل الكتاب من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلاً عن غيرك فيكون الغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى الرسول لا وصف الرسول بالشك ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عند نزوله : لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق . وعن ابن عباس : لا والله ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم . وقيل : « إن » نافية أي فما كنت في شك يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقيناً . وقيل : الخطاب لكل سامع يتأتى منه الشك . ومن المسؤول منه قال المحققون : هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم . ومنهم من قال : الكل سواء لأنهم إذا بلغوا حد التواتر وقرأوا آية من التوراة والإنجيل تدل على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض ، لأن تلك الآية لما بقيت مع توفر دواعيهم على تحريف نعته كانت من أقوى الدلائل . والظاهر أن المقصود من السؤال معرفة حقيقة القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { مما أنزلنا إليك } وقيل : السؤال راجع إلى قوله : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } . ثم إنه سبحانه لما بين الطريق المزيل للشك شهد بحقيته فقال : { لقد جاءك الحق من ربك } ثم إن فرق المكلفين بعد المصدقين إما متوقفون في صدقه وإما مكذبون فنهى الفريقين مخاطباً في الظاهر لنبيه قائلاً { فلا تكونن من الممترين ولا تكونن } الآية .

والمراد فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية وانتفاء التكذيب ، وفيه من التهييج والبعث على اليقين والتصديق ما فيه . ثم لما زجر كل فريق عما زجر بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء وعباداً ختم لهم بالحسنى فلا يتغيرون عن حالهم ألبتة . أما الأولون فأشار إليهم بقوله : { إن الذين حقت } الآية . وقد مر مثله في هذه السورة . وقالت المعتزلة : إن عدم إيمان هذا الفريق إلى حين وقوع اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم ، لكنها كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد . وقالت الأشاعرة : كلمته حكمة وإرادته وخلقه فيهم الكفر ، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مراراً كثيرة . وأما الآخرون فذلك قوله : { فلولا كانت } أي فهلا حصلت { قرية } واحدة { آمنت } تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل معانية العذاب { فنفعها إيمانها } لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس والاضطرار { إلا قوم يونس } هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها . وقيل : إن « لولا » في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس . يروى أن يونس صلى الله عليه وسلم بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً كما سيجيء في سورة الأنبياء ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة . وقيل : قال لهم يونس إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم ، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها ، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة . وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده . وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت ، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم . وعن الفضيل بن عياض قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله . ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } قالت الأشاعرة : هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة لكنه ما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل .

وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر . وأجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به المكلف ، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة القسر لم ينتظم الكلام . ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى فقال : { أفأنت تكره } فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده . فحمل المعتزلة هذا الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان . وحمل الأشاعرة الإكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت بدليل قوله : { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس } أي الكفر والفسق { على الذين لا يعقلون } وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان ، لأن الرجس هو العذاب والخذلان سببه ، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا يعقلون يعني المصرين على الكفر . واستدلت الأشاعرة بقوله : { وما كان لنفس } على أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر . وإذا كان أصل الشرع - وهو الإيمان بإذن الله - فما ترتب عليه أولى . أجابت المعتزلة بأن المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف . ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال : { قل انظروا ماذا في السموات والأرض } أي شيء فيهما من الآيات والعبر . ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حكم الله عليه في الأزل بالشقاء فقال : { وما تغني } يحتمل أن تكون « ما » نافية أي لا تفيد هذه { الآيات والنذر } وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان . وأن تكون } استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم؟ ثم قال : { فهل ينتظرون } والمراد أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم ، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه { قل فانتظروا } وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله : { ثم ننجي رسلنا } الآية . قالت المعتزلة : { حقاً علينا } المراد به الوجوب والاستحقاق إذ لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين .

وقالت الأشاعرة : إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً . ثم أمر رسوله بإظهار التباين الصريح بين طريقته وطريقة المشركين فقال : { قل يا أيها الناس } والمعنى يا أهل مكة إن كنتم لا تعرفون ديني فاعلموا أني مبرأ عن أديانكم الباطلة { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } وتخصيص هذا الوصف لأنه يدل على الخلق أوّلاً وعلى الإعادة ثانياً كما مر مراراً ، أو لأن الموت أشد الأحوال مهابة في القلوب فكان أقوى في الزجر والردع ، أو لأنه قد قدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالأمم الخالية فكأنه قال : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم وإنجائي . وفي الآية إشارة إلى أنه لن يوافقهم في دينهم كيلا يشكوا في أمره ويقطعوا أطماعهم عنه . ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان والمعرفة فقال : { وأمرت أن أكون } أي بأن أكون { من المؤمنين } ثم عطف عليه قوله : { وأن أقم وجهك } ولا تدع نظراً إلى المعنى كأنه قيل له : كن مؤمناً ثم أقم ولا تدع ، أو المراد وأمرت بكذا وأوحي إلي أن أقم . قال في الكشاف : قد سوغ سيبويه أن يوصل « أن » بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم : أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر ، والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال ، ومعنى { أقم وجهك } استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالاً . و { حنيفاً } حال من { الدين } أو من الوجه . قال المحققون : الوجه ههنا وجه العقل أو المراد توجه الكلية إلى طلب الدين كمن يريد أن ينظر إلى شيء نظراً تاماً فإنه يقيم وجهه في مقابلته لا يصرفه عنه . ثم أكد الأمر بالنهي عن ضده فقال : { ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت } أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، وكنى عنه بالفعل للاختصار . و « إذا » جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأن إضافة التصرف بالاستقلال إلى ما سوى مدبر الكل وضع للشيء في غير موضعه . ثم صرح بأنه مبدأ الكائنات ومنتهى الحاجات لا غيره فقال : { وإن يمسسك الله } الآية . وقد مر تفسير مثلها في أول سورة الأنعام . قال الواحدي : { وإن يردك بخير } من القلب وأصله وإن يرد بك الخير ، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر . وأقول في تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض . ثم ختم السورة بما يستدل به على قضائه وقدره في الهداية والضلال فقال : { قل يا أيها الناس } الآية .

وفسرها الأشاعرة بأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك ، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه كما مر في سورة الأنعام { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه } [ الأنعام : 104 ] الآية . وقالت المعتزلة : المراد أنه بين الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة ، فمن اختار الهدى فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فلا يعود وباله إلا على نفسه . يروى عن ابن عباس أن الآية منسوخة بآية القتال ولا يخفى ضعفه . ثم أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين . ولبعضهم في الصبر :
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ... وأصبر حتى يحكم الله في أمري
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... صبرت على شيء أمر من الصبر
التأويل : { ولقد بوأنا بني إسرائيل } يعني متولدات الروح العلوي من القلب والسر دون النفس لأنها من البنات لا من البنين { مبوأ صدق } منزلاً علياً في العالم النوراني { وزقناهم من الطيبات } من الفيض الرباني الفائض على الروح لأن الروح مستوٍ على عرش القلب ، فكل ما فاض من صفة الروحانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر ، فما اختلف القلب والسر حتى جاءهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم : فمن قبلها صار مقبولا ، ومن ردها كان مردوداً . وبوجه آخر { مبوأ صدق } بين الأصبعين من أصابع الرحمن { فما اختلفوا } حتى أدركهم علم الله الأزلي بالسعادة والشقاء { فإن كنت في شك } خلق الإنسان ضعيفاً ، فإذا انفتح عليه أبواب الكرامات وهبت رياح السعادات فربما ظن أنه مما يخادع به الأطفال فلا يدري هل هو من كرامة الاجتباء أو من وخامة الابتلاء ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم من خصوصية { إنما أنا بشر مثلكم } [ الكهف : 110 ] يرتع في هذه الرياض وباختصاص { يوحي إلي } [ الكهف : 110 ] يسقى بكساسات المناولات من تلك الحياض . فشك عند سكره أنها من شهود التلوين أو من كشوف التمكين ، فأدركته العناية الأزلية فأكرم بخطاب { لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن } بل كان هذا النهي نهي التكوين فما كان ممترياً ولهذا قال : والله لا أشك ولا أسأل . { إلا مثل أيام الذين خلوا } من أنه كل ميسر لما خلق له { قل فانتظروا } ظهور ما قدر لكم { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } بالفناء عن النفس وصفاتها حنيفاً طاهراً عن لوث الالتفات إلى ما سواه والله أعلم .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)

القراآت : { وإن تولوا } بإظهار النون وتشديد التاء : البزي وابن فليح { فإني أخاف } بفتح الياء ، أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير . { عني إنه } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابو عمرو .
الوقوف : { آلر } ق كوفي { خبير } 5 لا بناء على أنّ ألا يتعلق بما قبله { إلا الله } ط { وبشير } 5 لا للعطف { فضله } ج { كبير } 5 { مرجعكم } ج لاحتمال الحال والاستئناف { قدير } 5 { منه } ط { ثيابهم } لا بناء على أن عامل { حين } قوله : { يعلم } { يعلنون } ج { الصدور } 5 { ومستودعها } ط { مبين } 5 { عملاً } ط { مبين } 5 { ما يحبسه } ط { يستهزؤون } 5 { منه } ج لحذف جواب { لئن } أي لييأسن . وقيل : جوابها إنه والأول أوجه { كفور } 5 { عني } ط { فخور } لا للاستثناء { الصالحات } ط { كبير } 5 { ملك } ط { نذير } 5 { وكيل } ه ط « أم » استفهام تقريع { افتراه } ط { صادقين } 5 { إلا هو } ج ط للاستفهام مع الفاء . { مسلمون } 5 { يبخسون } 5 { إلا النار } ز بناء على أن « ليس » بمنزلة حرف النفي والوصل أوجه لأن « ليس » فعل ماض وهو مع ما عطف عليه المجموع جزاء . { يعملون } 5 { رحمة } ط { يؤمنون به } ط { موعده } ج لاختلاف الجملتين مع الفاء { لا يؤمنون } 5 { كذباً } ط { على ربهم } الثاني ج لأن ما بعده يحتمل أن يكون من قول الاشهاد أو ابتداء إخبار . { الظالمين } 5 لا { عوجاً } ط { من أولياء } م لئلا يوهم أن ما بعده صفة أولياء { العذاب } ط { يبصرون } 5 { يفرون } 5 { الأخسرون } 5 { إلى ربهم } لا لأن ما بعده خبر « إن » . { الجنة } ج { خالدون } 5 { والسميع } ط { مثلاً } ط { تذكرون } 5 .
التفسير : { آلر } إن كان اسماً للسورة فما بعده خبره ، وإن كان وارداً على سبيل التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله : { كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب . والإِشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن . ومعنى { أحكمت } نظمت نظماً رصيناً من غير نقض ونقص ، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيماً . أو منعت من الفساد والبطلان من قوله : أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح . أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع ، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير . { ثم فصلت } كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص ، لكل معنى من هذه المعاني من هذه المعاني فصل انفرد به . أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية وآية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد .

ومعنى « ثم » التراخي في الحال كقولك : فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل . و { أحكمت } صفة كتاب . و { من لدن } صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها . وفي قوله : { حكيم خبير } لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور . احتج الجبائي بقوله : { أحكمت ثم فصلت } على كون القرآن محدثاً لأن الإحكام والتفصيل يكون بجعل جاعل ، وكذا بقوله : { من لدن } لأن القديم لا يصدر من القديم . وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي . وقوله : { ألا تعبدوا إلا الله } مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون « أن » مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل : ثم قيل للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم لا تعبدوا . وجوز في الكشاف أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله محكياً على لسان النبي صلى الله عليه وسلم يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال : ترك عبادة غير الله مثل { فضرب الرقاب } [ محمد : 4 ] والضمير في { منه } لله عز وجل حالاً من { نذير وبشير } أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد ، وبشير إن خصصتموه بذلك . ويجوز أن يكون { منه } صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه ، ويكون صلة بشير محذوفاً أي أبشركم بثوابه . ثم عطف على قوله : { أن لا تعبدوا } قوله : { وأن استغفروا } أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم . ن ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال : { ثم توبوا إليه } فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار ، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب ، فلهذا قدم الاستغفار على التوبة . وقيل استغفروا أي توبوا ثم قال : { توبوا } أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها . وقيل : استغفرا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب . وقيل : استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة . وقيل : الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في إزالة ما لا ينبغي ، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس . ثم رتب على الامتثال أمرين : الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله { فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] . سؤال : كيف الجميع بين هذا وبين قوله تعالى : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } { الزخرف : 33 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الدنيا سجن المؤمن » « البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء » ؟ وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان . والجواب الثاني أن الإِنسان إذا كان مشغولاً بطاعة الله مستغرقاً في نور معرفته وعبادته كان مبتهجاً في نفسه مسروراً في ذاته ، هيناً عليه ما فاته من اللذات العاجلة ، قانعاً بما يصيبه من الخيرات الزائلة .

الثاني قوله : { ويؤت } أي في الآخرة { كل ذي فضل فضله } أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات . وتسمية العمل الحسن فضلاً تشريف ويجوز أن يعود الضمير في { فضله } إلى الله تعالى . وفيه تنبيه على أن الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات . ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال : { وإن تولوا } أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإِخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضاً { ويذورن وراءهم يوماً ثقيلاً } [ الدهر : 27 ] . ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله : { إلى الله مرجعكم } أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه ، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله . وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر . وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة الاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزناً . اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة . ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطناً كالتولي عنها ظاهراً فقال : { ألا إنهم يثنون } يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورَّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحاً .
قال المفسرون : وههنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون { ليستخفوا منه } أي من الله . ثم كرر كلمة { ألا } تنبيهاً على وقت استخفائهم وهو { حين يستغشون ثيابهم } أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب . قال الكلبي : ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا . وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار . وقيل : إنه حقيقة ، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتلو من القرآن ، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن . ثم استأنف قوله : { يعلم ما يسرون وما يعلنون } تنبيهاً على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر . ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بكونه كافلاً لأرزاق جميع الحيوانات ضامناً لمصالحها ومهامها فضلاً وامتناناً وكرماً وإحساناً فقال : { وما من دابة } الآية . والمستقر مكانها من الأرض ، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة . وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً ، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه . وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام .

واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر . ثم إنا نرى إنساناً لا يأكل من الحال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقاً . ثم ختم الآية بقوله : { كل في كتاب مبين } أي كل واحد من الدواب . ورزقها ومستقرها ومستودعها ثابت في علم الله أو في اللوح المحفوظ . وقد ذكرنا فائدته في قوله : { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ] يروى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية ، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة ، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني . ثم أكد دلائل قدرته بقوله : { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } قال كعب الأحبار : خلق الله ياقوته خضراء ، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرض على الماء ، وقال أبو بكر الأصم : هذا كقولك : لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقاً بالآخر . وعلى هذا فيكون الآن أيضاً عرشاً على الماء . وقال في الكشاف : المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء ، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض ، وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبرا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثاً إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى . وقال أبو مسلم : العرش البناء أي الماء بناؤه للسموات كان على الماء . وقال حكماء الإسلام : المراد بالماء تحركه شبه سيلان الماء أي وكان عرشه يتحرك . وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير . أما قوله : { ليبلوكم } فالمعتزلة قالوا : اللام للتعليل ، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكفلين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه . والأشاعرة قالوا : إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلاً لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض . وإنما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك : انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن كلاماً . قال في الكشاف : الذين هم أحسن عملاً هم المتقون . وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وارءهم من الفساق والكفار تشريفاً لهم . قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين .

ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك قوله : { ولئن قلت } الآية . والإشارة في قوله : { إن هذا إلا سحر } إلى البعث أي هو باطل كبطلان السحر أو إلى القرآن لأنه الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من العبث . وقال القفال : معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا واجتذابهم إلى الانقياد لكم الدخول تحت طاعتكم . ومن قرأ { ساحر } فالإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ثم بين أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول به أخذوا في الاستهزاء وقالوا ما الذي حبسه عنا فقال : { ولئن أخرنا عنهم } الآية : والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد والمراد بها الوقت المقصود لإيقاع الموعود . وقيل : هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه كقولك : كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين . فالمراد إلى حين ينقضي أمة معدودة من الناس . وقال في الكشاف . أي جماعة من الأوقات . والعذاب عذاب الآخرة . وقيل : عذاب يوم بدر . عن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين . ومعنى { ما يحبسه } أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالاً له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله : { أَلا يوم يأتيهم } وهو متعلق بخبر ليس أي ليس العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم . واستدل به من جوز تقديم خبر ليس على ليس لأنه إذا جاز تقديم معمول الخبر عليها فتقديم الخبر عليها أولى وإلا لزم للتابع مزية على المتبوع . ثم قال : { وحاق بهم } أي أحاط بهم { ما كانوا به يستهزؤون } أراد يستعجلون ولكنه وضع { يستهزؤون } موضعه لأن استعجالهم للعذاب كان على وجه الاستهزاء . وإنما قال : { وحاق } بلفظ الماضي لأنه جعله كالواقع . ثم حكى ضعف حال الإنسان في حالتي السراء والضراء فقال : { ولئن أذقنا الإنسان } الآية . واختلف المفسرون فقيل : الإنسان مطلق بدليل صحة الاستثناء في قوله : { إلا الذين آمنوا } ولأن هذا النوع مجبول على الضعف والنقص والعجلة وقلة الثبات . وقيل : المراد الكافر ، والاستثناء منقطع واللام للعهد . وقد مر ذكر الكافر ، ، ولأن وصف اليأس والكفران والفرح المفرط بالأمور الزائلة والفخر بها لا يليق إلا بالكافر ، وذلك أنه يعتقد أن السبب في حصول تلك النعم من الأمور الاتفاقية ، فإذا زالت استبعد حدوثها مرة أخرى فيقع في اليأس الشديد ، وعند حصولها كان ينسبها إلى الاتفاق فلا يشكر الله بل يكفره ، وإذا انتقل من مكروه إلى محبوب ومن محنة إلى محنة اشتد فرحه بذلك وافتخر بها لذهوله عن السعادات الأخروية الروحانية فيظن أنه قد فاز بغاية الأماني ونهاية المقاصد . وأما المؤمن فحاله على العكس ولذلك استحق وعد الله بالمغفرة والأجر الكبير . أما تفسير الألفاظ فالإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم ، وفيه دليل على أن الإنسان لا يصبر عن أقل القليل ولا عليه ، وفيه أن جميع نعم الدنيا في قلة الاعتبار وسرعة الزوال تشبه حلم النائمين وخيالات المبرسمين .

والرحمة والنعمة من صحة أو أمن أو جدة ، ونزعها سلبها . واليؤوس والكفور بناءان للمبالغة ، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضراء مضرة كذلك . قال الواحدي لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حوراء وعوراء . والسيئات يريد بها المصائب التي ساءته . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { فلعلك تارك } قال ابن عباس : إن رؤساء مكة قالوا : إن كنت رسولاً فاجعل لنا جبال مكة ذهباً أو ائتنا بالملائكة ليشهدوا لك فخاطب الله سبحانه نبيه بقوله : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } واختلفوا في ذلك البعض فعن ابن عباس أن المشركين قالوا له : ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بكتابك . وقال الحسن : طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يترك قوله : { إن الساعة آتية } [ طه : 15 ] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول أن يترك بعض ما أوحى الله إليه لأنه ينافي المقصود من الرسالة المعتبر فيها الأمانة ، فأوّلوا الآية بأن أمثال هذه التهديدات لعلها سبب بعدم التقصير في أداء الوحي فلهذا خوطب بها ، أو لعله صلى الله عليه وسلم بين محذورين : أحدهما ترك أداء شيء من الوحي ، وثانيهما أنهم كانوا يتلقون الوحي بالطعن والاستهزاء ، فنبه بالآية على أن تحمل الضرر الثاني أهون وإذا وقع الإنسان بين مكروهين وجب أن يختار أسهلهما ، والعربي يقول لغيره إذا أراد أن يزجره : لعلك تفعل كذا أي لا تفعل . وإنما قال : { وضائق } ولم يقل وضيق { به صدرك } دلالة على أنه ضيق حادث لأنه صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً . ومعنى { أن يقولوا } مخافة أن يقولوا : { لولا أنزل } أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه . ثم بين أن حاله مقصور على النذارة لا يتخطاها الى إنزال المقترحات ، والذي أرسله هو القادر على ذلك حفيظ عليه وعلى كل شيء ، ومن كمال قدرته إنزال القرآن المعجز لدهماء المصاقع وأشار إلى ذلك بقوله : { أم يقولون } الآية . وقد مر مثله في سورة يونس . عن ابن عباس : السور العشر هي من أول القرآن إلى ههنا . واعترض عليه بأن هذه السورة مكية وبعض السورة المتقدمة عليها مدنية ، فكيف يمكن أن يشار إلى ما ليس بمنزل بعد . فالأولى أن يقال : إن التحدي وقع بمطلق السور التي تظهر فيها قوة ترتيب الكلام وتأليفه . تحداهم أوّلاً بمجموع القرآن في قوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } [ الإسراء : 88 ] الآية . وبعشر سور في هذه الآية وذلك أن العشرة أول عقد من العقود ، ثم بسورة في يونس وفي البقرة ، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه : اكتب كمثل ما أكتب فإذا عجز قال : اكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب ، فإذا ظهر عجزه عنه قال في آخر الأمر : قد اقتصرت منك على سطر واحد مثله ، ثم إذا أراد غاية المبالغة قال : قد جوزت لك أن تستعين بكل من تريد فإذا ظهر عجزه حال الانفراد وحال الاجتماع والتعاون تبين عجزه عن المعارضة على الإطلاق ولهذا قال : { فإن لم يستجيبوا } إلى معارضة القرآن أو إلى الإيمان { لكم } أي لك وللمؤمنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم ، أو الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } أي ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من النظم المعجز والاشتمال على العلوم الجمة الظاهرة الغائبة .

ومعنى الأمر راجع إلى الثبات أي اثبتوا على ما أنتم عليه من العلم واليقين بشأن القرآن ودوموا على التوحيد الذي استفدتم من القرآن أو دلكم على ذلك عجز آلهتهم عن المعارضة والإعانة . ثم ختم الآية بقوله : { فهل أنتم مسلمون } وفيه نوع من التهديد كأنه قيل للمسلمين إذا تبينتم صدق قول محمد صلى الله عليه وسلم وازددتم بصيرة وطمأنينة وجب عليكم الزيادة في الإخلاص والطاعة . وتفسير آخر وهو أن يكون الضمير في { لم يستجيبوا } لمن في { من استطعتم } والخطاب في { لكم } للمشركين ، وكذا في قوله : { فاعلموا } وفي { أنتم } والمعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنه منزل من عند الله وأن توحيده واجب . ثم رغبهم في أصل الإِسلام وهددهم على تركه بقوله : { فهل أنتم } بعد لزوم الحجة { مسلمون } ثم أوعد من كانت همته مقصورة على زينة الحياة الدنيا وكان مائلاً عن الدين جهلاً أو عناداً فقال : { من كان يريد } الآية . عن أنس أنهم اليهود والنصارى . وقيل : المنافقون كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول الغنائم فكان صلى الله عليه وسلم يسهم لهم فيها . وقال الأصم : هم منكرو البعث . وقال آخرون : هي عامة في الكافر والمسلم المرائي . وقال القاضي : المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم ، نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات المنافع . عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جامع للقرآن فيقال له : ما عملت فيه؟ فيقول : يا رب قمت فيه آناء الليل والنهار . فيقول الله : كذبت أردت أن يقال فلان قارىء . وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم أوسع عليك فماذا عملت فيه؟ فيقول : وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله : كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك . ثم يؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول : قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى : كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء . قال أبو هريرة : ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة »

وروي أن أبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى معاوية حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق فقال : صدق الله ورسوله : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } الآيتان . ثم بين أن بين طالب الدنيا وحدها وبين طالب السعادات الباقية تفاوتاً بيناً فقال : { أفمن كان } والمعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة عند الله ولا يقاربونهم؟ نظيره إذا أتاك العلماء والجهال فاستأذن الجهال للدخول قبل العلماء فتقول : الجهال ثم العلماء كلا وحاشا تريد أن العلماء ينبغي أن يدخلوا أولاً ثم الجهال . ويمكن أن يقال : التقدير أفمن كان { على بينة من ربه } كمن يريد الحياة الدنيا فحذف الخبر للعلم به ومثله { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } [ فاطر : 35 ] { أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً } [ الزمر : 9 ] واعلم أن أول هذه الآية يشتمل على ألفاظ أربعة مجملة : الأول أن هذا الذي وصفه الله بأنه على بينة من هو؟ الثاني ما المراد بالبينة؟ الثالث ما معنى يتلوه أهو من التلاوة أم من التلو؟ الرابع الشاهد من هو؟ وللمفسرين فيها أقوال : أصحها أن معنى البينة البرهان العقلي الدال على صحة الدين الحق ، والذي هو على البينة مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه ، ومعنى يتلوه يعقبه وتذكير الضمير العائد إلى البينة . بتأويل البيان والبرهان ، والمراد بالشاهد القرآن ومنه أي من الله أو من القرآن المتقدم ذكره في قوله : { أم يقولون افتراه } ، { ومن قبله كتاب موسى } أي ويتلو ذلك البرهان من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة حال كونها { إماماً } أو أعني إماماً كتاباً مؤتماً به في الدين قدوة فيه { ورحمة } ونعمة عظيمة على المنزل إليهم . والحاصل أن المعارف اليقينية المكتسبة إما أن يكون طريق اكتسابها بالحجة والبرهان ، وإما أن يكون بالوحي والإلهام ، وإذا اجتمع على بعض المطالب هذان الأمران واعتضد كل واحد منهما بالآخر كان المطلوب أوثق . ثم إذا توافقت كلمة الأنبياء على صحته بلغ المطلوب غاية القوة والوثوق ، ثم إنه حصل على تقرير صحة هذا الدين هذه الأمور الثلاثة جميعاً : البينة . وهي الدلائل العقلية اليقينية ، والشاهد وهو القرآن المستفاد من الوحي ، وكتاب موسى المشتمل على الشرائع المتقدمة عليه الصالح لاقتداء الخلف به ، وعند اجتماع هذه الأمور لم يبق لطالب الحق المنصف في صحة هذا الدين شك وارتياب .

وقيل : أفمن كان محمد صلى الله عليه وسلم ، والبينة القرآن ، ويتلوه يقرؤه شاهد هو جبرائيل نزل بأمر الله وقرأ القرآن على محمد أو شاهد من محمد هو لسانه ، أو شاهد هو بعض محمد يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أو يتلوه أي يعقب ذلك البرهان شاهد من النبي صلى الله عليه وسلم هو صورته ومخايله ، فإن من نظر إليه بعقله تفرس أنه ليس بمجنون ولا وجهه وجه كذاب ولاكاهن . وقيل : الكائن على البينة هم المؤمنون ، والبينة القرآن ، ويتلوه يعقب القرآن شاهد من الله هو محمد صلى الله عليه وسلم أو الإنجيل لأنه يعقبه في التصديق والدلالة على المطلوب وإن كان موجداً قبله ، أو ذلك الشاهد كونه القرآن واقعاً على وجه يعرف المتأمل فيه إعجازه لاشتماله على فنون الفصاحة وصنوف البلاغة إلى غير ذلك من المزايا التي قلما يخبر عنها إلا الذوق السليم : ثم مدح الكائن على البينة بقوله : { أولئك يؤمنون به } أي بالقرآن . ثم أوعد غيرهم بقوله : { ومن يكفر به من الأحزاب } يعني أهل مكة ومن انحاز معهم كاليهود والنصارى والمجوس { فالنار موعده فلا تك في مرية } في شك { منه } من القرآن أو من الموعد ، ولما أبطل بعض عادات الكفرة من شدة حرصهم على الدنيا وذلك قوله : { من كان يريد الحياة الدنيا } ومن إنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك قوله : { أفمن كان على بينة } أراد أن يبطل ما كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها شفعاء تشفع لهم فقال ، { ومن أظلم } . ثم قال : { أولئك يعرضون } لم يحمل عليهم العرض لأنهم مخصوصون بالعرض فإن العرض عام ، ولكن فائدة الحمل ترجع إلى المعطوف . أراد أنهم يعرضون فيفضحون بقول الأشهاد . ومعنى عرضهم على ربهم أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب . والسؤال أو المراد عرضهم على من يوبخ ويبكت بأمر الله من الأنبياء والمؤمنين ، أو أراد أنهم يحبسون في المواقف وتعرض أعمالهم على الرب . قال مجاهد : الأشهاد الملائكة الحفظة . وقال قتادة : هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي الناس . وقيل : هم الأنبياء لقوله : { ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] والأشهاد إما جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف . قال أبو علي : وهذا أرجح لكثرة ورود شهيد في القرآن { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضحية . وباقي الآية قد مر تفسير مثلها في « الأعراف » . { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } أي لم يكن يمكنهم أن يهربوا من عذابنا لأنه سبحانه قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالنسبة إلى القريب والبعيد والضعيف والقوي . { وما كان لهم من دون الله من أولياء } تنصرهم وتمنعهم من عقابه .

جمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة . وقيل : هذا من كلام الأشهاد والمراد أنه تعالى لو شاء عقابهم في الدنيا لعاقبهم ولكنه أراد إنظارهم وتأخيرهم إلى هذا اليوم { يضاعف لهم العذاب } من قبل الكفر والصد أي الضلال والإِضلال . { ما كانوا يستطيعون السمع } يريد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلوب وعمى البصائر . ثم إن الأشاعرة قالوا : إن ذلك بتخليق الله تعالى حيث صيرهم عاجزين ممتنعين عن الوقوف على دلائل الحق ، ويوافقه ما روي عن ابن عباس أنه قال : إنه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وذلك قوله : { ما كانوا يستطيعون } الآية . وفي الآخرة كما قال : { يدعون إلى السجود فلا يستطيعون } [ القلم : 42 ] . وقالت المعتزلة : المراد استثقالهم لاستماع الحق ونفورهم عنه كقول القائل : هذا الكلام مما لا أستطيع أن أسمعه ، وهذا الشخص لا أستطيع أن أبصره . والمراد بالأولياء الأصنام كأنه قال : الذي سموه أولياء ليسوا في الحقيقة بأولياء . ثم نفى كونهم أولياء بأنهم لا يمسعون ولا يبصرون فكيف يصلحون للولاية؟ وعلى هذا يكون قوله : { يضاعف لهم العذاب } اعتراضاً بوعيد . واعلم أنه سبحانه وصف الكفار في هذه الآيات بصفات كثيرة . الأولى { ومن أظلم ممن افترى } الثانية { أولئك يعرضون } أي في موقف الذل والهوان . الثالثة بيان الخزي والفضيحة في قوله : { ويقول الأشهاد } الرابعة اللعنة عليهم . الخامسة الصد عن سبيل الله . السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وذلك قوله : { ويبغونها عوجاً } السابعة كونهم كافرين بالآخرة . الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار { أولئك لم يكونوا } . التاسعة { وما كان لهم من دون الله من أولياء } . العاشرة مضاعفة العذاب لهم . الحادية عشرة والثانية عشرة { ما كانوا يستطيعون } الآية . الثالثة عشرة { أولئك الذين خسروا أنفسهم } وقد مر في « الأنعام » . الرابعة عشرة { وضل عنهم ما كانوا يفترون } وقد سبق في « يونس » . الخامسة عشرة { لا جرم } قال الفراء إنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً . وقال النحويون : « لا » حرف نفي وجرم أي قطع معناه لا قطع قاطع { أنهم في الآخرة هم الأخسرون } وقال الزجاج « لا » نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و « جرم » معناه كسب ، والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب لهم ذلك الفعل خسار الدارين . قال الأزهري : وهذا من أحسن ما قيل في هذه اللفظة قوله في وعد المؤمنين { وأخبتوا إلى ربهم } معناه اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع من الخبت وهي الأرض المطمئنة ، وفيه إشارة إلى أن الأعمال لا بد فيها من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله . وقيل : المراد اطمئنانهم وتصديقهم كل ما وعد الله به من الثواب وضده .

وقيل : المراد كونهم خائفين من قوع الخلل في بعض تلك الأعمال . ثم ضرب للفريقين مثلاً وهو إما تشبيهان بأن شبههما تارة بالأعمى والبصير وأخرى بالأصم والسميع ، وإما تشبيه واحد والواو لعطف الصفة على الصفة فيكون قد شبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين البصر والسمع . ولا شك أن الفريق الكافر هو الذي وصفه بالصفات الخمس عشرة ، وأما الفريق المؤمن فقيل : المراد به قوله : { أفمن كان على بينة } وقيل : المذكرون في قوله : { إن الذين آمنوا } ثم أنكر تساويهما في الأحكام والمراتب بقوله { هل يستويان مثلاً } أي تشبيهاً . وفي قوله : { أفلا تذكرون } تنبيه على أن علاج هذا العمى وهذا الصمم ممكن بتبديل الأخلاق وتغيير الأحوال بتيسير الله تعالى وتوفيقه .
التأويل : { آلر } إشارة إلى الله ، واللام الى جبرائيل ، والراء إلى الرسول . يعني ما أنزل الله على لسان جبرائيل إلى الرسول كتاب مبين من لدن حكيم خبير كقوله : { وعلمناه من لدنا } [ الكهف : 65 ] ورأس العلم اللدني أن تقول لأمتك يا محمد { أن لا تعبدوا إلا الله وأن استغفروا ربكم } مما ضاع من عمركم في غير طلب الله { ثم توبوا } ارجعوا { إليه } بقدم السلوك لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار . { يمتعكم متاعاً حسناً } هو الترقي في المقامات العلية { إلى أجل مسمى } هو حين انقضاء المقامات وابتداء درجات الوصول { ويؤت كل ذي فضل فضله } أي يؤت كل ذي صدق واجتهاد في الطلب درجات الوصول ، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات . والحاصل أن المتاع الحسن في مراتب السير إلى الله وإيتاء الفضل في درجات السير في الله . { عذاب يوم كبير } هو عذاب الانقطاع عن الله الكبير { ألا حين يستغشون } ثياب الجسمية على وجه الروح كان { يعلم ما يسرون } من حرمان النور المرشش ومن نقص الحرمان تحت ثياب القالب { وما يعلنون } من ثني الصدور { إنه عليم بذات الصدور } أي بما في الصدور من القلوب الظلمانية . { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } لأن كل حيوان له صفة مخصوصة ومزاج مخصوص وغذاؤه يجب أن يكون ملائماً لمزاجه . فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادها على الأمزجة المتعينة يخلق غذاءها موافقاً لمزاج كل منها ، ثم يهديها إلى ما هو أوفق لها { ويعلم مستقرها } في العدم كيف قدرها مستعدة للصور المختصة بها { ومستودعها } الذي تؤول إليه عند ظهور ما فيها بالقوة إلى الفعل . { ليبلوكم } فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحك السعداء والأشقاء . { ولئن قلت } للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريقة لتحيوا بالحقيقة فإن الحياة الحقيقية تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية { ليقولن الذين كفروا } ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق الشهوات الفانية { إن هذا إلا سحر مبين } أي كلام مموه لا أصل له . { ولئن أخرنا عنهم } عذاب البعد { إلى أمة } إلى حين ظهور ذوق العذاب فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

القراآت : { إني لكم } بكسر الهمزة : نافع وابن عامر وعاصم وحمزة . والآخرون بفتحها { بادىء } بالهمزة : أبو عمرو ونصير . { الرأي } بالياء : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف { فعميت } مجهولاً مشدداً . حمزة وعلي وخلف وحفص . الباقون بضدهما { أنلزمكموها } باختلاس ضمة الميم : عباس { أجري إلا } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص { ولكني أريكم } بالفتح حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { نصحي إن } أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { بأعيننا } مدغماً . حيث كان : عباس { من كل } بالتنوين حيث كان : حفص والمفضل { مجريها } بفتح الميم بالإِمالة : حمزة وعلي وخلف وحفص { مجريها } بالضم وبالإمالة : أبو عمرو . والباقون بالضم مفخماً . { يا بني } بفتح الياء : عاصم { اركب معنا } مظهراً : عاصم وحمزة { عمل } على أنه فعل غير بالنصب : علي وسهل ويعقوب . الآخرون { عمل } غير بالرفع فيهما { تسألن } بالنون المشددة المسكورة لإدغام النون المخففة في نون الوقاية بعد حذف ياء المتكلم في الحالين : ابن عامر وقالون : بإثبات الياء في الوصل : أبو جعفر ونافع غير قالون بفتح النون المشددة : ابن كثير { تسألني } بغير نون التأكيد وإثبات الياء في الحالين سهل ويعقوب الباقون بغير ياء في الحالين { إني أعظك } { إني أعوذ } بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو .
الوقوف : { مبين } 5 لا { إلا الله } ط { أليم } 5 { الرأي } ج { كاذبين } 5 { فعيمت عليكم } ط { كارهون } 5 { مالاً } ط { آمنوا } ط { تجهلون } 5 { طردتهم } ط { تذكرون } 5 { خيراً } ط { أنفسهم } ج { الظالمين } 5 { الصادقين } 5 { بمعجزين } 5 { أن يغويكم } ط { ترجعون } 5 ط { افتراه } ط { تجرمون } 5 { يفعلون } 5 ج للآية والعطف { ظلموا } ج لا حتمال التعليل . { مغرقون } 5 { سخروا منه } 5 { تسخرون } 5 ط { تعلمون } 5 لا لأن ما بعده مفعول { مقيم } 5 { التنور } 5 لا لأن ما بعده جواب « إذا » { ومن آمن } ط { قليل } 5 ط { ومرساها } ط { رحيم } 5 { الكافرين } 5 { من الماء } ط ، { رحم } ج لاتفاق الجملتين مع اختلاف العامل . { المغرقين } 5 { الظالمين } 5 . { الحاكمين } 5 { من أهلك } ج { علم } ط { الجاهلين } 5 { علم } ط { الخاسرين } 5 { معك } ط { أليم } 5 { إليك } ج ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف { هذا } ط وعلى قوله : { فاصبر } أحسن للابتداء ب « أن » { للمتقين } 5 . التفسير : لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح . ومعنى { إني لكم } أي متلبساً بهذا الكلام وهو قوله : { إني لكم } فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول . و { أن لا تعبدوا } بدل من { إني لكم نذير } أي أرسلناه بأن لا تعبدوا { إلا الله } أو يكون « أن » مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير .

ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازاً . وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار . ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات . الأولى أنه بشر مثلهم . الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا : لو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم . والأراذل جمع أرذل . وقيل : جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته . ومعنى { بادي الرأي } أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية ، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر ، ومنه البادية للبرية لظهروها وبروزها للناظر . وهذا تفسير من قرأ بغير همز . وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه ، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . ويجوز أن يتعلق { بادي الرأي } بقوله : { أراذلنا } أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عياناً ، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ { إلا الذين هم أراذلنا رأي العين } وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه ، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعناً في النبوة وفي متابعة النبي . الشبهة الثالثة : { وما نرى لكم علينا من فضل } لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل { بل نظنكم كاذبين } خطاب لنوح ولمن آمن به بتبعيته ، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان . ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله : { أرأيتم إن كنت على بينة } برهان { من ربي وآتاني } بإيتاء تلك البينة { رحمة } وعلى هذا البينة هي الرحمة ، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس { فعيمت } خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم . والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازاً باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيراً اهتدوا وإن كان أعمى بقول خابطين متحيرين . ثم قال : { أنلزمكموها } أي أنكرهكم على قبول البينة { وأنتم لها كارهون } والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك . وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق . ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنياً أو فقيراً { وما أنا بطارد الذين آمنوا } عن ابن جريج أنهم قالوا : إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم ، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله { إنهم ملاقو ربهم } فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم ، أو المراد أنهم متقدون لقاء ربهم { ولكني أراكم قوماً تجهلون } لقاء ربكم وأنهم خير منكم ، أو قوماً تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذل .

ثم أكد عدم طردهم بقوله : { ويا قوم من ينصرني من الله } من يمنعني من عقابه { إن طردتهم } لأن العقل والشرع توافقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية . سؤال : إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهي عنه بقوله : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } ؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طرداً مطلقاً وإنما عين لأجلهم أوقاتاً مخصوصة ، ولأشراف قريش أوقاتاً أخرى فعوتب على ذلك القدر . احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى ، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه . وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو . ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالاً فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلاً عليهم من هذه الجهة . { ولا أعلم الغيب } حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر { ولا أقول إني ملك } أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في « الأنعام » سائر ما يتعلق بالآية . ومعنى { تزدري } تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه . وفي قوله تعالى { الله أعلم بما في أنفسهم } دلالة على أنهم كانوا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة الى النفاق { إني إذا } أي إن قلت شيئاً من ذلك كنت من الظالمين لنفسي . أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيراً مع أنه لا وقوف لي على باطنهم . ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين { يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } قال أهل المعاني : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقوله : جاد لي فلان فأكثر . لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف . وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء . ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجاب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد . وقوله : { ولا ينفعكم نصحي } كقول القائل لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز .

ولهذا قال الفقهاء : المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل : { إن كان الله يريد أن يغويكم } فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي . واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر . وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه ، ولعل نوحاً إنا قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة ، ولو تشبث الخصم بالجبر لزم إفحام النبي . ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك ، أو يراد به الخيبة كقوله : { فسوف يلقون غياً } [ مريم : 59 ] أي خيبة من خير الآخرة ، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مراراً . ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله : { هو ربكم وإليه ترجعون } ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال : { أم يقولون افتراه } فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله : { قل إن افتريته فعليّ إجرامي } أي عقاب إثمي وهو الافتراء . { وأنا بريء مما تجرمون } أي من إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وههنا إضمار كأنه قيل : لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه . وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح . وعن مقاتل أنها من قصة محمد صلى الله عليه وسلم وقعت في أثناء قصة نوح .
قوله سبحانه : { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن } إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله : { إلا من قد آمن } فإن « قد » للتوقع . وقوله : { فلا تبتئس } تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم . قال أكثر المعتزلة : إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أو في أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] إلى قوله : { إلا فاجراً كفاراً } [ نوح : 27 ] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك . وذهب كثير منهم إلى الجواز ، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح . ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء . ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال : { واصنع الفلك } وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك ، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقيل : أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً يسكنها . والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته . وقوله : { بأعيننا ووحينا } في موضع الحال أي متلبساً بذلك .

والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين : أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله : { بأعيننا } وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة . والثاني أن يكون عالماً بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها . عن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر . وقيل : المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة . ثم قال : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } أي في شأنهم . وقيل : علل عدم الخطاب بقوله : { إنهم مغرقون } أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة . وقيل : لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل . وقيل : المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه . ثم حكى الحال الماضية بقوله : { ويصنع الفلك } الحال أنه { كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } يحتمل أن يكون هذا جواباً ل « كلما » وقوله : { قال إن تسخروا } استئناف على تقدير سؤال سائل كأنه قيل : ماذا قال حينئذٍ؟ ويحتمل أن يكون { سخروا } بدلاً من { مر } أو صفة ل { ملأ } و { قال } جواب { قيل } كانوا يقولون : يا نوح كنت نبياً فصرت نجاراً ، ولو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق . وقيل : إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون . وقيل : إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون . وقيل : طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذباً فيسخرون منه فأجابهم بقوله : { إن تسخروا منا } في الحال { فإنا نسخر منكم } في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله ، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر . والبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الأغمار . وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] ثم هددهم بقوله : { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } من الدنيا وهو عذاب الغرق { ويحل عليه عذاب مقيم } في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم . و « من » موصولة أو استفهامية وقد مر في « الأنعام » . روي أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وارتفاعها ثلاثين . وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون : الأسفل للوحوش والسباع والهوام ، والأوسط للدواب والأنعام ، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزد وحمل معه جسد آدم .

وقال الحسن : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة .
قوله : { حتى إذا جاء أمرنا } هي غاية لقوله : { ويصنع الفلك } أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك . { وفار التنور } أي نبع الماء من بشدة وسرعة تشبيهاً بغليان القدر . والتنور هي التي يختبز فيها فقيل : هو ما استوى فيه العربي والعجمي . وقيل : معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء . عن ابن عباس والحسن ومجاهد : هو تنور نوح . وقيل : كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي . وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبياً . وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل . وقيل : بالهند . روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان . ويروى عن علي رضي الله عنه أيضاً أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله : { وفجرنا الأرض عيوناً } [ القمر : 12 ] وعنه أيضاً كرم الله وجهه أن معنى { فار التنور } طلع الصبح . وقيل : معناه اشتد الأمر كما يقال حمي الوطيس . والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى . فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين ، ومن قرأ بالتنوين . فالمراد حمل من كل شيء زوجين . واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلاً فيه لاحتياج الناس إليه { وأهلك } معطوف على مفعول { احمل } وكذا { من آمن } وقوله { إلا من سبق عليه القول } قال الضحاك : أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذا علم منهما ذلك . ثم قال { وما آمن معه إلا قليل } أي نفر قليل : عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحة الموصل لأنهم لما خرجوا من السفينة بنوها . وقيل : اثنان وسبعون رجلاً وامرأة ، وأولاد نوح : سام وحام ويافث ونساؤهم . فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء . وعن محمد بن إسحق كانوا عشرة ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثمانية ، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم . وقيل في بعض الروايات : إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه .
قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله { وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها } الآية . فيه أبحاث الأول : أن الركوب متعد بنفسه يقال : ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها . فما الفائدة في زيادة لفظة « في »؟ قال الواحدي : فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره .

الثاني قوله : { بسم الله } إما أن تتعلق بقوله : { اركبوا } حالاً من الواو أي مسمين الله ، أو قائلين باسم الله { ومجريها ومرسيها } مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم : جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج ، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانها . وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل ، أو بالقول المقدر . وعلى التقادير يكون مجموع قوله : { وقال اركبوا } إلى قوله : { ومرساها } كلاماً واحداً . وإما أن يكون { باسم الله مجريها ومرساها } كلاماً آخر من مبتدإ وخبر أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها . يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست . ويجوز أن يقحم الاسم كقوله : تم اسم السلام عليكما ، ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها ، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلاً ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته . وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم لله تعالى . يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت ، وأرساه غيره . يروى أنها سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم . ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعاً فأعقتها الله من الغرق . البحث الثالث قوله : { إن ربي لغفور رحيم } كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم ، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته . وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذ ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برىء من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل بلسان الحال بسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان ، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام .
قال في الكشاف : { وهي تجري بهم } متصل بمحذوف كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها { في موج كالجبال } في التراكم والارتفاع ، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج . واختلف المفسرون في قوله : { ونادى نوح ابنه } فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة الى المجاز من غير ضرورة ، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافراً كعكسه . واعترض عل هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] وأجيب بأنه كان منافقاً وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله : { ولا تكن مع الكافرين } أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء .

وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه قرأ { ونادى نوح ابنها } ويؤكد هذا الظن قوله : { إن ابني من أهلي } دون أن يقول « إنه مني » وقيل : إنه ولد على فراشه لغير رشده وإليه الإشارة بقوله تعالى { فخانتاهما } [ التحريم : 10 ] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله : { الخبيثات للخبيثين } [ النور : 26 ] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوجي مجنون . وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه . وقوله : { وكان في معزل } هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها ، أو كان في معزل عن دين أبيه . وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة ، ولكن قوله : { ولا تكن مع الكافرين } لا يساعد هذا القول . وقوله { يا بني } بكسر الياء لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة ، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء ، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين . ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال { سآوي إلى جبل } فأجاب نوح بأنه { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } واعترض عليه بأن معنى { من رحم } من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم؟ وأجيب بأن « من » فاعلة في المعنى لا مفعول ، والمراد نوح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام ، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله : { إن ربي لغفور رحيم } وهو عاصم لا معصوم ، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم ، أو العاصم بمعنى ذو العصمة كلابن وتامر . وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة ، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم { وحال بينهما الموج } أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى .
وقوله سبحانه : { وقيل يأرض } الآية . مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد ههنا بعض ما استفدنا منهم فنقول : النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية . أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها . فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي ، وأن تستوي السفينة على الجودي - وهو جبل بقرب الموصل - فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه - لكمال هيبته - العصيان ، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويراً لاقتداره ، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته وإعداماً وتغييراً وتصريفاً كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علماً يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما ، فاستعمل { قيل } بدل « أريد » مجازاً إطلاقاً للمسبب على السبب ، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته .

وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله : { يا أرض ابلعي ماءَك ويا سماء } والخطابان أيضاً على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين . وأيضاً استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ . ووجعل قرينة الاستعارة نسبه الفعل إلى المفعول ، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضاً استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة { ابلعي } لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء . ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحاً لاستعارة النداء إذ كونه مخاطباً من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال { ماءك } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك . واختار ضمير الخطاب دون أن يقول « ليبلع ماؤها » لأجل الترشيح المذكور . ثم اختار مستعيراً لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر لمثل ما تقدم في { ابلعي } من ترشيح استعارة النداء . ثم قال { وغيض الماء } غاض الماء قل ونضب ، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى { وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً } فلم يصرح بالفاعل سلوكاً لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره ، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية ، ثم ختم الكلام بالتعريض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيام الطوفان .
وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير « يا » للنداء لأنها أكثر استعمالاً ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة ، ولهذا لم يقل « يا أرضي » بالإضافة تهاوناً بالمنادى ، ولم يقل « يا أيتها الأرض » للاختصار مع الاحتراز عن تكلف التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه .

واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة ، واختير { ابلعي } على { ابتلعي } لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين { أقلعي } أوفر . وقيل : { ماءك } بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار ، وكذا في إفراد الأرض والسماء . ولم يحذف مفعول { ابلعي } لئلا يلزم تعميم الابتلاع لكل ما على الأرض . ولما علم اختصاص الفعل فيه اقتصر عليه فحذف من { أقلعي } حذراً من التطويل . وإنما لم يقل « ابلعي ماءك فبلعت » لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم . واختير { غيض } على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان ، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل ، ولأن { استوت } أخصر لسقوط همزة الوصل . ثم قيل : { بعداً للقوم } دون أن يقال « ليبعد القوم من بعد » بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك ، للتأكيد مع الاختصار ودلالة « لام » الملك على أن البعد حق لهم . وقول القائل « بعداً له » من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها . ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم . وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي ، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله : { وفار التنور } ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله : { وغيض الماء } ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله { وقضي الأمر } أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين . ثم بين حال استقرار السفينة بقوله : { واستوت على الجودي } وكان جبلاً منخفضاً فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة الماء . ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض . قيل : كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل ، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة . وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين . وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات . والظاهر أن القائل في قوله : { وقيل بعداً } هو الله تعالى لتناسب صدر الآية ، ويحتمل أن يكون القائل نوحاً وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام ، ولأنه جارٍ مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق .

وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه . وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي كالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات ، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه . { ونادى نوح ربه } أي أراد أن يدعوه { فقال رب إن ابني من أهلي } بعض سواء كان من صلبه أو رببياً له { وإن وعدك } أي كل ما تعد به { الحق } الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي { وأنت أحكم الحاكمين } أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل ، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع . { قال يا نوح إنه ليس من أهلك } أي من أهلك دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك . ثم صرح بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال : { إنه عمل غير صالح } من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملاً غير صالح وهو الإشراك والتكذيب ، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال : فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله : { غير صالح } دون أن يقول « فاسد » تعريض بل تصريح بأنه إنما نجا من نجا بالصلاح ، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في { إنه } إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح . وقيل : المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه . ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله : { فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } قال المحققون : الظاهر أن ابنه كان منافقاً فلذلك اشتبه أمره على نوح ، وحمله شفقة الأبوة أوّلاً على دعوته إلى ركوب السفينة ، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق ، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمناً فإنه يخلص من الغرق لا محالة . ولما لم يصبر إلى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلاً { رب إني أعوذ بك أن أسألك } فيما يستقبل من الزمان { ما ليس لي به علم } تأدباً بآدابك واتعاظاً بعظتك . { وألا تغفر لي } ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد ، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر ، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله :

{ ربنا ظلمنا } [ الأعراف : 23 ] الآية . فلذلك عفى عنه .
{ وقيل يا نوح اهبط } أي من السفينة بعد استوائها على الجبل ، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبساً { بسلام منا } بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات ، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفاً من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات . وقيل : أي مسلماً عليك مكرماً . والبركات الخيرات النامية الثابتة ، وفسروها في هذا المقام بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو ذريته ، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته ، دليله قوله سبحانه { وجعلنا ذريته هم الباقين } [ الصافات : 77 ] فنوح آدم الأصغر . وقيل : لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايذ والثبات لا عليك وحدك بل { وعلى أمم ممن معك } إن كان « من » للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات ، أو هم أصل الأمم التي انشعبت منه . وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر . وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال : { وأمم } وهو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم { سنمتعهم } في الدنيا { ثم يمسهم } في الآخرة { منا عذاب أليم } عن ابن زيد : هبطوا والله عنهم راض ، ثم أخرج منهم نسلاً منهم من رحم ومنهم من عذب ، وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب و { تلك } إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار . وقوله { ولا قومك } للمبالغة كقول القائل : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك . والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى . ومعنى { من قبل هذا } أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي ، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله : { فاصبر } كما صبر نوح و { إن العاقبة } الحميدة { للمتقين } .
التأويل : { ما نراك إلا بشراً مثلنا } أي مخلوقاً محتاجاً مثلنا . وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفلياً فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة ، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون { إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } والأراذل من اتباع الروح البدن والجوارح الظاهرة ، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل الجوارح بالأفعال الشرعية ، ولكن النفس الأمارة تكون على كفرها ولا تخلي البدن أن يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق .

{ وما أنا بطارد الذين آمنوا } من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح : إن ترد أن أومن بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف { من ينصرني من الله } من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة ، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون : إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة . { أفلا تذكرون } أن جميعة الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع ، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع { لن يؤتيهم الله خيراً } أي استعداداً لتحصيل الدرجات العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال { وأنا بريء مما تجرمون } من التكذيب . وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئاً من ذنوب النفس متأسفاً على معاملات النفس وتتبع هواها . { وأوحي إلى نوح } الروح { أنه لن يؤمن من قومك } وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه { إلا من قد آمن } من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه . فأما النفس فإنها لا تؤمن أبداً اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحياناً دون الإيمان { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهباً مقبولاً عند طرح الروح عليها ، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيراً عند طرح التوبة عليها { أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم ، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم { واصنع الفلك } اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } فإن الظلم من شيم النفوس { إنهم مغرقون } في بحر الدنيا وشهواتها . { وكلما مر عليه ملأ } هم النفس وهواها وصفاتها { يسخرون } من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها { حتى إذا جاء أمرنا } وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة { وفار } ماء الشهوة من تنور القالب { قلنا احمل } في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها : كالشهوة وزوجها العفة . والحرص وزوجها القناعة ، والبخل وزوجها السخاء ، والغضب وزوجه الحلم ، وكذا الحقد مع السلامة ، والعداوة مع المحبة ، والكبر مع التواضع ، والتأني مع العجلة { وأهلك } وهم صفات الروح لا النفس { ومن آمن } وهم القلب والسر . وفي قوله تعالى : { وقال اركبوا فيها باسم الله } إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتلقيد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقية كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله :

{ وأن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] { في موج } من الفتن { كالجبال ونادى نوح } الروح { ابنه } كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب { وكان في معزل } من معرفة الله وطلبه { سآوي إلى جبل } العقل { يعصمني من الماء } الفتن { لا عاصم اليوم } أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه الله بالاعتصام بسفينة الشريعة { ابلعي } ماء شهواتك { اقلعي } عن إنزال مطر الآفات { وغيض } ماء الفتن ببركة الشرع { وقضي الأمر } ما كان مقدراً من طوفان الفتن للابتلاء والتربية ، { واستوت } سفينة الشريعة { على الجودي } وهو مقام التمكين بعد مقامات التلوين { وإن وعدك الحق } وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من الرجوع إلى العالم العلوي : { إنه ليس من أهلك } وكان للروح أربعة بنين : ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل ، وواحد كافر وهو النفس . فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية { اهبط } من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن { وأمم سنمتعهم } هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية { ثم يمسهم } في الآخرة عذاب البعد عن المألوفات ، { فاصبر } على تربية الروح و النفس { إن العاقبة } لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)

القراآت : { فطرني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع والبزي غير الخزاعي { إني أشهد } بالفتح : أبو جعفر ونافع . { فإن تولوا } بتشديد التاء : البزي وابن فليح . { ويستخلف } بالجزم : الخزاز عن هبيرة . الباقون بالرفع { يومئذ } بفتح الميم وكذلك في « المعارج » : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعلي الشموني والبرجمي وعباس . الآخرون بالجر . { ألا ان ثمود } غير منصرف والوقف بغير الألف : حمزة وحفص وسهل ويعقوب . الباقون بالتنوين والوقف بالألف . { لثمود } بالتنوين في الوصل : علي . الوقوف : { هوداً } ط { غيره } ط { مفترون } 5 { أجراً } ط { فطرني } ط { تعقلون } 5 { مجرمين } 5 { بمؤمنين } 5 { بسوء } ط { تشركون } 5 لا { لا تنظرون } 5 { وربكم } ط { بناصيتها } ط { مستقيم } 5 { به إليكم } ط للاستئناف إلا لمن قرأ { ويستخلف } بالجزم { غيركم } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { شيئاً } ط { حفيظ } 5 { منا } ج لحق المحذوف أي وقد نجيناهم { غليظ } 5 ط { عنيد } 5 { ويوم القيامة } ط { ربهم } ط { هود } 5 { صالحاً } م لما مر في « الأعراف » . { غيره } ط { إليه } ط { مجيب } 5 { مريب } 5 { تخسير } 5 { قريب } 5 { أيام } ط { مكذوب } ط { يومئذٍ } ط { العزيز } 5 { جاثمين } 5 لا لكاف التشبيه { فيها } ط { ربهم } ط { لثمود } 5 .
التفسير : قد مر في « الأعراف » تفسير قوله : { وإلى عاد } الآية . ومعنى قوله : { إن أنتم إلا مفترون } أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام يحسن عبادتها مع أنها لا حس لها ولا شعور . ثم قال مثل قول نوح { يا قوم لا أسألكم عليه أجراً } لأن النصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع { أفلا تعقلون } أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء . قيل : إنما قال في قصة نوح { مالاً } دون { أجراً } لذكر الخزائن بعده ، فلفظ المال بها أليق . وحذف الواو من { يا قوم } لأنه أراد الاستئناف أو البدل دون العطف . { ويا قو م استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } قد مر مثله في أول السورة . وقال الأصم : المراد سلوه أن يغفر لكم ما تقدم لكم من إسرافكم ثم اعزموا على أن لا تعودوا إلى مثله . ثم قصد استمالتهم وترغيبهم في الإِيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأن القوم كانوا حراصاً على جميع الأموال من وجوه العمارة والزراعة مفتخرين بما أوتوا من البطش والقوة ، فقدم إليهم في باب الدعوة إلى الدين والترغيب فيه ما كانت همتهم معقودة به ليحصل في ضمنه الغرض الكلي والمقصود الأصلي وهو الفوز بالسعادات الأخروية ، وكأنه إنما خصص هذين النوعين من السعادات الدنيوية لأن الأول أصل جميع النعم ، والثاني أصل في الانتفاع بتلك النعم .

وقيل : المراد بالقوة الزيادة في المال . وقيل في النكاح . وروي أنه حبس عنهم القطر بشؤم التكذيب ثلاث سنين وأعقم نساؤهم فوعدوا أنهم إن آمنوا أحيا الله بلادهم ورزقهم المال والولد . والمدرار الكثير الدر كما مر في أول « الأنعام » . عن الحسن بن علي رضي الله عه أنه وفد على معاوية فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال لا يولد لي فقال : عليك بالاستغفار . فكان يكثر الاستغفار حتى إنه ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته مم قال ذلك؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود { ويزدكم قوة إلى قوتكم } وقول نوح { ويمددكم بأموال وبنين } [ نوح : 12 ] ثم قول هود { لا تتولوا } أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه { مجرمين } مصرين على الإِجرام والآثام . فجحدوا هوداً وقالوا ما جئتنا ببينة كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم { لولا أنزل عليه آية من ربه } [ الرعد : 27 ] ولم يشتهر منه معجزة ولكن العلماء قالوا : إظهار الدعوة مع أولئك الأقوام من غير مبالاة وتوانٍ آية من الآيات . وقوله : { عن قولك } حال من الضمير كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك { وما نحن لك بمؤمنين } لا يصدق مثلنا مثلك أبداً . ثم زعموا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء أي غشيه وأورثه الخبل والجنون لأنه كان يسب آلهتهم وذلك قولهم : { إن نقول إلا اعتراك } وإلا لغو أي ما نقول شيئاً إلا هذا القول فمن ثم يتكلم بكلام المجانين . والمراد أن الأصنام كافأته على سوء فعله بسوء الجزاء فأظهر نبي الله الجلادة والثقة بالله فيما هو بصدده وتبرأ منهم ومن شركهم فأشهد الله وذلك إشهاد صحيح . وأشهدهم أيضاً وهذا كالتهاون وقلة المبالاة بهم كقول الرجل لمن نوى قطعه بالكلية : أشهد عليَّ أني لا أحبك تهكماً به . وقد مر قوله : { فكيدوني } الآية في آخر سورة الأعراف . وقوله : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } تمثيل لغاية التسخير ونهاية التدليل ، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره . قالت المعتزلة : هذا دليل التوحيد لدلالته على أنه لا مالك إلا هو . وقوله : { إن ربي على صراط مستقيم } دليل العدل . والأشاعرة قالوا : معناه معنى . { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] أي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته هارب { فإن تولوا فقد أبلغتكم } كقول القائل إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك فيما مضى . والمراد فإن تتولوا فأنا غير معاتب ولا مقصر لأني قد قضيت حق الرسالة . وفي قوله : { ويستخلف } إشارة إلى عذاب الاستئصال وأنه يخلق بعدهم من هو أطوع منهم وأنه لا ينقص من ملكه شيئاً { إن ربي على كل شيء حفيظ } يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها ، أو يحفظني من شرككم وكيدكم ، أو يحفظني من الهلاك { والذين آمنوا معه } قيل : كانوا أربعة آلاف { برحمة منا } أي بفضل وامتنان أو بسبب ما هم فيه من الإيمان والعمل الصالح { ونجيناهم من عذاب غليظ } أطلق التنجية أوّلاً ثم قيدها على معنى وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ سموم تدخل في أفواههم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً .

ويحتمل أن يراد بالثانية النجاة من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه .
ولما ذكر قصتهم خاطب محمداً وأشار إلى قبورهم وآثارهم بقوله : { وتلك عاد } فانظروا واعتبروا . ثم استأنف وصف أحوالهم مجملة فقال : { جحدوا بآيات ربهم } فلم يتسلقوا من المعجزات إلى صدق الأنبياء ، ولم يرتقوا من الممكنات إلى وجود الواجب بالذات { وعصوا رسله } قيل : لم يرسل إليه إلا هود ، وصح الجمع لأن عصيان رسول واحد يتضمن عصيان كلهم { لا نفرق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } أطاعوا رؤساءهم وكبراءهم المتمردة والمعاندة ولهذا جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين . وفي تكرير « ألا » والنداء على كفرهم ، والدعاء عليهم بالبعد بعد إهلاكهم دلالة على تفظيع شأنهم وأنهم كانوا مستأهلين للدعاء عليهم بالهلاك ، ويحتمل أن يراد البعد من رحمة الله في الآخرة . وقوله : { قوم هود } عطف بيان لعاد إما للتأكيد ومزيد التقرير ، وإما لأن عاداً عاداً القديمة التي هي قوم هود ، والأخرى وهي إِرم . قوله في قصة ثمود { هو أنشأكم } تقديم الضمير للحصر أي لم ينشئكم إلا هو ، ومعنى الإنشاء من الأرض أن الكل مخلوق من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض . ويمكن أن يقال : إن الإنسان مخلوق من المني وهو يحصل من الغذاء والغذاء ينتهي إلى النبات ثم إلى الأرض . وقيل : إن « من » بمعنى « في » . { واستعمركم } من العمارة أي جعلكم عماراً للأرض ، وأمركم بالعمارة . فمنها واجب وندب ومباح ومكروه ، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار فعمروا الأعمار الطوال مع ما كان منهم من الظلم . فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وقيل : من العمر نحو استبقاكم من البقاء . وقيل : من العمرى . ومعناه أعمركم الله فيها دياركم ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم . أو جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنه أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لوارثه . ومعنى كونه تعالى قريباً قد مر في قوله : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ البقرة : 186 ] وذلك في « البقرة » { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً } عن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا . وقيل : كنا نظن بك الرشد والصلاح وكمال العقل وإصابة الرأي . وقيل : كنت تعطف على فقيرنا وتعيد ضعيفنا وتعود مرضانا فظننا أنك من الأنصار والأحباب وأهل الموافقة في الدين ، فكيف أظهرت العداوة والبغضاء؟ ثم أضافوا إلى هذا الكلام التمسك بالتقليد ومتابعة الآباء ، ثم صرحوا بالتوقف والريب في أمره .

ومريب من أرابه إذا أوقعه في الريبة ، أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة وهو من الإِسناد المجازي واعلم أن قوله { وإنا لفي شك } بنون الوقاية ههنا على الأصل ، وأما في سورة إبراهيم فإنما قال : { وإنا } بغير نون الوقاية لقوله بعده : { تدعوننا } [ الآية : 9 ] على الجمع فكان اجتماع النونات مستكرهاً . فأجابهم هو بقوله : { إن كنت على بينة } الآية . وبنى أمره على الفرض والتقدير لأن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول كأنه قال : قدروا أني على بينة { من ربي } وأني نبي على الحقيقة فمن يمنعني من عذاب الله { إن عصيته } في أوامره { فما تزيدونني غير تخسير } أي على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها ، أو فما تزيدونني بما تحملونني عليه إلا أني أنسبكم إلى الخسران وأقول إنكم خاسرون . والمعنى الأول أقرب لأنه كالدلالة على أن متابعتهم لا تزيده إلا خسران الدارين . { ويا قوم هذه ناقة الله } قد مر تفسيره في « الأعراف » . ومعنى { عذاب قريب } عاجل لا يستأخر إلا ثلاثة أيام و { غير مكذوب } من باب الاتساع أي غير مكذوب فيه فحذف الحرف . وأجرى الضمير مجرى المفعول به أو من باب المجاز كأن الوعد إذا أوفى به فقد صدق ولم يكذب أو المكذوب مصدر كالمجلود وصف به .
قوله : { فلما جاء أمرنا } بالفاء . وفي قصة هود بالواو ولمكان التعقيب ههنا بدليل قوله : { عذاب قريب } ومثله في قصة لوط لقوله : { أليس الصبح بقريب } [ هود : 81 ] وأما في قصة هود فإنه قال : { ويستخلف } بلفظ المستقبل ومثله في قصة شعيب { سوف تعلمون من يأتيه } بحرف التسويف فلم يكن الفاء مناسباً . واعتبر هذا المعنى في سائر المواضع كما في سورة يوسف قال : { ولما جهزهم } [ الآية : 59 ] بالواو أوّلاً لأن التعقيب لم يكن مراداً ثم قال : { فلما جهزهم } [ الآية : 70 ] لمكان التعقيب والله أعلم . قوله : { ومن خزي يومئذٍ } معطوف على محذوف والتقدير نجينا صالحاً ومن معه من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم ، أو يتعلق بمعطوف محذوف أي ونجيناهم من خزي يومئذ كما قال : { ونجيناهم من عذاب غليظ } والمعنيان كما قلنا هناك . والقراءتان في { يومئذٍ } لأن الظرف المضاف إلى « إذ » يجوز بناؤه على الفتح ، والتنوين في « إذ » عوض من المضاف إليه أعني الجملة ، والتقدير يوم إذ كان كذا وكسر الذال للساكنين { إن ربك هو القوي العزيز } القادر الغالب فمن قدرته ميز المؤمن من الكافر ، ومن عزته وقهره أهلك الكفار بالصيحة التي سمعوها من جانب السماء إما بواسطة جبرائيل وإما لإحداثها في سحاب مع برق شديد محرق . وإنما تصير الصيحة سبباً للهلاك لأن التموج الشديد في الهواء يوجب تأذي صماخ الإنسان ، وقد يتمزق غشاء الدماغ بذلك ، والأعراض النفسانية أيضاً إذا قويت أوجبت الموت وتمام القصة مذكور في سورة الأعراف ، وقوله : { ألا إن ثمود } إلى آخره . شبيه بما مر في قصة هود ، والتأويل كما مر في سورة الأعراف والله أعلم .
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

القراآت : { سلم } بكسر السين بلا ألف فيهما . حمزة وعلي { ويعقوب } بالنصب : ابن عامر وحمزة وحفص ، الآخرون بالرفع . { سيء بهم } وبابه كضرب مجهولاً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس . الآخرون { سيء } مثل { قيل } { تخزوني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل . وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل { ضيفي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { فاسر } وبابه بهمزة الوصل : أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس من طريق الموصلي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة { إلا امرأتك } بالرفع : ابن كثير وأبو عمرو . الباقون بالنصب .
الوقوف : { سلاماً } ط { حنيذ } 5 { خيفة } ط { قوم لوط } 5 ط { بإسحق } ط لمن قرأ { يعقوب } بالرفع { يعقوب } 5 { شيخاً } ط { عجيب } 5 { أهل البيت } ط { مجيد } 5 { في قوم لوط } ط { منيب } 5 { عن هذا } ج لاحتمال التعليل { أمر ربك } ج للاتبداء بأن مع اتصال المعنى . { مردود } 5 { عصيب } 5 { إليه } ج للعطف ولاختلاف النظم { السيئات } ط { ضيفي } ط { رشيد } 5 { من حق } ج لما مر { ما نريد } 5 { شديد } ه . { إلا امرأتك } ط { أصابهم } ط { الصبح } ط { بقريب } 5 { منضود } 5 لا لأن ما بعده صفة حجارة { عند ربك } ط { ببعيد } 5 .
التفسير : الرسل ههنا الملائكة ، وأجمعوا على أن الأصل فيهم جبرائيل ، ثم اختلفوا فقيل : كان معه اثناء عشر ملكاً على أحسن ما يكون من صورة الغلمان . وقال الضحاك : كانوا تسعة . وقال ابن عباس : كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرائفيل وهم الذين ذكر الله تعالى في سورة الحجر { ونبئهم عن ضيف إبراهيم } [ الآية : 51 ] وفي الذاريات { هل أتاك حديث إبراهيم } [ الآية : 24 ] والظاهر أن البشرى هي البشارة بالولد . وقيل : بهلاك قوم لوط . ومعنى { سلاماً } سلمنا عليك . ومعنى { سلام } أمركم سلام أو سلام عليكم . ولأن الرفع يدل على الثبات والاستقرار ، والنصب يدل على الحدوث لمكان تقدير الفعل . قال العلماء : إن سلام إبراهيم كان أحسن اقتداء بقوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحس منها } [ النساء : 86 ] وإنما صح وقوع { سلام } مبتدأ مع كونه نكرة لتخصصها بالإِضافة إلى المتكلم إذ أصله سلمت سلاماً فعدل إلى الرفع لإفادة الثبات . ومن قرأ { سلماً } فمعناه السلام أيضاً . قال الفراء . سلم وسلام كحل وحلال وحرم وحرام . وقال أبو علي الفارسي : يحتمل أن يراد بالسلم خلاف الحرب . قالوا : مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك فجاءته الملائكة فرأى أضيافاً لم ير مثلهم فما لبث { أن جاء } أي فما لبث في أن جاء بل عجل أو فما لبث مجيئه { بعجل } هو ولد البقرة { حنيذ } مشوي في حرفة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف . ومعناه محنوذ كطبيخ بمعنى مطبوخ .

وقيل : الحنيذ الذي يقطر دسماً لقوله : { بعجل سمين } [ الذاريات : 26 ] تقول : حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى يقطر عرقاً { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } إلى العجل أو الطعام { نكرهم } أي أنكرهم واستنكر فعلهم { وأوجس } أضمر { منهم خيفة } لأنه ما كان يعرف أنهم ملائكة وكان من عادة العرب أنه إذا نزل بهم الضيف ولم يتناول طعامهم وتوقعوا منه المكروه والشر . وقيل : إنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس ، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به شراً . وقيل : إنه كان يعرف أنهم ملائكة الله لقولهم : { لا تخف } . { وإنا أرسلنا إلى قوم لوط } لم يقولوا لا تخف إنا ملائكة بل ذكروا سبب الإرسال وهو إهلاك قوم لوط . وعلى هذا فإنما خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله أو لتعذيب قومه ، والاحتمال الأول وهو أنه كان لا يعرف أنهم ملائكة أقرب بدليل إحضاره الطعام واستدلاله بترك أكلهم على توقع الشر منهم . وإنما ذكروا سبب الإرسال إيجازاً واختصاراً لدلالة الإرسال على كونهم رسلاً لا أضافياً . وإنما أتوه على صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها لأنه كان مشغوفاً بالضيافة . وبم عرف الملائكة خوفه؟ قيل : بالتغير في وجهه أو بتعريف الله ، أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب { وامرأته } وهي سارة بنت هاران بن ناحورا بنت عم إبراهيم { قائمة } وراء الستر تسمع تحاورهم ، أو كانت قائمة على رؤوسهم تخدمهم وهو قعود { فضحكت } .
قال العلماء : لا بد للضحك من سبب فقيل : سببه السرور بزوال الخيفة . وقيل : بهلاك أهل الخبائث . وعن السدي أن إبراهيم قال لهم : ألا تأكلون؟ قالوا : إنا لا نأكل طعاماً إلا بالثمن . فقال : ثمنه أن تذكروا اسم الله على أوله وتحمدوه في آخره . فقال جبرائيل لميكائيل : حق لمصل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً ، فضحكت امرأته فرحاً بهذا الكلام . وقيل : كانت تقول لإبراهيم اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب ، ففرحت بموافقة قولهم لقولها فضحكت . وقيل : طلب إبراهيم صلى الله عليه وسلم منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي إلى مرعاه فضحكت سارة من طفرته . وقيل : ضحكت تعجباً من قوم أتاهم العذاب وهم غافلون . وقيل : تعجبت من خوف إبراهيم مع كثرة خدمه وحشمه من ثلاثة أنفس . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي فبشرناها بإسحق ، فضحكت سروراً . وعن مجاهد وعكرمة ضحكت أي حاضت ومنه ضحكت الطلعة إذا انشقت يعني استعدادها لعلوق الولد . من قرأ { يعقوب } بالرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي يعقوب مولود أو موجود بعد إسحاق ، ومن قرأ بالنصب فعلى العبارة المتروكة كأنه قيل : ووهبنا لها إسحق ومن بعد إسحق يعقوب .

أقول من المحتمل أن يكون { يعقوب } مجروراً بالعبارة الموجودة أي وبشرناها بيعقوب من بعد إسحاق وقيل : الوراء ولد الولد ووجهه أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال هاشم ويراد أولاده { يا ويلتي } كلمة تلهف وقد مرت في « المائدة » في { يا ويلتي أعجزت } [ المائدة : 31 ] و { شيخاً } نصب الحال والعامل فيه ما في هذا من معنى أنبه أو أشير { إن هذا } يعني إن تولد ولد من هرمين { لشيء عجيب } عادة فأزال الملائكة تعجبها منكرين عليها بقولهم على سبيل الاستئناف { رحمة الله وبركاته عليكم } يا أهل بيت خليل الرحمن . والمقصود أن رحمته عليكم متكاثرة وبركاته فيكم متواترة وخرق العادات في أهل بيت النبوة غير عجيب . ويحتمل أن يكون انتصاب { أهل البيت } على الاختصاص . وقيل : الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم . ثم أكدوا إزالة التعجب بقولهم : { إنه حميد } محمود في أفعاله { مجيد } ذو الكرم الكامل فلا يليق به منع الطالب عن مطلوبه . { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } الخوف الذي لحقه حين أنكر أضيافه { وجاءته البشرى } البشارة بحصول الولد { يجادلنا في قوم لوط } في معناهم وفي شأنهم وهو جواب « لما » على حكاية الحال ، أو لأن « لما » ترد المضارع إلى الماضي عكس « إن » ، ويحتمل أن يكون جواب « لما » محذوفاً دل عليه { يجادلنا } أي اجترأ على خطابنا أو قال كذا ، ثم ابتدأ فقال : { يجادلنا } وقيل : معناه أخذ يجادلنا ولا بد من حذف مضاف أي يجادل رسلنا لا بمعنى مخالفة أمر الله فإن ذلك يكون معصية بل سعياً في تأخير العذاب عنهم رجاء إيمانهم وتوبتهم . ويروى أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا : لا قال : فأربعون؟ قالوا : لا حتى بلغ العشرة قالوا لا . قال : فإن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا . فعند ذلك { قال إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لنُنَجِّيَنهُ وأهله } [ العنكبوت : 32 ] قال الأصوليون : إن إبراهيم كان يقول : إن أمر الله ورد بايصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور ، والملائكة يدعون الفور إما للقرائن أو لأن مطلق الأمر يستدعي ذلك ، فهذه هي المجادلة . أو لعل إبراهيم كان يدعي أن الأمر مشروط لم يحصل بعدوهم لا يسلمون . وبالجملة فإن العلماء يجادل بعضهم بعضاً عند التمسك بالنصوص وليس يوجب القدح في واحد منهم فكذلك ههنا ولذلك مدحه بقوله : { إن إبراهيم لحليم } غير عجول في الأمور { أوّاه } كثير التأوّه من الذنوب { منيب } راجع إلى الله في كل ما يسنح له . وهذه الصفات تدل على رقة القلب والشفقة على خلق الله حتى حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم .

ولما عرفت الملائكة أن العذاب قد حق عليهم قالوا : { يا إبراهيم أعرض عن هذا } الجدال { إنه قد جاء أمر ربك } بإهلاكهم { وإنهم آتيهم } لاحق بهم { عذاب غير مردود } فلا راد لقضائه فلا ينفع فيهم جدال ولا دعاء .
{ ولما جاءت رسلنا } المذكورون { لوطاً سيء بهم } أصله « سوىء » لأنه من ساءه يسوءه نقيض سره يسره ، نقلت الكسرة إلى الفاء وأبدلت العين ياء ، ومن قرأ { سيء } بإبدال العين ياء مكسورة فلكراهة اجتماع الواو والهمزة . { وضاق بهم ذرعاً } قال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة ، وربما قالوا ضقت بالأمر ذرعاً . { وقال هذا يوم عصيب } أي شديد من العصب الشد كأنه أريد اشتداد ما فيه من الأمور . عن ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم في غاية الحسن ، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله فساءه مجيئهم واغتم لذلك لأنه خاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم . وقيل : سبب المساءة أنه لم يكن قادراً على القيام بحق ضياقتهم لأنه ما كان يجد ما ينفق عليهم . وقيل : السبب أن قومه منعوه عن إدخال الضيف داره . وقيل : عرف أنهم ملائكة جاؤوا لإهلاك قومه فرق قلبه على قومه . والصحيح هو الأول . يروى أنه تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات . فلما مشى معهم منطلقاً به إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا : وما أمرهم؟ قال : أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملاً - يقول ذلك أربع مرات - فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها فذلك قوله : { وجاءه قومه يهرعون إليه } قال أبو عبيدة : يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضاً . وقال الجوهري : الإهراع الإسراع . وأهرع الرجل على ما لم يسم فاعله فهو مهرع إذا كان يرعد من حمى أو غضب أو فزع . وقيل : إنما لم يسم فاعله للعلم به . والمعنى أهرعه خوفه أو حرصه . ثم بين إسراعهم إنما كان لأجل العمل الخبيث فقال : { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } الفواحش فمرنوا عليها فلذلك جاؤوا مجاهرين لا يكفهم حياء . وقيل : معناه وكان لوط قد عرف عادتهم في ذلك العمل قبل ذلك فأراد أن يقي أضيافه ببناته فقال : { هؤلاء نباتي } عن قتادة : بناته من صلبه . وعن مجاهد وسعيد بن جبير : أراد نساء أمته لأن النبي كالأب لأمته . واختير هذا القول لأن عرض البنات الحقيقيات على الفجار لا يليق بذوي المروءات . ولأن اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ، ولما روي أنه لم يكن له إلا بنتان وأقل الجمع ثلاثة .

والقائلون بالقول الأول قالوا ما دعا القوم إلى الزنا بهن وإنما دعاهم إلى التزوج بهن بعد الإيمان أو مع الكفر ، فلعل تزويج المسلمات من الكفار كان جائزاً كما في أول الإسلام ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى - وهما كافران - فنسخ بقوله : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } [ البقرة : 221 ] وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ، وقيل : إن بناته كن أكثر من ثنتين . ويجوز أ يكون قد عرض البنات عليهم لا بطريق الجد بل طمعاً فيهم أن يستحيوا منه ويرقوا له . و { أطهر } بمعنى الطاهر لأنه لا طهارة في نكاح الرجال { فاتقوا الله } بإيثارهن عليهم { ولا تخزون } ولا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء . { في ضيفي } في حق أضيافي فخزي الضيف والجار يورث للمضيف العار والشنار . والضيف يستوي فيه الواحد والجمع ويجوز أن يكون مصدراً . { أليس منكم رجل رشيد } صالح أو مصلح مرشد يمنتع أو يمنع عن مثل هذا العمل القبيح .
{ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ولذلك قالوا { وإنك لتعلم ما نريد } ويجوز أن يراد إنهن لسن لنا بأزواج فلا حق لنا فيهن من حيث الشرع ومن حيث الطبع ، أو يراد إنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نؤمن ألبتة فلا يتصور لنا حق فيهن . قال لوط { لو أن لي بكم قوّة } وجوابه محذوف أي لفعلت بكم وصنعت وبالغت في دفعكم . قال أهل المعاني : حذف الجواب أبلغ لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من الدفع والمنع . والمراد لو أن لي ما أتقوى به عليكم فسمى موجب القوة بالقوة ، ويحتمل أن يريد بالقوة القدرة والطاقة { أو آوي } أنضم { إلى ركن شديد } حام منيع شبه الركن من الجبل في شدته . وقوله : { أو آوي } عطف على الفعل المقدر بعد « لو » . والحاصل أنه تمنى دفعهم بنفسه أو بمعاونة غيره ، قال ذلك من شدة القلق والحيرة في الأمر النازل به ولهذا قالت الملائكة وقد رقت عليه وحزنت له : إن ركنك لشديد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم « رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث نبي بعد ذلك إلا في ثروة من قومه » ويحتمل أن يريد بالركن الشديد حصناً يتحصن به فيأمن من شرهم ، ويحتمل أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمني حصول قوة قوية على الدفع . ثم استدرك وقال بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله .

روي أنه أغلق بابه لما جاؤوا فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } وهذه جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصل الأعداء إليه ولن يقدروا على ضرره ، فأمره الملائكة أن يفتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال سبحانه { ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم } [ القمر : 37 ] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون إن في بيت لوط سحرة . ثم بين نزول العذاب ووجه خلاص لوط وأهله فقال : { فأسر بأهلك } الباء للتعدية إن كانت الهمزة للوصل من السرى ، أو زائدة وإن كانت للقطع من الإسراء . { بقطع من الليل } عن ابن عباس : أي في آخر الليل بسحر . وقال قتادة : بعد طائفة من الليل . وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين { ولا يلتفت منكم أحد } أي لا ينظر إلى ما رواءه { إلا امرأتك } أكثر القراء على النصب فاعترض بأن الفصيح في مثله هو البدل لأن الكلام غير موجب فكيف اجتمع القراء على غير فصيح؟ فأجاب جار الله بأن الرفع بدل من { أحد } على القياس والنصب مستثنى من قوله : { فأسر } لا من قوله { لا يلتفت } وزيف بأن الاستثناء من { أسر } يقتضي كونها غير مسرى بها ، والاستثناء من { لا يلتفت } يقتضي كونها مسرياً بها لأن الالتفات بعد الإسراء فتكون مسرياً بها غير مسرى بها . ويمكن أن يجاب بأن { أسر } وإن كان مطلقاً في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات إذ المراد أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات ، فاستثن على هذا إن شئت من { أسر } وإن شئت من { لا يلتفت } ولا تناقض . وبعضهم - كابن الحاجب - جعل { إلا امرأتك } في كلتا القراءتين مستثنى من { لا يلتفت } ولم يستبعد اجتماع القراء على قراءة غير الأقوى . ويمكن أن يقال : إنما اجتمعوا على النصب ليكون استثناء من { أسر } إذ لو جعل استثناء من { لا يلتفت } لزم أن تكون مأمورة بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم إلا زيد كان ذلك أمراً لزيد بالقيام اللهم إلا أن يجعل الاستثناء منقطعاً على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم ، وإذا كان هذا الاستثناء منقطعاً كان التفاتها موجباً للمعصية . قاله في الكشاف . وروي أنه أمر أن يخلفها مع قومها فلم يسر بها . واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين . أقول : في هذا الكلام خلل لا يمكن اجتماعهما على الصحة ، والقراءتان يجب اجتماعهما على الصحة لتواتر القراآت كلها . روي أنها لما سمعت هدّة العذاب أي صوته التفتت وقالت : يا قوماه : فأدركها حجر فقتلها .

وقيل : المراد بعدم الالتفات قطع تعلق القلب عن الأصدقاء والأموال والأمتعة . فعلى هذا يصح الاستثناءان من غير شائبة التناقض كأنه أمر لوطاً أن يخرج بقومه ويترك هذه المرأة فإنها هالكة من الهالكين . ثم أمر أن يقعطوا العلائق وأخبر أن امرأته تبقى متعلقة القلب بها .
يروى أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقيل له { إن موعدهم الصبح } فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا : { أليس الصبح بقريب؟ } { فلما جاء أمرنا } بإهلاكهم { جعلنا } أي جعل رسلنا { عاليها سافلها } روي أن جبرائيل أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك لم يتبدد لهم طعام ولم يتكسر لهم إناء ، ثم قلبها دفعة وضربها على الأرض ، ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل - وهو معرب سنك وكل - كأنه مركب من حجر وطين وهو في غاية الصلابة . وقيل : سجيل أي مثل السجل وهي الدلو العظيمة أو مثلها في تضمن الأحكام الكثيرة ، وقيل : أي مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته . وقيل : أي مما كتب الله أن يعذب به أو كتب عليه أسماء المعذبين من السجل وقد سجل لفلان . وقيل : من سجين أي من جهنم فأبدلت النون لاماً . ويل : إنه اسم من أسماء السماء الدنيا . ومعنى { منضود } موضع بعضها فوق بعض في النزول يأتي على سبيل المتابعة والتلاصق . أو نضد في السماء نضداً معداً لإهلاك الظلمة وفي السماء معادنها في جبال مخصوصة كقوله : { من جبال فيها من برد } [ النور : 43 ] { مسوّمة } معلمة للعذاب أو بياض وحمرة ، عن الحسن والسدي عليها أمثال الخواتيم . وقال ابن جريج كان عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض . وقال الربيع : مكتوب على كل حجر اسم من يرمى به . وقال أبو صالح : رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع . ومعنى { عند ربك } أي في خزائنه لا يتصرف في شيء منها إلا هو ، أو مقرر في علمه إهلاك من أهلك بكل واحد منها { وما هي } أي تلك الحجارة { من الظالمين } أي من كل ظالم { ببعيد } وهو وعيد لأهل مكة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذا فقال يعني من ظالمي أمتك ما من ظالم إلا وهو بصدد سقوط الحجر عليه ساعة فساعة . وقيل : أي تلك القرى ليست ببعيدة من ظالمي أهل مكة يمرون بها في مسايرهم إلى الشام . وقيل : المراد أنها وإن كانت في السماء إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى فكانت كأنها بمكان قريب والله تعالى أعلم بمراده .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)

القراآت : { إني } بالفتح { أريكم } بالإمالة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والبزي ، وكذلك روى عن أهل مكة . { إني أخاف } { شقاقي أن } بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { وصلواتك } كما مر في سورة التوبة في قوله : { إن صلاتك سكن } { التوبة : 103 ] { توفيقي } بالفتح : أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ونافع { أرهطي } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو { بعدت ثمود } بالإظهار : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى .
الوقوف : { شعيباً } ط { غيره } ط { محيط } 5 { مفسدين } 5 { مؤمنين } ج للابتداء بالنفي مع الواو { بحفيظ } 5 { ما نشاء } ط { الرشيد } 5 { حسناً } ط { عنه } ط { ما استطعت } ط { إلا الله } ط { أنيب } 5 { صالح } ط { ببعيد } 5 { إليه } ط { ودود } 5 { ضعيفاً } ج لأن « لولا » للابتداء مع الواو { لرجمناك } ز لحق النفي وكون الواو للحال أوجه { بعزيز } 5 { من الله } ط للفصل بين الاستخبار والاخبار واتحاد المقصود وجه للوصل { ظهرياً } ط { محيط } 5 { عامل } ط { تعلمون } 5 لا { كاذب } ط للفصل بين الخير والطلب { رقيب } 5 { جاثمين } 5 لا { فيها } ط { ثمود } 5 { مبين } 5 لا لتعلق الجار { فرعون } ج للنفي مع الواو للعطف أو للحال { برشيد } 5 { النار } ط { المورود } 5 { القيامة } ط { المرفود } 5 { وحصيد } 5 { أمر ربك } ج { تتبيب } 5 { ظالمة } ط { شديد } 5 .
التفسير : نقص المكيال يشمل معنيين : بأن ينقص في الإيفاء من القدر الواجب ، ويزيد في الاستيفاء على القدر الواجب فيلزم في كلا الحالين نقصان حق الغير . ثم علل النهي بقوله : { إني أراكم بخير } أي بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف ، أو بنعمة من الله حقها أن تشكر لتزداد لا أن تكفر فتزال . { وإني أخاف عليكم } عن ابن عباس أنه فسر الخوف بالعلم . وقال آخرون : إنه الظن الغالب لأنه كان يجوز ازدجارهم وانتهاءهم . والعذاب المحيط المهلك المستأصل كأنه أحاط بهم بحيث لا ينفلت منهم أحد . وزيادة اليوم لأجل المبالغة والإِسناد المجازي باعتبار ما هو واقع فيه واشتمل عليه ذلك اليوم . قيل : هو عذاب الاستئصال في الدنيا . وقيل : عذاب الآخرة والأظهر العموم . قوله : { أوفوا المكيال } إلى قوله { أشياءهم } قد مر تفسير مثله في الأعراف . وقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } مضى تفسيره في أوائل البقرة ، بقي في الآية سؤال وهو أنه سبحانه نهى أوّلاً عن النقص ثم أمر بالإيفاء فهل فيه فائدة سوى التأكيد والتقرير؟ والجواب بعد تسليم أن النهي عن الشيء أمر بضده ، هو أن النهي عن النقص في المبايعة وإن كان يفيد تصريحة تعييراً وتوبيخاً لكنه يوهم النهي عن أصل المبايعة ، فلدفع هذا الخيال أمر بإيفاء الكيل ، ففيه إباحة أصل المبايعة ، مع التصريح بالنعت المستحسن في العقول لزيادة الترغيب .

وفي أيضاً فائدة أخرى من قبل تقييد الإيفاء بالقسط ليعلم أن ما جاوز العدل ليس بواجب بل هو فضل ومروءَة لا تقف عند حد ، وإنما الواجب شيء من الإيفاء بقدر ما يخرج عن العهدة بيقين كما أن غسل الوجه لا يحصل باليقين إلا عند غسل شيء من الرأس { بقية الله } قيل : ثواب الله . وقيل : طاعته ورضاه كقوله : { والباقيات الصالحات خير } [ الكهف : 46 ] وقيل : أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم { خير لكم } بشرط أن تؤمنوا لأن شيئاً من الأعمال لا ينفع مع الكفر إن كنتم مصدقين لي فيما أنصح لكم . ولا ريب أن الأمانة تجر الرزق لاعتماد الناس وإقبالهم عليه فينفتح له أبواب المكاسب ، والخيانة تجر الفقر لتنفر الناس عنه وعن معاملته وصحبته . قالت المعتزلة . في إضافة البقية إلى الله دليل على أن الحرام لا يسمى رزق الله . وقرىء { تقية الله } بالتاء الفوقانية أي اتقاؤه الصارف عن المعاصي والقبائح { وما أنا عليكم بحفيظ } أحفظ أعمالكم لأجازيكم إنما أنا مبلغ ناصح وقد أعذر من أنذر . قوله : { أصلاتك } قيل : أي دينك وإيمانك لأن الصلاة عماد الدين فعبر عن الشيء باسم معظم أركانه . وقيل : المراد الأتباع لأنه أصل الصلاة ومنه المصلي للذي يتلو السابق والمعنى دينك أي أتباعه يأمرك بذلك . والأظهر أن المراد به الأعمال المخصوصة يروى أن شعيباً عليه السلام كان كثير الصلاة فكان قومه إذا رأوه يصلي تغمزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم : { أصلاتك تأمرك } السخرية والهزء فكأن الصلاة التي يداوم عليها ليلاً ونهاراً هي من باب الجنون والوساوس . ومعنى { تأمرك أن نترك } تأمرك بتكليف أن نترك على حذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره . وقوله { أو أن نفعل } معطوف على ما في ما يعبد أي تأمرك صلاتك بترك ما عبد آباؤنا وبترك أن نفعل { في أموالنا ما نشاء } روي أنه كان ينهاهم عن قطع أطراف الدراهم كما كان يأمرهم بترك التطفيف والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير . { إنك لأنت الحليم الرشيد } قيل : إنه مجاز والمراد نسبته إلى غاية السفاهة والغواية فعكسوا تهكماً به . وقيل : حقيقة وإنه كان معروفاً فيما بينهم بالحلم والرشد فكأنهم قالوا له : إنك المعروف بهذه السيرة فكيف تنهانا عن دين ألفناه وسيرة تعودناها . ثم أشار عليه السلام إلى ما آتاه الله من العلم والهداية والنبوة والكرامة والرزق الحلال الحاصل من غير بخس ولا تطفيف ، وجواب الشرط محذوف اكتفي عنه بما ذكر في قصتي نوح وصالح ، والمعنى أرأيتم إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وقد آتاني بعد هذه السعادات الروحانية السعادات الدنيوية من الخيرات والمنافع الجليلة هل يسعني مع هذه الإكرامات أن أخون في وحيه ولا آمركم بترك الشرك وبفعل الطاعة والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه .

فالمعنى لا أجعل فعلي مخالفاً لقولي فلا أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها { إن أريد إلا الإصلاح } إلا أن أصلحكم بالموعظة . والنصحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . { ما استطعت } ما للمدة ظرفاً للإصلاح أي مدة استطاعتي لإصلاحكم ، أو بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته منه ، أو المضاف محذوف أي إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت ، أو مفعولاً للإصلاح فقد يعمل المصدر المعرف كقوله : ضعيف النكاية أعداءه . أي إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم . ثم بين أن كل ما يأتي ويذر فوقوعه بتسهيل الله وتأييده فقال : { وما توفيقي إلا بالله } والتوفيق أن توافق إرادة العبد إرادة الله { عليه توكلت } أخصه بتفويض الأمور إليه لأنه مبدأ المبادىء { وإليه أنيب } لأنه المعاد الحقيقي وفي ضمنه تهديد وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه . ثم أوعدهم بقوله { لا يجرمنكم شقاقي } لا يكسبنكم خلافي { إن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح } من الغرق { أو قوم هود } من الريح العقيم { أو قوم صالح } من الصيحة { وما قوم لوط منكم ببعيد } لم يقل « ببعيدة » حملاً على لفظ القوم لأنه مؤنث ، ولا « ببعيدين » حملاً على معناه ولكنه على تقدير مضاف أي وما إهلاكهم ببعيد لأنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدهم . أو المراد وما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد . وجوزوا أن يسوّى في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما . { إن ربي رحيم ودود } يجوز أن يكون بمعنى « فاعل » أو « مفعول » كقوله : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] وهذا حث لهم على الاستغفار والتوبة ، وتنبيه على أن سبق الكفر والمعصية لا ينبغي أن يمنعهم عن الإيمان والطاعة . ولما بالغ خطيب الأنبياء في التقرير والبيان { قالوا يا شعيب ما نفقهُ كثيراً مما تقول } إما لقلة الرغبة أو قالوا تهكماً واستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول . كأنهم جعلوا كلامه تخليطاً وهذياناً لا ينفعهم كثير منه . وقيل : لأنه كان ألثغ { وإنا لنراك فينا ضعيفاً } عن الحسن : مهينا أي لا عزة لك فيما بيننا ولا قوة فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً . وفسر بعضهم الضعيف بالأعمى لأن العمى سبب الضعف ، أو لأنه لغة حمير . وزيف هذا القول أما عند من جوز العمى على الأنبياء فلأن لفظة { فينا } يأباه لأن الأعمى فيهم وفي غيرهم ، وأما عند من لا يجوزه - كبعض المعتزلة - فلأن الأعمى لا يمكنه الاحتراز من النجاسات وأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً ، فلأن يمنع من النبوة كان أولى .

ثم ذكروا أنهم إنما لم يريدوا به المكروه ولم يوقعوا به الشر لأجل رهطه - والرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة - والرجم شر القتل وهو الرمي بالحجارة ، أو المراد الطرد والإبعاد ومنه الشيطان الرجيم . ثم أكدوا المذكور بقولهم { وما أنت علينا بعزيز } وإنما العزيز علينا رهطك لا خوفاً من شوكتهم ولكن لأنهم من أهل ديننا ، فالكلام واقع في فاعل العز لا في الفعل وهو العز ولذلك قال في جوابهم { أرهطي أعز عليكم من الله } ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب ، وإنما لم يقل أعز عليكم مني إيذاناً بأن التهاون بنبي الله كالتهاون بالله كقوله : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ] { واتخذتموه } أي أمر الله أو ما جئت به { وراءكم ظهرياً } منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب أي جعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر غير ملتفت إليه . ثم وصف الله تعالى بما يتضمن الوعيد في حقهم قال : { إن ربي بما تعملون محيط } . ثم زاد في الوعيد والتهديد بقوله : { اعملوا على مكانتكم } وقد مر تفسير مثله في « الأنعام » قال في الكشاف : الاستئناف يعني في { سوف تعلمون } وصل خفي تقديري وإنه أقوى من الوصل بالفاء وهو باب في أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه . ثم بالغ في التهديد بقوله : { وارتقبوا } انتظروا عاقبة الشقاق { إني معكم رقيب } راقب كالضريب بمعنى الضارب ، أو مراقب كالعشير والنديم ، أو مرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع . وباقي القصة على قياس قصة صالح وأخذ الصيحة وأخذت الصحية كلتا العبارتين فصيحة لمكان الفاصل إلا أنه لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة ومرة الظلة ومرة الصيحة ازداد التأنيث حسناً بخلاف قصة صالح . وإنما دعاه عليه بقوله : { كما بعدت ثمود } لما روى الكلبي عن ابن عباس قال : لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح . فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم . قوله سبحانه { بآياتنا وسلطان مبين } قال في التفسير الكبير : الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات المفيدة للظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين . والسلطان اسم لما يفيد القطع وإن لم يتأكد بالحس ، والسلطان المبين مخصوص بالدليل القاطع الذي يعضده الحس . وقال في الكشف : يجوز أن يراد أن الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته ، وأن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها ، وقوله : { إلى فرعون } متعلق ب { أرسلنا } { فاتبعوا أمر فرعون } أي شأنه وطريقه أو أمره إياهم بالكفر والجحود وتكذيب موسى { وما أمر فرعون برشيد } أي ليس في أمره رشد إنما فيه غي وضلال ، وفيه تعريض بأن الرشد والحق في أمر موسى .

ثم إن قومه عدلوا عن اتباعه الى اتباع من ليس في أمره رشد قط ، فلا جرم كما كان فرعون قدوة لهم في الضلال فكذلك يقدمهم أي تقدمهم يوم القيامة إلى النار وهم على أثره ، ويجوز أن يراد بالرشد الإِحماد وحسن العاقبة فيكون المعنى وما أمر فرعون بحميد العاقبة . ثم فسره بأنه { يقدم قومه } أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته . ويقال : قدمه وقدمه بالتخفيف والتشديد بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش ومثله أقدم ومنه مقدم العين . وإنما قال { فأوردهم } بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع . والورد المورود الذي وردوه ، شبّه فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء ، وشبه أتباعه بالواردة . ثم نعى عليهم بقوله : { وبئس الورد } الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده وتذكير { بئس } لتذكير الورد وإن كان هو عبارة عن النار كقولك : نعم المنزل دارك ولو قلت : نعمت جاز نظراً إلى الدار . وفي تشبيه النار بالماء نوع تهكم بهم { وأتبعوا في هذه } حذف صفته في هذه الآية اكتفاء بما مر في قصة عاد . و { بئس الرفد المرفود } أي بئس العطاء المعطى ذلك . وقيل : الرفد العون والمرفود المعان وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدت أي أعينت وأمدت باللعنة في الآخرة ، قال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان لعنة من الله والملائكة واللاعنين في الدنيا ولعنة في الآخرة . { ذلك } الذي ذكرنا أو ذلك النبأ بعض { أنباء القرى } المهلكة { نقصه عليك } خبر بعد خبر ، ثم على ساقه وبعضها عافي الأثر كالزرع المحصود { وما ظلمناهم } بإهلاكنا إياهم { ولكن ظلموا أنفسهم } بارتكاب ما به أهلكوا . عن ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله { فما أغنت } فما قدرت أن ترد { عنهم آلهتهم التي يدعون } يعبدون وهي حكاية حال ماضية بأس الله حين جاء { وما زادوهم } يعني آلهتهم { غير تتبيب } تخسير . تب خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران . كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين في الدنيا على تحصيل المنافع ودفع المضار وستنفعهم عند الله في الآخرة فلم تنفعهم في الدنيا حين جاءهم عذاب الله وسيورثهم ذلك الاعتقاد عذاب النار في الآخرة فهم في خسران الدارين . ثم بيَّن أن عذابه غير مقصور على أولئك الأقوام ولكنه يعم كل ظالم سيوجد فقال : { وكذلك } أي مثل ذلك الأخذ { أخذ ربك } فالأخذ مبتدأ وذلك خبره وقوله { وهي ظالمة } حال من القرى باعتبار أهلها { إن أخذه أليم شديد } وجيع صعب على المأخوذ وهو تحذير من وخامة عاقبة كل ظلم على الغير أو على النفس فعلى العاقل أن يبادر إلى التوبة ولا يغتر بالإمهال .
التأويل : { ولا تنقصوا } مكيال المحبة وميزان الطلب ، فمكيال المحبة عداوة ما سوى الله ، وميزان الطلب السير على قدمي الشريعة والطريقة { إني أراكم بخير } هو حسن الاستعداد الفطري وإني أخاف عذاب فساد الاستعداد في طلب غير الحق { بالقسط } في تعظيم أمرالله والشفقة على خلق الله .

{ ولا تبخسوا الناس أشياءهم } حقوق النصيحة وحسن العشرة في الله ولله { ولا تعثوا } في أرض وجودكم { مفسدين } { بقية الله } بقاؤكم ببقائه { خير لكم } مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان . { رزقاً حسناً } نوراً تاماً أراني به إصلاح الأمور والاستعدادات إن ساعدني التوفيق { وما } معاملة { قوم لوط } من معاملتكم { ببعيد } لأن الكفر كله ملة واحدة . { وما أمر فرعون برشيد } لأن فرعون النفس أمارة بالسوء . { إذا أخذ القرى } قرى الأجساد { منها قائم } قابل لتدارك ما فات . ومنها ما هو محصود بفوات الاستعداد والله تعالى أعلم بالصواب .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

القراآت : { وما يؤخره } بالياء : يعقوب والمفضل . الباقون بالنون { يوم يأتي } بإثبات الياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل . الآخرون بحذف الياء { لا تكلم } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { سعدوا } بضم السين : حمزة وعلي وخلف وحفص . قيل إنه على حذف الهمزة من « أسعدوا » لأن { سعدوا } لازم ولكنه قد جاء المسعود ، الآخرون بفتحها { وإن كلاً } بالتخفيف : ابن كثير ونافع وأبو بكر وحماد . الباقون بالتشديد . { لما } مشدداً : ابن عامر وعاصم ويزيد وحمزة و كذلك في « الطارق » . الباقون بالتخفيف { وزلفاً } بضمتين : يزيد . الآخرون بفتح اللام { فؤادك } وبابه بغير همز : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف { يرجع } مجهولاً : نافع وحفص والمفضل { تعملون } خطاباً وكذلك في آخر « النمل » : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص . الباقون على الغيبة .
الوقوف : { الآخرة } ط { مشهود } 5 { معدود } ط { بإذنه } ج لاختلاف الجملتين مع فاء التعقيب . { وسعيد } 5 { شهيق } 5 لا لأن ما يتلوه حال والعامل فيه ما في النار من معنى الفعل { شاء ربك } ط { يريد } 5 { شاء ربك } ط لأن التقدير يعطون عطاء { مجذوذ } 5 { هؤلاء } ط { من قبل } ط { منقوص } 5 { فاختلف فيه } ط { بينهم } ط { مريب } 5 { أعمالهم } ط { خيبر } 5 { ولا تطغوا } ط { بصير } 5 { النار } لا لأن ما بعده من تمام جزاء ولا تركنوا { تنصرون } 5 { من الليل } ط { السيئات } ط { للذاكرين } 5 { المحسنين } 5 { منهم } ج لأن التقدير وقد اتبع { مجرمين } 5 { مصلحون } 5 { مختلفين } 5 لا { رحم ربك } ط { خلقهم } ط { أجميعن } 5 { فؤادك } ج إذ التقدير وقد جاءك { للمؤمنين } 5 { مكانكم } ط { عاملون } 5 لا للعطف { وانتظروا } ج أي فإنا { منتظرون } ط { وتوكل عليه } ط { تعملون } 5 .
التفسير : { إن في ذلك } الذي قصصنا عليك من أحوال الأمم { لآية } لعبرة { لمن خاف } أي لمن هو أهل لأن يخاف { عذاب الآخرة } كقوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] لأن انتفاعه يعود إليهم . قال القفال - في تقرير هذا الاعتبار : إنه إذاعلم أن هؤلاء عذبوا على ذنوبهم في الدنيا وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليها في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى . واعترض عليه في التفسير الكبير بأن ظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال في الدنيا . والقفال جعل الأمر على العكس قال : والأصوب عندي أن هذا تعريض لمن زعم أن إله العالم موجب بالذات لا فاعل مختار ، وأن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء عليهم السلام مثل الغرق والخسف والصيحة إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب ، وإذا كان كذلك فلا يكون حصولها دليلاً على صدق الأنبياء عليهم السلام .

أما الذي يؤمن بالقيامة ويخاف عذابها فيقطع بأن هذه الوقائع ليست بسبب الكواكب واتصالاتها فيستفيد مزيد الخشية والاعتبار . أقول : وهذا نظر عميق والأظهر ما ذكرت أوّلاً ومثله في القرآن كثير . { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } [ النازعات : 26 ] { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } [ النحل : 13 ] ثم لما كان لعذاب الآخرة دلالة على يوم القيامة أشار إليه بقوله : { ذلك يوم مجموع } أي يجمع لما فيه من الحساب والثواب والعقاب . { الناس } وأوثر اسم المفعول على فعله لأجل إفادة الثبات وأن حشر الأولين والآخرين فيه صفة له لازمة نظيره قول المتهدد : إنك لمنهوب مالك محروب قومك . فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل { وذلك يوم مشهود } أي مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به . والفرق بين هذا الوصف والوصف الأول أن هذا يدل على حضور الناس فيه مع اطلاع البعض منهم على أحوال الباقين من المحاسبة والمساءلة ليس بحيث لا يعرف كل واحد إلا واقعة نفسه . والجمع المطلق لا يفيد هذ المعنى وإنما فسرنا اليوم بأنه مشهود فيه لا أنه مشهود في نفسه لأن سائر الأيام تشركه في كونها مشهودات . وإنما يحصل التمييز بأنه مشهود فيه دون غيره كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها { وما نؤخره إلا } لانتهاء { لأجل معدود } أي انقضاء مدة معلومة عيَّن الله وقوع الجزاء بعدها وفيه فائدتان : إحداهما أن وقت القيامة متعين لا يتقدم ولا يتأخر ، والثانية أن ذلك الأجل متناهٍ وكل منتاهٍ فإنه يفنى لا محالة وكل آتٍ قريب . ثم ذكر بعض أهوال ذلك اليوم فقال : { يوم يأت } حذف الياء والاكتفاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ، وفاعل { يأتي } قيل : الله كقوله : { أو يأتي ربك } [ الأنعام : 158 ] أي أمره أو حكمه دليله قراءة من قرأ { وما يؤخره } بالياء وقوله : { بإذنه } . وقيل : المراد الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف . وقيل : فاعله ضمير اليوم والمراد إتيان هوله وشدائده كيلا يصير اليوم ظرفاً لإتيان اليوم . وانتصاب { يوم } ب { لا تكلم } أو باذكر مضمراً أو بالانتهاء المقدر أي ينتهي الأجل يوم يأتي وتاء التأنيث محذوفة من لا تكلم ، والآيات الدالة على التكلم في ذلك اليوم مع الآيات الدالة على نفي التكلم كقوله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } { النحل : 111 ] وكقوله : { هذا يوم لا ينطقون } { المرسلات : 35 ] محمولة على اختلاف المواطن والأزمنة ، أو نفى العذر الصحيح المقبول وأثبت العذر الباطل الكاذب . ثم قسم أهل الموقف المجموعتين للحساب أو الأفراد العامة التي دلت عليها نفس فقال : { فمنهم شقي وسعيد } أي ومنه سعيد . ولا خلاف في أن الشقاء والسعادة مقترنان بالعمل الفاسد والعمل الصالح ويترتب عليهما الجنة والنار في الآخرة ، وإنما النزاع في أن العمل سبب للشقاء مثلاً كما هو مذهب المعتزلة ، أو الشقاء سبب العمل كما هو مذهب أهل السنة ، فيختلف تفسير الشقاء بحسب المذهبين فهو عند المعتزلة الحكم بوجوب النار له لإساءته ، وعند السني جريان القلم عليه في الأزل بأنه من أهل النار وأنه يعمل عمل أهل النار والتحقيق في المسألة قد مر مراراً .

قيل : قد بقي ههنا قسم آخر ليسوا من أهل النار ولا من أهل الجنة كالمجانين والأطفال فهم أصحاب الأعراف ، وتخصيص القسمين بالذكر لا يدل على نفي الثالث . أما قوله في صفة أهل النار { لهم فيها زفير وشهيق } ففيه وجوه قال الليث وكثير من الأدباء : الزفير استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه وحينئذٍ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ، والشهيق إخراج ذلك الهواء بجهد شديد من الطبيعة ، وكلتا الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم . الحاصل أنهم جعلوا الزفير بمنزلة ابتداء نهيق الحمار ، والشهيق بمنزلة آخره . وقال الحسن : إن لهب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى دركات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من النار ، فارتفاعهم في النار هو الزفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق . وقال أبو مسلم : الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس ، والشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن ، وربما يتبعها الغشية ، وربما يحصل عقيبه الموت . وقال أبو العالية : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر . وقيل : الزفير الصوت الشديد ، والشهيق الصوت الضعيف . وعن ابن عباس : لهم فيها بكاء لا ينقطع وحزن لا يندفع . وقال أهل التحقيق : قوة ميلهم إلى الدنيا ولذاتها زفير ، وضعفهم عن الاستسعاد بكمالات الروحانيات شهيق . ثم إن قوماً ذهبوا إلى أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث والمعقول . أما القرآن فقوله سبحانه : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } أي مدة بقائهما { إلا ما شاء ربك } وفي استدلالان : الأول أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض المتناهية بالاتفاق . الثاني استثناء المشيئة ويؤكد هذا النص قوله : { لابثين فيها أحقاباً } { النبأ : 23 ] وأما الحديث فما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص « ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد » وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً . وأما المعقول فهو أن العقاب ضرر خال عن النفع لا في حق الله تعالى ولا في حق المكلف فيكون قبيحاً . وأيضاً الكفر جرم متناه ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم . والجمهور من الأمة على أن عذاب الكافر دائم . وأجابوا عن الآية بأن المراد سموات الآخرة وأرضها المشار إليهما بقوله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات }

[ ابراهيم : 48 ] ولا بد لأهل الآخرة مما يظلهم ويقلهم فهما السماء والأرض ، وإذا علق حصول العذاب للكافر بوجودهما لزم الدوام . وأيضاً القرآن قد ورد على استعمالات العرب . وإنهم يعبرون عن الدوام والتأبيد بقولهم « ما دامت السموات والأرض » ونظيره قولهم : « ما اختلف الليل والنهار » . و « ما أقام ثبير وما لاح كوكب » . ويمكن أيضاً أن يقال : حاصل الآية يرجع إلى شرطية هي قولنا : إن دامت السموات والأرض دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات والأرض دائمة لزم دوام عقابهم وهو المطلوب ، وإن قلنا لكنهما لم تدوما فإنه لا ينتج مطلوب الخصم لأن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً . وبعبارة أخرى دلت الآية على أنه كلما وجدت السموات والأرض وجد عقابهم . فلو قلنا لكنهما لم يوجدا لم يلزم منه أن لا يوجد عقابهم ، أو يوجد فالآية لا تدل على حصول العقاب لهم دهراً طويلاً ومدة مديدة . وأما إنه هل يكون له آخر أم لا فذلك إنما يستفاد من دليل آخر كقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] وأما الاستدلال بالاستثناء فقد ذكر ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء أن هذا الاستثناء لا ينافي عدم المشيئة كقولك و « الله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك » وقد يكون عزمك على ضربه ألبتة وتعلم أنك لا ترى غير ذلك . وردّ بالفرق ، فإن معنى الآية الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء الله ، فالمشيئة قد حصلت جزماً . ولقائل أن يقول : المضاي ههنا في معنى الاستقبال مثل { ونادى أصحاب الأعراف } [ النساء : 48 ] { وسيق الذين اتقوا } [ الزمر : 73 ] فلم يبق فرق : وقيل : « إلا » بمعنى « سوى » أي سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له . وقال الأصم وغيره : المراد زمان مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو في الموقف . وقيل : الاستثناء يرجع إلى قوله : { لهم فيها زفير وشهيق } كأنهم يصيرون آخر الأمر إلى الهمود والخمود . وقيل : فائدة الاستثناء أن يعلم إخراج أهل التوحيد من النار والمراد إلا من شاء ربك ، وهذا التأويل إنما يليق بقاعدة الأشاعرة وأكدوه بقوله : { إن ربك فعال لما يريد } فكأنه تعالى يقول : أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد ، وليس لأحد عليّ حكم ألبتة . وأما المعتزلة فكأنهم لا يرضون بهذا ويقولون : إن الاستثناء الثاني لا يساعده لحصول الإجماع على أن أحداً من أهل الجنة لا يدخل النار . فالصواب أن يقال : إنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة ، فإن أهل النار ينقلون إلى الزمهرير وإلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، وأهل الجنة ينقلون إلى العرش أو إلى ما هو أعلى حالاً من الجنة كقوله :

{ ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] ثم قالا : إنه ختم آية الوعيد بقوله : { إن ربك فعال لما يريد } وآية الوعد بقوله : { عطاء غير مجذوذ } رعاية للمطابقة كأنه قال : إنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له والجذ القطع . وأما الجواب عن الحديث فقد قال في الكشاف : إن صح فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها . وأقول : يحتمل أن يكون الألف سبب عدم الإحساس بالعذاب بل يكون سبب الالتذاذ بالمألوف فيكون خلوّ جهنم إشارة إلى هذا المعنى . وأما الجواب عن المعقول فهو أن السير في الله ومبدأه من عالم التكاليف لما كان غير متناهٍ فعذاب البعد عنه أيضاً يجب أن يكون غير متناهٍ : أو نقول : لا نهاية لنوره فلا غاية لظلمة الغافل عنه والمنكر له . أو نقول : أوضح الأشياء الوجود الواجب فإذا كان الشخص ذاهلاً عنه كان مسلوب الاستعداد بالكلية فلا يكون إنساناً في الحقيقة ، فلا يتصور له عروج من عالم الطبيعة ، والعبارات في هذا المقام كثيرة والمعنى واحد يدركه من وفق له وخلق لأجله . ولما فرغ من أقاصيص عبدة الأصنام وبيان أحوال الأشقياء والسعداء سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن نهي له عن الامتراء في سوء مغبتهم قائلاً { فلا تك } حذف النون لكثرة الاستعمال { في مرية } في شك { مما يعبد } « ما » مصدرية أو موصولة أي من عبادة { هؤلاء } أو من الذي يعبده هؤلاء المشركون والمراد النهي عن الشك في سوء عاقبة عبادتهم . ثم علل النهي مستأنفاً فقال : { ما يعبدون إلا كما يعبد } كالذي يعبده { آباؤهم } أو كعبادة آبائهم . والحاصل أنهم شبهوا بآبائهم في لزوم الجهل والتقليد . { وإنا لموفوهم نصيبهم } من الرزق والخيرات الدنيوية أو من إزالة العذر وإزاحة العلة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ، أو نصيبهم من العذاب كما وفينا آباؤهم أنصباؤهم . وفي الكشاف أن { غير منقوص } حال من النصيب ليعلم أنه تام كامل إذ يجوز أن يوفي بعض الشيء كقولك وفيته شطر حقه . قلت : هي مغالطة لأن قول القائل : « وفيته شطر حقه » التوفية تعود إلى الشطر . فلو قيل : غير منقوص كان كالمكرر . وعاد السؤال . فالصواب أن يقال : إنه حال مؤكدة أو صفة تقوم مقام المصدر أي توفية نحو { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } [ البقرة : 60 ] أي إفساداً . ثم أورد نظيراً لإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه السلام فقال : { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } آمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف في القرآن ، والغرض أن إنكار الحق عادة قديمة للخلق { ولولا كلمة سبقت من ربك } هي أن رحمتي سبقت غضبي أو هي ان دار الجزاء الآخرة لا الدنيا أو هي أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال .

{ لقضي بينهم } بين قوم موسى أو بين قومك بتمييز المحق من المبطل بسبب الإنجاء والإهلاك وهذه من جملة التسلية أيضاً { وإنهم } يعني قوم موسى أو قومك { لفي شك منه } من كتابه أو من كتابك أو من أمر المعاد أو القضاء أو الجزاء . ثم جميع الأولين والآخرين في حكم توفية الجزاء ثواباً أ وعقاباً فقال : { وإن كلاً } التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي وإن كلهم يعني أن جميع المختلفين فيه . ومن قرأ بالتخفيف فعلى إعمال المخففة إذ لا يلزم من التخفيف إبطال العمل كما في « لم يكن » « ولم يك » . ومن قرأ « لما » مخففاً فاللام هي الداخلة في خبر « إن » و « ما » مزيدة للفصل بين لام « إن » وبين لام جواب القسم المقدر كما فصلوا بالألف بين النونات في قولهم « أضربنان » . ويمكن أن يكون « ما » نكرة أي لخلق أو جمع . والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبيح وإيمان وجحود . ومن قرأ « لما » مشدداً فأصله « لمن ما » قلبت النون ميماً فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت الأولى تخفيفاً ، وجاز حذف الأولى وإبقاء الساكنة لاتصال اللام بها . ويجوز أن يكون أصله « لما » بالتنوين - كما في قراءتي الزهري وسليمن بن أرقم - فحذف فبقى « لما » ممدوداً ومعناه ملومين أي مجموعين . وقرأ أبيّ { وإن كل لما ليوفينهم } على أن « إن » نافية و « لما » بمعن « إلا » كما في الطارق . ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات توفية الجزاء وأن شيئاً من الحقوق لا يضيع عنده . منها لفظة « إن » ، ومنها لام خبر « إن » ، ومنها « كل » ، ومنها « ما » المزيدة ، ومنها القسم ، ومنها لا القسم ، ومنها نون التأكيد ، ومنها لفظ التوفية ، ومنها ربك فإن من يربيك يقدر على توفية حقك ، ومنها الجميع المضاف ، ومنها ختم الآية بقوله : { إنه بما يعملون خبير } فإنه إذا كان عالماً بكل المعلومات قادراً على كل المقدورات كان عالماً بعمل كل احد وبمقدار جزاء عمله ، وقادراً على إيصال ذلك إليه ، ثم إن كلامه حق وصدق وقد أخبر عن التوفية مع المؤكدات المذكورة فيقع وعده ووعيده لا محالة . ثم أمر نبيه لتقتدي به أمته بكلمة جامعة للعقائد والأعمال قائلاً { فاستقم كما أمرت } عن جعفر الصادق رضي الله عنه . معناه افتقر إلى الله بصحة العزم يعني الوثوق به والتوكل عليه { ومن تاب معك } عطف على الضمير في { فاستقم } وصح للفصل أو هو ابتداء أي ومن تاب معك فليستقم أو مفعول معه .

ثم كما أمر بالاستقامة على جادّة الحق نهى عن الانحراف عنها فقال { ولا تطغوا } والطغان مجاوزة الحد . وقال ابن عباس : يريد تواضعوا للحق ولا تتكبروا على الخلق . وخصص بعضهم الطغيان بالتجاوز عن حدود القرآن بتحليل حرامه وتحريم حلاله . وهذه الآية أصل عظيم في الشريعة فيكون الترتيب في الوضوء واجباً كما ورد في القرآن ، وكذلك القول في الحدود والكفارات ونصاب الزكاة وأعداد الركعات وغيرها من جميع المأمورات والمنهيات . ويجب الاحتياط في المسائل الاجتهادية وفي القياسات . وكذا في الأخلاق والملكات وفي كل ما له طرفا إفراط وتفريط فهما مذمومان . والمحمود هو الوسط وهو الصراط المستقيم المأمور بالاستقامة والثبات عليه . ولا ريب أن معرفته صعبة وبتقدير معرفته فالعمل به والبقاء عليه أصعب ولهذا قال ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية في القرآن أشد ولا أشق من هذه حتى إن أصحابه قالوا له : لقد أسرع فيك الشيب فقال صلى الله عليه وسلم : « شيبتني هود » أعني هذه الآية منها . ثم لما كان لقرين السوء مدخل عظيم في تغيير العقائد وتبديل الأخلاق نهى عن مخالطة من يضع الشيء في غير موضعه فقال : { ولا تركنوا } أي لا تميلوا بالمحبة والهوى { إلى الذين ظلموا } فقال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة وتحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب ، فأما مداخلتهم لدفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون . أقول : هذا من طريق المعاش والرخصة ، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية { أليس الله بكاف عبده } [ الزمر : 36 ] وفي قوله : { فتمسكم النار } إشارة إلى أن الظلمة أهل النار بل هم في النار أو كالنار { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } [ البقرة : 174 ] ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار . وقوله : { وما لكم من دون الله } من تتمة الجزاء . وقال في الكشاف : الواو للحال { من أولياء } من أنصار أي لا يقدر على منعكم من عذاب الله إلا هو . { ثم لا تنصرون } ثم لا ينصركم هو أيضا . وفيه إقناط كلي . وفائدة « ثم » تبعيد النصرة من الظلم . قال أهل التحقيق : الركون الميل اليسير وقوله : { إلى الذين ظلموا } أي الذين حدث منهم الظلم . فلم يقل « ولا تميلوا إلى الظالمين » ليدل على أن قليلاً من الميل إلى من حدث منه شيء من الظلم يوجب هذا العقاب ، وإذا كان هذا حال من ركن إلى من ظلم فكيف يكون حال الظالم في نفسه؟ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « من دعا الظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه »

وقال سفيان : في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك . وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارىء على باب هؤلاء . ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هي يسقى شربة ماء؟ فقال : لا . فقيل له : يموت . فقال : دعه يموت . ثم خص من أنواع الاستقامة إقامة الصلاة تنبيهاً على شرفها فقال : { وأقم الصلاة } قيل : تمسك بعض الخوارج بهذه الآية على أن الواجب من الصلاة ليس إلا الفجر والعشاء لأنهما طرفا النهار وهما الموصوفان بكونهما زلفاً من الليل ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً . غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف وهو كثير في كلامهم ، ولئن سلم وجوب صلاة أخرى إلا أن قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } يشعر بأن إقامة الصلاة طرفي النهار كفارة لترك سائر الصلوات . وجمهور الأمة على بطلان هذا القول واستدلوا بالآية على وجوب الصلوات الخمس لأن طرفي النهار منصوب على الظرف لإضافتهما إلى الوقت فيكتسب المضاف حكم المضاف إليه كقولك « أتيته نصف النهار » والطرفان هما الغدوة وهي الفجر والعشية وفيها الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشيّ { وزلفاً } جمع زلفة كظلم وظلمة أي ساعات { من الليل } قريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه . وقرىء { زلفاً } بسكون اللام نحو « بسرة » و « بسر » . والزلف فيمن قرأ بضمتين نحو « بسر » و « يسر » .
وقيل : { زلفاً } أي قرباً فيكون معطوفاً على الصلاة أي أقم الصلاة وأقم زلفاً أي صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل . وبالجملة فصلاة الزلف والمغرب والعشاء . وقيل : إن طرفي النهار لا يشمل إلا الفجر والعصر وبه استدل على مذهب أبي حنيفة أن التنوير بالفجر أفضل وتأخير العصر أفضل ، لأن الأمة أجمعت على أن نفس الطرفين - وهما وقت الطلوع والغروب - لا يصلح لإقامة الصلاة ، فكل وقت كان أقرب إلى الطرفين كان أولى بإقامة الصلاة فيه حملاً للمجاز على ما هو أقرب إلى الحقيقة ما أمكن . هذا ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره . ولقائل أن يقول : هذا لا يتمشى في صلاة الفجر لأن الطرف الأول للنهار في الشرع هو طلوع الصبح الصادق ، والتنوير مبعد الصلاة منه لا مقرّب . ولا أدري كيف ذهب عليه هذا المعنى مع إفراط عصبيته للشافعي . واستدل أيضاً لأبي حنيفة على مذهبه في وجوب الوتر أن أقل الجمع ثلاثة فتجب إقامة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث زلف من الليل أي ثلاث ساعات ذهب نها ساعتان للمغرب والعشاء فتعين أن تكون الساعة الثالثة للوتر ، وإذا وجب عليه وجب على أمته لقوله :

{ فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] ولمانع أن يمنع أن أقل الجمع ثلاثة أشياء ، ثم إن كل ساعة لأجل صلاة ، ثم إن كل ما يجب على النبي صلى الله عليه وسلم يجب على الأمة لأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعله أعم من أن يكون على تلك الجهة أم لا . { إن الحسنات يذهبن السيئات } قال المفسرون : نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري ، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها : إن في البيت أجود من هذا . فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وأصاب منها كل ما يصيب الرجل من زوجته سوى الجماع ، ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال : أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر نزلت فقال : نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت . فقيل له : هذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له : « توضأ وضوءاً حسناً وصل ركعتين » { إن الحسنات يذهبن السيئات } قال ابن عباس : أي الصلوات الخمس كفارة لسائر الذنوب ما لم تكن كبيرة . وقيل : المراد إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . وعن مجاهد : الحسنات قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وقد يحتج بالآية على أن المعصية لا تضرّ مع الإيمان الذي هو رأس الأعمال الحسنة . { ذلك } المذكور من قوله : { فاستقم } إلى ههنا { ذكرى للذاكرين } عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشيدن . ثم أمر بالصبر على التكاليف المذكورة أمراً ونهياً ، ونص عن أن الإتيان بها إحسان وأن جزاءه سيحصل لا محالة فقال : { واصبر } الآية . ثم عاد على أحوال الأمم الخالية وبين أن السبب في حلول عذاب الاستئصال بهم أمران : الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد وذلك قوله : { فلولا } أي فهلا { كان من القرون من قبلكم أولوا بقية } ذوو خير ورشد وفضل ، وذلك أن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصارت البقية مثلاً في الجودة . يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم . ومن أمثالهم « في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا » . وجوّز في الكشاف أن يكون من البقوى كالتقية في التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه { إلا قليلاً } استثناء متصل لأن في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون ناس ناهون إلا ناساً قليلاً . ومن في { ممن أنجيبنا } للبيان أي هم الذين أنجيناهم . قال في الكشاف : لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم . ولقائل أن يقول : إذا كان النهي عن المنكر فرض كفاية لم يلزم أن تنحصر النجاة في الناهين؟ فيحتمل أن تكون من للتبعيض ويجوز - على ما في الكشاف - أن يكون الاستثناء منقطعاً معناه ولكن قليلاً ممن أنجيناه من القرون نهوا عن الفساد .

قال : ولو جعلته متصلاً على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسداً لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم . تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن : أقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من استثناء الصلحاء منهم أنه لا حاجة لهم إلى التحضيض كأنك قلت : أحضض قومك على القراءة إلا الصلحاء فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم مواظبون عليها ، على أن في جعل الاستثناء منقطعاً شبه تناقض ، لأن أول الكلام يدل على أنه لم يكن فيهم ناهٍ وآخره يدل على أن القليل منهم قد نهوا فتأمل في هذا المقام فإنه من مزلة الأقدام . السبب الثاني . في نزول العذاب قوله : { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا } ما غرقوا { فيه } من التنعيم والتترف من حيث الرياسة والثروة وأسباب العيش الهنيّ ورفضوا ما وراء ذلك مما يتعلق بأمر الدين ، فهذه الجملة معطوفة على مدلول الجملة التحضيضية أي ما كان من القرون ناس كذا واتبع الظالمون كذا . ويجوز أن يكون في الكلام إضمار والواو للحال كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاء إترافهم . والمترف الذي أبطرته النعمة ، وصبي مترف منعم البدن . وقوله : { وكانوا مجرمين } إما معترضة وإما معطوف على { اتبع } أي وكانوا مجرمين بذلك ، أو على { أترفوا } أي اتبعوا الإتراف . وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام ، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر . ثم بين أنه ما ينبغي له سبحانه أن يهلك القرى بظلم . قال أهل السنة : أي بسبب مجرد الشرك والحال أنهم مصلحون في المعاملة والعشرة فيما بينهم ، وذلك أن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة بخلاف حقوق العباد ، وهذا كما قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم . ويؤكد هذا التفسير أن عذاب الاستئصال إنما نزل بقوم لوط وشعيب لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس والإفساد في الأرض . وقالت المعتزلة قوله : { بظلم } حال من الفاعل والمعنى استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالماً لها وأهلها قوم مصلحون في العمل تنزيهاً لذاته عن الظلم وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين ظلم . ثم ذكر أن الكل بمشيئته وإرادته فقال : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } مهدية . والمعتزلة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر وقد مر مراراً . { ولا يزالون مختلفين } في الأديان والأخلاق والأفعال ، فمنهم من أنكر العلوم كلها حتى الحسيات والضروريات وهم السوفسطائية ، ومنهم من سلم استنتاج العلوم كلها والمعارف ولم يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلاً وهم الدهرية ، ومنهم من أثبت له مبدأ موجباً بالذات وهم الفلاسفة على ما أشتهر منهم ولهذا المقام تحقيق ليس ههنا موضع بيانه ، ومنهم من أنكر النبوات وهم البراهمة ، ومنهم من أثبتها وهم المسلمون والمجوس واليهود والنصارى .

وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا تكاد تدخل تحت الحصر ، وإنما لا يحمل الاختلاف في الآية على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمار بل حملناه على الاختلاف في الأديان وما يتعلق بها لأنه ينبو عن ذلك ما قبل الكلام وهو قوله : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } وما بعده وهو قوله : { إلا من رحم ربك } قالت المعتزلة : إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على الدين الحق . وقال أهل السنة : جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضاً في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص بالمؤمن مرجح لجانب الإيمان وصدوره منه فإذن الإيمان بخلق الله وتكوينه وكذا ضده . ثم قال : { ولذلك خلقهم } فاختلف العلماء في المشار إليه بذلك ، فالمعتزلة قالوا : ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان منه الاختلاف خلقهم يثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره ، أو ولما ذكر من الرحمة خلقهم . والأشاعرة قالوا : ولأجل ما ذكر من الاختلاف خلقهم لما صح في الحديث أنه خلق الجنة وخلق لها أهلاً ، وخلق النار وخلق لها أهلاً . وللدلائل الدالة على أن الكل بإيجاده وتخليقه وأن خلاف معلومه محال وإلى هذا أشار بقوله : { وتمت كلمة ربك } أي علمه وإرادته أو قوله للملائكة { لأملأن جهنم } الآية . وفرق المعتزلة بين معلومه ومراده . ثم ذكر طرفاً من فوائد القصص المذكور في السورة فقال : { وكلاً } أي وكل نبأ { نقص عليك } وقوله : { من أنباء الرسل } بيان لكل و { ما نثبت } بدل من { كلاً } أو المراد وكل نوع من الاقتصاص على أنه مصدر أي على الأساليب المختلفة نقص ، و { ما نثبت } مفعول . ومعنى تثبيت فؤاده زيادة اليقين والطمأنينة لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم ، أو المعنى تثبيت قلبه على أداء الرسالة وتحمل الأذى من قومه أسوة بسائر الأنبياء . { وجاءك في هذه } السورة أو في هذه الأنباء { الحق } وهو البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والوسط والمعاد { وموعظة } وهي الدلائل المقنعة الموقعة للتصديق بقدر الإمكان والأول للخواص أنفع والثاني للعوام أنجع . { وذكرى للمؤمنين } وهي الإرشاد إلى الأعمال الصالحة النافعة في الآخرة المحصلة لما هنالك من السعادة ، فإن حسن هذا الدين معلوم لمن رجعل إلى نفسه وعمل بمقتضى تذكره وفكره . واعلم أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل وفاعل ، وقابلها القلب وإنه ما لم يكن مستعداً لم يحصل له الانتفاع بسماع الدلائل وورودها عليه فلهذا السبب قدم ذكر إصلاح القلب وعلاجه وهو تثبيت الفؤاد ، ثم عقبه بذكر المؤثر الفاعل وهو مجيء هذه السورة بل آية منها وهي قوله : { فاستقم كما أمرت } مشتملة على الحق والموعظة والذكرى ، وهذا ترتيب في غاية الحسن .

ثم أمر بالتهديد لمن لم يؤثر فيهم هذه البيانات من أهل مكة وغيرهم فقال : { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا } وقد مر تفسير مثله في هذه السورة وفي « الأنعام » { وانتظروا } ما يعدكم الشيطان { إنا منتظرون } ما وعدنا الرحمن من الغفران والإحسان . وعن ابن عباس : انتظروا بنا الدوائر فإنا منتظرون بكم العذاب كما حل بنظرائكم . ثم ختم السورة بآية مشتملة على جميع المطالب من أمر المبدإ والوسط والمعاد وقد سبق تقريره في آخر « البقرة » في تفسير آية { آمن الرسول } [ البقرة : 285 ] فلا حاجة إلى الإعادة .
التأويل : { ما دامت السموات والأرض } أي ما دامت سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس البشرية { إلا ما شاء ربك } من الأشقياء ، وذلك أن أهل الشقاء ضربان : شقي وأشقى . فالشقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فيخلص من النار آخراً ، والأشقى وهو الكافر يبقى فيها مخلداً ، ومن أهل الجنة سعيد يبقى خالداً فيها ، وأسعد وهم الذين يترقون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر . وهناك مقام الوحدة الذي لا انقطاع له كما قال : { عطاء غير مجذوذ } { لموفوهم نصيبهم } الذي قدر لهم في الأزل من الشقاء . { ولولا كلمة سبقت من ربك } باستكمال الشقاء لقضي بينهم بالهلاك عاجلاً { لفي شك منه } إشارة إلى الضلال . وقوله : { مريب } إشارة إلى الإضلال . { وإن كلاً } أي كل واحد من الضالين ومن المضلين { فاستقم } أمر التكوين ولذلك قال : { كما أمرت } أي في الأزل ، وفي قوله : { ومن تاب معك } إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج فيحتاج إلى الرجوع من الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم إلى من اختص بالاستقامة بسبب أمر التكوين كالنبي صلى الله عليه وسلم { إن الحسنات يذهبن السيئات } يعني أن الأعمال الصالحة في الأوقات المعدودة تزيل ظلمات الأوقات المصروفة في قضاء الحوائج النفسانية الضرورية ، وذلك أن تعلق الروح النوري العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح كقوله : { والعصر إن الإنسان لفي خسر } [ العصر : 1 ] إلا أن يتداركه أنوار العمل الصالح فيرقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدة الربانية ، فتندفع عنه ظلمة الجسد السفلي مثاله : إلقاء الحبة في الأرض فإنه من خسران الحبة إلى أن يتداركه الماء وسائر الأسباب فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة . وما زاد ذلك الذي ذكرنا من التدارك عظة للذاكرين الذين يريدون أن يذكروا الله في جميع الأحوال فإنهم إذا حافظوا على هذه الأوقات فكأنهم حافظوا على جميعها لأن الإنسان خلق ضعيفاً ليس يقدر على صرف جميع الأوقات في محض العبودية والعبادة . { فلولا كان من القرون } صورة التحضيض وحقيقته السؤال ليجاب بأنه لم يكن كذلك لأنك فاعل مختار ، فعال لما تريد ، خلقت خلقاً للإقرار وخلقت خلقاً للإنكار ولا اعتراض لأحد عليك يؤديه قوله : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } طالبة للحق متوجهة إليه { ولا يزالون مختلفين } منهم من يطلب الدنيا ، ومنهم من يطلب العقبى ، ومنهم من يطلب المولى وهم المشار إليهم بقوله : { إلا من رحم ربك } { ولذلك } أي لطلب الله { خلقهم } بحسن الاستعداد ولأن رحمته سبقت غضبه ، ولكن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في الوجود وهو قوله : { وتمت كلمة ربك } جرى به القلم للضرورة وما نثبت به فؤادك التثبيت منه والتشكيك منه ، بيده مفاتيح أبواب اللطف والقهر { إنا عاملون } في طلب الحق من باب لطفه { وانتظروا } نتائج أعمالكم { إنا منتظرون } ثمرات أعمالنا { ولله غيب السموات والأرض } أي ما غاب عنكم مما أودع من لطفه في سموات القلوب ومن قهره في أرض النفوس { وإليه يرجع } أمر أهل السعادة والشقاء ومظاهر اللطف والقهر { فاعبده } أيها الطالب للحق فإنك مظهر اللطف { وتوكل عليه } في الطلب لا على طلبك فإنك إن طلبته بك لم تجده { وما ربك بغافل } في الأزل { عما تعملون } إلى الأبد والله حسبي .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)

القراآت : { يا أبت } بفتح التاء والوقف بالهاء : يزيد وابن عامر . وقرأ ابن كثير ويعقوب بكسر التاء والوقف بالهاء . الباقون بالكسر في الحالين { أحد عشر } بسكون العين : يزيد وابن عباس والخزاز { لي ساجدين } بفتح الياء : الأعشى والبرجمي { يا بني } بفتح الياء أياً كان : حفص والمفضل . الباقون بكسرها { رؤياك } بالإمالة : عليّ غير قتيبة وليث . وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة ، وقرأ يزيد وأبو عمر غير شجاع ، وورش من طريق الأصبهاني والأعشى وحمزة في الوقف بغير همزة { آية للسائلين } على التوحيد : ابن كثير : الآخرون { آيات } على الجمع . { يخل لكم } بالإدغام : شجاع من طريق أبي غالب وأبو شعيب { غيابات } وما بعده على الجمع : أبو جعفر ونافع . الباقون { غيابة } على التوحيد { لا تأمنا } بغير إشمام ضمة النون : يزيد والحلواني عن قالون . الآخرون بإشمام { الذئب } وما بعده بغير همزة : أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وخلف وعلي وحمزة في الوقف { يرتع ويلعب } بالياء فيهما وبالجزم : عاصم وحمزة وعليّ وخلف . بكسر العين في الأول : أبو جعفر ونافع . بالنون فيهما بالجزم : ابن عامر وأبو عمرو . وبكسر العين : ابن كثير سوى الهاشمي وأبي ربيعة عن قنبل فإنهما { نرتعي } بالكسر مع الياء بعده { نرتع ويلعب } بالجزم فيهما مع النون في الأول والياء في الثاني : يعقوب عن رويس { ليحزنني أن } بفتح الياء أبو جعفر ونافع وابن كثير . وقرأ نافع { ليحزنني أن } بفتح الياء أيضاً ولكن من باب الأفعال { بل سولت } وبابه مدغماً : حمزة وعلي وهشام . { يا بشرى } بالإمالة غير مضافة : حمزة وعليّ وخلف وحماد والخزاز عن هبيرة . { يا بشرى } بغير إمالة وإضافة : عاصم غير حماد والخزاز . الباقون { يا بشراي } بالإضافة إلى ياء المتكلم .
الوقوف : { آلر } قف كوفي { المبين } 5 ط كوفي أيضاً وغيرهم لا يقفون عليها لأنهم يجعلون إنا جواب معنى القسم في { آلر } { القرآن } ق والوصل أصح لأن الواو للحال { الغافلين } 5 { ساجدين } 5 { كيداً } ط { مبين } 5 { وإسحق } ط { حكيم } 5 { للسائلين } 5 { عصبة } ط { مبين } 5 ج والعربية توجب الوقف وإن قيل إن الابتداء به لا يحسن { صالحين } 5 { فاعلين } 5 { لناصحون } 5 { لحافظون } 5 { غافلون } 5 { لخاسرون } 5 { في غيابة الجب } ج لاحتمال أن يكون جواب « لما » محذوفاً والواو في { وأوحينا } للاستئناف تقديره فعلوا وأمضوا عليه ، وأن تكون الواو مقحمة والجواب { أوحينا } { لا يشعرون } 5 { يبكون } 5 ط { فأكله الذئب } ج لابتداء النفي مع واو العطف { صادقين } 5 { كذب } ط { أمراً } ط { جميل } ط { تصفون } 5 { دلوه } ط { غلام } ط { بضاعة } ط { يعملون } 5 { معدودة } ج لاحتمال الواو والحال { الزاهدين } 5 .
التفسير : قال في الكشاف : { تلك } إشارة إلى { آيات } السورة و { الكتاب المبين } السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليها في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم ، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر ، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم ، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف ، فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف .

أقول : مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال : أبان الشيء وأبان هو بنفسه { إنا أنزلناه } أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه { قرآناً عربياً } والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه . وقوله : { قرآناً عربياً } يسمى حالاً موطئة لأن المراد وصفه بالعربية . احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربياً وآيات على أن أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات . وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفس ومعنى { لعلكم تعقلون } إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم . قال الجبائي : فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه . وأجيب بأن الآية لا تدل إلا على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان العمل الصالح . قال أهل اللغة : القصص اشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً ، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية ، ثم إن كان القصص مصدراً بمعنى الاقتصاص فيكون { أحسن } مثله لإضافته إلى المصدر ، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفاً وهو الوحي لدلالة { أوحينا } عليه ، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول { أوحينا } محذوفاً كأنه قيل : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك . وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة . وحسن المنطق كونه على أبدع طريق وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاز ، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد بالنبأ والخبر المنبأ والمخبر ، فالحسن يرجع إلى القصة ولا سيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين ، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج ، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد . ويروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا . فأنزل الله عز وجل { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } [ الزمر : 23 ] ثم إنهم ملوا فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله { نحن نقص عليك أحسن القصص } كل ذلك يؤمرون بالقرآن { وإن كنت } هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة .

والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك { لمن الغافلين } عن هذ القصة أو عن الدين والشريعة { إذ قال } بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذاً قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار « اذكر » . و { يوسف } ليس عربياً على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني ، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قرىء بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضاً فقد أخطأ ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربياً تارة وأعجمياً أخرى . وهذا الخلاف روي في « يونس » أيضاً . عن النبي صلى الله عليه وسلم « الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم » قال النحويون : التاء في { يا أبت } عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف . ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو « حمامة » ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها . والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا { إني رأيت } هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له { ولا تقصص رؤياك } ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد . من قرأ { أحد عشر } بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة ، وكذا الى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان . قال في الكشاف : روى جابر أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي : إن أخبرتك هل تسلم؟ قال : نعم . قال : جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين . رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له . فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها . وأقول : إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة ، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء . وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله { وملائكته وجبريل وميكائيل } [ البقرة : 98 ] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له : كيف رأيتها؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين . والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضع الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع .

وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام : { وتراهم ينظرون إليك } [ الأعراف : 198 ] وعند الفلاسفة هم أحياء ناطقة فلا حاجة إلى العذر . عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر ، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر . وقيل : هما أبوه وخالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك . وعن وهب أن يوسف رأى - وهو ابن سبع سنين - أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة ، وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك . ثم رأى - وهو ابن اثنتي عشرة سنة - الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل . وقيل : كان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة . وقيل ثمانون . قال علماء التعبير : إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن ، والرؤيا الجيدة يبطىء أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم . قوله { فيكيدوا } منصوب بإضمار « أن » جواباً للنهي . واللام في { لك } لتأكيد الصلة مثل « نصحتك » و « نصحت لك » . وقال في الكشاف : ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف . وقيل : متعلق بالمصدر الذي بعده . ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئاً ن تعبير رؤياه فقال : { وكذلك } أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة { يجتبيك ربك } لأمور عظام . والاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ، وجبيت الماء في الحوض جمعته ، وخصص الحسن الاجتباء بالنبوة . قال في الكشاف { ويعلمك } كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل : وهو يعلمك ويتم نعمته عليك . أقول : ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر . وفي { تأويل الأحاديث } وجوه منها : أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم ، سمى التعبير تأويلاً لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك . والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث بها الناس . ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان : قال الله كذا وقال الرسول كذا . ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه . وأما إتمام النعمة فيمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعلوم والأخلاق الفاضلة ، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة ، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق ، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد ، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه ، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح .

والمراد بآل يعقوب نسله قيل : علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالاً بضوء الكواكب . واعترض بما فرط منهم في حق يوسف . وأجيب بأن ذلك قبل النبوة . وقيل : إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكاً وأنبياء و { إبراهيم وإسحاق } عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب { إن ربك عليم } بمن يستحق الاجتباء { حكيم } لا يضع الشي إلا في موضعه فلا يجعل الرسالة إلا في نفس قدسية وجوهر مشرق . قيل : حكم يعقوب بوقوع هذه الأمور دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال : { وأخاف أن يأكله الذئب } ؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطاً بعدم كيد إخوته ، ولعل قوله : { أخاف أن يأكله الذئب } كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلاً عظيماً في وجود الأشياء وحصولها { لقد كان في يوسف وإخوته } أي في قصتهم وحديثهم { آيات للسائلين } لمن سأل عن تلك القصة وعرفها ، أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم . وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف . يروى أن أسامي إخوته : يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينة - وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب - ودان ونفتالي وجاد وآشر - وهم من سريتين زلفة وبلهة - فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف . { إذ قالوا } ظرف لكان أو منصوب بإضمار « اذكر » { ليوسف } في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة . { وأخوه } أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين { أحب } إذا كان أفعل التفضيل مستعملاً بمن لم يتصرف فيه { ونحن عصبة } الواو للحال والعصبة العشرة فصاعداً لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران . لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي مهماته ونقوم بمصالحه { إن إبانا لفي ضلال مبين } أرادوا ضلالاً خاصاً وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد ، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف ، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوجب اختصاصه بمزيد البر . ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره { اقتلوا يوسف } قيل : الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعاً آمرين . والظاهر أنه قال بعضه بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم { أو اطرحوه } فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليه كقوله

{ وإذ قتلتم نفسا } [ البقرة : 72 ] وانتصب { أرضاً } على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضاً مجهولة بعيدة عن العمارة { يخل لكم وجه أبيكم } تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذرك الوجه تصويراً لإقباله عليهم بالكلية ، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف { وتكونوا } مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر { من بعده } من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب { قوماً صالحين } تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه ، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال { قال قائل منهم } هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأياً وأدباً وهو الذي قال : { فلن أبرح الأرض } [ يوسف : 80 ] { لا تقتلوا يوسف } لأن القتل عظيم ولا سيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء { وألقوه في غيابت الجب } سمى البئر جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض ، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها . ومن قرأ على الجمع فلأن للجب أقطاراً ونواحي { يلتقطه بعض السيارة } أي الرفقة السائرة قال ابن عباس : أي المارة ، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ { إن كنتم فاعلين } إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي . ثم إن يعقوب كان خائفاً على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا : { ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } ما وجد منا في بابه سوى النصح والإشفاق على الإطلاق { أرسله معنا غداً يرتع ويلعب } من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة ، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرتعي مستعاراً من ارتعاء الإبل والماشية . واللعب ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع . فمن قرأ بالياء فلا إشكال لأن الصبي لا تكليف عليه ، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله { إنا ذهبنا نستبق } سمي لعباً لأنه في صورته ، أو اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر قال صلى الله عليه وسلم لجابر : « فهلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك . » { قال إني ليحزنني } لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحال { وأخاف أن يأكله الذئب } أصله الهمز ولهذا قال بعضهم : إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة . قيل : كان أرضهم مذأبة فلذلك قال : { أخاف } . وقيل : رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق . قوله : { إنا إذاً } جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط ، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار ، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها .

كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين : أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة ، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني ، وههنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم { فلما ذهبوا به وأجمعوا } عزموا على { أن يجعلوه في غيابت الجب } قيل : هو بئر ببيت المقدس . وقيل : بأرض الأردن . وقيل : بين مصر ومدين : وقيل : على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوبٍ . ثم إن كان جواب « لما » محذوفاً ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف . قال السدي : إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء . فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه ، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخواه بالدم ويحتالوا به على أبيهم . فقال : يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً حتى ينقذوك ودلوه في البئر ، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام . وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال : يا شاهداً غير غائب ، ويا قريباً غير بعيد ، ويا غالباً غير مغلوب ، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً . وحكي أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه { وأوحينا إليه } في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى . وقيل : كان إذ ذاك بالغاً وعن الحسن كان له سبع عشر سنة { لتنبئنهم } لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك { وهم لا يشعرون } أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهئيات والأشكال . . يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس .

ويجوز أن يراد وهم لا يشعرون أنا آنسناه بالوحي وأزلنا الوحشة عن قلبه فتتعلق الجملة بقوله { وأوحينا } روي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي : يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة وما ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية . عن مقاتل : إنما جاءوا عشاء لئلا تظهر أمارة الخجل والكذب على وجوههم . ولما سمع صوتهم يعقوب فزع وقال : ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا . قال : فما لكم وأين يوسف { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل { وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق لشدة محبتك ليوسف ، وفيه دليل لمن يزعم أن الإيمان هو التصديق { ولو كنا صادقين } ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا { وجاؤوا على قميصه } نصب على الظرف أي فوق قميصه لا على الحال المتقدمة لأن حال المجرور لا تتقدم عليه { بدم كذب } ذي كذب أو دم هو الكذب بعينة مبالغة . يروى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها ، ويروى أن يعقوب لما سمع بخير يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص . وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه . وقيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات آية ليعقوب على كذبهم ، وآية حين ألقاه البشير على وجهه فارتد بصيراً ، وآية على براءة يوسف حين قدّ من دبر . ولما تبين يعقوب بالآيات المذكورة أو بالوحي أنهم كاذبون قال على سبيل الإضراب . { بل سوّلت } قال ابن عباس بل زينت { لكم أنفسهم أمراً } في شأنه وهو تفعيل من السول الأمنية . قال الأزهري : وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة . وقال في الكشاف : سوّلت سهلت من السول بفتحتين وهو الاسترخاء والتنكير دليل التعظيم { فصبر جميل } لا بد من تقدير مبتدأ أو خبر أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل . وفي الحديث أنه الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق لقوله : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] وقيل : أي لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت . يحكى أنه سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل له : ما هذا؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ قال : يا رب خطيئة فاغفرها لي . ثم بين أن الصبر على ما وصفوه من هلاك يوسف لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى فقال : { والله المستعان على ما تصفون } فالقرينتان كقوله :

{ إياك نعبد وإياك نستعين } { الفاتحة : 5 ] ويعلم من الآية أن الصبر إن كان لأجل الرضا بقضاء الله تعالى أو لاستغراقه في شهود نور الحق بحيث يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء فذلك صبر جميل وإلا فلا . واعترض بأن هذا الصبر كان فيه إعانة الظالمين وإهمال لتخليص المظلوم من المحن والشدائد والترقية فكيف جاز صبر يعقوب حتى لم يبالغ في التفتيش والتنقير ، ولو بالغ لظهر عليه الأمر لشهرته وعظم قدره؟ وأجيب بأن الله سبحانه لعله منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه ، أو لعله إن بالغ في البحث أقدموا على قتله ، أو علم أن الله تعالى يصون يوسف وسيعظم أمره بالآخرة فلم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس كقول القائل :
فإذا رميت يصيبني سهمي ... فكان الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى . ثم شرع في حكاية خلاص يوسف فقال : { وجاءت سيارة } عن ابن عباس : قوم يسيرون من مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه ، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة . وقيل : كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف . { فأرسلوا واردهم } رجلاً يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء . ومعنى الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم { فأدلى دلوه } أرسلها في البئر . قال الواحدي : فإذا نزعها وأخرجها قيل دلا يدلو . { قال يا بشرى } التقدير فظهر يوسف فقال الوارد : يا بشرى كأنه ينادي البشرى ويقول تعالي فهذا أوانك . ومتى قال الوارد هذا الكلام؟ قال جمع من المفسرين : حين رأى يوسف متعلقاً بالحبل . وقال آخرون : لما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به . قال السدي : كان للوارد صاحب يقال له بشرى فنادى يا بشرى كما يقال يا زيد . والأكثرون على أنها بمعنى البشارة . فقال أبو علي : يحتمل أن يكون منادى مضموماً مثل يا رجل وأن يكون منصوباً مثل يا رجلاً كأنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى . ومن قرأ بالإضافة فنصبه ظاهر . والضمير في { وأسروه } إما عائد إلى الوارد وأصحابه أي أخفوه من الرفقة لئلا يدعوا المشاركة في الالتقاط ، أو في الشراء إن قالوا اشتريناه . وطريق الإخفاء أنهم كتموه من الرفقة أو قالوا إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر ، وإما عائد الى إخوة يوسف بناء على ما روي عن ابن عباس أنهم قالوا للرفقة : هذا غلام لنا قد آبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، ولعل الوجه الأول أولى بدليل قوله { بضاعة } وهي نصب على الحال أي أخفوه متاعاً للتجارة . وأصل البضع القطع والبضاعة قطعة من المال للتجارة والله تعالى أعلم .

{ والله عليم بما يعملون } فيه وعيد إما للوارد وأصحابه حيث استبضعوا ما ليس لهم أو لإخوة يوسف وذلك ظاهر ، وفيه أن كيد الأعداء لا يدفع شيئاً مما علم الله من حال المرء . والضمير في قوله : { وشروه } إما أن يعود إلى الوارد وأصحابه أي باعوه { بثمن } قليل لأن الملتقط للشيء متهاون به { وكانوا فيه من الزاهدين } ممن يرغب عما في يده . قال أهل اللغة : زهد فيه معناه رغب عنه وزهد عنه معناه رغب فيه ، وإما أن يعود إلى الإخوة والمعنى باعوه ، أو إلى الرفقة والمعنى اشتروه ، وهكذا الضمير في { وكانوا } إن عاد إلى الإخوة فقلة رغبتهم في يوسف ظاهرة وإلا لم يفعلوا به ما فعلوا ، وإن عاد إلى الرفقة فذلك أنهم اعتقدوا أنه أبق فخافوا إعطاء الثمن الكثير . عن ابن عباس أن إخوته عادوا إلى الجب بعد ثلاثة أيام يتعرفون خبره ، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا : هذا عبد أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منا فباعوه منهم ، ولعلهم عرفوا أنه ولد يعقوب فكرهوا اشتراءه خوفاً من الله ومن ظهور تلك الواقعة إلا إنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة بثمن بخس أي مبخوس ناقص عن القيمة أو ناقص العيار . وقال ابن عباس : البخس هنا الحرام لأن ثمن الحر حرام دراهم لا دنانير معدودة قليلة تعد عدّاً . ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون . عن ابن عباس كانت عشرين درهماً . وعن السدي اثنين وعشرين أخذ كل واحد من الإخوة درهمين إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئاً . ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون استوثقوا منه لا يأبق . والظاهر أن الضمير في { فيه } عائد إلى يوسف . ويحتمل أن يعود إلى الثمن البخس أي أخذوا في ثمنه ما ليس يرغب فيه . قال النحويون : قوله : { فيه } ليس من متعلقات الزاهدين لأن الألف واللام فيه موصول وزاهدين صلة ، وكما لا تتقدم نفس الصلة فكذا ما هو متعلق به فلا يقال مثلاً : وكانوا زيداً من الضاربين فهو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا؟ فقيل : زهدوا فيه والله تعالى أعلم . التأويل : { تلك آيات الكتاب } دلالات كتاب المحبوب إلى المحب للهداية إلى طريق الوصال ولهذا كانت أحسن القصص لأنها أتم قصص القرآن مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان { إذ قال يوسف } القلب { لأبيه } يعقوب الروح { إني رأيت أحد عشر كوكباً } هن الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة أي المذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحسن المشترك مع المفكرة ، وبكل من هذه إضاءة أي أدراك للمعنى المناسب له وهم إخوة يوسف القلب لأنهم تولدو بازدواج يعقوب الروح وزوج النفس والشمس والقمر الروح والنفس { رأيتهم لي ساجدين } وهذا مقام كمالية الإنسان أن يصير القلب سلطاناً يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى { وكذلك يجتبيك ربك } على سائر المخلوقات وهذا كمال حسن يوسف { ويعلمك من تأويل الأحاديث } العلم اللدني المختص بالقلب { ويتم نعمته عليك } بأن يتجلى لك ويستوي لك إذ القلب عرش حقيقي للرب { وعلى آل يعقوب } أي متولدات الروح من القوى والحواس { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم } السر { وإسحاق } الخفي وبهما يستحق القلب لقبول فيض التجلي ، وهناك لله ألطاف خفية لا يتبع الإنسان فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل .

{ آيات للسائلين } عن طريق الوصول إلى الله { ليوسف } القلب { وأخوه } بنيامين الحس المشترك فإن له اختصاصاً بالقلب { أحب إلى أبينا منا } لأن القلب عرض الروح ومحل استوائه عليه ، والحس المشترك بمثابة الكرسي للعرش . { اقتلوا يوسف } القلب بسكين الهوى وبسم الميل إلى الدنيا { أو اطرحوه } في أرض البشرية { يخل لكم وجه أبيكم } يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها { وتكونوا } بعد موت القلب { قوماً صالحين } للنعم الحواني والنفساني . { قال قائل منهم } هو يهوذا القوة المفكرة { لا تقتلوا يوسف } القلب { وألقوه في غيابت الجب } القالب وسفل البشرية { يلتقطه بعض } سيارة الجواذب النفسانية . { يرتع } في المراتع البهيمية { ويلعب } في ملاعب الدنيا { وإنا له لحافظون } من فتنة الدنيا وآفاتها { لئن أكله الذئب } الشيطان { إنا إذا لخاسرون } لأن خسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامة القلب { وهم لا يشعرون } فيه إشارة إلى أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منهما القلب العلوي والنفس السفلية والحواس والقوى فيحصل التجاذب . فإن كانت الغلبة للروح سعد ، وإن كانت للنفس شقي { وجاؤوا أباهم عشاء } أي في النصف الآخر من مدّة العمر { نستبق } نتشاغل باللهو في أيام الشباب { وتركنا يوسف } أي قالب مهملاً معطلاً عن الاستكمال { فأكله } ذئب الشيطان . { وجاؤا على قميصه } أي قالب القلب { بدم كذب } هو آثار الملكات الردية ، زعموا أنها قد سرت إلى القلب وأزالت نور الإيمان عنه بالكلية . { قال } يعقوب الروح { بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل } على ما قضى الله وقدر { والله المستعان على ما تصفون } من رين القلب وموته { وجاءت سيارة } هي هبوب نفحات ألطاف الحق { فأرسلوا واردهم } وارداً من واردات الحق { فأدلى دلوه } جذبه من جذبات الرحمن { قال يا بشرى } فيه إشارة إلى أن للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب كما أن للقلب بشارة في خلاصة من جب الطبيعة كما قال تعالى : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] { والله عليم } بحكمة البشارتين و { بما يعملون } من شرائه { بثمن بخس } هو الحظوظ الفانية في أيام معدودة { وكانوا فيه من الزاهدين } لأنهم ما عرفوا قدره وإنما ميلهم إلى استجلاب المنافع الردية العاجلة والله أعلم .
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

القراآت : { هيت لك } بضم التاء وفتح الهاء : ابن كثير { هيت } بكسر الهاء وفتح التاء : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز ، الحلواني عن هشام مثل هذا لكن بضم التاء ، النجاري عن هشام . والباقون { هيت لك } بفتحتين . وسكون الياء { المخلصين } بفتح اللام حيث كان : أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف { ربي أحسن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير { من قبل } و { من دبر } بالاختلاس : عباس { قد شغفها } مدغماً : أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام { وقالت اخرج } بكسر التاء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم . الآخرون بالضم للإتباع . { حاشا لله } وما بعده في الحالين بالألف : أبو عمرو { ربي السجن } بفتح السين على أنه مصدر : يعقوب . الباقون . بالكسر .
الوقوف : { ولداً } ط { في الأرض } ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة ب { مكنا } أو هي عطف على محذوف قبله ليتمكن ولنعلمه ، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن { الأحاديث } ط { لا يعلمون } 5 { وعلماً } ط { المحسنين } 5 { هيت لك } ط { الظالمون } 5 { همت به } ز قد قيل بناء على أن قوله { وهم } جواب « لولا » وليس بصحيح لأن جواب « لولا » لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا . قال السجاوندي : وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد { وهم بها } ج { برهان ربه } ط { والفحشاء } ط { المخلصين } 5 { لدى الباب } 5 { أليم } 5 { عن نفسي } لم يذكر الأئمة عليه وقفاً ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف { وشهد } على { راودتني } أو على جملة { هي راودتني } . { من أهلها } ج على تقدير وقال إن كان { من الكاذبين } 5 { الصادقين } 5 { من كيدكن } ط { عظيم } 5 { عن هذا } سكتة للعدول عن مخاطب إلى مخاطب { لذنبك } ج لاحتمال التعليل { الخاطئين } 5 { عن نفسه } ج لأن « قد » لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل { حباً } ط { مبين } 5 { عليهن } ج { بشراً } ط { كريم } 5 { فيه } ط { فاستعصم } ط لاحتمال القسم { الصاغرين } 5 { إليه } ج للشرط مع الواو { الجاهلين } 5 { كيدهن } ط { العليم } 5 { حين } 5 .
التفسير : قد ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين ذهب به إلى مصر وباعه فاشرتاه العزيز - واسمع قطفير أو أطفير - ولم يكن ملكاً ولكنه كان يلي خزائن مصر ، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب ولم يؤمن بيوسف . روي أن العزيز اشتراه ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاثة عشرة واستوزره بعد ذلك ريان بن الوليد ثم آتاه الله الحكمة والعلم ابن ثلاث وثلاثين وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة .

وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى ، عاش أربعمائة سنة دليله قوله : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } [ غافر : 34 ] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف . والمعنى ولقد جاء آباءكم . وقيل : اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين . وقيل : أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً فابتاعه قطفير بذلك المبلغ . ومعنى { أكرمي مثواه } اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً أي حسناً مرضياً . وفي هذه العبارة دلالة على أنه عظم شأن يوسف كما يقال سلام على المجلس العالي . وقال في الكشاف : المراد تعهديه بحسن الملكة حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا . ويقال للرجل : كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل الرجل به من إنسان رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده؟ واللام في { لامرأته } تتعلق ب { قال } . ثم بين الغرض من الإكرام فقال : { عسى أن ينفعنا } بكفاية بعض مهماتنا { أو نتخذه ولداً } لأن قطفير كان لا يولد له ولد وكان حصوراً . وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه فتفرس في يوسف ما تفرس ، والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره ، وأبو بكر حين استخلف عمر . وروي أنه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه فعرفه . ثم قال : { وكذلك } أي كما أنعمنا عليه بالإنجاء من الجب وعطف قلب العزيز عليه { مكنا له } في أرض مصر حتى يتصرف فيها بالأمر والنهي { ولنعلمه } قد مر في الوقوف بيان متعلقه وفي أوائلا لسورة معنى تأويل الأحاديث . والمراد من الآية حكاية إعلاء شأن يوسف في الكمالات الحقيقية وأصولها القدرة ، وأشار إليها بقوله : { مكنا } والعلم وأشار إليه بقوله { ولنعلمه } ولا ريب أن ابتداء ذلك كان حين ألقي في الجب كما قال { وأوحينا إليه لتنبئنهم } وكان يرتقي في ذلك إلى أن بلغ حد الكمال وصار مستعداً للدعوة إلى الدين الحق وللإرسال إلى الخلق { والله غالب على أمره } أي على أمر نفسه لا منازع له ولا مدافع ، أو على أمر يوسف لم يكله إلى غيره ولم ينجح كيد إخوته فيه ولم يكن إلا ما أراد الله ودبر . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن الأمر كله بيد الله . ثم إنه سبحانه بين وقت استكمال أمره فقال : { ولما بلغ أشدّة } قيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون ، وثلاث وثلاثون وأربعون إلى ثنتين وستين { آتيناه حكماً وعلماً } فالحكم الحكمة العملية والعلم الحكمة النظرية ، وإنما قدمت العملية لأن أصحاب الرياضيات والمجاهدات يصلون أوّلاً إلى الحكمة العملية ثم إلى العلم اللدني بخلاف أصحاب الأفكار والأنظار ، والأول هو طريقة يوسف لأنه صبر على البلاء ، والمحن ففتح عليه أبواب المكاشفات ، وقيل : الحكم النبوّة لأن النبي حاكم على الخلق والعلم علم الدين .

وقيل : الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على النفس الأمارة قاهرة لها ، فحينئذٍ تفيض الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس . والتحقيق في هذا الباب أن استكمال النفس الناطقة إنما يتيسر بواسطة استعمال الآلات الجسدانية ، وفي أوان الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فتضعف تلك الآلات ، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارة الآلات صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية في تحصيل المعارف واكتساب الحقائق . فقوله { ولما بلغ أشده } إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية ، وقوله : { آتيناه حكماً وعلماً } إشارة إلى استكمال النفس الناطقة وقوة لمعان الأضواء القدسية فيها . قال في الكشاف : { وكذلك نجزي المحسنين } فيه تنبيه على أنه كان محسناً في عمله متقياً في عنفوان أمره ، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه . واعترض عليه بأن النبوة غير مكتسبة . والحق أن الكل بفضل الله ورحمته ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم في كل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار ، فالأنوار السابقة تصير سبباً للأضواء اللاحقة وهلم جراً . عن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله .
ثم إن يوسف كان في غاية الحسن والجمال ، فلما شب طمعت فيه امرأة العزيز وذلك قوله : { وراودته } والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، ضمنت معنى الخداع أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه حتى يزله عن الشي الذي يريد أن يخرجه من يده ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال : راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل منهما الوطء والجماع ، وإنما قال : { التي هو في بيتها } ولم يقل زليخا قصداً إلى زيادة التقرير مع استهجان اسم المرأة { وغلقت الأبواب } لا ريب أن التشديد يدل على التكثير لأن غلق متعد كنقيضه وهو فتح . والمفسرون رووا أن الأبواب كانت سبعة { وقالت هيت لك } هذه اللغة في جميع القراآت اسم فعل بمعنى هلم إلا عند من قرأ { هئت لك } بهاء مكسورة بعدها همزة ساكنة ثم تاء مضمومة فإنها معنى تهيأت لك . يقال : هاء يهيء مثل جاء يجيء بمعنى تهيأ . قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاثة : فالفتح للخفة ، والكسر للالتقاء الساكنين ، والضم تشبيهاً بحيث . وإذا بين باللام نحو « هيت لك » فهي صوت قائم مقام المصدر كأفٍ له أي لك أقول هذا . وإذا لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر قائم مقام الفعل ويكون اسم فعل ، ومعناه إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل . وقد روى الواحدي بإسناده عن أبي زيد { قالت هيت لك } بالعبرانية هيتالج أي تعال عربه القرآن .

وقال الفراء : إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها . وقال ابن الأنباري : هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ، ولغة العرب والفرس في السجيل ، ولغة العرب والترك في الغساق ، ولغة العرب والحبشة في ناشئة الليل . ثم إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام أجاب يوسف عليه السلام بثلاثة أجوبة : الأول { قال معاذ الله } وهو من المصادر التي لا يجوز إظهار فعلها أي أعوذ بالله معاذاً ، وفيه إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل ، الثاني { إنه } والضمير للشأن { ربي } أي سيدي ومالكي بزعمهم واعتقاهم وإلا فيوسف كان عالماً بأنه حر والحر لا يصير عبداً بالبيع ، أو المراد التربية أي الذي رباني { أحسن مثواي } حين قال { أكرمي مثواه } وفي هذا إشارة إلى أن حق الخلق أيضاً يمنع عن ذلك العمل . وقيل : أراد بقوله : { ربي } الله تعالى لأنه مسبب الأسباب . الثالث قوله : { إنه لا يفلح الظالمون } الذين يجازون الحسن بالسيء ، أو أراد الذين يزنون لأنهم ظلموا أنفسهم . وفيه إشارة إلى الدليل العقلي فإن صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة ، فعلى العاقل أن يحترز عنها فما أحسن نسق هذه الأجوبة .
قوله سبحانه { ولقد همت به وهمّ بها } لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم ، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين : إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة فقال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة . وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع . وعنه أيضاً أنها استقلت له وقعد هو بين شعبها الأربع . وروي أن يوسف حين قال : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبرائيل : ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك { وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } وقال آخرون : إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين . أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زاويا البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف : ولم؟ فقالت : أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية . فقال يوسف : تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فوالله لا أفعل ذلك أبداً . وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضاً فوه على أصابعه قائلاً : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين .

وقال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقيل : صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له رئيس فلما زنى قعد لا ريش له . وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها { وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين } { الإنفطار : 11 ، 12 ] فلم ينصرف ثم رأى فيها { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء : 32 ] فلم ينته ثم رأى فيها { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة . فانحط لجبرائيل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في يوان زمرة الأنبياء؟ وقيل : رأى تمثال العزيز . وأما الآخرون فما سلموا شيئاً من هذه الروايات . وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية ، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذ الزواجر تكميلاً للألطاف وتتميماً للعناية . قالوا : ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة . قالوا : والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني ، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هارباً عنها . وفي قوله : { وهمّ بها } فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله : { هي راودتني } وبقوله : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } وقالت { الآن حصحص الحق } وزوج المرأة صدّقه فقال : { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال : { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك { لنصرف عنه السوء } خيانة السيد { والفحشاء } الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك . ثم أكد الشهادة بقوله : { إنه من عبادنا } والإضافة للتشريف كقوله : { وعباد الرحمن } [ الفرقان : 63 ] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص ، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها .

ويحتمل أن يكون « من » للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشىء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام . فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب ، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور .
وقوله : { واستبقا الباب } أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا . وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها . روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب { وقدت قميصه من دبر } لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولاً { وألفيا سيدها } صادفا بعلها وهو قطفير . وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكاً في الحقيقة . روي أنهما ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل وقيل جالساً مع ابن عم للمرأة . ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذا ذاك؟ فقيل : قالت : { ما جزاء } هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه ، أو ليس جزاءه إلا السجن أو العذاب الأليم . وربما فسر العذاب { الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعاً في أن يواتيها خوفاً وإن لم يواتيها طوعاً . ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلاً ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن . وأيضاً لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءاً بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه . وفي قولها : { إلا أن يسجن } إشعار بأن ذلك السجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى { لأجعلنك من المسجونين } [ الشعراء : 29 ] ففيه إشعار بالتأييد { قال } يوسف { هي راودتني عن نفسي } وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولولا ذلك لكتم عليها . قال سبحانه { وشهد شاهد من أهلها } قال جمع من المفسرين : الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلاً حكيماً ، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال : قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه ، فإن كان شق القميص من قدام فأنت صادقة والرجل كاذب ، وإن كان من خلف فالرجل صادق وأنت كاذبة ، فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها : { إنه من كيدكن } وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبياً في المهد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه « تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم »

وعن مجاهد : الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بأن القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من الأهل ، واعترض على القول الأول بأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف لاحتمال أن الرجل قصد المرأة وهي قد غضب عليه ففر فعدت خلفه كي تدركه وتضربه ضرباً وجيعاً . وأجيب بأن هناك أمارات أخر منها أن يوسف كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد ، ومنها قرينة الحال كتزين المرأة فوق المعتاد وما شوهد من أحوال يوسف في مدة إقامته بمنزلهم . واعترض على القول الثاني بأن شهادة الصبي أمر خارق للعادة فتكون حجة قطعية فلم يبق للاستدلال بحال القميص ولا لكونه من أهلها فائدة . وأيضاً لفظ { شاهد } لا يقع في العرف إلا على من تقدمت معرفته بالواقعة . والجواب أن تعيين الطريق في الإخبار والإعلام غير لازم ، وكون الشاهد من أهلها أوجب للحجة عليها وألزم لها والشاهد ههنا مجاز ووجه حسنه أنه أدى مؤدى الشاهد حيث ثبت به قول يوسف وبطل قولها . قال في الكشاف : التنكير في « قبل » . و « دبر » معناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر . أما الضمير في قوله : { فلما رأى } وفي قوله : { قال إنه من كيدكن } فقيل : إنه للشاهد الذي هو ابن عمها كما ذكرنا أي إن قولك وهو ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ، أو إن هذا الأمر وهو الذي أفضى إلى هذه الريبة من عملكن { إن كيدكن عظيم } قال بعض العلماء : أنا أخاف النساء أكثر مما أخاف الشيطان لأنه تعالى يقول : { إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } [ النساء : 76 ] وقال للنساء : { إن كيدكن عظيم } وأقول : لا شك أن القرآن كلام الله إلا أن هذا حكاية قول الشاهد فلا يثبت به ما ادعاه ذلك العالم ولو سلم فالمراد إن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى ما يريد الله تعالى إمضاءه وتنفيذه ، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى كيد الرجال فإنهم يغلبنهم ويسلبن عقولهم إذا عرضن أنفسهن عليهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « النساء حبائل الشيطان » .
ثم قال الشاهد : { يوسف } أي يا يوسف فحذف حرف النداء { أعرض عن هذا } الأمر واكتمه ولا تحدّث به { واستغفري } يا امرأة { لذنبك } والاستغفار إما من الزوج أو من الله تعالى لأنهم كانوا يثبتون الإله الأعظم ويجعلون الأصنام شفعاء ولهذا قال يوسف لصاحبه في السجن { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } [ يوسف : 39 ] { إنك كنت من الخاطئين } من المتعمدين للذنب . يقال : خطىء إذا أذنب متعمداً والتذكير للتغليب . وقيل : الضمير في { رأى } وفي { قال } لزوج المرأة وأنه كان قليل الغيرة فلذلك اكتفى منها بالاستغفار قاله أبو بكر الأصم . { وقال نسوة } هو اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك حسن حذف التاء من فعله وقد تضم نونها .

قال الكلبي : هن أربع في مدينة مصر : إمرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن ، وزاد مقاتل امرأة الحاجب ، والفتى الغلام الشاب والفتاة الجارية { قد شغفها } أي خرق حبه شغاف قلبها والشغاف حجاب القلب ، وقيل : جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب و { حباً } نصب على التمييز وحقيقة شغفه أصاب شغافه كما يقال : كبده إذا أصاب كبده وكذا قياس سائر الأعضاء . وقرىء بالعين المهملة أي أحرقها مع تلذذ من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران . وقال ابن الأنباري : هذا من الشغف وهو رؤوس الجبال أي ارتفع محبته إلى أعلى المواضع من قلبها . والضلال المبين الخطأ عن طريق الصواب . { فلما سمعت بمكرهن } اغتيابهن وسوء قالتهن فيها ، وإنما حسن التعبير عن الاغتياب بالمكر لاشتراكهما في الإخفاء . وقيل : التمست منهن كتمان سرها فأفشينه فسمي مكراً { أرسلت إليهن } تدعوهن . وقيل : أردن بذلك أن يتوسلن إلى رؤية يوسف عليه السلام فلهذا سمي مكراً . وقيل : كن أربعين . { وأعتدت } وهيأت { لهن متكئاً } موضع اتكاء وأصله موتكئاً لأنه من توكأت أبدلت الواو تاء ثم أدغمت ، والمراد هيأت لهن نمارق يتكئن عليها كعادة المترفهات كأنها قصدت بذلك تهويل يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن السكاكين توهمه أنهن يثبن عليه . وقيل : المتكأ مجلس الطعام لأنهن كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث على هيئة المتنعمات ، ولذلك نهى أن يأكل الرجل متكئاً . وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن بها . وقيل : أراد بالمتكأ الطعام على سبيل الكناية لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له متكأ . وقال مجاهد : هو طعام يحتاج الى أن يقطع بالسكين لأن القاطع متكىء على المقطوع بآلة القطع وقرىء متكاً مضموم الميم ساكن التاء مقصوراً وهو الأترج { فلما رأينه أكبرته } أعظمنه وهبن ذلك الجمال ، وكان أحسن خلق الله إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان أملح . قيل : كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه وما كان أحد يستطيع وصفه ويرى تلألؤ وجهه على الجداران وقد ورث الجمال من جدته سارّة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبرائيل : ما هذا؟ فقال : يوسف . فقيل : يا رسول الله كيف رأيته؟ قال : كالقمر ليلة البدر » وقال الأزهري : أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت . يقال : أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض ، ووجه حيضهن حينئذٍ بأن المرأة إذا فزعت أسقطت ولدها فحاضت ، فالمراد حضن ودهشن . وقيل : أكبرنه لما رأين عليه من نور النبوة وسيماء الرسالة وآثار الخضوع والإخبات والأخلاق . الفاضله الملكية كعدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح فلذلك وقعت الهيبة والرعب في قلوبهن { وقطعن أيديهن } أي جرحنها بأن لم يعرفن الفاكهة من اليد ، أو بأن لم يفرقوا بين الجانب الحاد من السكين وبين مقابله فوقع الطرف الحاد في أيديهن وكفهن وحصل الاعتماد على ذلك الطرف فجرح الكف وهذا القول شديد الملاءمة لقولهن { حاش لله } أي ننزهه عما يشينه من خصلة ذميمة { إن هذا إلا ملك كريم } في السيرة والعفة والطهارة .

وأما قول زليخا : { فذلكن الذي لمتنني فيه } فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق . وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله ، كما أن قولهن { حاش لله ما علمنا عليه } تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله . قال صاحب الكشاف : « حاشا » كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في { لله } لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة . وقال أبو البقاء : الجمهور على أنه ههنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر ، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية . { ما هذا بشراً } أعمال ما عمل ليس لغة حجازية { إن هذا } أي ما هذا الشخص { إلا ملك كريم } استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا : وإنما قلن ذلك لما ركز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان . واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك . وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب ، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة ، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثيرة فلذلك { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } وسئل ههنا إن يوسف كان حاصراً فلم أشارت بعبارة البعيد؟ وأجاب ابن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل . وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنها لم تقل فهذا رفعاً لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعاداً لمحله ، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتتني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به . ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } قال السدي : أي بعد حل السراويل : والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا : إن { استعصم } بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلاً .

{ ولئن لم يفعل ما آمره } قال في الكشاف : معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير ، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه { وليكونا من الصاغرين } هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف . والصغار الذل والهوان ، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها : أن زليخا كانت في غاية الحسن ، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة قد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها ، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات ، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفاً من شرها ومن إقدامها على قتله ، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلاً عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلاً : { رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة لخزي الدنيا وعذاب الآخرة { وإلا تصرف عني كيدهن } بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة { أصب إليهن } والصبوة الميل إلى الهوى ومنها الصبا لأن النفوس تصبوا إلى روحها . { وأكن من الجاهلين } الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة ، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح . ولما كان في قوله : { وإلا تصرف } معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه { فاستجاب له ربه } ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر ، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى : { ثم بدا } أي ظهر { لهم } للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف { من بعد ما رأو الآيات } الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة له بالسيرة الملكية والعفة . وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو { ليسجننه } والقسم محذوف { حتى حين } إلى زمان ممتد . عن أبن عباس : إلى زمان انقطاع القالة وما شاع في المدينة .

وعن الحسن : خمس سنين . وعن غيره سبع سنين . وعن مقاتل : أنه حبس اثنتي عشرة سنة .
التأويل : لما أخرجوا يوسف القلب من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة فاشتراه عزيز مصرها وهو الدليل المربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة . { فقال لامرأته } وهي الدنيا { أكرمي مثواه } اخدميه بقدر الحاجة الضرورية { عسى أن ينفعنا } حتى يكون صاحب الشريعة فيتصرف في الدنيا باكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة { أو نتخذه ولداً } نربيه بلبان ثدي الشريعة والطريقة إلى أن يرى الفطام عن الدنيا الدنية { وكذلك مكنا } يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو لتعلم العلم اللدني ، لأن الثمرة إنما تظهر على الشجرة إذا كان أصل الشجرة راسخاً في الأرض { والله غالب على } أمر القلب في توجيهه إلى محبة الله وطلبه ، أو على أمر القالب بجذبات العناية وإقامته على الصراط المستقيم فتكون تصرفاته بالله ولله وفي الله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنهم خلقوا مستعدّين لهذا الكمال { وكذلك نجزي المحسنين } أي كما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم كذلك نجزي الأعضاء الرئيسية والجوارح إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء ، وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة . { وراودته } فيه إشارة إلى أن يوسف القلب وإن استغرق في بحر صفات الألوهية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا ما دام هو في بيتها أي في الجسد الدنياوي { وغلقت } أبواب أركان الشريعة { وقالت هيت لك } أقبل إلى وأعرض عن الحق { قال } أي القلب الفاني عن نفسه الباقي ببقاء ربه { معاذ الله } عما سواه . { أحسن مثواي } في عالم الحقيقة { إنه لا يفلح الظالمون } الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى { وهمّ بها } فوق الحاجة الضرورية { لولا أن رأى برهان ربه } وهو نور خصلة القناعة التي هي من نتائج نظر العناية { لنصرف عنه السوء } الحرص على الدنيا { والفحشاء } بصرف حب الدنيا فيه { إنه من عبادنا المخلصين } الذي خلصوا من سجن الوجود المجازي ووصلوا إلى الوجود الحقيقي . { واستبقا } باب الموت الاختياري { وقدت } قميص بشريته { من دبر } بيد شهواتها قبل خروجه من الباب { وألفيا سيدها } وهو صاحب ولاية تربية يوسف القلب وزوج زليخا الدنيا لأنه يتصرف في الدنيا كما ينبغي تصرف الرجل في المرأة { وشهد شاهد من أهلها } هو حاكم العقل الغريزي دون العقل المجرد الذي هو ليس من الدنيا وأهلها في شيء ، فبين حاكم العقل أن يد تصرف زليخا الدنيا لا تصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته { إن كيدكن عظيم } وهو قطع طريق الوصول إلى الله لعظيم على القلب السليم . { يوسف أعرض عن هذا } فإن ذكر الدنيا يورث محبتها وحب الدنيا رأس كل خطيئة .

{ وقال نسوة } هي الصفات البشرية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد { تراود فتاها } لأن الرب إذا تجلى للعبد خضع له كل شيء « يا دنيا اخدمي من خدمني » { واعتدت لهن متكئاً } أطعمة مناسبة لكل منها { وآتت كل واحد منهن سكيناً } هو سكين الذكر { وقالت اخرج عليهن } إشارة إلى غلبات أحوال القلب على الصفات البشرية { وقطعن أيديهن } بالذكر عما سوى الله . { ثم بدا لهم } أي ظهر لمربي القلب بلبان الشريعة وهو شيخ الطريقة ومن يراعي صلاح حال القلب { من بعد ما رأوا } آثار عناية الله وعصمة القلب من الالتفات إلى ما سواه { ليسجننه } في سجن الشرع إلى حين قطع تعلقه عن الجسد بالموت نظيره { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] وإذا كان النبي مع نهاية كماله مأموراً بأن يكون مسجوناً في هذا السجن فكيف بمن دونه والله أعلم .
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

القراآت { إني أراني أعصر } بالفتح في الحرفين : أبو جعفر ونافع ، وأبو عمرو وافق ابن كثير في { أراني } كليهما . الباقون : بسكون ياء المتكلم في الكل : { نبينا } بغير همزة : أوقية والأعشى وحمزة في الوقف . { ترزقانه } مختلسة : الحلواني عن قالون { نبأتكما } مثل { أنشأنا } { ربي إني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { آبائي } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { إني أرى } بالفتح : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { رؤياي } بالإمالة : عليّ غير قتيبة . أبو عمرو بالإمالة اللطيفة . والقول في ترك الهمزة مثل ما تقدم { للرؤيا } ممالة : عليّ ، وأبو عمرو بالإمالة اللطيفة . { لعلي أرجع } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد عن ابن ذكوان وأبو عمرو { دأبا } بفتح الهمزة : حفص . الآخرون بالسكون { تعصرون } بتاء الخطاب : حمزة وعليّ وخلف والمفضل . الباقون على الغيبة . { ما بال النسوة } بضم النون : الشموني والبرجمي { نفسي } { رحم ربي } بالفتح فيهما : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
الوقوف : { فتيان } ط { خمراً } ج فصلاً بين القضيتين مع اتفاق الجملتين { الطير منه } ط للعدول عن قول آخر منهما إلى قولهما المضمر أي فقالا . { نبئنا بتأويله } ج لاحتمال التعليل . { المحسنين } 5 { أن يأتيكما } ط { ربي } ط { كافرون } 5 { ويعقوب } ط { من شيء } ط { لا يشكرون } 5 { القهار } 5 ط { من سلطان } ط { إلا الله } ط { إلا إياه } ط { لا يعلمون } 5 { خمراً } ج فصلا بين الجوابين مع اتفاق الجملتين { من رأسه } ط لأن قوله : { قضى } جواب قولهما كذبنا وما رأينا رؤيا { تستفتيان } ط لاستئناف حكاية أخرى { عند ربك } ز { سنين } 5 ط { يابسات } ط { تعبرون } 5 { أحلام } ج للنفي مع العطف { بعالمين } 5 { فأرسلون } 5 { ياباسات } لا لتعلق « لعلى » { يعلمون } 5 { دأباً } ج للشرط مع الفاء { تأكلون } 5 { تحصنون } 5 { يعصرون } 5 { ائتوني به } ج { أيديهن } ط { عليم } 5 { عن نفسه } ط { من سوء } ط { الحق } ز لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد القائل . { الصادقين } 5 { الخائنين } 5 { نفسي } ج للحذف أي عن السوء { ربي } ط { رحيم } 5 .
التفسير : تقدير الكلام فحبسوه { ودخل معه } أي مصاحباً له في الدخول { السجن فتيان } غلامان للملك الأكبر خبازه وشاربيه نقلاً عن أئمة التفسير أو استدلالاً برؤياهما المناسبة لحرفتهما . رفع إلى الملك أنهما أرادا سمه في الطعام والشراب فأمر بإدخالهما السجن ساعة إذ دخل يوسف { قال أحدهما إني أراني } أي في المنام لقولهما : { نبئنا بتأويله } وهو حكاية حال ماضية { أعصر خمراً } أي عنباً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه . وقيل : الخمر بلغة عمان اسم العنب . والضمير في قوله : { بتأويله } يعود إلى ما قصا عليه وقد يوضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قيل : نبئنا بتأويل ذلك { إنا نراك من المحسنين } عبارة الرؤيا .

ج18.=============

ج18. كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري


وكان أهل السجن يقصون عليه رؤياهم فيؤوّلها لهم ، أو نراك من العلماء عرفا ذلك بالقرائن أو من المحسنين إلى أهل السجن كان يعود مرضاهم ويوسع عليهم ويراعي دقائق مكارم الأخلاق معهم ، أو من المحسنين في طاعة الله وطلب مرضاته ففرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا وإن كانت لك يد في تأويل الرؤيا . وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : أبشروا اصبرا تؤجروا . فقالوا : ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت يا فتى؟ فقال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل إبراهيم . فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت . وعن الشعبي ومجاهد أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي : أراني في بستان فإذا بأصل كرم عليه ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته . وقال الخباز : إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة ، وإذا سباع الطير تنهش منها { قال لا يأتيكما طعام } إلى آخره هذا ليس بجواب لهما ظاهراً وإنما قدم هذا الكلام لوجوه منها : أن أحد التعبيرين لما كان هو الصلب وكان في إسماعه كراهة ونفرة أراد أن يقدم قبل ذلك ما يؤثق بقوله ويخرجه عن معرض التهمة والعداوة . أو أراد أن يبين علوّ مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون عن ظن وتخمين ، ولهذا قال السدي : أراد لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم . بين بذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس مقصوراً على شيء دون غيره وقيل : إنه محمول على اليقظة وإنه ادعى معرفة الغيب كقول عيسى عليه السلام { وأنبئكم بما تأكلون } [ آل عمران : 49 ] أي أخبركما { قبل أن يأتيكما } أنه أي طعام هو وأيّ لون هو وكيف تكون عاقبته أهو ضار أم نافع وأن فيه سماً أم لا . فقد روي أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً مسموماً فأرسله إليه . ثم قال : { ذلكما } أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات من قبيل الوحي والإلهام لا من التكهن والتنجيم الذي يكثر فيهما وقوع الخطأ . ثم بيّن سيرته وملته مشيراً فيه إلى أنه رسول من عند الله ومنبهاً على أن الاشتغال بمصالح الدين أهم من الاشتغال بمصالح الدنيا حتى إن الرجل الذي سيصلب لعله يسلم فلا يموت على الكفر فقال : { إني تركت } أي رفضت بل ما كنت قط ، ويجوز أن يكون قبل ذلك غير مظهر للتوحيد خوفاً منهم لأنه كان تحت أيديهم . وإنما كررت لفظة « هم » تنبيهاً على أنهم مختصون في ذلك الزمان بإنكار المعاد وتعريضاً بأن إيداعه السجن بعد معاينة الآيات الشاهدة على براءته لا يصدر إلا عمن ينكر الجزاء أشد الإنكار .

والمراد باتباع ملة آبائه الاتباع في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع ، ومعنى التنكير في قوله : { من شيء } الرد على كل طائفة خالفت الملة الحنيفية من عبدة الأصنام والكواكب وغيرهم { ذلك } التوحيد { من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } نعمة الإيمان أو نعمة إعطاء القدرة والاختيار على الإيمان فلا ينظرون في الدلائل ، وهذا يناسب أصول المعتزلة . وعن بعضهم إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] { يا صاحبي السجن } أراد يا صاحبي السجن كقوله « يا سارق الليلة » خصمهما بهذا النداء لأنهما دخلا السجن معه أو أراد يا ساكني السجن كقوله : { أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] فسبب التعييين أنهما استفتياه في بين الساكنين . ثم أنكر عليهم عبارة الأصنام فقال : { أأرباب متفرقون } في العدد وفي الحجمية وفيما يتبعها من اختلاف الأعراض والأبعاض { خير } إن فرض فيهم خير { أم الله الواحد القهار } لأن وحدة المعبود تستدعي توحيد المطلب وتفريد المقصد ، وكونه قهاراً غالباً غير مغلوب من وجه يوجب حصول كل ما يرجى منه من ثواب وصلاح إذا تعلقت إرادته بذلك فلا يصلح للمعبودية إلا هو ولا تصلح حقيقة الإلهية في غيره فلذلك قال : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } أي سميتم الآلهة بتلك الأسماء { أنتم وآباؤكم } والخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر فكأنهم لا يعبدون إلا أسماء فارغة عن المسميات { ما أنزل الله بها } بتسميتها { من سلطان } أي حجة . ثم لما نفى معبودية الغير بين أن لا حكم في أمر الدين والعبادة إلا له فقال : { إن الحكم إلا لله } ثم ذكر ما حكم به فقال : { أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم } الثابت بالبراهين { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه مبدأ المبادىء والمعاد الحقيقي فيتخذون غيره معبوداً ويجعلون لغيره من الأصنام والأجرام بالاستقلال فعلاً وتأثيراً . ثم شرع في إجابة مقترحهما وهو تأويل رؤياهما فقال : { أما أحدكما } يعني الشرابي { فيسقي ربه } سيده { خمرا } يروى أنه قال له : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه . وقال للثاني : ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب فتأكل الطير من رأسك . قوله : { قضي الأمر } قال في الكشاف : إنما وحد الأمر وهما أمران مختلفان استفتيا فيهما ، لأن المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا لأجله فكأنهما استفتياه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك استدلالاً برؤياهما فقال : إن ذلك الذي ذكرت من أمر التأويل كائن لا محالة صدقتما أو كذبتما .

وقيل : جحدا رؤياهما . وقيل : عكسا رؤياهما ، فلما علم الخباز أن تأويل رؤياه شر أنكر كونه صاحب تلك الرؤيا فقال يوسف : إن الذي حكمت به لكل منكما واقع لا بد منه ومن هنا قالت الحكماء : ينبغي أن لا يتصرف في الرؤيا ولا تغير عن وجهها فإن الفأل على ما جرى .
{ وقال } يوسف { للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك } أي اذكر عند الملك أني مظلوم من جهة إخوتي أخرجوني وباعوني ، ثم إني مظلوم من جهة النسوة اللاتي حسبتني . والضمير في { ظن } إن كان للرجل الناجي فلا إشكال لأنهما ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف بل كانا حسني الاعتقاد فيه وكأن قوله لم يفد في حقهما إلا مجرد الظن ، وإن عاد إلى يوسف فيرد عليه أنه كان قاطعاً بنجاته فما المعنى للظن؟ وأجيب بأنه إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الأصول المقررة في ذلك العلم فكان كالمسائل الاجتهادية . والأصح أنه قضي بذلك على سبيل ألبت والقطع لقوله : { لا يأتيكما طعام } إلى قوله : { ذلكما مما علمني ربي } فالظن على هذا بمعنى اليقين كقوله : { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } [ البقرة : 46 ] أما الضمير في قوله : { فأنساه الشيطان } فمن الناس من قال : إنه يعود إلى الرجل الناجي أي أنساه الشيطان ذكر يوسف لسيده أو عند سيده فإضافة الذكر إلى الرب للملابسة لا لأجل أنه فاعل أو مفعول ، أو المضاف محذوف تقديره فأنساه ذكر إخبار ربه وإسناد الإنساء إلى الشيطان مجاز لأن الإنساء عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان قدرة له على ذلك وإلا لأزال معرفة الله من قلوب بني آدم ، وإنما فعله إلقاء الوسوسة وأخطار الهواجس التي هي من أسباب النسيان . ومنهم من قال : الضمير راجع إلى يوسف ، والمراد بالرب هو الله تعالى أي الشيطان أنسى يوسف أن يذكر الله تعالى ، وعلى القولين عوتب باللبث في السجن بضع سنين . والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه القطعة من العدد والبضع القطع ومثله العضب . والأكثرون على أن المراد في الآية سبع سنين . وعن ابن عباس : كان قد لبث خمس سنين وقد اقترب خروجه ، فلما تضرع إلى ذلك الرجل لبث بعد ذلك سبع سنين . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن » وعن مالك أنه لما قال له اذكرني عند ربك قيل له : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً ، لأطيلن حبسك . فبكى يوسف وقال : طول البلاء أنساني ذكر المولى فويل لإخوتي . قال المحققون : الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة . فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يطلب من يحرسه على جاء سعد بن أبي وقاص فنام .

وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : { من أنصاري إلى الله } [ الصف : 14 ] ولا خلاف في جواز الاستعانة بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق إلا أن يوسف عليه السلام عوتب على قوله : { اذكرني عند ربك } لوجوه منها : أنه لم يقتد بالخليل جده حين وضع في المنجنيق فلقيه جبرائيل في الهواء وقال : هل من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا مع أنه زعم أنه اتبع ملة آبائه . ومنها أنه قال : { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } وهذا يقتضي نفي الشرك على الإطلاق وتفويض الأمر بالكلية إلى الله سبحانه . فقوله : { اذكرني عند ربك } كالمناقض لهذا الكلام . ومنها أنه قال : { عند ربك } ومعاذ الله أنه زعم أنه الرب بمعنى الإله إلا أن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يليق بمثله وإن كان رب الدار ورب الغلام متسعملاً في كلامهم . ومنها أنه لم يقرن بكلامه إن شاء الله ، ولما دنا فرج يوسف أرى الله الملك في المنام سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فاضطرب الملك بسببه لأن فطرته قد شهدت بأن استيلاء الضعيف على القوي ينذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه لم يعرف تفصيله ، والشيء إذا علم من بعض الوجوه عظم الشوق إلى تكميل تلك المعرفة ولا سيما إذا كان صاحبه ذا قدرة وتمكين ، فبهذا الطريق أمر الملك بجمع الكهنة والمعبرين وقال : { يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي } ثم إنه تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه فأعجز الله أولئك الملأ عن جواب المسألة وعماه عليهم حتى { قالوا } إنها { أضغاث أحلام } ونفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بتأويلها . واعلم أن الله سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ إلا أن المانع لها عن ذلك في اليقظة هو اشتغالها بتدبير البدن وبما يرد عليها من طريق الحواس ، وفي وقت النوم تقل تلك الشواغل فتقوى النفس على تلك المطالعة ، فإذا وقفت الروح على حالة من تلك الأحوال فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم يحتج إلى التأويل ، وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إل عالم الخيال فهناك يفتقر إلى المعبر . ثم منها ما هي منتسقة منتظمة يسهل على المعبر الانتقال من تلك المتخيلات إلى الحقائق الروحانيات ، ومنها ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسماة بالأضغاث . وبالحقيقة ، الأضغاث ما يكون مبدؤها تشويش القوة المتخيلة لفساد وقع في القوى البدنية ، أو لورود أمر غريب عليه من خارج ، لكن القسم المذكور قد يعد من الأضغاث من حيث إنها أعيت المعبرين عن تأويلها .

ولنشتغل بتفسير الألفاظ ، أما الملك فريان بن الوليد ملك مصر ، وقوله : { إني أرى } حكاية حال ماضية . وسمان جمع سمينة وسمين وسمينة يجمع على سمان كما يقال : رجال كرام ونسوة كرام قال النحويون : إذا وصف المميز فالأولى أن يوقع الوصف وصفاً للمميز كما في الآية دون العدد ، لأنه ليس بمقصود بالذات فلهذا قيل سمان بالجر ليكون وصفاً لبقرات ، ويحصل التمييز لسبع بنوع من البقرات وهي السماء منهن ، ولو نصب جعل تمييز السبع بجنس البقرات أولاً ثم يعلم من الوصف أن المميز بالجنس موصوف بالسمن . والعجف هو الهزال الذل الذي ليس بعده هزال ، والنعت أعجف وعجفاء وهما لا يجمعان على فعال ولكنه حمل على سمان لأنه نقيضه . وقوله سبع عجاف تقديره بقرات سبع عجاف فحذف للعلم به كما في قوله : { وأخر يابسات } التقدير وسبعاً أخر لانصباب المعنى إلى هذا العدد . وإنما لم يقال سبع عجاف على الإضافة لأن البيان لا يقع بالوصف وحده . وقولهم « ثلاثة فرسان » و « خمسة أصحاب » لأنه وصف جرى مجرى الاسم ، ولا يجوز أن يكون قوله { وأخر } مجروراً عطفاً على { سنبلات } لأن لفظ الأخر يأباه ويبطل مقابلة السبع بالسبع ، وأراد بالملأ الأعيان من العلماء والحكماء ، واللام في { للرؤيا } للبيان كما قلنا في { وكانوا فيه من الزاهدين } [ يوسف : 20 ] أو لأن عمل العامل فيما تقدم عليه يضعف فيعضد باللام كما يعضد اسم الفاعل بها وإن تأخر معموله ، أو لأن قوله : { للرؤيا } خبر « كان » كقوله هو لهذا الأمر أي متمكن من مستقل به و { تعبرون } خبر آخر أو حال أو لتضمن { تعبرون } معنى تنتدبون لعبارة الرؤيا والفصيح عبرت الرؤيا بالتخفيف ، وقد يشدد واشتقاقه من العبر بالكسر فالسكون وهو جانب النهر فيقال : عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه ، وعبرت الرؤيا إذا تأملت ناحيتها فانتقلت من أحد الطرفين إلى الآخر . والأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش مما طال ولم يقم على ساق ، والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام والصيغة للجمع ولكن الواحد قد يوصف به كما قال : رمح أقصاد وبرمة أعشار . فالمراد هي حلم أضغاث أحلام . وقد يطلق الجمع ويراد به الواحد كقولهم « فلان يركب الخيل ويلبس العمائم » وإن لم يركب إلا فرساً واحداً ولم يلبس إلا عمامة واحدة . ويجوز أن يكون قد قص عليهم أحلاماً أخر . واللام في { الأحلام } اما للعهد كأنهم أرادوا المنامات الباطلة ، أو للجنس وأرادوا أنهم غير متبحرين في علم تأويل الرؤيا . ولما أعضل على الملأ تأويل رؤيا الملك تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه المصلوب ، وتذكر قوله : { اذكرني عند ربك } وذلك قوله سبحانه : { واذكر } وأصله « اذتكر » قلبت التاء والذال كلاهما دالاً مهملة وأدغمت .

{ بعد أمة } أي بعد حين كأنها حصلت من اجتماع أيام كثيرة . وقرىء بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة . وقرىء { بعد أمه } بوزن عمه . ومعنى { أنا أنبئكم بتأويله } أخبركم به عمن عنده علمه { فأرسلون } إليه لأسلأله والخطاب للملك والجمع للتعظيم أو له وللملأ حوله . والمعنى مروني باستعباره . وعن ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة . وههنا إضمار والمراد فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال { يوسف } أي يا يوسف { أيها الصديق } البليغ الكامل في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه تعرف أحواله من قبل . وفيه أنه يجب على المتعلم تقديم ما يفيد المدح لمعلمه . وإنما أعاد عبارة الملك بعينها لأن التعبير يختلف باختلاف العبارات . وقوله : { لعلي أرجع } فيه نوع من حسن الأدب لأنه لم يقطع بأنه يعيش إلى أن يعود إليهم ، وعلى تقدير أن يعيش فربما عرض له ما يمنعه عن الوصول إليهم من الموانع التي لا تحصى كثرة . وكذا في قوله : { لعلهم يعلمون } فضلك ومكانك من العلم فيخلصوك أو يعلمون فتواك فيكون فيه نوع شك لأنه رأى عجز سائر المعبرين وقيل : كرر لعل مراعاة لفواصل الآي وإلا كان مقتضى النسق لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا ، و مثله في هذه السورة { لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } [ يوسف : 62 ] .
{ قال } يوسف في جواب الفتوى { تزرعون سبع سنين } وهو خبر في معنى الأمر يفيد المبالغة في إيجاب أيجاد المأمور به . قال في الكشاف : والدليل على كونه في معنى الأمر قوله : { فذروه في سنبله } وأقول : يمكن أن يكون قوله : { تزرعون } إخباراً عما سيوجد منهم في زمن الغيث والمطر ، لأن الزرع يلزم بنزول الأمطار عادة ، وقوله : { فما حصدتم } إرشاد لهم إلى الأصلح لهم في ذلك الوقت . و { دأباً } بتسكين الهمزة وتحريكها مصدر دأب في العمل إذا استمر عليه . وانتصابه على الحال أي تزرعون ذوي دأب ، أو على المصدر والعامل فعله أي تدأبون دأباً . وإنما أمرهم بأن يتركوه في السنابل إلا القدر الذي يأكلونه في الحال لئلا يقع فيه السوس { ثم يأتي من بعد ذلك } فيه دليل على أن { تزرعون } إخبار لا أمر { سبع } سنين { شداد } على الناس { يأكلن ما قدمتم لهن } من الإسناد المجازي لأن الآكلين أهل تلك السنين لا السنون { إلا قليلاً مما تحصنون } تحرزون وتخبؤن . والإحصان جعل الشيء في الحصن كالإحراز جعل الشيء في الحرز أخبر أنه يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس من الغوث ، أو من الغيث يقال : غيثت البلاد إذا مطرت { وفيه يعصرون } العنب والزيتون والسمسم . وقيل : يحلبون الضروع ، تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بالسنين . ثم بشرهم بالبركة في العام الثامن .

فقال المفسرون : إنه قد عرف ذلك بالوحي . عن قتادة : زاده الله علم سنة . وقيل : عرف استدلالاً فليس بعد انتهاء الجدب ، إلا الخصب . والجواب أنه لا يلزم من انتهاء الجدب الخصب والخير الكثير فقد يكون توسط الحال . وأيضاً في قوله : { وفيه يعصرون } نوع تفصيل لا يعرف إلا بالوحي . ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير استحسنه وقال : { ائتوني به } فجعل الله سبحانه علمه مبدأ لخلاصه من المحنة الدنيوية فيعلم منه أن العلم سبب للخلاص في المحن الأخروية أيضاً . { فلما جاءه الرسول } وهو الشرابي فقال : أجب الملك { قال } يوسف { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ما شأنهن وما حالهن { إن ربي } أي الله العالم بخفيات الأمور أو العزيز الذي رباه { بكيدهن عليم } وعلى الأول أراد إنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله لعبد غوره ، أو استشهد بعلم الله على أنهن كذبة ، أو أراد الوعيد أي هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه . وكيدهن ترغيبهن إياه في مواقعة سيدته أو تقبيح صورته عند العزيز حتى يرضى بسجنه . ومن لطائف الآية أنه أراد فسأل الملك أن يسأل ما بالهن إلا أنه راعى الأدب فاقتصر على سؤال الملك عن كيفية الواقعة فإن ذلك مما يهيجه على البحث والتفتيش . ومنها أنه لم يذكر سيدته بسوء بل ذكر النسوة على التعميم ومع ذلك راعى جانبهن أيضاً فوصفهن بتقطيع الأيدي فقط لا بالترغيب في الخيانة . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني . ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليماً ذا أناة » قال العلماء : الذي عمله يوسف هو اللائق بالحزم والعقل ، لأنه لو خرج في الحال فربما بقي في قلب الملك من تلك التهمة أثر ، ولعل الحساد يتسلقون بذلك إلى تقبيح أمره عنده ، وفي هذا التأني والتثبت تلاف لما صدر منه في قوله للشرابي : { اذكرني عند ربك } . { قال } الملك بعد إحضار النسوة { ما خطبكن } ما شأنكن العظيم { إذ راودتن يوسف } هل وجدتن منه ميلاً إليكن أو إلى زليخا؟ قيل : الخطاب لزليخا والجمع للتعظيم . وقيل : خاطبهن جميعاً لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لنفسها أو لأجل امرأة العزيز . { قلن حاش لله } تعجباً من عفته ونزاهته { قالت امرأت العزيز } حين عرفت أن لا بد من الاعتراف { الآن حصحص الحق } وضح وانكشف وتمكن في القلوب من قولهم حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة والاستقرار على الأرض . وقال الزجاج : اشتقاقه من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل .

أما قوله سبحانه : { ذلك ليعلم } إلى تمام الآيتين ففيه قولان : الأول - وعليه الأكثرون - أنه حكاية قول يوسف . قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به . والإشارة إلى الحداثة الحاضرة بقوله : { ذلك } لأجل التعظيم والمراد ما ذكر من رد الرسول والتثبت وإظهار البراءة . وعن ابن عباس : أنه لما دخل على الملك قال ذلك ، والأظهر أنه قال ذلك في السجن عند عود الرسول إليه . ومحل { بالغيب } نصب على الحال من الفاعل أي وأنا غائب عنه ، أو من المفعول أي وهو غائب عني ، أو على الظرف أي بمكان الغيب وهو الاستتار وراء الأبواب المغلقة . وقيل : هذه الخيانة قد وقعت في حق العزيز فكيف قال ذلك ليعلم الملك؟ وأجيب بأنه إذا خان وزيره فقد خان الملك من بعض الوجوه ، أو أراد ليعلم الله لأن المعصية خيانة ، أو المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز ، أو ليعلم العزيز أني لم أخنه وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده ، وفي تعريض بامرأته الخائنة وبالعزيز حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه فكأنه خان حكم لله ، وفيه تأكيد لأمانته وأنه لو كان خائناً لم يهد الله كيده . ولا يخفى أن هذه الكلمات من يوسف مع الشهادة الجازمة والاعتراف الصريح من المرأة دليل على نزاهة يوسف عليه السلام من كل سوء . قال أهل التحقيق : إنه لما راعى حرمة سيدته في قوله : { ما بال النسوة اللاتي } دون أن يقول « ما بال زليخا » أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء واعترفت بأن الذنب كله منها ، فنظيره ما يحكى أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من أداء الشهادة . فقال الزوج : لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها . فقالت المرأة : لما أكرمني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمته من كل حق لي عليه . ولما كان قول يوسف عليه السلام ذلك ليعلم جارياً مجرى تزكية النفس على الإطلاق أو في هذه الواقعة وقد قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } [ النجم : 32 ] أتبع ذلك قوله : { وما أبرىء نفسي إن النفس } أي هذا الجنس { لأمارة بالسوء } ميالة إلى القبائح راغبة في المعاصي . وفيه أن ترك تلك الخيانة ما كان حظ النفس وشربها ولكن كان بتوفيق الله تعالى وتسهيله وصرفه { إلا ما رحم ربي } إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة ، أو المراد أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان إلا وقت رحمة ربي ، أو الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة : القول الثاني أنه حكاية قول المرأة لأن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس والمعنى ، وإن كنت أحلت عليه الذنب عند حضوره ولكني ما أحلته عليه في غيبته حين كان في السجن { وأن الله لا يهدي } فيه تعريض فأنها لما أقدمت على المكر فلا جرم افتضحت ، وأنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله منه { وما أبرىء نفسي } من الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قلت { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } أو حين أودعته السجن .

ثم إنها اعتذرت عما كان منها فقالت : { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } كنفس يوسف { إن ربي غفور رحيم } أو استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت . قال المحققون . النفس الإنسانية شيء واحد فإذا مالت إلى العالم العلوي كانت مطمئنة ، وإذا مالت إلى العالم السفلي وإلى الشهوة والغضب سميت أمارة وهذا في أغلب أحوالها لإلفها إلى العالم الحسي وقرارها فيه فلا جرم إذا خليت وطباعها انجذبت إلى هذه الحالة فلهذا قيل : إنها من حيث هي أمارة بالسوء . وإذا كانت منجذبة مرة إلى العالم العلوي ومرة إلى العالم السفلي سميت لوامة . ومنهم من زعم أن النفس المطمئنة هي الناطقة العلوية ، والنفس الأمارة منطبعة في البدن تحمله على الشهوة والغضب وسائر الأخلاق الرذيلة . وتمسكت الأشاعرة بقوله : { إلا ما رحم } ظاهراً لأنه دل على أن صرف النفس عن السوء بخلق الله وتكوينه . وحملته المعتزلة على منح الألطاف والله أعلم بالحقائق .
التأويل : لما أدخل يوسف القلب سجن الشريعة دخل معه غلامان لملك الروح هما النفس والبدن ، فإن الروح العلوي لا يعمل عملاً في السفل الدنيوي إلا من مشرب النفس فهي صاحب شرابه . والبدن يهيء من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح ، فإن الروح لا يبقى إلا بغذاء روحاني كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني . وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما متهمان بجعل سم الهوى والمعصية في شراب ملك الروح وطعامه ، وفي رؤياهما دلالة على أنهما من الدنيا ، وأهل الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا { إنا نراك من المحسنين } الذين يعبدون الله عياناً وشهوداً { إني تركت ملة قوم } فيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة { أما أحدكما فيسقي ربه } أي سيده بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات وهي باقية في خدمة ملك الروح أبداً { وأما الآخر } وهو البدن { فيصلب } بنخيل الموت { فيأكل } طير أعوان ملك الموت من رأسه الخيالات الفاسدة { قضي } في الأزل هذا { الأمر } { اذكرني عند ربك } يعني أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن تذكره المعاملات المستحسنة الشرعية عند الروح ليتقوى بها الروح وينتبه عن نوم الغفلة الناشئة من الحواس الخمس ويسعى في استخلاص القلب عن أثر الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمداً من الألطاف الربانية .

ثم إن الشيطان بوساوسه محا عن النفس أثر إلهامات القلب ، أو الشيطان أنسى القلب ذكر الله حين استغاث النفس لتذكره عند الروح ، ولو استغاث بالله لخلصه في الحال { فلبث في السجن بضع سنين } إشارة إلى الصفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس وهي : الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر { إني أرى سبع بقرات سمان } هن الصفات المذكورة { يأكلهن سبع عجاف } هن أضدادها وهي : القناعة والسخاوة والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع { يا أيها الملأ } يعني الأعضاء والجوارح والحواس والقوى { أفتوني } فيما رأيت في غيب الملكوت { وما نحن بتأويل الأحلام } أي ليس التصرف في الملكوت وشواهدها من شأننا { فأرسلون } فيه أن النفس إذا أرادت أن تعلم شيئاً مما يجري في الملكوت ترجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر عنه ، فالقلب ترجمان بين الروحانيات ولانفس فيما يفهم من لسان الغيب { أيها الصديق } لأنه مصدق فيما يرى من شواهد الحق ، ويصدق فيما يروي للخلق { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] « حدثني قلبي عن ربي » قال في الكشاف : أرجع إلى الناس أي إلى الأجزاء الإنسانية { تزرعون سبع سنين } إشارة إلى تربية الصفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة في أوان الطفولية { فذروه في سنبله } أي ما حصلتم من هذه الصفات فذروه في أماكنه ولا تستعملوه { إلا قليلاً } مما تعيشون به إلى أوان البلوغ وظهور نور العقل في مصباح السر في زجاجة القلب كأنه كوكب دري . ثم إذا أيد نور العقل بأنوار تكاليف الشرع وشرف بإلهام الحق في إظهار فجور النفس وتقواها فيزكيها عن هذه الصفات ويجليها بالصفات الروحانية السبع ، فكأن السبع العجاف أكلن السبع السمان . وإنما سمى ما هو من عالم الأرواح عجافاً للطافتها ، وما هو من عالم الأجسام سماناً لكثافتها كثيراً إلا قليلاً مما يحسن به الإنسان حياة قالبه { ثم يأتي من بعد ذلك عام } أي بعد غلبات الصفات الروحانية واضمحلال الصفات البشرية يظهر مقام فيه يتدارك السالك جذبات العناية ، وفي يبرأ العبد من معاملاته وينجو من حبس وجوده وحجب أنانيته . ولما أخبر القلب بنور الله رآه الروح في عالم الملكوت وتأوله استحق قرب الروح وصحبته فاستدعى حضوره على لسان رسول النفس فرده إليه وقال سله { ما بال النسوة } لأن الأوصاف الإنسانية لما رأين جمال القلب المنور بنور الله { قطعن أيديهن } من ملاذ الدنيا وشهواتها وآثرن السعادة الأخروية على الشهوات الفانية { ليعلم أني لم أخنه بالغيب } أي القلب المنظور بنظر العناية لما غاب عن حضرة الروح لاشتغاله بتربية النفس والقالب ما خانه بالالتفات إلى الدنيا ونعيمها { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } الذين يبيعون الدين بالدنيا . ثم قال إظهاراً للعجز عن نفسه وللفضل من ربه { وما أبرىء نفسي إن النفس } جبلت على الأمارية ، ولكن إذا رحمها ربها يقلبها ويغيرها فإذا تنفس صبح الهداية صارت لوامة نادمة على فعلها ، والندم توبة وإذا طلعت شمس العناية وصارت ملهمة { فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 8 ] وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية أشرقت الأرض بنور ربها وصارت النفس مطمئنة مستعدة لجذبة { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } [ الفجر : 28 ] { إن ربي غفور } لنفس تابت ورجعت إليه { رحيم } لمن أحسن طاعته وعبادته والله حسبنا ونعم الوكيل .


وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)

القراآت { حيث نشاء } بالنون : ابن كثير . الآخرون بياء الغيبة { أني أوف } بفتح ياء المتكلم : نافع غير إسماعيل : { لفتيانه } { خير حافظاً } حمزة وعلي وخلف غير أبي بكر وحماد . الباقون { لفتيته } { خير حافظاً } { يكتل } بيان الغيبة : حمزة علي وخلف . الباقون بالنون . { تؤتوني } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو يزيد وإسماعيل في الوصل .
الوقوف : { لنفسي } ج { أمين } 5 { الأرض } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { عليم } 5 { في الأرض } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال { حيث نشاء } ط { المحسنين } 5 { يتقون } 5 { منكرون } 5 { من أبيكم } ج لحق الاستفهام مع اتحاد القائل { المنزلين } 5 { ولا تقربون } 5 { لفاعلون } 5 { يرجعون } 5 { لحافظون } 5 { من قبل } ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار { حافظاً } ص { الراحمين } 5 { إليهم } ط لتمام جواب « لما » { ما نبغي } ط لأن ما بعده جملة مستأنفة موضحة للاستفهامية أو المنفية قبلها { إلينا } ج لاحتمال الاستئناف والعطف على ونحن نمير { كيل بعير } 5 ط { يسير } 5 { بكم } ط { قال الله } قيل : يسكت بين الفعل والاسم لأن القائل يعقوب لا الله سبحانه ، والأحسن أن يفرق بينهما بقوة النغمة فقط لئلا يلزم الفصل بين القائل والمقول { وكيل } 5 { متفرقة } ط { من شيء } ط { الله } ط { توكلت } ط { المتوكلون } 5 { أبوهم } ط لأن جواب « لما » محذوف أي سلموا بإذن الله { قضاها } ط { لا يعلمون } 5 .
التفسير : الأظهر أن هذا الملك هو الريان لا العزيز لأن قوله { أستخلصه لنفسي } يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له وقد كان يوسف قبل ذلك خالصاً للعزيز . وفي قول يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض } دلالة أيضاً على ما قلنا . والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك ، ومن عادة الملوك أن يتفردوا بالأشياء النفسية . روي أن جبريل دخل على يوسف في السجن وقال : قل اللَّهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب . فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه فجاءه الرسول وقال : أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله وكتب على باب السجن : « هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء » ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً جدداً ، فما دخل على الملك قال : اللَّهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه . { فلما كلمه } احتمل أن يكون ضمير الفاعل ليوسف وللملك . وهذا أولى لأن مجالس الملوك لا يحسن ابتداء الكلام فيها لغيرهم . يروى أن الملك قال له : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك . قال : رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن .

ومكان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك بعينها ، فتعجب من وفور علمه وحدسه - وكان قد علم من حاله ما علم من نزاهة ساحته وعدم مسارعته في الخروج من السجن - وقد وصف له الشرابي من جده في الطاعة والإحسان إلى سكان السجن ما وصف فعظم اعتقاده فيه فعند ذلك { قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } ويندرج في المكان كمال القدرة والعلم . أما القدرة فظاهرة ، وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير يتوقف على العلم بأفعال الخير وبأضدادها ، وكونه أميناً متفرع عن كونه حكيماً لأن لا يفعل لداعي الشهوة وإنما يفعله لداعي الحكمة . قال المفسرون : لما حكى يوسف رؤيا الملك وعبرها بين يديه قال له الملك : فما ترى أيها الصديق؟ قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن والأهراء وتجمع الطعام فيها فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد من قبلك ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل؟ فقال يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض } اللام للعهد أي ولني خزائن أرض مصر . والخزائن جمع الخزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ { إني حفيظ } للأمانات وأموال الخزائن { عليم } بوجوه التصرف فيها على وجه الغبطة والمصلحة . وقيل : حفيظ لوجوه أياديكم عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والشفقة . قال الواحدي : هذا الطلب خطيئة منه فكانت عقوبته أن أخر عنه المقصود سنة . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكن لما قال ذلك أخره الله تعالى عنه سنة » وقال آخرون : إن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه لأن النبي يجب عليه رعاية الأصلح لأمته بقدر الإمكان ، وقد علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضنك فأراد السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم ، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بالاستعانة من كافر أو فاسق فله أن يستظهر به ، على أن مجاهداً قد زعم أن الملك كان قد أسلم . وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه فكان في حكم التابع لا المتبوع . ووصف نفسه عليه السلام بالحفظ والعلم على سبيل المبالغة لم يكن لأجل التمدح ولكن للتوصل إلى الغرض المذكور . { وكذلك } أي مثل ذلك التقريب والإنجاء من السجن { مكنا ليوسف في الأرض } أرض مصر وهي أربعون فرسخاً في أربعين . { يتبؤّأ منها حيث يشاء } هو أو نشاء نحن على القراءتين والمراد بيان استقلاله بالتقلب والتصرف فيها بحيث لا ينازعه أحد . { نصيب برحمتنا من نشاء } فيه أن الكل من الله وبتيسيره .

وقالت المعتزلة : تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله صارت كأنها من قبل الله تعالى ، وعلقوا أيضاً المشيئة بالحكمة ورعاية الأصلح . والأشاعرة ناقشوا في هذا القيد . { ولا نضيع أجر المحسنين } لأن إضاعة الأجر تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حقه تعالى . { ولأجر الآخرة خير } من أجر الدنيا أو خير في نفسه . وفي قوله المحسنين وقوله : { للذين آمنوا وكانوا يتقون } إشارة إلى أن يوسف كان في الزمان السابق من المحسنين ومن المتقين ففيه دلالة على نزاهة يوسف عن كل سوء . قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق . يروى . أن الملك توجه وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال له : أما السرير فأشدّ به ملكك ، وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي . فقال : قد وضعته إجلالاً لك وإقراراً بفضلك . فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعد فزوّجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين : افراثيم وميشا . وأقام العدل بمصر وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني مما ترى؟ قال : الرأي رأيك . قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم . وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس . وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا فذلك قوله سبحانه : { وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } لم يعرفوه لأن طول العهد ينسي ولاعتقادهم أنه قد هلك أو لذهابه عن أوهامهم حين فارقوه مبيعاً بدراهم معدودة ثم رأوه ملكاً مهيباً جالساً على السرير في زي الفراعنة ، ويحتمل أن يكون بينه وبينهم مسافة وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج . وإنما عرفهم لأن أثر تغيير الهيئات عليهم كان أقل لأنه فارقهم وهم رجال ولم يغيروا زيهم عما هو عادتهم ، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم ، ويحتمل أن يكون عرفهم بالوحي . وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له . { ولما جهزهم بجهازهم } هو ما يحتاج إليه في كل باب ومنه جهاز العروس والميت . قال الليث : جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازاً للسفر .

قال : وسمعت أهل البصرة يحكون الجهاز بالكسر . وقال الأزهري : القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة جيدة { قال ائتنوني بأخ لكم من أبيكم } قال العلماء : لا بد من كلام يجر هذا الكلام فروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : ما أنتم؟ وما شأنكم فإني أنكركم . قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد وجئنا نمتار . فقال : لعلكم جئتم عيوناً؟ قالوا : معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب . قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد . فقال : فكم أنتم ههنا؟ قالوا : عشرة قال : فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك . قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون؟ قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا أحد . قال : فدعوا بعضكم عندي رهيناً وأتوني بأخيكم من أبيكم يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم . فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده . وقيل : كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا : إن لنا شيخاً كبيراً وأخاً آخر فبقي معه ولا بد لهما من حملين آخرين . فاستدل الملك ببقائه عند أبيه على زيادة محبته إياه وكونه فائقاً في الجمال والأدب فاستدعى منهم إحضاره . وقيل : لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف : فلم تركتموه وحيداً فريداً؟ فقالوا : بل بقي عنده واحد . فقال لهم : لم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ قالوا : لا بل لزيادة محبته . فقال : إن أباكم رجل عالم حكيم . ثم إنه خصه بمزيد المحبة مع أنكم فضلاء أدباء فلا بد أن يكون هو زائداً عليكم في الكمال والجمال فائتوني به لأشاهده . والأوّل قول المفسرين ، والآخران محتملان . ولما طلب منهم إحضار الأخ جمع لهم بين الترغيب والترهيب فالأوّل قوله : { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } المضيفين وكان قد أحسن ضيافتهم أو زاد لكل من الأب والأخ الغائب حملاً ، والثاني { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } مجزوم على النهي أو لأنه داخل في حكم الجزاء كأنه قيل : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا { قالوا سنراود عنه أباه } سنخادعه عنه ونجتهد حتى ننتزعه من يده { وإنا لفاعلون } كل ما في وسعنا في هذا الباب أو لقادرون على ذلك . { وقال لفتيانه } أو { لفتيته } قراءتان وهما جمع فتى كالأخوان والإخوة في أخ ففعلة للقلة ووجهه أن هذا العمل من الأسرار فوجب كتمانه عن العدد الكثير ، وفعلان للكثرة ووجهه أنه قال : { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } والرحال عدد كثير ويناسبه الجم الغفير من الغلمان الكيالين ، والبضاعة ما قطع من المال للتجارة ، والرحال جمع رحل والمراد به ههنا ما يستصبحه الرجل معه من الأثاث .

والأكثرون على أنه أمر بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجه لا يعرفون بدليل قوله : { لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم } وفرغوا ظروفهم { لعلهم يرجعون } لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا وكانت بضاعتهم النعل والأدم . وقيل : أمر بوصفها على وجه عرفوها ، والمعنى لعلهم يعرفون حق ردّها . أما السبب الذي لأجله أمر يوسف بذلك فقيل : ليعلموا كرم يوسف فيبعثهم ذلك على المعاودة . وقيل : خاف أن لا يكون عند أبيه من البضاعة ما يدعوهم إلى الرجوع ، أو أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان قحط ، أو لأن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم ، أو أراد أن يرجعوا ليعرفوا سبب الرد لأنهم أولاد الأنبياء فيحترزوا أن يكون ذلك على سبيل السهو ، أو أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم عيب ولا منة فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه . وقيل : { يرجعون } متعدٍ أي لعلهم يردونها . { قالوا : يا أبانا منع منا الكيل } أرادوا قول يوسف { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم } لأن إنذار المنع بمنزلة المنع يؤيده قراءة من قرأ { نكتل } بالنون أي نرفع المانع ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه ، ويحتمل أن يراد بالمنع أنهم إذا طلبوا الطعام لأبيهم والأخ المخلف فلعله منع من ذلك ، ويقوّي هذا الاحتمال قراءة الغيبة أي { يكتل } أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا . { قال هل آمنكم عليه } ضمنوا كونهم حافظين له فقال يعقوب : إنك ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف فهل يكون أماني الآن إلا كأماني فيما قبل يعني كما لم يحصل الأمان وقتئذ فكذا الآن . والظاهر أن ههنا إضماراً والتقدير فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وقال : { فالله خير حافظاً } و { حافظاً } نصب على التمييز واحتمل الثاني الحال نحو « لله درّه فارساً » وهو أرحم الراحمين } أرجوا أن لا يجمع عليّ مصيبتين . وقيل : إنه تذكر يوسف فقال : فالله خير حافظاً أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي { ولما فتحوا متاعهم } هو عام في كل ما يستمتع به ويجوز أن يراد به ههنا الطعام أو الأوعية . أما قوله { ما نبغي } فالبغي بمعنى الطلب و « ما » نافية أو استفهامية . المعنى ما نطلب شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان أو ما نريد منك بضاعة أخرى أو أيّ شيء نطلب وراء هذا نستظهر بالبضاعة المردودة إلينا . { ونمير أهلنا } في رجوعنا إلى الملك { ونحفظ أخانا } فما يصيبه شيء مما يخافه { ونزداد } باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أوساق أباعرنا فأيّ شيء نبغي وراء هذه المباغي؟! . ويجوز أن يكون البغي بمعنى الكذب والتزيد في القول على أن « ما » نافية أي ما نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه ، وكانوا قالوا له : إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا تلك الكرامة .

قال في الكشاف : فعلى هذا التفسير لا يكون قوله : { ونمير } معطوفاً على معنى قوله : { هذه بضاعتنا } وإنما يكون قوله : { هذه بضاعتنا } بياناً لصدقهم ، وقوله : { ونمير } معطوفاً على { ما نبغي } أو يكون كلاماً مبتدأ أي ونبغي أن نمير كما تقول : سعيت في حاجة فلان ويجب أو ينبغي أن أسعى ويجوز أن يراد ما نبغي ما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا . ثم بينوا كونهم مصيبين في رأيهم بقولهم : { هذه بضاعتنا } نستظهر بها ونميرأهلنا إلى آخره . يقال : ماره يميره إذا أتاه بميرة أي بطعام { ذلك كيل يسير } أي ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه ما يكال لأجل أخينا . وقال مقاتل . ذلك إشارة إلى كيل بعير أي ذلك القدر سهل على الملك لا يضايقنا فيه ولا يطول مقامنا بسببه . واختاره الزجاج . وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام يعقوب يعني أن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد . { قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً } تعطوني ما أثق به من عند الله وهو الحلف { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } استثناء من أعم العام في المفعول وقد يقع مثل هذا الاستثناء في الإثبات إذا استقام المعنى نحو « قرأت إلا يوم كذا » وإن شئت فأوّله بالنفي أي لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا بعلة واحدة هي أن يحاط بكم أي تهلكوا جميعاً قاله مجاهد ، أو تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به قاله قتادة : { على ما نقول } من طلب الموثق وإعطائه { وكيل } مطلع رقيب . قال جمهور المفسرين : إنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد خوفاً عليهم من إصابة العين . وههنا مقامان : الأوّل أن الإصابة بالعين حق لإطباق كثير من الأمة ولما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : « أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة . » أي جامعة لشر من لمه إذا جمعه أو المراد ملمة والتغيير للمزاوجة . وعن عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار فرأيته شديد الوجع ، ثم عدت إليه آخر النهار فرءَته معافى . فقال : إن جبرائيل عليه السلام أتاني فرقاني وقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك . قال : فأفقت . « وروي أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين . قال : أفلا تسترقون له من العين؟ وعنه صلى الله عليه وسلم : » العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر «

وقالت عائشة : كان يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين . المقام الثاني في الكشف عن حقيقته . قال الجاحظ : يمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن فتوثر وتسري فيه كتأثير اللسع والسم . واعترض الجبائي وغيره بأنه لو كان كذلك لأثر في غير المستحسن كتأثيره في المستحسن . وأجيب بأن المستحسن إن كان صديقاً للعائن عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله ، وإن كان عدواً حصل له خوف شديد من حصوله ، وعلى التقديرين يسخن الروح وينحصر في داخل القلب ويحصل في الروح الباصرة كيفية مسخنة مؤثرة ، فلهذا السبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم العائن بالوضوء من أصابته العين بالاغتسال منه . وقال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي : لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن غير الله ذلك الشخص حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به . وقال الحكماء : ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً أو وهمياً كما للماشي على الجذع ، أو تصوّرياً كما في الحركات البدنية ، وقد يكون للنفوس خواص عجيبة تتصرف غير أبدانها بحسبها فمنها المعجز ومنها السحر ومنها الإصابة بالعين . أما الجبائي وغيره ممن أنكر العين فقد قالوا : إن أولاد يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بكمالهم وجمالهم وهيئتهم فلم يأمن يعقوب أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم . وقيل : إنه كان عالماً بأن الملك ولده إلا أن الله تعالى لم يأمره بإظهاره وكان غرضه أن يصل بنيامين إليه في غيبتهم قاله إبراهيم النخعي . واعلم أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة ولكنه بعد السعي البليغ يجب أن يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فهو بقضاء الله وقدره وأن الحذر لا يغني عن القدر فلهذا قال يعقوب : { وما أغني عنكم من الله من شيء } فقوله الأوّل مبني على رعاية الأسباب والوسائط ، وقوله الثاني إلى آخر الآية إشارة إلى الحقيقة وتفويض الأمر بالكلية إلى مسبب الأسباب . وقد صدقه الله تعالى في ذلك بقوله : { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } قال ابن عباس : ما كان ذلك التفرق يردّ قضاء الله تعالى . وقال الزجاج وابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم . وقال آخرون : ما كان يغني عنهم رأي يعقوب شيئاً قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وأخذ الأخ وتضاعف المصيبة على الأب { إلا حاجة } استثناء منقطع أي ولكن حاجة { في نفس يعقوب قضاها } وهي إظهار الشفقة والنصيحة ، أو الخوف من إصابة العين ، أو من حسد أهل مصر ، أو من قصد الملك .

ثم مدحه الله تعالى بقوله : { وإنه لذو علم } يعنى علمه بأن الحذر لا يدفع القدر { لما علمناه } « ما » مصدرية أو موصولة أي لتعليمنا إياه ، أو للذي علمناه . وقيل : العلم الحفظ والمراقبة . وقيل : المضاف محذوف أي لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وإشارة إلى كونه عاملاً بعلمه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } مثل علم يعقوب أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم . وقيل : المراد بأكثر الناس المشركون لا يعلمون أنالله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة . التأويل : لما تبين لملك الروح قدر يوسف القلب وأمانته وصدقه وحسن استعداده سعى في خلاصه من سجن صفات البشرية ليكون خالصاً له في كشف حقائق الأشياء ، ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا ممكلة روحانية وجسمانية . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن في جسد بني آدم مضغة ، إن صلحت صلح بها سائر الجسد وإن فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب » وللقلب اختصاص آخر بالله دون سائر المخلوقات قال سبحانه : « لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن » { اجعلني على خزائن } أرض الجسد فإن الله تعالى في كل عضو من الأعضاء خزانة من اللطف إن استعمله الإنسان فيما خلق ذلك العضو لأجله ، وخزانة من القهر إن استعمله في ضده { إني حفيظ } للخزائن { عليم } باستعمالها فيما ينفعها دون ما يضرها { نصيب برحمتنا } فيه أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكولة إلى مشيئة الله تعالى . { وجاء إخوة يوسف } وهم الأوصاف البشرية { فعرفهم } يوسف القلب لأنه ينظر بنور الله { وهم له منكرون } لبقائهم في الظلمة حرمانهم عن النور . { ولما جهزهم } يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه الأوصاف البشرية بدل صفاتها الذميمة النفسانية بالصفات الحميدة الروحانية ، فاستدعى منهم إحضار بنيامين السر لأن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد التبديل المذكور ، وإذا حضر معه يوفى بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } فيه أن البضاعة كل عمل من الأعمال البدنية التي تحيا بها الأوصاف البشرية إلى حضرة يوسف مردودة إليها ، لأن القلب مستغن عنها . وإنما الأوصاف البشرية محتاجة إليها لأن النفس تتأدب وتتزكى بها كما قال تعالى { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } [ الإسراء : 7 ] وأن تربية القلب بالأعمال القلبية كالنيات الصالحة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « نية المؤمن خير من عمله » وكالعزائم الخالصة والأخلاق الحميدة والتوكل والإخلاص . ثم قال : كمال تربية القلب بالتخلية وتجلي صفات الحق وصفات ذاته { لعلهم يرجعون } من صفة الأمارية إلا المأمورية والاطمئنان فيستحق بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { ردّت إلينا } فوائده ما ترجع إلى يوسف القلب { ونمير أهلنا } الأعضاء والجوارح نحصل لهم قوّة زائدة على الطاعة بواسطة رسوخ الملكة له { ونحفظ أخانا } من الحوادث النفسانية والوساوس الشيطانية { ونزداد } بواسطة حضور السر عند القلب { كيل بعير } من الفوائد الربانية { وذلك كيل يسير } لمن يسره الله { لتأتنني به } مع الفوائد الربانية { إلا أن يحاط بكم } إلا أن يغالب عليكم الأحكام الأزلية { لا تدخلوا من باب واحد } لا تتقربوا إلى القلب بنوع واحد من المعاملات فللأسباب مدخل في التقريب إلا أن الكل موكل إلى مسبب الأسباب .


وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

القراآت : { أني أنا أخوك } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع . { نرفع درجات من نشاء } بالإضافة وبياء الغيبة في الفعلين : سهل ويعقوب . بالنون وبالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون وعلى الإضافة . { فلما استيأسوا } وبابه بالألف ثم الياء : أبو ربيعة عن البزي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة الباقون : بياء ثم همزة على الأصل { لي أبي } بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وافق ابن كثير في أبي .
الوقوف : { يعملون } 5 { لسارقون } 5 { تفقدون } 5 { زعيم } 5 { سارقين } 5 { كاذبين } 5 { فهو جزاؤه } ط { الظالمين } 5 { من وعاء أخيه } ط { ليوسف } ط { يشاء الله } ط لأن ما بعده مستأنف { نشاء } ط { عليم } 5 { من قبل } ط { مكاناً } ج { تصفون } 5 { مكانه } ج الثلاثة لانقطاع النظم مع اتصال المعنى المحسنين } 5 عنده لا لتعلق « إذا » بما قبلها { لظالمون } 5 { نجيا } ط { يوسف } ط للابتداء بالنفي مع فاء التعقيب { يحكم الله لي } ج لاحتمال ما بعده الابتداء أو الحال { الحاكمين } 5 { سرق } ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل { حافظين } 5 { أقبلنا فيها } ط لاختلاف الجملتين والابتداء بأنّ : { لصادقون } 5 { أمراً } ط { جميل } ط { جميعاً } ط { الحكيم } 5 .
التفسير : روي أنهم لما أتوه بأخيهم بنيامين أنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه . فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدته . ثم أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً وقال : هذا لا ثاني له فارتكوه معى فآواه إليه أي أنزله في المنزل الذي كان يأوي إليه : فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح . ولما رأى تأسفه لأخ هلك قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل : فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و { قال إني أنا أخوك } قال وهب : أراد إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس وعدم التوحش . وقال ابن عباس وسائر المفسرين : أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة { فلا تبتئس } افتعال من البؤس الشدّة والضر أراد نهيه عن اجتلاب الحزن { بما كانوا يعملون } من دواعي الحسد والأعمال المنكرة التي أقدموا عليها . يروى أن بنيامين قال ليوسف : أنا لا أفارقك . فقال له يوسف : قد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن أنسبك إلى ما ليس يحسن . قال : أنا راض بما رضيت . قال : فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك أنك قد سرقته فذلك قوله سبحانه { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه } والسقاية مشربة يسقى بها وهي الصواع كان يسقى بها الملك أو الدواب ثم جعلت صاعاً يكال به .

وكان مستطيلاً من ذهب أو فضة مموهة بالذهب أو مرصعاً بالجواهر أقوال { ثم أذن مؤذن } نادى منادٍ ومعناه راجع إلى الإيذان والإعلام إلا أن التشديد يفيد التكثير أو التصويب بالنداء { أيتها العير } أراد أصحاب العير كقوله صلى الله عليه وسلم : « يا خيل الله اركبي » والعير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء . وقيل : هي قافلة الحمير كأنها جمع عير وأصلها « فعل » بالضم كسقف فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء كما في « بيض » ثم كثر في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير وههنا سؤال وهو أنه كيف جاز لنبي الله أن يرضى بنسبة قومه إلى السرقة وهم برآء؟ وأجاب العلماء بأنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا السقاية غلب على ظنونهم أنهم أخذوها ، أو المؤذن ذكر ما ذكر على سبيل الاستفهام ، أو المراد أنهم سرقوا يوسف عليه السلام من أبيهم ، أو المراد أن فيكم سارقاً وهو الأخ الذي رضي بذلك البهتان فلا ذنب لأن الخصم رضي بأن يقال في حقه ذلك . ثم إن إخوة يوسف { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك } قيل : صواع اسم للصاع والسقاية وصف { ولمن جاء به } أي بالصواع { حمل بعير } من طعام جعلاً لمن حصله { وأنا به زعيم } كفيل هو من قول المؤذن وفيه أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم أيضاً إذا كان معلوماً فكأن حمل بعير كان عندهم شيئاً معلوماً كوسق مثلاً إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهو كفالة ما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم { قالوا تالله } التاء مبدلة من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل . حلفوا على أمرين معجبين : أحدهما أنهم علموا أن إخوة يوسف ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض بالنهب والغصب ونحو ذلك حتى روي أنهم دخلوا وأفواه دوابهم مشدودة خوفاً من أن تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد في الطرق والأسواق ، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ورد المظالم حتى حكي أنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم . وثانيهما أنهم ما وصفوا قط بالسرقة . { قالوا } أي أصحاب يوسف : { فما جزاؤه } قال في الكشاف : الضمير للصواع والمضاف محذوف أي فما جزاء سرقته إن كنتم من الكاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة؟ قلت : ويحتمل أن يعود إلى السارق ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في الجزاء حتى { قالوا جزاؤه من وجد في رحله } أي جزاؤه الرق .

قال الزجاج : وقوله { فهو جزاؤه } زيادة في البيان أي فأخد السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كما يقال حق السارق القطع جزاؤه لتقرر ما ذكر من استحقاقه ، ويجوز أن يكون مبتدأ وباقي الكلام جملة شرطية مرفوعة المحل بالخبرية على أن الأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ليكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ والأول إلى « من » ولكنه وضع المظهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة . وجوز في الكشاف أن يكون { جزاؤه } خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ، ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه . أما قوله : { كذلك } أي مثل ذلك الجزاء { نجزي الظالمين } فيحتمل أن يكون من بقية كلام إخوة يوسف وأن يكون من كلام أصحاب يوسف والله أعلم .
ثم قال لهم المؤذن ومن معه : لا بد من تفتيش أوعيتكم فانصرف بهم إلى يوسف { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه } لنفي التهمة والوعاء كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به . قال قتاة : كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثماً مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا أخوه قال : ما أظن هذا أخذ شيئاً . فقالوا : والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فنظر . { ثم استخرجها } أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث . { من وعاء أخيه } فأخذوا برقبته وحكموا برقيته . ثم قال سبحانه { كذلك } أي مثل ذلك الكيد العظيم { كدنا ليوسف } يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه . والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر به في أمر مكروه ولا سبيل إلى دفعه ، وقد سبق فيما تقدم أن أمثال هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات لا على البدايات . وما هذا الكيد؟ قيل : هو أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمره والله تعالى نصره وقواه . وقيل : الكيد يستعمل في الخير أيضاً والمعنى كفعلنا بيوسف من الإحسان إليه ابتداء فعلنا به انتهاء وقيل : تفسير هذا الكيد هو قوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } لأن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم مثلي ما سرق فما كان يوسف قادراً على حبس أخيه بناء على دين الملك وحكمه . ومعنى { إلا أن يشاء الله } هو أن الله كاد له فأجرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق حتى توصل بذلك إلى أخذ أخيه ، وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى بعض الأغراض الدينية والدنيوية . ثم مدحه على الهداية إلى هذه الحيلة كما مدح إبراهيم على ما حكى عنه من دلائل التوحيد والبراءة من إلهية الكوكب ثم القمر ثم الشمس فقال : { نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } فوقه أرفع درجة منه في علمه .

ثم إن أطلق على الله تعالى أنه ذو علم كان هذا العام مخصوصاً لأنه لا عليم فوقه ، وإن قيل : إنه عالم بلا علم كما يقوله بعض المعتزلة كان النص باقياً على عمومه ، وإن قلنا إن الكل بمعنى المجموع كان المعنى وفوق جميع العلماء عليم هم دونه في العلم وهو الله تعالى والميل إلى هذا التفسير لأن قوله : { ذو علم } مشعر بكون علمه زائداً على حقيقته ووصفه تعالى عين ذاته ، وفي هذا البحث طول وفي الرمز كفاية . يروى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له : ما الذي صنعت ففضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ، ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصاع؟ فقال : بنو راحيل هم الذين لا يزال منكم عليهم البلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم فعند ذلك { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } عنوا به يوسف . واختلف في تلك السرقة فعن سعيد بن جبير أن جده أبا أمه كان يبعد الوثن فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادتها . وقيل : سرق عناقاً من أبيه أو دجاجة ودفعها إلى مسكين . وقيل : كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته عمة يوسف فحضنت يوسف إلى أن شب فأراد يعقوب أن ينتزعه منها وكانت تحبه حباً شديداً فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه ثم زعمت أنه قد سرقها ، وكان في شرعهم استرقاق السارق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها . وقيل إنهم كذبوا عليه وبهتوه حسداً وغيظاً . { فأسرّها يوسف } قال الزجاج وغيره : الضمير يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل : فأسر الجملة في نفسه ولم يبدها لهم ، ثم فسرها بقوله : { قال أنتم شر مكاناً } والمعنى أنه قال هذه الجملة على سبيل الخفية . وطعن الفارسي في هذا الوجه فقال : إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل ، والحق أن القرآن حجة على غيره . وقيل : الضمير : عائد على الإجابة أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر . وقيل : يعود إلى المقالة أو السرقة أي لم يبين يوسف أن تلك السرقة كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والعار . وعن ابن عباس أنه قال : عوقب يوسف ثلاث مرات : عوقب بالحبس لأجل همه بها ، وبالحبس الطويل لقوله : { اذكرني عند ربك } وبقولهم : { فقد سرق أخ له من قبل } لقوله : { إنكم لسارقون } ومعنى { شر مكاناً } شر منزلة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم على التحقيق وقلتم أكله الذئب { والله أعلم بما تصفون } المراد أنه يعلم أني لست بسارق في التحقيق ولا أخي ، أو الله أعلم بأن الذي وصفتموه هل يوجب ذماً أم لا .

قال ابن عباس : لما قال يوسف هذا القول غضب يهوذا وكان إذا غضب وصاح لم تسمع صوته حامل إلا وضعت وقام شعره على جلده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه . فقال لبعض إخوته : اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف لابن صغير له : مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف رجله على الأرض ليريه أن شديد وجذبه فسقط فعند ذلك { قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً } في السن أو في القدر وهو أحب إليه منا { فخذ أحدنا مكانه } استعباداً أو رهناً حتى نبعث الفداء إليك فلعل العفو أو الفداء كان جائزاً أيضاً عندهم { إنا نراك من المحسنين } لو فعلت ذلك أو من المحسنين إلينا بأنواع الكرامة ورد البضاعة إلى رحالنا أو أرادوا الإحسان إلى أهل مصر حيث أعتقهم بعدما اشترى رقابهم بالطعام { قال } يوسف { معاذ الله } من { أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً } أي إذا أخذنا غيره { لظالمون } في مذهبكم لأن استعباد غير من وجد الصواع في رحله ظلم عندكم ، أو أراد إن الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملاً بخلاف الوحي { فلما استيأسوا منه } حيث لم يقبل الشفاعة أي يئسوا والزيادة للبالغة . { خلصوا } اعتزلوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم { نجياً } مصدر والمضاف محذوف أي ذوي نجوى ، أو المراد أنهم التناجي في أنفسهم لاستجماعهم بذلك واندفاعهم فيه بجد واهتمام كما يقال : رجل جور ورجال عدل ، أو صفة لموصوف محذوف أي فوجاً نجياً بمعنى مناجياً بعضهم لبعض كالعشير بمعنى المعاشر . وفيم كان تناجيهم؟ الجواب في تدبير أمرهم على أيّ وجه يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم فعند ذلك { قال كبيرهم } في السن وهو روبيل ، أو في القدر وهو شمعون لأنه كان رئيسهم ، أو في العقل والرأي وهو يهوذا . وقوله : { ما فرطتم } إما أن تكون « ما » صلة أي ومن قبل هذا قصرتم { في } شأن { يوسف } ولم توفوا بعهدكم أباكم ، وإما أن تكون مصدرية محله الرفع على الابتداء وخبره بالظرف تقديره ومن قبل تفريطكم أي وقع من قبل تقصيركم في حقه ، أو النصب عطفاً على مفعول ألم تعلموا كأنه ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل ، وإما أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في شأن يوسف من الجناية والخيانة ومحل الموصول الرفع أو النصب على الوجهين . { فلن أبرح الأرض } فلن أفارق أرض مصر { حتى يأذن لي أبي } في الانصراف { أو يحكم الله لي } بالخروج منها أو بالانتصاف من أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب .

ثم إنه بقي ذلك الكبير في مصر وقال لغيره من الإخوة . { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق } قاله بناء على ما شاهد من استخراج الصواع من وعائه ، أو أراد أنه سرق في قول الملك وأصحابه كقول قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] أي في زعمك واعتقادك ، أو المراد إن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة . وإطلاق اسم أحد الشبيهين على الآخر جائز أو القوم ما كانوا حينئذ أنبياء فلا يبعد منهم الذنب . وعن ابن عباس أنه قرأ { سرق } مشدداً مبنياً للمفعول أي نسب إلى السرقة . وعلى هذا فلا إشكال ، ومما يدل على أنهم بنوا الأمر على الظاهر قوله { وما شهنا إلا بما علمنا } أي إلا بقدر ما تيقناه من رؤية الصواع في وعائه { وما كنا للغيب } للأمر الخفي { حافظين } فإن الغيب لا يعلمه إلا الله . وعن عكرمة أن الغيب الليل معناه لعل الصواع دس في رحله بالليل من حيث لا يشعر ، أو ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق قاله مجاهد والحسن وقتادة ، أو ما علمنا أنا إذا قلنا إن شرع بني إسرائيل هو استرقاق السارق أخذ أخونا بتلك الحيلة . ثم بالغوا في إزالة التهمة فقالوا : { واسأل القرية التي كنا فيها } الأكثرون على أنها مصر . وقيل : قرية على باب مصر وقع فيها التفتيش أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة { و } اسأل أصحاب { العير التي أقبلنا فيها } وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب . وقيل : قوماً من أهل صنعاء . وقال ابن الأنباري : إن يعقوب كان من أكابر الأنبياء فلا يبعد أن يحمل سؤال القرية على الحقيقة بأن ينطق الله الجمادات لأجله معجزة ، فالمراد اسأل القرية والعير والجدران والحيطان فإنها تجبيك بصحة ما ذكرنا . وقيل : إن الشيء إذا ظهر ظهوراً تاماً فقد يقال سل عنه السماء والأرض وجميع الأشياء ويراد إنه ليس للشك فيه مجال . ثم زادوا في تأكيد نفي التهمة قائلين { وإنا لصادقون } وليس غرضهم إثبات صدقهم فإن ذلك يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ولكن الإنسان إذا ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده أنا صادق فتأمل فيما ذكرته ليزول عنك الشك . وههنا إضمار التقدير فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم فعند ذلك : { قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل } وقد مر تفسيره في أول السورة . ولكن المفسرين زادوا شيئاً آخر فقيل : المراد أنه خيل إليكم أنه سرق وما سرق . وقيل : أراد سوّلت لكم أنفسكم إخراج بنيامين والمصير به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم عليّ في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله ربما جاء على خلاف تقديركم .

وقيل : أراد فتواهم وتعليمهم وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته . واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز على يعقوب السعي في إخفاء حكم الله تعالى؟ وأجيب بأن ذلك الحكم لعله كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق له مسلماً وكان الملك في ظن يعقوب كافراً ، ولما طال بلاؤه ومحنته علم بحسن الظن والرجاء أنه سبحانه سيجعل له فرجاً ومخرجاً عما قريب ، أو لعله علم بالوحي أن يوسف حي وكان بنيامين والكبير الذي قال : { فلن أبرح الأرض } قد بقيا في مصر فلذلك قال : { عسى الله أن يأتيني بهم } أي بالثلاثة الغائبين { جميعاً إنه هو العليم } بحالي { الحكيم } في كل ما يفعله من الابتلاء والإبلاء .
التأويل : لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر { على يوسف } القلب { آوى } القلب السر { إليه } لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية { فلا تبتئس } إذا وصلت بي { بما كانوا يعملون } معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقاً من قلب مقارناً للأوصاف كان محروماً عن كمالات هو مستعد لها { فلما جهزهم } جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها { جعل السقاية } وهي مشربة كان منها شربه { في رحل أخيه } لأنهما رضيعا لبان واحد { إنكم لسارقون } سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها ، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم ، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه { ولمن جاء به حمل بعير } من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقاً للشرب من مشارب الملوك { لقد علمتم } أن المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] { وما كنا سارقين } إذ أخذنا يوسف القلب وألقيناه في غيابة الجب البشرية بل سعينا في أن ينال مملكة مصر العبودية ليكون عزيزاً فيها ونحن أذلاء له { جزاؤه من وجد في رحله } أي لكل شارب مشرب ولكل شرب فدية . ففدية الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته وكسبه ، وفدية الشارب من مشرب الآخرة الدنيا وشهواتها ، وفدية الشارب من شرب المحبة بذل الوجود { كذلك نجزي الظالمين } الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعاً في أن يكونوا حريف الملك وشريبه { كذلك كدنا ليوسف } أي كما كاد الأوصاف البشرية في الابتداء بيوسف القلب إذ ألقوه في جب البشرية كدنا بهم عند قسمة الأقوات من خزانة الملك فجعلنا قسمتهم من مراتع الحيوانات يأكلون كما تأكل الأنعام ، وقسمة بنيامين السر من مشربة الملك . { وفوق كل ذي علم } آتيناه علم الصعود { عليم } بجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله ، وهذا صواع لا تسعه أوعية الإنسانية { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } فيه إشارة إلى السر والقلب مع أنهما مخصوصان بالحظوظ الأخروية والروحانية فإنهم قابلان للاسترقاق من الشهوات الدنياوية والنفسانية ولما رأت الأوصاف البشرية عزة القلب وعرفت اختصاص البشرية أرادت أن تفدي نفسها وسيلة إلى يعقوب الروح فقالت : { فخذ أحدنا مكانه } { قال معاذ الله } أن نقبل بالصحبة والمخالطة { إلا من وجدنا متاعنا } من الصدق والمحبة والإخلاص عنده أي لا تكون صحبتنا بالكراهية والنفاق وإنما تكون بعلة الجنسية { فلما استيأسوا } من صحبة القلب { خلصوا } عن الأوصاف الذميمة للتناجي { قال كبيرهم } هو العقل ألم تعلموا أن أباكم وهو الروح { قد أخذ عليكم موثقاً من الله } يوم الميثاق أن لا تعبدوا إلا الله { فلن أبرح } أرض فناء القلب وهي الصدر .

والحاصل أن صفة العقل لما تخلصت عن الأوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفاتها وصارت محكومة لأوامر الروح مستسلمة لأحكام الحق . { ارجعوا إلى أبيكم } الروح على أقدام العبودية وتبديل الأخلاق { إن ابنك سرق } لأنه وجد في رحله مشربة المحبة التي بها يكال الحب على وفده . { وما كنا للغيب } عند ارتحالنا من الغيب إلى الشهادة { حافظين } لأنه جعل السقاية في رحله في غيبتنا . { واسأل } أهل مصر الملكوت وأرواح الأنبياء والأولياء { قال بل سولت } فيه أن للنفس تزيينات وللأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح لكن عليه أن يصبر على إمضاء أحكام الله وتنفيذ قضائه { عسى الله أن يأتيني } فيه أن متولدات الروح من القلب والأوصاف وغيرها وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد للاستكمال فإن الله بجذبات العناية يجمعهم في مقعد صدق عنده مليك مقتدر { إنه هو العليم } بافتراقهم { الحكيم } بما في التفريق والجمع من الفوائد .


وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)

القراآت : { مزجاة } بالإمالة : حمزة وعلي وخلف { حزني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو . { قالوا إنك } على الخبر أو على حذف حرف الاستفهام : ابن كثير ويزيد . { أئنك } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام يدخل بينهما مدة . { أينك } بهمز ثم ياء : نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد { آينك } بهمزة ممدودة ثم ياء : أبو عمرو وزيد وقالون . { من يتقي } بالياء في الحالين : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل . الباقون بغير ياء { إني أعلم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { ربي إنه } بالفتح أيضاً : أبو جعفر وأبو عمرو { أبي إذ } بالفتح أيضاً عندهم { إخوتي } { ربي } بفتح الياء أيضاً : يزيد والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني والله أعلم .
الوقوف : { كظيم } 5 { الهالكين } 5 { لا تعلمون } 5 { ولا تيأسوا من روح الله } ط { الكافرون } 5 { وتصدق علينا } ط { المتصدقين } 5 { جاهلون } 5 { لأنت يوسف } ط { أخي } ز لتعجيل الشكر مع اختلاف الجملتين . { علينا } ط لاحتمال أنه ابتداء إخبار من الله ، وإن كان من قول يوسف جاز الوقوف أيضاً لاتحاد القائل مع الابتداء بأن { المحسنين } 5 { الخاطئين } 5 { اليوم } ط لاختلاف الجملتين نفياً وإثباتاً أو خبراً ودعاء { لكم } ط لاحتمال الاستئناف والحال أوضح { الراحمين } 5 { يأتي بصيراً } ج لطول الكلام واعتراض الجواب مع اتفاق الجملتين { أجمعين } 5 { تفندون } 5 { القديم } 5 { بصيراً } ج لاحتمال أن يكون ما بعده جواب « لما » وقوله { ألقاه } حالاً بإضمار « قد » { ما لا تعلمون } 5 { خاطئين } 5 { ربي } ط { الرحيم } 5 { آمنين } 5 { سجداً } ج { من قبل } ز لتمام الجملة لفظاً دون المعنى . { حقاً } ط لتمام بيان الجملة الأولى وابتداء جملة عظمى { إخوتي } ط { لما يشاء } ط { الحكيم } 5 { الأحاديث } ج لحق حذف حرف النداء مع اتصال الكلام { والآخرة } ج لانقطاع النظم مع اتصال الثناء بالدعاء { الصالحين } 5 .
التفسير : لما سمع يعقوب ما سمع من حال ابنه ضاق قلبه جداً { وتولى عنهم } أي أعرض عن بنيه الذين جاءوا بالخبر وفارقهم { وقال يا أسفي على يوسف } الأسف أشد الحزن . والألف فيه مبدل من ياء الإضافة ونداء الأسف كنداء الويل وقد مر في المائدة . والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف لا يخفى حسنه وهو من الفصاحة اللفظية . وكيف تأسف على يوسف دون أخيه الآخر الذي أقام بمصر والرزء الأحدث أشد؟ الجواب لأن الحزن الجديد يذكر العتيق والأسى يجلب الأسى ، ولأن رزء يوسف كان أصل تلك الرزايا فكان الأسف عليه أسفاً على الكل ولأنه كان عالماً بحياة الآخرين دون حياة يوسف { وابيضت عيناه من الحزن } أي من البكاء الذي كان سببه الحزن .

قال الحكماء : إذا كثر الاستعبار أوجب كدورة في سواد العين مائلة فيكون منها العمى لإيلام الطبقات ولا سيما القرنية وانصباب الفضول الردية إليها . قال مقاتل : لم يبصر ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف . وقال آخرون : لم يبلغ حد العمى وكان يدرك إدراكاً ضعيفاً ، أو المراد بالبياض غلبة البكاء كأن العين ابيضت من بياض ذلك الماء . روي أنه لم تجف عين يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ وجد سبعين ثكلى . قال : فما كان له من الأجر؟ قال : أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط . ونقل أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف حين ما كان في السجن فقال : إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك . فوضع يوسف يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني فلم أكن حزناً على أبي ، قال أكثر أهل اللغة : الحزن والحزن لغتان بمعنى . وقال بعضهم : الحزن بالضم فالسكون البكاء ، والحزن بفتحتين ضد الفرح ، وقد روى يونس عن أبي عمروا قال : إذا كان في موضع النصب فتحوا كقوله { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً } [ التوبة : 92 ] وإذا كان في موضع الجر أو الرفع ضموا كقوله من الحزن . وقوله : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } قال : هو في موضع رفع بالابتداء قيل : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ وأجيب بأن المنهي من الجزع هو الصياح والنياحة وضرب الخد وشق الثوب لا البكاء ونفثة المصدور ، فلقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون . ومما يدل على أن يعقوب عليه السلام أمسك لسانه عن النياحة وعما لا ينبغي قوله : { فهو كظيم } « فعيل » بمعنى « مفعول » أي مملوء من الغيظ على أولاده من غير إظهار ما يسوءهم ، أو مملوء من الحزن مع سد طريق نفثة المصدور من كظم السقاء إذا شده على ملئه ، أو بمعنى الفاعل أي الممسك لحزنه غير مظهر إياه . والحاصل أنه غرق ثلاثة أعضاء شريفة منه في بحر المحنة : فاللسان كان مشغولاً بذكر { يا أسفا } والعين كانت مستغرقة في البكاء ، والقلب كان مملوءاً من الحزن . ومثل هذا إذا لم يكن بالاختيار لم يدخل تحت التكليف فلا يوجب العقاب . يروى أن ملك الموت دخل على يعقوب فقال له : جئتني لتقبضني قبل أن أرى حبيبي؟ قال : لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك . عن النبي صلى الله عليه وسلم :

« لم تعط أمة من الأمم { إنا لله وإنا إليه راجعون } عند المصيبة إلا أمة محمد ، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وإنما قال يا أسفا » وضعف هذه الرواية فخر الدين الرازي في تفسيره وقال : من المحال أن لا تعرف أمة من الأمم أن الكل من الله وأن الرجوع لا محالة إليه . وأقول : هذا نوع من المكابرة فإن منكري المبدأ والمعاد أكثر من حصباء الوادي ، على أن المراد من الإعطاء الإرشاد إلى هذا الذكر وخصوصاً عند المصيبة وقد أخبر الصادق عليه السلام أن هذا مما خصت هذه الأمة به والله أعلم ، { قالوا } الأظهر أنهم ليسوا أولاه الذين تولى عنهم وإنما هم جماعة كانوا في الدار من خدمه وأولاد أولاده . { تالله تفتؤ } أراد « لا تفتؤ » فحذف حرف النفي لعدم الإلباس إذ لو كان إثباتاً لم يكن بد من اللام والنون . قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة أي لا تزال تذكر . وعن مجاهد : لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين . قال أبو زيد : ما فتئت أذكره أي ما زلت لا يتكلم به إلا مع الجحد { حتى تكون حرضاً } وصف بالمصدر للمبالغة . والحرض فساد في الجسم والعقل للحزن والحب حتى لا يكون كالأحياء ولا كالأموات ، أرادوا أنك تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تشفى على الهلاك أو تهلك فأجابهم بقوله : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } قالت العلماء : إذا أسر الإنسان حزنه كان هماً ، وإذا لم يقدر على إسراره فذكر لغيره كان بثاً . فالبث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس . فمعنى الآية إني لا أذكر الحزن الشديد ولا القليل إلا مع الله ملتجئاً إليه وداعياً له فخلوني وشكايتي . وهذا مقام العارفين الصديقين كقول نبينا صلى الله عليه وسلم « أعوذ بك منك » ويحتمل أن يكون هذا معنى توليه عنهم أي تولى عنهم إلى الله والشكاية إليه .
يحكى أنه دخل على يعقوب رجل وقال له : ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سناً عالياً . فقال : الذي بي لكثرة غمومي . فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفر له . فكان بعد ذلك إذا سأل قال : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } وروي أنه أوحي إلى يعقوب إنما وجدت - أي غضبت - عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين . وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت . واعلم أن حال يعقوب في تلك الواقعة كانت مختلفة؛ فتارة كان مستغرقاً في بحار معرفة الله ، وتارة كان يستولى عليه الحزن والأسف فلهذا كانت هذه الحادثة بالنسبة إليه كإلقاء إبراهيم في النار ، وكابتلاء إسحق بالذبح ، وكان شغل همه بيوسف بغير اختيار منه ، وكذا تأسفه عليه ، وما روي أنه عوتب على ذلك فلأن حسنات الأبرار سيئات المقربين .

وبالحقيقة كانت واقعة يعقوب أمراً خارق العادة أراد الله تعالى بذلك ابتلاءه وتمادي أسفه وحزنه وإلا فمع غاية شهرته وشدة محبته وقرب المسافة بينه وبين ابنه كيف خفي حال يوسف ولم لم يبعث يوسف إليه رسولاً بعد تملكه وقدرته ، ولم زاد في حزن أبيه بحبس أخيه عنده؟! أما قوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } فمعناه أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون ، فأرجو أن يأتيني الفرج من حيث لا أحتسب . وقيل : إنه رأى ملك الموت في المنام فقال له : يا ملك المو هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال : لا يا نبي الله . ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه ههنا . وقيل : إنه كان قد رأى أمارات الرشد والكمال في يوسف علم أن رؤياه صادقة لا تخطىء . وقال السدي : أخبره بنوه بسيرة الملك وكماله حاله في أقواله وأفعاله أنه ابنه ، أو علم أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه فغلب على ظنه أن الملك هو يوسف . وقيل : أوحى الله تعالى إليه أنه سيلقى ابنه ولكنه ما عين الوقت فلذلك قال ما قال . ثم دعا بنيه على سبيل التطلف فقال : { يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف } وهو طلب الشيء بالحاسة كالتسمع والتبصر ومثله التجسس بالجيم . وقد قرىء بهما وربما يخص الجيم بطلب الخبر في ضد الخير { ولا تيأسوا من روح الله } من فرجه وتنفيسه وقرىء بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد . قال الأصمعي : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه ، والتركيب يدل على الحركة والهزة فكل ما تهتز بوجوده وتلتذ به فهو روح { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } لأن هذا اليأس دليل على أنه اعتقد أن الله تعالى غير قادر على كل المقدورات ، أو غير عالم بجميع المعلومات ، أو ليس بجواد مطلق ولا حكيم لا يفعل العبث ، وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلاً عن جميعها اللَّهم إني لا أيأس من روحك فافعل بي ما أنت أهله . ثم ههنا إضمار والتقدير فقبلوا وصية أبيهم وعادوا إلى مصر { فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز } أي الملك القادر المنيع { مسنا وأهلنا الضر } الفقر والحاجة إلى الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم { وجئنا ببضاعة مزجاة } مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته قال سبحانه { ألم تر أن الله يزجي سحاباً } [ النور : 43 ] ومنه قوله : « فلان يزجي العيش » أي يدفع الزمان بالقليل . قال الكلبي . هي من لغة العجم .

وقيل : لغة القبط . والأصح أنها عربية لوضوح اشتقاقها . قيل : كانت بضاعتهم الصوف والسمن . وقيل : الصنوبر والحبة الخضراء . وقيل : سويق المقل والأقط . وقيل : دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بنقص لأنها لم يكن عليها صورة يوسف وكانت دراهم مصر ينقش عليها صورته . { فأوف لنا الكيل } الذي هو حقنا . { وتصدق علينا } واعلم أنهم طلبوا المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد . واختلف العلماء في أنه هل كان ذلك منهم طلب الصدقة؟ فقال سفيان بن عيينة : إن الصدقة كانت حلالاً على الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : أرادوا بالصدقة التفضل بالإغماض عن رداءة البضاعة وبإيفاء الكيل والصدقات محظورة على الأنبياء كلهم . وقوله : { إن الله يجزي المتصدقين } يمكن تنزيله على القولين لأن كل إحسان يبتغى به وجه الله فإن ذلك لا يضيع عنده والصدقة العطية التي ترجى بها المثوبة عند الله ومن ثم لم يجوز العلماء أن يقال : الله تعالى متصدق أو اللَّهم تصدق علي بل يجب أن يقال : اللَّهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني .
كان يعقوب أمرهم بالتحسس من يوسف وأخيه والمتحسس يجب عليه أن يتوسل إلى مطلوبه بجميع الطرق كما قيل : الغريق يتعلق بكل شيء . فبدأوا بالعجز والاعتراف بضيق اليد وإظهار الفاقة فرقق الله تعالى قلبه وارفضت عيناه فعند ذلك قال : { هل علمتم ما فعلتم بيوسف } وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد ، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء . أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه برداً وسلاماً ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهب عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته لذلك ، وإما أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام . فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك . وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : « اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا » . وقوله : { هل علمتم } استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه كما يقال للمذنب : هل تدري من عصيت . وفيه تصديق لقوله سبحانه : { لتنبئهم بأمرهم هذا } [ يوسف : 15 ] وأما فعلهم بأخيه فتعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بالاحتقار والامتهان .

وقوله : { إذ أنتم جاهلون } جارٍ مجرى الاعتذار عنهم كأنه قال : إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في أوان الصبا وزمان الجهالة : والغرة إزالة للخجالة عنهم فإن مطية الجهل الشباب وتنصحاً لهم في الدين أي هل علمتم قبحه فتبتم لأن العلم بالقبح يدعو إلى التوبة غالباً فآثر كما هو عادة الأنبياء حق الله على نفسه في المقام الذي يتشفى المغيظ وينفث المصدور ويدرك ثأره الموتور . وقيل : إنما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا بعلمهم . ولما كلمهم بذلك { قالوا أئنك لأنت يوسف } عرفوه بالخطاب الذي لا يصدر إلا عن حنيف مسلم عن سنخ إبراهيم ، أو تبسم عليه السلام فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم ، أو رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء كان ليعقوب وسارة مثلها { قال أنا يوسف } صرح بالاسم تعظيماً لما جرى عليه من ظلم إخوته كأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أشنع الوجوه والله أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك الأخ الذي قصدتم قتله ثم صرت كما ترون ولهذا قال : { وهذا أخي } مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت صار منعماً عليه من الله وذلك قوله : { قد منَّ الله علينا } أي بكل خير دنيوي وأخروي أو بالجمع بعد التفرقة { إنه } أي الشأن { من يتق } عقاب الله { ويصبر } عن معاصيه وعلى طاعته { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } أراد أجرهم فاكتفى من الربط بالعموم . ومن قرأ { يتقي } بإثبات الياء فوجهه أن يجعل « من » بمعنى « الذي » ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله : { ويصبر } في موضع الرفع إلا أنه حذفت الحركة للتخفيف أو المشاكلة . وفي الآية دليل على براءة ساحة يوسف ونزاهة جانبه من كل سوء وإلا لم يكن من المتقين الصابرين .
{ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا } اعتراف منهم بتفضيله عليهم بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين وصورة الأحسنين . ولا يلزم من ذلك أن لا يكون أنبياء وإن احتج به بعضهم لأن الأنبياء متفاوتون في الدرجات { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [ البقرة : 253 ] { وإن كنا } وإن شأننا أنا كنا خاطئين . قال أبو عبيدة : خطىء وأخطأ بمعنى واحد . وقال الأموي : المخطىء من أراد الصواب فصار إلى غيره ومنه قولهم : « المجتهد يخطىء ويصيب » . والخاطىء من تعمد ما لا ينبغي . قال أبو علي الجبائي : إنهم لم يعتذروا عن ذلك الذي فعلوا بيوسف لأنه وقع منهم قبل البلوغ ومثل ذلك لا يعد ذنباً ، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطئوا بعد ذلك حين لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله . واعترض عليه فخر الدين الرازي بأنه يبعد من مثل يعقوب أن يبعث جمعاً من الصبيان من غير أن يبعث معهم رجلاً بالغاً عاقلاً ، فالظاهر أنه وقع ذلك منهم بعد البلوغ .

سلمنا لكن ليس كل ما لا يجب الاعتذار عنه لا يحسن الاعتذار عنه ، ولما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم متعمدين للإثم { قال } يوسف { لا تثريب عليكم } لا تأنيب ولا توبيخ . وقيل : لا أذكر لكم ذنبكم . وقيل : لا مجازاة لكم عندي على ما فعلتهم . وقيل : لا تخليط ولا إفساد عليكم واشتقاقه من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كالتجليد والتقريد لإزالة الجلد والقراد وذلك لأنه إذا ذهب منه الثرب كان في غاية الهزال والعجف فصار مثلاً للتقريع المدنف المضني . وقوله : { اليوم } إما أن يتعلق بالتثريب أو بالاستقرار المقدر على عليكم أي لا أثربكم اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره . ثم ابتدأ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم ليكون عقاب الدارين مزالاً عنهم . وأصل الدعاء أن يقع على لفظ المستقبل فإذا أوقعوه لفظ الماضي فذلك للتفاؤل ، ويحتمل أن يكون { اليوم } متعلقاً بالدعاء فيكون فيه بشارة بعاجل غفران الله لتجدد توبتهم وحدوثها في ذلك اليوم . يروى أن إخوته لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشياً ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك . فقال يوسف : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظرون إليّ شزراً ويقولون : سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ يوم الفتح بعضادتي باب الكعبة فقال لقريش : ما ترونني فاعلاً بكم؟ قالوا : نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت . فقال صلى الله عليه وسلم : أقول ما قال أخي يوسف { لا تثريب عليكم اليوم } . قال عطاء الخراساني : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته { لا تثريب عليكم اليوم } وقول يعقوب : { سوف أستغفر لكم } ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيهم فقالوا ذهبت عيناه فقال : { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } كقولك جاء البنيان محكماً ومثله { فارتد بصيراً } أو المراد يأت إلى وهو بصير دليله قوله : { وأتوني بأهلكم أجمعين } قيل : هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف . وكان من الجنة أوحى الله إليه أن فيه عافية كل مبتلي وشفاء كل سقيم . وقالت الحكماء : لعله علم أن أباه ما كان أعمى وإنما صار ضعيف البصر من كثرة البكاء فإذا ألقى عليه قميصه صار منشرح الصدر فتقوى روحه ويزول ضعفه . روي أن يهوذا حمل القميص وقال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم فأفرحه كما أحزنته ، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً .

عن الكلبي : كان أهله نحواً من سبعين إنساناً . وقال مسروق : دخل قوم يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم نحو من ستمائة ألف .
{ ولما فصلت العير } خرجت من عريش مصر فصل من البلد فصولاً انفصل منه وجاوز حيطانه ، وفصل مني إليه كتاب إذا نفذ وإذا كان فصل متعدياً كان مصدره الفصل { قال أبوهم } لمن حوله من قومه { إن لأجد } بحاسة الشم { ريح يوسف } قال مجاهد : هبت ريح فصفقت القميص ففاحت رائحة الجنة في الدنيا فعلم يعقوب أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من من ذلك القميص . قال أهل التحقيق : إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عند انقضاء مدة المحنة ومجيء أوان الروح والفرح من مسيرة ثمان ، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب البلدين في مدة ثمانين سنة أو أربعين عند الأكثرين وكلاهما معجزة ليعقوب خارقة للعادة ، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فإنه في زمان الإقبال سهل . وقوله : { لولا أن تفندون } جوابه محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدّقتموني . والتفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وتغير العقل من هرم يقال : شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن ذات رأي فتفند في الكبر . { قالوا } يعني الحاضرين عنده { تالله إنك لفي ضلالك القديم } أي فيما كنت فيه قدماً من البعد عن الصواب في إفراط محبة يوسف كما قال بنوه { إن أبانا لفي ضلال مبين } [ يوسف : 8 ] . وقيل : لفي شقائك القديم بما تكابد على يوسف من الأحزان . قال الحسن : إنما قالوا هذه الكلمة الغليظة لاعتقادهم أن يوسف قد مات . { فلما أن جاء } « أن صلة » أي فملا جاء مثل { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } [ هود : 74 ] وقيل : هي مع الفعل في محل الرفع بفعل مضمر أي فلما ظهر أن جاء البشير وهو يهوذا { ألقاه } طرحه البشير أو يعقوب على وجهه { فارتد بصيراً } أي انقلب من العمى إلى البصر أو من الضعف إلى القوة { قال ألم أقل لكم } جوز في الكشاف أن يكون مفعوله محذوفاً وهو قوله : { إني لأجد ريح يوسف } أو قوله : { ولا تيأسوا من روح الله } ويكون قوله : { إني أعلم } كلاماً مستأنفاً . والظاهر أن مفعوله قوله : { إني أعلم من الله ما لا تعلمون } وذلك أنه كان قال لهم : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون } وروي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال : هو ملك مصر . قال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام . قال : الآن تمت النعمة . ثم إن أولاده أخذوا يعتذرون إليه فوعدهم الاستغفار .

قال ابن عباس والأكثرون : أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأنه أرجى الأوقات إجابة . وعن ابن عباس في رواية أخرى أخر إلى ليلة الجمعة تحرياً لوقت الإجابة . وقيل : أخر لتعرف حالهم في الإخلاص . وقيل : استغفر لهم في الحال ووعدهم دوام الاستغفار في الاستقبال . فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة . روي أنه قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه وقال : اللَّهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحي إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين . وروي أنهم قالوا له - وقد علتهم الكآبة - وما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرت لنا عين أبداً . فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى جهدوا وظنوا أنهم هلكوا نزل جبريل فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة . واختلاف الناس في نبوتهم مشهور ، يحكى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي ويتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر؟ قال : لا هذا ولدك : فلما لقيه قال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان . فأجابه يوسف وقال : يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال : بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك . ومعنى { آوى إليه أبويه } ضمهما إليه واعتنقهما . قال ابن إسحق : كانت أمة باقية إلى ذلك الوقت أو ماتت إلى أن الله تعالى أحياها ونشرها من قبرها تحقيقاً لرؤيا يوسف . وقيل : المراد بأوبويه أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين حتى قيل إن بنيامين بالعبرية ابن الوجع ، ولما توفيت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى أحد الأبوين لأن الخالة تدعى أماً لقيامها مقام الأم ، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب فيكف وقد اجتمع ههنا الأمران . قال السدي : كان دخولهم على يوسف قبل دخولهم على مصر كأنه حين استقبلهم نزل لأجلهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضم إليه أبويه { وقال ادخلوا مصر } فعلى هذا جاز أن يكون الاستثناء عائداً إلى الدخول . وعن ابن عباس : ادخلوا مصر أي أقيموا بها . وقوله : { إن شاء الله آمنين } تعلق بالدخول المكيف بالأمن فكأنه قيل : اسلموا وأمنوا في دخولكم وإقامتكم إن شاء الله وجواب الشرط بالحقيقة محذوف والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين ، أراد الأمن على أنفسهم وأموالهم وأهليهم بحيث لا يخافون أحداً وكانوا فيما سلف يخافون ملك مصر ، أو أراد الأمن من القحط والشدة أو من تعييره إياهم بالجرم السالف .

{ ورفع أبويه على العرش } السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه { وخروا له سجداً } لسائل أن يقول : السجود لا يجوز لغير الله فكيف سجدوا ليوسف؟ وأيضاً تعظيم الأبوين تالي تعظيم الله سبحانه فمن أين جاز سجدة أبويه له؟ والجواب عن ابن عباس في رواية عطاء أن المراد خرّوا لأجل وجدانه سجداً لله فكانت سجدة الشكر لله سبحانه ، وكذا التأويل في قوله : { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] أي أنها سجدت لله تعالى لأجل طلب مصلحتي وإعلاء منصبي . وأحسن من هذا أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً على لقائه ، أو يراد بالسجدة التواضع التام على ما كانت عادتهم في ذلك الزمان من التحية ، ولعلها ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجبهة . واعترض على هذا الوجه بأن لفظ الخرور يأباه . بأن الخرور قد يعني به المرور قال تعالى . { لم يخروا عليها صماً وعمياناً } [ الفرقان : 73 ] أي لم يمروا . وقيل : الضمير عائد إلى إخوته فقط . ورد بأن قوله : { هذا تأويل رؤياي } من قبل ينبو عنه . وأجيب بأن التعبير لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه فيحتمل أن تكون السجدة في حق الإخوة التواضع التام ، وفي حق أبويه مجرد ذهابهما من كنعان إلى مصر ، ففيه تعظيم تام للولد . وقيل : إنما سجد الأبوان لئلا تحمل الأنفة إخوته على عدم السجود فيصير سبباً لثوران الفتن وإحياء الأحقاد والضغائن ، أو لعله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا الله تعالى ، ورضي بذلك يوسف موافقة لأمر الله ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن يوسف لما رأى سجودهم له اقشعر جلده ولكن لم يقل شيئاً وكأن الأمر بتلك السجدة كان من تمام التشديد والبلية والله أعلم . { وقد أحسن بي } يقال : أحسن به وإليه بمعنى . { إذ أخرجني من السجن } لم يذكر إخراجه من البئر لأنه نوع تثريب للإخوة وقد قال : { لا تثريب عليكم } ولأنه لم يكن نعمة لأنه حينئذ صار عبداً وصار . مبتلى بالمرأة ولأن هذا الإخراج أقرب وأشمل { وجاء بكم من البدو } أي من البادية سمى المكان باسم المصدر لظهور الشخص فيه من بعيد ، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش يتنقلون في المياه والصحارى . قال ابن الأنباري . بدا موضع معروف هنالك . روي عن ابن عباس أن يعقوب كان قد تحول إليه وسكن فيه ومنه قدم إلى يوسف ، على هذا كان يعقوب وولده أهل الحضر والبدو قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا والمعنى جاء بكم من قصد بدا ذكره الواحدي في البسيط . قال الجبائي والكعبي والقاضي : إنه تعالى أخبر عن يوسف أنه أضاف الإحسان إلى الله ونسب النزغ إلى الشيطان وهو الإفساد والإغراء ، ففيه دليل على أن الخير من الله دون الشر .

وأجيب بأنه إنما راعى الأدب وإلا فليس فعل الشيطان إلا الوسوسة ، وأما صرف الداعية إلى الشر فلا يقدر عليه إلا الله فإن العاقل لا يريد ضرر نفسه . { إن ربي لطيف لما يشاء } فإذا أراد حصول أمر هيأ أسبابه وإن كان في غاية البعد عن الأوهام . { إنه هو العليم } بالوجه الذي تسهل به الصعاب { الحكيم } في أفعاله حتى تجيء على الوجه الأصوب والنحو الأصلح . يحكى أن يوسف أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي والثياب والسلاح وغير ذلك ، فلما أدخله خزائن القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل! قال : أمرني جبريل . قال : أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك : { وأخاف أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] قال : فهلا خفتني . ثم إن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة . فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له قال : { رب آتيتني من الملك } شيئاً من ملك الدنيا أو من ملك مصر لأنه كان دون ملك فوقه { وعلمتني من تأويل الأحاديث } بعضاً من ذلك لأنه لا يمكن أن يحصل للإنسان في العمر المتناهي والاستعداد المعين المحصور سوى المتناهي من السعادات الدنيوية والكمالات الأخروية { فاطر السموات والأرض } منادى ثان أو صفة النداء الأول أي مبدعهما على النحو الأفضل من مادة سابقة كالدخان أو من عدم محض { أنت وليي في الدنيا والآخرة } لا يتولى إصلاح مهماتي في الدارين غيرك . ولما قدم النداء والثناء كما هو شرط الأدب الحسن ذكر المسألة فقال { توفني مسلماً } أراد الوفاة على حال الإسلام والختم بالحسنى كقول يعقوب لولده : { ولا تموتن إلى وأنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] { وألحقني بالصالحين } من آبائي أو على العموم .
قيل : الصلاح أول درجات المؤمنين الصالحين فالواصل إلى الغاية وهي النبوة كيف يليق به أن يطلب البداية؟ والجواب إن أراد الإلحاق بالآباء فظاهر ، وإن أراد العموم فكذلك لأن طلب الصلاح غير الإلحاق بأهل الصلاح فإن اجتماع النفوس المشرقة بالأنوار الإلهية له أثر عظيم وفوائد جمة كالمرآة المستنيرة المتقابلة التي يتعاكس أضواؤها ويتكامل أنوارها إلى حيث لا تطيقها الضعيفة ، هذا مع أن الختم على الصلاح نهاية مراتب الصديقين . وههنا بحث للأشاعرة وهو أن التوفي على الإسلام والإلحاق بأهل الصلاة لو لم يكن من فعل الله تعالى كان طلبه من الله جارياً مجرى قول القائل : افعل يا من لا يفعل .

وهل هذا إلا كتشنيع المعتزلة علينا إذ كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقول للمكلف افعل مع أنه ليس بفاعل؟ أجاب الجبائي والكعبي بأن المراد ألطف بي بالإقامة على الإسلام إلى أن أموت فألحق بالصلحاء . ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن كل ما في مقدور الله من الألطاف فقد فعله في حق الكل . سؤال آخر : الأنبياء يعلمون أنهم يموتون على الإسلام ألبتة . فما الفائدة في الطلب؟ الجواب : العلم الإجمالي لا يغني عن العلم التفصيلي ولا سيما في مقام الخشية والرهبة . وقال في التفسير الكبير : المطلوب ههنا حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وهي الاستسلام لحكم الله والرضا بقضائه . وعن قتادة وكثير من المفسرين أنه تمنى الموت واللحوق بدار البقاء في زمرة الصلحاء ولم يتمن الموت نبي قبله ولا بعده .
قال أهل التحقيق : لا يبعد من الرجل العاقل إذا كما عقله أن تعظم رغبته في الموت لوجوه منها : أن مراتب الموجودات ثلاث : المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس ، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجساد فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة ، ويتوسطهما قسم ثالث هو عالم الأرواح لأنها تقبل الأثر والتصرف من العالم الإلهي ، ثم إذا أقبلت على عالم الأجساد تصرفت فيه وأثرت . وللنفوس في التأثير والتأثر مراتب غير متناهية لأن تأثيرها بحسب تأثرها مما فوقها والكمال الإلهي غير متناه فإذن لا تنفك النفس من نقصان ما ، والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وقد ذاق لذة الكمال بقي في القلق وألم الطلب ولا سبيل له إلى دفع هذا القلق والألم إلا الموت فحينئذ يتمنى الموت . ومنها أن سعادات الدنيا ولذاتها سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها ، ثم إنها مخلوطة بالمنغصات والأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كانت حصة الأراذل أكثر فلا جرم يتمنى العاقل موته ليتخلص من هذه الآفات . ومنها أن اللذات الجسمانية لا حقيقة لها لأن حاصلها يرجع إلى دفع الآلام . وقد قررنا هذا المعنى فيما سلف . ومنها أن مداخل اللذات الدنيوية ثلاثة : لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل منها عيوب؛ فلذة الأكل مع أنها غير باقية بعد البلع فإن المأكول يتخلط بالبصاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر ، ثم لما يصل إلى المعدة يستحيل إلى ما ذكره منفر فكيف به ومن هنا قالت العقلاء : من كانت همته ما يدخل في جوفه كانت قيمته ما يخرج من بطنه ، هذا مع اشتراك الحيوانات الخسيسة فيها . وأيضاً اشتداد الجوع حاجة والحاجة نقص وآفة وكذا الكلام في لذة النكاح وعيوبها مع أن فيها احتياجاً إلى زيادة المال ، والنفقة للزوج والولد وما يلزمهما ، والاحتياج إلى المال يلقي المرء في مهالك الاكتساب ومهاوي الانتجاع ، ولذة الرياسة أدنى عيوبها أن كل واحد يكره بالطبع أن يكون خادماً مأموراً ويحب أن يكون مخدوماً ، فسعي الإنسان في الرياسة سعي في مخالفة كل من سواه .

ولا ريب أن هذا أمر صعب الحصول منيع المرام وإذا ناله كان على شرف الزوال في كل حين وأوان لأن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر فيكون دائماً في الحزن والخوف . فإذا تأمل العاقل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح في اللذات العاجلة ولكن النفس جبلت على طلبها والرغبة فيها فيكون دائماً في بحر الآفات وغمرات الحسرات فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة . وقد سبق منا في تمني الموت كلام آخر في سورة البقرة في تفسير قوله : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } [ الجمعة : 6 ] فليتذكر . قال أهل السير : لما توفي يوسف تخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقاً من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا فيه شرعاً . وولد له إفراثيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ، ثم بقي يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
التأويل : إن يعقوب الروح لا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب لأنه مرآة جمال الحق لا يشاهد الحق إلا فيها فلذلك أبيضت عيناه في انتظارها فلامه على ذلك الأوصاف البشرية بقولهم { تفتؤ تذكر يوسف } وأين أهل السلوة من أهل العشق ، أين الخلي من الشجي ، ولا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي آدم عليه السلام حين قالت الملائكة لأجله { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] بل أول ملامتي هو الله تعالى حين قالوا له : { أتجعل فيها } وذلك أنه أول محب ادعى المحبة وهو قوله { يحبهم } { وأعلم من الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 62 ] من جماله وكماله { اذهبوا فتحسسوا } فيه أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيامين سره ، وإن ترك لطف الله واليأس عن وجدانه كفر . فلما رأت الأوصاف البشرية آثار العزة من رب العزة على صفحات أحوال يوسف القلب حين وصلوا بتيسير أحكام الشريعة وتدبير آداب الطريقة إلى سرداقات حضرة القلب { قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا } وهم القوى الإنسانية { ضر } البعد عن الحضرة الربانية { وجئنا ببضاعة مزجاة } من الأعمال البدنية { فأوف لنا الكيل } بإفاضة سجال العوارف وإسباغ ظلال العواطف { إذ أنتم جاهلون } إذ كنتم على صفة الظلومية والجهولية { لقد آثرك الله علينا } بالطلب والصدق والشوق والمحبة والوصول والوصال { وإن كنا لخاطئين } في الإقبال على استيفاء الحظوظ الحيوانية التي تضر القلب والسر والروح { لا تثريب عليكم اليوم } لأنه صدر منها ما صدر بحكمة من الله تعالى وتربية القلب وإن كان مضراً له ظاهراً كما أن صنيع إخوة يوسف في البداية صار سبباً لرفعة منزلته في النهاية { اذهبوا بقميصي } وهو نور جمال الله { ولما فصلت } عير واردات القلب وهبت نفحات ألطاف الحق { إنك لفي ضلالك القديم } .

يا عاذل العاشقين دع فئة ... أضلها الله كيف ترشدها
{ فارتد بصيراً } لأن الروح كان بصيراً في بدو الفطرة ثم عمي لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها ثم صار بصيراً بوارد من القلب :
ورد البشير بما أقر الأعينا ... وشفى النفوس فنلن غايات المنى
والقلب في بدو الأمر كان محتاجاً إلى الروح في الاستكمال ، فلما كمل وصلح لقبول فيضان الحق بين إصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صار الروح محتاجاً إليه لاستنارته بأنوار الحق ، وذلك أن القلب بمثابة المصباح في قبول نار النور الإلهي والروح كالزيت فيحتاج المصباح في البداية إلى الزيت في قبول النار ، ولكن الزيت يحتاج إلى المصباح في البداية وتزكيته في النهاية لتقبل بواسطة النار { ادخلوا مصر إن شاء الله } لأنه لا يصل إلى الحضرة الأحدية إلا بجذبة المشيئة آمنين من الانقطاع والانفصال { وخروا له سجداً } لما رأوه وعرفوه أنه عرش الحق تعالى ، فالسجدة كانت في الحقيقة لرب العرش لا للعرش { هذا تأويل رؤياي من قبل } إن كنت نائماً في نوم العدم { إذ أخرجني من السجن } سجن الوجود ولم يقل من الجب لأنه لا يخرج من جب البشرية ما دام في الدنيا { من البدو } بدو الطبيعة { آتيتني من الملك } ملك الوصال والوصول { فاطر سموات } عالم الأرواح وأرض البشرية { توفني مسلماً } أخرجني من قيد الوجود المجازي وأبقني ببقائك مع الباقين بك بفضلك وكرمك .


وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

القراآت : { سبيلي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع { نوحي } بالنون وكسر الحاء : حفص . الآخرون بالياء وفتح الحاء { يعقلون } على الغيبة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وابن كثير والأعشى والبرجمي . والباقون بتاء الخطاب . { كذبوا } مخففاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويزيد . الباقون بالتشديد . { فنجي } بضم النون وكسر الجيم المشددة وفتح الياء : ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب . فعلى هذا يكون فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول . وعن الكسائي مثل هذا ولكن بسكون الياء . وخطأه علي بن عيسى بناء على أنه فعل مستقب من الإنجاء والنون لا يدغم في الجيم ، أو من التنجية والنون المتحركة لا تدغم في الساكن . وأقول : إن كان فعلاً ماضياً من التنجية والنون المتحركة لا تدغم كما في القراءة الأولى ولكن سكن الياء للتخفيف لم يلزم منه خطأ . الآخرون : قرأوا بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء فعلاً مضارعاً من الإنجاء على حكاية الحال الماضية .
الوقوف : { إليك } ج لابتداء النفي مع واو العطف { يمكرون } 5 { بمؤمنين } 5 { أجر } ط { للعالمين } 5 { معرضون } 5 { مشركون } 5 { لا يشعرون } 5 { ومن اتبعن } ط { المشركين } 5 { القرى } ط { من قبلهم } ط { اتقوا } ط { تعقلون } 5 { نصرنا } ط رمن قرأ { فننجي } بالتخفيف ولا وقف على { من نشاء } ومن قرأ { فنجي } مشددة وصله بما قبله ووقف على { من نشاء } { المجرمين } 5 { الألباب } ط { يؤمنون } 5 .
التفسير : { ذلك } الذي ذكر من نبأ يوسف هو من أخبار الغيب وقد مر تفسير مثل هذا في آخر قصة زكريا في سورة آل عمران . ومعنى إجماع الأمر العزم عليه كما مر في سورة يونس في قصة نوح . وأراد عزمهم على إلقاء يوسف في البئر وهو المكر بعينه وذلك مع سائر الغوائل من المجيء على قميصه بدم كذب ومن شراهم إياه بثمن بخس . قال أهل النظم : إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التعنت ، فاعتقد رسول الله أنه إذا ذكرها فربما أمنوا فلما ذكرها لهم أصروا على كفرهم فنزل : { وما أكثر الناس } أي أكثر خلق الله المكلفين أو أكثر أهل مكة قاله ابن عباس . { ولو حرصت } جوابه مثل ما تقدم أي ولو حرصت فما هم { بمؤمنين } والحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد ونظير الآية قوله : { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] { وما تسألهم عليه } على ما تحدثهم به { من أجر } كما سأل القاص { إن هو إلا ذكر } عظة من الله { للعالمين } عامة على لسان رسوله . { وكأين من آية } الأكثرون على أنه لفظ مركت بمن كاف التشبيه وأيّ التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى « كم » الخبرية .

والتمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلاً ، والأكثر إدخال « من » في تمييزه وقد مر في سورة البقرة في تفسير قوله سبحانه : { إن في خلق السموات والأرض } { الآية : 164 ] وفي مواضع أخر تفصيل بعض الآيات السماوية والأرضية الدالة على توحيد الصانع وصفات جلاله . ومن جلمة الآيات قصص الأوّلين وأحوال الأقدمين . ومعنى { يمرون عليها } أشياء يشاهدونها { وهم عنها معرضون } لا يعتبرون بها . وقرىء { والأرض } بالرفع على الابتداء خبره { يمرون } والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر . والحاصل أن جملة العالم العلوي والعالم السفلي محتوية على الدلائل والبينات على وجود الصانع ونعوت كماله ولكن الغافل يتعامى عن ذلك . { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وذلك أنهم كانوا مقرين بإلاله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] لكنهم كانوا يثبتون له شريكاً في المعبودية هو الأصنام ويقولون : هم الشفعاء . وكان أهل مكة يقولون : الملائكة بنات الله . وعن الحسن : هم أهل الكتاب يقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله . وعن ابن عباس : هم الذين يشبهون الله بخلقه . احتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار . والجواب أن مجرد الإقرار لو كان كافياً لما اجتمع مع الشرك غاشية عقوبة تغشاهم وتغمرهم . { قل } يا محمد لهم { هذه } السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان { سبيلي } وسيرتي وقوله { أدعو إلى الله } تفسير ل { سبيلي } و { على بصيرة } يتعلق بأدعوا و { أنا } تأكيد للمستتر في أدعو { ومن اتبعن } عطف عليه ويجوز أن يكون { على بصيرة } حالاً من أدعو عاملة في { أنا ومن اتبعن } ، ويجوز أن يكون { أنا } مبتدأ معطوفاً عليه و { من اتبعن } و { على بصيرة } خبراً مقدماً فيكون ابتداء إخبار بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى وتشهٍ { و } قل { سبحان الله } تنزيهاً له عما أشركوا { وما أنا من المشركين } لا شركاً جلياً ولا شركاً خفياً .
قال : { وما أرسلنا من قبلك } وفي « الأنبياء » { قبلك } [ الأنبياء : 7 ] بغير « من » لأن قبلاً اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و « من » تفيد استيعاب الطرفين ، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب . قوله : { إلا رجالاً } ردّ على من زعم أن الرسول ينبغي أن يكون ملكاً أو يمكن أن يكون امرأة مثل سجاح المتنبئة . وقوله : { من أهل القرى } خصهم بالاستنباء لما في أهل البادية في الغلظ والجفاء { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] قال صلى الله عليه وسلم : « من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل » { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا } إلى مصارع الأمم المكذبة إنما قال : { أفلم يسيروا } بالفاء بخلاف ما في « الروم » والملائكة لاتصاله بقوله : { وما أرسلنا من قبلك } فكان الفاء أنسب من الواو { ولدار الآخرة } موصوفه محذوف أي ولدار الساعة والحال الآخرة لأن للناس حالين : حال الدنيا وحال الآخرة .

وبيان الخيرية قد مر في « الأنعام » . وإنما خصت ههنا بالحذف لتقدم ذكر الساعة . قال في الكشاف : حتى غاية لمحذوف دل عليه الكلام والتقدير فتراخى نصر أولئك الرجال حتى إذا استيأسوا عن النصر أو عن إيمان القوم { وظنوا أنهم قد كذبوا } فيه وجوه لقراءتي التخفيف والتشديد ولإمكان عود الضمير في الفعلين إلى الرسل أو إلى المرسل إليهم الدال عليهم ذكر الرسل أو السابق ذكرهم { أفلم يسيروا } وأما وجوه التخفيف فمنها : وظن الرسل أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذب رجاؤهم لقولهم رجاء صادق وكاذب . والمراد أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله قد تطاولت وتمادت حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا . قال ابن عباس : ظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر . قال : وكانوا بشراً ألا تراً إلى قوله : { وزلزلوا } والعلماء حملوا قول ابن عباس على ما يخطر بالبال شبه الوسواس وحديث النفس من عالم البشرية . وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فلا ، لأن الرسل أعرف الناس بالله وبأن ميعاده مبرأ عن وصمة الأخلاف . ومنها وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر . ومنها وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليه ولم يصدقوهم فيه . وأما قراءة التشديد فإن كان الظن بمعنى اليقين فمعناه أيقن الرسل أن الأمم كذبوهم تكذيباً لا يصدر عنهم الإيمان بعد فحينئذ دعوا عليهم فهناك نزل عذاب الاستئصال ، أو كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم . وإن كان بمعنى الحسبان فالمعنى توهم الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا تأويل عائشة قالت : ما وعد الله محمداً شيئاً إلا وعلم أنه سيوفيه ، ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم .
{ لقد كان في قصصهم } قصص الرسل إضافة للمصدر إلى الفاعل ، ويحسن أن يقال : الضمير لإخوة يوسف وله لاختصاص هذه السورة بهم . والعبرة نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول ، ووجه الاعتبار على العموم أن يعلم أنه لا خير إلا في العمل الصالح والتزوّد بزاد التقوى فإن الملوك الذي عمروا البلاد وقهروا العباد ثم لم يراعوا حق الله في شيء من ذلك ماتوا وانقرضوا وبقي الوزر والوبال عليهم . وعلى الخصوص أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلاء شأنه بعد حبسه في السجن واجتماعه بأهله بعد طول البعاد قادر على إظهار محمد وإعلاء كلمته .

والكل مشترك في الدلالة على صدق محمد لأن هذا النوع من القصص الذي أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء دليل ظاهر وبرهان باهر على أنه بطريق الوحي والتنزيل ، وإنما يكون دليلاً واعتباراً { لأولي الألباب } وأصحاب العقول الذين يتأملون ويتفكرون لا الذين يمرون ويعرضون على أن الدليل دليل في نفسه للعقلاء وإن لم ينظر فيه مستدل قط كما أن الرئيس الحقيقي من له أهلية الرياسة وإن كان في نهاية الخمول { ما كان } مدلول القصص وهو المقصوص أو القرآن { حديثاً يفترى } لظهور إعجازه { ولكن } كان { تصديق الذي بين يديه } من الكتب السماوية { وتفصيل كل شيء } يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس . وقيل : تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته قال الواحدي : وعلى التفسيرين فهو ليس على عمومه لأن المراد به الأصول والقوانين وما يؤل إليها { وهدى } في الدنيا { ورحمه } في الآخرة { لقوم يؤمنون } لأنهم هم المنتفعون بذلك .
التأويل : { من أنباء الغيب } لأن هذا الترتيب في السلوك لا يعلمه إلا الوالجون ملكوت السماء الغوّاصون في بحر بطن القرآن { وما كنت لديهم } بالصورة ولكن كنت حاضراً بالمعنى { وما أكثر الناس } وهم صفات الناسوتية { وما تسألهم عليه من أجر } لأن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية وإن دعتها إلى الاستكمال لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها { وكأين من آية } في سموات القلوب وأرض النفوس تمر الأوصاف الإنسانية عليها { وهم عنها معرضون } لإقبالها على الدنيا وشهواتها { وما يؤمن } أكثر الصفات الإنسانية بطلب الله وتبدل صفاته { إلا وهم مشركون } في طلب الدنيا وشهواتها ، أو طلب الآخرة ونعمها ، أو وما يؤمن أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطلب أنها منهم لا من الله ، فكل من يرى السبب فهو مشرك ، وكل من يرى المسبب فهو موحد كل شيء هالك في نظر الموحد إلا وجهه ، أو وما يؤمن أكثر الناس بالله وبقدرته وإيجاده إلا وهم مشركون في طلب الحاجة من غير الله { غاشية } جذبة تقهر إرادتهم . وتسلب اختيارهم كما قيل : العشق عذاب الله { أو تأتيهم الساعة } ساعة الانجذاب إلى الله { هذه سبيلي } لأن طريق السير والسلوك مختص به وبأمته { إلا رجالاً من أهل قرى } الملكوت دون مدن الملك والأجساد ، والرجال من القرى ويشبه أن يعبر عن عالم الأرواح بالقرى لبساطتها . والقرى أقل أجزاء من المدن { أفلم يسيروا في } أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة ليصلوا إلى فضاء عالم الحقيقة { وظنوا أنهم قد كذبوا } ففي إبطاء النصر ابتلاء للرسل؛ الله حسبي ونعم الوكيل .


المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)

القراآت : { وزرع ونخيل صنوان وغير } بالرفع فيهن : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص والمفضل . الآخرون بالجر فيهن عطفاً على { أعناب } . { يسقي } بالياء المثناة من تحت على تقدير يسقى كله أو للتغليب : ابن عامر وعاصم ويزيد ورويس . الباقون بتاء التأنيث لقوله : { جنات } { ويفضل } على الغيبة : حمزة وعلي وخلف . الباقون بالنون على ونحن نفضل { أئذا } بهمزتين { إنا } بهمزة واحدة على أيذا بقلب الثانية ياء والباقي كما مر : نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد { آئذا إنا } بالمد والباقي مثله : زيد وقالون إذا بهمزة واحدة أئنا بهمزتين : ابن عامر . هشام يدخل بينهما مدة إذا بهمزة واحدة { آينا } بهمزة ممدودة ثم ياء : يزيد { أيذا أينا } بهمزة ثم ياء فيهما : ابن كثير مثله ولكن بالمد أو عمرو { أئذا آئنا } بهمزتين فيهما : عاصم وحمزة وخلف { هادي } { وافى } { وإلى } { باقي } في الوقف : يعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة ، وروى ابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الوقف وعن البزي بغير ياء { المتعالي } في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق سهل وعباس في الوصل .
الوقوف : { المر } كوفي { آيات الكتاب } ط { لا يؤمنون } 5 { والقمر } ط { مسمى } ط { يوقنون } 5 { وأنهارا } ط { النهار } ط { يتفكرون } 5 { بماء واحد } ز قف لمن قرأ { ونفضل } بالنون { في الأكل } ط { يعقلون } 5 { جديد } ط { بربهم } ط { في أعناقهم } ج { النار } ج { خالدون } 5 { المثلات } ط { على ظلمهم } ج لتنافي الجملتين { العقاب } 5 { من ربه } ط { هاد } 5 { وما تزداد } ط { بمقدار } 5 { المتعال } 5 { بالنهار } 5 { من أمر الله } ط { ما بأنفسهم } ط { فلا مرد له } ج لاختلاف الجملتين { وال } 5 .
التفسير : { تلك } الآيات التي في هذه السورة آيات السورة العجيبة الكاملة في بابها { والذي أنزل إليك من ربك } أي القرآن كله هو { الحق } الذي لا محيد عنه والمراد أنه لا تنحصر الحقية في هذه السورة وحدها . ثم أخذ في تفصيل الحق فبدأ بالدلالة على صحة المبدأ والمعاد فقال : { الله } وهو مبتدأ خبره { الذي } أو الموصول صفة المبتدأ ، وقوله : { يدبر الأمر يفصل الآيات } خبر بعد خبر . والعمد بفتحتين جمع عمود وهو ما يعمد به الشيء شبه الأسطوانة . وقوله : { ترونها } كلام مستأنف على سبيل الاستشهاد أي وأنتم ترونها مرفوعة بلا عماد . وقال الحسن : في الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها مرفوعة بغير عمد وفيه تكلف . وقيل : ترونها صفة للعمد . ثم زعم من تمسك بالمفهوم أن للسموات عمدا لكنا لا نراها وما تلك العمد؟ قال بعض الظاهريين : هي جبل من زبرجد محيط بالدنيا يمسى جبل قاف . ولا يخفى سقوط هذا القول لأن كل جسم لو كان يلزم أن يكون معتمداً على شيء فذلك الجبل أيضاً كان متعمداً على شيء فذلك الجبل أيضا كان معتمداً على شيء وتسلسل .

وقال بعض من ترقى في حضيض الصورة إلى ذروة عالم المعقول : إن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه الذي أوقفها في الجوّ العالي . ونحن لا نرى ذلك التدبير ولا نعرف كيفية ذلك الإمساك . أما قوله : { كل يجري لأجل مسمى } فعن ابن عباس أن للشمس مائة وثمانين منزلاً في مائة وثمانين يوماً ، إنها تعود مرة أخرى إلى واحد واحد منها في أمثال تلك الأيام ومجموع تلك الأيام سنة تامة . أقول : إن صح عنه فلعله أراد تصاعدها في دائرة نصف النهار وتنازلها عنها في أيام السنة ، وأراد نزولها في فلكها الخارج المركز من الأوج إلى الحضيض ، ثم صعودها من الحضيض إلى الأوج فإن لها بحسب كل جزء من تلك الأجزاء في كل يوم من أيام السنة تعديلاً خاصاً زائداً أو ناقصاً كما برهن عليه أهل النجوم . وأما القمر فسيره في منازله مشهور . وقال سائر المفسرين : المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وبعد ذلك تنقطع الحركات وتنتهي المسيرات كقوله : { وأجل مسمى عنده } [ الأنعام : 2 ] واللام للتاريخ كما تقول : كتبت لثلاث خلون . وإنما قال في سورة لقمان { إلى أجل مسمى } [ لقمان : 29 ] موافقة لقبيل ذلك ومن يسلم وجهه إلى الله والقياس لله كما في قوله : { أسلمت وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] { يدبر الأمر } إجمال بعد التفصيل أي أمر العالم العلوي والعالم السفلي من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن ، لأن تدبيره لعالم الأرواح كتدبيره لعالم الأشباح ، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير لا يختلف بالنسبة إلى قدرته أحوال شيء من ذلك في الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتبديل الصور والأعراض وتغيير الأشكال والأوضاع { يفصل الآيات } الدالة على وحدانيته وقدرته ، ويحتمل أن يراد بتدبير الأمر تدبير عالم الملكوت ، ويكون معنى تفصيل الآيات إنزال الكتب وبعث الرسل وتكليف العباد الذي هو أثر ذلك العالم في العالم السفلي . ويجوز أن يكون تدبير الأمر إشارة إلى القضاء ، وتفضيل الآيات إشارة إلى القدر . وقوله : { لعلكم بلقاء ربكم توقنون } على كل التفاسير إشارة إلى إثبات المعاد لأن المقر بتبيره وتقديره على الأنهاج المذكور لا بد أن يعترف باقتداره على الإعادة والجزاء .
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها الدلائل الأرضية فقال : { وهو الذي مد الأرض } قال الأصم : أي بسطها إلى ما لا يدرك منتهاه ، وهذا الامتداد الظاهر لحس البصر لا ينافي كريتها لتباعد أطرافها { وجعل فيها رواسي } أي جبالاً ثوابت في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها . وكيفية تكوّن الجبال على بسيط الأرض لا يعلم تفصيلها إلا موجدها . وزعمت الفلاسفة أنها من تأثير المسوات في الأجزاء الأرضية القابلة لذلك الأثر بعد امتزاجها بالأجزاء المائية وغيرها ، وقد يعين على ذلك نزول الأمطال وهبوب الرياح وهذا إن صح فعلم إجمالي .

وزعم بعضهم أن البحار كانت في جانب الشمال مدة كون حضيض الشمس هناك ، وحين انتقل الحضيض إلى الجنوب انجذبت المياه إلى ذلك الجانب لأن الشمس تصير في الحضيض أقرب إلى الأرض فتوجب شدة السخونة الجاذبة للرطوبات فصار الطين اللزج حجراً وحدثت الجبال والأغوار بحسب المواضع المرتفعة والمنخفضة وبإعانة من السموات والآثار العلوية . وبالجملة فالأسباب تنتهي لا محالة إلى مسبب لا سبب له وهو الله سبحانه . ومن الدلائل الدالة على وجود الصانع ووحدانيته جريان الأنهار العظيمة على وجه الأرض الكائنة فيها من احتباس الأبخرة ، وأكثر ذلك أنما يتكّون في الجبال فلذا قرن الجبال بالأنهار في القرآن كثيراً كقوله : { وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتاً } [ المرسلات : 27 ] وقد يحصل فيها معادن الفلزات ومواضع الجواهر ومكامن الأجسام المائعة من النفظ والقير والكبريت وغيرها ، وكل ذلك دليل على وجود فاعل مختار ومدبر قهار . ثم يحدث على الأرض بتربية المياه وتغذيتها أنواع النبات فللك قال : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } وللمفسرين فيه قولان : الأول أنه حين مد الأرض خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت فيكون كل زوجين بالنسبة إلى ذلك النوع كآدم وحواء بالإضافة إلى الإنسان . القول الثاني : إنه أراد بالزوجين الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الاختلاف الصنفي . ووصف الزوجين بالاثنين للتأكيد مثل نفخة واحدة . أما قوله : { يغشي الليل النهار } فقد مر تفسيره في « الأعراف » وإنما ذكر هذا الإنعام في أثناء الدلائل الأرضية لأن النور والظلمة إنما يحدثان في الجوّ الذي يسميه الحكماء كرة النسيم وكرة البحار وليس فيما وراء ذلك ضياء ولا ظلام . فتعاقب الليل والنهار من جملة الأحداث السفلية وإن كان سببها طلوع الشمس وغروبها في الأفق . ويحتمل أن يقال : إن هذا دليل سماوي وإنه سبحانه عاد مرة أخرى إلى الدليل السماوي ثم إلى الدليل الأرضي وذلك قوله : { وفي الأرض قطع متجاورات } أي بقاع مختلفة مع كونها متجاورة ومتلاصقة طيبة إلى سبخة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على خلافها ، وفي هذا دلالة ظاهرة على أنها بجعل فاعل مختار موقع لأفعاله على حسب إرادته ، وكذا الكروم والزروع والنخيل الكائنة في هذه القطع مختلفة الطباع متخالفة الثمار في اللون والطعم والشكل وهي تسقى بماء واحد ، فدل ذلك على أن هذه الاختلافات لا تستند إلى الطبيعة فقط ولكنها بتقدير العزيز العليم . وإنما ذكر الزرع بين الأعناب والنخيل لأنها كثيراً ما تكون كذلك في الوجود كقوله { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً } [ الكهف : 32 ] والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلهما واحد .

وعن ابن الأعرابي : الصنو المثل ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « عم الرجل صنو أبيه » فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون ، والأكل الثمر الذي يؤكل . قاله الزجاج . وعن غيره أنه عام في جميع المطعومات . وإنما ختم الآية السابقة بقوله : { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } وهذه بقوله : { لقوم يعقلون } لأن المقام الأوّل يحتاج إلى التفكر لأن الفلاسفة يسندون الحوادث السفلية إلى الآباء الأثيرية والأمهات العنصرية ، لكن العاقل إذا تفكر في اختصاص كل ممتزج بحيز معين وشكل معين وطبيعة وخاصية مخالفتين لغيره علم أن كل هذه الاختلافات لا تستند إلى أشعة كواكب معدودة ولا إلى طبائع عناصر محصورة كما أشير إلى ذلك بقوله : { وفي الأرض قطع } الآية . ولئن سلم أن الاتصالات الفلكية واختلافات الفواعل والقوابل قد ترتقي إلى حد يظهر منها هذه الآثار فلا بد لكل سبب من الانتهاء إلى مسبب لا سبب فوقه وليس ذلك إلا الله وحده ، فهذا مقام لا يجحده إلا عادم عقل بل فاقد حس . والحاصل أن التفكر في الآيات يوجب عقلية ما جعلت الآيات دليلاً عليه فهو الأوّل المؤدي إلى الثاني والله ولي التوفيق .
ثم عاد سبحانه إلى ذكر المعاد فقال : { وإن تعجب } قال ابن عباس : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا أنك من الصادقين ، فهذا أعجب . أو إن تعجب من عبادتهم الأصنام بعد الدلائل الدالة على التوحيد ، أو إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم اعترفوا بأنه تعالى رفع السموات بغير عمد وسخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وأظهر الغرائب والعجائب في عالم الخلق ، ثم أنكروا الإعادة التي هي أهون وأسهل . قال المتكلمون : موضع العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حقه تعالى محال ، فالمراد وإن تعجب { فعجب } عندك { قولهم } وإن سلم أن المراد عجب عند الله كما قرىء في الصافات { بل عجبت } [ الصافات : 12 ] بضم التاء فتأويله أنه محمول على النهاية لا على البداية أي منكر عند الله ما قالوه فإن الإنسان إذا تعجب من شيء أنكره . قال في الكشاف { أئذا كنا } إلى آخر قولهم ، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم ، وأن يكون منصوباً بالقول . وإذا نصب بما دل عليه قوله : { أئنا لفي خلق جديد } وهو نبعث أو نحشر . ثم حكم عليهم بأمور ثلاثة : الأول { أولئك الذي كفروا بربهم } يعني أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وذلك أن إنكار البعث لا يكون إلا عن إنكار القدرة أو عن إنكار كمالها بأن يقال : إنه موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثير الطبائع والأفلاك او إنكار العلم بأن يقال : إنه غير عالم بالجزيئات فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي ، أو تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ، أو إنكار الصدق كما إذا قيل : إنه أخبر عنه ولكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه كما لا يكذب أحدنا بناء على مصلحة عامة أو خاصة وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلاً عن جميعها .

والثاني : { وأولئك الأغلال في أعناقهم } قال الأصم : المراد بذلك كفرهم . وذلتهم وانقيادهم للأصنام . يقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء إذا كان لازماً له وهو مصر على فعله . وقال آخرون : هو من جملة الوعيد . ولا بد من تجوّز على القولين : أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن المراد أنه سيحصل هذا المعنى . والظاهر أنه حاصل في الحال ويؤيد القول الثاني قوله : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } والأول قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } [ يس : 8 ] والثالث : { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وربما يستدل الأشاعرة به أن الصيغة للحصر فيدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار ، ويمكن أن يناقش في إفادتها الحصر .
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب الآخرة وكانوا ينكرون البعث لذلك كما تقدم ، ويخوفهم تارة أخرى بعذاب الدنيا فيستعجلونه به زعماً منهم أنه كلام لا أصل له وإلى هذا أشير بقوله : { ويستعجلونك بالسيئة } بالعذاب والعقوبة التي تسوءهم . { قيل } تمام { الحسنة } وهي العافية والإحسان إليهم بالإهمال والتأخير { وقد خلت من قبلهم المثلات } أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها؟ وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه لأن العقاب مماثل للمعاقب عليه ومنه « المثلة » بالضم والسكون لتقبيح الصورة بقطع الأنف والأذن وسمل العين ونحو ذلك ، وذلك أنه ليس تغييراً كلياً لا يماثل الصورة الأولى وإنما ذلك تغيير تبقى الصورة معه قبيحة . { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } قالت الأشاعرة : فيه دلالة على جواز العفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن قوله : { على ظلمهم } حال منهم ، ومن المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائباً لكن الآية دلت على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل الاشتغال بالتوبة ترك العمل بها في حق الكافر فيبقى معمولاً بها في حق أهل الكبائر . لا يقال : إن المراد من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة ليقع جواباً عن استعجالهم . أو ألمراد غفران الصغائر لمجتنب الكبائر ، أو غفران الكبائر بشرط التوبة فإن تاب وإلا فهو شديد العقاب لأنا نقول : تأخير العقاب إلى الآخرة لا يسمى مغفرة وإلا كان غافراً للكفار . وأيضاً إنه تعالى مدح نفسه بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل لا بأداء الواجب . وعندكم يجب غفران الصغائر لمن اجتنب الكبائر . . وجواب الباقي ما مر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد »

قال أهل النظم : إن الكفار طعنوا في نبوته بسبب الطعن في الحشر والنشور ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب استبطاء نزول العذاب ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب عدم الاعتداد بمعجزاته وذلك قوله : { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } وقد تقدم مثل هذا في « الأنعام » في تفسير قوله : { وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه } [ الأنعام : 8 ] ويجيء مثل هذه بعينها في هذه السورة . قيل : وليس بتكرار محض لأن المراد بالأول آية مما اقترحوا نحو ما في قوله : { لن نؤمن لك حتى تفجر } [ الإسراء : 90 ] الآيات وبالثاني آية ما لأنهم لم يهتدوا إلى أن القرآن آية فوق كل آية وأنكروا سائر آياته صلى الله عليه وسلم ، أو لعلهم ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات فأجاب سبحانه تسلية لرسوله { إنما أنت منذر } ما عليك إلا الإتيان بما يصح به دعوى إنذارك ورسالتك { ولكل قوم هاد } من الأنبياء يدعوهم إلى الله بوجه من الهداية والإرشاد يليق بزمانه وبأمته . ولم يجعل الأنبياء شرعاً في المعجزات فعلى هذا التقدير المنذر النبي والهادي نبي إلا أن الأول محمد والثاني نبي كل زمان . وقيل : المنذر محمد والهادي هو الله تعالى قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك . والمعنى أنهم إن جحدوا كون القرآن معجزاً فلا يضيقن قلبك بسببه فما عليك إلا الإنذار . وأما الهداية فمن الله . وقيل : المنذر النبي والهادي هو علي . روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فقال : أنا المنذر وأومأ إلى منكب علي فقال : وأنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون بعدي قاله في التفسير الكبير .
ثم أكد المعاني المذكورة في الآيات السابقة بقوله : { الله يعلم } لأنه إذا كان عالماً بجميع المعلومات قدر على تمييز أجزاء بدن كل مكلف من غيره فلا يستنكر منه البعث ، ويكون نزول العذاب مفوّضاً إلى عمله فلا يجوز استعجاله به ، وكذا إنزال الآيات يكون موكولاً إلى تدبيره فإن علم أن المكلفين اقترحوها لأجل الاسترشاد ومزيد البيان أظهرها الله تعالى لهم وإلا فلا ، وفيه أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبر بالعلم النافذ مقدر بالحكمة الربانية . وعلى القول الثاني فيه أن من هذه قدرته وهذاعلمه وهو القادر وحده على هدايتهم بأي طريق شاء ، وعلى هذا احتمل أن يكون { الله } خبر مبتدأ محذوف والجملة مفسرة ل { هاد } أي هو الله . ثم ابتدأ فقيل : { يعلم } { ما تحمل كل أنثى } قال في الكشاف : لفظة « ما » في { ما تحمل } و { ما تغيض } و { ما تزداد } إما أن تكون مصدرية والمعنى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها أو غيوض ما فيها وزيادته على أن الفعلين غير متعديين فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها .

والازدياد « افتعال » من زاد فأبدلت التاء دالاً ، وإنه يتعدى ولا يتعدى كثلاثيه . أو موصولة والمراد يعلم ما تحمله من الولد ذكورته وأنوثته وتخاطيط أعضائه وسائر أحواله من السعادة وضدها ومن العلم وضده إلى غير ذلك ، ويعلم ما تغيضه الأرحام أي تنقصه كقوله : { وغيض الماء } [ هود : 44 ] وما تزداده من العدد فقد يكون واحداً وأكثر ، ومن الخلقة فقد يكون تماماً أو مخدجاً ، ومن المدة فقد يكون أقل من تسعة أشهر أو أزيد إلى سنتين عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك ، ومن دم الحيض . قال ابن عباس : كلما سال الحيض يوماً زاد في مدة الحمل يوماً ليحصل الجبر ويعتدل الأمر . ثم بين كمال علمه ونفاذ أمره بقوله : { وكل شيء عنده بمقدار } واحد لا يتجاوزه في طرفي التفريط والإفراط ، والمراد بالعندية العلم كما يقال : هذه المسألة عند الشافعي كذا . وذلك أنه سبحانه خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة حسب مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية . وقال حكماء الإسلام : وضع أسباباً كلية وأودع فيها قوى وخواص وحرك الأجرام بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات معلومة مقدّرة ، ومن جملتها أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم ولذلك ختم الآية بقوله : { عالم الغيب والشهادة } أي هو عالم بما غاب عن الحسن وبما حضر له ، أو بما غاب عن ا لخلق وبما شهدوه أو بالمعدومات وبالموجودات { الكبير } في ذاته لا بحسب الحجمية بل بالرتبة والشرف لأنه أجل الموجودات { المتعال } المنزه عن كل ما يجوزعليه في ذاته في صفاته وفي أفعاله .
ثم زاد في التأكيد فقال : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به } أي مستوفى علمه هذان لأنه يعلم السر كما يعلم الجهر لا يتفاوت في علمه أحد الحالين { و } سواء عنده { من هو مستخف بالليل وسارب } على أن { سارب } معطوف على { من } لا على { متسخف } ليتناول معنى الاستواء شخصين : أحدهما مستخف والآخر سارب . وإلا فلم يتناول إلا واحداً هو مستخف وسارب إلا أن يكون « من » في معنى الاثنين حتى كأنه قيل : سواء منكم اثنان متسخف بالليل وسارب { بالنهار } وفي المستخفي والسارب قولان : أحدهما أن المستخفي هو المستتر الطالب للخفاء في ظلمة الليل ، والسارب من يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد . يقال : سرب في الأرض سروباً أي ذهب في سربه بالفتح والسكون وهو الطريق ويؤديه قول مجاهد : معناه سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي . وثانيهما نقل الواحدي عن الأخفش وقطرب : المستخفي الظاهر من قولهم : « اختفيت الشيء » أي استخرجته ، والسارب المتواري الداخل سرباً بفتحتين ومنه انسرب الوحش إذا دخل في كناسه .

وهذا وإن صح من حيث اللغة لكن قرينتي الليل والنهار إنما تساعدان القول الأول ، ولهذا أطبق أكثر المفسرين عليه . ثم ذكر ما يجري في الظاهر مجرى السبب لاستواء علمه بحال المسر والمعلن فقال : { له } أي لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب { معقبات } جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته . والأصل معتقبات فأدغمت ، أو هو على أصله من عقبه بالتشديد إذا جاء على عقبه لأن بعضهم يعقب بعضاً ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه . والتأنيث للمبالغة نحو « نسابة » و « علامة » ، أو لأنه جمع معقبة أي ملائكة معقبة أو جماعة معقبة . وقوله : { من أمر الله } ليس من صلة الحفظ لأنه قدرة للملك ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحداً من قضاء الله وإنما هو صفة أخرى كأنه قيل : له معقبات من أمر الله يحفظونه ، أو له معقبات يحفظونه ، ثم بين سبب الحفظ فقال : { من أمر الله } أي من أجل أن الله أمرهم بحفظه فمن بمعنى الباء وقرأ به عليّ وابن عباس وغيرهما ، ويجوز أن يكون صلة على معنى يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب . قال ابن جريج : هو مثل قوله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات . وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته . وقيل : المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن كلاّ من المستخفي والسارب إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من الجهتين .
وما الفائدة في تسليط هؤلاء على ابن آدم؟ قال علماء الشريعة : إن الشياطين يدعون إلى المعاصي والشرور وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات بالإلهامات الحسنة والإخطارات الشريفة . وإذا علم ابن آدم أن معه ملائكة يحصون عليه أفعاله وأقواله استحيا منهم وكان ذلك له رادعاً قوياً ، وقد مر في هذا الباب كلام في « الأنعام » في قوله : { ويرسل عليكم حفظةً } فليتذكر { الآية : 61 ] . وللآية تفسير آخر منقول عن ابن عباس وختاره أبو مسلم الأصفهاني قال : المعقبات الحرس وأعوان الملوك ، والجملة وهي قوله : { له معقبات } صفة للمستخفي والسارب أو حال منه لكونه نكرة موصوفة أي يستوي في علم الله السر والجهر ، والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار مستظهراً بالمعاونين والأنصار . والمقصود بعث الأمراء والسلاطين على أن يطلبوا الخلاص عن المكاره بعصمة الله لا بالحرس والأعوان ولذلك ختم الآية بقوله : { وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم .

قالت الأشاعرة : في هذا الكلام دلالة على أن العبد غير مستقل في الفعل لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى حكم بكونه مستحقاً للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، فلو كان العبد مستقلاً لحصل الإيمان وكان راداً لقضاء الله تعالى . وقالت المعتزلة : هذا معارض بما تقدم عليه من كلام الله وهو قوله : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } لأنه لو ابتدأ بالعبد أول ما يبلغ بالضلال والخذلان كان ذلك من أعظم العقاب مع أنه ما كان منه تغيير . قالوا : وفيه دليل على أنه لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله ما بهم من النعمة إلى العقاب . أجابت الأشاعرة بأن هذا راجع إلى قوله : { ويستعجلونك } بين الله سبحانه بذلك أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر حتى قالوا : إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في أعقابهم من يؤمن فإنه لا يستأصلهم . ورد بأن هذا خلاف الظاهر وقد صرح بذلك في سورة الأنفال في قوله : { ذلك بأن لله لم يك مغيراً } [ الآية : 53 ] الآية . والحق أن ترتب النقمة على تغيير النعمة لا ينافي استناد تغيير النعمة إليه فإنه مبدأ المبادىء وانتهاء الوسائط وسبب الأسباب .
التأويل : { المر } الألف الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، اللام له مقاليد السموات والأرض ، الميم مالك يوم الدين ، الراء رب العالمين من الأزل إلى الأبد أقسم بهذه الأمور أن الذي أنزل على عبده محمد هو الحق ، وأنه حبل الله الذي به يوصل المؤمن من هبوط عالم الطبيعة إلى ذروة عالم الحقيقة لأنه { الله الذي رفع السموات } المحسوسة { بغير عمد } فكما أنه رفع السموات بقدرته فكذلك رفع الدرجات برحمته ، أو كما أنه رفع السموات المحسوسة بعمد القدرة كذلك يرفع سموات القلوب بجذبة العناية ، وسخر شمس الروح وقمر القلب أو النفس لتدبير مصالح العالم الصغير . وإنما تظهر هذه الغرائب والعجائب لحصول كمال الإيقان بالرجوع إلى الله والفناء فيه بل البقاء به . ومن حسن تدبيره أنه مد أرض البشرية وجعل فيها رواسي من الأوصاف الروحانية وأنهاراً من منابع العناية ، { ومن كل الثمرات } وهي الملكات والأخلاق { جعل فيها زوجين اثنين } ملكة روحانية حميدة وأخرى نفسانية وذميمة . فالأولى نورانية كالنهار والأخرى ظلمانية كالليل ، يغلب هذه تارة وتلك أخرى وهذا معنى قوله : { يغشي الليل النهار } وفي أرض الإنسانية { قطع متجاورات } هي النفس والقلب والروح السر والخفي حيوانية وملكوتية روحانية وجبروتية وعظموتية { وجنات } هي هذه الأعيان المتسعدة لقبول الفيض عند بلوغها { من أعناب } هي ثمرة النفس من الصفات التي هي أصل الإسكار كالغفلة والحمق والسهو واللهو { وزرع } هو ثمرة القلب فإن القلب كالأرض الطيبة التي منها غذاء الروح { ونخيل } هو الروح ذو الأخلاق الحميدة كالكرم والجود والشجاعة والقناعة والحياء والتواضع والشفقة { صنوان } هو السر الجبروتي الكاشف عن أسرار الجبروت بين الرب والعبد فإنه إذا حكى السر للعبد كان المحكى مثالاً لما عليه الوجود { وغير صنوان } هو الخفي الواقف على أسرار العظموت التي لا مثل لها ولا أمثال ولا تحكى لعبده كما قال

{ فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] وكما قال :
بين المحبين سر ليس يفشيه ... { يسقى بماء واحد } هو ماء القدرة والحكمة { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } أي ما في استعداد كل مستعد من الفضائل ، أو ما في كل ذرّة من ذرّات المكونات من الخواص والطبائع ، أو ما في كل منها من الآيات الدالة على موجدها { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] { وما تغيض الأرحام وما تزداد } أي ما يظهر من تلك الآيات الاستعدادات في جانبي التفريط والإفراط ، والمراد ما ينقص من أرحام الموجودات أو المعدومات فمهما أوجد شيء نقص من رحم العدم واحد وزاد في رحم الوجود واحد وبالعكس في جانب الإعدام . مستخف بليل العدم وظاهر النهار الوجود له أي لله معقبات من العلم والقدرة من بين يدي المعلوم ومن خلفه أي في حالتي عدمه ووجوده من أزله إلى أبده { يحفظونه من أمر الله } أي لأجل أمره حتى لا يخرج من قبضة تدبيره { إن الله لا يغير ما بقوم } من الوجود والعدم { حتى يغيروا ما بأنفسهم } من استدعاء الوجود أو العدم بلسان استحقاق الوجود أو العدم كما تقتضيه حكمته وتدبيره .


هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)

القراآت : { كباسط } مثل { بسطة } [ البقرة : 247 ] وقد مر في البقرة { أم هل يستوي } بيان تحتانية : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل : الآخرون بتاء التأنيث . { يوقدون } على الغيبة : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون : على الخطاب إما للكفرة في قوله : { قل أفاتخذتم } وإما للمكلفين على العموم كما في القراءة الأخرى والضمير يعود إلى الناس المعلوم من سياق الكلام . الوقوف : { الثقال } 5 ج لاختلاف الفاعل مع اتفاق اللفظ { من خيفته } ج لذلك { في الله } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { المحال } 5 ط للآية وانقطاع النظم { دعوة الحق } ط { يبالغه } ط { ضلال } 5 { والآصال } 5 { والأرض } ط { قل الله } ط { ولا ضراً } ط { والبصير } 5 ط للعطف { والنور } ج لاحتمال أن يكون هذا الاستفهام بدلاً عن الأوّل { عليهم } ط { القهار } 5 { رابياً } ط { مثله } ط { والباطل } ط { جفاء } ج لاتفاق الجملتين مع كون « أما » للتفصيل { في الأرض } ط { الأمثال } 5 ط { الحسنى } ط { لافتدوا به } ط { الحساب } 5 لا { جهنم } ج { المهاد } 5 { هو أعمى } ط { الألباب } 5 لا { الميثاق } ط للعطف { سوء الحساب } 5 ط { الدار } ه لأن قوله : { جنات عدن } بدل من { عقبى } { من كل باب } 5 ج لحق المحذوف أي قائلين . { عقبى الدار } ط { في الأرض } لا { سوء الدار } 5 { ويقدر } ط { الدنيا } ط { متاع } ز { من ربه } ط { أناب } 5 { بذكر الله } الأوّل ط { القلوب } 5 { مآب } 5 .
التفسير : لما خوّف عباده بإنزال ما لا مردَّ له أتبعه دلائل تشبه اللطف من بعض الوجوه والقهر من بعضها وهي أربعة : البرق والسحاب والرعد والصاعقة . وقد مر في أوّل سورة البقرة تفسير هذه الألفاظ وقول الحكماء في أسباب حدوثها . وانتصاب { خوفاً وطعماً } إما على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وطمع ، أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين ، وإما على أنه مفعول له على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع . وإنما وجب تقدير المضاف ليكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل كما هو شرط نصب المفعول له . ومعنى الخوف والطمع من وقوع الصواعق والطمع في نزول الغيث . وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر إما بحسب الزمان وإما بحسب المكان ، فمن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له فيه نفع . وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي عن الرعد فقال : ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب . فعلى هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك الموكل المسمى بالرعد . وعن الحسن . خلق الله ليس بملك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

« إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق » وهذا غير مستبعد من قدرة الله وخصوصاً عند من لا يجعل البنية شرطاً في الحياة . وقيل : المضاف محذوف أي يسبح سامعو الرعد من العباد الراجلين للمطر حامدين له أو متلبسين بسبحان الله والحمد لله . وعن علي رضي الله عنه : سبحان من سبحت له . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا اشتد الرعد : « اللَّهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك » وقيل : معنى تسبيح الرعد أن هذا الصوت المخصوص لهوله ومهابته يدل على وجود إله قهار كقوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] . قال في الكشاف : ومن بدع المتصوّفة الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم . والمطر بكاؤهم . أما قوله : { والملائكة من خيفته } أي ويسبح الملائكة من هيبته وجلاله فقد ذكر جمع من المفسرين أنه عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعواناً . قال ابن عباس : إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من على يمينه ومن على يساره ولم يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء . وقالت الحكماء : إنما تتم الآثار العلوية بقوى روحانية فلكية ، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار فهذا هو المراد بالملائكة في الآية . قوله : { ويرسل الصواعق } قد عرفت أنها نار تتولد من السحاب وتنزل بقوّة شديدة فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان . ووجه الاستدلال بها على الصانع أن النار حارة يابسة وطبيعة السحاب يغلب عليها الرطوبة والبرودة للأجزاء المائية فيه ، وحصول الضد من الضد لا يكون بالطبع وإنما يكون بتدبير القادر المختار وتسخيره .
ولما بين دلائل كمال العلم في قوله : { والله يعلم } ودلائل كمال القدرة في هذه الآية قال : { وهم يجادلون في الله } لأن إنكار المدلول بعد وضوح الدليل جدال بالباطل وعناد محض ، ويحتمل أن تكون الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم ويؤكده ما روي عن ابن عباس في رواية أبي صالح وابن جريج وابن زيد أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد بن ربيعة أقبلا يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من أصحابه . يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك . فقال : دعه فإن يردِ الله به خيراً يهده . فأقبل حتى قام عليه فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت . فقال : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم . قال تجعل لي الأمر بعدك . قال : لا ليس ذلك إليّ إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر . قال : لا .

قال : فماذا تجعل لي؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها . قال : أوليس ذلك إليّ اليوم؟ وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر عليه من خلفه فاضربه بالسيف . فجعل يخاصم رسول الله ويراجعه ويجادل في الله يقول أخبرني عن ربك أمن نحاس هو أم من حديد ، فدار أربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبراً ثم حبسه الله فلم يقدر على سله ، وجعل عامر يومىء إليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه فقال : اللَّهم أكنفيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وولى عامر هارباً وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً وفرساناً مرداً . فقال رسول الله : يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة - يريد الأوس والخزرج - فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وخرج وهو يقول : واللات لئن أصحر إليّ محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنهما برمحي فأرسل الله إليه ملكاً فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : أغدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية؟ ثم مات على ظهر فرسه وأنزل الله الآية في هذه القصة . قوله : { وهو شديد المحال } معناه شديد المكر والكيد لأعدائه ، والمماحلة شدة المماكرة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ومنه الحديث : « اللَّهم اجعله - أي القرآن - لنا شافعاً مشفعاً ولا تجعله علينا ماحلاً مصدّقاً » ومن سنة المحل لشدتها وصعوبة أمرها . وأما عبارات المفسرين فقال مجاهد وقتادة : شديد القوّة . أبو عبيدة : شديد العقوبة . الحسن : شديد النقمة . وقيل : شديد الحقد ومعناه راجع إلى إرادة إيصال الشر إلى مستحقه مع إخفاء تلك الإرادة عنه ثم أثنى على نفسه بالحقية وشهد على الأصنام بالبطلان فقال : { له دعوة الحق } فأضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إلى الحق والمراد أنه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة إذا أراد فهو حقيق بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا فائدة في دعائه . وعن الحسن : الحق هو الله والمعنى له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في الكافرين حين دعا عليهما . وعن ابن عباس : دعوة الحق قوله لا إله إلا الله . وقيل : الدعوة العبادة فإن عبادته هي الحق والصدق وقد سلف تحقيق الحق في أوّل هذا الكتاب في تفسير البسملة . { والذين يدعون من دونه } أي الآلهة الذين يدعوهم أو يعبدهم الكفار من دون الله . { لا يستجيبون لهم بشيء } إلا استجابة كاستجابة الماء من بسط يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر به .

والحاصل أن الكفار وذلك الطالب كليهما مشترك في الخيبة لاشتراكهما في دعاء الجماد . وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشراً أصابعه فلا جرم لا يبلغ طلبته . ثم أكد خيبتهم بقوله : { وما دعاء الكافرين إلى في ضلال } في ضياع وذهاب عن المنفعة لأنهم إن دعوا الله لا يجيبهم لحقارة أمرهم عنده ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع أجابتهم .
ثم زاد في الثناء فقال : { ولله يسجد من في السموات والأرض } فإن كان السجود بمعنى وضع الجبهة فذلك ظاهر في المؤمنين لأنهم يسجدون له { طوعاً } أي بسهولة ونشاط { وكرهاً } أي على تعب واصطبار ومجاهدة . وأما في حق الكفار فمشكل ووجهه أن يقال : المراد حق له أن يسجد لأجله جميع المكلفين من الملائكة والثقلين فعبر عن الوجوب بالوقوع ، وإن كان بمعنى الانقياد والخضوع والاعتراف بالإلهية وترك الامتناع عن نفوذ مشيئته فيهم فلا إشكال نظيره قوله : { وله أسلم من في السموات والأرض } [ آل عمران : 83 ] وقد مر في « آل عمران » أما قوله : { وظلالهم } فقد قال جمع المفسرين . كمجاهد والزجاج وابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله وتخضع له كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه فظل المؤمن يسجد لله طوعاً وهو طائع وظل الكافر يسجد لغير الله كرهاً ويسجد لله طوعاً . وقال آخرون : المراد من سجود الظلال تقلصها وامتدادها بحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها فهي منقادة مستسلمة لما أتاح لله لها في الأحوال . وتخصيص الغدوّ والآصال بالذكر لغاية ظهورها وازديادها في الوقتين . ومعنى الغدّو والآصال قد مر في آخر « الأعراف » . واعلم أنه سبحانه ذكر آية السجدة في النحل بعبارة أخرى فقال : { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة } [ الآية : 49 ] لأنه تقدم ذكر ما خلق الله على العموم ولم يكن فيه ذكر الملائكة ولا الإنس بالصريح فعمم ليشمل الإنس وصرح بالملائكة . وقال في « الحج » { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض } [ الحج : 18 ] بتكرير « من » لأنه تقدم ذكر المؤمنين وسائر الأديان فقدم ذكر { من في السموات } تعظيماً لهم ولها وذكر { من في الأرض } لأنهم هم الذين تقدم ذكرهم . وأما في هذه السورة فقد تقدم ذكر العلويات من الرعد والبرق ، ثم ذكر الملائكة وتسبيحهم ، ثم انجر الكلام إلى ذكر الأصنام والكفار فبدأ في آية السجدة بذكر من في السموات والأرض وذكر الأرض تبعاً ولم يذكر من فيها استخفافاً بالكفرة وأصنافهم فتبين أنه أورد كل آية بما لاق بمقامها والله تعالى أعلم بمراده .

ثم أخبر عن التسخير بسؤال التقرير ردّاً على عبدة الأصنام فقال : { قل من رب السموات والأرض قل الله } وهذه حكاية لاعترافهم لأنهم كانوا يعترفون بأنه الإله الأعظم وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك؟ فإذا قال هذا قولي قال هذا قولك فيحكي إقراره استئنافاً منه يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت وذلك قوله : { قل أفاتخذتم } ويجوز أن يكون تلقيناً لما ليسوا منكرين له . والهمزة في { أفاتخذتم } للإنكار والمعنى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم { من دونه أولياء } جمادات عجزة عن تحصيل المنافع والمضارّ لأنفسهم فضلاً عن غيرهم . وموضع الإنكار أنهم جعلوا ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من العلم والإقرار سبب الإشراك ، ثم جعلوا مع ذلك أخس الأشياء مكان أشرف الذوات وهذا جهل لا مزيد عليه فلهذا شبههم بالأعمى وشبه جهالتهم بالظلمات وأنكر أن يكون شيء منهما مساوياً لنقيضه فقال : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } جمع الظلمات ووحد النور لأن السبل المنحرفة غير محصورة والصراط المستقيم واحد . ثم أكد الإنكار المذكور بقوله : { أم جعلوا } والمراد بل جعلوا { لله شركاء } خالقين مثل خلقه { فتشابه الخلق } أي خلق الله وخلقهم { عليهم } أي ليس لهذه الشركاء خلق مثل خلق الله حتى يشتبه الأمر عليهم بل ليس لهم خلق أصلاً بل كان ما سوى الله عاجز عن الخلق بدليل قوله : { قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } المتوحد بالربوبية الذي لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور . قالت المعتزلة : للعبد فعل وتأثير ولكنا لا نقول إنه يخلق كخلق الله لأن العبد يفعل لجلب منفعة أو دفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك . وأجيب بأن المخالفة من بعض الوجوه لا تقدح في المماثلة من وجه آخر ، فلو كان فعل العبد كالتحريك مثلاً واقعاً بقدرته لكان مثلاً للتحريك الواقع بقدرة الله تعالى وهذا الإشكال وارد أيضاً على من يثبت للعبد كسباً . ثم ضرب مثلاً آخر للحق وذويه والباطل ومنتحليه فقال : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية أي مياهها والوادي الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل . وقيل : الوادي اسم للماء من ودى إذا سال ، والمعنى سالت مياه . قال الفارسي : لا نعلم فاعلاً جمع على « أفعلة » إلا هذا وكأنه حمل على « فعيل » فجمع على « أفعلة » كجريب وأجربة كما أن فعيلاً حمل على فاعل فجمع على « أفعال » مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر . وقال غيره : نظير وادٍ وأودية نادٍ وأندية . ومعنى التنكير في أودية أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوية بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض . قال في الكشاف : معنى { بقدرها } بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم بدليل قوله : { وأما ما ينفع الناس } وقال الواحدي : معناه سالت مياه الأودية بقدر الأودية فإن صغر الوادي قل الماء وإن استع كثر الماء .

والزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ونحوه . ومعنى { رابياً } قال الزجاج : طافياً فوق الماء . وقال غيره : زائداً بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد . ثم قال سبحانه إظهاراً للكبرياء كما هو ديدن الملوك { ومما يوقدون عليه } « من » لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء . أو للتبعيض بمعنى بعضه زبد مثله أراد به الأجسام المتطرقة المتفرقة الرابية . والإيقاد على الشيء قسمان : أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار كالآجر في قوله : { أوقد لي ياهامان على الطين } [ القصص : 38 ] والثاني أن يكون في النار كأنواع الفلز ولهذا قال ههنا بزيادة لفظة { في النار } قال في الكشاف : فائدة قوله { ابتغاء حلية أو متاع } مثل فائدة قوله { بقدرها } لأنه جميع بين لماء والفلز في النفع في قوله : { وأما ما ينفع الناس } أي وأما ما ينفعهم به من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع بالفلز وهو اتخاذ الحلي من الذهب والفضة واتخاذ سائر أثاث البيت وأمتعته من الحديد والنحاس والرصاص والأسرب وما يتركب منها والمتاع كل ما تمتع به . { وكذلك يضرب الله الحق والباطل } أي يضرب الأمثال للحق والباطل ومثله في آخر الآية فاختصر الكلام بأن حذف الأمثال من الأوّل والحق والباطل من الثاني تأكيداً للمقصود مع رعاية الاختصار . ثم شرع في تتميم المثل قائلاً { فأما الزبد فيذهب جفاء } نصب على الحال وهو اسم لما ينفيه السيل . يقال : جفأ الوادي بالهمزة جفأ إذا رمى بالقذر والزبد ، وكذلك القدر إذا رمت بزبدها عند الغليان { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } حاصل المثل أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء النافع في العيون والآبار والأنهار ، وكذا الأجساد المتطرقة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويتلاشى ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به أزمنة متطاولة . وتطبيق المثل على الحق والباطل أنه سبحانه أنزل من سماء الوحي ماء بيان القرآن فسالت أودية القلوب بقدرها فإن كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علم القرآن ما يليق بذلك القلب على قدر استعداده . ثم إنه يختلط بذلك البيان شكوك وشبهات ولكنها بالآخرة تضمحل ويبقى العلم واليقين ، فزبد السيل والفلز مثل للباطل في سرعة اضمحلاله وانسلاخه من المنفعة ، والماء والفلز الصافي مثل للحق في البقاء والانتفاع به .
ثم ذكر أحوال السعداء وتبعات الأشقياء فقال { للذين استجابوا لربهم } أي فيما دعاهم إليه من التوحيد والنبوة والتكاليف { الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة { والذين لم يستجيبوا له } مبتدأ آخر خبره الجملة الشرطية بعده .

وقيل : إن الكلام متصل بما قبله أي يضرب الله الأمثال لهذين الفريقين . وقوله : { الحسنى } صفة لمصدر استجابوا أي الاستجابة الحسنى . وقوله : { لو أن لهم } كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين ومن ذلك قوله { أولئك لهم سوء الحساب } قال الزجاج : لأن كفرهم أحبط أعمالهم . وقال غيره : سوء الحساب المناقشة فيه . وعن النخعي : هو أن يحاسب الرجال بذنبه كله لا يغفر منه شيء . وقال الحكماء : هو ظهور آثار الملكات الردية والهيئات الذميمة على النفس ولم يكن قبل ذلك له شعور بها لاشتغاله بعالم الحس . { ومأواهم جهنم } لأنهم أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن المولى فلا جرم إذا ماتوا فارقوا معشوقهم فأورثهم الحرمان والخسران والاحتراق بنار الفراق . ثم أنكر بعد هذه البيانات أن يسوّى بين الناقد والبصير والجاهل الضرير فقال { أفمن يعلم أنما } أي أن الذي { أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } القلب { إنما يتذكر } أي لا ينتفع بالأمثال إلا { أولوا الألباب } الذي يعبرون من القشر إلى الباب . ثم وصفهم بقوله : { الذين يوفون بعهد الله } ويجوز أن يكون نصباً على الندح وأن يكون مبتدأ خبره { أولئك } أما عهد الله فعن ابن عباس : هو المذكور في قوله : { وإذا أخذ ربك من بني آدم } [ الأعراف : 172 ] وقيل : هو كل ما قام عليه دليل عقلي أو سمعي من الأفعال والتروك ولا عهد أوكد من الحجة بدليل أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به إذا ثبت بالدليل جوازه { ولا ينقضون الميثاق } تأكيد للوفاء بالعهد بعبارة أخرى تلزم الأولى كقولك : لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه . وقيل : الوفاء بعهد الله إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء ، وعدم نقض الميثاق أراد به ما التزمه العبد بالنذر . وقيل : الوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والميثاق أعم لشموله كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله ومن سائر المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد ، والوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع كلها قال صلى الله عليه وسلم : « من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق » { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } إفراد لما بينه وبين العباد بالذكر فقيل : المراد صلة الرحم . وقيل : هو مؤازة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته ونصرته في الجهاد . وقيل : رعاية جميع حقوق الناس بالشفقة عليهم والنصيحة في كل حال وكل حين ومن ذلك عيادة المريض وشهود الجنائز ومراعاة الرفقاء والجيران والخدم ومن يطيف به حتى الهرة والدجاج { ويخشون ربهم } وإن أتوا بكل ما قدروا عليه في باب التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله خوفاً من وعيده كله { ويخافون } خصوصاً { سوء الحساب } ويلزم ذلك أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا .

وقيل : الخشية نوعان : خشية الجلال كالعبد إذا حضر بين يدي السلطان ومن ذلك خشية الملائكة { يخافون ربهم من فوقهم } { النحل : 50 ] وإلى هذا أشار بقوله : { ويخشون ربهم } وخشية أن يقع في العبادة خلل أو نقص يوجب فسادها أو نقصان ثوابها . وإليه الإشارة بقوله : { ويخافون سوء الحساب } .
{ والذين صبروا } عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى المصائب { ابتغاء وجه ربهم } لا لأجل أن يقال ما أورعه وما أزهده وما أصبره وغير ذلك من الأغراض الفاسدة ، وإنما يصبر على التكاليف لأنها أحكام المعبود الحق ويصبر على الرزايا لأنها قسمة قسام متصرف في ملكه كيف يشاء ، أو لأنه مشغول بالمقدر والقاضي لا بالقدر والقضاء . وقد يرضى العاشق بالضرب والإيلام لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فهكذا العارف يصبر على البلايا والمحن لاستغراقه في بحر العرفان وفيضان أنوار المعروف عليه . { وأقاموا الصلاة } ولا يمتنع دخول النوافل فيها لقوله : « ما زال العبد يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحببته » { وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية } يتناول النفل لأنه في السر أفضل ، والفرض لأنه في الجهر أفضل كما مر في أواخر سورة البقرة { ويدرءُون بالحسنة السيئة } أي يدفعون بالتوبة وهي الخصلة الحسنة المعصية . قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل « إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها » وقيل لا يقابلون الشر بالشر وإنما يقابلونه بالخير كما روي عن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا قطعوا وصلوا . وعن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيىء غيرهم . يروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متفكراً فقال : من أين أتيت؟ قال : من بلخ . فقال : وهل تعرف شقيقاً؟ فقال : نعم . فقال : كيف طريقة أصحابه؟ فقال : إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا فقال عبد الله : هكذا طريقة كلابنا ، وإنما الكاملون الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا . وقيل مراد الآية أنهم إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره { أولئك لهم عقبى الدار } عاقبة الدنيا وهي الجنة التي أرادها الله تعالى أن تكون مرجع أهلها . والعقبى مصدر كالعاقبة ومثله البشرى والقربى ، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن يعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة . ومعنى { جنات عدن } تقدم في سورة براءة { ومن صلح } معطوف على فاعل { يدخلونها } ويجوز أن يكون مفعولاً معه . قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم . وقال الزجاج : بين أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة . قال الواحدي : والأول أصح لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة فلو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ، ويمكن أن يوجه قول الزجاج بأن المقصود بشارة المؤمن بأن أهل الصلاح من أصوله وفصوله وأزواجه يجتمعون به في دار الثواب فقد يمكن أن يكونوا جميعاً في الجنة ولا يجتمعون في موضع .

ولقائل أن يقول : الدخول أعم من الاجتماع ولا دلالة للعام على الخاص فصح اعتراض الواحدي . والآباء جميع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم . وليس في الآية ما يدل على التمييز بين زوجه وزوجة ولعل من مات عنها أو ماتت عنه ويؤيده ما روي عن سودة أنه لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك .
قال ابن عباس : لهم خيمة من درة مجوّفة فرسخ وعرضها فرسخ لها أبواب مصاريعها من ذهب يدخل عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم عليكم بما صبرتم على أمر الله . وقال أبو بكر الأصم : من كل باب من أبوب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون : نعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى . وهذا يناسب قول حكماء الإسلام إن لكل مرتبة من مراتب الكمالات جوهراً قدسياً وروحاً علوياً يختص بتلك الصفة ، فبعد المفارقة يفيض على النفس الكاملة من ملك الصبر كمال مخصوص ، ومن ملك الشكر كذلك وعلى هذا القياس . وقد يستدل بالآية على أن الملك أفضل من البشر وإلا فلم يكن دخولهم على المؤمنين موجباً لتحيتهم وإكرامهم . ويمكن أن يجاب بأن وجه التكريم هو مجيئهم بإذن الله ومن عنده لا مجرد المجيء : والباء في قوله : { بما صبرتم } يتعلق بالسلام . والمعنى إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات وعن المحرمات . وقيل : يتعلق بمحذوف أي هذا الثواب بسبب صبركم أو بدل صبركم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار . ثم أتبع أحوال السعداء أحوال الأشقياء وقد مر تفسيره في أوّل « البقرة » على أن الضد قد يعلم من الضد بسهولة وقد مر آنفاً . وقوله : { سوء الدار } في مقابلة { عقبى الدار } كأن العاقبة لا تطلق إلا على العاقبة الحميدة كقوله { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] لأن غير الحميدة ل تستأهل لأن تكون عاقبة .
وقال في الكشاف : المراد سوء عاقبة الدنيا ولا حاجة إلى هذا ا لإضمار بناء على ما قلنا . قال : ويجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها ذكر أهل النظم أنه لما بين سوء حال الناقصين كان لقائل أن يقول : فما بالهم قد فتح الله عليهم أبواب الرزق في الدنيا فأجاب بقوله : { الله يبسط الرزق } والمراد أن الدنيا دار امتحان لا دار جزاء ، فقد يتفق أن يكون الجاهل الكافر خليّ البال والعالم المؤمن رديّ الحال ولا تعلق لهذا المعنى بالكفر والإيمان .

والتركيب للحصر أي هو وحده يوسع الرزق على من يشاء كأهل مكة و { يقدر } أي يضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر الضرورة وسد الرمق لا يفضل منه شيء { وفرحوا } يعني أهل مكة وأضرابهم بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح تحدث بنعمة الله وإظهاراً لفضله عليهم { وما الحياة الدنيا } ونعيمها في جنب نعيم الآخرة { إلا متاع } شيء نزر يتمتع به أياماً قلائل ثم بعد ذلك حسرات لا نهاية لها ، ومثل هذا لا يوجب الفرح بل لا يجوّزه . ثم حكى نوعاً آخر من قبائح الكفرة فقال : { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } وقد مر مثله في هذه السورة وذكرنا أنه ليس بتكرار محض إلا أن قوله في جوابهم { قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } أقبل على الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير فيه غموض . وأجيب بأنه يجري مجرى التعجب كأنه قيل : ما أعظم عنادكم بعدما أنزلت من الآيات الباهرة أن الإضلال والهداية من الله ، أو المراد لا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات فإن الذي أضله الله يرى الآية سحراً ، والذي هداه يراها معجزة . وقال الجبائي : المعنى إن الله يضل من يشاء عن طريق الصواب ويهدي إليه أقواماً آخرين فلولا أنكم تستحقون العقاب لهداكم لهداكم إلى الصواب بإنزال ما اقترحتموه . وقيل : المراد أنه تعالى أنزل آيات ظاهرة ولكن الإضلال والهداية من الله فلو شاء لهداكم فلا فائدة في تكثير المعجزات { الذين آمنوا } بدل ممن أناب { وتطمئن قلوبهم } عن ابن عباس : يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت . والاطمئنان بآيات الوعد لا ينافي الوجل من آيات الوعيد حيث قال { إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] أو المراد أن علمهم بكون القرآن معجزاً يوجب حصول الطمأنينة لهم بأنه سبحانه واحد لا شريك له صادق في وعده ووعيده وبأن محمداً نبي حق { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } التحقيق فيه أن الإنسان متوسط الرتبة بين عالم الأرواح وعالم الأجساد ، فإذا توجه إلى عالم الجسد اشتاق إلى التصرف فيه فيظهر له هناك أمور ضرورية في التعيش أدونها ليس بأهون من خرط القتاد فيتوزع فكره وتضطرب أحواله ، أما إذا توجه إلى عالم الروح فإنه يزول الاضطراب ويتوحد المطلب ويحصل الاستغراق في بحر العرفان والاستنارة بنور الإيقان ، ومن وقع في لجة البحر لا يبالي أين وقع :
أنا الغريق فما خوفي من البلل ... وقيل : إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على النحاس انقلب ذهباً صافياً باقياً على كر الدهور ، فإكسير جلال الله إذا وقع في القلب السليم كيف لا يقلبه جوهراً صافياً نورانياً آمناً من التغير والزوال { الذين آمنوا } مبتدأ خبره { طوبى لهم } وجوّز في الكشاف أن يكون بدلاً على حذف المضاف أي قلوب الذين آمنوا .

و { طوبى } مصدر من طاب يطيب كبشرى وواو منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها واللام للبيان مثل « سقيا لك » . والمعنى طيب لهم على الدعاء أو الخبر . عن ابن عباس : فرح وقرة عين . الضحاك : غبطة لهم . قتادة : حسنى لهم . الأصم : خير وكرامة . الزجاج : عيش طيب . والكل متقارب والعبارة الجامعة أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم . وقيل : طوبى شجرة في الجنة . حكى الأصم أن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم وفي دار كل مؤمن منها غصن . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « طوبى شجرة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة » وعن بعضهم أن طوبى هي الجنة بالحبشية والمآب المرجع .
التأويل : { هو الذي يريكم } برق أنوار الجلال فيغلب عليكم خوف الانقطاع واليأس ، ويريكم برق أضواء الجمال فيغلب عليكم طمع الوصل ورجاء الاستئناس { وينشىء السحاب } النوال والأفضال { الثقال } بمطر القبول والإقبال { ويسبح الرعد } وهو الملك المخلوق من نور الهيبة والجلال فتع الهيبة في قلوب الخلق كلهم حتى الملائكة فيسبحون من خيفته ، ويرسل صواعق القهر { فيصيب بها من يشاء } من أهل الخذلان فيحرق حسن استعدادهم في قبول الإيمان . ومن نتائج ذلك أنهم يجادلون في ذات الله وفي صفاته كالفلاسفة الذين لا يتابعون الأنبياء والشرئع ، وكبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع { له دعوة الحق } أي دعوته حق لمن دعاه فيستجيبه كما قالت السموات والأرض أتينا طائعين له دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق { والذين يدعون من دونه } أي بغير الحق { لا يستجيبون لهم بشيء } إذ لا يؤثر في الخلق نصحهم كمن يبسط يده إلى الماء إراءة إلى الحق أنه يريد شربه { وما هو ببالغه } فلا يستجابون على الحقيقة وإن استجيبوا في الظاهر لأنهم استجابوا لهم على الهوى كما دعوا إلى الحق بالهوى يدل عليه قوله : { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولله يسجد من في السموات والأرض } من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والصلحاء { طوعاً } ومن أرواح الكافرين والمنافقين والشياطين { كرهاً } بالتذليل والتسخير تحت الأحكام والتقدير { وظلالهم } أي نفوسهم فإن النفوس ظلال الأرواح ، وليس السجود ن شأنها لأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الرب فإنها تسجد بتبعية الروح . معنى آخر : ولله يسجد من في سموات القلوب من صفات القلوب والأرواح والعقول ، طوعاً ومن في أرض النفوس من صفات النفس والقوى الحيوانية والسبعية والشيطانية كرهاً ، وظلالهم وهي آثارها ونتائجها . آخر : ولله يسجد الأرواح في الحقيقة وظلالهم وهي أجسادهم بالتبعية ، وهذا السجود بمعنى وضع الجبهة ، وخص الوقتان بالذكر لأن آثار القدرة فيهما أكثر ، وإن أريد الانقياد والتسخير احتمل أن يراد بالوقتين وقتا الانتباه والنوم ، ففي الأول تطلع شمس الروح من أفق الجسد ، وفي الثاني تغرب فيه أنزل من سماء القلوب ماء المحبة .

{ فسالت أودية } النفوس { فاحتمل السيل زبداً رابياً } من الأخلاق الذميمة النفسانية والحيوانية ، أو أنزل من سماء الأرواح ماء مشاهدة أنواع الجمال { فسالت أودية } القلوب { فاحتمل السيل زبداً رابياً } من الأوصاف البشرية ، أو أنزل من سماء الأسرار ماء كشوف الجمال { فسالت أودية } الأرواح { فاحتمل السيل زبداً رابياً } من أنانية الروحانية ، أو أنزل من سماء الجبروت ماء تجلي صفات الألوهية { فسالت أودية } الأسرار بقدرها { فاحتمل السيل } زبد الوجود المجازي { ومما توقدون عليه } من البقاء في نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فلا تبقي ولا تذر وهي التذكية بالفناء { ابتغاء حلية } وهي التحلية بالبقاء الحقيقي { أو متاع } وهو التمتع به { زبد مثله } مثل زبد البشرية وهو زبد المعرفة والتوحيد { فأما الزبد } في الأحوال كلها { فيذهب جفاء } بالفناء { وأما ما ينفع الناس } من البقاء بالله { فيمكث في } أرض الوحدة المستعدة لقبول الفيض الإلهي . { للذين استجابوا لربهم الحسنى } وهي العناية الأزلية التي الاستجابة من نتائجها كقوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] { والذين لم يستجيبوا له } حين دعاهم للوصول والوصال لو حصل لهم ما في أرض البشرية من أنواع اللذات والحظوظ وأضعافها لجعلوه فداء ألم عذاب القطيعة { وأنفقوا مما رزقناهم } أي انفصلوا عما سواه ليتصلوا به { سراً } بالانقطاع عما يشغل بواطنهم { وعلانية } بالانفصال عما يشغل ظواهرهم { ويدرءُون } بالأعمال والأحوال الحسنة في صدق الطلب الأحوال السيئة من الوقائع والفترات { والملائكة يدخلون عليهم } تبركاً وتيمناً بهم تبعاً لهم من كل باب دخلوه بالاستقلال على أقدام السير بالله إلى الله { سلام عليكم بما صبرتم } عن غير الله وعلى صدق الطلب { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } القلوب أربعة : قلب قاس كقلوب الكفار والمنافقين فاطمئنانه بالدنيا وشهواتها رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، وقلب ناس وهو قلب المسلم المذنب كقوله : { فنسي ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] فاطمئنانه بالتوبة فتاب عليه وهدى ، وقلب مشتاق وهو قلب المؤمن فاطمئنانه بذكر الله كما في الآية . وقلب وحداني وهو قلب الأنبياء وخواص الأولياء فاطمئنانه بالله وصفاته كقول الخليل صلى الله عليه وسلم { ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] أي بتجلي صفات الأحياء ، وإذا صار القلب مطمئناً انعكس نور الاطمئنان من مرآة قلبه على نفسه فتصير مطمئنة أيضاً فيستحق بجذبات العناية لخطاب { ارجعي } [ الفجر : 28 ] ثم أشار إلى أنّ الاطمئنان ثمرة غرس شجرة الإيمان والعمل الصالح في أرض القلب فقال : { الذين آمنوا } الآية . فالإشارة بطوبى إلى حقيقة شجرة « لا إله إلا الله » مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ولم يكن إلا في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وبتبعيته في قلوب المؤمنين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة » فافهم .


كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)

القراآت : { متابي } و { عقابي } و { مآبي } بالياء في الحالين : يعقوب والسرنديبي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل { بل زين } ونحوه بالإدغام : علي وهشام { وصدوا } بضم الصاد وكذا في « حم المؤمن » : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب . الباقون بفتحها . { ويثبت } مخففاً من الإثبات : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم . الآخرون بالتشديد من التثبيت { الكافر لمن } على التوحيد : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير . الباقون { الكفار } على الجمع .
الوقوف : { بالرحمن } ط { إلا هو } ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل : { متاب } 5 { الموتى } ط لأن جواب « لو » محذوف أي لكان هذا القرآن . { جميعاً } ط في الموضعين { وعد الله } ط { الميعاد } 5 { أخذتهم } ج للاستفهام مع الفاء { عقاب } 5 { بما كسبت } ج لحق الخبر المحذوف التقدير كمن ينفع ولا يضر ، ولأن قوله : { وجعلوا } يصلح استئنافاً أو حالاً بإضمار « قد » { شركاء } ط { سموهم } ط لحق الاستفهام { من القول } ط { عن السبيل } 5 { هاد } 5 { أشق } ج لاتفاق الجملتين مع النفي في الثانية { واق } 5 { المتقون } 5 ط لأن التقدير فما يتلى عليك مثل الجنة وللوصول وجه يذكر في التفسير . { الأنهار } ط { وظلها } ط { اتقوا } ق قد قيل : والوصل أجوز لأن الجمع بين بيان الحالين أدل على الانتباه { النار } 5 { بعضه } ط { ولا أشرك به } ط { مآب } 5 { عربياً } ط { العلم } لا لأن ما بعده جواب . { واق } 5 { وذرية } ط { بإذن الله } ط { كتاب } 5 { ويثبت } ج والوصل أجوز لتمام مقصود الكلام { الكتاب } 5 { الحساب } 5 { أطرافها } ط { لحكمه } ط { الحساب } 5 { جميعاً } ط { كل نفس } ط { الدار } 5 { مرسلاً } ط { وبينكم } ط للعطف { الكتاب } 5 .
التفسير : عن ابن عباس والحسن { أرسلناك } كما أرسلنا الأنبياء قبلك { في أمة قد خلت من قبلها أمم } وقال آخرون : معنى التشبيه كما أرسلنا إلى أمم وآتيناهم كتباً تتلى عليهم كذلك آتيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلم اقترحوا غيره؟ وقال في الكشاف : معناه مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات . ثم فسر كيف أرسله فقال : { في أمة قد خلت من قبلها أمم } كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء . ثم ذكر مقصود الإرسال فقال { لتتلو } أي لتقرأ { عليهم } الكتاب العظيم { الذي أوحينا إليك وهم يكفرون } وحال هؤلاء أنهم يكفرون { بالرحمن } للمفسيرين خلاف في تخصيص لفظ الرحمن بالمقام فقال جار الله : المراد كفرهم بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء وما بهم من نعمة فمنه ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال مثل هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم .

وعن ابن عباس في رواية الضحاك : نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : اسجدوا للرحمن فقالوا وما الرحمن؟ فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { قل } لهم إن الرحمن الذين أنكرتم معرفته { هو ربي لا إله إلا هو } الواحد القهار المتعالي عن الشركاء . { عليه توكلت } في نصرتي عليكم { وإليه متاب } رجوعي فيثيبني على مصابرتكم . وقيل : نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو والمشركون : ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة - يعنون مسيلمة الكذاب - اكتب باسمك اللَّهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون . فأنزل الله الآية . فعلى هاتين الروايتين كان الذم متوجهاً على كفرهم بإطلاق هذا الاسم على غير الله تعالى لا على جحودهم أو إِشراكهم . روي أن أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام فقال له رؤساؤهم - كأبي جهل وعبد الله بن أمية المخزومي - سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا فيها أنهاراً نزرع فيها ، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقوله أم باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى ، أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان ولست بأهون على ربك منه فنزل قوله : { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } عن مقارها وأزيلت عن مراكزها { أو قطعت به الأرض } أي وقع به السير في البلاد فوق المعتاد شبه طي الأرض أو شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً { أو كلم به الموتى } بعد إحيائهم به لكن هذا القرآن . قال الراوي : لما سري عن رسول الله عليه وسلم بعد نزول هذا الوحي قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم ثم إن كفرتم يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فاخترت باب الرحمة . وقال الزجاج : معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى أي تنبيههم لما آمنوا به كقوله : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } [ الأنعام : 111 ] الآية . وقال في الكشاف : هذه الآية لبيان تعظيم شأن القرآن . ومعنى تقطيع الأرض تصدعها كقوله { ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً } [ الحشر : 21 ] ونقل في الكشاف عن الفراء أن الآية تتعلق بما قبلها والمعنى وهم يكفرون بالرحمن . وبمدلول هذا الكلام وهو قوله : { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } وما بينهما اعتراض . ثم قال رداً عليهم { بل لله الأمر جميعاً } قال أهل السنة : يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه .

وقالت المعتزلة : له القدرة على الآيات التي اقترحتموها إلا أن علمه بأن إظهار مفسدة يصرفه ، أوله أن يلجئهم إلى الإيمان إلا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار . قالوا : ويعضده قوله : { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله } مشيئة الإلجاء { لهدى الناس جميعاً } أولو يشاء لهداهم إلى الجنة ، أو المراد نفي العموم لا عموم النفي وذلك أنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين . أجاب أهل السنة بأن كل هذا خلاف الظاهر .
ومعنى { أفلم ييأس } أفلم يعلم . وهذا لغة قوم من النخع . وقال الزجاج : إنه مجاز لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمنهما إياهما ، ويؤيده قراءة علي عليه السلام وابن عباس وجماعة { أفلم يتبين } وهو تفسير { أفلم ييأس } . وقيل : إن قراءتهم أصل والمشهورة تصحيف وقع من جهة أن الكاتب كتبه مستوي السينات . وهذا القول سخيف جداً والظن بأولئك الثقات الحفظة غير ذلك ولهذا قال في الكشاف : هذه والله فرية ما فيها مرية . وجوز أن يتعلق { أن لو يشاء } ب { آمنوا } معناه أفلم يقنط من إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً . ثم أوعد الكافرين بقوله : { ولا يزال الذين كفروا } يعني عامة الكفار { تصيبهم بما صنعوا } من كفرهم وسوء أعمالهم { قارعة } داهية تقرعهم من السبي والقتل { أو تحل } القارعة { قريباً من دارهم } فيتطاير إليهم شررها . { حتى يأتي وعد الله } وهو إسلامهم أو موتهم أو القيامة . وقيل : خاصة في أهل مكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يبعث السرايا حول مكة فتغير عليهم وتختطف منهم ، وعلى هذا احتمل أن يكون قوله : { أو تحل } خطاباً أي تحل أنت يا محد قريباً من دراهم بجيشك كما في يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، وكان قد وعده الله الفتح عموماً وخصوصاً وكان كما وعد وكان معجزاً { إن الله لا يخلف الميعاد } قد مر البحث في أول سورة آل عمران ثم ازداد في الوعيد فقال : { ولقد استهزىء } الآية . والإملاء الإمهال وقد مر هناك . والاستفهام في قوله : { فكيف كان عقاب } للتقرير والتهديد . ثم أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج والتوبيخ والتعجب من عقولهم فقال : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } ومعنى القائم الحفيظ والرقيب أي الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات كمن ليس كذلك . وجوز في الكشاف أن يقدر الخبر بحيث يمكن عطف وجعلوا عليه التقدير : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له شركاء فيكون قوله : « لله » من وضع الظاهر مقام الضمير ، وذكر السيد صاحب حل القعد أنه يجوز أن يجعل الواو في قوله : { وجعلوا لله } للحال ويضمر للمبتدأ خبر يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإنكار ما يقارنها من الحال والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس موجود والحال أنهم جعلوا له { شركاء } فأقيم الظاهر مقام المضمر كما قلنا تقريراً للإلهية وتصريحاً بها وإنه هو الذي يستحق العبادة وحده وهذا كما تقول معطي الناس ومغنيهم موجود ويحرم مثلي .

ثم زاد في المحاجة فقال : { قل سموهم } أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم وأنبئوه بأسمائهم . وإنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه فيقال : سمه إن شئت يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل . وقيل : المراد سموهم بالآلهة على سبيل التهديد .
قال في الشكاف : « أم » في قوله { أم تنبئونه } منقطعة كقولك للرجل قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف . أقول : وذلك لأنه لا شيء محض إذ لو كان الشريك موجوداً وهو أرضيّ لتعلق به علم العالم بالذات المحيط بجميع السفليات ونحوه { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } [ يونس : 18 ] وقد مر في أول « يونس » . ثم أكد هذا المعنى بقوله : { أم بظاهر من القول } أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من الكلام من غير أن يكون له حقيقة كقوله : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } [ يوسف : 40 ] وهذا الاحتجاج من أعاجيب الأساليب التي اختص بها القرآن الكريم المعجز فللَّه در شأن التنزيل . ثم بين سوء طريقتهم فقال : { بل للذين كفروا مكرهم } قال الواحدي : معنى « بل » ههنا كما يقال دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه إنه كذا وكذا . والكلام في أن المزين هو الله تعالى أو غيره قد مر في أول سورة آل عمران ، وكذا البحث فيمن قرأ { وصدوا } بضم الصاد ، وأما من قرأ بالفتح فيحتمل أن يكون لازماً أي أعرضوا عنه ، ويحتمل أن يكون متعدياً أي صرفوا غيرهم ، والخلاف في قوله : { ومن يضلل الله } تقدم في مواضع منها آخر الأعراف ثم عاد إلى الإيعاد فقال : { لهم عذاب في الحياة الدنيا } من القتل والقتال واللعن والذم لا المصائب والأمراض لأنها قد تصيب المؤمنين أيضاً ، ولأنها مأمور بالصبر عليها والعقاب لا يكون كذلك { ولعذاب الآخرة أشق } لأنه أشد وأدوم { وما لهم من الله } أي من عذابه { من واق } من حافظ أو ما لهم من جهة الله واق أي دافع ومانع من رحمته بل إنما يمنع رحمته منهم باختياره وحكمه . ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : { مثل الجنة } وتقديره عند سيبويه فيما قصصنا عليكم في الجنة . وقال غيره : الخبر { تجري } كما تقول صفة زيد أسمر . وقال الزجاج : إنه تمثيل للغائب بالشاهد ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار .

وقيل : إن فائدة الخبر ترجع إلى قوله : { أكلها دائم } كأنه قال مثل الجنة { التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار } كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه { أكلها دائم } كقوله : { لا مقطوعة ولا ممنوعة } [ الواقعة : 33 ] { وظلها } دائم أيضاً . والمراد أنه لا حر هناك ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ، وقد مر هذا البحث في سورة النساء في قوله : { وندخله ظلاً ظليلاً } [ الآية : 57 ] قيل : في الآية دلالة على أن حركات الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه . قال القاضي : وفيها دليل على أن الجنة لم تخلق بعد وإلا انقطع أكلها لقوله تعالى : { كل من عليها فان } [ الرحمن : 26 ] ، { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] قال : ولم ننكر أن تحصل الآن في السموات جنات تتمتع بها الملائكة ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة . وأجيب بأننا نخصص عموم كل شيء هالك بالدليل الدال على أن الجنة مخلوقة وهو قوله : { أعدت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] .
ثم ذكر عقائد الفرق في شأن القرآن المتلو فقال : { والذين آتيناهم الكتاب } قيل : أراد بالكتاب القرآن يعني أن المسلمين { يفرحون بما أنزل إليك } من الشرائع والعلوم { ومن الأحزاب } الجماعات من اليهود والنصارى وغيرهم { من ينكر بعضه } لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام المطابقة لشرائعهم وعقائدهم . وإنما أنكروا ما يختص به الإسلام من نعت الرسول وغيره قاله الحسن وقتادة . واعترض عليه بأن أهل الإسلام فرحهم بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره . ويمكن أن يقال : المراد زيادة الفرح والاستبشار بما فيه من العلوم والفوائد وأنهم يتلقون نزول الوحي بالبشر والطلاقة لا بالتثاقل والجهالة . وقيل : الكتاب التوراة والإنجيل ، والمراد من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجران ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وثمانية من أهل اليمن ، فرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا به وصدقوه ، والأحزاب بقية أهل الكتاب والمشركون قاله ابن عباس . وقال مجاهد : أراد أن اليهود والنصارى كلهم يفرحون بما أنزل إليك لأنه مصدق لما معهم ، ومن سائر الكفرة من ينكر بعضه . واعترض بأنهم كلهم لا يفرحون بكل ما أنزل رسولنا . وقوله : { بما أنزل } يفيد العموم . وأجيب بالمنع من أن ما يفيد العموم لصحة الاستثناء ولصحة إدخال كل عليه ولا تكرير وإدخال بعض ولا نقص . ثم لما بين عقائد الفرق أمر نبيه بأن يصرح بطريقته فقال : { قال إنما أمرت أن أعبد الله } ما أمرت إلا بعبادته وعدم الإشراك به ويندرج فيه جميع وظائف العبودية . ثم ذكر أنه مع كماله مكمل فقال : { إليه أدعو } خصه بالدعاء إلى عبوديته دون غيره كائناً من كان . ثم ختم بذكر المعاد فقال : { وإليه أدعو } لا مرجع لي إلا إليه .

ومن تأمل في هذه الألفاظ عرف أنها مع قلتها مشتملة على حاصل علوم المبدأ والوسط والمعاد . ثم ذكر بعض فضائل القرآن وأوعد على الإعراض عن اتباعه فقال : { وكذلك أنزلناه } الضمير يعود إلى ما في قوله : { بما أنزل إليك } أو إلى القرآن في قوله : { ولو أن قرآنا } ووجه التشبيه كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم كذلك أنزلنا إليك هذا القرآن . وقال في الكشاف : معناه ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء { حكماً عربياً } نصب على الحال أي حكمة مترجمة بلسان العرب . وقيل : سمي حكماً لأنه حكم على جميع المكلفين بقبوله والعمل به ، أو لأنه اشتمل على أصول الأحكام والشرائع فجعل نفس الحكم للمبالغة . روي أن الكفار كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور ليوافقهم فيها منها : أن يصلي إلى قبلتهم بعدما حوله الله عنها فأوعد على ذلك . وعن ابن عباس : الخطاب له والمراد أمته وقد مر الوجوه في مثله في أوائل سورة البقرة .
قال الكلبي : عيرت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح . ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فأنزل الله تعالى : { ولقد أرسلنا } الآية . وفيه أن الرسل كانوا من جنس البشر لا من جنس الملك وما كان لهم نقص من قبل الزواج والولاد فقد كان لسليمان ثلثمائة امرأة منكوحة وسبعمائة سرية ، ولداود مائة ، وذراري يعقوب أكثر من أن تحصى ، وكانوا يقترحون الآيات فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } ولا بد لكل نبي من معجز واحد والزائد على ذلك بل أصل النبوة وتعيين المعجز الواحد مفوض إلى مشيئته سبحانه ولا حكم لأحد عليه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوفهم بنزول العذاب وظهور نصرة الإسلام وذويه فكانوا يكذبونه ويستبطئون موعده فأجيبوا بقوله : { لكل أجل كتاب } أي لكل وقت حكم مكتوب وحادث معين لا يتأخر ذلك الحكم والحادث عنه ولا يتقدم عليه . وقيل : هذا على القلب أي لكل مكتوب وقت معين . والتحقيق أنه لا حاجة إلى ارتكاب القلب لأن المعية تقتضي التلازم وكانوا ينكرون النسخ في الشرائع وفي التكاليف فنزل : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } أي يثبته فاستغنى بالصريح عن الكناية . والمحو ذهاب أثر الكتابة ونحوها . وفي الآية قولان : الأول أنها عامة وأنه سبحانه يمحو من الرزق ويزيد فيه كذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود ، وقد رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والذاهبون إليه يدعون ويتضرعون إلى الله في أن يجعلهم سعداء إن كانوا أشقياء وهذا لا ينافي قوله : « جف القلم » لأن المحو والإثبات أيضاً من جملة ما قضى به .

الثاني أنها خاصة في بعض الأشياء فقيل : أراد نسخ حكم وإثبات آخر مكانه وقد مر تمام البحث في النسخ في « البقرة » في قوله : { ما ننسخ من آية } [ الآية : 106 ] وقيل : يمحو من دويان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت غيره . واعترض الأصم عليه بأنه ينافي قوله تعالى { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها } [ الكهف : 49 ] وأجاب القاضي بأن المراد صغائر الذنوب وكبائرها . ورد بأن هذا اصطلاح المتكلمين والمفهوم اللغوي أعم فيتناول المباحات أيضاً . وقيل : يمحو بالتوبة ما يشاء من الكفر والمعاصي ويثبت بدلها الحسنة كقوله : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [ الفرقان : 70 ] . وقيل : يثبت في أول السنة أحكام تلك السنة فإذا مضت السنة محيت ويثبت كتاب آخر للمستقبل . وقيل : يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس أو يمحو الدنيا ويثبت الآخرة . أما قوله : { وعنده أم الكتاب } أي أصله فقيل : هو اللوح المحفوظ . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح المحفوظ وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى يوم القيامة » فعلى هذا عند الله كتابان : أحدهما اللوح المحفوظ وإنه لا يتغير ، وثانيهما الذي تكتبه الملائكة على الخلق وهو محل المحو والإثبات . روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله سبحانه في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء » وقيل : هو علم الله تعالى المتعلق بجميع الموجودات والمعلومات وإنه لا يتغير ولا يتبدل بتغير المتزمنات وتبدلها ، وقد مر تحقيقه في مواضع .
ولما بين كيفية انطباق الحوادث على أوقاتها قال : { وإما نرينك } يعني كيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من العذاب أو توفيناك قبل ذلك ، فليس يجب عليك إلا التبليغ وما حسابهم وما جزاؤهم إلا علينا . والبلاغ بمعنى التبليغ كالسلام والكلام . ثم ذكر أن آثار حصول تلك المواعيد وأماراتها قد ظهرت وقربت وأن تباشير الظفر قد طلعت ولاحت فقال : { أو لم يروا أنا نأتي الأرض } يعني إتيان القهر والغلبة بدليل { ننقصها من أطرافها } والأرض أرض مكة كان المسلمون ينالون من أهاليها ونواحيها في البعوث والسرايا والجيوش ، والآن صارت الأرض أعم وأشمل ولله الحمد على إعلاء شأن المسلمين زاده الله علواً ، فلا يزال ينقص شيء من ديار الكفر ويريد في بلاد الإسلام . ونقل عن ابن عباس أن المراد بنقص أطراف الأرض موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وصلحائها . قال الواحدي . الأليق بالمقام هو القول الأول . وقد يوجه الثاني بأنه أراد أنهم إذا شاهدوا هذه التغيرات فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله عليهم الأمر فيجعلهم أذلة مغلوبين بعد أن كانوا أعزة غالبين .

ثم أكد هذا المعنى بقوله : { والله يحكم } ومحل { لا معقب لحكمه } نصب على الحال والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وذلك أنه يعقبه بالرد والإبطال فكأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه . { وهو سريع الحساب } عن ابن عباس : هو سريع الانتقام فيعاقبهم في الدنيا ثم في الآخرة . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وقد مكر الذين من قبلهم } برسلهم كنمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى . { فللَّه المكر جميعاً } . قال الواحدي : لأن مكر جميع الماكرين بتخليقه وإرادته ولأنه لا يضر إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره . وقالت المعتزلة : إنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره . وقيل : أراد فللَّهَ جزاء مكر الماكرين . قال الواحدي : والقول الأوّل أظهر بدليل قوله : { يعلم ما تكسب كل نفس } يريد أن أكسابها بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف معلومه ممتنع الوقوع فلا يقدر العبد على خلاف معلومه . وناقضت المعتزلة بأنه أثبت لكل نفس كسباً فدل على أنه مقدور العبد . وأجيب بأن المقتضي للفعل عندنا هو مجموع القدرة والداعي وهذا معنى قولهم الكسب حاصل للعبد . ثم ختم الآية بوعيد آخر إجمالي فقال : { وسيعلم الكفار } من قرأ على الجمع فظاهر ، ومن قرأ على الواحدة فالمراد الجنس . وعن ابن عباس أن المراد أبو جهل . وعن عطاء أراد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون .
ثم ذكر حاصل شبههم مع الجواب القاطع فقال : { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً } والمراد من هذه الشهادة أنه أظهر المعجزات على وفق دعواه ولا شهادة أعلى من هذه الشهادة القولية منا لا تفيد إلا غلبة الظن وهذه تفيد القطع بصحة نبوته . ثم عطف على اسم الله قوله : { ومن عنده علم الكتاب } أي الذي حصل عنده علم القرآن وفهم معانية واشتماله على دلائل الإعجاز من النظم الأنيق والأسلوب العجيب الفائت لقوى البشر . فمن علم هذا الكتاب على هذا الوجه شهد بأنه معجز قاهر وأن الذي ظهر هذا المعجز عليه نبي حق ورسول صدق . وعن الحسن وسعيد بن جبير والزجاج : أن الكتاب هو اللوح المحفوظ . والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو يعني الله جل وعلا شهيداً . ويعضده قراءة من قرأ ومن عنده على من الجارة . واعترض على هذا القول بأن عطف الصفة على الموصوف بعيد لا يقال : شهد بهذا زيد والفقيه ، وإنما يقال : زيد الفقيه . وقيل : المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري لأنهم يشهدون بنعمته في كتبهم . والاعتراض بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع جواز الكذب على أمثالهما لكونهم غير معصومين لا يجوز .

وقال الزجاج : الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره . وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله . وعن سعيد بن جبير أن السورة مكية وابن سلام وأصحابه آمنوا بالمدينة بعد الهجرة والله أعلم بمراده .
التأويل : { وهم يكفرون بالرحمن } يعنى أن الصفة الرحمانية اقتضت إيجاد جميع الموجودات وإفاضة جميع النعم كما أن صفة القهارية كانت مقتضية للوحدة بأن لا يكون معه شيء ولا نعمة أجل من بعث الرسل ، ففيه صلاح حال الدارين لهم ، فإذا جحدوا الرسول فقد جحدوا الرحمن وهذا سبب تخصيص هذا الاسم بالمقام كقوله : { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } [ مريم : 93 ] ولذلك أمر بأن يقول في الجواب : { هو ربي } الذي رباني { لا إله إلا هو } لا يستحق العبادة إلا هو ولا أفوض أمري إلا إليه وإليه مرجعي كما كان منه مبدئي { سيرت به } جبال النفوس { أو قطعت به } أرض البشرية { أو كلم به } القلوب الميتة بتلاوته عليهم { تصيبهم بما صنعوا } من كفرهم بالرحمن { قارعة } من الأحكام الأزلية تقرعهم في أنواع المعاملات التي تصدر عنهم موجبة للشقاوة { أو تحل قريباً من دراهم } قالبهم بأن تصدر تلك المعاملة ممن يصحبهم :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... { حتى يأتي وعد الله } يدرك الشقاء الأزلي . ومن أمارات الشقاوة الاستهزاء بالأنبياء والأولياء { ثم أخذتهم } أي أمسكتهم لئلا يرجعوا عن مقام الشقاوة { لهم عذاب في الحياة الدنيا } بالبعد والحجاب وعبودية النفس والهوى { ولعذاب الآخرة } بأنواع الحسرات والشعور بالهيئات والملكات الموجبة للدركات { أكلها دائم } هي مشاهدات الجمال ومكاشفات الجلال { وظلها } أي إنهم في ظل معاملاتهم وأحوالهم التابعة لشمس وجودهم على الدوام { والذين آتيناهم الكتاب } هم السر والروح والقلب الذين فهموا أسرار القرآن { ومن الأحزاب } النفس والهوى والقوى { من ينكر بعضه } لثقل التكليف عليهم وللجهل بفوائده { ولئن اتبعت أهواء } المخالفين بالشرك في الطلب { من بعد ما جاءك من العلم } وهو طلب الوحدانية ببذل الأنانية { وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } فيه أن ارسل جذبتهم العناية في البداية فترقوا من حضيض الحيوانية إلى أوج الروحانية ثم إلى معارج النبوة والرسالة في النهاية قلم يبق فيهم من دواعي البشرية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلأى الأولاد بخصائص الحيوانية بل رغبهم الله سبحانه في ذلك على وفق الشريعة بخصوصية الخلافة بإظهار صفة الخالقية ومثله { وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام } [ الأنبياء : 8 ] { يمحوا الله ما يشاء } لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة { ويثبت } لهم من خصال أهل السعادة وبالعكس لأهل الشقاوة { وعنده أم الكتاب } الذي قدر فيه خاتمة كل من الفريقين { وإما نرينك } بالكشف بعض مقاماتهم كما أخبر عن العشرة المبشرة بأنهم في الجنة وعن غيرهم بأنه في النار . { أنا نأتي الأرض } أرض البشرية فننقص منا بالازدياد في الأوصاف الروحانية .


الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)

القراآت : { الله الذي } بالرفع على الابتداء في الحالين : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل ، وقرأ يعقوب والخزاعي عن ابن فليح بالرفع إذا ابتدأ وبالخفض إذا وصل . الباقون بالجر مطلقاً { وعيدي } بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل .
الوقوف : { الر } قف كوفي { الحميد } 5 ط لمن قرأ { الله } بالرفع . { وما في الأرض } ط { شديد } 5 لا بناء على أن { الذين } صفة الكافرين { عوجاً } ط بناء على ما قلنا أو على أن { الذين } منصوب أو مرفوع على الذم أي أعني الذين أوهم الذين ، وإن جعل { الذين } مبتدأ خبره { أولئك في ضلال } فلا وقف على { عوجاً } ولك أن تقف على { شديد } للآية { بعيد } 5 { ليبين لهم } ط لأن قوله : { فيضل } حكم مبتدأ خارج عن تعليل الإرسال { ويهدي من يشاء } ط { الحكيم } 5 { بأيام الله } ط { شكور } 5 ط { نساءكم } ط { عظيم } 5 { لشديد } 5 { جميعاً } لا لأن ما بعده جزاء { حميد } 5 { وثمود } ط لمن لم يعطف وجعله مستأنفاً ومن عطف فوقه على { من بعدهم } ط { إلا الله } ط { مريب } 5 { والأرض } ط فصلاً بين الاستخبار والإخبار { مسمى } ط لتقدير همزة الاستفهام في { تريدون } . { مبين } 5 { من عباده } ط { وبإذن الله } ط { المؤمنون } 5 { سبلنا } ط { آذيتمونا } ط { المتوكلون } 5 { في ملتنا } ط { من بعدهم } ط { وعيد } 5 { عنيد } 5 لا لأن ما بعده وصف { صديد } 5 لا لذلك { يميت } ط { غليظ } 5 .
التفسير : كون السورة مكية أو مدنية إنما يفيد في الأحكام لتعرف المنسوخ من الناسخ وفي غير ذلك المكية والمدنية سيان . قوله : { ألر كتاب } أي السورة المسماة ب { ألر } كتاب { أنزلناه إليك } لغرض كذا وإن كان { الر } مذكوراً على جهة التعديد فقوله : { كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هذا القرآن أو هذه السورة كتاب . والظلمات استعارة لطرق الضلال ومظانه والنور مستعار للحق . واللام في { لتخرج } للغرض عند المعتزلة ، وللغاية عند الحكيم ، وإن شئت فقل : للعاقبة . واللام في { الناس } للجنس المتسغرق ظاهراً ففيه دليل على أن دعوته صلى الله عليه وسلم عامة . ومعنى إخراج النبي صلى الله عليه وسلم { من الظلمات إلى النور } أنه سبحانه جعل إنزال الكتاب عليه ودعوته صلى الله عليه وسلم إياهم به إلى الحق واسطة لهدايتهم لا مطلقاً ولكن { بإذن ربهم } أي بتسهيله وتيسيره وكل ميسر لما خلق له . والحاصل أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ومتى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب عند المحققين ، ولك أن تعبر عن ذلك المعنى بداعية الإيمان . احتج بالآية من قال : إن معرفة الله تعالى لا تمكن إلا بالتعليم الذي عبر عنه بالإخراج من الظلمة إلى النور : وأجيب بأن معنى الإخراج التنبيه ، وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل وقوله { إلى صراط العزيز الحميد } بدل من قوله : { إلى النور } بتكرير العامل الجار .

وجوز في الكشاف أن يكون على جهة الاستئناف كأنه قيل : إلى أي نور؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد . وفي ذكر الوصفين تأكيد لحقية الصراط واستنارته لأن العزيز هو القادر الغالب ، والحميد هو الكامل في خصائص الحمد من العلم والغنى وغير ذلك . ولا ريب أن من هذه صفته كان سبيله الذي نهج لعباده مفضياً إلى صلاح حالهم ديناً ودنيا ، إذ لا حاجة له إلى ارتكاب عبث أو قبيح . قال بعض العلماء : إنما قدم ذكر العزيز لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه قادراً غالباً وهو معنى العزيز ، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً والعلم بكونه غنياً عن الحاجات والنقائص وهذا معنى الحميد ، ثم أثنى على نفسه تحقيقاً لحقية صراطه وبياناً لتنزهه عن العبث فقال : { الله الذي } مبتدأ وخبر والمبتدأ محذوف تقديره هو الله . ومن قرأ بالجر فعلى أنه عطف بيان للوصفين بناء على أن لفظ { الله } جار مجرى اسم العلم ، وقد سبق هذا البحث مشبعاً في تفسير البسملة من سورة الفاتحة . ثم ختم الآية بوعيد من لا يعترف بربوبيته ولا يقر بوحدانيته ذلك قوله : { وويل للكافرين } وهو دعاء عليهم بالهلاك والثبور وكل سوء . قال في الكشاف : وجه اتصال قوله : { من عذاب شديد } بالويل أنهم يولولون من العذاب ويقولون يا ويلاه . { الذين يستحبون } أي يؤثرون ويختارون لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون ذلك الشيء عنده أحب من الآخر وذلك أن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه يكره كونه محباً له ، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له وأحب تلك المحبة فتلك نهاية المحبة وهذا شأن محبة أهل الدنيا للدنيا ولكنها أدنى مراتب الضلال . وقوله : { ويصدون عن سبيل الله } إشارة إلى الضلال . وقوله : { ويبغونها عوجاً } أراد به الإضلال بإلقاء الشكوك والشبهات ، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال فلهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق لأنه وقع عنه في الطرف الآخر فبينهما غاية الخلاف ويمكن أن يكون إسناداً مجازياً باعتبار أن صاحبه بعيد عن طريق الحق .
ثم لما مَنَّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر أن من كمال تلك النعمة أن يكون ذلك الكتاب بلسان المرسل إليهم . احتج أصحاب أبي هاشم بالآية على أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد وجماعة وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال . قالوا : إن كانت توقيفية والتوقيف إنما يكون بالوحي والوحي موقوف على لغة سابقة لقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } أي بلغتهم لزم الدور . أجيب بأن الآية تختص برسول له قوم ولا قوم لآدم فينتهي التوقيف إليه فيندفع الدور .

وتمسك طائفة من اليهود - يقال لهم العيسوية - بهذه الآية في أن محمداً رسول الله ولكن إلى العرب لأنهم قومه وهم الذين عرفوا فصاحة القرآن وإعجازه ، فيكون القرآن حجة عليهم لا على غيرهم . والجواب سلمنا أن قومه هم العرب ولكن قوم النبي أخص من أهل دعوته فقد يكون أهل دعوته الناس كافة بل الثقلين كما في حق نبينا صلى الله عليه وسلم لأن التحديث وقع بالفريقين في قوله : { قل لئن اجتمع الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] وإنما يكون أولى الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم أقرب إليه فيرسل الرسول أوّلاً إليهم ليبين لهم فيفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، ثم ينوب التراجم في كل أمة من أمم دعوته مقام الأصل ويكفي التطول ويؤمن اللبس والتخليط ويوجب للمفسرين الثواب الجزيل في التعلم والتعليم والإرشاد والاجتهاد . وقالت المعتزلة : إن مقدمة هذه الآيات وهي قوله : { لتخرج الناس } ووسطها وهو قوله : { ليبين لهم } فإن فائدة النبيين إنما تظهر إذا كان للمكلف قدرة واختيار ، وآخرها وهو قوله { الحكيم } فإن الحكمة تنافي خلق الكفر ، والقبائح تدل على صحة مذهب الاعتزال . وقالت الأشاعرة . قوله : { بإذن ربهم } وقوله : { فيضل الله من يشاء } وقوله : { العزيز } فإن العزة لا تجامع أن يكون لغيره قدرة وتصرف يؤيد مذهبنا . أقول : نحن قد حققنا مسألة الجب مراراً فتذكر . ومما يخص هذا الموضع قول الفراء إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لميكن النسق مشاكلاً للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه كقوله : { لنبين لكم ونقر } [ الحج : 5 ] بالرفع نظيره في الآية قوله : { فيضل } بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلغة ألفوها واعتادوها . ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله واسطة وسبباً لما بين أن المقصود من بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، أرد أن يبين أن الغرض من إرسال جميع الأنبياء لم يكن إلا ذلك وذكر لذلك مثالاً . وخص موسى بالذكر لأنه أمته أكثر الأمم سوى أمة محمد كما جاء في الحديث ولكثرة معجزاته الباهرة . ومعنى { أن أخرج } أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول : ويجوز أن تكون أن ناصبة والتقدير بأن أخرج . ومعنى التذكير بأيام الله الإنذار بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم . ويقال : أيام العرب لحروبها وملاحمها . وعن ابن عباس : أيام الله نعماؤه من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وبلاؤه إهلاك القرون ، أو الأيام التي كانوا فيها تحت تسخير فرعون ، أو المراد عظهم بالترغيب والترهيب { إن في ذلك } التذكير والتنبيه دلائل { لكل صبار } على الضراء { شكور } على السراء . وذلك أن فائدة الآيات إنما تعود عليهم حيث ينتفعون بها .

ولما أمر الله موسى بالتذكير حكى عنه أنه ذكرهم ولم يقل ههنا « يا قوم » كما ذكر في المائدة اقتصاراً على ما ذكره هناك . وقوله : { عليكم } إن كان صلة للنعمة بمعنى الإنعام فقوله : { إذ أنجاكم } ظرف للإنعام أيضاً ، وإن كان مستقراً بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم جاز أن ينتصب { إذ أنجاكم } ب { عليكم } وفي الوجهين جاز أن يكون « إذ » بدلاً من النعمة أي اذكروا وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال ، وباقي الآية قد مر في أول البقرة . ومن جملة النعم قوله : { وإذ تأذن } أي واذكروا حين آذن { ربكم } إيذاناً بليغاً ينتفي عنده الشكوك وتنزاح معه الشبهات . وقد تقدم في أواخر « الأعراف » أن فيه معنى القسم ولذلك دخلت اللام الموطئة في الشرط والنون المؤكدة في الجزاء ، وقد سلف منا في هذا الكتاب أن الشكر بالحقيقة عبارة عن صرف العبد جميع أقسام ما أنعم الله تعالى به عليه فيما أعطاه لأجله . ولا شك أن المكلف إذا سلك هذا الطريق كان دائماً في مطالعة أقسام نعم الله وفي ملاحظة دقائق لطفه وصنعه وفي إعمال الجوارح في الأعمال الصالحة الكاسبة لأنوار الملكات الحميدة ، وشغل النفس بمطالعة النعم يوجب مزيد محبة المنعم ، وقد يترقى العبد من هذه الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن رؤية النعم ، ويصدر منه الأعمال الصالحة بطريق الاعتياد حتى يصير التطبع طباعاً والتكلف خلقاً ، وهذا معنى اقتضاء الشكر مزيد الإنعام وقد يفيض عليه بحكم وعد الله الذي هو الحق والصدق سجال مواهبه الدينية والدنيوية لأنه مهما صار مطيعاً منقاداً لواجب الوجود سبحانه تجلى فيه نور الوجود ، فلا غرو - أي لا عجب - أن ينقاد لذلك النور كثير من الممكنات وينفتح عليه باب التصرف في الخلق بالحق للحق ، وإن كان حال المكلف بضد ما قلنا ظهر عليه أضداد تلك الآثار لا محالة وذلك قوله : { ولئن كفرتم } يعني كفران النعم { إن عذابي لشديد } ثم بين أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحبه أو عليه والله تعالى غني عن ذلك كله فقال : { إن تكفروا أنتم } الآية . وذلك أن واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في جميع صفاته ولن يكون كذلك إلا إذا كان غنياً عن الحاجات متصفاً بكل الكمالات أهلاً للحمد وإن لم يكن حامداً .
وقوله : { ألم يأتكم } يحتمل أن يكون خطاباً من موسى لقومه والغرض تخويفهم بمثل هلاك من تقدم من القرون فيكون داخلاً تحت التذكير بأيام الله ، واحتمل أن يكون مخاطبة من الله على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى قاله أبو مسلم . والأكثرون على أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم تحذيراً لهم عن مخالفته .

وقوله : { والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } إن كان جملة من مبتدأ وخبره فالمجموع اعتراض وإن كان قوله : { والذين من بعدهم } معطوفاً على قوم نوح فقوله : { لا يعلمهم إلا الله } وحده اعتراض . ثم إن عدم العلم إما أن يكون راجعاً إلى صفاتهم بأن تكون أحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم غير معلومة ، وإما أن يكون عائداً إلى ذواتهم بأن يكون فيما بين القرون أقوام ما بلغنا أخبارهم كما روي عن ابن عباس : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون . وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد . ونظير الآية قوله : { وقروناً بين ذلك كثيراً } [ الفرقان : 38 ] { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] قال القاضي : وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع بمقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت لأنه لو أمكن ذلك لم يبعد تحصيل العلم بالأنساب الموصولة . ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام أنهم لما { جاءتهم رسلهم بالبينات } أتوا بأمور أحدها { فردوا أيديهم في أفواههم } وفيه قولان : أحدهما أن المراد باليد والفم الجارحتان ، وعلى هذا فيه احمالان : الأول أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل كقوله : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [ آل عمران : 119 ] . قاله ابن عباس وابن مسعود وهو الأظهر ، أو وضعوا الأيدي على الأفواه ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك ، أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن قفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث قاله الكلبي ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم { إنا كفرنا بما أرسلتم به } أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق ، وهذا قول قويّ لعطف قوله : { وقالوا } على قوله : { فردّوا } الاحتمال الثاني : أن تكون الضمائر راجعة إلى الرسل والمراد أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم أرادوا أنهم لا يعودون إلى ذلك الكلام ألبتة . أو يكون الضميران الأخيران راجعين إلى الرسل ، والمعنى أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ، أو يكون الضمير الأخير فقد عائداً على الرسل والمراد أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء ونصائحهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيباً لهم وردّاً عليهم ، أو وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء منعاً لهم من الكلام فهذه جملة الاحتمالات على القول الأول . القول الثاني : أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز . عن أبي مسلم : أن المراد باليد ما نطقت به الرسل بأفواههم من الحجج لأن دلائل الوحي من أجل النعم لأنهم إذا كذبوا الآيات ولم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل .

ونقل محمد بن جرير عن بعضهم أنه يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب ردّ يده في فيه . فمعنى الآية أنهم سكتوا عن الجواب ، وزيف بأنهم قد أجابوا بالتكذيب وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به . والمراد بما زعمتهم أن الله أرسلكم به وكأنهم في أوّل الأمر حاولوا إسكات الأنبياء ، وفي المرتبة الثانية صرحوا بتكذيبهم ، وفي الثالثة قالوا : { وإنا لفي شك } وقد مر مثله في سورة هود . فإن قلت : كيف صرحوا بالكفر ثم بنوا أمرهم على الشك؟ قلنا : أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوتكم ، ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم . ثم إنه سبحانه حكى جواب الرسل وذلك قولهم : { أفي الله شك فاطر السموات والأرض } أدخل همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأن وجود الله لا يحتمل الشك .
قال الضعيف المذنب المفتقر إلى عفو ربه الكريم مؤلف الكتاب الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في الدارين . إنه كان من عقيدتي أن العلم بوجود الواجب في الخارج من جملة البديهيات وكان يستبعد ذلك كثير من أقراني وأصحابي لما رأوا أن الأقدمين ما زالوا يبرهنون على ذلك في الكتب الكلامية والحكمية ، فكنت قد كتبت لأجلهم رسالة في الإلهيات مشتملة على دلائل تجري مجرى المنبهات على ذلك المعنى ، فإن الضروريات قد ينبه عليها وإن لم تحتج في الاقتناص إلى البراهين . والآن أرى أن أذكر بعض تلك المنهبات في هذا المقام لأنها مقررة لقوله سبحانه : { أفي الله شك } فأقول وبالله التوفيق : المفهوم بالنظر إلى ذاته وإلى الخارج إما أن يكون واجب الوجود فقط ، أو واجب العدم فقط ، أو ممكن الوجود والعدم معاً ، أو واجب العدم وممكن الوجود والعدم معاً ، أو واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود والعدم جميعاً . فهذه أقسام سبعة والعقل الصريح لا يشك في استحالة خمسة أقسام منها في الخارج : الأول واجب العدم لذاته فقط ، الثاني واجب الوجود لذاته وواجب العدم في ذاته معاً ، الثالث واجب الوجود لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته ، والرابع واجب العدم لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته . الخامس واجب الوجود لذاته وواجب العدم لذاته وممكن الوجود والعدم في ذاته . ثم نقول : إن العقل كما لا يشك في استحالة الوجود الخارجي لهذه الأقسام الخمسة ينبغي أن لا يشك في وجود الواجب لذاته فقط في الخارج ، لأنه لو لم يكن موجوداً في الخارج كان معدوماً في الخارج . فإن كان عدمه لذاته كان من القسم الثاني من الممتنعات ، وإن كان لغيره كان من القسم الثالث منها وكلاهما محال إذ المفروض خلاف ذلك فثبت كونه موجوداً في الخارج بالضرورة وهو المطلوب ، فهذه طريقة عذراء تيسرت لنا من غير احتياج إلى دور وتسلسل يرد عليها المنوع المشهورة .

وجه ثانٍ : الموجود في الخارج إما واجب أو ممكن ، وهذه قضية اتفقوا على ضروريتها لأنها إن كان مستغنياً عن المؤثر في وجوده الخارجي فواجب وإلا فممكن فنقول : إن كانت القمسة قسمة تنويع حتى يكون المعنى أن الموجود في الخارج هذان النوعان فقد ثبت وجود الواجب في الخارج بالضرورة وهو المطلوب ، وإن كانت القسمة قسمة انفصال ولا محالة تكون مانعة الخلو فقط . أما كونها مانعة الخلو فلاستحالة العقل رفعهما معاً في الخارج ضرورة ثبوت موجود ما في الخارج بالضرورة ، وأما أنها ليست بمانعة الجمع فلأن الممكن موجود بالضرورة ولا منافاة بين وجود الواجب ووجود الممكن بالضرورة وإلا لم يستدل العقلاء من وجود الممكن على إثبات الواجب ، بل يستدلون منه على نفيه . وإذا كان الجمع بين الواجب والممكن ممكناً في الوجود والممكن موجود بالضرورة مع أنه مفتقر في وجوده إلى مؤثر موجود ، فلأن يكون الواجب موجوداً يكون أولى بالضرورة لاستغنائه عن المؤثر وكون ذاته كافية في إيجاب الوجو له وهذه مقدمة جلية مكشوفة لمن تأمل في مفهوم واجب الوجود إذا لا معنى لوجوب الوجود إلا أنه وجود يوجد ألبته من تلقاء نفسه ومع قطع النظر عما سواه ولهذا قال المحققون : إن الوجود يقع على الواجب وعلى الممكن بالتشكيك بمعنى أنه في الواجب أولى وأولى منه في الممكن .
وجه ثالث : طبيعة الواجب وطبيعة الممكن من حيث ذاتاهما يشتركان في صحة وجودهما الخارجي بالضرورة ، ويفترقان في أن الواجب ذاته كافية في إيجاب الوجود له ، والممكن لا يكفي فيه ذلك بل يحتاج في إيجاب وجوده الخارجي إلى الغير ، ولا ريب أن الأوّل أقرب إلى طبيعة الوجود من الثاني لأن الموقوف على مقدمات أكثر أعسر وجوداً والثاني واقع بالضرورة فالأولى أولى بكونه ضروري الوقوع .
وجه رابع : نسبة كل محمول إلى موضعه لا تخلو في نفس الأمر من أن تكون بالوجوب أو بالإمكان أو بالامتناع . فنسبة الوجود الخارجي إلى الماهيات الخارجية من حيث ذواتها لا تخلو من أحد الأمور الثلاثة ، لكن نسبته إليها بالامتناع ظاهرة الاستحالة ، فهي إما بالإمكان أو بالوجوب ، ولا شك أن نسبة الوجود إلى ذات الموجود أولى من نسبته إلى غيره إذ الأصل عدم الغير ، فكل ما دل البرهان على أن وجوده من غيره لتغير فيه أو نقص يحكم عليه بأنه ممكن الوجود ، وما لم يدل البرهان فيه على ذلك بل يدل على وجوب وجوده بجميع صفاته الكمالية فو واجب الوجود . ومن شك في وجود ما وجوده من تلقاء نفسه ويكون متصفاً بجميع الكمالات بعد مشاهدة ما وجوده من غيره وهو عرضة للنقائص والرذائل كان أهلاً لأن يهجر الحكمة .

وجه خامس : نفس الإمكان نقص لا نقص فوقه لاستتباعه العجز والافتقار وصحة العدم عليه الذي لا ضعف مثله ، والوجود المتصف به متحقق بالضرورة . فالوجود الذي يجوّزه العقل الصريح متصفاً بصفة الوجوب كيف لا يكون متحققاً ، ومن استبهم عليه مثل هذا الجلي فلا يلومن إلا نفسه .
وجه سادس : مقتضى ذات الشيء أقرب إيجاباً له عند العقل من مقتضى كل ما يغايره ، لكن الوجود الذي مقتضاه الإمكان ثابت في الخارج مع أن ثبوته في الخارج مقتضي الغير ، فالوجود ثابت بالطريقة الأولى .
وجه سابع : الوجود الممكن ثابت بالضرورة وليس ثبوت ذلك الوجود من تلقاء نفسه وإلا كان وجوداً واجباً لأنا لا نعني بالوجود الواجب إلا هذا . فإما أن يكون من وجود واجب وهو المطلوب ، أو من وجود مثله وحينئذ ما لم يكن ثابتاً في نفسه لم بتصوّر منه إفادة مثله ، فإذا حصل لنا وجود ممكن موصوف الثبوت في نفسه وموصوفاً بكونه مفيداً لوجود مثله . فإذا صح هذان الوصفان للوجود الممكن المفتقر فكيف لا يصحان للوجود الواجب الغني بل نسبتهما إلى الثاني أولى من نسبتهما إلى الأوّل بحكم الفهم الصحيح .
وجه ثامن : كون الشيء موجوداً في نفسه أقرب وأقبل عند العقل من كونه موجداً لغيره ، إذ ليس كل من له وجود في نفسه يكون موجداً لغيره ، وكل موجد لغيره موجود في نفسه . وإذا كان اتصاف الوجود الممكن مع ضعفه بأبعد الأمرين عن القبول واقعاً ، فكيف لا يكون اتصاف الوجود الواجب مع قوّته بأقربهما من القبول واقعاً؟
وجه تاسع : انجذاب النفوس السليمة وغير السليمة من الأنبياء والأولياء والحكماء وسائر العقلاء من إخوان الصفاء وأخدان الوفاء وأرباب البدع والأهواء إلى وجود واجب متى رجعوا إلى أنفسهم وطالعوا ملكوت السموات والأرض وتأملوا في الأحوال الواردة عليهم من كشف كرب أو هجوم نعمة ، أجلى دليل على وجود رب جليل منزه عن سمات النقص والأفول في حيز الإمكان ، مفيض للخيرات مدبر للممكنات ولهذا قال رب السموات والأرضين عن الظلمة والمعاندين { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] ثم أخبر أنهم يعتذرون عن أصنامهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، إذ لم يكن جحدهم وعنادهم عن تحقيق وصدق وإنما كانوا مكابرين في الظاهر ابتلاء من الله وشقاء منهم فالحاصل أن المؤمن والمشرك والمقر والجاحد سيان في أنه تشهد فطرته بوجود صانع للعالم واجب في ذاته وصفاته ، ولا أدل من ذلك على أنه ضروري الوجود .
وجه عاشر : وهو الاستدلال بالآفاق كل موجود سوى الواجب فله ظهور في الخارج ، لكنه إذا اعتبر في نفسه لم يكن له ذلك من تلقاء نفسه فكان فقيراً في نفسه وذلك أفول له في أفق الإمكان ، وإذا كان ما مقتضى ذاته الأفوال طالعاً فما مقتضى ذاته الطلوع أولى بأن يكون طالعاً .

وجه حادي عشر : وهو الاستدلال بالأنفس . من تأمل في ذاته وفرض شخصه في هواء طلق لا يحس فيه بمتضاد وأغفل الحواس عن أفعالها وجد شيئاً هو به هو ، وبذلك يصح أنيته وهو نفسه الناطقة التي نسبتها إلى بدنه نسبة الملك إلى المدينة يتصرف فيها كيف يشاء . ومهما انقطعت علاقته عن البدن مات صاحبه وانخرط في سلك الجمادات ، فكما أن البدن لضعفه وخسته مفتقر في قوامه وقيامه إلى مدبر يديمه ويقيمه ، فجميع العالم الجسماني بل الممكنات بأسرها لخستها وفقرها تستند لا محالة إلى ما هو أشرف منها وذلك ما وجوده من تلقاء نفسه وهو الواجب الحق تعالى شأنه ، ولولاه لتبدد نظام العالم ولم يكن من الوجود عين ولا أثر .
وجه ثاني عشر : وهو أنور الوجوه وأظهرها وهو الاستدلال بالنور على النور . لا شك أنه نور ونعني به ما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره فنقول : إن كان ظهوره في نفسه بنفسه فهو المطلوب وإلا فيحتاج إلى ما يظهره ، وما يظهره لا يمكن أن لا يكون ظاهراً في نفسه لأن ما لا يكون له ظهور في نفسه لا يفيد ظهوراً لغيره فننقل الكلام إلى ذلك الظاهر بأن نقول : إن كان ظهوره في نفسه بنفسه فذاك وإلا احتاج إلى ما يظهره ، ولا بد أن ينتهي في طرف الصعود إلى ما يكون ظهوره في نفسه بنفسه وإلا لم ينته الأمر في طرف النزول إلى الظاهر المفروض أوّلاً . فنهاية ما لا نهاية له محال من أي جانب فرض ، ولا تنتهض العودة اليومية نقضاً علينا بناء على أنها مسبوقة بعودات ما لا تتناهى ، فإن لا تناهيها في جانب الأزل محال عندنا . وكنا قد كتبنا في بعض كتبنا بيان استحالة ذلك ، فإن نقلت الكلام إلى فيض الواجب وقلت الفيض الواقع في زمان الحال مسبوق بإفاضات غير متناهية لا محالة ، قلنا : قلنا : لو سلمنا ذلك لكنه لا يتسحيل في الواجب لأن وجوده وأوصافه المعتبرة كلها مقتضيات ذاته ، ومقتضى ذات الشيء يدوم بدوام الشيء ومستحيل انفكاكه عنه ، فلا نهاية فيضانه تابعة للامسبوقة بغيره وكون وجوده من ذاته . ولا يلزم من كون مطلق الفيض أزلياً أن يكون الفيض المخصوص أزلياً ، وإذا ثبت وجوب انتهاء الظاهر المفروض إلى ما هو ظاهر في نفسه بنفسه ثبت المطلوب وهو وجود نور الأنوار تعالى شأنه وبهر برهانه ، وهو نهاية الممكنات في جانب الأزل وبدايتها في جانب الأبد ، فهو قديم أزلي ، ولأن وجوده مقتضى ذاته وما بالذات لا يزول فهو الباقي الدائم . هذا ما سنح من المنبهات لهذا الضعيف أثبتها في هذا الكتاب الشريف ليبقى إن شاء الله على وجه الدهر ، وينظر فيها من هو من أهلها في كل عصر والله المستعان .

قال بعض العقلاء : من لطم على وجه صبي فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار ، وعلى حصول التكليف ، وعلى ثبوت دار الجزاء ، وعلى ضرورة بعثه النبي . أما الأوّل فلأن الصبي يصيح ويقول : من الذي ضربني وما ذاك إلا بشهادة فطرته على أن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل مختار أدخلها في الوجود ، وإذا كان حال هذا الحادث مع حقارته هكذا فما ظنك بجميع الحوادث الكائنة في العالم العلوي والعالم السفلي؟! وأما دلالتها على وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول : لم ضربي ذلك الضارب؟ وفيه دلالة على أن الأفعال الإنسانية داخلة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي شيء اشتهى . وأما دلالتها على الجزاء فلأنه يطلب الجزاء على تلك اللطمة ولا يتركه ما أمكنه . وإذا كان الحال في هذا العمل القليل كذلك فكيف يكون الحال في جميع الأعمال؟! وأما وجوب النبوّة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ، ولا فائدة في بعثة النبي إلا تبيين الشرائع والأحكام ، ومما يدعو العاقل إلى الاعتراف بالمبدأ والمعاد أنه لو قرأ بهما ثم بان أن الأمر على خلافه فلا ضرر فيه ألبته ، أما إذا أنكر الصانع والتكليف والجزاء وكانت هذه الأمور في الخارج ثابتة حقة ففي إنكارها أعظم المضار ، فيلزم على العاقل أن يعترف بهذه الأمور أخذاً بالأحوط .
ثم إن الرسل بعد التنبيه على وجود الصانع ذكروا فائدة الدعوة وغايتها وذلك ثنتان : الأولى قوله : { يدعوكم } أي إلى الإيمان { ليغفر لكم من ذنوبكم } استدل بالآية من جوّز زيادة « من » في الإثبات وذلك لقوله تعالى في موضع آخر : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } { الزمر : 53 ] . وأجيب بأنه لا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غفران جميع الذنوب لغيرهم ، فالوجه أن تكون « من » للتبعيض تمييزاً بين الفريقين ، ويؤيد ما ذكرنا استقراء الآيات فإنها ما جاءت في خطاب الكافرين إلا مقرونة ب « من » كما في هذه الآية ، وفي سورة نوح وسورة الأحقاف . وقال في خطاب المؤمنين في سورة الصف { يغفر لكم ذنوبكم } [ الآية : 12 ] بغير « من » . وقيل : أراد أن يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم . وقيل : « من » للبدل أي لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب . وضعف بأنه لم يوجد له في اللغة نظير . وعن الأصم : أنه أراد إذا تبتم يغفر لكم بعض الذنوب التي هي الكبائر . فأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة . وزيفه القاضي بأن الصغيرة إنما تكون مغفورة من الموحدين حيث يزيد ثوابهم على عقابهم ، فأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا كبيراً مغفوراً .

وقيل : المراد أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه . وقال الإمام فخر الدين الرازي : في الآية دلالة على أنه تعالى قد يغفر ذنب أهل الإيمان من غير توبة لأنه وعد بغفران بعض الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان ، فوجب أن يكون ذلك البعض هو ما عدا الكفر من الذنوب . ولقائل أن يقول : لانسلم أنه لم يشترط التوبة في الآية ، لأن قوله : { يدعوكم } أي إلى الإيمان معناه آمنوا ليغفر لكم فكأنه قيل : إن الإيمان شرط غفران بعض الذنب فلم لا يجوز أن يكون ذلك البعض هو الكفر؟ . الغاية الثانية قوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } عن ابن عباس : أي يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت الطبيعي وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال . وقد مر تحقيق الأجل في أوّل « الأنعام » .
ثم شرع في حكاية شبه الكفار وأنها ثلاث : الأولى قولهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } وذلك لاعتقادهم أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية ، فيمتنع أن يبلغ التفاوت بينهم إلى هذا الحد مع اشتراك الكل في الضروريات البشرية من الحاجة إلى الأكل والشرب والوقاع وغير ذلك . الثانية التمسك بطريقة التقليد وذلك قوله : { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } الثالثة إنكارهم دلالة المعجزة على الصدق . وعلى تقدير التسليم زعموا أنهم ما أتوا بحجة أصلاً لاعتقادهم أن معجزاتهم من جنس الأمور المعتادة ، فاقترحوا سلطاناً مبيناً أي برهاناً باهراً وحجة قاهرة . ثم إن الأنبياء سلموا أنهم بشر مثلهم ولكنهم وصفوا أنفسهم بمزية من عند الله بطريق المنة والعطية ، وبهذا استدل من جعل النبوّة محض العطاء من الله . أجاب المخالف بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسمانية تواضعاً منهم ، ولأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لها لخصائص فيها . وأما الشبهة الثانية فإنما لم يذكروا الجواب عنها لأن صحة النبوّة تهدم قاعدة التقليد ، وأما الشبهة الثالثة فجوابها { وما كان لنا } أي ما صح منا { أن نأتي بآية } اقترحتموها من تلقاء أنفسنا وإنما ذلك أمر يتعلق بمشيئة الله . والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بما أجابوا فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف وعند ذلك قالت الأنبياء { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } إلى قوله : { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } قال علماء المعاني : الأول لاستحداث التوكل ، والثاني للسعي في إبقائه وإدامته . وقيل : معنى الأول أن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله لا علينا ، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها .

ومعنى الثاني إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم . وفي قولهم : { وقد هدانا سبلنا } إشارة إلى ما سهل الله عليهم من طريقة التكميل والإرشاد وتحمل أعباء الرسالة والصبر على متاعبها ، فإن تأثير نفوسهم في عالم الأرواح كتأثير الشمس في عالم الشمس في عالم الأجسام بالإضاءة والإنارة ، وقد عرفوا بالنفوس المشرقة والأنوار الإلهية أو بالوحي الصريح أنه تعالى يعصمهم من كيد الأعداء ومكر الحساد . وفي قولهم . { ولنصبرن على ما آذيتمونا } دليل على أن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات ومثمر السعادات . أما قول الكفار للرسل : { أو لتعودن في ملتنا } فقد مر البحث عليه في سورة الأعراف في قصة شعيب . وقال صاحب الكشاف : العود ههنا بمعنى الصيرورة ، حلفوا أن يخرجوهم ألبتة إلا أن يصيروا كافرين مثلهم { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين } أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه أو أضمر القول . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من آذى جاره ورّثه الله داره »
{ ذلك } الذي قضى الله به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم حق { لمن خاف مقامي } يريد موقف الله الذي يقف به عباده يوم القيامة وهو موقف الحساب ، أو المقام مصدر أي خاف قيامي عليه بالحفظ والمراقبة كقوله : { أفمن هو قائم على كل نفس } [ الرعد : 33 ] أو قيامي بالعدل والصواب مثل { قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] أو المقام مقحم أي خافني مثل سلام الله على المجلس العالي : { وخاف وعيد } قال الواحدي : هو اسم من الإيعاد وهو التهديد . قال المحققون : إن الخوف من الله مغاير للخوف من وعيد كما أن حب الله مغاير لحب ثواب الله ، وهذه فائدة عطف أحد الخوفين على الآخر . قوله : { واستفتحوا } الضمير إما للرسل والمعنى استنصروا الله على أعدائهم أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة ، وإما للكفرة بناء على ظنهم أنهم على الحق والرسل على الباطل . وعلى الأول يكون في الكلام إضمار التقدير : فنصروا وفازوا بالمقصود . { وخاب كل جبار عنيد } معاند . وأصل العنود الميل من العند الناحية والجانب كأن كلاً من المتعاندين في جانب آخر . قيل : الجبار وهو المتكبر إشارة إلى أن فيه خلق الاستكبار ، والعنيد إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانباً للحق منحرفاً عنه وأصل الكلام على الأول : واستفتح الرسل وخاب الكفرة ، وعلى الثاني : استفتحوا وخابوا . فوضع الأعم موضع الأخص . والظاهر مقام الضمير تنصيصاً على الكفرة بأن سبب خيبتهم عن السعادة الحقيقية تجبرهم وعنادهم { من ورائه } أي من بين يديه . يقال : الموت وراء كل أحد . وذلك أن قدام وخلف كلاهما متوارٍ عن الشخص فصح إطلاق لفظ وراء على كل واحد منهما . وقال أبو عبيدة : هو من الأضداد لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر .

وهذا وصف حاله في الدنيا أو في الآخرة حين يبعث ويوقف . قال جار الله : قوله : { ويسقى } معطوف على محذوف تقديره يلقى في جهنم ما يلقى { ويسقى من ماء صديد } أي من ماء بيانه أو صفته هذا . والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصد لأنه يصد الناظر عن رؤيته أو تناوله . وقيل : يخلق الله في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة . { يتجرعه } يتكلف جرعه { ولا يكاد يسيغه } أي لم يقارب الإساغة فضلاً عن الإساغة قيل : ليس المراد بالإساغة مجرد حصول المشروب في الجوف لأن هذا المعنى حاصل لأهل النار بدليل قوله : { يصهر به ما في بطونهم } [ الحج : 20 ] وإنما المراد جريان المشروب في الحلق في الاستطابة وقبول النفس لا بالكراهية والتأذي . قلت : يحتمل أن يراد بالإساغة مجرد الحصول ، والآية - أعني قوله : { ويصهر } - لا تدل على الحصول لقوله قبله : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } [ الحج : 19 ] . { ويأتيه الموت من كل مكان } من جسده حتى من إبهام رجله . وقيل : من أصل كل شعرة . وقيل : المراد أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت فيها ولا يحيا . ثم أخبر - والعياذ بالله- أن العذاب في كل وقت يفرض من الأوقات المستقبلة يكون أشد وأنكى مما قبله فقال : { ومن ورائه عذاب غليظ } عن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد . قال في الكشاف : يحتمل أن يكون أهل مكة استفتحوا أي استمطروا . والفتح المطر في سني القحط التي سلطت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء أحرّ وهو صديد أهل النار . وعلى هذا الفسير يكون قوله : { واستفتحوا } كلاماً مستأنفاً منقطعاً عن حديث الرسل وأممهم .
التأويل : بسم الله أي باسم الذات وهو الاسم الأعظم ابتدأت بخلق عالم الدنيا . إظهار الصفات الرحمانية التي هي للمبالغة لاشتراك الحيوان والجماد والمؤمن والكافر في الرحمة ، وبخلق عالم الآخرة إظهار الصفة الرحيمية لاختصاصها بالمؤمنين خاصة . قوله : { الر } أي بآلائي وبلطفي إن القرآن أنزلناه إليك لتخرج الناس بدلالة نوره من ظلمات عالم الطبيعة والكثرة إلى نور عالم الروح والوحدة . { بإذن ربهم } الذي يربيهم هو لا أنت . وفي قوله : { إلى صراط } إشارة إلى أن القرآن هو طريق الوصول إلى من احتجب بحجب العزة والمحمدة واستتر بأستار مظاهر القهر واللطف . وفي الاختتام بقوله : { الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } إشارة إلى أن من بقي في أفعاله وهي المكونات لم يصل إلى صفاته ، ومن بقي في صفاته لم يصل إلى ذاته ، ومن وصل إلى ذاته بالخروج عن أنانيته إلى هويته انتفع بصفاته وأفعاله .

{ وويل للكافرين } من شدة ألم الانقطاع عن الله . ثم أخبر أن الكافر الحقيقي هو الذي قنع بالإيمان التقليدي فأقبل على الدنيا وأعرض عن المولى فضل وأضل . { إلا بلسان قومه } أي يتكلم معهم بلسان عقولهم . { ولقد أرسلنا } بواسطة جبريل الجذبة { موسى } القلب بآيات عصا الذكر واليد البيضاء من الصدق والإخلاص . { أن أخرج قومك } وهم الروح والسر والخفي من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي { وذكرهم بأيام الله } التي كان الله ولم يكن معه شيء وهو بحبهم بلاهم { إن في ذلك } التذكير { لآيات } في نفي الوجود { لكل صبار } بالله مع الله من غير الله { شكور } لنعمة الوجود الحقيق ببذل الوجود المجازي { ولئن شكرتم } بالطاعة { لأزيدنكم } في تقربي إليكم ، لأزيدنكم في محبتي لكم ، ولئن شكرتم في محبتي لكم لأزيدنكم في الخدمة ، ولئن شكرتم في الخدمة لأزيدنكم في الوصول ، ولئن شكرتم في الوصول لأزيدنكم في التجلي ، ولئن شكرتم في التجلي لأزيدنكم في الفناء عنكم ، ولئن شكرتم في الفناء لأزيدنكم في البقاء ، ولئن شكرتم في البقاء لأزيدنكم في الوحدة ، { ولئن كفرتم } نعمتي في المعاملات كلها { إن عذابي } قطيعتي { لشديد } { وقال موسى } القلب { إن تكفروا أنتم } أيها الروح والسر والخفى بالإعراض عن الحق والإقبال على الدنيا بتبعية النفس ومن في أرض البشرية من النفس والهوى والطبيعة . { يدعوكم } من المكونات إلى الملكوت { ليغفر لكم } بصفة الغفارية { من ذنوبكم } التي أصابتكم من حجب عالم الخلق { ويؤخركم } في التخلق بأخلاقه { إلى أجل مسمى } هو وقت الفناء في الذات { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } للتوكل مقامات : فتوكل المبتدىء قطع النظر عن الأسباب في طلب المرام ثقة بالمسبب ، وتوكل المتوسط قطع تعلق الأسباب بالمسبب ، وتوكل المنتهي قطع تعلق ما سوى الله والاعتصام ببابه . { لمن خاف مقامي } وهو مقام الوصول إليّ فإن هذا مقام الأخص ، وأما خوف الخواص فعن مقام الجنة ، وخوف العوام عن مقام النار { وخاف وعيد } القطيعة واستنصر القلب والروح من أمر الله على النفس والهوى . { من وراثه } أي قدام النفس في متابعة الهوى { جهنم } الصفات الذميمة { ويسقى من ماء صديد } هو ما يتولد من الصفات والأخلاق من الأفعال الرذيلة ، يسقى منه صاحب النفس الأمارة { يتجرعه } بالتكلف { ولا يكاد يسيغه } لأنه ليس من شربه { يأتيه } أسباب { الموت من كل مكان } من كل فعل مذموم { ومن ورائه عذاب غليظ } هو عذاب القطيعة والبعد والله أعلم بالصواب .


مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

القراآت : { الرياح } على الجمع : أبو جعفر ونافع . الباقون على التوحيد { خالق السموات والأرض } بلفظ اسم الفاعل : حمزة وعلي وخلف . الباقون بلفظ الفعل . { سبلنا } بإسكان الباء حيث كان : أبو عمرو { لي عليكم } بفتح الياء : حفص . { بمصرخي } بكسر الياء : حمزة . الآخرون بالفتح { أشركتموني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق عمرو ويزيد وقتيبة وإسماعيل في الوصل { البوار } ممالة : أبو عمرو وعلي : { ليضلوا } بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون بضمها . { لعبادي الذين } مرسلة : الياء : ابن عامر وحمزة وعلي ويعقوب والأعشى . الباقون بالفتح . { من كل } بالتنوين : يزيد وعباس . الباقون بالإضافة .
الوقوف : { عاصف } ط بناء أن ما بعده مستأنف كأن سائلاً سأل هل يقدرون من أعمالهم { على شيء } ط { البعيد } 5 { بالحق } ط { جديد } 5 لا لأن ما بعده يتم معنى الكلام { بعزيز } 5 { من شيء } ط { لهديناكم } ط { محيص } 5 { فأخلفتكم } ط { فاستجبتم لي } ج لاختلاف الجملتين { أنفسكم } ط لابتداء النفي { بمصرخي } ط الحق أن من قال إن الابتداء بقوله : { إني كفرت } قبيح فجوابه أن الكفر بالإشراك واجب كالإيمان { من قبل } ط { أليم } 5 { بإذن ربهم } ط { سلام } 5 { في السماء } 5 لا { ربها } ط { يتذكرون } 5 { من قرار } ط { وفي الآخرة } ج لتكرار اسم الله تعالى في الفعلين مع أن كليهما مستقل بخلاف قوله : { ويفعل الله } لأنه في المعنى بيان قوله : { ويضل الله } { وما يشاء } 5 { البوار } لا { جهنم } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً أو حالاً من فاعل { أحلوا } أو م مفعوله أو من كليهما { يصلونها } ط { القرار } 5 { عن سبيله } ط { إلى النار } 5 { ولا خلال } 5 { رزقاً لكم } ط { بأمره } ج { الأنهار } ج { دائبين } ج { والنهار } ج لحسن هذه الوقوف مع العطف لتفصيل النعم تنبيهاً على الشكر { سألتموه } ط لابتداء الشرط مع تمام الكلام { لا تحصوها } ط { كفار } 5 .
التفسير : لما ذكر في الآيات المتقدمة أنواع عذاب الكفار أراد أن يبين غيابة حسرتهم ونهاية خيبتهم . فقال : { مثل الذين } وارتفاعه عند سيبويه على الابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى أو يقص عليكم مثلهم . وقوله : { أعمالهم كرماد } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم . وقال الفراء : المضاف محذوف أي مثل أعمال الذين كفروا . وإنما جاز حذفه استغاء بذكره ثانياً . وقيل : المثل صفة فيها غرابة فأخبر عنها بالجملة المراد صفة الذين كفروا { أعمالهم كرماد } كقولك « صفة زيد عرضه مصون وماله غير مخزون » ويجوز أن يكون { أعاملهم } بدلاً والخبر { كرماد } وحده . والمراد بأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسارى وعقر الإبل للأضياف وإغاثة الملهوفين وإعانة المظلومين ، شبهها في حبوطها - لبنائها على غير أساس التوحيد والإيمان - برماد طيرته الريح في يوم عاصف .

قال الزجاج : جعل العصف لليوم وهو لما فيه يعني الريح مجازواً كقولك « يوم ماطر » . قال الفراء : وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف أو في يوم عاصف الريح فحذف لذكره مرة . وقيل : المراد من أعمالهم عباداتهم للأصنام . ووجه حسرتهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها دهراً طويلاً . ثم لم ينتفعوا بذلك بل استضروا به . وقوله : { مما كسبوا على شيء } القياس عكسه كما في « البقرة » لأن « على » من صلة القدرة ولأن مما كسبوا صفة لشيء ولكنه قدم في هذه السورة لأن الكسب - أعني العمل الذي ضرب له المثل - هو المقصود بالذكر ولهذا أشار إليه بقوله : { ذلك هو الضلال البعيد } أي عن الحق والثواب . ثم كان لسائل أن يسأل : كيف يليق بحكمته إضاعة أفعال المكلفين؟ فقال : { ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق } مستتبعة للفوائد والحكم دالة على وجود الصانع القدير ، فحبوط الأعمال إنما يلزم من كفر المكلفين وكونها غير مبنية على قاعدة الإيمان والإخلاص لا من أنه سبحانه يمكن أن يوجد في أفعاله عبث أو خلل أو سهو . ثم بين كمال قدرته واستغنائه عن الظلم والقبائح وعن عمل كل عامل فقال : { إن يشأ يذهبكم } وقد مر مثله في سورة النساء . { وما ذلك على الله بعزيز } بمتعذر لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور . فإن قيل : الغرض من الآية إظهار القدرة وزجر المكلفين عن المعصية وذلك إنما يتم بقوله : { إن يشأ يذهبكم } فما فائدة قوله : { ويأت بخلق جديد } وهل فيه دليل على أن الفياض لا يوجد بدون الفيض؟ قلنا : على تقدير تسليمه لا تنحصر الفائدة فيه بل لعل الفائدة هي تأكيد التخويف فإن التألم من تصور العدم المجرد ليس كالتألم من تصور عدمه مع إقامة غيره مقامه ، على أن الإذهاب لا يلزم منه الإعدام فيكون شبيهاً بعزل شخص ونصب غيره مقامه . وللحكيم أن يستدل بقوله : { يذهبكم } على أن مادة الجوهر لا تعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض . والجواب أن الإذهاب ههنا بمعنى الإعدام ، ولو سلم فلا يلزم من عدم وقوع الإعدام ههنا امتناعه في جميع الصور . وفيه أنه الحقيق بأن يخشى عقابه ويرجى ثوابه فلذلك أتبعه أحوال الآخرة فقال : { وبرزوا } بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع مثل { وسيق } [ الزمر : 73 ] { ونادى } [ الأعراف : 48 ] والتركيب يدل على الظهور بعد الخفاء ومنه « امرأة برزة » إذا كانت تظهر للناس « وبرز فلان على أقرانه » إذا فاقهم . ومعنى بروزهم لله وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء أنهم كانوا يستترون عن العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خافٍ على الله .

فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية ، أو المضاف محذوف أي برزوا لحساب الله وحكمه . قال أبو بكر الأصم : قوله : { وبرزوا لله } هو المراد من قوله : { ومن ورائه عذاب غليظ } وعلى قواعد الحكماء : النفس إذا فارقت الجسد زال الغطاء وكشف الوطاء وظهرت عليه آثار الملكات والهيئات التي كان يمنعها عن الشعور بها اشتغالها بعالم الحس فذلك هو البروز لله ، فإن كانوا من السعداء برزوا لموقف الجمال بصفاتهم القدسية وهيئاتهم النورية ، فما أجل تلك الأحوال ويا طوبى لأهل النوال . وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف الجلال بأوصافهم الذميمة وهيئاتهم المظلمة ، فما أعظم تلك الفضيحة وما أشنع تلك المهانة .
كتب { الضعفواء } بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ومثله : { علمواء بني إسرائيل } [ الشعراء : 197 ] والضعفاء العوام الأراذل ، والذين استكبروا سادتهم وأشرافهم الذين استنكفوا عن عبادته تعالى فضلوا وأضلوا . قال الفراء : أكثر أهل اللغة على أن التبع جمع تابع كخدم وخادم وحرس وحارس . وجوز الزجاج أن يكون التبع مصدراً أي ذوي أتباع إما في الكفر أو في الأمور الدنيوية { فهل أنتم مغنون } هل يمكنكم دفع عذاب الله { عنا } ومن في { من عذاب الله } للتبيين وفي { من شيء } للتبعيض . والمعنى هل تدفعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله { قالوا لو هدانا الله لهديناكم } . عن ابن عباس : لو أرشدنا الله لأرشدناكم قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله أضلهم ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى . وقال في الكشاف : لعلهم قالوا ذلك مع أنه كذبوا فيه كقوله : { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم } [ المجادلة : 18 ] واعترض عليه بأن هذا خلاف مذهبه لأنهم لا يجوّزون صدور الكذب عن أهل القيامة كما مر في أوائل « الأنعام » في قوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الآية : 23 ] وجوز أيضاً أن يكون المراد لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان . وزيف بأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله . وقيل : لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة ، ويؤكد هذا التفسير قوله : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } وإعرابه كقوله : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] أرادوا إقناطهم من دفع العذاب بالكلية ، أو أرادوا أن عتاب الضعفاء لهم وتوبيخهم إياهم نوع من الجزع ولا فائدة فيه ولا في الصبر . وجوز في الكشاف أن يكون قوله : { سواء علينا } الخ من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً نظيره في وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر ، قوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه } { يوسف : 52 ] والمحيص المنجي والمهرب مصدر كالمغيب والمحيص ، أو مكان كالمبيت والمضيف .

ولما ذكر مناظرة شياطين الإنس أتبعها مناظرة شيطان الجن . ومعنى { قضي الأمر } قطع وفرغ منه وذلك حين انقضاء المحاسبة . والأكثرون على أنه بعد الحساب ودخول الأشقياء النار والسعداء الجنة . وعند أهل السنة هو بعد خروج الفساق من النار فليس بعد ذلك إلا الدوام في الجنة أو في النار . يروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً في النار فيقول : { إن الله وعدكم وعد الحق } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافرون قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول » ووعد الحق من إضافة الموصوف إلى صفته مثل « مسجد الجامع » ، أو تأويله وعد اليوم الحق ، أو الأمر الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال . وفي الآية إضماران : الأول وعدكم وعد الحق فوفى لكم بما وعدكم . الثاني ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم الوعد . ووجه الإضمار الأول دلالة الحال عليه لأنهم كانوا يشاهدون وليس وراء العيان بيان ، ولأن ذكر نقيضه وهو إخلاف الوعد من الشيطان يغني عنه ، ووجه الثاني أيضاً مثل ذلك . ثم ذكر طريق وسوسته اعتذاراً منهم فقال : { وما كان لي عليكم من سلطان } من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي { إلا أن دعوتكم } قال النحويون : هذا الاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السطان فالمراد لكن دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوسة ، ويمكن أن يوجه الاستثناء بالاتصال لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقسر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاءه الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط .
{ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } لأنكم ما سمعتم مني إلا الدعاء والتزيين وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبيائه فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إليّ . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ، وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال : « فلا تلوموني ولا أنفسكم » فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه ، وقول الشيطان وإن لم يصلح للحجة إلا عدم إنكار الله تعالى عليه حجة . هذا مع أن أول كلام اللعين مبني على الإنصاف والصدق فكذا ينبغي أن يكون آخره . قال المحققون : الشيطان الأصلي هو النفس وذلك أن الإنسان إذا أحس بشيء أو أدركه ترتب عليه شعوره بكونه ملائماً له ، أو بكونه منافراً له ويتبع هذا الشعور الميل الجازم إلى الفعل أو إلى الترك ، وكل هذه الأشياء من شأن النفس ولا مدخل للشيطان في شيء من هذه المقامات إلا بأن يذكره شيئاً من أن الإنسان كان غافلاً عن صورة امرأة فيلقى الشيطان حديثها في خاطره .

وكيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه؟ جوابه أن الشيطان إذا كان جسماً لطيفاً والله سبحانه ركبه تركيباً عجيباً لا يقبل التفرق والتمزق مع لطافته فلا يستبعد نفوذه في الأجرام الكثيفة كالنار تسري في الفحم وكالدهن في السمسم وإن كان جوهراً نورانياً مجبولاً على الشر ، والنفس الإنسانية أيضاً جوهر علوي مجرد فلا يبعد وصول أثر أحدهما إلى الآخر . وذهب بعض الحكماء إلى أن كل روح من الأرواح البشرية فإنه ينتسب إلى روح معين من الأرواح السماوية ، وأنها تتولى إرشاد الأرواح الإنسانية إلى مصالحها بالإلهامات الحسنة في حالتي النوم واليقظة . هذا إذا كانت خيرة ، وأما إذا كانت شريرة فإنها توسوسها بالخواطر والأعمال القبيحة ، والقدماء كانوا يسمون كلاً من تلك الأرواح بالطباع التام . وذكر بعض العلماء احتمالاً آخر وهو أن النفوس البشرية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها ، فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق ، فتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن وتعضدها على أحوالها وأفعالها ، فإذا كان هذا المعنى في أبواب الخير كان إلهاماً ، وإن كان في باب الشر كان وسوسة .
ثم حكى الله سبحانه عن الشيطان أنه قال : { ما أنا بمصرخكم } قال ابن عباس : يريد بمعينكم ولا منقذكم . قال ابن الأعرابي : الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث . صرخ فلان إذا استغاث . وقال واغوثاه ، وأصرخته أي أغثته . وعاب النحويون على حمزة أنه قرأ : { وما أنتم بمصرخيّ } لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو « عصاي » فما بالها وقبلها ياء . وحاصل ما عابوا عليه أنه لم يوجد له نظير في استعمال العرب ، لكنك تعلم أن القرآن حجة على غيره . قوله : { إني كفرت بما أشركتموني } إن كانت « ما » مصدرية فالمعنى إني كفرت أي أنا جاحد وما كان لي رضا بإشراككم لي في الدنيا مع الله في الطاعة وفي أن لي تدبيراً وتصرفاً في هذا العالم ، وإن كانت موصولة على ما قاله الفراء من أن « ما » في معنى « من » كقوله : « سبحان ما سخركن لنا » فالمراد إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالله الذي أشركتمونيه . ووجه نظم الكلام على هذا التفسير أن إبليس كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت بالله قبل أن كفرتم ، وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة ، وهذا التقرير يناسب أصول الأشاعرة .

أما قوله : { إن الظالمين لهم عذاب أليم } فالأظهر أنه كلام الله ، ويشمل إبليس ومن تابعه من الثقلين وليس ببعيد أن يكون من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن إغاثته . ثم شرع في أحوال السعداء وقال : { وأدخل } على لفظ الماضي تحقيقاً للوقوع ، وقوله : { بإذن ربهم } متعلق ب { أدخل } أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره . وقرأ الحسن { وأدخل } على لفظ المتكلم . قال في الكشاف : فعلى هذا يتعلق قوله : { بإذن ربهم } بما بعده يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم . وقد تقدم معنى قوله : { تحيتهم فيها سلام } في أول سورة يونس . ثم لما بين أحوال السعداء وكان قد ذكر أحوال أضدادهم ، أراد أن يذكر لكل من الفريقين مثلاً . قال في الكشاف { كلمة طيبة } نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة { كشجرة طيبة } وهو تفسير لقوله : { ضرب الله مثلاً } أو ضرب بمعنى جعل أي جعل الله كلمة طيبة مثلاً . ثم قال كشجرة طيبة أي هي كشجرة . وقال صاحب حل العقد : أظن أن الوجه أن يجعل قوله : { كلمة } عطف بيان ، وقوله : { كشجرة } مفعول ثانٍ . عن ابن عباس : الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله . والشجرة الطيبة شجرة في الجنة . وعن ابن عمر : هي النخلة . وقيل : الكلمة الطيبة كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة . والشجرة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك . وقيل : لا حاجة بنا إلى تعيين تلك الشجرة ، والمراد أن الشجرة الموصوفة ينبغي لكل عاقل يسعى في تحصيلها وادّخارها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن .
أما صفات الشجرة فالأولى كونها طيبة ويشمل طيب المنظر والشكل والرائحة وطيب الفاكهة المتولدة منها وطيب منافعها والثانية : { أصلها ثابت } راسخ آمن من الانقطاع . ولا شك أن الشيء الطيب إنما يكمل الفرح بحصوله إذا أمن انقراضه وزواله . والثالثة { وفرعها في السماء } أي في جهة العلو وهذا تأكيد لرسوخ أصله فإن الأصل كلما كان أقوى وأرسخ كان الفرع أعلى وأشمخ . ومن فوائد ارتفاع الأغصان بعدها عن عفونات الأرض ونقاؤها عن القاذورات . قال في الكشاف : فرعها أعلاها ورأسها ، ويجوز أن يريد وفروعها على الاكتفاء بلفظ الجنس . الصفة الرابعة { تؤتي أُكلها كل حين } أي تعطي ثمرها كل وقت وقَّته الله لأثمارها . وعن ابن عباس : الحين ستة أشهر لأن من حملها إلى صرامها ستة أشهر . وقال مجاهد وابن زيد : سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة ولا سيما النخلة إذا تركوا عليها التمر بقي من السنة إلى السنة . وقال الزجاج : الحين الوقت طال أم قصر . والمراد أنه ينتفع بها في وقت يفرض ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاءً { بإذن ربها } بتيسير خالقها وتكوينه .

قال المحققون : معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وطاعته هي الشجرة الطيبة بل لا طيب ولا لذيذ إلا هي ، لأن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة لملاقاة شيء من المحسوس شيئاً من الحاس . أما نور معرفة الله وإشراقها فإنما ينفذ ويسري في جميع جواهر النفس حتى إنه يكاد يتحد به . ثم إن سائر اللذات منقطعة متناهية ، ولذة المعرفة لا تكاد تنتهي إلى حد . وإن عروق هذه الشجرة ثابتة راسخة في جوهر النفس الناطقة ولها شعب وأغصان صاعدة في هواء العالم الروحاني يجمعها التعظيم لأمر الله ، ومنشؤها القوة النظرية ، وغايتها الحكمة العملية بأقسامها وأصولها وفروعها ، وأغصان نابتة في فضاء العالم الجسماني ومنبتها القوة العملية وفائدتها الحكمة الخلقية التي يجمعها الشفقة على خلق الله عموماً وخصوصاً . وأثر رسوخ شجرة المعرفة في القلب أن يكون نظره للاعتبار { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] وسمعه للحكمة { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 18 ] ونطقه بالصدق والصواب { وقولوا قولاً سديداً } [ الأحزاب : 70 ] وكذا الكلام في سائر القوى والأعضاء . وهنالك مراتب لا تكاد تنحصر بحسب مراتب الاستعدادات . وإذا صار جوهر النفس كاملاً بحسب هذه الفضائل فقد يكون مكملاً لغيره وذلك قوله : { تؤتي أكلها كل حين } .
وفي قوله : { بإذن ربها } إشارة إلى أن النظر في جميع هذه المراتب يجب ان يكون على المفيض لا على الفيض ، وعلى المنعم لا على النعمة . و { ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } المبدأ وعرفانه والمعاد وإتيانه فيختار الكمال على النقصان . وأثر العرفان للمعروف لا للعرفان فيكون حينئذ جوهر النفي كلمة طيبة كما قال في حق عيسى { كلمة من الله } [ آل عمران : 39 ] . وإذا عرفت الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة سهل عليك معرفة ضديهما . فالكلمة الخبيثة كلمة الشرك أو كل كلمة قبيحة أو كل نفس شريرة ، والشجرة الخبيثة الباطل أو كل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والثوم ونحو ذلك . ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها { ما لها من قرار } أي من استقرار مصدر كالثبات والنبات . وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ولا في السماء مصعداً إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة . قلت : وذلك أن الباطل لا قائل به ولا يوافقه فيه من هو بصدد الاعتبار فهو مضمحل زائل . والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد مضمحل زائل . والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد اليقين . وكذا النفس الخبيثة لا تكون لها طمأنينة ولا وقار ، تراها أبداً تسعى في الطرق المضلة والسبل المنحرفة كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران .

ولما شبه حال الفريقين بما شبه بين مآل حالهما فقال : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } أي الذي ثبت بالحجة والبرهان وتمكن في قلب صاحبه بحيث لم يكن للتشكيك فيه مجال . هذا في الحياة الدنيا فلا جرم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كأصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا في القبول لم يتلعثموا ، وإذا وقفوا بين يدي الجبار لم يبهتوا . عن ابن عباس : من دوام على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها . وقد ورد في حديث سؤال القبر عن البراء بن عازب مثل ذلك . والسبب العقلي فيه أن المواظبة على الفعل توجب رسوخ الملكة بحيث لا تزول بتبدل الأحوال وتقلب الأطوار . وإنما فسرت الآخرة ههنا بالقبر لأن الميت ينقطع بالموت عن أحكام الدنيا ويدخل في أحكام الآخرة . فمعنى الآية يثبت الله الذين آمنوا بالله وبما يجب الإيمان به على ما آمنوا به في الدارين ، أو يثبتهم الله فيهما بسبب القول الثابت على القول الثابت . وقيل : معنى الآية يثبتهم الله على الثواب والكرامة سببب القول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا ، وسيصدر عنهم حال ما يكونون في الآخرة . ويرد عليه أن الآخرة ليست دار عمل وإن كان قوله : { في الحياة الدنيا } متعلقاً بقوله : { ويثبت } أي ثبتهم على الثواب في الدارين بسبب القول ، ورد عليه أن الدنيا ليست دار ثواب ، ويمكن أن يناقش في هذا الإيراد لقوله سبحانه : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] { ويضل الله الظالمين } الذين وضعوا الباطل موضع الحق والشرك بدل التوحيد في الدارين ، فلا جرم إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري . { ويفعل الله ما يشاء } من التثبيت والإضلال . ولا اعتراض لأحد عليه أو من منح الألطاف ومنعها كما تقتضيه الحكمة .
ثم عجب من ظالمي مكة بقوله : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله } أي شكر نعمته { كفراً } أي وضعوا مكان الشكر الكفر أو بدلوا نفس النعمة كفراً أي سلبوا النعمة فلم يبق معهم إلا الكفر . وذلك أنه تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم معايشهم وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يقوموا بشكر تلك النعم فضربهم بالقحط سبع سنين وقتلوا يوم بدر وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم وأعناق من تابعهم وذلك قوله : { وأحلوا قومهم دار البوار } أي الهلاك . وقوله { جهنم } عطف بيان { وبئس القرار } أي المقر مصدر سمى به . قوله : { ليضلوا } من قرأ بضم الياء فاللام للغرض أو للعاقبة ، ومن قرأ بفتحها فاللام للعاقبة لأن العاقل لا يريد ضلال نسه ولكنه قد يريد إضلال الغير لمصلحة دنيوية . وإنما حسن استعمال اللام لأجل العاقبة من حيث إنها تشبه الغاية والغرض من قبل حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز .

{ قل تمتعوا } أمر وعيد وتهديد . قال جار الله : فيه إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع هو آمر الشهوة . والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة { فإن مصيركم إلى النار } وإنما سمى عيش الكفار تمتعاً لأن إمهالهم في الدنيا على أيّ وجه يفرض يكون أسهل مما أعد لهم في الآخرة من العقاب . ومن الذين نزل فيهم؟ روي عن عمر أنه قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية . فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين . وقيل : هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه . ولما أمر الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا تهديداً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بحث المؤمنين على خلاف ذلك وهو الإقبال على ما ينفعهم في الآخرة فقال : { قل لعبادي الذين } المقول محذوف لأن جواب « قل » يدل عليه التقدير : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا . وجوز بعضهم أن يكون المذكور هو المقول بناء على أنه أمر غائب محذوف اللام . وإنما حسن الحذف لأن الأمر الذي هو « قل » عوض منه ، ولول قيل : « يقيموا الصلاة وينفقوا » ابتداء بحذف اللام لم يجز . والخلال المخالة أراد أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في هذا اليوم الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مصادقة ، وإنما ينتفع بالإنفاق لوجه الله . ونفي المخالة في هذه الآية وفي قوله في البقرة : { لا بيع فيه ولا خلة } [ الآية : 254 ] لا ينافي إثباتها في قوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ ولا المتقين } [ الزخرف : 67 ] لأن المنفية هي التي سببها ميل الطبيعة ورغبة النفس ، والمثبتة هي التي يوجبها الاشتراك في الإيمان العمل الصالح .
ولما ختم أحوال المعاد عاد الى المبدإ فقال : { الله } وهو مبتدأ خبره { الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم } وقد مر في أول « البقرة » والمراد من السماء جهة العلو . وقيل : نفس السماء ، وزيف بأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه ، وإذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماظراً عليه . { وسخر لكم الفلك } كقوله في أواسط البقرة { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } { الآية : 164 ] وقد مر . ومعنى { بأمره } بتيسيره وتسييره لأنه خلق موادها وألهم صنعتها وجعل الماء بحيث يسهل على وجهه جريها ، ولأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال إنه أمر بكذا . ومنهم من حمل الأمر على الظاهر أي بقوله : « كن » . { وسخر لكم الأنهار } وجه المنة فيها أن البحر قلما ينتفع به في العمارة والزراعة لعمقه ولملوحته ففجر الله الأنهار والعيون والآبار الصالحة للانتفاع بها كما لا يخفى { وسخر لكم الشمس والقمر } أي صيرهما تحت تصرفه وتسخيره بحيث يعود انتفاع ذلك عليكم من التسخين والترطيب والإضاءة والإنارة لأنهما مذللان للإنس .

وقوله : { دائبين } نصب على الحال . والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة مطردة أي يدأبان في مسيرهما وإنارتهما وسائر منافعهما وخواصهما ، وهكذا معنى التسخير في قوله : { وسخر لكم الليل والنهار } أي قدر هذين العرضين المتعاقبين لراحة الإنسان ولمعاشه . ولما فصل طرفاً من النعم أجمل الباقية منها بقوله : { وآتاكم من كل ما سألتموه } أي بعض جميع ما سألتموه . ومن قرأ بالتنوين ف « ما » إما نافية والجملة نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، أو موصولة بمعنى وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه وطلبتموه بلسان الحال . ثم بين أن نعم الله على عبيده غير متناهية فقال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } أي لا تقدرون على تعدادها لكثرتها بل لعدم تناهيها . قال الواحدي : النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر كالنفقة بمعنى الإنفاق ولهذا لم تجمع . ومن تأمل في تشريح الأبدان وفي أعضاء الحيوان وأجزائها من العروق الدقاق والأوردة والشرايين وفي كل واحد من الأعضاء البيسطة والمركبة ووقف على منافعها ، عرف بعض دقائق نعم الله تعالى على عباده . وإذا جاوز النفس إلى الآفاق وسير فكره في أحوال الأجسام السفلية والعلوية ، وقف من بديع صنعتها وعظيم منفعتها على ما يقضى منه العجب . وإذا عبر الملك إلى الملكوت تاه في أودية الحيرة والدهشة وتلاشى عقله عند أدنى سرادقات العزة والهيبة . قال الحكيم : إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها . أما الذي قبلها فكالخبز والطحن والزرع وغير ذلك من الآلات المعينة والأسباب الفاعلية والقابلية حتى تنتهي إلى الأفلاك والعناصر ، وأما الذي بعده فكالقوى المعينة على الجذب والإمساك والهضم والدفع وكالأعضاء الحاملة لتلك القوى وكسائر الأمور النافعة في ذلك الباب خارجة من البدن أو داخلة فيه ، فإنها لا تكاد تنحصر . وإذا كانت نعم الله تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ فكيف فيما جاوز ذلك؟ إذا كنت في عالم الأجساد ، فإذا تخطيت إلى عالم الأرواح وأجلت طرف عقلك في ميادين القدس وحظائر الأنس وصادفت بعض ما هنالك من الكرامات واللذات فلعلك تعرف حق النعمة إذ تغرق في لجة المنة أو تغرف من نهر المنحة والنعم هنالك على وفق الاستعداد وإدراك النعم بمقدار الفهم والرشاد ، فإن كنت أهلاً لها فذاك وإلا فلا تلم إلا نفسك { إن الإنسان } أي هذا الجنس { لظلوم } يظلم النعمة بإغفال شكرها { كفار } شديد الكفران لها وذلك أنه مجبول على النسيان والملالة فلا بد أن يقع في إغفال شكر النعمة إن نسيها ، أو في كفران النعمة إذا ملها .

وقيل : ظلوم في الشدائد بالشكاية والجزع كفار في السعة يجمع ويمنع . واعلم أنه ختم الآية في هذه السورة بما ختم وختمها في النحل بقوله : { إن الله لغفور رحيم } وكأنه قال : إن كنت ظلوماً فأنا غفور ، وإن كنت كفاراً فأنا رحيم فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء ، تلك صفتك في الأخذ وهذه صفتي في الإعطاء .
التأويل : { وبرزوا } من القشور الفانية { لله جميعاً } من القويّ والضعيف { فقال الضعفاء } وهم المقلدة { للذين استكبروا } من المبتدعين { إني كفرت بما أشكرتموني } آمن اللعين حين لا ينفع نفساً إيمانها { وأدخل } فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا خلى وطباعه لا يدخل الجنة لأنه خلق ظلوماً جهولاً سفلي الطبع ، وإنما يدخله الله بفضله وعنايته { جنات } القلوب { تجري من تحتها } أنهار الحكمة { خالدين فيها بإذن ربهم } أي بعنايته وإلا لم يبق فيها ساعة كما لم يبق آدم . تحية أهل القلوب على أهل القلوب لسلامة قلوبهم ، وتحيتهم على أهل النفوس لمرض قلوبهم ليسلموا من شر نفوسهم { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] { ألم تر } أي ألم تشاهد بنور النبوّة { كيف ضرب الله مثلاً } للاستعداد الإنساني القابل للفيض الإلهي دون سائر مخلوقاته { كلمة طيبة } هي كلمة التوحيد { كشجرة طيبة } عن لوث الحدوث مثمر إثمار شواهد أنوار القدم { أصلها ثابت } في الحضرة الإلهية فإنها صفة قائمة بذاتها { وفرعها } في سماء القلوب { تؤتي أكلها } من أنوار المشاهدات والمكاشفات { كل حين } يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الرب تعالى إليه { ويضرب الله الأمثال للناس } لمن نسي العهد الأوّل { لعلهم يتذكرون } الحالة الأولى فيسعون في إدراكها { ومثل كلمة } تتولد من خباثة النفس { اجتثت من فوق } أرض البشرية { ما لها من قرار } لأنها من الأعمال الفانيات لا من الباقيات الصالحات . { يثبت الله الذين آمنوا } يمكنهم في مقام الإيمان بملازمة كلمة لا إله إلا الله والسير في حقائقها { في الحياة الدنيا وفي الآخرة } لأن سير أصحاب الأعمال ينقطع بالموت وسير أرباب الأحوال لا ينقطع أبداً . { وأحلوا قومهم } أرواحهم وقلوبهم ونفوسهم وأبدانهم ، أنزلوا أبدانهم جهنم البعد ونفوسهم الدركات وقلوبهم العمى والصمم والجهل ، وأرواحهم العلوية أسفل سافلين الطبيعة فبدلوا نعم الأخلاق الحميدة كفراً لأوصاف الذميمة { الله الذي خلق } سموات القلوب وأرض النفوس { وأنزل من } سماء القلوب { ماء } الحكمة { فأخرج به } ثمرات الطاعات { رزقاً } لأرواحكم { وسخر لكم } فلك الشريعة { لتجري في } بحر الطريقة بأمر الحق لا بالهوى والطبع . وكم لأرباب الطلب من سفن انكسرت بنكباء الهوى { وسخر لكم } أنهار العلوم الدينية وشمس الكشوف وقمر المشاهدات وليل البشرية ونهار الروحانية . ومعنى التسخير في الكل جعلها أسباباً لاستكمال النفس الإنسانية { وآتاكم من كل ما سألتموه } من سائر الأسباب المعينة على ذلك ، فجميع العالم بالحقيقة تبع لوجود الإنسان وسبب لكماليته وهو ثمرة شجرة المكونات فلذلك قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } لأن مخلوقاته غير منحصرة ولكها مخلوق لاستكماله { إن الإنسان لظلوم } بإفساد استعداده { كفار } لا يعرف قدر نعمة الله في حقه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . قوله تعالى :


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

القراآت : { إبراهام } بالألف : هشام والأخفش عن ابن ذكوان { إني أسكنت } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { ومن عصاني } بالإمالة : علي { دعائي } بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب . وقرأ أبو عمرو ويزيد وورش وحمزة وسهل والبرجمي والخزاز عن هبيرة وأحمد بن فرج عن أبي عمرو عن إسماعيل بالياء في الوصل . والباقون والهاشمي عن ابن فليح بغير ياء في الحالين . { نؤخرهم } بالنون : عباس والمفضل في رواية أبي زيد . الآخرون بالياء . { لتزول } بفتح الأول ورفع الآخر : عليّ . الباقون بكسر الأول ونصب الآخر . { القهار } مثل { البوار } { قطر } بكسر القاف وسكون الطاء والراء مكسورة منونة . { آن } على أنه اسم فاعل : يزيد عن يعقوب والوقف على قراءته { آني } بالياء .
الوقوف : { الأصنام } ط { من الناس } ج { مني } ج فصلاً بين النقيضين مع اتحاد الكلام { رحيم } 5 { المحرم } لا لأن قوله : { ليقيموا } يتعلق بقوله : { أسكنت } وكلمة { ربنا } تكرار { يشكرون } 5 { ما نعلن } ط { ولا في السماء } 5 لا { وإسحاق } ط { الدعاء } 5 { ومن ذريتي } ز قد قيل : { والوصل أولى للعطف { وربنا } تكرار { دعاء } 5 { الحساب } ط { الظالمون } 5 ط { الأبصار } 5 لا لأن ما بعده حال { طرفهم } ج لاحتمال أن قوله : { وأفئدتهم } يكون من صفات أهل المحشر وأن يكون من صفة الكفار في الدنيا { هواء } 5 ط { قريب } لا لأن قوله : { نجب } جواب { أخرنا } { الرسل } ط { زوال } 5 لا للعطف على { أقسمتم } { الأمثال } 5 { وعند الله مكرهم } ط { الجبال } 5 { رسله } ط { انتقام } 5 ط فإن انتقامه لا يختص بوقت والتقدير اذكر يوم { القهار } 5 { في الأصفاد } 5 ج للآية ولأن الجملة بعد من صفات المجرمين { النار } 5 لا لتعلق لام كي { ما كسبت } ط { الحساب } 5 { الألباب } 5 .
التفسير : إن قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم يحتمل أن تكون مثالاً للكلمة الطيبة وأن تكون دعاء إلى التوحيد وإنكار لعبادة الأصنام ، وأن تكون تعديداً لبعض نعمه على عبيده فإن وجود الصالحين ولا سيما الأنبياء والمرسلين رحمة فيما بين العالمين كما قال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً } [ آل عمران : 164 ] . وذلك بدعاء إبراهيم ومن نسله صلى الله عليه وسلم نبينا صلى الله عليه وسلم . حكى الله سبحانه عنه طلب أمور منها : قوله : { رب اجعل هذا البلد آمناً } وقد مر في « البقرة » الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك . ولا ريب أن في مكة مزيد أمن ببركة دعائه حتى إن الناس مع شدة العداوة بينهم كانوا يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً ، وكان الخائف إذا التجأ بمكة أمن ، وللوحوش هناك استئناس ليس في غيرها ، وإنما قدم طلب الأمن على سائر المطالب لأنه لولاه لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من مهمات الدين والدنيا ومن هنا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه .

وسئل بعض الحكماء أن الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال : الأمن دليله أن شاء لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل وإنها لو ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناول شيئاً إلى أن تموت ، فدل ذلك على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الألم الحاصل للجسد . ومنها قوله : { واجنبني ونبيّ أن نعبد الأصنام } قال جار الله : أهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد . وأهل نجد : جنبني وأجنبني . وفائدة الطلب - والاجتناب حاصل - التثبت والإدامة ولا أقل من هضم النفس وإظهار الفقر والحاجة والتماس العصمة من الشرك الخفي . أما قوله : { وبني } فقيل : أراد بنيه من صلبه وأنهم ما عبدوا صنماً ببركة دعائه . وقيل : أولاده وأولاد أولاده ممن كانوا موجودين حال دعوته . وقال مجاهد وابن عيينة : لم يبعد أحد من ولد إبراهيم صنماً وهو التمثال المصور ، وإنما عبدت العرب الأوثان يعني أحجاراً مخصوصة كانت لكل قوم زعموا أن البيت حجر فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت ، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ولذلك استحب أن يقال : طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت . وضعف هذا الجواب بأنه إذا عبد غير الله فالوثن والصنم سيان ، على أنه سبحانه وصف آلهتهم بما ينبىء عن كونهم مصورين كقوله : { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } [ الأعراف : 198 ] الآيات إلى قوله : { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [ الأعراف : 198 ] . وقيل : إن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله : { فمن تبعني فإنه مني } أي من أهلي فإنه يفهم منه أن من لم يتبعه في دينه فإنه ليس من أهله كقوله لابن نوح { إنه ليس من أهلك } [ هود : 46 ] وقيل : إنه وإن عمم الدعاء إلا أنه أجيب في البعض كقوله : { ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] . قالت الأشاعرة : لو لم يكن الإيمان والكفر بخلق الله تعالى لم يكن لالتماس التبعيد عن الكفر معنى . وحمله المعتزلة على منح الألطاف .
أما قوله : { رب إنهن أضللن كثيراً } فاتفقوا على أن نسبة الإضلال إليهن مجاز لأنهن جمادات فهو كقولهم « فتنتهم الدنيا وغرتهم » أي صارت سبباً للفتنة والاغترار بها { فمن تبعني } بقي على الملة الحنيفة { فإنه مني } أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } قال السدي : معناه ومن عصاني ثم تاب . وقيل : إن هذا الدعاء كان قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك . وقيل : المراد أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإسلام . وقيل : أراد أن يمهلهم حتى يتوبوا وقيل : ومن عصاني فيما دون الشرك فاستدل الأشاعرة بإطلاقه من غير اشتراط التوبة على أنه شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر ، وإذا ثبت هذا في حق إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثبت في حق نبينا بالطريق الأولى .

ثم أراد أن يعطف الله بدعائه قلوب الناس كلهم أو جلهم على إسماعيل ومن ولد منه بمكة وأن يرزقهم من الثمرات فمهد لذلك مقدمة فقال : { ربنا إني أسكنت من ذريتي } أي بعضهم { بواد غير ذي زرع } أي لم يكن فيه شيء من زرع قط كقوله : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } [ الزمر : 28 ] أي لا اعوجاج فيه أصلاً ولم يوجد ذلك فيه في زمن من الأزمان . وقد سبق في سورة البقرة قصة مجيء إبراهيم صلى الله عليه وسلم بإسماعيل وأمه هاجر إلى هنالك . وفي قوله : { عند بيتك الحرام } دليل على أنه دعا هذه الدعوة بعد بناء البيت لا في حين مجيئه بهما . ومعنى كون البيت محرماً أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لأجل حرمته ، وأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب . وقيل : سمي محرماً لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو حرم على المكلفين أن يقربوه بالدماء والأقذار ، أو لأنه أمر الصائرون إليه يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل { ربنا ليقيموا الصلاة } أي ما أسكنتهم بهذا الوادي القفر إلا لإقامة الصلاة عند البيت وعمارته بالذكر والطواف . { فاجعل أفئدة من الناس } « من » للتبعيض أي أفئدة من أفئدة الناس . قال مجاهد . لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند . وعن سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس لحجة اليهود والنصارى والمجوس ولكنه أراد أفئدة المسلمين . وجوز في الكشاف أن يكون « من » للابتداء كقولك « القلب مني سقيم » . وعلى هذا فإنما يحصل التبعيض من تنكير أفئدة فكأنه قيل : أفئدة ناس . ومعنى { تهوي } تسرع { إليهم } وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً . وقيل : تنحط وتنحدر . الأصمعي : هوى يهوي هوياً بفتح الهاء إذا سقط من علو إلى سفل وفي هذا الدعاء فائدتان : إحداهما ميل الناس إلى تلك البلدة للنسك والطاعة ، والأخرى نقل الأقمشة إليه للتجارة ، وفي ضمن ذلك تتسع معايشهم وتكثر أرزاقهم ومع ذلك قد صرح بها فقال : { وارزقهم من الثمرات } فلا جرم أجاب الله دعاءه فجعله حراماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء . وقيل : أراد أن يحصل حواليها القرى والمزارع والبساتين . ثم ختم الآية بقوله : { لعلهم يشركون } ليعلم أن المقصود الأصلي من منافع الدنيا وسعة الرزق هو التفرغ لأداء العبادات وإقامة والوظائف الشرعية .
ثم أثنى على الله سبحانه تمهيداً لدعوة أخرى وتعريضاً ببقية الحاجات فقال : { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } على الإطلاق لأن الغيب والشهادة بالإضافة إلى العالم بالذات سيان .

وقيل : ما نخفي من الوجد بسبب الفرقة بيني وبين إسماعيل ، وما نعلن من البكاء والدعاء ، أو أراد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم . قال المفسررون : { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم . و « من » للاستغراق أي لا يخفى على الذين يستحق العبادة لذاته شيء ما في أيّ مكان يفرض . { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر } أي مع كبر السن وفي حال الشيخوخة { إسماعيل وإسحاق } ذكر أوّلاً كونه تعالى عالماً بالضمائر والسرائر ، ثم حمده على هذه الموهبة لأن المنة بهبة الولد في حال وقوع اليأس من الولادة أعظم لأنها تنتهي إلى حد الخوارق فكأنه رمز إلى أنه يطلب من الله سبحانه أن يبقيهما بعده ولهذا ختم الآية بقوله : { إن ربي لسيمع الدعاء } وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي مجيب الدعاء ، أو إلى فاعلها بأن يجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي ، والمراد سماع الله تعالى ، ويحتمل أن يكون قوله : { إن ربي لسميع الدعاء } رمزاً إلى ما كان قد دعا ربه وسأله الولد بقوله : { رب هب لي من الصالحين } [ الصافات : 100 ] روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة . وقيل : إسماعيل لأربع وستين ، وإسحق لتسعين . وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة .
ثم ختم الأدعية بقوله : { رب اجعلني مقيم الصلاة } أي مديمها { ومن ذريتي } أي واجعل بعض ذريتي كذلك لم يدع للكل لأنه علم بإعلام والله تعالى أنه يكون في ذريته كفار وذلك قوله سبحانه { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] { ربنا وتقبل دعائي } عن ابن عباس : أي عبادتي ، وحمله على تقبله الأدعية السابقة في الآية غير بعيد { ربنا اغفر لي } طلب المغفرة لا يوجب سابقة الذنب لأن مثل هذا إنما يصدر عن الأنبياء والأولياء في مقام الخوف والدهشة على أن ترك الأولى لا يمتنع منهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين . أما قوله : { ولوالدي } فاعترض عليه بأنه كيف استغفر لأبويه وهما كافران؟ وأجيب بأنه قال ذلك بشرط الإسلام ، وزيف بأن قوله تعالى : { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } [ الممتحنة : 4 ] مستثنى من الأشياء التي يؤتسى فيها بإبراهيم ، ولو كان استغفاره مشروطاً بإسلام أبيه لكان استغفاراً صحيحاً فلم يحتج إلى الاستثناء . وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء والصحيح في الجواب أنه استغفر له بناء على الجواز العقلي والمنع التوفيقي بعد ذلك لا ينافيه { يوم يقوم الحساب } أي يثبت مستعار من قيام القائم على الرجل ومثله قولهم « قامت الحرب على ساقها » أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً ، أو المضاف محذوف مثل

{ واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . ثم عاد إلى بيان الجزاء والمعاد لأن دعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد انجر إلى ذكر الحساب فقال : { ولا تحسبن الله غافلاً } إن كان الخطاب لكل مكلف أو للنبي والمراد أمته فلا إشكال ، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فمعناه التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله إلا عالماً بجميع المعلومات ، أو المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يقولون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير . وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم . قالت : لأنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون غافلاً عن الظلم أو عاجزاً عن الانتقام أو راضياً بالظلم وكل ذلك مناف لوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } أي أبصارهم كقوله : { واشتعل الرأس } [ مريم : 4 ] شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا تطرف وذلك إنما يكون عند غاية الحيرة وسقوط القوة { مهطعين } مسرعين قاله أبو عبيدة . والغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً ، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد لأنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مسرعين نحو ذلك البلاء . وقال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع . وقيل : هو الساكت { مقنعي رؤوسهم } رافعيها وهذا أيضاً بخلاف المعتاد لأن الغالب ممن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه لكيلا يراه { لا يرتد إليهم طرفهم } الطرف تحريك الأجفان على الوجه الذي خلق وجبل عليه . وسمى العين بالطرف تسمية بفعلها أي لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم . والمراد دوام الشخوص المذكور . وقيل : أي لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم { وأفئدتهم هواء } والهواء الخلاء الذي يشغله الأجرام . وصف قلب الجبان به لأنه لا قوة فيه ، ويقال للأحمق أيضاً قلبه هواء . والمعنى . أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخوطر والأفكار لعظم ما نالهم ، وعن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العذاب . والأظهر أن هذه الحالة لهم عند المحاسبة لتقدم قوله : { يوم يقوم الحساب } وقيل : هي عندما يتميز السعداء من الأشقياء . وقيل : عند إجابة الداعي والقيام من القبور . وعن ابن جريج : أراد أن أفئدة الكفار في الدنيا صفر من الخير خاوية منه . قال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم { وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب } مفعول ثان لأنذروا اليوم يوم القيامة ، واللام في العذاب للمعهود السابق من شخوص الأبصار وغيره ، أو للمعلوم وهو عذاب النار . ومعنى { أخرنا } أمهلنا { إلى } أمد وحد من الزمان { قريب } أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى { أو لم تكونوا } على إضمار القول أي فيقال لهم ذلك .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة الشعراء من{112 الي136}

تفسير سورة الشعراء من {112 الي136} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَ...